وطوف خاطر في عقله وحوم، إنه لن يفطر قطعا، ولكن ماذا يفعل بذلك العطش؟ إنه يذكر أن ذات الشيخ قال: إن المضمضة ليست حراما، فلماذا لا يتمضمض؟ وكان ما يخيف فتحي هو أن يتسرب بعض الماء إلى بطنه إن هو حاول ذلك، ولكن إلحاح الخاطر أقنعه أنه لا بد أن يثق في نفسه، وقام وذهب إلى نفس الحنفية اللعينة التي أرهقت أعصابه، ووقف يردد النظر بين أمه وهي منهمكة في إعداد الطعام وبين الحنفية، ثم مد يده وملأها من السيل المنهمر، ورأته أمه وهو يدفع الماء إلى فمه، فشهقت شهقة عظمى وسألته عما يفعله؟ فأجابها بأن ريقه جاف وأنه فقط يبلل فمه، فابتسمت ابتسامة من يشمت وقالت: مش قلتلك؟ عامل لي راجل، أما أشوف.
واغتاظ فتحي جدا، فأفرغ كل ما في فمه من ماء وراح يبصق بشدة حتى أتى على كل ما أحدثه الماء من بلل وريق، وعاد إلى حيث كان في الصالة وفي صدره تصميم مانع قاطع أن يثبت لأمه ولكل الناس أنه رجل، وأنه قادر على الصوم مثلهم، وليكن بعد ذلك ما يكون.
ولكن المضمضة التي لم تتم أججت فقط كل النار التي في جوفه، وجعلت العطش يمتد داخل زوره إلى بطنه حتى بدأ يحس أن عامودا من نار وفلفل يحشو رقبته ويملأ فم معدته.
لو يشرب مرة واحدة فقط لسكت هذا النباح واستطاع أن يواصل الصياح إلى منتصف الليل إن شاءوا، ولكن الشرب معناه أن يفطر، ولا يدعه أحد يتناول السحور بعد الآن، وتسقط رجولته في أعين والديه، ويعدونه طفلا فاطرا مثل إخوته الفاطرين.
ولكن هل من الضروري أن يعلم الناس أنه شرب هذه المرة؟ ماذا لو شرب خفية دون أن يراه أحد، ثم أمضى بقية اليوم في صيام ما بعده صياح، وسمح لنفسه حتى أن يشكو مما لاقاه من ظمأ بعد الإفطار؟ ماذا لو حدث هذا؟ إنه لن يفقد شيئا بالمرة ولن يعيره أحد بما فعل؛ إذ إن أحدا لن يراه، فهناك في الصالة قلة ماء لا تزال فيها بقايا من ساعة السحور، سيأخذها ويذهب إلى حجرة الجلوس ويغلق الباب ويفرغها في فمه بأسرع ما يستطيع، ثم يفتح الباب ويتأكد من خلو الصالة ويضع القلة في مكانها، ويلعب بعد هذا أو ينام ويمرح بقية اليوم.
ولكن، رمضان!
إن رمضان سيعرف لأنه يرى الناس ولا يرونه، ويعرف إن كانوا يفطرون أو لا يفطرون.
وارتسم رمضان في عقل فتحي هائلا في حجم الدنيا كلها: يجلس على عرش من ذهب وألماظ، بعيدا، بعيدا خلف الشمس ووراء كل النجوم والسحب، يعرف دون أن ينظر من الفاطر ومن الصائم، ويبطح الفاطر، يلقي عليه حجرا يصيب منتصف جبهته ويسيل الدم.
وارتعش فتحي للرؤيا، وأفاق منها قليلا وحاول أن يتذكر واحدا فقط يعرفه بطحه رمضان لأنه فطر فلم يجد، ولكن من يدري، ربما يكون هو أول واحد ستناله البطحة.
وسأل نفسه سؤالا مفاجئا: ألا يمكن أن تكون حكاية رمضان هذه كذبة، وأنه لا يرى ولا يبطح ولا هو حتى موجود بالمرة؟ لم يدر فتحي من أين جاءه السؤال، لعله الظمأ، ولكنه ظل حائرا بين الخوف الذي يدفعه إلى أن تكون الإجابة لا، والظمأ الذي يهيب به أن يكون الجواب نعم، ظل حائرا إلى أن عنت له فكرة: سيعد إلى ثلاثة ثم يحاول رفع ذراعه، فإذا كان رمضان لا يريده أن يرفعها فليمنعه، وعد: واحد، اثنين، ثلاثة. وحشد كل قوته وقد خيل إليه أول الأمر أنه مهما حاول فلن تتحرك، وقفزت الذراع فجأة من جانبه في الهواء، وملأه الرعب، ولكن بعد أن اطمأن قليلا وبدأت الثقة تأخذ طريقها إلى نفسه، رأى أن يجرب تجربة جديدة، فوقف وقال: سأمد رجلي وأخطو، فإذا كان رمضان يراني ويستطيع منعي فليمنعني. ومد رجله فامتدت، وخطا خطوة وثانية وثالثة وكاد ألا يتوقف، وازدادت في نفسه الثقة وقلت الرهبة، بل انتابه غير قليل من الاستخفاف برمضان ومحاولة تحديه، ورأى أن يتحداه أكثر ليبين قوته إن كانت له قوة، ويجرب تجربة أخيرة، وأخذ القلة إلى حجرة الجلوس وقال: سأتذوق قطرة واحدة من الماء، فإذا كان رمضان يستطيع أن يكسر القلة قبل أن تصل إلى فمي أو أن يقطع لساني إن كان جدعا فليفعل.
نامعلوم صفحہ