وقد كان من المستحيل أن يشتري لي أبي سيارة؛ فقد عاش عمره رجلا في ظل من الحياة غير وارف بعيدا عن هجير الإدارة وحرور الصدارة، تلك النار التي تلفح الناس، فتنضجهم فيصبحون خبراء بمكامن الخزائن ومظان الثروات، وتلك الجداول والأنفقة التي تصل بين المكامن والمظان وبين جيوبهم. وهكذا فرحت بالسيارة، فأنا من هؤلاء الذين يؤمنون أن الأديب لا يمكن أن ينتج فنا ذا قيمة إلا إذا كان مطمئنا إلى يومه وغده. وأولئك الذين سحقهم الجوع وكانوا يكتبون وهم بين أضراس الحاجة لا نستطيع أن نعرف أي فن كانوا سيقدمونه للناس لو توفرت لهم طمأنينة العيش، ولعل ديكنز، وهو من أكبر الأمثلة على لهاث الأديب تحت صنبور الناشر، كان ينتج فنا أروع مما أنتج لو كان بجيبه ما يجعله يكتب وهو منتظم النبض. ولا أنسى ما سمعت عن ذلك الأديب الذي كان يجلس بمقهى بار اللواء متهيئا أن يكتب مقالة للجريدة التي يعمل بها، فكان يميل على صديق له يستلف منه جنيها ويضع الجنيه في جيبه، ويبدأ في كتابة مقاله حتى إذا أتمها ومهرها بتوقيعه أخرج الجنيه ورده إلى صديقه في الجلسة نفسها. لم يكن يريد من الجنيه إلا أن يشعره بالطمأنينة حتى يكتب مقاله.
فقراء الفنانين أنتجوا فنهم على رغم فقرهم، لا بسبب فقرهم.
وقد كانت زوجتي ثرية، ولكن التقاليد البالية كانت تحتم علي أن أصر أنا، لا هي، على أن أقوم بشأن البيت، وليواجه ثراؤها بعد ذلك ما يتصل بخاصة شأنها من ملبس وزينة.
وأسباب غنى زوجتي لم تكن خافية على أحد؛ فقد كان أبوها موظفا ولم يكن لديه حين تزوج مال، ولكنه كان يعمل بوزارة المالية، وهي وزارة تستطيع أن تصل بين موظفيها وبين هجير الإدارة وحرور الصدارة، فنضج وأصبح رئيسا لمجلس إدراة شركة الدلتا للأقطان، فصار غنيا؛ فهو رئيس مجلس إدارة مثالي، لا يترك فرصة تعود عليه شخصيا بالنفع دون أن ينتهزها، ولو لم يكن كذلك لما صار رئيسا لمجلس الإدارة.
وأنا لا ألوم أبي، فقد كان مدرسا، وكل ما استطاع أن يجمعه من الدروس الخاصة والعامة هو ثمن البيت الذي كنا نعيش فيه، والذي كان يشمل أربع شقق نحن نسكن إحداها. ونطل منها على بيت نصر بك الملواني، الذي أصبح مع الأيام قصرا، والذي أحببت أنا ابنته تحية وأهدتني السيارة في يوم الزواج.
وبفضل هذا القصر لم نتعرض لمشكلة السكن؛ فقد أفرد أبوها لي جناحا فخما بعيدا عن صدارة القصر، متصلا به عن طريق ممر أنيق ذي زجاج مصنوع في إيطاليا، قادر في عز الشتاء أن يدخل دفء الشمس دون وهجها.
حاولت بعد أن تزوجنا أن أعرف من زوجتي كيف أقنعت أباها أن يقبل زواجي منها، ولكنها كانت تدور بالحديث فأجد نفسي في متاهة.
وازدادت هذه المتاهة غموضا حين وجدت عمي نصر بك يعاملني معاملة غاية في الرقة والعذوبة. وقد تكشف لي الرجل عن خبرة نادرة في معرفة الطريق الذي يستطيع به مداعبة الغرور في نفس الذي يعامله؛ فهو يدري تماما الكلمة التي ترضيني وتثير منابع الزهو في نفسي وبنفسي، فهو مثلا يعلق على كل كلمة يقرؤها لي في الجريدة، وهو إذا فعل لا يمدح مدحا مطلقا، وإنما يثير حول ما أكتب موجة من الآراء ويشرك معه زوجتي وهنية هانم حماتي، ويدافع هو عن رأيي ويتبناه وكأنه رأيه، ويستخدم أحيانا الألفاظ التي أستخدمها في كلماتي، فإن علق على قصة راح يحلل شخصياتها ويخلق مما كتبت أعماقا لعلي لم أقصدها، وإذا أبي أجد نفسي لفترة غير قصيرة من الجلسة معه موضع الحديث والاهتمام. ولا يكتفي عمي نصر بك بامتداح كتابتي، بل هو في دربة باهرة يلحظ اليوم الذي أقصد فيه أن أكون أنيقا فيلقي ملاحظة سريعة حاسمة تشعرني أني بلغت من الأناقة ما أريد. وقد لاحظت عمي نصر بك في معاملته للناس أجمعين أن له قدرة خارقة على إرضاء الناس وعلى مديحهم في غير سرف وفي غير بخل، وهكذا أصبحت على وعي تام بالطريق الذي وصل به إلى رئاسة مجلس الإدارة، كما أصبحت على وعي تام بالطريقة التي أصبح بها مالكا لهذا القصر الذي أعيش في جناح من أجنحته.
أما زوجته هنية هانم، فخير زوجة لزوجها؛ فالغنى والمركز هما النجاح الحقيقي في الحياة، وظهور اسمي في الجريدة هو مظهر النجاح عندها، ولا يهمها في شيء ما أكتبه أو ما أثيره من آراء، المهم أن زوج ابنتها يظهر اسمه في الجريدة. والدليل على أن ما أكتبه شيء عظيم أن عمي البك مبسوط منه، وما دام هو مبسوطا فلا شك أن هذا الذي أكتبه رائع.
كل هذا فهمته، ولكن الذي لم أستطع فهمه: لماذا قبل نصر بك أن أتزوج تحية؟ ولماذا يعاملني هذه المعاملة العذبة؟ قلت في نفسي لعل ابنته أصرت، وحين وجد نفسه أمام إصرارها قبل الأمر وأذعن له، أما معاملته فقد خيل إلي للحظة أنه يعاملني مثلما يعامل كل من يتصل به، ولكنني كنت أتصور أن المنافقين يحبون أن يستريحوا من النفاق مع الذين لا يرجون منهم خيرا، وإن كنت سمعت من بعض زملائي في الجريدة أن المنافق لا يتخلى عن نفاقه مع أحد من الناس مهما يكن لا يرجو منه نفعا ولا يخشى منه ضررا؛ لأن المنافق يخاف أن تصدأ موهبته، فهو يشحذها مع الناس أجمعين، سواء كانوا ممن يستحقون النفاق أو لا يستحقون.
نامعلوم صفحہ