وانداحت تلك الموجة الطارئة فعدنا نتابع الأحداث ونمضغ الأحاديث، ونعاني الأيام فنحملها فوق كواهلنا ثم نمضي بخطوات ثقيلة متعثرة. نستعيذ من وحدتنا بالتلاقي وكأننا نتقي ضربات المجهول بالتلاصق، ومخاوف الاحتمالات بتبادل الآراء، وهجمات اليأس العاتية بالنكات الساخرة الأليمة، والخطايا الكبرى بزفرات الاعتراف الحارة، وفظاعة المسئولية بتعذيب النفس، وتجهم الجو الخانق بالأحلام المفتعلة. لم نكف لحظة عما كنا فيه والساعات تمضي في أثر الساعات، ونحن نحترق ونتهالك ونخوض ظلمات فوقها ظلمات تحتها ظلمات.
وكان أشدنا مناعة حيال الوباء إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية؛ فهما يرفضان الهزيمة ويصدقان الراديو، ويحلمان بيوم النصر، ولكنهما بمرور الأيام مضى شعورهما بالكارثة يفتر، واهتمامهما بالحياة اليومية يتصاعد، ثم انحدرا في طريق اللامبالاة إلا ما استقر في أعماق النفس من حزن دائم خفي، وأما جماعة الشيوخ فقد ارتدت مع الأيام إلى الماضي. - لم نصل إلى مثل هذه الحال في أي عهد من العهود. - حسبنا ما كنا نستظل به من حماية القانون. - وحتى أعنف أيام الاستبداد لم تخل من صوت معارضة حر. - وأيام الجهاد والنفي والفداء المجيدة كيف يمكن أن تنسى؟!
وما لبثوا أن رجعوا إلى الوراء أكثر وأكثر حتى استقروا في عهد ابن الخطاب والرسول، فتنافسوا في نبش الماضي يستخرجون أمجاده يتسلون بها عن حاضرهم.
وكان زين العابدين عبد الله يتابعهم بين الاهتمام والاستهانة ثم أفصح عن رأيه قائلا: الحل تملكه واحدة هي أمريكا!
وصادف رأيه هوى في نفس عارف سليمان الساقي فقال: صدقت.
ثم أشار إشارة شاملة وقال: سيتغير كل شيء من جذوره، وما هذه الصحوة إلا الانتفاضة الأخيرة قبل تسليم الروح.
وبقي الشبان وحدهم لا يسلمون أنفسهم للماضي، ولا يأملون خيرا في أمريكا، ورويدا رويدا، وفي أعقاب إفاقتهم من الصدمة، راحوا يتكلمون عن معركة بعيدة المدى، وصراع على مستوى العالم بين قوى التقدم والإمبريالية، وعن تغييرات أساسية جوهرية في الداخل. وهكذا ... وهكذا ... وهكذا.
وبخلاف المسألة العامة لم يحركني شيء سوى ما طرأ من تغيير ملموس على العلاقة بين زينب دياب وإسماعيل الشيخ. تسلل مرض مجهول إلى روحيهما فباتا غريبين أو كالغريبين حتى بت أعتقد أنهما واريا حبهما القديم التراب، وأن كليهما قد استقل بحياته وأحزانه. وعند ذاك رجعت إلى ظني الأول عن حبها لحلمي حمادة، فملت إلى الأخذ به أكثر وأكثر.
وسرني أن أرى قرنفلة وهي تستعيد نشاطها المألوف، واجمة متحفظة أغلب الوقت، تصغي إلينا بلا مشاركة ولا اندماج، وتبدت أكثر جدية وأوغل في الكبر.
وبمرور الأيام غابت وجوه، وترددت وجوه بين الغياب والحضور، واستمر الحال لا يكاد يتغير. وفي تاريخ متأخر نسبيا تهيأت لي ظروف وثقت ما بيني وبين بعض أصدقاء الكرنك، وعند ذاك علمت منهم ما لم يكن لي به علم، فاطلعت على خبايا الأحداث والقلوب وشربت الكأس حتى الثمالة.
نامعلوم صفحہ