ضميرك هذا يرتكب أخطاء كبيرة دون أن يفكر. وأنت الآن البك وكيل النيابة، والبك وكيل النيابة لا يجوز له أن يخطئ.
وابتسمت.
ونظر إليها طويلا وابتسم وهو يقول: أطال الله عمرك لي ولعزام، ولست عزام، ولجد عزام.
الفصل التاسع
بدأ وجدان مرافعاته وسمع القضاة لغة يندر أن يسمعوا مثلها. عربية واضحة بينة الملامح، وفي نفس الوقت دقيقة في التعبير حادة في الإشارة، لا تلجأ إلى الحلية لمجرد الحلية، ولا تحاول الاستعراض. التهم جلية الملامح أسانيدها القانونية مستقيمة، ليس فيها تعنت أو تحيف على النص أو الواقعة.
وسرعان ما أصبح أعضاء النيابات يتنادون في الجلسات التي يترافع فيها وجدان. وأصبحت مرافعاته حديث المستشارين والقضاة وإخوانه من أعضاء النيابة.
وبدأ المختصون يندبونه للقضايا التي تحتاج إلى مرافعة ذات شأن، وأحس وجدان أخيرا أنه يحقق ذاته. فلا شيء يخالف ضميره، وإذا لم يرض عن اتهام في قضية طلب حفظها. ونسي وجدان ما كان ينتويه من عودة للمحاماة، أو تناساه. وأصبح المجرم إذا عرف أن وجدان سيترافع ضد زميل له يقول له: ضمنت السجن حتى وإن كان محاميك الهلباوي. وتبلغه هذه الأقوال فيعتز بها، وتبلغ عزام فيشعر بزهو وتوشك الدموع أن تطفر إلى عينيه من الفرح، ويقول لنفسه: الآباء وحدهم في الحياة هم الذين يتمنون أن يكون أبناؤهم خيرا منهم، ولعلهم بهذا يحسون بأن أجمل أجزاء فيهم أصبحت خيرا منهم، فمشاعر الأب تتعاظم حتى يحس أنه وابنه جسم واحد مثلما هم روح واحدة.
الأم تفرح وتنتشي وتفاخر بمن أنجبت، ولكن الأب يشعر وكأنه هو الذي صنع ما يمتدحه الناس في ابنه، ويكاد يحس أنه أحق بالتهنئة من ابنه نفسه، أليس ابنه هذا جزءا من روحه؟ فليكن هو جزءا من روح ابنه. وعزام معذور حين تحيط به الفرحة بهذه الصورة، فأن يبرع وجدان في نفس الميدان الذي كان يعمل فيه أبوه أمر يجعل فرحة الأب مضاعفة لأنه يعرف أسرار هذا الميدان ويعرف المواهب المتعددة والجهد الخارق والحرص على اللفظة والإشارة والانتباه إلى نغمة الصوت من غلظة إلى رقة ومن لين إلى قسوة، وإلى درجة ارتفاع الصوت ودرجة انخفاضه التي يجب أن يلم بها جميعا وكيل النيابة المترافع حتى يصل إلى تلك المكانة التي تجعله مثار إعجاب منصة القضاء وأعضاء النيابة ومثار رعب المجرم ومصدرا من مصادر يأسه.
ولم يكن عجيبا أن يسمع صفوت حمو ياسر بهذا النجاح الذي حققه وجدان.
ويدق جرس التليفون في مكتب وجدان: نعم، من؟ - أنا يا أخي نسيبك الذي لم تشرفه في البيت حتى الآن. - من يا أفندم؟ - أنا صفوت. - أهلا صفوت بك، مرحبا، أنا تحت أمرك. - نتعشى معا هذا الأسبوع. مرت شهور على النسب ولم تشرفنا. - لا مانع مطلقا، من سيكون معنا يا صفوت بك؟ - كثيرون ممن سمعوا عن مرافعاتك وقرءوها في الجرائد وأعجبوا بها ويتمنون أن يتعرفوا بسعادتك. - ما رأيك يا صفوت بك أن تكون العزومة عائلية ما دامت المرة الأولى التي نتشرف فيها بدعوة منك والأيام جائية كثيرة. - أمرك، سعادة الوالد والوالدة سيشرفان طبعا. وإذا أذنت لي، صديق أو صديقان أعتبرهما كإخوة. - أمرك. - العزومة على شرفك بمناسبة القضايا العظيمة التي ترافعت فيها. فمتى تحب أن تشرف؟ - والله يوم الخميس غالبا هو أنسب الأيام بالنسبة لي. - علم وينفذ يا سعادة البيه. يوم الخميس. وسأكلم سعادة الوالد، وحنان ستكلم الهانم والست الوالدة.
نامعلوم صفحہ