106

فلاح في عينيها الحزن وافتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة وقالت: أيها الملك إنك لا تعرف عنا إلا القليل .. نحن قوم الموت أروح لنفوسهم من الهوان. - لم أرد بك الهوان قط .. ولكن غرني الأمل إدلالا بمنزلة كنت أظنها لي عندك.

فقالت بصوت خافت: أليس من الهوان أن أفتح ذراعي لآسري وعدو أبي؟

فقال بمرارة: إن الحب لا يعرف هذا المنطق!

فلاذت بالصمت، وكأنها أمنت على قوله، فتمتمت بصوت خافت لم يسمعه: «لا ألومن إلا نفسي»، ورنت بعينيها رنوا تائها، وبحركة فجائية مدت يدها إلى وسادة فراشها وأخرجت من تحتها العقد ذا القلب الزمردي ووضعته حول عنقها بهدوء واستسلام، وتتبعها بعينين لا تصدقان، ثم ارتمى إلى جانبها غير متمالك، وأحاط عنقها بذراعه وضمها إلى صدره بجنون وعنف، ولم تقاومه ألبتة، ولكنها قالت بحزن: حذار .. لقد فات الأوان.

فاشتد ضغط ذراعيه حولها وقال بصوت متهدج: أمنريدس ... كيف هان عليك أن تقولي هذا؟ .. بل كيف لا أكتشف سعادتي إلا حين وشك زوالها؟ .. كلا لن أدعك تذهبين.

فرنت إليه بعطف وإشفاق وقالت له: وماذا أنت فاعل؟ - سأبقيك إلى جانبي! - ألا تدري بما يقتضيه بقائي إلى جانبك؟ .. هل تجود من أجلي بثلاثين ألف أسير من قومك وبأضعافهم من جنودك؟

فعبس وجهه وأظلمت عيناه وتمتم قائلا وكأنه يحادث نفسه: لقد استشهد أبي وجدي في سبيل قومي ووهبتهم حياتي، فهل يضنون على قلبي بالسعادة؟

فهزت رأسها أسفا وقالت برقة: أصغ إلي يا إسفينيس، ودعني أدعك بهذا الاسم العزيز، لأنه أول اسم أحبه في دنياي، ما من الفراق بد .. سنفترق .. سنفترق .. فأنت لا ترضى بالجود بثلاثين ألف أسير من قومك الذين تحبهم، ولا أنا أرضى بتقتيل أبي وقومي. فليتحمل كل منا نصيبه من الألم.

فنظر إليها بذهول وكأنه يأبى أن يكون كل نصيبه من الحب أن يرضى بالفراق وتحمل الألم، وقال لها برجاء: أمنريدس، لا تتعجلي اليأس وأشفقي من ذكر الفراق، فإن جريه على لسانك في يسر يبعث الجنون في دمي .. أمنريدس .. دعيني أطرق جميع الأبواب حتى باب أبيك، فما يكون لو طلبت إليه يدك؟

فابتسمت ابتسامة حزينة وقالت وهي تمس يده برفق: وا أسفاه يا إسفينيس، أنت لا تعي ما تقول، هل تظن أبي يقبل أن يزوج ابنته من الملك المظفر الذي قهره وقضى عليه بالنفي من البلاد التي ولد فيها وتربع على عرشها؟ .. أنا أعرف أبي منك فليس ثمة فائدة ترجى، وما من وسيلة سوى الصبر!

نامعلوم صفحہ