فإذا انتقلنا إلى أحاديث العامة، ويمثلهم هنا المواطنان الأول والثاني، أي النجار والإسكافي، وجدنا أن شيكسبير يستخدم النثر من البداية إلى النهاية، مع ما وصفته بالتدني إلى درجة السوقية والبذاءة. وإذا كان الهدف الذي وضعته نصب عيني في البداية (وأرجو أن يكون نصب عيني كل مترجم أدبي أيضا) هو إيجاد المقابل الذي قد يرقى إلى مستوى المثيل، فربما كانت العامية المصرية أفضل مستويات العربية المتاحة لترجمة هذه العبارات، ولكنني اتبعت في ترجمة المسرحية كلها لغة عربية معاصرة تستطيع أن ترقى إلى مصاف اللغة الرفيعة وأن تهبط إلى بعض مستويات العامية الدنيا، ولذلك فأنا نشدت البديل في الحالين، أي في ترجمة النظم المسرحي بنثر فصيح أعتبره بديلا مقبولا، وترجمة النثر المسرحي العامي بنثر مبسط يستخدم بعض المفردات ذات الدلالة الحية في العامية المصرية باعتباره بديلا مقبولا. وأرجو أن يطلع القارئ على ترجمة هذه السطور الأولى من المسرحية في النص المنشور هنا ليدرك ما أعنيه.
ولأعد الآن إلى ما ذكرته عن دقة الصياغة اللغوية في نص شيكسبير والتي قد تفسد إذا اخترت الترجمة المنظومة، وليأذن لي القارئ أن أعيد ما ذكرته عن «التفكير الدقيق المرسوم بتأن وتمهل، وهو الذي يعتبر الأساس لكل ما تقوله الشخصيات حتى حين تلتهب المشاعر ويلوح لغير الخبير أن كلامها يصدر عفو الخاطر، وسأضرب لذلك مثلا من أهم مشاهد المسرحية، وهو المشهد الثاني من الفصل الثالث الذي كثيرا ما يقدم وحده باعتباره «قلب» المسرحية، ليس فقط لأنه يقع في منتصفها، بل لأنه أيضا محور الارتكاز الذي يتغير عنده الحدث، حين يبدأ الانتقام لقيصر من قاتليه.
يبدأ المشهد بداية نثرية؛ إذ يتخلى شيكسبير عن النظم كي يحكم بناء المنطق الذي يتحكم في بناء المشهد. ولذلك تجد أن الخطبة الأولى التي يلقيها بروتس - وطولها سبعة وعشرون سطرا - منثورة، وبعدها يقاطعه أحد الأهالي بسطر قصير، ثم يستأنف خطبته ويتحدث على مدى أربعة عشر سطرا أخرى نثرا، وبعد ذلك يتحدث الأهالي في سطور منفصلة ومقطعة يعربون فيها عن اتباعهم لبروتس حتى السطر 78، وعندها يتكلم أنطونيو مع الأهالي حتى آخر المشهد تقريبا (حتى السطر 254)، وهو يستأثر في الحقيقة بما يربو على مائة وثلاثين سطرا تتخللها نداءات الأهالي وصيحاتهم.
ولكن ماذا يقول أنطونيو في هذه السطور الكثيرة؟ إن خطبته الطويلة التي تستغرق صفحات متوالية مقسمة تقسيما دقيقا بين القسم الأول (من 74-109) الذي يضع فيه أنطونيو بعناية أسس إدانته لبروتس وعصبته، وبين القسم الثاني (120-139) الذي يلقي فيه بخبر وصية قيصر حتى يثير فضول الجمهور، والقسم الثالث (151-170) الذي يعتبر نقطة تحول من الوصية إلى التركيز على بشاعة الجريمة التي ارتكبها الخونة، وذلك في القسم الأخير (من 170-199) حيث تتحول مشاعر الجمهور تماما إلى مساندة أنطونيو والعداء السافر لبروتس وكاشيوس وسائر المتآمرين، وبعد عدد من الصيحات التي يعرب فيها الجمهور عن عدائه لزمرة الخونة (200-210) يعود أنطونيو إلى التلاعب بمشاعر الجمهور لكي يحول استياءهم إلى موقف صلب، أي إلى عمل إيجابي - وهو يحسب لكل كلمة حسابها في هذا الخطاب - حتى يصل (211-232) إلى كلمة «الثورة» التي يرددها الشعب؛ أي الانتقام لمقتل قيصر، وعندها فقط يعود إلى ذكر الوصية التي يكون الجمهور قد نسيها حتى يضمن ولاءه التام (237-254) فيسود الهرج والمرج، ويدخل رسول أوكتافيوس فيجد أن أنطونيو واثق كل الثقة من قدرة «كلماته» على أن تفعل فعلها في نفوسهم! (254، حتى آخر المشهد).
إن هذه الخطبة الطويلة مبنية بناء هندسيا يتراوح بين الصعود وبين الهبوط - كما أوضحت آنفا - أي أن أنطونيو يحسب حسابا لكل كلمة يقولها، ويعرف معرفة وثيقة أين يضعها، وفي أي سياق بالتحديد؛ ولذلك فالنظم هنا ثانوي، بل هو إطار يلتزم به البعض (مثل أنطونيو) ولا يلتزم به الآخرون (مثل بروتس والأهالي) وعدد السطور في هذا المشهد مقسم بين المنثور والمنظوم تقسيما شبه متعادل، كما أن النظم الذي يستخدمه أنطونيو لا يضم في ثناياه ما اعتدناه من شاعرية شيكسبيرية؛ فهو يكثر من استعمال الزحاف والرخص الشعرية إلى حد الاقتراب من موسيقى النثر، كما شرحت ذلك من قبل، وهو يستخدم لغة منطقية تخلو من الصور الشعرية، وليس من قبيل المصادفة أن تخلو هذه السطور جميعا من الاستعارات الغلابة أو المهيمنة
dominant metaphors ؛ أي الاستعارة التي تلقي بظلالها على الحديث برمته وتشكل إطارا نفسيا ومجازيا له! كل ما هنالك هو استعارات محدودة ومقصورة على موضعها في السياق.
ولنأخذ مثلا السطور من 219 إلى 225؛ إذ يقول أنطونيو:
I am no orator, as Brutus is;
But as you know me all, a plain blunt man,
That love my friend; and that they know full well
نامعلوم صفحہ