حاول أول الأمر أن يتخلص منه بتجاهله، فذهب يبحث عن شيء يشغله، وكان من زمان يريد أن يفك «المنبه» ويتفرج على «العدة» التي بداخله، وأسرع يبحث عن معدات الفك، ولكن مسمارا استعصى عليه ورفض أن يدور إلى اليمين أو إلى اليسار، فرمى المنبه، لم يكن يقصد أن يرميه، وإنما وجد نفسه هكذا يدفعه مرة واحدة من فوق الترابيزة فيسقط وتنكسر زجاجته، وانحنى ليلم الزجاج المكسور ويخفي الجريمة ويخفي المنبه هو الآخر.
وهبط من المنزل بعد تجربته العقيمة تلك يبحث عن إخوته أو عن أطفال في الحارة فلم يجد، كلهم كانوا في تلك الساعة الملعونة في بيوتهم، والحارة ليس فيها إلا الشمس الحارقة والتراب وما عليه من ذباب.
وعاد إلى البيت وهو أكثر عطشا، والضيق قد بلغ به حدا جعله يتمنى أن يقف موقفا من المواقف التي كانت تخذله فيها شجاعته ويتغلب عليها فيها حياؤه وخنوعه، كان يتمنى أن يجابه موقفا كذاك ليري الناس العين الحمراء، والضيق من العطش قد طرد منه كل خنوع وحياء.
وحاول أن ينام لما لم يجد موقفا ولا ناسا، وباءت محاولته بفشل ذريع، وسرعان ما مج الفراش وفكر في أن يجري ويلف في البيت ويكركب أشياء ثم ينظمها عله يساهي الشعور بالعطش الذي كان يفري نفسه.
ولكن ما إن بدأ يتحرك ويلف حتى جلس على أقرب كرسي وقد أيقن أن كل حركة تزيده عطشا على عطش، وأن نتيجة محاولاته لنسيان المشكلة أنها تعقدت وازدادت حدة وخطورة، وأصبح فمه ينبح ويصرخ ويتأوى وكأنه تناول حفنة من الشطة واستشرت حرارتها تلهب كل جوارحه.
وبدأ فتحي حينئذ يفكر، بل هو في الحقيقة بدأ يتململ من الصيام ويدرك وعورة الطريق الذي اختاره، بل الذي تمناه وهفا إليه عدة رمضانات، بدأ يفكر ويقارن بين العذاب الذي هو فيه واللذة التي حظي بها ساعة السحور، والحق أنه لم يقارن، فكل ما كان يشغله هو العذاب، وكل ما كان يبحث عنه هو المهرب.
كان من لحظات قد سمع الراديو يدق عند جيرانهم معلنا الواحدة، أي باق من الزمن خمس ساعات حتى يستطيع أن يشرب، خمس ساعات؟ يا للهول، خمسة في صفر بصفر، وخمسة في ستة بثلاثين ومعانا صفر، يعني 3000 دقيقة، لا يمكن! لا يمكنه أبدا أن يستمر حيا يعاني ما يعانيه 3000 دقيقة، يبدو أن هناك خطأ، هناك صفران فقط، يعني 300 دقيقة، ولو، لا يمكنه أبدا أن يمكث ولا حتى 300 ثانية. اسمع يا ولا يا فتحي، خليك جدع، واصبر وصابر، وتحمل الألم حتى يحين موعد الإفطار وتشرب ثم تسترخي كما يفعل أبوك والصائمون، وتتحدث عن العطش الذي لازمك من أول النهار وتبالغ في وصف أهواله. آه، يجب أن يحتمل، خصوصا وأنه سمع شيخا من الذين يكثرون من زيارتهم في رمضان يقول: إن الجزاء يزداد بمقدار ما يتحمله الصائم من ألم، هه، يعني ايه؟ سيتحمل ولن يهمه، كلها كم ساعة وينتهي، كم ساعة؟! 300 دقيقة، يعني واحد اثنين ثلاثة، عشرة عشرين، ثلاثين، مضت دقيقة، يا نهار أبيض، باقي 299 مرة مثل هذه، لا لا لا، لن يستطيع التحمل! سيموت ويستشهد ويذهب إلى الجنة حدف، والجنة فيها ماء، يا للهول! ليس فيها ماء، لقد سمع أن فيها أنهارا من الخمر واللبن والعسل، أف، أعوذ بالله، إنه لا يطيق ذكر العسل فهو يعطش، أنهار عسل ولبن، ولكن ليس فيها ماء، وإذا عطش عطشا مثل هذا في الجنة فكيف يشرب؟ وهل يرتوي من اللبن؟ اللبن الأبيض السميك الذي، أعوذ بالله، إخص، ما هذه الخواطر؟ إنه الشيطان، لا بد أنه الشيطان يوسوس في صدره، ابعد أيها المنجوس لن أسمع كلامك، أبدا، أبدا أنت تدلني على الفساد، لن أسمع كلامك.
وسمع فتحي في تلك اللحظة - رغم ضجة الوابور - الحنفية مفتوحة في المطبخ والماء يندفع منها كركر كركر، لا ريب أن الشيطان هو الذي فتحها أو وسوس لأمه حتى فتحتها. سحقا لك أيها اللعين! والله لو حتى صببت الماء في فمي لن أشرب.
وضم فتحي فمه بشدة، وكأن هناك ماء حقيقيا سيدخله، وظل على وضعه ذاك مدة وقد خيل إليه أنه إذا فتح فمه فسيفطر لا محالة.
ولكن الشطة استعرت حرارتها داخل فمه المضموم، وكان حلقه قد أصبح جرحا كبيرا ملئ بها، وأشعلت فيه نارا وألما، وحاول أن يبتلع ريقه ومصمص ودار بلسانه داخل فمه كله محاولا عبثا أن يجد نقطة بلل واحدة، وكان الماء لا يزال يهطل بشدة من الحنفية ويدخل أذنه حتى خيل إليه أنه يشرب الصوت من خلال أذنه، فسد أذنيه ومع هذا ظل خرير الماء - أو إبليس - يخترق أصابعه ويداعب آذانه.
نامعلوم صفحہ