التفت فرأيت الضابط واقفا يرمقني بنظرته الباردة، فقلت: جئت أتسوق. - وأين التاكسي؟ - في الميدان الجديد.
ومضى إلى سبيله تاركا إياي في حيرة، فتشت بعيني عن المرأة، ولكنها كانت قد ذابت في الزحام، ورجح لدي أنني أواجه تدبيرا محكما لا صدفة عمياء، وأن علي أن أضاعف من الحذر.
وتفرغت لعملي كسواق تاكسي أياما متتابعة، وكلفت خاطبة أن تبحث لي عن عروس مناسبة، ثم تسللت ذات ليلة، عند منتصف الليل، إلى الحانة الموجودة عند مشارف السوق، وجدتها مكتظة بالشاربين، تضج بالنكات والأغاني، حارة بالأنفاس والدخان والهواء الفاسد. شربت قليلا ولكني تظاهرت بالنشوة والمرح، وأرهفت حواسي لتصيد الفلتات والشوارد. وكالعادة تطعم كل حديث، كل مزاح، بحديث الجريمة. قلت لنفسي متعجبا: كأنهم جميعا مجرمون أو ضحايا أو الاثنان معا.
وسمعت ضمن الأحاديث حوارا ذا دلالة فيما أعتقد. قال الرجل محتجا: نحن ضعفاء.
فأجابه بحدة: بل جبناء. - ماذا تفعل إذا اعترض سبيلك سياج من النيران؟ - أرمي بنفسي فيها؟ - ارم بنفسك وأرنا شجاعتك.
وعربدوا ضاحكين، وانثال علي نثار من الكلمات صالح لدى ربطه، وإعادة تكوينه لإعطاء اعترافات خطيرة أو ما يشبه ذلك. تابعت ذلك وأنا ألهث من شدة الانفعال، وشيء جذب رأسي نحو مدخل الحانة كما يقع لدى توارد الخواطر، فرأيت الضابط يتسلل خارجا! أفقت من نشوتي وانفعالي، وتنبهت في غريزة المهنة فأدركت فداحة الخطر الذي يحدق بي، امتلاك سر خطير من هذا النوع يعني الهلاك، وأنا خبير بأساليب مهنتي؛ ولذلك فعلي أن أفكر بصفاء ذهن. يجب مغادرة الحانة قبل أن تفتعل معركة من أجل القضاء علي قضاء وقدرا، يجب تجنب السير في الشوارع الخالية، لا تستقل التاكسي حذرا من انفجاره لأسباب مجهولة، لا ترجع إلى حجرتك حتى لا يغتالك كائن جاثم في ركن منها، إلى المحطة رأسا عن طريق شارع المسلة، وهناك تتعدد الوسائل للوصول إلى العاصمة.
وفي صحن المحطة شعرت بيد توضع على كتفي فالتفت متوثبا فرأيت الضابط، وقفنا نترامق مليا حتى ابتسم قائلا: جئت لأودعك بما تقضي به أصول الزمالة.
عدلت عن المكابرة وتمتمت ساخرا: شكرا.
وهو يضحك: ولم تترك التاكسي وراءك بلا سائق؟
فقلت ساخرا أيضا: أتركه في أيد أمينة!
نامعلوم صفحہ