فأقول وبالله أصول: اعلم وفقك الله تعالى وإيانا أن نعم الله سبحانه وتعالى لا يقادر قدرها، ولا يعلم حصرها إلا الله تعالى وقد قسمها أهل المعقول إلى قسمين، وعبروا عنها بقولهم: أصول النعم وفروعها، ثم قالوا: فأصول النعم ست: خلق الحي، وخلق حياته، وخلق قدرته، وخلق شهوته، وتمكينه من المشتهيات، والسادسة وهي خاصة بالمكلف وهي: خلق عقله كاملا، ثم قالوا في فروعها: وأما فروعها فلا تعد لقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم:34]، وإنما جعلت الست المذكورة أصولا لأنه لا يتحقق الإنعام بما عداها إلا بعد حصولها فكانت أصولا، وإليها يرجع كل ما عداها من النعم فكانت فروعا، ومرادهم بقولهم خلق الحي وخلق حياته، يعنون إيجاده من العدم على صفة الحياة المقتضية لصحة الإدراك ليتحقق الإنعام بإدراك وتناول المنعم به فيدخل في ذلك خلق الحواس الخمس التي هي: السمع والبصر والشم واللمس والطعم، فكان صواب العبارة خلق الحي وخلق حواسه، لأنه قد أغنى عن ذكر الحياة قولهم خلق الحي، ولعله تصحيف في نقل المتأخرين عن واضعي البحث في المسألة، ويلحق بذلك الإلهام لما فيه نفع البدن فتميل إليه الطباع والنفوس، وما فيه مضرته فتنفر عنه ليكون بذلك سلامة الحي واستمرار وجوده ما شاءه الله من البقاء، وهو مشترك بين الإنسان وغيره من سائر الحيوانات إلا أنه يعبر عنه في الإنسان بأن يسمى مع ذلك دراية وعلما، وفي سائر الحيوانات إلهاما وإدراكا، وإنما جعلت الفروع لا تحصى لأن الست المذكورة يدخل فيها أو في أغلبها مالا عد له من الفروع، فإن القدرة جنس يدخل تحتها القدرة على القيام، والقدرة على القعود، والقدرة على الذهاب، والقدرة على المجيء، والقدرة على كثير من الأعمال كالبناءات والحراثات والصناعات المختلفة والمؤتلفة العجيبة والاستخراقات الغريبة مع تكرر ذلك في الأوقات والأمكنة مع تمكين المكلف من اختيار ما فيه النفع فيفعله أو الضرر فيتركه،وكذلك الشهوة مع تفنن المشتهيات واختلافها مأكلا ومشربا ومطعما وملموسا ومشموما وكثرة أصناف المعقولات وأفرادها، فإنه إذا تفكر الإنسان في ذلك عجز عن حصر بعضها وأدناها فضلا عن كلها وأقصاها، فوجب شكره تعالى على ذلك وجوبا عقليا ضروريا، وقد عد من علوم العقل الضرورية فلا ينكره إلا جاحد مكابر أو ناقص عقل أو قاصر، ومن ثمة ورد القرآن بذكر تارك الشكر وبالإخبار بوجوبه ولزومه لأنه قد علم عقلا، ولو كان شرعيا فقط كما يزعمه أهل الجبر لجاز عليه النسخ كما شأن الشرعيات.
صفحہ 49