وأحسست يدي تقوى على أن تمسك القلم وأنا بعد في خواتيم الصبا وبواكير الشباب. فكتبت وأصبح لي قراء، ولكني في نفس الوقت لم أهب للدراسة ما تستحق فكنت أنجح كل عام، ولكن فكرة التفوق لم تخطر لهذا النجاح على بال. وكنت ألتهم العام جميعا في شهر وبعض شهر من أواخر العام الدراسي.
وعلى طول خطواتي في الدراسة والأدب عرفت تحية؛ فأبوها يقيم في فيلا مقابلة لشقتنا، وهو صديق أبي، وأمها صديقة أمي، وبيتنا صديق بيتها، وقد جمعتنا الطفولة وملاعب الجيران. حين عرفت خبر نجاحي أصبح تفكيري مركزا على شيء واحد، كيف أنبئها بذلك النجاح دون أن أفلت من الزمن دقيقة واحدة. جريت إلى التليفون. لماذا أصبحت حياتنا جميعها مظاهرة ضخمة من المنغصات؟ ولماذا يرفض التليفون أن يستجيب ويعود إلى عمله الطبيعي من وصل الحديث بالحديث؟ والبقال صاحب التليفون يضيق بوجود زبون للتليفون وحده بالمحل؟ ومرت دقائق وأوشكت أن تكتمل ساعة وأشرق صوتها: ألو. - نجحت. - صحيح! - عارفة معنى النجاح؟ - مبروك. - مبروك علينا. - أشوفك الليلة. - وقبل الليلة، قفي في الشرفة وانتظري القبلة التي سأرسلها إليك. - أنت مجنون. - مجنون تحية. - باي. - هل سمعت البوسة؟ - باي. - هل سمعتها؟ - سمعتها. - فأين ردها؟ - أنت تستحق ألف بوسة، أشوفك الليلة، باي.
ووضعت السماعة وأحسست أن نجاحي أصبح مجموعة من النجاحات.
لم يكن أبي فقيرا، ولكنه أيضا لم يكن غنيا، وكنت أعلم أن طلب الزواج سيجعله يفكر. لكن زواجي من تحية بالذات سيجعله يتصرف. وعلى كل حال، فالمشكلة لم تكن مشكلة أبي ولا أمي، إنما كنت أخشى أن يرفض أبوها هي، وأي شيطان أخرق يجعله يزوج ابنته الباهرة الحسن الرائعة الجمال من فتى يستشرف الأيام الأولى من حياته العامة، وليس في يده من أدوات فن الحياة إلا شهادة أصبحت تلقى في الطريق يحملها السواد الأعظم من شباب البلد دليلا على أن جهلهم أصبح معترفا به رسميا من الدولة؟
كنت واجفا حين طلب أبوها إلى أبي أن يمهله بضعة أيام، ويلي إذا كان في المسألة تفكير! إن أباها لا يعنيه أني أديب وأني أنشر قصصي ومقالاتي في أعظم مجلات العالم العربي، بل هو لا يعنيه أنني أكتب روايتي الأولى لم يوقفني عنها إلا امتحان الليسانس ولا يعنيه مطلقا أنني أعلق آمالي كلها على زواجي من ابنته؛ فإن آمالي أنا ليست من أهداف حياته، ويكفيه أن يحمل عبء آماله هو وآمال زوجته وابنته، ولا يعنيه أيضا أنني شاب وسيم، كثيرا ما ألقت فتيات في الجامعة نظراتهن إلي، ولكنني كنت أعلم أنهن يخرجن مع أصدقائهن بالأجر. لم أكن أحب هذا النوع من المغامرة مع فتيات الجامعة، كنت أخاف أن أحس أنني أضاجع نفسي إذا نمت مع زميلة، ثم دفعت لها أجرا. لا يعني عمي نصر بك الملواني أنني وسيم؛ فقد تعني هذه الوسامة شيئا لتحية، أما له فطظ، لأكن دميما ما شاءت الدمامة، وغنيا بعض الغنى الذي يجعله يطمئن على مستقبل ابنته. أي شيطان أخرق إذن سيجعله يقبل زواجي من تحية؟ طيب، لأضع نفسي مكان عمي نصر، ما هي المزايا التي تجعلني أوافق على زواج أيمن ربيع حجاج من تحية؟! أين صديقي، طظ. ولد طيب وابن حلال، طظ. أولا يستطيع أن يظل طيبا وابن حلال في هذه المعاشرة المتباعدة ثم ينقلب في لحظة بلهاء إلى شيطان مريد؟! حاصل على ليسانس الآداب! خير لي لو أستبدل بها عمارة في أحقر حي بالقاهرة.
أرأيت الرجل لم يفكر مطلقا في مسألة أنني أديب أو وسيم، أنا عارف، إذا كانت الشهادة لا تهمه، فكيف يهتم بالأدب والفن والوسامة والقسامة؟! لا أمل. - لا تخف، سنتزوج. - صحيح؟! وقفزت أقبل فاها وجاوبت قبلتي بقبلة غير صامتة. - اهدأ. - بالذمة صحيح ما تقولين؟! - سنتزوج؟! - هل وافق أبوك؟ - أنا وافقت. - أنا أعرف أنك موافقة من زمان، ولكن أباك ما رأيه؟ - ماذا تظن؟ - رفض. - فعلا! - إذن كيف سنتزوج؟ - هذا شغلي. - الحكاية فيها شغل؟! - شغل لا تعرفه أنت. - وتعرفينه أنت؟ - إذا أردت شيئا لا يقف أمامي شيء ولا أحد. - حتى أبوكي. - وخصوصا أبي.
وتزوجنا؟!
كم هم سخفاء أولئك الذين يذمون الزواج! إن الإنسان لا يشعر أن جذوره قد انغرست في أرض الحياة وتشعبت حتى أصبح له ولوجوده معنى إلا إذا تزوج. إن شعوري أن لي أسرة وإن كانت مكونة من زوجتي فقط كان يعطيني إحساسا بالطمأنينة ، وبأنني بعد أن كنت نباتا هشا على سطح الحياة أصبحت شجرة لها أصول. وتنتظر الفروع، ومع هذا الاطمئنان استقبلت حياتي أشوق ما أكون لاستقبالها.
عملت في جريدة «الأيام» التي كنت أكتب بها وأنا طالب وانتظمت بها مقالاتي وقصصي، وعدت لروايتي التي كنت قد بدأت صفحاتها الأولى وأنا طالب. لم تعد أمامي من الحياة مشكلة؛ فقد كان جمالها هو كل ما يثير القلق في نفسي والفزع ألا أتزوج منها. وقد تزوجت فلم تصبح لي مشكلة. وقد كان زواجي فاتحة خير وافر لي، فقد أهدت إلي في يوم الزواج سيارة، وبهذا قضت على أقسى ما يواجه ملتمس الطريق في القاهرة إذا التمسه أعزل من السيارة ومن ملبس غير عادي يستطيع به أن يخيف سائق التاكسي ليقف له. جعلتني السيارة المهداة في غنى عن إذلال سائقي التاكسي، وطبعا لا حاجة بي إلى ذكر السيارات العامة؛ فهذه لم تعد وسيلة مواصلات بقدر ما أصبحت أعظم وسيلة لإهدار الكرامة البشرية.
صحيح أن الكرامة البشرية في مصر قد قضي عليها منذ فترة طويلة، ولكن الإنسان لا يحب أن يعالن الآخرين بأنه أصبح عاريا من الإنسانية، والسيارات العامة إعلان قد يجد الكثيرون أنفسهم في غنى عن رفعه؛ فلم يعد العزوف عن السيارة العامة تنكرا للفقر، فقد أصبح الفقر في مصر مفخرة وشرفا، فهو حليف أبناء البيوتات الشرفاء من أبناء الشعب عامة الذين لا يمتون للمسئولين بأية صلة، ولم يصبح بيننا غني إلا بسبب لا يرضي الشرف أو المقاييس القديمة للأخلاق. وهكذا لم يكن يعنيني، بل لعله كان يشرفني أن أركب السيارة العامة لو أن هذه السيارة أبقت على نزر يسير من آدميتي، آدميتي التي أكتسبها من شكل الإنسان الذي صورني الله عليه، ولا علينا من آدميتي تلك التي اختطفت مع آدمية المصريين.
نامعلوم صفحہ