المطاردة
تحقيق
الحجرة رقم 12
الطبول
العريس
العري والغضب
الجريمة
المقابلة السامية
أهلا
المطاردة
تحقيق
الحجرة رقم 12
الطبول
العريس
العري والغضب
الجريمة
المقابلة السامية
أهلا
الجريمة
الجريمة
تأليف
نجيب محفوظ
المطاردة
مسرحية من فصل واحد
1 (المسرح خال تماما. يدخل شابان في ميعة الصبا. يرتدي أولهما قميصا أبيض وبنطلونا رماديا قصيرا، وحذاء من المطاط، ويرتدي الآخر قميصا أحمر، وبنطلونا أزرق وحذاء من المطاط. سنطلق على الأول «الأبيض» نسبة إلى قميصه والآخر «الأحمر» نسبة إلى قميصه أيضا، ينظران فيما حولهما باستطلاع واهتمام.)
الأبيض :
مكان مناسب وبه كل ما نحتاج إليه.
الأحمر :
إنه مكان على أي حال ونحن في حاجة إلى مكان.
الأبيض (كمن يتذكر) :
يخيل إلي أننا لعبنا فيه من قبل.
الأحمر (هازئا) :
دائما تقول ذلك.
الأبيض :
أو لعله قريب الشبه منه.
الأحمر :
المهم أنه مكان صالح للعب.
الأبيض :
هذا هو المهم حقا.
الأحمر :
وهو بعيد فلن يهتدي إليه.
الأبيض :
أرجو ذلك.
الأحمر :
لعله يجد ما يشغله عنا.
الأبيض :
لعله.
الأحمر :
كأنه لا هم له إلا التطفل علينا.
الأبيض :
لو نوفق إلى تجاهله!
الأحمر :
كيف وهو لا يتركنا لحالنا؟
الأبيض :
فلنلعب.
الأحمر :
فلنلعب.
الأبيض :
لنلعب لعبة الأحلام.
الأحمر :
إنها مضجرة وخير منها الملاكمة.
الأبيض :
الملاكمة رياضة عنيفة فلنجر في الهواء الطلق.
الأحمر (ساخرا) :
أنت جبان.
الأبيض (باسما) :
أنت حيوان. (يتوثبان لبعضهما في تحد - يتراجعان وهما يرهفان السمع في قلق.)
الأبيض :
ماذا هناك؟ (الأحمر يشير إليه بالسكوت ويرهف السمع.)
الأبيض :
سمعت شيئا؟
الأحمر :
وقع أقدام!
الأبيض :
حقا؟!
الأحمر :
اسمع ولا تتكلم.
الأبيض (مرهفا السمع، وقع الأقدام يتضح) :
وقع أقدام حقا.
الأحمر :
هو؟
الأبيض :
أو أي ذي قدمين.
الأحمر :
لا تتظاهر بعدم الاهتمام.
الأبيض :
أنا لا أحسن التظاهر ولا أحبه.
الأحمر :
ألا يزعجك حقا؟
الأبيض :
بلى، ولو لدرجة ما. (تقترب الأقدام. يدخل رجل متين البنيان، قوي بصورة واضحة، يرتدي قميصا أسود وبنطلونا أسود وبيده سوط. رغم قوته وشباب ملامحه، فإنه لا توجد شعرة سوداء واحدة في رأسه الأبيض.
تنحى الشابان جانبا وهما ينظران إليه في حذر. أما هو فوقف منتصب القامة ناظرا فيما أمامه نظرة مجردة بعيدة المرمى، وهو يحرك قدميه (محلك سر) طيلة الوقت.)
الأحمر :
أرأيت؟
الأبيض :
نعم.
الأحمر :
نذهب إلى مكان آخر؟
الأبيض :
فلنلعب إن تكن لك رغبة في اللعب حقا.
الأحمر :
تحت عينيه؟
الأبيض :
ولم لا؟
الأحمر (ملاحظا الرجل) :
إنه لا يكف عن الحركة رغم أنه لا يبرح مكانه.
الأبيض :
المهم ألا يتدخل في شئوننا.
الأحمر :
ولكنه يتبعنا أينما سرنا.
الأبيض :
لا يعد ذلك تدخلا في شئوننا. (صمت.)
الأبيض :
فلنلعب «وطي البصلة».
الأحمر (يهز منكبيه استهانة) :
فليكن، «وطي».
الأبيض :
وطي أنت أولا.
الأحمر :
بل أنت الأول.
الأبيض :
لا تكن أنانيا.
الأحمر :
لا هم لك إلا المعارضة.
الأبيض :
وأنت تتصرف كأن لا وجود لأحد معك.
الأحمر :
لاعبني «برادي فير» والمغلوب يوطي. (الأحمر ينطرح على بطنه، ويركز ذراعه على كوعه، ناظرا إلى الأبيض في تحد فيضطر هذا إلى أن يفعل مثله، يتصارعان، الأحمر يميل ذراع الأبيض حتى يلصقها بالأرض.)
الأحمر : (صائحا بفرح)
غلبت ... لم يوجد بعد الذي يستطيع أن يغلبني (تلوح منه نظرة نحو الرجل القوي المتحرك، فيبوخ حماسه نوعا)
لم يوجد بعد ... (الأبيض ينهض مستسلما، يوطي واضعا يديه على ركبتيه. الأحمر يتراجع مسافة، ثم يجري نحو الآخر، ويثب من فوقه، معتمدا بيديه على ظهره المنحني، ثم يوطي بدوره فيثب الأبيض من فوقه، هكذا تستمر اللعبة حتى يتعثر الأبيض وهو يثب فيرتطم بالآخر ويقعان معا، ويغرقان في الضحك. يقفان وهما يضحكان، ويكف الأبيض عن الضحك ويواصله الأحمر. الأبيض يشير إلى صاحبه بالسكون وهو يرهف السمع، ثم يتراجع به بعيدا عن الرجل.)
الأبيض :
يخيل إلي أنه طالبنا بالكف عن اللعب.
الأحمر :
لم أسمع شيئا.
الأبيض :
ولكني سمعته.
الأحمر :
سمعي أقوى من سمعك.
الأبيض :
ولكنك كنت تضحك.
الأحمر (غاضبا) :
أرى أن نوقفه عند حده ...
الأبيض :
يحسن بنا أن نتجاهله ...
الأحمر :
بأي حق يتدخل في حريتنا؟ (صمت.)
الأحمر :
وكلما سكتنا زاد في غيه.
الأبيض :
تذكر أنه كان صديقا لوالدنا!
الأحمر :
لا نستطيع أن نحكم، كنا وقتها صغارا .
الأبيض :
ولكنه لم يكف عن زيارته حتى آخر يوم في حياته.
الأحمر :
لعله كان يتدخل في شئونه، كما يريد أن يفعل معنا.
الأبيض :
لا يبدو أنه شرير.
الأحمر :
ولكن غير بعيد أن يكون به لطف!
الأبيض :
لعل متابعته لنا حيثما نذهب نوع من الرعاية، بحكم صلته القديمة بوالدنا.
الأحمر :
أنت عبيط، ولعله كان ضمن الأشياء التي نغصت صفو أبينا في أواخر أيامه.
الأبيض :
ولكن والدنا لم يذكره بسوء.
الأحمر :
كنا صغارا لا نفقه لما يقال معنى.
الأبيض :
لم يكن لوالدنا أعداء.
الأحمر :
من أدرانا بحقائق ذلك الزمن؟ (صمت.)
الأحمر :
لماذا يطاردنا؟
الأبيض :
إن صح أنه يطاردنا حقا فلماذا يطاردنا؟
الأحمر :
انظر إلى حركته المستمرة، إنه مجنون.
الأبيض :
لا تتسرع في الحكم.
الأحمر :
هل يقبل عاقل أن يقف كما يقف ويحرك ساقيه كما يحركهما؟
الأبيض :
بعض الناس لا يطيقون السكون.
الأحمر :
ترى ما مهنته؟
الأبيض :
إنه قوي، خالي البال، فلعله من الأعيان.
الأحمر :
دعنا نناقشه جهارا.
الأبيض :
كلا، مظهره لا يشجع على المناقشة.
الأحمر :
دعني أسأله بضعة أسئلة.
الأبيض :
مثل ماذا؟
الأحمر :
لماذا يطاردنا؟
الأبيض :
لن يعترف بذلك، ولا دليل عليه.
الأحمر :
ألم تسمعه وهو يطالبنا بالكف عن اللعب؟
الأبيض :
حتى ذلك غير مؤكد. (صمت.)
الأبيض :
خير ما نفعل أن نتجاهله.
الأحمر :
لا أستطيع.
الأبيض :
لولا عصبيتك ...
الأحمر (مقاطعا) :
دائما ترميني بعجزك.
الأبيض :
لا حد لمكابرتك.
الأحمر :
أحيانا أود أن أدق عنقك.
الأبيض :
سأضيق بك يوما فأهجرك. (يتواجهان في غضب. الرجل يضرب الهواء بسوطه فيحدث طرقعة شديدة ... يدب الخوف في قلبيهما. ينسيان خلافهما الطارئ. يغادران المكان. الرجل يقف وقفته وهو يحرك ساقيه (محلك سر) ... المكان يظلم.)
2 (يضاء المسرح. نفس المسرح الخالي. يقف الأحمر والأبيض متواجهين. لقد تغيرا تغيرا ملحوظا. ارتدى كل منهما جاكتة من لون القميص وحذاء جلديا، وأصبح لكل شارب صغير يتبادلان النظر في ارتياح.)
الأحمر :
هيهات أن يتعرف علينا الآن.
الأبيض :
تغيرنا لدرجة لا بأس بها.
الأحمر :
ولكنها كافية لتضليله.
الأبيض :
هذا هو المأمول.
الأحمر :
لا تبدو واثقا ولا مطمئنا.
الأبيض :
يخيل إلي أحيانا أن التغير سطحي!
الأحمر :
أنت مولع دائما بالتهوين من مهارتي.
الأبيض :
أبدا، استعدادي طيب للاعتراف بمواهبك.
الأحمر :
إذن فلماذا تبدو مرتابا؟
الأبيض :
أخشى ألا يخدعه مظهرنا الجديد.
الأحمر :
لن يصل إلى حقيقتنا الكامنة وراء الشارب والجاكتة والحذاء.
الأبيض :
عظيم، هذا هو المأمول.
الأحمر :
نحن الآن موظفان من قوة الدولة!
الأبيض :
هذا صحيح و... (يصمت فجأة متنصتا. الآخر يتنصت أيضا.)
الأبيض :
وقع أقدام ...
الأحمر :
لا أظن.
الأبيض :
إنه قادم.
الأحمر :
لعله عابر سبيل مجهول.
الأبيض :
بت أعرف إيقاع قدميه.
الأحمر :
لا تدع امتلاك الحكمة كلها. (يصبح وقع الأقدام مسموعا. يدخل الرجل بنفس الصورة التي ظهر بها أول مرة، ولكنه لا يقف إنما يمضي ذهابا وجيئة في بطء ملحوظ بعرض المسرح وفي عمقه. الشابان ينظران نحوه بذهول. ينتحيان جانبا بعيدا عن مسمعه.)
الأبيض :
أرأيت؟
الأحمر :
مهلا .. أرجح أنه لم يتعرف علينا.
الأبيض :
أتؤمن بذلك حقا؟!
الأحمر :
لعل الذي يجمعنا هو الطريق والمصادفة ولا شيء سواهما.
الأبيض :
لا بأس من أن نسلم بذلك ...
الأحمر :
فلنتجاهله، ولنمارس عملنا في هدوء وسكينة. (يرجعان إلى وسط المسرح، يتظاهران بالانهماك.)
الأحمر (بنبرة عظمة) :
حررت استمارات الصرف؟
الأبيض :
لم تبق إلا واحدة.
الأحمر :
أسرع من فضلك لتتم مراجعتها اليوم.
الأبيض :
على أي حال فالخزانة لا تغلق قبل منتصف النهار.
الأحمر :
لا يجوز تأجيل عمل اليوم إلى غد.
الأبيض :
ألا ترى أنه يجب مراجعة ميزانية المصروفات؟
الأحمر :
أعلم أنها تسمح بالصرف حتى نهاية العام المالي.
الأبيض :
إذن يحسن أن أكتب المذكرة. (صمت.)
الأحمر :
هل لك علاوة هذا العام؟
الأبيض :
كلا وأنت؟
الأحمر :
أستحق علاوة هذا العام.
الأبيض :
مبارك.
الأحمر :
ستغرق في خضم أعباء المعيشة. (الأبيض يتنصت فجأة وهو يمد أذنه نحو الرجل المتحرك، ثم يأخذ الآخر من يده بعيدا عن مسمعه.)
الأبيض :
أسمعت؟
الأحمر :
كلا.
الأبيض :
عاد يطالبنا بالكف عن اللعب.
الأحمر :
متأكد؟!
الأبيض :
بلا أدنى شك.
الأحمر :
اللعنة.
الأبيض :
من السهل خداعه.
الأحمر :
ماذا يريد منا؟
الأبيض :
الله أعلم.
الأحمر :
واضح أننا لا نلعب.
الأبيض :
واضح جدا.
الأحمر :
أيظن أنه ولي أمرنا؟ (الأحمر يغضب. يأخذ الأبيض من يده ويذهبان إلى وسط المسرح. الأحمر ينظر نحو الرجل المتحرك متحديا.)
الأحمر :
هل تخاطبنا يا حضرة؟ (الرجل يواصل حركته صامتا.)
الأحمر :
يجب أن تتكلم ... (الرجل يواصل حركته صامتا.)
الأحمر :
نحن موظفان محترمان، ولا نقبل إلا المعاملة اللائقة بكرامة الدولة. (الرجل يواصل حركته صامتا.)
الأبيض :
هل لك حاجة في المصلحة؟
الأحمر :
عليه أولا أن يجيب ...
الأبيض :
هل لك طلب؟ ... شكوى؟ ... أموال متأخرة؟ (الرجل يواصل حركته صامتا.)
الأحمر :
كيف دخلت الإدارة؟ ... أمعك بطاقة شخصية؟
الأبيض :
نحن في خدمة الجمهور ...
الأحمر (ثائرا) :
كف عن حركتك اللعينة فقد أدرت رءوسنا!
الأبيض :
وتذكر أن الخزانة تغلق في تمام الثانية عشرة.
الأحمر :
لو رآك المدير وهو ذاهب إلى دورة المياه فلن تحمد العواقب.
الأبيض :
ما زلت أقول إننا في خدمة الجمهور.
الأحمر :
يا ويلك من رجال أمن الوزارة لو رأوك!
الأبيض :
ماذا جاء بك يا سيدي؟
الأحمر :
طبعا عندك فكرة عن العقوبة التي ينالها من يعتدي على موظف في أثناء قيامه بأعمال وظيفته؟
الأبيض :
هل تضايقك بعض الشكليات السخيفة؟
الأحمر :
أنت أدرى بما يضايقك، ومن حقك أن تشكو، ولكن لكل إجراء نظمه المتبعة الواجبة الاحترام.
الأبيض :
وحتى إذا احتاج الأمر إلى رعاية خاصة أو وساطة لها وزنها؛ فستجد عندنا ما يحقق رغباتك المشروعة.
الأحمر :
عليك أولا أن تكف عن الحركة، وأن تتفاهم كما يجدر بالناس الطيبين. (الرجل يواصل حركته، وفجأة يضرب الهواء بسوطه فيحدث فرقعة شديدة ... يتراجع الشابان في خوف.)
الأحمر (بلهوجة) :
أذن موعد الانصراف.
الأبيض :
هيا بنا إلى معركة المواصلات. (يغادران المكان بسرعة، وفي خوف لم يفلحا في إخفائه. يستمر الرجل في حركته. يظلم المسرح.)
3 (يضاء المسرح. الأحمر والأبيض متواجهان بنفس الحال التي رأيناهما عليها، عدا الشارب الذي امتد ونما فأضفى عليهما مظهر رجولة لم تجاوز حدود الشباب.)
الأحمر :
أليست فكرة بارعة؟
الأبيض :
وطبيعية، وتهيئ لنا استقرارا.
الأحمر :
الزواج هناء، ومصاهرة تقوي مركزنا وسواعدنا، وفي إطار الصورة الجديدة لن يتعرف علينا .
الأبيض :
هو خير من العزوبة على أي حال.
الأحمر (في عصبية) :
لا أراك متحمسا.
الأبيض :
بل إني مرحب جدا بالفكرة.
الأحمر :
لا أرى أثرا للحماس في وجهك.
الأبيض :
الزواج فكرة طيبة، ولكن هل يغيرنا للدرجة التي تضلله عنا؟
الأحمر :
أعتقد ذلك.
الأبيض :
فلنجرب والله معنا.
الأحمر :
أظن يكفينا زوجة واحدة؟
الأبيض :
فكرة مبتكرة.
الأحمر :
واقتصادية، ولكني أخشى قيام نزاع يهدد كل شيء.
الأبيض (باسما) :
طالما واجهنا الحياة كشخص واحد.
الأحمر :
كثيرا ما نختلف ونتخاصم.
الأبيض :
ولكن شيئا لم يستطع أن يقضي على الرابطة التي تجمعنا. (صمت.)
الأحمر :
وقع اختياري على زوجة ممتازة، ولكن هل تتفق أذواقنا؟
الأبيض :
بيننا تقارب لا شك فيه، ولا تنس تسامحي. (صمت.)
الأحمر :
إني أحب اللون الخمري.
الأبيض :
اللون الأبيض لا يعلى عليه.
الأحمر :
بدأ الخلاف.
الأبيض (بسرعة) :
ومع ذلك فجميع الألوان واحدة.
الأحمر :
وأحب العود الممتلئ.
الأبيض :
نحن في عصر الرشاقة.
الأحمر :
لا أتصور ذلك أبدا.
الأبيض :
ليكن ... ليكن ... بشرط ألا يزيد وزنها بعد المعاشرة.
الأحمر :
بل لا بأس من أن يزيد، وأن تمتلئ المواقع التي يريد الله لها أن تمتلئ.
الأبيض (متنهدا) :
لتكن إرادة الله.
الأحمر :
ورأيت من الحكمة أن تكون ذات مال، ولو في الحدود المعقولة.
الأبيض :
يا له من تفكير تجاري!
الأحمر :
أنت جاهل بالدور الذي يلعبه المال في الحضارة!
الأبيض :
ليكن ما تريد، لا تغضب.
الأحمر :
ولا أقبل بحال أن تكون كاملة التعليم، حسبها التعليم الابتدائي؛ فالعلم زينة غير مقبولة للمرأة، وهو يغريها دائما بالعمل الذي يحولها في النهاية إلى رجل.
الأبيض :
رأيك هذا كان رأيا عصريا في العصر الحجري.
الأحمر :
أنا لا يخيفني التعيير بالعصور القديمة.
الأبيض :
ما دمنا نرغب في أن نكون ثلاثة فأكثر، وما دام ذلك في صالحنا، وضمانا لأمننا المهدد، فلا يعني إلا القبول.
الأحمر :
وطالبت بأن تكون لعوبا في نطاق الشرع!
الأبيض :
المرأة اللعوب لا يسعها إلا أن تكون لعوبا سواء في نطاق الشرع أو خارجه.
الأحمر :
بل في نطاق الشرع وحده وسوف ترى.
الأبيض :
فلنجرب على أي حال. (صمت.)
الأحمر :
هل لك مواصفات أخرى؟
الأبيض :
مواصفات هامشية، ولكنها لا تخلو من فائدة، مثل البراعة في الحديث.
الأحمر :
لا أهمية لذلك، أنا أعرف زوجا سعيدا، ترجع سعادته أولا إلى كون زوجته خرساء.
الأبيض :
ويا حبذا لو كانت تجيد الغناء!
الأحمر :
لا أهمية لذلك أيضا؛ فلدينا الكفاية في الإذاعة والتلفزيون. (صمت.)
الأحمر :
هل من مواصفات أخرى؟
الأبيض :
كلا.
الأحمر :
أعتبر اتفاقنا كاملا؟
الأبيض :
كاملا. (الأحمر ينظر إلى الجانب الأيمن من المسرح ويزغرد. تسمع موسيقى زفة العروس.) (تدخل العروس وهي تسير بين شيخ وشرطي. يقفون أمام الشابين ثم يستدير الرجلان ويذهبان. تتبادل النظرات بين العروس وبين الشابين.)
الأحمر :
أهلا بك يا عروس.
العروس (في حياء) :
أهلا بك.
الأبيض :
فلتحل بحلولك النعمة والهناء.
العروس :
آمين. (يقبلانها في وقت واحد، كل في خد.)
العروس (بحيرة) :
توقعت قبلة واحدة.
الأبيض :
سيتكرر ذلك كثيرا.
الأحمر :
وعلى كل موقع مختار! (ذهول من العروس وضحك من الشابين.)
الزوجة (في حيرة أكثر) :
إني أتزوج لأول مرة فمعذرة.
الأحمر والأبيض معا :
ونحن كذلك!
الزوجة :
نحن؟!
الأبيض :
نعم.
الأحمر :
لسنا من أنصار تعدد الزوجات.
العروس :
ولكن ...
الأحمر :
أنت الزوجة ونحن الزوج.
العروس :
معا؟
الأحمر :
نعم.
العروس :
ولكنكما اثنان.
الأبيض :
اعتبرينا شخصا واحدا.
العروس :
لا أفهم شيئا.
الأحمر :
ثمة أمور لا تفهم إلا بعد ممارسة الحياة الزوجية بالفعل.
العروس :
لم يكن ذلك ضمن المعلومات التي زودتني بها أمي.
الأحمر :
طيبة منها ولا شك.
العروس :
وكيف تستقيم المعيشة معكما معا؟
الأحمر :
ستعلمين ذلك في حينه.
العروس :
أليست حالا غير طبيعية؟
الأحمر :
هذا ما جرت به الطبيعة منذ الأزل.
العروس :
قيل لي إن التوفيق مع زوج واحد أمر ليس بالهين، فكيف يتيسر مع اثنين؟!
الأبيض :
هو غير هين لذلك وليس لسبب آخر.
الأحمر :
ستتعلمين كل شيء في حينه ... تعالي. (ينهالان عليها قبلا وأحضانا وهي مرتبكة.)
العروس :
ستوجد مشاكل؟
الأحمر :
مشاكل؟
العروس (في حياء) :
من سيكون أبا الوليد؟
الأبيض :
سيحمل اسم من يسجله في المكتب المدني.
العروس :
ولكن ذلك شيء عرضي جدا.
الأبيض :
الأسماء كلها عرضية.
العروس :
أعجب ما سمعت في حياتي.
الأحمر :
هكذا سيبدو لك كل شيء.
العروس :
لم أسمع بذلك من قبل.
الأحمر :
ولذلك فإني من أنصار تعليم الجنس في المدارس! (صمت.) (يترامى وقع أقدام. يخرجون بعنف من جو الموقف ويرهفون السمع.)
الأحمر :
غير معقول.
الأبيض (متنهدا) :
لم أكن مغاليا.
العروس :
من القادم؟
الأحمر (للأبيض) :
ولكن ... هيهات أن يعرفنا!
الأبيض :
فليحقق الله ظنك.
العروس :
أتتوقعان قدوم أحد؟
الأحمر :
كلا.
العروس :
فمن القادم؟ (صمت مع إرهاف السمع.) (يدخل الرجل بصورته الثابتة، ويمضي ذهابا وإيابا في حركة أسرع قليلا مما كانت عليه في المنظر السابق.) (الأحمر والأبيض والعروس يتراجعون بعيدا عن مسمعه.)
الأحمر :
قلبي يحدثني بأنه لم يعرفنا.
الأبيض :
طالما منينا أنفسنا بذلك.
العروس (بضيق واضح) :
ماذا جاء به إلى هنا؟
الأحمر (للعروس) :
أرأيته من قبل؟!
العروس :
أكثر من مرة!
الأحمر :
أنت أيضا؟!
العروس :
وأنتما؟ ... أليس كذلك؟!
الأبيض :
لعله من سكان الحي!
الأحمر :
أكاد أوقن بجنونه.
العروس :
كان من المترددين على أبي.
الأحمر :
أيضا!
العروس :
ظننته سينقطع عن الظهور عندما أصير في عصمة رجل، ولكنه مصر رغم أنني صرت في عصمة رجلين!
الأحمر :
لا داعي للتشاؤم فلعله لم يعرفنا.
الأبيض :
لعله!
العروس :
رباه ... ما أشد قلقي ... ماذا يجدر بنا أن نفعل؟ (صمت.)
الأحمر :
فلنتجاهله ... ولنغن احتفالا بحياتنا الزوجية.
بشرى لنا
نلنا المنى
زال العنا
وافى الهنا. (يرجع الأحمر بهما إلى موقفهما السابق وسط المسرح ثم يغنون): (الأبيض يرهف السمع باهتمام واضح.)
الأبيض (للأحمر) :
عاد يتكلم.
الأحمر (منفعلا) :
ماذا قال؟
الأبيض :
كالعادة.
الأحمر (مخاطبا الرجل) :
ماذا تريد؟
الأبيض (للرجل) :
سيدي ... لم تضيع وقتك هدرا؟!
الأحمر (للرجل وحدته ترتفع) :
هل تغرك قوتك؟ هل تستند إلى أحد من ذوي الشأن؟ إذن فاعلم أننا أصهرنا إلى واحد منهم هو والد هذه الزوجة الكريمة، وقد أصبحنا ثلاثة تؤيدهم حلقة متينة من العائلات الأصيلة.
الأبيض (للرجل) :
أخي شاب ذو حدة، ولكننا في النهاية من صلب الرجل الطيب الذي كان صديقا لك.
الأحمر (مستسلما للحدة) :
لم أعد أطيق هذا التدخل السخيف!
العروس :
ولا أنا.
الأبيض (للرجل) :
ماذا تريد يا سيدي؟ كأنه لا يروق لك شيء مما نفعله، فماذا تريدنا على أن نفعل؟
الأحمر (للرجل) :
تكلم ... يجب أن تتكلم.
العروس (للرجل أيضا) :
احترم الحياة الزوجية المقدسة.
الأبيض :
نحن ندعوك لحفل زفافنا، ما رأيك؟ (صمت.)
الأحمر (موجها خطابه للزوجة والأبيض) :
لا فائدة!
العروس :
يا للأسف!
الأبيض (وهو يتنهد بصوت مسموع) :
أصبح لنا أسرة على أي حال! (الرجل وهو يواصل حركته ذهابا وإيابا، يضرب بسوطه الهواء فتسمع طرقعة شديدة ... يتراجعون بعيدا عنه في ذعر واضح.)
العروس :
لا أطيق ذلك.
الأحمر :
ولا أنا.
الأبيض :
لنبدأ رحلة شهر العسل!
الأحمر :
لنبدأها فورا.
العروس :
هيا ... هيا.
الأحمر :
سيسقط يوما من الإعياء جثة هامدة.
العروس :
آمين. (يتأبط كل منهما ذراعا لها، ويغادران المكان وهم يسترقون النظر إليه في حذر، يواصل الرجل حركته على حين يظلم المسرح.)
4 (يضاء المسرح. الأبيض والأحمر بنفس الملابس ومعهما الزوجة. واضح أن العمر قد تقدم بهم فجرى المشيب في رءوسهم، وذبلت نضارتهم، أصبحوا كهلين وسيدة.)
الزوجة :
مهما يكن من متاعبكم، فلا يجوز أن ننسى الأبناء! (الرجلان يتبادلان نظرات عميقة، وكأنهما لم يسمعا صوت الزوجة.)
الأحمر :
إذا طارت درجة المدير العام هذه المرة فقل عليها السلام.
الأبيض :
ما زالت اجتماعات اللجنة مستمرة!
الأحمر :
ككل مرة، ثم يرقى شخص مجهول لا يخطر ببال أحد.
الأبيض :
هل تطيق الصحة أعباء جديدة يا عزيزي؟
الأحمر :
لا شيء يهمك حتى الأعماق، أبدا، هل فكرت في تحسين المعاش كما ينبغي لرجل مسئول؟!
الزوجة :
المعاش في النهاية أهم من المرتب نفسه!
الأحمر :
كرري ذلك على مسامعه!
الأبيض :
إني أود الترقية أيضا، ولكني أكره حرق الدم.
الأحمر :
سرعان ما تضيق بأي شيء.
الأبيض :
فليهتم بالمعاش من لن يملكوا سواه، أما أنت فإن نشاطك الحر أضعاف نشاطك الرسمي.
الأحمر :
لولا ذلك ما توافرت لنا الحياة التي ننعم بها.
الأبيض :
غرقنا في العمل طيلة عمر، للدولة ولأنفسنا، بت أتطلع لحياة أخرى، لشيء من الهدوء والراحة.
الأحمر :
عما قريب ستشبع من الهدوء والراحة وتبكي الأيام الخالية.
الأبيض :
لا أظن.
الزوجة :
كفا عن النزاع، ولندع الله أن يهبنا القوة والصحة، ولكن فكرا قليلا في الأبناء.
الأحمر (للأبيض) :
أنت مثبط للهمم.
الأبيض :
كلا، لي طموح بعيد أيضا.
الأحمر :
لا أعترف به.
الأبيض :
تلزمنا فترة تأمل عقب الجنون المحتدم.
الأحمر :
من أين لنا بها؟ ثلاثة اجتماعات في اليوم، ورابع في المساء مع سمسار من السوق الحرة، وعلينا بعد ذلك أن نقيم وليمة عشاء للعملاء ...
الزوجة :
ستكون وليمة يشهد لها العدو قبل الصديق.
الأبيض (للأحمر) :
ولكن ألا ترى أن وظيفة المدير العام ستلتهم وقتنا الضيق؟
الأحمر :
كلا، فهي من ناحية أخرى تذلل كثيرا من الصعاب.
الأبيض :
لا تنس أمراضك المزمنة.
الأحمر :
إني مسيطر عليها تماما.
الزوجة :
نسأل الله السلامة.
الأحمر (للزوجة) :
لن أنسى أفضالك فأنت ممرضة ماهرة!
الأبيض :
هي نفسها لا تخلو من أمراض مزمنة.
الأحمر :
هذا يدعونا إلى مضاعفة النشاط.
الزوجة :
والأبناء؟
الأحمر (في ضيق) :
الأبناء ... الأبناء ... لا حكاية لك إلا الأبناء، وحكاياتهم لا تسر الخاطر.
الزوجة :
ولكنها جديرة بكل اهتمام وعناية.
الأحمر :
اللعنة ... إنهم أعقد من درجة المدير العام.
الزوجة (للأبيض) :
قل شيئا.
الأبيض :
في ذلك المجال فإني أفعل أكثر مما أتكلم.
الزوجة (متأوهة)
حسادنا كثيرون على حين أننا تعساء.
الأحمر (غاضبا) :
كفي عن الولولة!
الزوجة (غاضبة أيضا) :
أنت رجل أناني. (يخرصهم السكوت فجأة، فيرهفون السمع في قلق واضح.)
الأحمر :
كلا ... لا شيء ...
الزوجة :
ماذا هناك؟
الأحمر :
خيل إلي ...
الزوجة :
يا رحمن يا رحيم ...
الأبيض :
ليست المرة الأولى.
الأحمر :
ماذا تعني؟
الأبيض :
سمعنا الأقدام مرات، ولكن الرجل لم يظهر، منذ مدة لم يظهر.
الأحمر :
بل كدنا ننساه تماما.
الزوجة :
ليس تماما.
الأبيض :
ولكنه كثيرا ما يسمعنا وقع أقدامه ...
الأحمر :
مجرد ظنون.
الزوجة :
لعله مات.
الأبيض :
مات؟!
الزوجة :
وإلا ما اختفى طيلة تلك المدة ...
الأبيض :
لكنه لم يختف تماما.
الأحمر :
أقسم أنني كدت أنساه. (وقع الأقدام يسمع بوضوح. ينصتون بقلق واضح.)
الأحمر :
ليتنا ما ذكرناه.
الزوجة :
ليتنا ...
الأبيض :
ولكن لا حيلة لنا في ذلك.
الأحمر :
لا تنقصنا الهموم.
الزوجة :
وكل الهموم تهون بالقياس لهمه.
الأبيض :
ونحن نخلق من الهموم ما يكفي.
الأحمر (للأبيض في غيظ وحنق) :
يخيل إلي أحيانا أنك حليفه علينا!
الأبيض :
ليتك تزداد مع العمر حكمة.
الأحمر :
الإعجاز أن نزداد مع العمر حماقة!
الأبيض :
أشهد أن ذلك الإعجاز لا ينقصنا!
الأحمر :
ما زلنا شبابا.
الأبيض :
ظننت أن الشباب قد ولى.
الأحمر (مشيرا إلى قلبه) :
الشباب هنا وليس في مكان آخر.
الزوجة :
ما زلنا شبابا!
الأبيض :
إذن فعليكم ألا تهتموا بمطاردة الرجل لنا.
الأحمر :
ولكنني لا أرتاح إليه.
الزوجة :
وأما أنا فإني أمقته ... ويخيل إلي أنه سيقتلنا يوما ما.
الأبيض :
نحن نقتل أنفسنا أيضا.
الأحمر :
لقد حققنا أعمالا مجيدة.
الزوجة :
أعمال غير قابلة للموت.
الأبيض :
لا يجوز أن نخشى الموت أكثر مما ينبغي.
الأحمر :
كلام فارغ، أنت أول من يخاف الموت.
الزوجة :
كيف لا نخشى الموت؟!
الأبيض :
لا يبعد أن يكون آخر مغامرة في الحياة.
الأحمر :
لا تتعلق بالأوهام. (وقع الأقدام يشتد. يدخل الرجل. منظره لم يتغير. يمضي في حركته ذهابا وإيابا بسرعة أكبر مما كانت عليه في المنظر السابق. يتابعونه بذهول. يتراجعون بعيدا عن مسمعه.)
الأحمر :
قلبي يحدثني بأنه لم يعرفنا.
الأبيض :
لا تتعلق بالأوهام!
الزوجة :
إنه يزداد سرعة!
الأحمر :
ذلك يعني أنه يزداد جنونا.
الأبيض :
ترى ما معنى ذلك؟
الأحمر :
لا تحمل الأمور أكثر مما تعني.
الزوجة (في عصبية) :
ما له يسرع هكذا!
الأحمر :
علينا أن نفزعه.
الزوجة :
كيف؟
الأحمر (غامزا بعينه) :
فلنمثل دورنا بإتقان. (يرجع بهما إلى المكان الأول وهو يتظاهر بالثقة والعظمة.)
الأحمر (للأبيض) :
هل أضفت الأموال إلى حسابنا الجاري؟
الأبيض :
نعم.
الأحمر :
عظيم ... لا يجوز أن نترك مليما بلا استثمار.
الزوجة :
عين الصواب.
الأحمر :
سأقابل غدا بعض كبار المسئولين.
الزوجة :
لعلهم ضمن المدعوين إلى مأدبة العشاء؟
الأحمر :
كلا، ستكون الوليمة قاصرة على الوزراء!
الزوجة :
ولا تنس السفراء يا عزيزي.
الأحمر :
ذلك ما لا يمكن نسيانه.
الزوجة :
سيتم كل شيء على خير وجه قبل أن تسافر إلى الخارج.
الأحمر (وهو يضحك عاليا) :
طبعا ... طبعا. (الأبيض يرهف السمع باهتمام وقلق، يتجه نحو الأحمر.)
الأبيض :
تكلم مرة أخرى كالعادة!
الأحمر :
أنت وحدك تسمع رغم أنك أضعفنا سمعا!
الأبيض :
عليك أن تصدقني.
الأحمر (للرجل وهو يتقد غضبا) :
ماذا تريد؟
الزوجة (للرجل) :
ماذا جاء بك إلى بيتنا؟
الأحمر (للرجل) :
نحن نطالبك بالأدب واللياقة.
الأبيض (للرجل) :
لم يعد يمكن أن يقال إننا نبدد وقتنا في اللعب!
الأحمر (للرجل) :
وماذا يهمك من سلوكنا؟
الزوجة (للرجل) :
ألا تخاف على أعصابك وأنت تجري بهذه السرعة؟
الأحمر (للرجل) :
يوجد قانون وتقاليد.
الزوجة (للرجل) :
صن صحتك من أجل خاطر أولادك، أليس لك أبناء؟
الأبيض (للرجل) :
ليتك تصارحنا بما تريد.
الأحمر (للرجل) :
إني أحذرك عواقب الاستهتار.
الأبيض (للرجل) :
المصارحة مفيدة للطرفين.
الأحمر (للأبيض) :
لا تلاينه فإنه لا يزداد بالملاينة إلا عتوا.
الزوجة (للأحمر متوسلة) :
دعه يجرب! (يتراجع الأحمر والزوجة تاركين الأبيض يجرب حظه.)
الأبيض :
علاقتك القديمة بوالدنا لا يمكن أن تنسى. (الرجل يواصل حركته وكأنه لا يسمع شيئا.)
الأبيض :
إنك لا تدري مدى الإزعاج الذي تسببه لنا بحسن نية. (الرجل يواصل حركته وكأنه ... إلخ.)
الأبيض :
أأنت مكلف بمهمة؟ ما هي؟ من كلفك بها؟ ... صارحنا وأعدك بالمساعدة! (الرجل يواصل ... إلخ.)
الأبيض :
لا تسئ بنا الظن، لنا أخطاء بلا شك، ولكن أعمالنا لا تخلو من قيمة ... وخيرنا أكثر من شرنا. (الرجل يواصل ... إلخ.)
الأبيض :
صارحنا بما في نفسك، وإلا فمن العدل أن تتركنا وشأننا. (صمت مع استمرار الرجل في حركته.)
الزوجة (لنفسها) :
الكلام الطيب لا يؤثر فيه.
الزوجة (للرجل بصوت مرتفع منفعل) :
هذه أرضنا، لنا فيها أبناء وأموال وأعمال؛ فليس من الإنصاف أن تزعجنا على هذا النحو.
الأحمر (بنبرة تهديد) :
لا فائدة، ولا مفر من اللجوء إلى المسئولين. (الرجل مستمر في حركته على حين ينضم الأحمر والزوجة إلى الأبيض.)
الأحمر (بنفس النبرة المهددة) :
قوى شر كثيرة تعترض مجرى الحياة، مستهترة بالقوانين والتقاليد، ولكن كيف تكون عاقبتها ولو على المدى البعيد؟ تغلب على أمرها، ويحق عليها الجزاء والقهر، هذه هي سنة الحياة وإلا حق عليها الفناء. (الرجل وهو مستمر يضرب الهواء بسوطه فيحدث طرقعة رهيبة فينكمش الثلاثة، ثم يرون من الأوفق أن يغادروا المكان فيغادروه متعثرين، الرجل مستمر والظلام يهبط.)
5 (يضاء المسرح. الأحمر والأبيض والزوجة وقد طعنوا في السن وركبتهم الشيخوخة. الأحمر يرتدي عباءة حمراء وطاقية حمراء، والأبيض عباءة بيضاء وطاقية بيضاء، أما الزوجة فترتدي روبا يجمع بين اللونين. يتحركون حركات تنم عن الضعف والشيخوخة.)
الأحمر :
آه.
الأبيض :
آه.
الزوجة :
آه.
الزوجة :
الحمد لله على أي حال.
الأبيض :
له الحمد والشكر.
الأحمر :
اللهم احفظنا. (صمت.)
الأبيض (مرهفا السمع) :
هل تسمعان وقع أقدام؟
الأحمر :
ثقل السمع!
الزوجة :
إني أسمعها عن غير طريق الأذن! (صمت.)
الزوجة :
أتذكران عندما كنا أطفالا؟
الأحمر :
ولكننا عرفناك بعد مرحلة الطفولة!
الأبيض (في حنان)
عندما كنا أطفالا!
الزوجة : (متنهدة) عندما كنا أطفالا! (صمت.)
الزوجة :
كأنه الأمس.
الأبيض :
كأنه الأمس.
الأحمر :
كأنه ... كأنه ... كأنه ... عليكم اللعنة! (صمت.)
الزوجة :
الأيام الحلوة.
الأبيض :
والأحلام الحلوة.
الأحمر :
كنا نبول على أنفسنا وها نحن نبول على أنفسنا مرة أخرى! (صمت.)
الأبيض (مرهفا السمع) :
هل ...
الأحمر (مقاطعا) :
تسمعان وقع أقدام؟
الزوجة :
إنها تدب بلا انقطاع.
الأبيض :
أعتقد أننا ألفناها.
الأحمر :
أعتقد أنك مزعج مثله.
الزوجة :
لا داعي للخلاف الآن. (صمت.)
الأحمر :
فاتتنا فرص عظيمة ولكننا قمنا بأعمال تستحق الذكر.
الزوجة :
نحمده على ما نلنا، ونستعيضه عما فاتنا.
الأبيض :
نحمده. (صمت.)
الأحمر :
ترى هل أخطأنا في توظيف أموالنا؟
الزوجة :
العمارات أثبت من السوق المتقلبة!
الأبيض :
سبحان من له الدوام.
الأحمر :
وفكرة البيع الصوري للأبناء رائعة من ناحية الضرائب!
الأبيض :
هي أروع فكرة قانونية للخروج عن القانون.
الأحمر (غاضبا) :
أنت عنيد وأحمق.
الأبيض :
دائما لا تعجبك الحقيقة.
الزوجة :
لا تضاعف من مخاوفنا.
الأحمر (ساخرا) :
الابن الوحيد الذي يحمل اسمك ضاع، إخوته رجال أعمال يفخر بهم الوطن، أما هو فماذا يعمل؟ ... ملحن، ملحن ... ها ... ها.
الأبيض :
لا يقل عن إخوته شأنا، ولا يتطلع مثلهم للهجرة إلى الولايات المتحدة.
الأحمر (وهو يضحك) :
ماذا يعمل بالله؟
الأبيض :
إنه يلحن فيقول الناس آه .
الزوجة (متأوهة) :
آه.
الأحمر (متأوها) :
آه. (صمت.)
الزوجة (معاتبة) :
كفا عن النزاع فلم تعودا صغيرين.
الأحمر (فخورا) :
لولاي ما دامت لنا الحياة الزوجية.
الأبيض (في امتعاض) :
الحق أنه لولاي لانفصمت عروة الزوجية في أعقاب شهر العسل!
الأحمر (ساخرا) :
أي فضل لك في شهر العسل؟!
الزوجة (مغطية وجهها) :
يا للفضيحة! ... أخفضا صوتكما! (صمت.)
الأحمر (متذكرا أوجاع الكبر) :
آه.
الزوجة :
آه.
الأبيض :
آه. (صمت.)
الأحمر :
آن لي أن أذهب إلى النادي.
الزوجة :
يحسن بك ألا تخرج في فصل الشتاء.
الأحمر :
لا أريد أن يشمت بي أحد من الأعداء.
الأبيض :
لا تبالغ في تصور الأعداء.
الأحمر :
الناس بطبعهم أعداء للرجل الناجح. (وقع الأقدام يرتفع لدرجة لا تخفى على أحد. يرهفون السمع في رهبة صامتين، يدخل الرجل بمنظره المألوف. يمضي ذهابا وإيابا في سرعة أكبر من المنظر السابق وهم يتابعونه بذهول.)
الزوجة :
إنه يكاد يجري.
الأحمر :
يزداد جنونه استفحالا.
الأبيض :
لا يبدو عليه الكبر مثلنا.
الزوجة :
ما فائدة أن نتساءل عما يجعله يتبعنا؟!
الأبيض :
ولا تؤثر فيه وسائل دفاعنا.
الأحمر :
مهما يكن من أمر فلا يجوز أن نطلعه على ضعفنا.
الأبيض :
أتؤمن بجدوى ذلك؟
الأحمر :
بلا أدنى شك، فلولا علمه بعملنا ونجاحنا وعلاقاتنا بذوي الشأن لقضى علينا من قديم! (صمت.)
الزوجة :
أتوجد فائدة من مناقشته؟
الأحمر :
يقينا لا.
الأبيض :
واضح أنه يتبعنا أينما نذهب ولكنه لا يتعرض لنا بسوء.
الأحمر (في غيظ) :
ألم يجعلنا طول العمر نتوقعه ونفكر فيه، ونضيق به ونتوجس منه؟
الأبيض :
نحن الذين نفعل ذلك لا هو.
الأحمر :
يا لك من مكابر!
الزوجة :
كان وما زال هما ثقيلا على القلب.
الأحمر :
كيف فاتنا طيلة عمرنا أن نهاجمه ولو مرة؟!
الزوجة :
حذار أن تفكر في ذلك.
الأبيض :
لم نعد أهلا للمعارك.
الأحمر :
ولكننا كنا أهلا يوما ما!
الأبيض :
شغلتنا المعارك الأخرى.
الأحمر :
لا يخلو صوتك من تأنيب أبدا.
الأبيض :
دائما ألام على قول الحق!
الأحمر :
أنت عبء طالما حملته فوق عنقي.
الأبيض :
علم الله أنك كنت العبء لا أنا، وأنني تحملتك بصبر يفوق طاقة البشر.
الأحمر :
يا لك من مكابر جاحد.
الأبيض :
يا لك من جاهل.
الأحمر :
لولاك ما جرؤ هذا المجنون على مطاردتنا والاستهزاء بنا.
الأبيض :
إنه يستهزئ بك وحدك. (الزوجة تفصل بينهما لتلطف الجو. يسود الصمت. تتعلق الأبصار بالرجل المتحرك بسرعته المفزعة.)
الأحمر :
عندي فكرة.
الأبيض :
كل ما فعلناه كان من وحي فكرك ولكنه لم يجد.
الأحمر :
أتستهين بما فعلنا؟
الأبيض :
كلا، إنه عظيم، ورغم مخالفته للقانون أحيانا فهو عظيم، ولكنه لم يرحنا من مطاردته.
الأحمر :
لم لم نلجأ إلى المسئولين عن الأمن؟
الأبيض :
لأننا كنا وما زلنا نخشاهم! (يتبادلان نظرة تحد، ولكن الزوجة تفصل بينهما مرة أخرى.)
الزوجة :
لجأ كثيرون إلى رجال الأمن، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ ... لا شيء، وهو لا يرتكب جريمة يعاقب عليها القانون، ولعله يعتمد على صلاته بأناس في أقوى مواقع السلطة، بل علمت أن كثيرين من رجال الأمن أنفسهم يعانون منه مثلنا.
الأحمر :
لعله يطمع في شيء مما نملك؟
الأبيض :
ولكنه يطاردنا مذ كنا لا نملك شيئا. (الأحمر يضرب الأرض بقدمه مغيظا محنقا.) (صمت.)
الأبيض (وكأنه يحدث نفسه) :
أهو يطاردنا حقا؟ وإن صح ذلك فلماذا يطاردنا؟ وهل يعمل لحسابه أو لحساب شخص آخر؟ (صمت.)
الأبيض (مسترسلا في تفكيره) :
أضعنا وقتا طويلا دون أن نعنى عناية حقيقية بذلك.
الأحمر (هازئا) :
لو عنينا بذلك عناية حقيقية، لما تبقى لنا وقت لتحقيق شيء ذي قيمة!
الأبيض :
نحن الآن على المعاش وبلا عمل جدي.
الأحمر :
ولكننا طاعنون في السن، ومرضى، ولا قدرة لنا على البحث! (صمت.)
الزوجة (بغيظ) :
ترى ما الذي يجعله يحافظ على قوته رغم مرور الزمن؟
الأحمر (في سخرية) :
ربما لأنه لم يتزوج!
الزوجة (غاضبة) :
يا لك من جاحد أناني.
الأحمر (للأبيض) :
لا داعي لطرح أسئلة والانشغال بها على حين أنها واضحة الجواب؛ فهو يطاردنا بلا ريب، ويطاردنا ليقضي علينا، ولا يهم بعد ذلك أن يكون عمله لحسابه أو لحساب شخص آخر.
الأبيض :
ولكن يخيل إلي أحيانا أنه بفضله حققنا ما حققنا من عمل.
الأحمر :
ليس بفضله ولكن دفعا لمطاردته الملحة.
الأبيض (بنبرة اعتراف) :
الحق أنني قمت سرا بتحريات كثيرة عنه.
الأحمر والزوجة (معا) :
حقا؟
الأبيض :
بلا نتيجة تذكر. (صمت.)
الأبيض :
حسبته مندوبا لمصلحة الضرائب أو مرشدا للمخابرات أو موظف إحصاء، أو من شرطة الآداب!
الأحمر :
جميع أولئك ثقلاء ولكن ليس لهذا الحد.
الأبيض :
وحتى تلك المراكز الهامة تبين لي أنهم لا يعرفونه أكثر منا، ويعانون من مطاردته مثلنا.
الأحمر :
ولم سكتوا عنه وهم يقضون على الآلاف بلا حساب؟
الأبيض :
بل إن محاولات قتله وفيرة ولكنها تبوء عادة بالفشل.
الزوجة (في عصبية) :
سرعته تدير رأسي! (ينظرون إليه بحنق. يضرب الرجل الهواء بالسوط محدثا الطرقعة المخيفة. يتجمعون ويغادرون المكان ببطء حسبما تسمح به سنهم المتقدمة.) (الرجل يستمر في حركته على حين يهبط الظلام.)
6 (يضاء المسرح. الأحمر والأبيض والزوجة ولكنهم تغيروا تغيرا مذهلا، عادوا إلى منظر الشباب وملابسه كما رأيناها سابقا. واضح أنهم صبغوا الشعور، وشدوا الجلود، وفعلوا المستحيل لاستعادة شبابهم الضائع. يتبادلون النظرات وهم يبتسمون في ارتياح وسرور.)
الأحمر :
آخر حيلة ولكنها تجوز على الجن الأحمر نفسه.
الزوجة :
ما أحلى الرجوع إلى الشباب!
الأبيض :
ما أحلاه!
الأحمر :
لن يعرفنا ولو دار حول الأرض.
الزوجة :
استجب يا رحمن.
الأحمر :
من اليسير أن يتابع أناسا وهم يكبرون، ولكن كيف يخطر له أنه يمكن أن يرجعوا يوما إلى الشباب؟!
الزوجة :
قلبي يحدثني بأننا نجونا من مخالبه.
الأحمر :
وليعوضنا الله عما بذلنا من جهد ومال.
الزوجة :
طبيب التجميل وما أخذ نظير تجديد جلد الوجه.
الأبيض :
والصبغة العجيبة وارد الخارج.
الأحمر :
والحقن، لا تنسوا الحقن.
الزوجة :
والهرمونات والحمامات الطبية والتدليك الفني.
الأحمر (في حبور) :
حل لغز ما وراء الموت أقرب إليه من التعرف علينا.
الأبيض :
هي على أي حال آخر ما في الجراب من حيل. (صمت.)
الأحمر :
وثمة مفاجأة جديدة تتم بها اللعبة، وتحقق كمالها المنشود.
الأبيض :
أكثر مما تحقق بالفعل؟
الأحمر :
نعم.
الأبيض :
ترى ما هي؟
الأحمر :
عروس جديدة! (الزوجة تصرخ غاضبة محتجة مهددة.)
الأحمر :
لا تسيئي فهمي. (الزوجة مستمرة في صراخها الغاضب.)
الأحمر :
اعلمي أنني أعمل من أجل سعادة الجميع!
الزوجة :
غدر وإجرام!
الأحمر :
من أجل عذابك حيال مطاردته لنا اللعينة.
الزوجة :
لا داعي مطلقا لهذه المفاجأة، ما حققناه كاف وأكثر.
الأحمر :
انضمام العروس إلى الصورة الجديدة يغيرها تغيرا مطلقا.
الزوجة :
أنت تستطيع خداعه، ولكنك لا تستطيع خداعي.
الأحمر :
لا مجال للشهوات، ولكننا ندافع عن حياتنا.
الزوجة :
لا تحاول خداعي، أنا أعرفك أكثر مما تعرف نفسك.
الأحمر :
مضى زمان الحب، وما شبابنا الراهن إلا قناع، هل تجدين رغبة في الجنس؟
الزوجة (بتحد) :
نعم.
الأحمر :
يا لك من عجوز مستهترة.
الزوجة :
وعندك أضعاف ذلك.
الأحمر :
لا تضيعي من أيدينا آخر فرصة لنا.
الزوجة :
إن أردت عروسا جديدة فهاك أنا!
الأحمر :
اتقي الله يا ولية، وجربي قرعتك في الحج هذا العام.
الزوجة :
إني صالحة للحب كما أني صالحة للحج.
الأحمر :
ألم تزجريني كثيرا مذكرة إياي بالأبناء والأحفاد؟
الزوجة :
لا تذكرني بتلك الأيام اللعينة.
الأحمر :
أؤكد لك أنك غير صالحة للحب.
الزوجة :
جرب ... العبرة بالتجربة.
الأحمر :
أنت مجنونة!
الزوجة :
أنت غدار خائن.
الأحمر (للأبيض) :
هل خرست؟ ... أسعفنا برأيك.
الأبيض :
أمهلنا وقتا للتفكير.
الزوجة (للأبيض) :
حتى أنت تريد أن تفكر!
الأحمر :
فات الوقت، العروس الجديدة حقيقة مفروغ منها. (الزوجة تعاود الصراخ.)
الأبيض :
كان يجب أن نتشاور!
الزوجة :
لن يكون ذلك أبدا.
الأحمر :
لا أسمح بكلمة أخرى ... وإلا اضطررت إلى الطلاق!
الزوجة :
تطلقني وأنا جدة؟ ... حتى الوحوش تستنكف ذلك.
الأحمر :
اذهبي إلى أولادك قبل أن يعصف الغضب برأسي. (الأبيض يتدخل لإنقاذ الموقف. يأخذ الزوجة من يدها إلى الخارج، وهو يحادثها بصوت غير مسموع ... ثم يعود الأبيض وحده.)
الأبيض :
يا لك من جريء حقا.
الأحمر :
أظهر سرورك الآن يا منافق!
الأبيض :
لن تجد عروسا مناسبة أبدا.
الأحمر :
عروس في السادسة عشرة مثل لهطة القشدة.
الأبيض :
أصغر من حفيدتنا.
الأحمر :
ليست حفيدتنا على أي حال.
الأبيض :
لا تحرجنا.
الأحمر :
ستعلم أنها أقوى أثرا من كافة العقاقير.
الأبيض :
يا لها من مغامرة!
الأحمر :
لن تكون أفظع من المطاردة اللعينة . (الأحمر يصفق بيديه. نسمع موسيقى الزفة. تدخل العروس بين شابين هما أمين من أمناء الشرطة حاملا جهازه اللاسلكي، ومأذون عصري متأبطا دفتره، مرتديا بنطلونا وقميصا أمريكيا متعدد الألوان. يقدمان العروس ويذهبان ... الثلاثة يتبادلون النظرات.)
الأحمر :
مبارك يا عروس. (العروس تضحك ضحكة عذبة دون أدنى ارتباك.)
الأحمر :
خذي راحتك على آخرها فأنت في بيتك.
العروس :
شكرا ... ولكن ...
الأحمر :
أفصحي عما تريدين بكل حرية.
العروس :
أشعر كأني في حاجة إلى تشجيع.
الأحمر :
قلت لك إنك في بيتك.
العروس :
أعني أنه من المفيد ... أعني أن قليلا من ... الويسكي ...!
الأحمر والأبيض :
ويسكي!
العروس :
قليل منه مناسب.
الأحمر :
هل لك تجربة سابقة به؟
العروس :
في نطاق ما يسمح به عمري. (الأحمر والأبيض يتبادلان النظر في ذهول. ينتحيان جانبا.)
الأحمر :
في نطاق ما يسمح به عمري!
الأبيض :
سمعت كل كلمة ... ما رأيك؟
الأحمر :
ما كان كان.
الأبيض :
عظيم.
الأحمر :
ولكن الخمر مضرة لنا، ونحن لم نجدد الكبد.
الأبيض :
ولم نجدد القلب ولا العروق.
الأحمر :
الله معنا. (يرجعان وهما يبتسمان.)
الأحمر :
ما أجمل أن نستغني عن الخمر!
العروس :
أتسمعني وعظا في ليلة الزفاف؟
الأحمر :
كلا، ولكنها الصحة.
العروس :
أأنت مريض؟
الأحمر :
كلا ... ما زلنا بعيدين عن سن الأمراض!
العروس :
اتفقنا!
الأحمر (ضاحكا) :
يبدو لي أنك فتاة ذات ذكاء وتجربة.
العروس :
هذا هو طابع القرن!
الأحمر :
لا أستبعد أن تكوني على إلمام بالتربية ال... العاطفية.
العروس :
العاطفية؟
الأحمر :
أعني الجنسية؟
العروس :
أووه.
الأحمر :
لكنها لم تقرر بعد في المدارس!
العروس (ضاحكة) :
لكنها مقررة في أماكن كثيرة!
الأحمر :
يا لك من عروس مثيرة!
العروس :
إذا كنت ممن يخافون فلم زججت بنفسك في الحياة الزوجية؟
الأحمر :
لا خوف هناك ولكن للأسر العريقة تقاليدها.
العروس :
طظ! (الأحمر يتظاهر بالضحك وكذلك الأبيض.)
الأحمر :
أسلوبك بديع ولكنه جريء، أجرأ من أساليب العذارى!
العروس :
لم يعرف التاريخ إلا عذراء واحدة! (الرجلان يتبادلان النظر في ذهول. العروس تفتح حقيبة يدها، وتخرج منها زجاجة ويسكي ... وتشرب ... وتمد بها يدها إليهما.)
العروس :
يبدو أنك بخيل، خذ واشرب وإلا غضبت. (الأحمر يحرج فيتناول الزجاجة، ويشرب ثم يعطيها للأبيض فيشرب، وتنتقل الزجاجة بينهم.)
العروس :
ذلك مفيد جدا في التغلب على الحياء!
الأحمر (مندهشا) :
الحياء؟!
العروس :
نعم الحياء، أنت لم تر شيئا بعد.
الأحمر :
نخب الحياء. (الزجاجة تدور. في نشوة يقبلان العروس في الخدين في وقت واحد.)
الأحمر (للعروس) :
لعلك مندهشة لأن القبل تنهال عليك من رجلين لا من رجل واحد.
العروس (وهي منتشية) :
القبل نعم مشكورة لا يجوز أن نفسدها بالتساؤل!
الأحمر (ضاحكا) :
الحقيقة أن لك زوجين لا زوجا واحدا!
العروس (منقلة البصر بينهما) :
أرجو أن أجد في ذلك الكفاية حتى أنعم بالاستقرار المنشود. (الرجلان يتبادلان النظر ثم يغرقان في الضحك. الزجاجة تدور مع القبلات.)
الأحمر :
لم نفلح في إثارة دهشتك ولو مرة واحدة!
العروس :
عسير جدا أن تثار دهشة في هذه الأيام. (الأبيض يتنصت في ترقب مفاجئ.)
الأبيض (للأحمر) :
سمعت شيئا؟ (الأحمر ينصت. يترامى وقع أقدام.)
الأحمر :
لعله عابر سبيل ...
الأبيض :
ولكنها أقدامه هو.
الأحمر :
غير معقول، وحتى لو كان هو فلن يتعرف علينا.
العروس :
هل تتوقعان قدوم أحد؟
الأحمر :
كلا.
العروس :
أظن أن اثنين فيهما الكفاية! (الرجل يدخل. هو هو كما رأيناه. يذهب ويجيء في سرعة تفوق سرعاته السابقة كلها.)
الأحمر :
اللعنة.
الأبيض :
أعوذ بالله.
العروس :
هذا الرجل أذكره.
الأحمر :
أنت أيضا تعرفينه؟ هذا ما توقعته، إنه مجنون.
العروس :
مثل جميع الطاعنين في السن فيما يبدو.
الأبيض :
ولكنه ليس طاعنا في السن فيما يبدو.
العروس :
كان صديقا لأبي ...
الأحمر (بإصرار) :
لنشرب. (تدور الزجاجة بينهم.)
الأحمر :
لا مفر.
الأبيض :
لا مفر.
العروس :
ظننته يوما يطاردني للحب.
الأحمر :
إنه مجنون بداء المطاردة.
العروس :
لا يبعد أن يكون لطيفا خفيف الروح.
الأحمر :
عرفناه أكثر منك. (صمت.)
الأحمر (للرجل متحديا وهو ثمل) :
اجر ... اجر ... افعل ما تشاء ... ماذا يهم؟ ... ولكن لا تعد نفسك منتصرا ... لم نقتنع بأنك تتعرف علينا بحاسة مجهولة ... أبدا ... الحكاية أن البلد ملأى بالجواسيس ... أنت على صلة بالشرطي، أو المأذون، أو طبيب التجميل، أو الصيدلي ... لا سر هناك ولا معجزة ... افعل ما تشاء ... اجر ... اجر حتى تقع مغشيا عليك ... وسوف نضحك كثيرا وطويلا ...
الأبيض (للرجل) :
ليتك تشرب معنا، الشرب صنع لنا معجزات ...
العروس :
كيف أنساكما هذا الرجل عروسكما؟ (يدور الشراب والقبلات والأحضان.)
الأحمر (للرجل) :
سنفعل ما يحلو لنا تحت سمعك وبصرك، سينبت في رأسك قرنان وأنت تجري كالمجنون.
الأبيض (للرجل) :
معذرة، للخمر سلطان وللحب سلطان، ولكننا في الواقع نحترمك، صدقني فأنت تشغل من وقتنا أكثر مما تتصور، وأنا مقتنع بأنك لا تتعرض لنا بأذى، وأننا في الواقع مسئولون عن كل شيء، فنحن الذين نعمل ونحن الذين نتغير، ونحن الذين نكبر، ولا حق لنا في أن نعلق عليك الأخطاء والمتاعب، وبودي أن تقبل دعوتي للشراب.
الأحمر (للأبيض) :
يا لك من منافق.
الأبيض :
لا تفسد شهر العسل بسوء الأدب.
العروس :
هل تزوجتماني لقتل الوقت بالشجار والجدل؟ (يرجعون للقبل والأحضان والضحك. العروس والأبيض يرقصان. الأحمر ينظر نحو الرجل وهو يترنح من السكر.)
الأحمر :
اجر ... لا يهم ... سيدور رأسك وتقع جثة هامدة ... (العروس تتخلص من ذراع الأبيض، ثم تقبل نحو الأحمر فيرقصان معا. الأبيض وهو يترنح ينظر نحو الرجل.)
الأبيض :
أود أن أقابلك على انفراد. (الرقص مستمر وكذلك الرجل.)
الأبيض :
سيجري بيننا حوار مفيد، وإن كان ثمة جديد فلعله يكمن في صدرك الصامت ... (الرجل يضرب الهواء بسوطه محدثا طرقعة رهيبة.) (الأحمر والأبيض يتلاصقان. يحاولان مغادرة المكان ولكن قدميهما لا تسعفانهما، يسقطان، يزحفان على أربع إلى الخارج حتى يختفيا تماما. العروس مستمرة في الرقص وحدها ... الرجل تأخذ حركته في التباطؤ رويدا رويدا، حتى يقف تماما، وهو يحرك قدميه (محلك سر). العروس ترقص وحدها أمام الرجل.) (ستار)
تحقيق
دق جرس الباب. انفصل جسداهما في حركة متشنجة بالفزع، وثبا إلى ملابسهما وهو يهمس: قلت إنك لا تتوقعين قدوم أحد.
فقالت هامسة أيضا: لعله الكواء.
وكان يرتدي ملابسه بيديه وقدميه ويقول: يجب أن أستعد للاختفاء ولكن أين؟ - لا أظن أنك ستضطر إلى ذلك، وإذا وقع المستحيل فادخل تحت السرير.
وغادرت الحجرة وهي تحبك الروب حولها، ثم ردت الباب. نظر إلى أسفل السرير ولكنه مضى بخفة إلى ما وراء الباب يتنصت. سمع صوت الباب وهو يفتح، ثم وهو يغلق، ووقع قدمين ثقيلتين. في لحظات خاطفة توارى تحت السرير، من القادم؟ ليس الزوج وإلا لجاء إلى حجرة النوم ليخلع ملابسه. ليس الزوج على وجه اليقين فقد اتصلت به تليفونيا في الإسكندرية منذ ساعة واحدة. إنه فيما يبدو من المترددين على البيت، بل هو من أهل البيت على نحو ما وإلا ما اقتحمه في هذه الساعة من الليل. لبد في مكمنه يمزقه القلق والإحساس بالنكد بعد أن ثمل بدفء اللذة. وليصبر فسيذهب عاجلا، لا يمكن أن تطول الزيارة إلى ما لا نهاية، وسينتهي بالتالي عذابه. انقضت عليه فكرة كحشرة طائرة، ألا يحتمل أن يدخل القادم حجرة النوم فيرى زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاطة؟ هل يزحف إلى الخارج ليعود بالزجاجة والعلبة؟ لكنه لم يتحرك، لم يجد الجرأة الكافية، وأطبقت عليه التعاسة أكثر فأكثر. ومضى الوقت وطال وثقل. تلهى بالنظر إلى نقوش السجادة وألوانها، وقد اختلطت وغامت تحت نور الأباجورة الأحمر الخافت، وإلى أرجل المقاعد والشيفونيرة المغروزة في وبر السجادة. وارتعد لسماع صوت طارئ، ثم رأى باب الحجرة وهو يفتح في هدوء. دخل شخص بلا ريب، ها هو حذاؤه الأبيض ذو السطح البني وطرف بنطلونه. واتجه يسارا نحو الصوان ففتحه، وقف أمامه دقيقة أو دقيقتين ولكن أين لطيفة؟ وأغلق الصوان ثم مضى نحو الباب في هدوء كما جاء، ترى ما معنى ذلك؟ ومتى يخرج من زنزانته؟ واشتد به التوتر والإرهاق واليأس، خيل إليه أنه وقع في شرك، وأن يدا حديدية تمتد للقبض عليه وأن قدميه تندسان في حذاء أبيض ذي سطح بني، وأن عليه أن يرسم خطة كاملة للتملص من مأزقه في زنزانته. وقال له صوت باطني يضطرم بالرعب والإلهام إن نجاته رهن بقوة خياله، وإنها وحدها القادرة على تحويل الكابوس إلى حلم. وهو لن يبقى تحت السرير إلى الأبد في هذا الصمت العميق العجيب. إنه يمد ذراعه لينظر في الساعة، ويخرج رأسه في حذر كالسلحفاة ليتنفس هواء نقيا بعض الشيء ويرهف السمع فيجد هدوءا مخيفا، ولكنه يشجع على مغادرة الزنزانة، كأن الموت يربض في الظلام مجمدا كل حركة مسكتا كل صوت، وأرهقه التعب لحد التهور، وتجمعت كل قواه المضمحلة في وثبة جنونية للدفاع عن النفس في مغامرة مرتجلة يائسة. •••
طلع الصبح دون أن يغمض له جفن. سمع دقات رقيقة على باب حجرته. وجاءه صوت محشرج هاتفا: سي عمرو، اصح.
ما أجدر أن يتغيب اليوم بعذر ما، ولكنه نبذ الفكرة بلا تردد قائلا لنفسه: «هو الجنون بعينه»، وصاح: صحيت يا أم سمعة!
ولما جلس إلى المائدة الصغيرة في الصالة رأى طبق المدمس، وقدح الشاي باللبن، والرغيف المجمر فمد يده إلى القدح وهو يقول: سأكتفي بالشاي.
فلم يفصح وجه العجوز عن تعبير، وجه ذو سحنة واحدة، ولكنها قالت: كل لقمة تسند قلبك.
المنظر المرعب لا يبرح مخيلته، يعذبه ويطارده. فر بقوة تركبه وتدفعه بلا حذر، نسي زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاطة، فلم يذكرهما إلا في ظلام حجرته. ارتدى ملابسه وغادر الشقة، حمل الأرض فوق رأسه، ابتاع جريدة الصباح وهو يخترق شارع القبة بالجيزة، ولكنه قال لنفسه: «لم يكتشف شيء بعد.» وأخيرا وجد نفسه جالسا إلى مكتبه بالإدارة، وجاء الرئيس في أعقابه وامتلأت المكاتب إلا واحدا، ونظر إلى المكتب الخالي بعين متلصصة، وهو يقع فيما أمامه على الجانب الآخر للحجرة، وشرع في العمل وهو يختلس إليه النظر، إذا تمت له النجاة فسيحزن عليها طويلا، أما الآن فلا وقت لديه للحزن، وتساءل الرئيس: ست لطيفة لم تحضر، ألم تعتذر؟
ولما لم يسمع جوابا عاد يقول: الموظفات أعذارهن لا تنتهي.
وأثار قوله ضحكات على سبيل التشفي أو الملق. لم يشترك في الضحك، تساءل فيما بينه وبين نفسه: ترى ألم يلاحظ أحد شيئا مما كان يتبادل في صمت بينه وبين المكتب الخالي؟ ربما أدلى شاهد بملاحظة عابرة تقلب دنياه رأسا على عقب، أو يكون آخر رآهما في أحد منعطفات شارع الهرم، ثم إنه نسي هناك زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاطة، أي أسرار يمكن أن تبوح بها الزجاجة والعلبة؟ إن كل شيء ينطق أمام شياطين المحققين ويخلق الأساطير، وغير بعيد أن يكون قد نسي أشياء أخرى، وبصماته انطبعت بلا حساب ولا حذر، وربما وقع المحققون في الشرك وأغمضوا العين عن القاتل الحقيقي.
وجاءه صوت الرئيس، وهو يقول بصوت آمر رنان: يا سيد عمرو، سأحول إليك الأوراق العاجلة الداخلة في اختصاص ست لطيفة ...
لماذا اختاره هو بالذات؟ ربما لأنه أحدث الموظفين عهدا بالوظيفة، أم تراه يعني شيئا وراء ذلك؟ إنه قصير ماكر ذو نظرة تحتانية، فهل يعني شيئا آخر حقا؟! واسترق نظرة من الوجوه ليرى أثر الأمر الإداري، ولكنه لم يقرأ شيئا. كل شيء هادئ وعادي، والقاتل مجهول فما معنى الخوف؟ وكان يصارع التشتت والتمزق عندما سمع صوتا غريبا يسأل بأدب: هل الست لطيفة موظفة في هذه الإدارة؟
فأجابه موظف: أجل ولكنها لم تحضر اليوم.
نظر إلى القادم باهتمام فرأى شابا طويلا نحيلا، غامق السمرة، يرتدي قميصا أزرق وبنطلونا رماديا، سرعان ما غادر الحجرة على أثر الإجابة التي تلقاها، لم يسأله أحد عن هويته، ولم يعلن هو عنها، ونسي تماما بمجرد اختفائه. فكر فيه طويلا وساورته مخاوف شتى، وتجسدت لمخيلته الجثة ربما للمرة الألف، وتذكر كيف انهزم لدى رؤيتها ففر كالمجنون. غرق في أفكاره ثم صحا بعد وقت لا يمكن تحديده على حديث يدور حول حذاء أبيض، ارتعد قلبه، ماذا يقولون؟ أحدهم يقول: إن الأحذية البيضاء باتت نادرة الاستعمال، فقال آخر إن الحذاء يعجبه. فعاد الأول يقول إنه يتسخ لأوهى الأسباب، ويصعب تنظيفه وتلميعه بسبب سطحه البني. اشتدت به الرعدة فتساءل: ما حكاية الحذاء؟
فأجابه الموظف الأول: حذاء أبيض ذو سطح بني من النوع الكلاسيكي، رأيناه في قدمي الشاب الذي جاء يسأل عن لطيفة. - لا! - ندت عنه بعصبية ملفتة للانتباه، وهو يتهاوى في انهيار كامل، ولما شعر بالأعين المحدقة فيه قال: آسف، الظاهر أني أصبت بالأنفلونزا!
وضحك ضحكة عالية لا تناسب المقام، ولم يستطع صبرا فسأل الموظف الآخر: أكان الشاب ينتعل حذاء أبيض ذا سطح بني؟ - أجل، وهو يعجبني، هذه هي المسألة.
واستأذن في الذهاب إلى دورة المياه، ولكنه اندفع في الطرقة الموصلة إلى الباب الخارجي، ودار دورة عشوائية حول مبنى الوزارة، ولكنه لم يعثر للشاب على أثر، ولبث مذهولا وهو يقول لنفسه: هكذا تقع الأحداث التي نسمع عنها من بعيد دون مبالاة. •••
احتلت الحادثة مكانها في صفحة الحوادث، قرأ بعناية وانتباه كامل؛ بدأت بملاحظة عابرة من البواب لباب شقة المقاول حسنين جودة الذي لم يكن مغلقا كعادته، وانتهت باكتشاف جثة زوجة المقاول الموظفة، اتصل بشرطة النجدة، تبين أن المرأة خنقت بينا كان زوجها في رحلة تجارية بالإسكندرية. لم تكتشف سرقة، عثر على زجاجة كونياك وعلبة شيكولاطة، وطبعا التحقيق ماض في طريقه إلى الكشف عن أسرار الجريمة والقبض على القاتل. ووجد الموظفين واجمين والجو مشحونا بأخبار الجريمة وتأويلاتها، ثمة حسرة ورثاء وتساؤل عن بواعث الجريمة، وعن معنى وجود الكونياك والشيكولاطة في غياب الزوج. وقال أحدهم: كل شيء مفهوم ولكن لم قتلها؟
أجل لم قتلها؟ وقعت الواقعة في مجال تنفسه وهو لا يفقه لها معنى، ليس الواقع كما يتصورون، وسوف يندفعون جميعا كالسكارى في طريق الضلال؛ ليرتكبوا جريمة أخرى. وقد جاءهم صاحب الحذاء بقدميه ولكنهم يتساءلون عن صاحب الخمر والشيكولاطة، هو وحده يتشوق لمعرفته وكشف سره المغلق فلعله يعثر عليه في الجنازة، بل يجب أن يعثر عليه في الجنازة كما يقضي به المنطق، وذهب ممتلئا بالتصميم بقدر ما هو ممتلئ بالشجن، وتفحص بعين ثاقبة أهل الفقيدة من المستقبلين. رأى الزوج الذي يوشك أن يصرعه المرض، ورأى آخرين، ولكنه لم يعثر لضالته الماكرة على أثر، وسار وراء النعش وهو يختلس إليه النظر بقلب منقبض، وكاد إلى حين ينسى مخاوفه تحت موجة الحزن التي غمرته، وتذكر قصة حبه القصيرة العميقة التي مضت في عناء، ولم تخلف إلا التعاسة والرعب. •••
من هو صاحب الحذاء الأبيض؟ هل رآه البواب ليلة الجريمة وهل يعرفه؟ أما هو فقد رآه البواب، ولما سأله عن مقصده أخبره أنه ذاهب إلى طبيب الأسنان بالدور الثالث، وإلى العيادة ذهب فعلا للكشف والتنظيف تنفيذا لتدبير حكيم اتفق عليه مع الفقيدة، فمن تلك الناحية لا خوف عليه.
وقال موظف بالإدارة بعد أن فرغ من قراءة الجريدة: الأمور تتضح؛ فالزوج مريض جدا، وله مطلقة أنجب منها شابا وشابة جامعيين، والعلاقة بينه وبين أسرته الأولى سيئة جدا.
فقال ثان: وإذن فيهم أسرته الأصلية التخلص من الزوجة الجديدة قبل أن تستولي على أموال أبيهم ...
وتساءل ثالث: هل من علاقة بين ابن المقاول وبين الخمر والشيكولاطة؟
فقال الأول: لن يفوت المحقق شيء من ذلك.
فقال رابع: سيصلون إليه عن طريق الزجاجة والعلبة ...
فقال عمرو وهو يداري حنقه: توجد آلاف الزجاجات وآلاف العلب! - ولكن العلبة تدل على الدكان، والدكان تدل على الشاري، وقد يعثرون على لفافة الزجاجة فيعرف المخزن أو المحل ... - ثم يعرض الشاب أو المتهم على عمال المحل والمخزن.
جميع الأدلة متوفرة إذا تركزت الشبهات في الزجاجة والعلبة، فكر في ذلك طويلا وقلبه يغوص في أعماق من الكآبة، وعاد الموظف الأول يقول: الأمر واضح، ابن المقاول أنشأ علاقة مع المرحومة ثم قتلها.
لعل ذلك كذلك، أو لعل القاتل هو صاحب الحذاء الأبيض، أو لعل ابن المقاول هو صاحب الحذاء الأبيض، إن صح احتمال من تلك الاحتمالات فقد نجا هو من كل سوء كما ينبغي له، أما إذا أصر المحقق على تتبع أثر صاحب الخمر والشيكولاطة فلن يعجز عن الوصول إلى مصدريهما، وهو - عمرو - معروف بشخصه دون هويته لدى صاحب محل «الزهرة» كما هو معروف عند فتاة حلواني «ألف ليلة»، وغير بعيد أن أوصافه تتردد في هذه اللحظة على الشفاه بين جدران حجرة التحقيق. •••
ونشرت صور لطيفة، وحسنين زوجها، ومحمد ابنه لأول مرة في الجريدة، وتبين لعمرو أن ابن المقاول شخص آخر غير الشاب صاحب الحذاء الأبيض، وتابع تعليقات الموظفين بالإدارة باهتمام وتركيز: تقول الجريدة إن الشرطة عثرت على خيوط يمكن أن تؤدي إلى القاتل ... - لعلها تقصد الشاب ابن المقاول؟ - أو الزجاجة والعلبة؟ - سر الجريمة كامن في الزجاجة.
ورفع الرئيس رأسه عن رسالة كان يقرؤها بإمعان ثم قال: يا جماعة، نحن مطلوبون جميعا لسماع أقوالنا. •••
شهد كل موظف بما يعلمه ولم يكن ذا بال، مثل تاريخ التحاق لطيفة بالعمل منذ عشرة أعوام، وزواجها منذ عامين. وشهد لها الرئيس بحسن السير والسلوك والمعاملة، وبأنها كانت موظفة ممتازة، ولكن الفراش - عم سليمان - أدلى بواقعة مهمة فقال: إنه رآها مرة بصحبة شاب قبيل زواجها هو نفس الشاب الذي جاء الإدارة صباح الجريمة سائلا عنها. وأكد الجميع واقعة الزيارة الصباحية، وأعطوا أوصافا تقريبية للشخص، واهتم المحقق بالواقعة بطبيعة الحال. ولما دعي عمرو لأخذ أقواله عن الشخص المجهول، وصفه بدقة ملحوظة، طوله وحجمه ولونه وملابسه حتى الحذاء، فقال له المحقق: يبدو أنك تفحصته بعناية!
فتضايق عمرو من الملاحظة ولكنه قال بثبات: كان يقف أمامي مباشرة.
وكان يشعر طيلة الوقت بضيق وتوتر فزادته الملاحظة ضيقا وتوترا، وضاعف من همه ما ذاع في حجرة المحقق من أنه ثبت أن ابن المقاول كان في رحلة جماعية ليلة الجريمة، وأن الشبهات تبددت - بالتالي - من حوله. •••
تقمص دماغ المحقق فطارد نفسه بنفسه، من الشاب الذي رآه عم سليمان مع الفقيدة، ولم زار مكتبها صباح ارتكاب الجريمة؟ محتمل أن يكون صاحب الخمر والشيكولاطة، أو يكون شخصا آخر لا علاقة له بالجريمة. السر قابع وراء الزجاجة والعلبة، فلنتخيل القصة من بدايتها عندما بدأت بغرام، انتهز العاشقان فرصة سفر الزوج فتواعدا في بيت الزوجية، وفي الموعد المضروب تسلل الشاب إلى العمارة، يسير التسلل إلى عمارة ضخمة بها أكثر من عيادة طبية، وها هو يجالسها كما يفعل العشاق، كيف ومتى سيطرت فكرة القتل؟ إنها لا تخلق بغتة وبلا مقدمات، ربما جاء بها جاهزة معه، وغير بعيد أن تنشأ عقب خلاف طارئ أو إثر ميل من المرأة نحو إنهاء العلاقة. لعله شاب غر ومحب حتى الجنون، وقع في هوى امرأة طموح لا حد لطموحها، فتزوجت من المقاول، وأبقت على علاقة الشاب بها لتستحوذ على المال والجاه والحب فكرهها بقدر ما أحبها، ولما قالت له بدلال وهي تلاطفه «اخنقني» طوق عنقها بقبضتيه، وشد بكل عنف فلم يتركها إلا جثة هامدة. ارتكب جريمته ثم هرب ولكنه نسي وراءه الزجاجة والعلبة، سيظل مهددا بأن تراه فتاة حلواني دمشق أو صاحب محل «الزهرة» أو يساق إليهما في ظرف ما فيتعرفان عليه. ويتضح أنه زميل للفقيدة في إدارة واحدة؛ فتقوى الشبهة وتتوطد، وإذا اعترف بأنه صاحب الزجاجة والعلبة، وبأنه كان عشيق المرأة، فأي قوة يمكن أن تدفع عنه التهمة، أو تنقذه من حبل المشنقة مهما أنكر وأصر على الإنكار؟! •••
من الحكمة أن يكمل علاجه عند طبيب الأسنان، ها هو الطريق مرة أخرى وها هي العمارة، ترى أما زال حسنين جودة يشغل العمارة؟ وجد البواب فوق الأريكة وراء الباب مباشرة، إنه صعيدي فيما يبدو، ويلف سيجارة، ومضى إلى الداخل فقام الرجل وتبعه، دخل المصعد وراءه فقال باقتضاب: الدكتور نصر طبيب الأسنان.
وهو يغادر المصعد في الدور الثالث حانت منه نظرة إلى الأرض فرأى حذاء البواب فارتعدت مفاصله، حذاء أبيض ذو سطح بني! مضى إلى العيادة بذهن مشتت، أيكون البواب هو القاتل؟ ولكنه يذكر تماما أنه رأى الحذاء تحت طرفي بنطلون لا جلباب، أم يكون البصر قد خدعه؟! وغرق في ذهوله حتى دعي إلى حجرة الكشف، جلس وهو يتساءل: هل ينتهي التنظيف في هذه الجلسة؟
فقال الطبيب: أراك نافد الصبر.
فسأله: ما أخبار الجريمة؟ - آه ... تلك المرأة! كنت أعرفها جيدا؛ فقد حضرت مع زوجها عند تركيب ضرسين له! - حقا؟!
وندم على ثرثرته أما الطبيب فقال: عم خليل التمرجي اعتقد أنه رأى القاتل. - حقا؟ - إنه يسكن في حجرة فوق السطح، وكان يمر أمام شقة القتيلة عندما رأى رجلا يغادرها. - أرآه جيدا؟ - لا أدري. - كان يجب أن يدلي بشهادته. - وقد فعل.
من الذي رآه التمرجي؟ ولأي درجة تمكن من رؤيته؟ هل ساوره شك من ناحيته؟! •••
وكان يغادر باب الوزارة عندما شعر بشخص يلاحقه فالتفت وراءه، فرأى عم سليمان الفراش. نظر إليه متسائلا فقال الرجل: عمرو بك، الحق أني لم أشهد في التحقيق بكل ما أعرف!
فرمقه في دهشة فقال الرجل: كتمت شهادة لو سمعها المحقق لأتعب الأبرياء بلا موجب. - ماذا تعني؟
فقال الرجل وهو يبالغ في الأدب: رأيت حضرتك يوما وأنت تقبل المرحومة في المصعد!
فهتف: ماذا تقول؟ - رأيتك وأنت تقبلها.
خذلته أعضاؤه في الواقع، ولكنه تماسك بقوة فوق طاقة البشر. وقال: أنت أعمى بلا شك. - كتمتها خشية أن تدفع بك إلى موطن الشبهات!
فهتف: أنت أعمى!
فتراجع الرجل قائلا: لا مؤاخذة يا بك، ما قصدت سوءا قط.
فتراجع بدوره قائلا: إنك على أي حال تستحق الشكر.
فقال الرجل وهو يمضي: الشكر لله.
إنه يتمزق إربا، لا أمان ولا سلام، ولا قدرة على تحمل مزيد من العذاب. •••
قال عمرو: لا خبر عن الجريمة في الجرائد.
فقال موظف: أكبر الأحداث يشغل الصحف أياما ثم يختفي كأن لم يكن.
وقال آخر: في رأيي أن النيابة هي التي منعت النشر.
فسأل عمرو: لماذا؟ - هكذا يتصرفون إذا اكتشفوا حقائق يجب إخفاؤها عن القاتل.
وشعر بنظرات تلسع وجهه، فالتفت بالغريزة ناحيتها، فالتقت عيناه بعيني عم سليمان، وهو يحمل القهوة للرئيس، جن بالقهر دقيقة ثم تساءل متى وكيف يشرع في ابتزاز أمواله؟! ثلاثة تمنى أن يتخلص منهم؛ فتاة الحلواني، وصاحب محل الزهرة، وعم سليمان، تمنى أن يتخلص منهم ليتغلب على الأرق الذي احتل لياليه المضنية، وتتابعت المعجزات فصدمت سيارة نقل الفتاة الجميلة، وقتل صاحب محل الزهرة في معركة غادرة مع أحد العمال، أما عم سليمان فقد مات فجأة وهو يعمل في المقصف.
ولم يكد يتذوق قطرة من الراحة حتى دهمه صوت الرئيس وهو يقول: متى تبدأ العمل يا سيد عمرو؟! •••
وهبطت عليه فكرة من السماء، أوحت إليه بأن البواب ليس بالمالك المناسب للحذاء الأبيض، الحذاء لا يناسبه لا من الناحية الذوقية، ولا من الناحية الاقتصادية، الأرجح أن يكون قد تلقاه هدية، فمن هو المهدي ومتى أهداه إليه؟ لعلها فكرة لا تقوم على واقع ولكنها جديرة بالاختبار، ومضى لتوه قاصدا عيادة الأسنان. وفي المصعد قال للبواب: حذاؤك جميل!
نظر إليه الرجل نظرة جامدة، ولم يعلق فعاد يسأله: جاهز أم تفصيل؟
أجاب الرجل: ممكن تفصل حذاء مثله عند أمين علي بممر الديلمي.
هي إجابة وتخلص من الإجابة معا، قوى سوء الظن به، وكان ممر الديلمي قريبا، ودكان الإسكافي في مطلعه على اليمين، حيا الرجل وقال: أريد تفصيل حذاء أبيض ذي سطح بني.
فأجلسه الرجل على كرسي من القش المجدول، وراح يسجل مقاسات قدميه، وفي أثناء ذلك قال له: رأيت حذاء مثله في قدمي بواب العمارة رقم 11 بشارع 26 يوليو فأعجبني، وهو الذي دلني عليك.
فقال الرجل بهدوء: ليس بين زبائني بواب!
فخفق قلب عمرو سرورا بسلامة تفكيره وقال: لعله أخذه هبة من أحد زبائنك. - يمكن. - هل الطلب كثير على هذا النوع؟ - من النادر أن يطلبه أحد، وطلبك هذا هو الثالث من نوعه في العامين الأخيرين.
فسأله باهتمام متصاعد: والآخران من أي طبقة؟ - أحدهما قارئ والآخر ...
وتردد تردد من خانته الذاكرة فانحنى فوق دفتر متهرئ، وفر صفحاته بسرعة، وعمرو ينظر من فوق كتفه، وقال الإسكافي: حسام فيظي ... غالبا موظف ... لا يوجد في الدفتر إلا العنوان.
وغادر الدكان وهو يحفظ العنوان عن ظهر قلب! •••
انبعث إلهام في صدره بأنه سيرى القاتل، وأنه سيجد فيه نفس الشخص الذي اقتحم الإدارة صباح ليلة الجريمة، وما عليه بعد ذلك إلا أن يقابل المحقق ليعترف بين يديه بكل شيء، أو الأفضل أن يحرر رسالة متضمنة لكافة التفاصيل، وكان البيت يقع في شارع المتولي بمنشية البكري، وهو شارع سكني نصف مساكنه عمارات حديثة، والنصف الآخر بيوت قديمة من دور ودورين، وليس به من محال عامة سوى فرن وكواء، فهو شارع يشعر الغريب الطارئ بغربته، مر أمام البيت عصرا، فرأى في شرفته فتاة فوق العشرين ودون الخامسة والعشرين، أخذ منظرها بلبه فحلم بسعادة الحياة الزوجية واستقرارها الهانئ، قديما أسرته لطيفة بحيويتها وعذوبتها الجنسية، وتعلقها الجنوني به لدوافع قدرية مجهولة، أما هذه الفتاة فمثال كامل للرزانة والحياء والصبر والخلق المتين، وهي زوجة القاتل ولعلها أخته، ولاحظ أن في دكان الكواء امرأة قميئة عوراء تتابعه باهتمام، واستنتج من سلوكها أنها صاحبة الدكان، فأقبل نحوها - اكتسابا للوقت - وسألها عن بيت حسام فيظي فأشارت إلى البيت، وهي تتفحصه بخبث بعينها اليسرى، وقالت: وتلك أخته التي تجلس في الشرفة.
لعلها ظنت أنه يحوم حول الفتاة فشكرها، وهم بالذهاب فقالت المرأة: أسرة طيبة.
فوافق بإحناءة من رأسه فسألته: هل تعرفهم؟
فأجاب بالنفي، واقتنع في ذات الوقت بأن المرأة تقوم بدور الخاطبة، وحدثته عن حسام ودولت، وأبدت استعدادا طيبا لتقديم أي خدمة شريفة، وقالت له بغتة وهي تغمز بعينها: ها هو حسام ذاهبا إلى المقهى.
التفت عمرو وقلبه يدق بعنف.
ولكنه رأى رجلا لم تسبق له رؤيته، مضى بدينا أنيقا فاقع البياض غزير الشارب لا يمت بصلة للرجل الذي يبحث عنه، انهارت تقديراته وخاب مسعاه، وأدرك أن البواب ما دله على عم أمين إلا باعتباره أقرب إسكافي، أما سر حذائه هو فما زال سرا، وما زال احتمال أن يكون هدية قائما، وغير مستحيل في النهاية أن يكون صاحبه.
ورجع إلى النقطة التي منها بدأ. •••
لو تنكشف تلك الغمة؛ فيملأ رئتيه بالهواء النقي بعمق وتوبة، ويعزم جادا على إكمال نصف دينه بالاقتران من دولت فيظي! لقد تجنب الاقتراب من شوارع برمتها، كما يتجنب عيني عم سليمان، وثمة نسيان جاحد يسدل أهدابه على لطيفة ومأساتها، وهو الوحيد الذي يحترق في خفاء بذكرياتها. وفكر ثم فكر، وكتب رسالة مطولة للمحقق استهلها بقوله: «أنا صاحب الخمر والشيكولاطة، وإليك الشهادة الوحيدة التي تنفعك.» كتبها بعناية وحشدها بالتفاصيل، ولكنه لم يوقع عليها بإمضائه، ولم يرسلها، أجل ذلك حتى يستوفي التفكير في كافة وجوهها واحتمالاتها، وقال لنفسه: إنه لن يذوق للراحة طعما حتى يلقى القبض على القاتل. وتساءل أي بواعث يا ترى دفعته إلى قتلها بعدما ثبت من التحقيق أنه لم تكتشف سرقة وراء الجريمة؟ أما كان الأجدر أن يقتلها هو - عمرو - وقد توفرت لديه لذلك أسباب وأسباب؟ كان يمقتها بقدر ما كان يحبها، ولم يغفر لها نهمها الجنوني للمال والسلطان، وتضحيتها به في سبيل ذلك، وكان يشد عليها بقوة وهي بين ذراعيه رغبة وحنقا، على أي حال فلا يجوز له أن يمني النفس بحياة زوجية سعيدة مع دولت فيظي حتى تنكشف الغمة تماما، وتهدأ أعاصير الوجود. وذهب من فوره إلى العمارة المشئومة ليكمل علاج أسنانه، وانتهز فرصة هبوط المصعد فصعد إلى الدور الرابع بقوة لا تقاوم، وجد المصباح فوق باب شقة المقاول مضاء، فتح الباب فظهر المقاول وهو يوسع لضيف فتوارى عمرو في نهاية الطرقة، وسمع حوارا بينهما فقال المقاول: لا تنس عيد الأضحى.
فأجاب الرجل. - كل عام وحضرتكم بخير.
فقال المقاول: سنذبح هذا العام بقرة.
فقال الرجل: ونصنع من جلدها حذاء كلاسيكيا.
فخفق قلب عمرو، وشعر بأنه قريب من النصر أكثر مما يتصور، وخرج الضيف، فأفلتت من عمرو صيحة فوز، رأى أمامه غريمه دون سواه، القاتل المجهول المحوط بالأسرار، وانقض عليه كالوحش وقبض على ذراعيه وهو يصيح: أنت القاتل!
وذعر الرجل واختفى المقاول مغلقا الباب، فضاعف ذلك من وحدة الرجل الغريب وهتف: أي قاتل!
فلطمه بقوة هدامة وصاح به: اعترف!
فتمتم الآخر بصوت كالأنين: رحماك! - أنت الذي قتلت دولت فيظي!
وفطن إلى هفوة لسانه أما الآخر فلم يفطن، وانهار تماما فقال: أعترف ... ولكن لا تضربني.
فدفعه أمامه وهو قابض على ذراعيه بوحشية. •••
وفكر طويلا في موضوع الرسالة دون حسم، وهداه تفكيره إلى وجوب كتابتها على آلة كاتبة ما دام مصرا على إخفاء إمضائه - وبالتالي شخصه - إذ ليس من حسن الفطن أن يرسل خطه إلى المحقق، واقتنع بذلك لحد أنه عزم على شراء آلة كاتبة صونا للسرية اللازمة، وكان يتخبط في فراغ مخيف بين صمت الصحف، وعيني عم سليمان حتى اعتقد أن بقاءه في المدينة حمق ما بعده حمق ولكن أين المفر؟! وقال له عم سليمان مرة وهو يقدم له القهوة: لست على ما يرام يا أستاذ عمرو.
فغلى دمه لظنه أنه يطبق عليه الحصار، ولكنه قال ببرود، وهو يكبح انفعالاته المتطايرة: بخير والحمد لله.
واشترى في ذات اليوم الآلة الكاتبة - وهو آسف - لارتفاع ثمنها. ما أجدره بالتوفير! لا بالتبذير ما دامت فكرة الزواج من دولت تغزو خياله بسحرها، ونظر إلى حذائه الأبيض ذي السطح البني وابتسم فهو لا ينسى أنه كان المناسبة التي هيأت له التعرف بحسام فيظي، وبالتالي بمنية القلب دولت، فما كاد الرجل يغادر دكان عم أمين علي حتى قال له عمرو: فصل لي حذاء مثل حذائه.
فابتسم الرجل وقال: ندر في أيامنا الإقبال على هذا الصنف رغم فخامته.
فتردد عمرو قليلا ثم سأله: من الرجل؟ - حسام فيظي، موظف، لا أدري في أي وزارة رغم أنه زبون قديم مثل حضرتك! - ومن الفتاة؟ - أخته، اسمها دولت. - لعلك تعرف عنوانه؟
فضحك وقال: 14 شارع المتولي بمنشية البكري.
فحق له أن يأسف لشراء آلة كاتبة، ولكنه اشتراها على أي حال، وكتب عليها رسالته المثيرة، ثم عنونها، ثم أودعها صندوق البريد.
عند ذلك شعر بشيء من الراحة لأول مرة. •••
وكان عاكفا على عمله بالإدارة عندما طرق أذنيه صوت وهو يسأل قائلا: أين الست لطيفة؟
رفع رأسه بقوة وفزع فرأى أمامه الشاب المجهول، الذي اقتحم الإدارة غداة ليلة الجريمة، وأحدث ظهوره المفاجئ دهشة عامة أما سؤاله فأذهلهم، وتكهرب عمرو من الرأس إلى القدم، ها هو الشيطان الخفي، حتى الحذاء لم يغيره، أين كان، ولماذا جاء، وماذا يعني بسؤاله؟ وفي لحظات أغلق عم سليمان باب الحجرة ووقف وراءه متحفزا أما الرئيس فسأل القادم: من أنت؟
فتجاهل سؤاله وعاد يسأل: أين الست لطيفة؟ - ولم تسأل عنها؟ - ذاك أمر يعنيها وحدها. - ولكن من أنت؟
فأجاب بحياء: لا أهمية لذلك. - ألم تسمع بما وقع للست لطيفة؟ - خير إن شاء الله! - لم لم تزرها في بيتها؟ - لا علم لي بمكانه! - ألم تعرف بأنها قتلت منذ عشرة أيام؟
فارتسم الذهول في وجهه وتمتم: قتلت؟! - ألم تقرأ الصحف؟ - أنا لا أقرأ الصحف! - على أي حال فالمحقق يرغب في مقابلتك. - أنا؟ لماذا؟ - طبيعي أن يرغب في استجواب جميع من كانت لهم علاقة بالفقيدة.
صمت الرجل مليا حتى أفاق بعض الشيء من وقع الخبر ثم قال بهدوء: إني على تمام الاستعداد للقائه. •••
ها هو ذا الشبح، ها هو الحلم، جاء يسعى على حذائه الأبيض، أي قاتل، وأي مناورة يلعب بها! وقد استدعي عم سليمان للمواجهة، وعن عم سليمان علمت الإدارة بأنباء الرجل، علمت بأنه يدعى محمود الغر وأنه سواق تاكس، وقد تعاقدت الفقيدة معه - قبل زواجها بعام - لاستغلال تاكس تملكه، وحرصت من بادئ الأمر على سرية الموضوع لكونها موظفة من ناحية، ولأنها أخفت صفقة التاكس عن أهلها حتى لا تسأل عن مصدر المال الذي ابتاعته به، فكانت تلقى السائق في الجراج. وظل الرجل على جهله بمسكنها ولكنها دلته على مكان عملها ليهتدي إليها في الطوارئ، ولما وقع الطارئ ذهب للقائها في الإدارة صباح ليلة الجريمة، فلما لم يجدها اضطر للتصرف بمفرده فسافر بأسرة عربية إلى الإسكندرية، ولبث في خدمتها هناك حوالي الأسبوع أو أكثر، وانتظرها في ميعاد اللقاء المعتاد، ولكنها لم تحضر فذهب إلى الإدارة مرة أخرى لمقابلتها، وتم التحقق من أقواله واختبرت بصماته ثم أفرج عنه!
دار رأس عمرو، ها هي الأمور تتعقد كما لم تدر له في حسبان، وها هو ينحدر في تيه، وشد ما ندم على كتابة رسالته المذهلة، ولكن واقعة التاكس حقيقة لا شك فيها، استيقظت في وجدانه الآلام الغافية، ألم يقل لها بصراحة: «إني أحتقر تصرفاتك؟» وكيف استجابت؟ ... قالت برزانة مرعبة: ليكن رأيك ما يكون ولكنك تحبني!
فقال بحنق: تبيعين نفسك لوحش بسيارة! - ولكنك تحبني؟
فصمت صمتا ذا مغزى لا يخفى فضحكت وقالت: لا تغتم بتصرفاتي ولا بزواجي نفسه ما دام قلبي لك وحدك.
وقال لنفسه بأنه قضى على قلبه بأن ينقسم إلى قسمين، تلك العذابات الجهنمية، التي لم تقتلع من وجدانه تماما حتى وهما يذوبان في ضوء الأباجورة الأحمر، واستقر حذاء أبيض ذو سطح بني على السجادة بين الصوان والخوان الحامل للزجاجة والعلبة، وتموجت تهاويل غشاء الجدران الورقي، وتفشت في الجو هينمات منسالة من كون مجهول، وتخطت الذروة عندما راحت تغازل يديه بنشوة جنونية، وتقول له بدلال «اخنقني». •••
ودخلت أم سمعة الشرفة وهو وحيد يستجدي نسمة من ليل الصيف وقالت له: ضيوف على الباب.
فسألها: تعرفينهم؟ - كلا، قالوا افتحي فجئت لأخبرك.
فتح شراعة الباب فرأى وجها لم يره من قبل فغاص قلبه، فتح الباب مستسلما فدخل الرجل وتبعه ثلاثة.
اندفع الثلاثة يفتشون وقال له الرجل: معذرة، تفتيش لا بد منه، هاك أمر النيابة!
فسأله بصوت ضعيف: عم تفتشون؟ - آلة كاتبة.
وجيء بالآلة فتفحصها الضابط وقال: هي التي كتبت عليها الرسالة.
وبسط أمام عينيه الرسالة التي تطوع بإرسالها وسأله: رسالتك؟
فقال يائسا: لا علم لي بشيء مما تتحدث عنه. - متى اشتريت هذه الآلة؟ - اشتريتها ولم أسرقها، ولست مطالبا بتفسير سلوكي! - ستعرض أنت على عمال المحلين اللذين اشتريت منهما زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاطة، فهل أنت مصر على الإنكار؟ ولم تصر على الإنكار ما دمت بريئا؟
وفي سيارة الشرطة سأل الضابط عما جعله يشك في أمره، فيفتش مسكنه؟! ولكن الرجل ابتسم ولم يجب. وفطن عمرو إلى الخطأ الذي ارتكبه بإرسال الرسالة، فإن كتابتها على الآلة الكاتبة تشي بخوف كاتبها من الاهتداء إليه بمعرفة خطه، مما يرجح معه أن خطه غير بعيد عن متناول التحقيق، وما يثير - بالتالي - الشبهات حول المتصلين بالفقيدة ومن بينهم زملاؤها في الإدارة. هكذا استوجب خطؤه تفتيش مسكنه - ضمن مساكن الآخرين - وهكذا تم العثور على الآلة الكاتبة، وعرف صاحب الرسالة والزجاجة والعلبة.
وقال: ولكني بريء وكل كلمة في الرسالة صادقة.
فقال الضابط ببرود: علمنا من بادئ الأمر بعلاقتك بالقتيلة!
فاعترضت مخيلته الممزقة صورة عم سليمان، ولكنه قال: اعترفت بذلك في الرسالة ولكني بريء.
فقال الضابط بغموض: وأعجبني خيالك!
فقال دون أن يتمعن معنى قوله: وأطلقتم المجرم الحقيقي! - جميع من اشتبهت بهم أبرياء.
فتساءل بإنكار: فمن القاتل إذن؟
فأجاب الرجل بهدوء وثقة: لم يبق إلا أنت!
الحجرة رقم 12
يتذكر مدير الفندق بصورة لا تنسى أنه جاءته ذات يوم امرأة لاستئجار غرفة لمدة أربع وعشرين ساعة، وكان الوقت وقتذاك العاشرة صباحا، وحدجها الرجل بنظرة خاصة لندرة من يقصده من الجنس الآخر منفردا، وإنه ليتذكر بصورة لا تنسى أيضا أنها تبدت لعينيه امرأة شديدة التأثير بقوة بنيانها، ووضوح قسماتها، وحدة نظرتها، وهي تقف أمام الطاولة منتصبة القامة في معطفها الأحمر وقلنسوتها البيضاء. ولم تكن تحمل بطاقة شخصية، غير عاملة ولا متزوجة، ولكنها على الأرجح مطلقة أو أرملة، اسمها بهيجة الذهبي، قادمة من المنصورة، سجل الرجل ما يلزمه من معلومات ثم عهد بها إلى فراش تقدمها حاملا حقيبتها، حقيبة كبيرة الحجم فوق المألوف، فقادها إلى الحجرة رقم 12 بالفندق الصغير.
رجع الفراش بعد نصف ساعة بوجه متعجب فسأله المدير عما وراءه؛ فأجاب بأن المرأة غريبة الأطوار. - ماذا تعني؟
أجاب بأنها طالبته بأن يطبق حشية الفراش والغطاء والملاءة وأن يودعها ركن الغرفة حتى يجيء الليل أما السرير نفسه فأمرت بإخراجه من الحجرة معتذرة بأنها لا يغمض لها جفن طالما أنه يوجد تحتها فراغ يتسع لشخص قد يختبئ فيه، فقال لها: إن مخاوفها لا تقوم على أساس، وإن الفندق لم يقع به حادث واحد منذ نشأته، ولكنها أصرت فأذعن لمشيئتها. - كان عليك أن ترجع إلي أولا.
فاعتذر بأنه لم يجد في طلبها - رغم غرابته - خروجا على التعليمات الواجب الالتزام بها في الفندق، ثم واصل حديثه، فقال إنها أمرته بأن يفتح صوان الملابس على مصراعيه، وأن يبقيه كذلك فأدرك من توه أنها تخاف أن يغلق في غيبة منها على غريب يتربص فصدع بأمرها في تسليم باسم. - العجيب أنها تبدو قوية وجريئة.
وتفكر الرجل مليا ثم سأله: هل وهبتك بقشيشا؟ - نصف جنيه بالتمام والكمال. - واضح أنها غير طبيعية، ولكن لا أهمية لذلك.
فقال الفراش: وكنت مارا أمام حجرتها المغلقة في طريقي إلى المغسل فسمعت وراء الباب صوتا يتكلم بحدة وحرارة ... - ولكنها بمفردها. - رغم ذلك كانت تتكلم بحدة ويرتفع صوتها تدريجيا. - كثيرون يفعلون ذلك، ليس بالضرورة أن يكون مجنونا من يخاطب نفسه.
فهز الرجل رأسه ولم ينبس، فعاد المدير يسأله: هل وضح لسمعك شيء مما كانت تقوله؟ - كلا، عدا عبارة واحدة وهي «لا يهم».
وأشار المدير إشارة حاسمة إعرابا عن رغبته في إنهاء الموضوع، ثم قال للفراش وهو يمضي: مزيدا من الانتباه، فهذا واجب على أي حال.
وقصف الرعد فنظر المدير إلى السماء من نافذة زجاجية فرآها ملبدة بالغيوم، وكان الجو شديد البرودة، والمطر متوقعا بين آونة وأخرى، وعند تمام الواحدة بعد الظهر تلفنت له الحجرة 12: ممكن أطلب غداء؟ - لا يوجد مطعم بالفندق، ولكن يوجد مطعم بالشارع، طلباتك يا أفندم؟ - تورلي، أرز بالخلطة، مع كيلو كباب مشكل، تشكيلة سلطات، رغيف بلدي مجمر، عيش سراي، برتقالتان ...
أمر المدير بإحضار المطلوب، ولكنه دهش لكمية الطعام المطلوبة، خاصة اللحوم، وهي تكفي وحدها لستة أشخاص.
وقال لنفسه إنها مصابة بجنون الخوف والنهم. - محتمل أن تغادر الفندق عصرا، وسأجد فرصة لإلقاء نظرة داخل الحجرة.
وجاء الطعام، وبعد ساعة رجع خادم المطعم ليأخذ الصينية والأطباق، ولم يستطع المدير مقاومة رغبة ملحة في النظر إلى الأطباق، وجدها فارغة تماما إلا من بقايا عظام وصلصة متجلطة، وقرر أن يتناسى الموضوع كله، ولكنه وجد المرأة - صورتها ونوادرها - تطارده وتلح عليه، لا يمكن القول بأنها جميلة، ولكنها ذات سطوة كالجاذبية، وبها شيء يخيف وأشياء تثير حب الاستطلاع والإذعان، ومع أنه رآها اليوم لأول مرة إلا أنها تترك انطباعا بالألفة التي لا تكون إلا للوجوه المستقرة في أعماق الذاكرة من قديم.
ورأى رجلا وامرأة قادمين نحوه، وسأله الرجل: هل السيدة بهيجة الذهبي تقيم هنا؟
فأجاب بالإيجاب، واتصل بالمرأة، فطلبت السماح للقادمين بالصعود إلى حجرتها، وكان واضحا أن القادمين من الصفوة، من الناحية المادية على الأقل، واندفع الهواء في الخارج بقوة رقصت لها القناديل المعلقة في مدخل البهو الصغير. وسرعان ما قدم ثمانية أشخاص - أربعة رجال وأربع نساء - فتكرر السؤال: هل السيدة بهيجة الذهبي تقيم هنا؟
وتم الاتصال وجاءت الموافقة فصعدوا بجلال - كانوا على مستوى السابقين - إلى الحجرة رقم 12. أصبح الزوار عشرة أقارب من أسرة واحدة، أو أصدقاء، أو أقارب وأصدقاء، ولكن لا شك أن بهيجة سيدة غير عادية. - ترى لم اختارت فندقنا الصغير؟
ودب النشاط في كافتيريا الاستراحة، وحملت إلى فوق أقداح الشاي، وشغلته بعض الوجوه في المجموعة الأخيرة، فظن أنه سبق له رؤيتها، ولكنه قال لنفسه إن خير ما يفعله أن يغسل مخه من شئون بهيجة هانم، وأنها غدا ستكون ذكرى من مئات الذكريات الضائعة التي يجيش بها صدر الفندق.
ورأى أمامه سيدة في الخمسين غاية في الرزانة والوقار، سألت: هل السيدة بهيجة الذهبي هنا؟
ولما أجاب بالإيجاب قالت: بلغها من فضلك أن الدكتورة موجودة.
واتصل بالمرأة فسمحت لها بالصعود، وأذعن لرغبة ملحة طارئة فسأل الدكتورة قبل أن تغادره: ما تخصص حضرتك؟
فأجابت وهي تذهب: طبيبة مولدة.
لاحظ أنها قدمت نفسها بصفتها المهنية وبلا ذكر الاسم، فهل هي تزور المرأة بهذه الصفة؟ ... هل المرأة تعاني من مرض نسائي؟ ... أهي حبلى؟ ... ولم يستطع الاسترسال في أفكاره إذ جاءه رجل بدين قصير متجهم الوجه؛ فقدم نفسه بصفته المقاول يوسف قابيل، وطرح السؤال الذي يتكرر: هل بهيجة هانم الذهبي هنا؟
وعقب الاتصال التليفوني المعتاد سمح للرجل بالصعود، والمدير يودعه بابتسامة ساخرة حائرة، ورجع أحد فراشي الفندق من مشوار وهو يرتعد من البرد داخل جلبابه البلدي السميك، فقال: إن الظلام يتراكم في أركان السماء، وإن النهار سينقلب ليلا عما قليل. فألقى المدير نظرة من النافذة الزجاجية، ولكنه كان يفكر بامرأة الحجرة 12، المرأة الغامضة جلابة الضيوف، وخيل إليه أن روحا نفاثة للإثارة والقلق تتسلل في أنحاء الفندق مذ قدمت، وأنه يشعر بها تتسلل إلى زوايا نفسه موقظة بها أحلام المراهقة، وأبهة الآمال الدنيوية الدسمة. وانتبه من استغراقه على صوت يسأل: بهيجة هانم الذهبي هنا؟
رأى رجلا ضخما يرفل في جبة وقفطان، طربوشه جانح إلى الوراء، وبيده مظلة رمادية، قدم نفسه قائلا: بلغها أن سيد الأعمى الحانوتي قد جاء.
انقبض صدر المدير، انكمشت أعضاؤه، لعن الرجل والمرأة معا، ولكنه قام بواجبه فاتصل بها، ولأول مرة يتلقى جوابا مخالفا، فقال للرجل: انتظر حضرتك في الاستراحة.
ماذا جاء يفعل؟ ولم لا ينتظر في الخارج؟ لقد عمل في الفندق زهاء نصف قرن فلم يشهد مثيلا لما يحدث اليوم ، وأخوف ما يخاف أن يهطل المطر، فيضطر الفندق إلى إيوائهم وقتا مجهول المدى، وبخاصة رجل الموت ذاك؟!
وجاء زوار جدد، جاءوا متفرقين ولكن تباعا، صاحب معرض أثاث وبقال وقصاب، وصاحب محل عطور وأدوات زينة، وموظف كبير بمصلحة الضرائب، ورئيس مؤسسة، وصحفي معروف، وتاجر جملة للأسماك، وسمسار شقق مفروشة، ووكيل شخصية عربية من أصحاب الملايين، وظن المدير أن المرأة ستنقل الاجتماع إلى الاستراحة، ولكنها أشارت بالسماح لهم بالصعود، فصعدوا واحدا في أثر واحد، وحملت كراسي جديدة ومضى الفراشون بالشاي، وتساءل المدير ترى كيف يجلس الزائرون، هل يربطهم تعارف سابق؟ وماذا جمعهم على وجه التحديد؟ واستدعى شيخ الفراشين وسأله عن ذلك فأجاب الرجل: لا علم لي بالداخل، الأيدي تتسلم الكراسي، والشاي من زاوية الباب ثم تغلقه فورا.
فهز الرجل منكبيه، وقال لنفسه: إنهم ما داموا لا يشتكون فلا مسئولية علي.
وإذا بسيد الأعمى الحانوتي يقبل نحوه فيقول: أرجو أن تذكر الهانم بأني في الانتظار!
فقال المدير بجفاء: وعدت بأن تستدعيك في الوقت المناسب.
ولم يتحرك الرجل فتلفن للمرأة ليتخلص منه، ثم ناوله التليفون بناء على رغبتها فيما بدا، فقال سيد الأعمى: يا ست هانم العصر فات ونهار الشتاء قصير.
وأصغى إلى السماعة مليا ثم أعادها ورجع إلى الاستراحة غير مرتاح، والمدير يلعنه من صميم قلبه، ويحمل المرأة مسئولية استدعائه إلى الفندق، ويرمق باب الاستراحة بنفور وتقزز، ونزل بعض النزلاء في طريقهم إلى الخارج، فأبدوا للمدير ملاحظات عن الحجرة 12 المقلقة للراحة فقال الرجل معتذرا: يوجد بها زوار وسيذهبون عاجلا أو آجلا، لن يبقى أحد منهم في الليل.
بات يخشى أن تدفعه مسئوليته إلى الصدام معهم، وهم من الصفوة القوية، وضاعف من كآبته صفير الرياح في الخارج، وروح الأسى التي تغشى الطريق. ورغم ذلك تراءى عند مدخل الفندق جماعة من الرجال والنساء، أقبلوا نحوه في معاطفهم فغاص قلبه في صدره، وبادرهم وهو لا يدري: بهيجة هانم الذهبي؟
فضحك أحدهم وقال: أبلغها من فضلك أن مندوبي جمعية إحياء التراث قد جاءوا.
واتصل المدير بالمرأة فلما طلبت السماح لهم قال لها: عددهم عشرة يا هانم، وتحت أمرك في الدور الأرضي استراحة تتسع لأي عدد! - ولكن في الحجرة متسعا!
وصعد المندوبون والمندوبات، والرجل يهز رأسه في حيرة، سيقع الصدام عاجلا أو آجلا، سيتفجر غضب السماء في الخارج، سيتمخض ذلك التكتل الشاذ في الحجرة 12 عن شيء غير سار، وحانت منه التفاتة نحو الاستراحة فرأى سيد الأعمى، يزحف نحوه فنقر بأصابعه على سطح الطاولة بعصبية، أوصله بالمرأة قبل أن يفتح فاه، سمع شكواه ثم سمع إذعانه، وتركه يعيد السماعة بنفسه، ولكن الرجل قال له وهو يهم بالذهاب: الانتظار بلا عمل ممل جدا.
فغضب المدير، وكاد يوبخه لولا أن المرأة اتصلت به طالبة إيصالهم بالمطعم، واستمرت المكالمة دقائق قبل أن تنقطع، وتساءل هل يبقون حتى العشاء؟ وأين يتناولون عشاءهم، كم يود أن يعاين الحجرة بحالتها الراهنة، إنه منظر يفوق الخيال، منظر جنوني بلا أدنى ريب.
ولم يقف الطوفان عند حد فجاء نفر من أساتذة الجامعة ورجال الدين، أمست المناقشة عقيمة، تركهم يصعدون، بدا الأمر مزاحا كابوسيا، وجاء رجل غامض فصعد دون أن يمر به، وقد ناداه فلم يلتفت إليه، وتبعه فراش ولكنه توقف عندما رآه يدخل الحجرة 12. وشعر المدير بأنه وحيد وبأنه يفقد سيطرته القانونية على المكان، وبأن شيطان الأحلام البهيمية يطرق بابه بعنف، وفكر بأن يشاور شيخ الفراشين ولكن ظهر له رجل ما إن رآه حتى تشهد في ارتياح، تصافحا وهو يقول للقادم: جئت في وقتك يا حضرة المخبر.
فقال المخبر بهدوء: أطلعني على السجل. - تحدث أمور غريبة هنا.
راح الرجل يراجع بعناية الأسماء، ويدون بعض الملاحظات فقال المدير: أراهن على أنك جئت من أجل الحجرة 12. - هه؟ - الأمور تجري في شذوذ جنوني. - كل ما يقع ضمن الطبيعة فهو طبيعي!
ثم غادره وهو يقول: إذا طلبني التليفون فإني في الحجرة 12!
ذهل المدير، ولكنه اطمأن نوعا ما في الوقت نفسه، فما يحدث إنما يحدث بعلم الحكومة، وتحت سمعها وبصرها، وتذكر أنه فكر بمشاورة شيخ الفراشين، وهم بالضغط على الجرس عندما رأى سيد الأعمى زاحفا نحوه ففقد أعصابه وصاح به: قالت لك أن تنتظر حتى تستدعيك.
فابتسم الرجل بخنوع المعتاد للانتهار وقال: ولكن الانتظار قد طال. - انتظر بلا مناقشة، وتذكر أنك في فندق لا قرافة!
فرجع الرجل متصبرا، وتذكر المدير شيخ الفراشين فاستدعاه وسأله: كيف تجري الأمور في الحجرة 12؟ - لا أدري يا سيدي، ولكنها تضج بالأصوات. - كيف يتواجدون معا، وهي لا تتسع لهم ولو جلس بعضهم فوق بعض؟ - علمي علمك، ولكن على أي حال؛ فإن الضابط بالداخل أيضا.
وذهب الرجل فنظر المدير من النافذة فرأى الليل جاثما في الفضاء، وقد أضاءت المصابيح فشعت أنوارها وانية خلال الجو المشحون بالرطوبة العاصف بالرياح المزمجرة، وجاء طابور من خدم المطعم يحملون الصواني المكتظة بالأطعمة، فازداد عجبه، وقال لنفسه إنه لا يوجد بالحجرة إلا خوان واحد، فأين تصف الأطباق، وكيف يتناولون الطعام؟ وأخبره أحد الفراشين أن باب الحجرة لم يعد يفتح، وأن الأطعمة أدخلت من شراعة الباب، وأن الضحكات الصاخبة تجتاح الدور كله، وأصبح المشهد كله يعز على التصديق.
ورجع الفراش بعد نصف ساعة ليؤكد له أن القوم يسكرون، فقال له: لم أر زجاجة واحدة! - لعلها هربت في الجيوب، إنهم يغنون ويصرخون ويصفقون، تلك حال سكر وعربدة، وفسق أيضا فالنساء هناك لا يقلون عن الرجال عدا. - والمخبر؟ - سمعت صوته يغني «الدنيا سيجارة وكاس».
وقصف الرعد في الخارج، فقال المدير لنفسه «جائز جدا أني أحلم، وجائز أني جننت». وإذا بجماعة من عامة الشعب - تنطق وجوههم وملابسهم بشعبيتهم - قدموا، وسأل سائلهم: هل السيدة بهيجة الذهبي تقيم هنا؟
فابتسم المدير يائسا، واتصل بالمرأة، فرجته أن يجعلهم ينتظرون في الاستراحة، وأن يقدم لهم المشروبات، فأشار الرجل لهم نحو الاستراحة، فأمر بتقديم الشاي لهم، فامتلأت الاستراحة وازداد سيد الأعمى قلقا. وجعل المدير يبتسم يائسا ويغمغم: لم يعد الفندق فندقا، ولم أعد مديرا، لم يعد اليوم من الزمان، فليرقص الجنون ما شاءت له اللحوم والخمور.
وبدأ تساقط المطر، وأرعدت السماء، ولمع الأسفلت عند مدخل الفندق بأضواء المصابيح ودغدغة المطر، وتتابع دبيب الأقدام ، وارتفعت صيحات غلمان مهللة، ولجأ عابرون إلى عنق المدخل، وتوالت الضربات المرجفة فوق زجاج النافذة، غادر مكانه إلى مقدم المدخل فقلب وجهه في السماء المظلمة، ثم نظر إلى الأرض فرأى السيل المنهمر، ينصب عليها كالحصى، ويجرف منحدراتها كالطوفان، لقد تلبد واحتدم ثم انفجر. - إنه مطر لم يسقط نظيره منذ جيل على الأقل.
وتذكر سيلا شبيها بهذا حفر ذكراه في رأسه منذ صباه، تذكر كيف انقطعت المواصلات، وسدت الحواري، وغرقت الحجرات تحت الأسقف المتهرئة. ورجع إلى مكانه فالتزمه حرصا على السجلات والخزانة، ولكنه أصدر أوامره بتشديد المراقبة في الحجرات وفوق السطح، واستدعى شيخ الفراشين وسأله: ما أخبار الحجرة 12؟
فلوى الرجل شفتيه وقال: تواصل الغناء والضحك، إنهم مجانين ...
ولمح على باب الاستراحة سيد الأعمى فصاح به بأعلى صوته: ارجع إلى مكانك.
استأذنه الرجل بإشارة من يده فصاح به مرة أخرى: ولا كلمة.
وجعجع الرعد كانفجار القنابل، وانهل المطر في سرعة وغزارة جنونيتين، فقال لنفسه بقلق: إن الفندق قديم لم يشيد بالخراسانة المسلحة، وإن الليل ينذر بالمتاعب.
وجاءه فراش فقال: تصاعدت الشكوى من الحجرة 12 من رشح السقف والبلل!
فقال بحنق: سكت الغناء والضحك؟ فليغادروا الحجرة! - ولكنهم لا يستطيعون!
فصرفه واستدعى رئيس الفراشين وسأله فيما قال الرجل فقال: الحجرات كلها ترشح، سأجند الفراشين لسد الثغرات فوق السطح بالرمال. - والحجرة 12؟ - لقد انحشروا، انزنقوا، امتلأت بطونهم فانتفخت، تعذر فتح الباب، تعذرت الحركة.
اجتاح الهياج الكوني الفضاء في الخارج، أما في الداخل؛ فقد دبت حركة نشاط شاملة، وانطلق الفراشون بأكياس الرمال، وحدثت مفاجأة غير متوقعة، إذ هب المنتظرون في الاستراحة، متطوعين للاشتراك في العمل، راقب المدير ذلك بارتياح، وارتاح بصفة خاصة لتخلف سيد الأعمى.
وبعد نصف ساعة رجع شيخ الفراشين ليطلعه على سير العمل، قال: إنهم يعملون بهمة عالية.
ثم بعد تردد: أما أصحابنا في الحجرة 12 فحالهم سيئة، وهي تزداد بتقدم الوقت سوءا على سوء.
وغضب المدير. عصف به الغضب، وكأنما عصف به فجأة، عصف به بعد توتر عنيف حصره طيلة اليوم، تملكه الغضب أعصابا ولحما ودما ، جن واندفع ينشد المزيد من الجنون، صاح بشيخ الفراشين: اسمع، احفظ ما أقول.
فحملق الرجل في وجهه بخوف طارئ فصاح بتصميم: أهملوا الحجرة 12 بجميع من فيها! - سيدي، الرجال يصرخون والنساء يبكين.
فزمجر كالوحش: ركزوا على السطح فوق حجرات النزلاء أما الحجرة 12 فأهملوها بجميع من فيها.
تردد الرجل مقدار ثانية فصاح وهو يزداد توحشا: نفذ تعليماتي حرفيا، وبلا تردد.
والتفت نحو النافذة الزجاجية، ينظر إلى الخارج، فرأى الزوبعة تتلاطم في قلب الليل، وتزداد عنفا، ولكنه كان قد تخفف من عبء ثقيل، واسترد الثقة وصفاء الذهن.
الطبول
دق جرس المنبه في رنين متصل فدبت في الأسرة حركة شاملة، ثمة تثاؤب هنا وهناك، يند وسط همهمات كطنين النحل، وضحكات طافحة بالبشر، وتأوهات مرحة، وفتحت النوافذ فتدفق الفجر الغامض متسربلا بنسيم ندي مفعم بشتى الطيوب وأنفاس الطبيعة النقية، وارتفع صوت القائد دسما واضح النبرات يقطع بأنه سبقنا إلى الاستيقاظ منذ أمد وتأهب لاستقبال اليوم الخطير، قال: السرعة والنظام والجد، لديكم ثلث ساعة حتى تجتمعوا حول مائدة الإفطار.
وانتشرت الحركة في نشاط بهيج، أقيدت الأنوار في المغاسل، طرقعت الشباشب فوق البلاط، سالت المياه من الصنابير، وهدرت السيفونات، وأزت الحلاقات الكهربائية. - الفجر يبشر بجو طيب. - يجب أن نقطع شوطا ملحوظا قبل أن ترتفع الشمس. - لكن الظهيرة آتية والصيف لا قلب له.
سرعان ما امتلأت الكراسي الخشبية حول المائدة المستطيلة ببهو الطعام، استقرت الجاكتات الكاكية والبنطلونات القصيرة فوق الأجساد الرشيقة، عقد كل حمالة صفارته حول عنقه، وأرسى عصاه إلى طرف المائدة جنب زمزميته وحقيبته. وصب الشاي في الأقداح، وتخاطفت الأيدي الفطائر والجبن والعسل الأسود. وتتابع التمطق في سرعة تنذر بتوقعات متربصة. والحق أن القائد لم يمهلنا طويلا، كأنما أراد أن يمتحن مرونتنا، أو أن يذكرنا بسلطاته منذ البدء، فنفخ في صفارته مقدرا ربع دقيقة، نهضنا عجلين، ركبنا الحقائب فوق الظهور، وعقدنا الزمزميات بالأكتاف، وتناولنا العصي، وهرعنا إلى الفناء. انتظمنا طابورا طويلا في ظلام شامل عدا شفافية لا تكاد ترى في الأفق الشرقي، ومثل شبحه أمامنا بقامته الطويلة ومضى يقول: لتكن كل رحلة جديدة خيرا من سابقاتها.
فقلنا في نفس واحد: آمين.
فعاد يقول: لنكن مثالا طيبا للآخرين.
فكررنا في صوت واحد: آمين. - ولنستفد من كل خطوة وكل تجربة. - آمين. - سيروا على بركة الله. - آمين.
ونفخ في الصفارة والديكة تصيح فتكونا في أربعات، واتخذنا خطوات «محلك سر» حتى احتل مكانه على رأس الطابور، ثم بدأ السير فسرنا وراءه على دقات الطبول، وتبعتنا على الأثر عربة يجرها جواد تحمل المطبخ والمستشفى، سلمنا الفناء إلى ممر طويل ضيق محصور بين جدارين مرتفعين تفوح منه رائحة الكلس، وعطن البول، وتظلل نهايته سعف نخلات مغروسة في الجانبين. شاب مشيتنا الرياضية حذر شديد لما توقعناه من وجود روث دواب أو قاذورات آدمية؛ إذ إنه رغم الحيطة والتفتيش يتسلل إلى الممر في هدأة الليل أناس لممارسة حرياتهم بلا حياء. سرنا في حذر حتى خرجنا إلى الخلاء فلفحتنا نسمات نقية مطلولة، ولم نكد نقطع خطوات حتى ترامى إلينا صوت السواق، وهو يحث الجواد على السير، ويفرقع بسوطه في الهواء، وتنبه قائدنا إلى ذلك فصاح بصوته الدسم: قف.
فضربنا الأرض متوقفين فقال بنبرة آمرة: 1 و2 يذهبان للاستطلاع وتقديم ما يلزم.
انفصل الزميلان من الطابور، فرجعا إلى موقف العربة. أدركنا من حوارهما أن حجرا اعترض العجلة اليمنى، وأنهما يتعاونان على زحزحته. وتساءل قائدنا محنقا: متى يبلغ معسكرنا كماله المنشود؟!
وعاد الزميلان إلى الطابور فنفخ القائد في صفارته، واستأنف الطابور سيره، سرنا أشباحا ذائبة في ظلام، وفي السماء نجم واحد، وكنا نحب ظلمة الفجر؛ لأنها سريعة الزوال، ولأننا نطمئن إلى الاختفاء في غلالتها، فنخرق تقاليد الطابور الصارمة بالمداعبات والملاعبات الخفية، سعداء بشقاوتنا وعبثنا كاتمين ضحكاتنا فترتعش فوق الشفاه بلا صوت. في ظلمة الفجر يتلقى سيئ الحظ ضربة عصا في ساقه، أو قرصة في ذراعه، أو نواة نبقة في قفاه، ولما كان الفاعل مجهولا؛ فإنه ينتقم من أي كان، وبأي وسيلة تتفق له، لم تكن تلك الشقاوة مريحة، ولكنها كانت متعة محبوبة، ولا تتم الرحلة إلا بها؛ ولذلك كنا حريصين على احترام سريتها لنضمن استمرارها. ونهنأ - رغم انزعاجنا - بها. فالجدية المثالية الواجبة شعار نردده ونلتزم به، ولكن يبدو أن لا مفر من التمرد عليه بين الحين والحين، وما يدري تكوين من تكوينات الطابور الرباعية إلا ورشاش سائل يبلله في مواضع متفرقة من أجسام أصحابه. وتبين لهم من رائحته أنه بول! كاد النظام يختل، وضاعت الضحكات المكتومة في هدير غاضب لم يتوقعه أحد، تجاوزت الدعابة حدود الاحتمال وانفجر صوت خشن بلا مبالاة: عليكم اللعنة.
فصاح القائد غاضبا: قف.
توقفنا عن السير، انقلبت الدعابة علينا هذه المرة، وأنذرت بالنكد، وتساءل القائد: من الوقح؟!
فصاح الآخر متحديا: كلب بال علينا.
فصرخ القائد: الويل لكم.
ولكن سبقته الأحداث فندت صرخات، واختلطت أشباح ونشبت معركة عمياء، تبودلت اللكمات والركلات واللعنات، ومضى القائد يهدد وينذر في الهواء. اشترك كل واحد منا في المعركة، هاجما أو مدافعا، بلا حساب ولا حذر، وكأننا نقاتل المجهول في الأركان الأربعة، اندثر لحظتئذ الود الجامع بيننا، وتلاشت روح الزمالة العتيدة، وحلت محلهما وحشية كاسرة تنفث حقدا وشهوة طاغية للأذى، كأنها قوة مدمرة تفجرت في قلب الظلام. تواصل الضرب بلا رحمة، وصمت قائدنا كأنما قد ترك لأيدينا وأرجلنا مهمة إنزال العقاب الشامل بنا، وما ندري إلا والظلمة تخف وتتهافت، ومعالم الدنيا تطل علينا من حولنا، ورقعة الأفق الشرقي تبتسم ببهجة الضياء. عند ذاك تراءى المتعاركون، رأى كل وجه زميل أو صديق، فعقد الحياء أيدينا، وتطايرت انفعالاتنا السوداء، وتراجعنا بوجوه أسيفة، وقلوب منكسرة، وجعلنا نجفف عرقنا، ونضمد جراحنا، ونتبادل نظرات حسيرة، متجنبين النظر نحو قائدنا الواقف كتمثال للغضب والازدراء، وساد صمت ثقيل مشحون بالندم، وتلقينا أول شعاع للشمس بوجوه كالحة.
وراح القائد ينقل عينيه من شخص لآخر، ثم قال: بداية على أي حال جديرة بكم.
لم ينبس أحد بكلمة، ولا انبرى أحد للدفاع يستوي في ذلك الظالم والمظلوم، وعاد القائد يقول: إن زيكم الرفيع ليخجل منكم.
وهز رأسه في أسى ثم تساءل: هل لدى المذنب منكم الشجاعة للاعتراف؟
ولما لم يسمع صوتا قال : ليس من مبادئنا إلغاء رحلة بدأناها، ولكن لن يمر ذنب بلا عقوبة تناسبه.
مضى إلى موقفه، نفخ في الصفارة، هوت المطارق على الطبول، تحرك الطابور في ضوء الصباح الباكر. انتقلنا من الصحراء إلى المدينة، فقابلتنا طلائع العمال والباعة، وتبعا لتقاليدنا رحنا ننشد الأناشيد متناسين المعركة وآلامها، ولم يكن شيء يؤثر فينا مثل أناشيدنا الجميلة المتغنية أبدا بالبطولة والمجد والأخوة، فسحرها يخاطب منا القلوب والسرائر. ومر بنا السابلة بلا اهتمام، وقليلون من تابعونا بنظرات محايدة، أما الغلمان الذين يهرعون وراءنا فلم يكن قد استيقظ منهم أحد بعد، وزالت آثار المرارة تماما، وانتصر الشباب بقوته الخارقة، وأنعشتنا الأناشيد، فعدنا أهلا للرحلة الطويلة الشاقة أمامنا، وسيطر علينا الإيمان بما نفعل وبما نقول، بالمثل التي نستظل بها، والمجد الذي نمضي إليه، والقوة التي سنحقق بها المعجزات. وكنا سعداء، رغم الجهد المتوقع والنظام الصارم، والعقوبة المتربصة كنا سعداء، وسرنا وسرنا، وأنشدنا وأنشدنا، على دقات طبول لا تتوقف، حتى نفخ القائد في الصفارة فتوقفنا وسط الضحى، وهتف القائد بوجه لم يزايله الغضب: استراحة.
غسلنا وجوهنا في مقهى قريب، ثم قصدنا العربة، فتناولنا شراب الليمون، وبعضا من البسكوت، وكان الطريق غاصا بالمارة والسيارات والعربات، وحرارة الشمس تحرق الرءوس وتستدر العرق، وتبادلنا الأحاديث في صفاء كأن لم تكن بيننا معركة، وتذكرنا ملابساتها بقلوب ضاحكة، ولكننا لم نخل من قلق من ناحية عواقبها. - هل تمر بسلام؟ - بعيد ذلك كل البعد. - حبس انفرادي أو صيام نهار كامل.
وطوينا الموضوع بقرفه؛ لنواجه ما هو أهم في حاضرنا، فهدف الرحلة يظل مجهولا لا ينبئ عنه قائدنا حتى نستدل عليه من خط السير، وكنا معسكرين عند مشارف الميدان، ولكن الميدان مفترق طرق مليء بالاحتمالات. - أنتجه جنوبا أم نمضي شمالا؟ - الجنوب يعني الأهرام. - أهرام الجيزة أم سقارة أم دهشور؟ - ولا تنس الفيوم. - والشمال يعني هليوبوليس أو عين شمس. - وهناك الصحراء في الجنوب والشمال معا. - وهي أسوأ الاحتمالات.
ونفخ القائد في الصفارة، فتوالت دقات الطبول كالنداء الملح فهرعنا إلى الطابور، وما كدنا نتوسط الميدان حتى أدركنا أننا نتجه نحو الجنوب، فعرفنا الهدف بلا تحديد، ولن يتحدد حتى نبلغ هضبة الأهرام. مضينا بأقدام نشيطة وحيوية رائعة، تستغرقنا الأناشيد، فلم نشعر بمرور الوقت؛ لذلك دهشنا عندما دعينا للتوقف لتناول وجبة الغداء، وتبين لنا أن الساعة تمت الثانية بعد الظهر. عسكرنا على حافة حقل مزروع بالجرجير، نزعنا الأحذية وغسلنا أقدامنا في جدول ماء، فرشنا الحصر وجلسنا لتناول الغداء بعد أن جاء كل منا بتموينه من العربة، وهو عبارة عن طبق يحوي بامية وقطعة من الضأن، ومغرفة من الأرز وموزة. وأنسانا تناول الطعام همومنا الصغيرة، كما أنسانا الوقت فأثملتنا لذته الموشاة بأطايب الأحاديث والنوادر. ولما فرغنا من الطعام استلقينا على ظهورنا لنستمتع بالراحة في الفترة القصيرة المخصصة للقيلولة. وداعبنا النعاس، ونحن مستسلمون لأحلام اليقظة، وكدنا نستسلم للنوم لولا أن همس هامس: انظروا.
تحولت الأنظار إلى الحقل الذي يغوص تحت مستوى الطريق بمتر، فرأينا زميلا يتوارى وراء عربة مقلوبة وهو يحتضن كائنا لم نره، ولكنا رأينا جانبا من فستانه هفا به الهواء فتحرك كالعلم. - أي جرأة! - سيجلب لنا متاعب جديدة.
وتطوع زميل للذهاب إليه لتحذيره، وسرت شهامة التطوع إلى آخرين فمضوا في أثره، وتطلعت الرءوس إلى العربة المقلوبة باهتمام وإشفاق وتوتر، وبحثت أعين عن القائد حتى عثرت عليه نائما على سريره السفري وراء عربة التموين، ورأينا الزملاء وهم يتحاورون عند العربة المقلوبة، ولكننا لم نسمع كلمة مما يدور فقال أحدنا: إنهم يقنعونه بالعودة.
فقال آخر ضاحكا: أو بالاشتراك معه!
وجرت الفتاة إلى مبنى من البوص غير بعيد؛ فاختفت داخله دقيقة، ثم ظهرت مرة أخرى في مدخله، وهي تتوسط عددا من الفتيات! وهرع الزملاء إلى مبنى البوص؛ فدب نشاط محموم فينا جميعا، وثبنا قائمين، وزحفنا نحو المبنى كجيش من المجانين، وكانت الشمس تصب على المبنى دفقات حامية من أشعتها فيكاد أن يشتعل ولم يبال أحد بالحر ولا بالجو الخانق، وفاح المكان برائحة عرق آدمي حريف، واضطربت أركانه بالصحة والعافية، وأنفاس الشباب الملتهبة، وشحنت بالعربدة المكتومة، والزفرات الضاحكة والأطوار المستهترة. وفي حمأة الطرب المشبوب تردد صوت ماجن بغناء، رقص مستهتر متهتك، واشتبك اثنان في معركة مازحة. وعدنا واحدا في أثر واحد، وارتمينا فوق الحصر مستسلمين لراحة عميقة، وما لبثت أن دوت الصفارة، وتتابعت دقات الطبول، قمنا ننفض عن أنفسنا الكسل، انتظمنا في الطابور، ولمحنا القائد متجهم الوجه فلم ندر إن كان تجهمه بسبب ذنبنا الأول أو أنه فطن أيضا لذنبنا الثاني، ولكنا كنا أبعد ما يكون عن الندم. وهمس صوت: نجونا بمعجزة.
فقال آخر: أو علينا أن نتوقع عقوبة مضاعفة.
وأخذنا في السير، بعزائم قوية مضينا، أسعفتنا روح التحدي والصبر، وقلنا لأنفسنا إنه مهما كان، ومهما يكن ومهما سيكون فليس أخلد من البهجة والمسرة والمرح، ولبثنا على تلك الحال ساعة ونصفا أو ساعتين، ورغما عن إرادتنا سلمنا بأن الشمس عنيفة، بل أعنف مما تصورنا، بل هي في الواقع لا تحتمل، وتصبب العرق حتى بلل ملابسنا، وضاعف من تذمرنا إحساسنا بعدم طهارته. الحق أن التعب بدأ يزحف على عضلاتنا وأعصابنا مبكرا بالقياس إلى الرحلات السابقة. وكلما تقدمنا اشتدت وطأته وعنفت ضرباته أما الحر فأصبح خانقا قاتلا، كلا لم نذق هذا الجحيم من قبل، ولم تخر قوانا كما خارت اليوم، وتراخت أوتار أصواتنا وهي تنشد الأناشيد، ولأول مرة نشعر بوزن الوقت، وهو يتمطى فوق مناكبنا، تغير كل شيء، حال لونه وفسد طعمه، ففتر حماسنا ثم خمد، حتى الأناشيد تبدت لنا رتيبة مكررة فاقدة المعنى والروح فخجلنا من ترديدها. وخيل لنا أننا موضع سخرية المارة والمنتظرين تحت مظلات الباص، ولم تقف مشاعرنا المدمرة عند حد فأوشكت أن تلتهم الرحلة نفسها التي بدت طويلة بلا نهاية، معذبة بلا رحمة، خالية من أي معنى أو عزاء، غير جديرة بالطقوس التي تحكمها، والنظام الذي يضبطها، والآمال المعقودة عليها، وقائدنا نفسه لاح قائدا بلا قيادة ولا جيش، مضحكا في غضبه، هزيلا في عنفه. ألحت علينا تلك الأفكار، وكلما اشتد إرهاقنا اشتدت إلحاحا وعنفا، ونفد صبر البعض فتوقف عن الإنشاد أو جعل يحرك شفتيه بلا صوت، وجن البعض الآخر فجازف بالخروج من الطابور مع علمه بما يعنيه ذلك من فصله من الفريق مجللا بالعار، منبوذا من الروح الرياضية، وهي فضيحة لم تغب عنا عواقبها، وآثارها البعيدة في نفس القائد والمشرفين هناك في المدرسة، ولكنها في الوقت نفسه ميزتنا بشيمة الصبر، وأملتنا في تخفيف العقوبة، وإن لم تغير شيئا من فتورنا وإرهاقنا وحال الخذلان التي ركبتنا، وتتابع السير والغناء. ولم يعد شيء يحتفظ بعنفوانه إلا دقات الطبول وصلابة قائدنا غير المبالية، وأقران يعدون على أصابع اليد مضوا بهامات مرفوعة وعضلات مشدودة يرددون الأناشيد بحماس وإيمان، حتى أثاروا الحنق والازدراء. وعندما لاحت لأعيننا الأهرام الشامخة كانت الشمس قد مالت نحو الغرب، فوهنت حدتها، ودبت في الجو نسمة جعلت تلاطفنا في استحياء، وأخذ الطريق في الارتفاع؛ فتضاعف إرهاقنا واشتدت آلامنا وتداعت أصواتنا. وبلغنا سطح الهضبة، وقد اختفت الشمس وتدثر الكون بغلالة داكنة هادئة رددت أنفاسا ضعيفة، كأنها أنفاس شيخوخة فانية، ودوى صوت الصفارة فتساقطنا من الإعياء، ونحن نتأوه بأصوات غير مبالية. خمنا أننا سنمكث تحت الهرم ساعة أو أكثر قبل أن نستأنف السير إلى معسكرنا الموغل في الصحراء، ولكن قائدنا المنتقم قال بصوت سمعه الجميع: لديكم ربع ساعة كاملة!
ذهلنا! تبادلنا النظر في صمت، ونحن نعلم أن الأوامر لا تناقش، ولم نضيع الوقت في التحسر العظيم، ولم يكن بد من التضحية بالراحة؛ فقمنا لابتياع ما يلزمنا في مقامنا الأخير، في حدود ما تسمح به اللوائح، ومدة الإقامة مجهولة لا يعلم بها إلا القائد، ولكنا آثرنا الأخذ بالأحوط، اشترينا ما نحتاجه من سجائر وصابون، وفاكهة وقوارير المياه الغازية. ضاع وقت الراحة في الشراء والمساومة وتنظيم السلع. وما فرغنا من ذلك حتى عادت الصفارة تدوي ودقات الطبول تدق بلا نهاية؛ فانتظمنا في الطابور الرهيب، يحمل كل منا سلة موز على يد وبطيخة على اليد الأخرى حاشيا جيوبه بالعلب والقوارير فضلا عن أدواته الأصلية، كالعصا والزمزمية والحقيبة. وواصلنا الرحلة من غير أن ننال قسطا من الراحة، بعضلات منهكة وأعصاب متوترة وأنفس غاضبة، وضاعف من متاعبنا مقاومة الرمال الغزيرة لأقدامنا، واختفاء معالم الدنيا في جوف الظلام الهابط، استحالت أصواتنا عواء محشرجا، وتقلصت عضلاتنا من حدة الآلام، فنسينا نسيانا تاما مسرات الرحلة كأنها لم تكن وتمنينا الموت، وداعبنا أمل أن يعدل القائد عن خطته، وأن يقنع بما أنزل بنا من عقاب صارم، فتسترد الرحلة بهجتها المأمولة، وأحلامها الضائعة، ولكنه واصل سيره بلا مبالاة، ولم يكتف بذلك فصاح بصوت كالرعد: حركة سريعة، ابتدئ!
لم نصدق بادئ الأمر آذاننا، ثم بهتنا من شدة المباغتة، الحركة السريعة ندعى إليها عادة في مطلع الرحلة وفي ضوء النهار، أما أن تفرض علينا قبيل النهاية فشيء خارق وغير إنساني يراد به القضاء علينا. وإلى ذلك فهي نوع من الوثبات المتلاحقة في صورة جري متقارب الخطو، يقتضي استخراج البطاريات من جيوبنا الخلفية؛ لتنير لنا الطريق خشية أن نتعثر في نقرة أو نرتطم بحجر، فكيف يتاح لنا ذلك مع حملنا الثقيل، وتعبنا الأليم؟! ولا فرصة للتمرد فليس أمام الهارب من الطابور في ذلك المكان إلا الضياع في الصحراء والظلام، فلا مفر من الانصياع والإذعان. ومضى القائد يثب، فاندفعت دقات الطبول في تلاحق سريع، وشرعنا في الحركة السريعة، جربنا أن نمارسها مع الاحتفاظ بأحمالنا، ومع استغناء عن البطاريات، ولكن بدا ذلك ضربا من المحال، لا مفر من التخلص من أحمالنا العزيزة، لا مفر، حتى لو تعرضنا للكآبة والقرف والحرمان، لا مفر. وتخلصنا من البطيخ والسلال، تركناها لقى في الصحراء للحشرات والهوام، وأخذنا نثب بسيقان متهافتة، وعزائم خائرة، وقلوب باكية. مضينا يلفنا الظلام على ضوء البطاريات المتحركة في أيدينا كأننا نجوم متداعية، تبعث بإشعاعها الأخير قبل اندثارها النهائي، وتذكرنا بحسرة ساخرة فرحة الاستيقاظ، وبهجة الأناشيد، ودعابة الطريق ونشوة الحقل ومتعة الشراء، تذكرنا ذلك كله بذهول، ونحن نتقدم شبه عرايا منهوكي القوى إلى معسكرنا الرابض في أعماق الخلاء. وتقدمنا كما قدر علينا؛ وحتى الأسف لم يعد يجدي، ولم نهتم كذلك ما إذا كان ينتظرنا عقاب جديد أم سيكتفي بما حل بنا. وتاقت أنفسنا للنوم باعتباره الشفاء الأخير لجميع الآلام ، وأخذت دقات الطبول تبطئ رويدا رويدا إيذانا بتغيير الحركة وتقارب المعسكر، وعدنا تدريجيا إلى سيرنا العادي، ومن شدة الجهد لم نجد حاجة لتبادل همسة واحدة؛ فغاص كل في وحدته، وما ندري إلا ونحن ندخل في الممر الطويل الضيق؛ فتفعم أنوفنا روائح الكلس وعطن البول ... وفي الفناء امتدت تكويناتنا الرباعية لتصنع طابورا واحدا، فوقفنا متصبرين لنتقي التقوض والانهيار، وصمت قائدنا مليا، ربما ليتم تعذيبه لنا، ثم قال بصوت هادئ مليء بالنذر: انتهت رحلتنا، وغدا يجمعنا الحساب، أما الآن فتناولوا عشاءكم ثم أخلدوا للنوم.
ولم يهمنا إلا النوم.
أجل، ليكن الآن نوم، وليكن في الغد حساب.
العريس
عند تلك النقطة من الحديث مال نحوي حتى شعرت بأنفاسه تنداح فوق صدغي وقال: اعزم وتزوج.
استجبت لاقتراحه، كنت في الواقع أتلهف عليه، بت مؤمنا بأن الزواج هو المغامرة الوحيدة القيمة الباقية لي في الحياة.
قلت: فكرة طيبة. - وماذا تنتظر؟ - أنتظر العروس بنت الحلال. - هل بحثت عنها بجد؟ - لا وقت عندي للبحث.
فقال واهتمامه بالموضوع يزداد بقوة: يوجد حل لكل موقف معقد، ما هي شروطك؟ - عروس مناسبة، هذا ما أريد. - ست بيت أم عاملة؟ - ست البيت مفيدة والعاملة لها مزاياها غير المنكورة. - العاملة تملك إيرادا؟ - الفقيرة مقبولة عندي وذات الإيراد مقبولة أيضا. - لك مواصفات خاصة في الجمال؟ - حسبي أن تكون مقبولة. - شروطك يسيرة، أنت تريد امرأة حسنة المعاشرة. - بلا زيادة.
فقال بثقة: طلبك موجود، هل تعرف أسرة ميري؟ عابد ميري؟ كريمته هي من أرشحها لك.
وقادني ذات يوم إلى أسرة عابد ميري فقدمني لهم، الأب والأم والفتاة، والحق أني غادرت بيتهم عاشقا أو قريبا من ذلك، تبدت لي الفتاة مثالا للرزانة والأنوثة والكمال البيتي، أحببت وقار الأب وأبهة الأم، وفي ذلك اللقاء تم الاتفاق الأولي، وهو ما يقابل الترشيح للوظيفة في اصطلاحاتنا الحكومية، وبقي الأهم وهو مسوغات التعيين وتقرير مكتب الأمن، ومن ناحيتي تحريت عنهم فجاءتني تقارير متناقضة كالمتوقع، قيل لي: نعم التوفيق، أسرة ولا كل الأسر، ضمنت الطمأنينة والسلام في الحياة والموت.
وحذرني آخر قائلا: لا تغرنك المظاهر، ستخنقك أغلال العبودية.
وسمعت حكايات عن جنون بعض أفراد الأسرة، وانتحار آخرين، ولكن لم يوهن ذلك من عزمي، تحصنت بخبرتي الطويلة بالحياة والبشر، وأسكرتني نشوة متحفزة للمغامرة ودق أبواب المجهول، وقلت لنفسي إن الحياة نفسها شبيهة بهذا الذي يقال، تلقيناها وهي مثال للأمان حتى بعد الموت، ثم تكشفت لنا عن مجهول جليل، واحتمالات مبهمة، وما زلنا نعشقها، ونتعلق بأذيالها حتى الموت.
وفي الوقت نفسه تعقبتني التحريات تغوص في أعماق ذاتي وتاريخي، فساورني قلق غير قليل، ورجوت أن يسود التسامح وينتصر في النهاية، وجاءني صديقي الوسيط وقال لي: لم أعرف أسرار صحتك إلا هذه الأيام.
فدهشت وتساءلت: حتى عن الصحة يتحرون؟ - طبعا، كثيرون لا تزكيهم في الختام إلا صحتهم القوية! - إني بحمد الله أتمتع بصحة جيدة. - ولكن توجد رصاصة مستقرة من قديم في صدرك تحت الترقوة!
فضحكت منتشيا بالذكريات وقلت: ذلك تاريخ قديم. - ولكن كيف نفذت إلى صدرك؟
فقلت بعد تردد: في مظاهرة وطنية. - تلك حجة كل مصاب برصاصة قديمة. - أيمكن أن يشكوا في ذلك؟ - العجوز أصبح يشك في الثورة نفسها مع أنه كان من معاصريها، هو اليوم يقول إنه لم تندلع ثورة، ولم يطلق رصاص، ولم يستشهد أحد. - هذا جنون رسمي!
فابتسم الصديق قائلا: على أي حال فمن حسن الحظ أنه قيل له - عابد ميري - إنك أصبت بها في ملهى للغناء والرقص! - أتعد ذلك من حسن الحظ؟ - نسبيا، يمكن الدفاع عن عبث الشباب وطيشه، أما التورط في شئون السياسة فيعرض الإنسان لأخطار مجهولة؛ وبالتالي تتعرض لها أسرته، على أنني دافعت عنك في هذا الشأن. - ماذا قلت؟ - قلت إنك لم تنتم لحزب، ولا تنتمي لرأي، وأنك مخلص للدولة، لم تكن من الليبراليين، ولا الشيوعيين، ولا الإخوان، وذلك بلا شك يزكيك كزوج مأمون المستقبل!
فقلت بانقباض: ولكن من الظلم أن يقال إنني تعرضت للقتل في ملهى للرقص! - ما علينا، وما حكاية خوفك من الصراصير؟
فضحكت عاليا وقلت: حتى هذا؟ - قيل إنك تهدر وقتا ثمينا في رش المطبخ والحمام والحجرات، وإن منظر صرصور خليق بأن يفزعك لدرجة الصراخ، حتى ولو كان من النوع الألماني الصغير الرشيق! - أهكذا تصفه؟ - الأمر تافه، يبدو تافها، ولكن ماذا يعنيه؟ هذه هي المسألة، ويقال أكثر من ذلك إنك تتوهم أن البلد ستتحسن أحواله كثيرا إذا نجحت في إبادة الصراصير.
غضبت ولا شك وأنا أتابعه ثم سألته بازدراء: أيهتمون حقا في بيت عابد ميري بتلك السخافات؟ - يا عزيزي، إنهم يحترمون بعض الذكريات المتعلقة بالصراصير. - كلا! - هو الحق، كانت لهم جدة تؤمن بأن الصراصير تحمل بعض أسرار الوجود.
فقلت ساخرا: إذن نحاول احترام الصراصير حبا في آل ميري.
ورحت أفكر - عقب انفرادي بنفسي - في طريق الزواج المعقد وهوس التحريات التي تسبقه، كأن الناس يطمحون إلى الظفر بالتوافق المنشود بين الزوجين كاملا غير منقوص، جاهزا بلا عناء التجربة، قبل خوض الحياة الزوجية، متناسين قدرة الإنسان الخارقة على التكيف من تحديات الواقع؛ فالإنسان الذي عاشر عصور الصيد والرعي، والزراعة والقحط والجليد، فتغلب على عناء المواجهة وحل التناقضات القاسية، وحقق ذاته على الوجه المقبول الذي قرر له البقاء في الحياة، ذلك الإنسان قادر - بلا شك - على التكيف مع عروسه الجديدة مهما يكن من تنافر ماضيه وماضيها. وفكرت أيضا فيما كان يؤخذ علي في الماضي من عدم الانتماء لحزب من الأحزاب، وما رميت به بسبب ذلك من تهم البلادة وقلة التربية الوطنية، وغلبة العبث، والتفاهة والأنانية، وكيف انقلب ذلك إلى نقطة قوة تزكيني في غمار التحريات التي تنهال علي منقبة عن المستور من خطاياي! •••
وجاءني صديقي الوسيط بعد ذلك بأسبوعين؛ فتفحصته بقلق وقلت: طبعا ما زالت التحريات جارية؟
فضحك باقتضاب وقال: الحديث كان عن السلوك الشخصي. - هو على أي حال من ذيول الماضي الذي قررت تغييره من جذوره. - أنا نفسي قلت ذلك، ولكن الماضي يتمثل لبعض الناس وكأنه الحقيقة الوحيدة الراسخة. - يا له من موقف سخيف حقا!
فقال برقة ليخفف من وقع حمولته: كلام قيل عن القمار.
فهتفت من فوري: كلا، لست بطبعي مقامرا، لعبت مرات معدودات ثم لم أعد إليه. - والخمر؟ - اسمع، صدقني، دائما كنت وما زلت معتدلا، لم أفقد الوعي إلا مرة واحدة. - آل ميري لا يخافون الشراب بقدر ما يخافون عواقبه. - لم تكن ثمة عواقب وخيمة. - عابد ميري نفسه يشرب، وهو يغني إذا شرب، ولكن قيل له: إنك طولت لسانك مرة على الاستبداد، وأنت فاقد الوعي!
قلت لك إنني لم أفقد الوعي إلا مرة واحدة. - ربما وقع ذلك في تلك المرة، وعابد ميري يخاف أن يتكرر ذلك بعد أن تكون قد صرت زوجا وأبا؟
فقلت بحدة: لا أساس لخوفه صدقني، ثم لماذا تذكر تلك الزلة، وتنسى مجاملاتي الطويلة للاستبداد، وأنا في تمام الوعي؟! - الموضوع قابل للمناقشة؛ فلنتركه إلى حين، ولكن ما الرأي في ولعك بنسوان شارع محمد علي؟
فقلت وكل شيء يتجهمني: ماضي أي رجل لا يخلو من عبث مثل ذلك. - عابد ميري يسلم بالمبدأ، ولكنه يحتج على الذوق، وقال: إن يكن ذا ولع خاص بأولئك النسوة فكيف أتصور أنه يمكن أن ينسجم مع فتاة كريمة مثل ابنتي! - وهل يوجد فارق حقيقي بين كريمته وبين نساء محمد علي؟
فضحك صديقي وقال: آه لو سمعك تقول ذلك.
وساد صمت يغلفه الأسى، وارتسم الإشفاق على وجه صديقي، ولكني أشرت إليه أن يواصل، فقال: يتحدثون عن شقة مفروشة تملكها بناء وأثاثا! - وفي نيتي أن أقيم فيها بعد الزواج، ماذا في ذلك؟ - الشقة لا تهم، ولكن من دأبت على استقبالهم فيها! - ماذا يقصد الأوغاد؟ - ها أنت تغضب فيحسن بي أن أسكت. - هات ما عندك، وإن أردت جوابا فإني كنت أستضيف بها نخبة من الأصدقاء. - أصدقاء من نوع خاص، من إخواننا العرب الأثرياء. - استضفتهم بصفتهم أصدقاء لا أثرياء، وقد توطدت علاقتي بهم مذ أيام إعارتي للعمل في بلادهم. - أما أنا فأصدقك ولكنك تعلم كيف تترجم تلك العلاقات البريئة على ألسنة السوء؟
فاستشطت غضبا وهتفت: للصبر حدود. - لا تغضب، فذاك امتحان يتعرض له كل طالب زواج.
وعجبت - وحق لي أن أعجب - من تشدد الناس في تحرياتهم، وعجبت أكثر بالنظر إلى أننا نعايش فترة من الانحلال والفساد بات يضرب بها المثل، فلم يتشدد الناس في تحرياتهم كل ذلك التشدد، وهل يعتقد الآباء أنه يمكن أن ينتقوا أزواجا لبناتهم من منطقة مجهولة تقع خارج الزمن والتاريخ؟ وهل عش الزوجية أهم في حياتنا العامة من الوظيفة؟ وألا يضج الناس بالشكوى ليل نهار من الخدمات المبتورة - وضمنا - من المسئولين عنها؟ فكيف تزوج أولئك القادة، وكيف تفادوا من مطاردة التحريات؟!
ومضى حماسي للزواج بفتر، وندمت على تعريض نفسي لألسنة لا تعرف الرحمة ولا الحياء. •••
وبعد مضي ثلاثة أسابيع رجع إلي صديقي فبادرته من فوري: لن أستمر.
فقال بحدة: إني أحتقر الضعف، اصمد حتى النهاية، ولا تهز ثقتك الكاملة بنفسك. - سأخفق في الزواج وأبوء بسوء السمعة. - اعتبرني لم أسمع شيئا، واسمع أنت ما قيل عن عملك!
وأثار حب استطلاعي بقوة فلم يسعني تجاهله، قال: شهد لك كثيرون بالتفاني في العمل.
فلم أعلق وانتظرت متوقعا ما لا يسر. - ولكن قيل إنك تحب السلطة وتركيز كل نشاطك في يديك، ثم تنطلق شاكيا من عدم تعاون الموظفين معك! - لن أناقش، ولكن ما علاقة ذلك بلياقتي للحياة الزوجية؟ - كل سلوك مهما بدا عرضيا فله دلالته. - استمر. - وقيل كلام عن تحقيق أجري معك بخصوص بناء مجمع! - وماذا كانت نتيجته؟ التحقيق مجرد إجراء؛ فلا هو خير ولا هو شر، وها هم يرونني مستمرا في عملي، بل ترقيت مرتين بعد التحقيق، فما حكمة التنديد بي بسببه؟ - لك حق. - إذن فلنعتبر تلك النقطة منتهية. - ولكن قيل أيضا إنك هددت بجر آخرين أكبر منك معك فحفظ التحقيق! - عليهم اللعنة! - إنهم يستحقونها. - أتحداهم أن يثبتوا ذلك! - عليهم اللعنة، ولم يقفوا عند ذلك، بل جعلوا يتساءلون، كيف يعيش حياته المرفهة؟ كيف ملك الشقة المفروشة؟ والسيارة؟ من أين له ذلك؟
فكورت قبضتي غضبا وقلت: يتجاهلون ما ورثته عن والدي، كما يتجاهلون حقيقة أخرى؛ وهي أن بعض مؤلفاتي المدرسية مقررة في مدارس البلاد العربية ... فكل مصدر لإيراد عندي واضح وشريف.
توقعت أن يتكلم عن الذين قرروا كتبي وعن علاقتهم بالأصدقاء الذين أستقبلهم في الشقة المفروشة، ولكنه لم يفعل، كأنما نكص حيال درجة الحرارة التي ارتفع إليها حنقي، بيد أنه حدجني بنظرة قصيرة قرأت فيها ما تورع عن ترديده، وجعل يضحك ويقول: الرجل المخرف عابد ميري يميل إلى تصديق الأكاذيب، وفي آخر لقاء قال لي: إن سوء الظن من الفطنة، وأني بت أعتقد أن ذلك العريس هو المسئول عن 5 يونية؟
فصحت في ذهول: إذن فإني المسئول عن 5 يونية!
وغادرت المكان مسرعا لا أكاد أرى طريقي من الغضب، ماذا يعرف المخرف عن 5 يونية؟ إني مع التسليم بكافة جرائمي الخلقية، أعد أو يجب أن أعد من أشرف الرجال، وهل أغراني بالخطايا إلا الاقتداء بالآخرين؟! وكنت في الوقت نفسه ضحية، أجل ضحية لرؤسائي الذين ضربوا لي أسوأ مثل، وها أنا أحرم من جنة الاستقرار العائلي كأنني المجرم الوحيد!
وقررت العدول عن فكرة الزواج نهائيا.
وقلت لنفسي إنه ليس بالمرأة وحدها يحيا الإنسان.
وندمت أشد الندم على تعريض نفسي للزوبعة التي عصفت بها. •••
وكنت جالسا بمكاني المختار عندما لمحت صديقي قادما من بعيد، رددت في نفسي الكلام الفظ الحاسم الذي سأجابهه به، وقررت أن أعلن تمردي على الزواج إلى الأبد.
وبادرني الصديق قبل التحية، قائلا: عابد ميري يحييك، ويرجو أن تحدد موعدا لإعلان الخطوبة في أقرب وقت ممكن!
العري والغضب
ناعمة مستكينة، مهذبة غارقة في الطمأنينة، ملهمة لأحلام البيت السعيد، تنتشر كالشذى في أعماقه، فتشكل بضعفها المنساب طاقة مسيطرة بعون الإغراء والرغبات الدفينة، وكانت بمجلسها أمامه في الترام صورة مجسدة لأمنية عذبة غامضة، منعشة للروح، مبدعة للألفة الحميمة، فقال لنفسه إن هذا هو ما أبحث عنه. والتقت عيناها في حركة عفوية بعينيه المركزتين، فانتبهت من أحلامها، واعتدلت في جلستها، ونحت وجهها مدارية ابتسامة خفيفة جدا لإدراكها بأنها كانت موضع نهم والتهام. ودفعته الابتسامة إلى اتخاذ قرار جريء بتأجيل زيارته للمحامي - رغم دقة المرحلة التي تمر بها القضية - إذا دعت إلى ذلك فرصة طيبة، ولم يغادر مجلسه في محطة «المحامي»، لبث ينتظر حظه المجهول، ولكنه تذكر على رغمه المحن التي عاناها - هو وأسرته من قبل - ما يقارب ربع القرن، والتي احتوتها في النهاية القضية، فلم يمض قراره بلا قلق، ولكن هل تقوم القيامة إذا تأجلت الزيارة أسبوعا؟ وانقبض قلبه وهو يتخيل محاميه في غضبه لتخلفه عن الميعاد دون اعتذار، فإنه محام صارم، يحتقر المزاج ولا يحنو على الضعف البشري.
ولما رجع بوعيه إلى الجالسة قبالته ضبطها تنظر إليه في دهشة، فأدرك من توه أن انفعالاته قد ترجمت إلى تشنجات في قسمات الوجه وعضلاته، وربما تعدت ذلك إلى اليدين، أجل فإن ذلك مما يلاحظ عليه أحيانا، ولكنه ابتسم إليها بجرأة لا تعوزه في أمثال هذه المواقف فأحنت رأسها باسمة، عند ذلك حل الرضا بصدره، واطمأن إلى أن تضحيته لن تضيع في الهواء، وقامت فقام وراءها بتلقائية وبلا أدنى ارتباك، وبعد ثوان كانا يترامقان مواجهة على الطوار، على حين امتد وراءهما ميدان الضاحية، شبه خال، وقد احمر قرص الشمس إيذانا بالمغيب. تمتم: فرصة سعيدة.
فمضت إلى الطريق الوسطي دون أن تجيبه، ولكنها دعته بأسلوبها المشجع الصامت للحاق بها، ومشى إلى جانبها فتقبلت ذلك دون اعتراض فعاد يقول: فرصة سعيدة.
كان الطريق سكنيا بلا دكاكين، به قلة من المارة، وكثرة من السكان تتواجد في الحدائق، ولما لم يتبين لها هدفا قريبا فقد قال: يوجد قريبا من هنا فرع للفردوس.
ولكنها واصلت السير فسار إلى جانبها، وهو ينظر فيما أمامه متسائلا، ووجدها تتجه نحو بيت صغير من دور واحد، فاقتحمته دهشة وتلقى رد فعل حاد وأليم، صدق ما يرى بصعوبة واحتجاج وتبرم، وقال لنفسه: «حقا إنه لزمان زالت فيه الفوارق بين الأنواع.» وبتبدد الحلم لم تبق إلا الحقيقة القاسية المبتذلة، فشعر بتأنيب لتفويته ميعاده الهام بشأن القضية، وتبعها إلى الداخل بلا حماس يذكر. ووجد البيت صغيرا حقا، يتكون من صالة طويلة وحجرة وحيدة في النهاية. حجرة نوم آية في البساطة أو في الفقر، بها فراش ومشجب ومقعد وحيد، وحتى الفراش اقتصر تجهيزه على حشية ووسادة بلا غطاء، ولا ملاءة، وانبسطت أرض الحجرة الخشبية بلا سجادة ولا كليم، ولا حصيرة. ابتسم بفتور وهو يتذكر أحلامه المنتشية، وقال إنه لم يبق ما يستحق الاهتمام إلا المرأة نفسها، الجميلة ذات المظهر الخداع، ورجع المحامي يلح على وجدانه فسألها، وهو يعلم بالجواب مسبقا: يوجد تليفون؟
فهزت رأسها بالنفي وهي شارعة في خلع ثيابها، فقال مداعبا يأسه: صحتك.
فنظرت نحوه باهتمام، فرفع كأسا متخيلة في الهواء، ثم رشف رشفة، فابتسمت وواصلت خلع ثيابها في رسوخ المحترفات، حتى تبدى جسدها عاريا جميلا محايدا، ونظرت نحوه كأنما تحثه على الاقتداء بها، فأذعن لدعائها الصامت، وهو ينادي بإصرار حماسه الهارب. •••
وغادرت الحجرة فأشعل سيجارة، تابع الدخان بفتور وأسى، عاد يفكر بالقضية، وبالنقاط التي عن له أن يناقشها مع المحامي. لو وجد تليفونا لانتحل عذرا للرجل، واتفق معه على موعد آخر، ولا فائدة ترجى من الذهاب الآن لأنه سيجده منشغلا بموعد آخر، أو يجده قد غادر المكتب. وقد عاش زهرة عمره، ولا أمل له إلا كسب القضية، ولكن الله وحده يعلم ما عانت أعصابه طيلة تلك الفترة الغالية من العمر. - لا تلجأ إلى المحاكم، المحاكم حبالها طويلة. وهيهات أن تظفر في ساحتها بحاجتك. - وما عسى أن أفعل؟ - كما كان يفعل أجدادك، بل كما يفعل خصومك. - ولكن الزمن تغير. - الزمن لا يتغير، أنت الذي تغيرت. - إني رجل متعلم. - عليه العوض!
اليوم لا يدري إن كان أصاب أم أخطأ، ولكنه وقع في أسر القضية، فوكل المحامي، وتبارى المحامون، وتكلم الشهود، ولم يعد في الإمكان تغيير الخطة، وها هو عار ملقى على فراش عار على حين ينتظر المحامي ويتعجب! ولكن ألم تغب الفتاة في الحمام أكثر مما يجب؟ أي مظهر خداع، وأي آمال قد تبددت، يبدو أن الدنيا تتغير بأسرع مما يدرك، وقد ينزلق في هاوية مخيفة بسبب رغبته الملحة في الزواج والاستقرار، وفضلا عن ذلك فعليه أن يؤجل مشروع الزواج، حتى يتم الفصل في القضية، وإلا فما جدوى أن يتزوج اليوم ثم يشهر إفلاسه غدا؟! - هل تلجأ للقضاء لأنك متعلم حقا أو لأنك ضعيف؟ - إنك تتكلم يا عمي بلغة هيروغليفية. - ابصق على ذقني إن نجحت في ذلك السبيل مقاصدك. - نحن نتفاهم بلغة حية جديدة.
لا بد للحق أن ينتصر ولو طال الزمن، ولكن ما بال المرأة قد تأخرت؟ ماذا تفعل في الحمام؟ وبرم بالانتظار فغادر الفراش، فتح الباب نصف فتحة، أخرج رأسه فرأى الصالة غارقة في الظلام إلا شعاعا يترامى من منعطف جانبي، خمن أنه الحمام، تنحنح فلم يرد أحد، صفق فلم يرد أحد، سار على أطراف أصابعه نحو الضوء حتى وجد نفسه في الحمام ولكنه وجده خاليا. أدرك أنها اغتسلت ثم ذهبت إلى مكان ما - لعله المطبخ - فقرر أن يأخذ دشا، وتحت سيال الماء المتدفق انتعشت روحه وخف شعوره بالذنب حيال المحامي. أجل سيرميه بالإهمال؛ فهذا دأبه كلما قعد به عن الاتصال به عذر، ومع ذلك فعندما واظب على ملاحقته في الشهر الماضي ضاق به وقال له: يلزمك أعصاب من حديد لكي تواجه حياة العصر.
وقال له أيضا مازحا: إني أتوقع أن تجيئني المرة القادمة حافي القدمين، مرسل شعر اللحية والرأس، مسطولا كما يفعل شباب العالم الحر!
والمسألة في حقيقتها أن القضية هي حياته أما بالنسبة للمحامي فهي النشاط رقم كذا في جدول أعماله الحافل بأمور لا نهائية وهو - المحامي - رغم رسوخه في العلم، وقدرته الفائقة على الإنجاز، ورغم عطفه الشديد عليه، فإنه لا يكن له احتراما كافيا، وفي ساعة صفاء وهما يتناولان الغداء معا قال له: لولا اندفاعك الجنوني لما كان للقضية وجود أصلا.
فقال له بإصرار: إنها مسألة كرامة ... - ولكن حتى الاندفاع الجنوني يجب أن يقوم على أساس من العقل! - الحقيقة أنك لا تفهمني. - حقا! أأنت لغز؟ - إني أحترم أمورا تعتبرها أنت بكل بساطة خرافات وأباطيل. - لقد تأخرت يوما عن موعد هام لتشهد صلاة العيد فما معنى ذلك؟ - قصصت عليك عشرات القصص، ولكنك لا تصدق. - حقا؟ ... فماذا يعني جريك وراء النسوان وتقلبك في الحانات؟
عند ذاك قال بانفعال: أأنت محام أم مرب؟!
وغادر الحمام عائدا إلى الحجرة وهو يضمر لها - المرأة - عتابا على طول اختفائها، ولكنها لم تكن قد رجعت بعد، وذرع الحجرة ذهابا وجيئة ثم قرر أن يرتدي ملابسه. اتجه نحو المشجب ولكنه لم يجد لملابسه أثرا. ذهل، أجال بصره في أنحاء الغرفة ولكنه لم يعثر على شيء. أية مداعبة سخيفة. - رباه!
ندت عنه في ذهول أشد عندما تبين له أيضا أن ملابس المرأة غير موجودة. تفحص أنحاء الحجرة بغضب، نظر أسفل السرير، مضى نحو الباب وصفق بشدة. ولم يكن عرف لها اسما فصاح: يا ست!
وبنبرة أشد: يا هوه.
واندفع يفتش الشقة الصغيرة، الحمام مرة أخرى والمطبخ ولكنه لم يجد أثرا لإنسان، ومضى نحو باب الشقة فوجده مغلقا بإحكام فرجع إلى الحجرة، وهو يتميز غيظا وحنقا، واضح أن المرأة قد ذهبت، من السهل تصور أنها كانت مختفية في ظلام الصالة عندما دخل الحمام، ثم ارتدت ملابسها بسرعة، وأخذت ملابسه وذهبت، ما معنى ذلك؟ هل أرادت سرقته مع منعه من اللحاق بها؟ افتراض غير مطمئن، وثمة سؤال آخر، بيت من هذا؟ ... وأي علاقة للمرأة به؟ وكيف تتركه عاريا في هذه الشقة الجرداء؟!
وشعر بالعجز والقهر والضياع اللانهائي، لن يرجع إلى ما كان عليه، ذلك الرجل المحترم. إنه يودع حياة يعرفها ليستقبل حياة مجهولة مدمرة، ولكنه لا يريد أن يصدق، لعله مزاح ثقيل سخيف ليس إلا ...
ولكن الوقت يمر بلا مبالاة، وفجأة ضرب بيده على جبينه وهتف: مكيدة، إنها لمكيدة مجرمة!
لا تقع هذه الأمور مصادفة، إن أيدي خصومه تتراءى له، وهي تدبر بخبث وإحكام رامية في النهاية إلى إفشال القضية. يتذكر الآن أنه لمح المرأة في مشرب الشاي قبل أن يغادره ليستقل الترام، وأنها جاءت في أعقابه لتجلس أمامه، وسألته عن الساعة لتضبط ساعتها، وفي الحقيقة لتلفت نظره إليها، وأنها لم تكن ملاكا كما تصور - كيف تصور ذلك - فقد فرجت بين ساقيها العاريتين لحظة ثم ضمتهما بسرعة وحياء مصطنع، فظنها حركة بريئة طاهرة، ثم استسلمت لأحلام مجهولة في استرخاء ناعم، فكان بوسعه أن يدرك حقيقتها، ولكنه ثمل بخياله الجامح ، ورغباته الدفينة، فرأى ما لا وجود له وبنى عليه العلالي، واندلق كغر أبله، لقد أحاط خصومه بتحركاته وأهوائه فرسموا خطة محكمة، وأوقعوه بسهولة مخجلة ثم تركوه عاريا في مسكن مجهول ليتوقع قدرا مجهولا، وبمقتضى ذلك المنطق السليم القاسي فعليه أن ينتظر ضربة قاضية في المصيدة. - ما العمل؟
كيف يفر قبل أن يدهمه الخطر؟ وجال في المسكن مرة ومرة بلا جدوى على الإطلاق، ليس إغلاق الباب بمشكلة، فبوسعه أن يقفز من النافذة، ولكن كيف يواجه الطريق عاريا، هذه هي المشكلة، وأدرك أن خلو السرير من الغطاء والملاءة، لم يكن عن فقر أو مصادفة، ولكنه ضمن الخطة التي رسمت لحرمانه من أي شيء يستر به جسده. وقف وراء النافذة ينظر من خصاصها إلى الطريق المضيء الذي لا يخلو لحظة من عابر، كيف يمكنه أن يمضي فيه عاريا؟ وماذا يفعل عندما يبلغ الشوارع المزدحمة بفرض أن أمكن عبور هذا الشارع دون حادث؟! وسواء أبقي أم انطلق متخطيا حدود العقل، فسوف يقع تحت طائلة إحدى تهمتين خطيرتين، السطو أو الجنون، وكلتاهما خليقتان بزلزلة أركان القضية، فما العمل؟ ولم يشعر في وقت مضى بما يشعر به الآن بالحاجة الماسة إلى مشاورة محاميه لعله يهديه إلى منفذ في عالم القوانين المتشعب الذي يجهله كل الجهل. قال له ذات مرة: احرص على الجدية والاستقامة، فإن أي هفوة ماسة بسمعتك ستبدد مجهودي هباء.
فسأله ضاحكا: أتطالبني بالتقشف حتى يصدر الحكم؟ - ولم لا؟ - ومتى تراه يصدر في تقديرك؟ - آسف على أنك لا تحترم التقشف، وبخاصة في ظروفك الراهنة التعيسة!
واشتعل غضبا فهم بتعنيف الرجل. أكثر من مرة هم بتعنيفه، ولكنه كان يتذكر أنه لم يدفع له مليما واحدا سوى رسوم التوكيل، وأن الأتعاب مؤجلة ومنوطة بكسب القضية، فيرجع إلى عقله ويكظم غيظه ويسكت. والحق أنه لا يحب التقشف، بل إنه يضيق بمحاميه لتقشفه المعروف عنه، وأي قيمة للحياة بلا طعم لذيذ، وشراب هنيء، وعناق حار ومقام وثير؟! ذلك جميل حقا ولكن تحت شرط ألا يجد نفسه عاريا في بيت غريب، متوقعا بين لحظة وأخرى أن تدهمه ضربة قاضية.
وتساءل عما يراد به، هل يتركونه حتى يضطره الجوع إلى الخروج؟ هل يجيئون ليخيروه بين التنازل عن القضية، وبين استدعاء الشرطة لضبطه بالحال التي هو عليها؟
هذا أو ذاك أو غيرهما من الاحتمالات، كلها طريق واحدة تفضي إلى الضياع.
وغلى دمه.
كل شيء محتمل إلا تخيل ابتسامة الشماتة فوق شواربهم الغليظة.
وسمع صوتا فهرع إلى النافذة فرأى سيارة تقف أمام البيت. - كما توقعت قد جاءوا.
واندفع دمه في الغليان. ومن شدة القهر جن غضبه، واكتسح الغضب الخوف، فلم تبق في صدره إلا ألسنته المشتعلة. كان لعبة بأيديهم طيلة الوقت، ولكنه رفض أن يستمر لعبة وأضاء المصباح فتبدى عاريا، متجردا من الخجل والخوف، ها هي الحركة تدب خارج الحجرة، ستطالعه نظرات باردة وبسمات ساخرة فليبتسم وليسخر مثلهم. سيقول مقدمهم وهو يصطنع دهشة مقيتة: ماذا نرى؟
فيقول بهدوء تام: طال انتظاري لكم! - هكذا عاريا! - كما ترون!
وليكن ما يكون ولكن اللعبة لن تستمر.
واقتربت الأقدام ثقيلة وتطايرت الضحكات.
وانتظر ينظر في هدوء وتصميم وعناد.
غير مبال بالعواقب.
الجريمة
تلاشى الهدوء في رحاب التاريخ، تغيرت أشياء كثيرة، برزت معالم جديدة، ولكن بقي الحي الشرقي يزخر بالأزقة والحواري، والبيوت البالية، يقابله الحي الغربي بفيلاته الكلاسيكية، وعمائره الأنيقة الحديثة، هكذا وجدت الضاحية التي ولدت فيها بعد غيبة دامت ربع قرن، بهرني ميدان المحطة باتساعه، ومبانيه الحديثة وتمثال الفلاحة الناهضة، والشارع العريض الطويل الغائص في أعماق الضاحية، حتى المسلة القائمة في الحديقة الكبرى، كما بهرتني المصانع الجديدة بضخامتها ومداخنها النفاثة وضجيج آلاتها.
ورغبة مني في الاختلاط بالناس، وتوثيق علاقتي بهم قررت الإقامة في الضاحية فذهبت إلى مكتب سمسار للشقق، وجلست في الانتظار بين جمع من الرجال والنساء. جلست بوجه بسام مشحوذ الهمة للاستجابة لأي بادرة ودودة، ولكنهم كانوا منهمكين في الحديث: ألم يستدل على شخصية صاحبة الجثة؟ - كلا، وجدت مدفونة من سنين ومحترقة تماما. - كم سنة؟ - أربع أو خمس سنوات، هذا ما كتب في الخبر. - والقاتل ؟ - لم يعرف بعد، والأرجح أنهم عصابة؛ فالقتل والإحراق والدفن تحتاج إلى أكثر من مجرم واحد ...
وتداخلت في الحديث سائلا: ألم يعلن في الضاحية وقت ارتكاب الجريمة عن اختفاء امرأة؟
فساد صمت انقطع به الحديث مليا ثم قال شخص: لا يمكن تذكر ذلك.
فقلت: ولكنه لا يمكن أن يغيب عن تفكير المحقق.
لم تحز ملحوظتي قبولا فيما بدا لي، فأكدت غربتي بدلا من أن تفتح لي مدخلا إلى علاقة حميمة. وخفت أن أكثر من الأسئلة؛ فيساء بي الظن، وخاصة لشدة حساسيتي من ناحية المهمة التي أحمل أمانتها، وليقيني المستند إلى خبرة مهنتي بأن الأعين يجب أن تكون منتبهة تماما نحو أي دخيل قد يهدد أمن الضاحية وسرها العجيب، وجاء دوري للمثول أمام السمسار فوجدت في حجرته نفرا من المتعاملين، ووجدت أن حديث الجريمة يطوف بهم رغم انهماكهم في إنجاز أعمالهم، وحتى السمسار نفسه يشارك فيه: لا حديث للضاحية إلا الجريمة، يتردد في السوق والمكاتب والمصانع والأكواخ والفيلات. - ذلك طبيعي جدا. - وما الفائدة؟
فقال السمسار: ثرثرة، معالجة عقيمة للخوف والعجز، ثرثرة لا جدوى منها. - ثرثرة وأمان فارغة. - ولم الخوف، بالله، كأنما كل فرد من الضاحية يخشى نفس المصير؟
غادرت المكتب بعد أن أجرت حجرة مفروشة في مبنى بالحي الشرقي، وسط الجمهور الذي أعتمد عليه في استخلاص الحقيقة المنشودة، وتذكرت مقابلتي لرئيسي التي كلفت في ختامها بالمهمة. قال: ستذهب إلى الضاحية لجمع التحريات والمعلومات.
وقال أيضا: من حسن الحظ أن أحدا من رجال الأمن هناك لا يعرفك.
فسألت باهتمام وأدب: ولكن لم سوء الظن يا سيدي؟ - حسن، طمست معالم جرائم قبل ذلك، وقيدت ضد مجهول، لم تكن بفظاعة جريمة اليوم، ولكن ليس ما يمنع من أن يكون مصيرها كمصير سابقاتها. - ورجال الأمن هناك ماذا يفعلون؟ - أتريد رأيي؟ ... إنهم متواطئون، لعلهم يقومون بالدور الرئيسي في طمس معالم الجريمة ... - ولكن لماذا؟ - ذلك ما أود أن توافيني بأسبابه. - وأهل الضاحية ما موقفهم؟ - هذه هي المسألة. - أليست القتيلة منهم وكذلك القاتل؟ - إني أومن بذلك كل الإيمان. - إذن لم لا تكتشف الحقائق، ويقبض على المجرمين كما يحدث في كل مكان؟ - هذه هي المسألة.
كذلك دار الحديث قبيل تكليفي بالمهمة، لم تكن مهمتي إجراء أي تحقيق بصفة سرية لمعرفة شخصية القتيلة أو القبض على القاتل، وما كان ذلك بوسعي؛ لأنه لا يقع في اختصاصي من ناحية؛ ولأنه أمسى متعذرا ما دام قد مضى على تاريخ الجريمة حوالي الخمس السنوات. مهمتي كشف السر عن الأسباب الخفية لطمس معالم الجرائم في الضاحية، عن المصلحة المشتركة التي تشد الناس إلى ذلك؛ الفقراء والأغنياء ورجال الأمن.
غادرت حجرتي لأمارس العمل الذي اخترته عندما قابلني رسول جاء يستدعيني إلى مكتب الأمن. ذهبت من فوري قلقا متشائما، ما معنى الاستدعاء؟ ... هل رابهم شيء في سلوكي؟ هل أواجه التحدي وأنا لم أكد أشرع في العمل؟
ومثلت أمام الضابط الذي سألني عن اسمي وعملي، ذكرت الاسم وقلت: سواق تاكسي.
وقدمت بطاقة الشخصية والرخصة فراح يتفحصهما بعناية، وأنا مطمئن إلى أنه لن يجد ما يريبه فيهما، ثم تفحصني بنظرة ثاقبة وسألني: لم اخترت هذه الضاحية للعمل؟
فقلت بعد تفكر: إنه حق مشروع لكل مواطن ولا يستدعي في اعتقادي استجوابا.
فأعاد سؤاله ببرود: لم اخترت هذه الضاحية للعمل؟
فآثرت السلام حرصا على نجاح مهمتي وقلت: عملها المحدود مناسب لرزقي وصحتي، واتجه اختياري إلى هنا لأني أصلا من مواليد الضاحية. - ألك بها أهل أو أقارب؟ - كلا ... هجروها منذ حوالي ربع قرن ... - الجريمة خلقت نفورا عاما من الغرباء.
كدت أسأله هل عرفوا هوية المجرمين، ولكني أمسكت عن حكمة وتساءلت: هل تقرر إبعادي من أجل ذلك؟
فرد إلي البطاقة والرخصة وقال ببرود: اذهب ...
ذهبت وأنا أفكر بمدى ارتياب الرجل بي، ولكنني لم أجد في سلوكي ما يسوغ ذلك على الإطلاق، فنحيته عن شعوري لأمضي في طريقي بلا ظنون وهمية قد تربكني وتكشف سري. وكنت أوصل رجلين في التاكسي إلى المحطة عندما سمعتهما يتحاوران عن الجريمة: فظيعة فظيعة، أي قسوة! - كانت بارعة الجمال! - ولكن النار لم تبق منها على شيء؟ - أعني لو لم تكن جميلة لما تعرضت للقتل، أنت تفهمني طبعا. - طبعا، انقضاء خمس سنوات على دفنها يجعل العثور على دليل أمرا مستحيلا.
فتدخلت في الحديث قائلا: قرأت في الجرائد أنه يمكن بفحص الموميات علميا معرفة أسباب الوفاة، فإذا كان السبب جريمة أمكن بمناقشة الملابسات التاريخية تحديد القاتل في شخص أو طائفة. فضحك الرجلان وقال أحدهما: على عهد الفراعنة كان الناس يموتون أو يقتلون لأسباب مقنعة.
وضحك الرجلان مرة أخرى.
قلت لنفسي إن أحاديث الناس لا تدل على أنهم متواطئون، وتقطع بأنهم غير راضين حتى ولو كانوا متواطئين، فلماذا يشتركون في إخفاء معالم الجريمة، والتستر على القاتل أو القتلة رغم إرادتهم أو رغم نفورهم؟!
ومرة كنت أوصل أسرة إلى عيون المياه، فدار الحديث أيضا حول الجريمة. - ما يقال بخلاف ذلك فهو مجرد إشاعة. - أنت تعلم - كما نعلم - أنها الحقيقة ...
وتوثبت لإرهاف السمع، ولكني لمحت في المرآة امرأة تحذر المتكلمين مشيرة بذقنها نحوي! وجعلت أتقلب في شتى الأماكن كما أتابع الأحاديث في التاكسي، أسجل الكلمات في ذاكرتي، أناقشها، أفكر بأبعادها، أستنتج متعاملا مع الاستقراء والقياس، مستفيدا من كل ملاحظة.
وقد سألت رئيسي وكنت أزوره كلما أوصلت راكبا إلى العاصمة: ألا يوجد احتمال أن يكون مرتكب تلك الجريمة من خارج الضاحية؟ - ليس ذلك بالمستحيل، وفي تلك الحال تكون الجريمة عادية، وتأخذ العدالة مجراها. - ما الذي يحمل فقراء الحي الشرقي على الاشتراك مع سادة الحي الغربي في إخفاء جريمة رغم حدة التناقضات بين الجانبين؟ - تساؤل يقطع بأنك بدأت تضع قدمك في الطريق الصحيحة. - أرجح أن يكون القاتل من السادة! - تفكير سليم جدا! - هل يعني ذلك أن القتيلة من الجانب الآخر؟ - قد وقد ... - السر إذن يكمن في المصلحة المشتركة بين الجميع حتى رجال الأمن أنفسهم؟ - هذه هي المسألة.
وعلمت مما يقال في الضاحية أن الجثة اكتشفت وهم يحفرون الأساس لبناء مصحة الأمراض العقلية، وعرفت أول من عثر عليها من البنائين، وهو صعيدي من هواة الجلوس في مقهى الشمس بالحي الشرقي. وعملت على التعرف به ومجالسته فشربنا الشاي معا ، وسألته: كيف كان شعورك عندما عثرت على الجثة المطمورة؟
فقال بفخار: ناديت أصحابي ثم جاءت الشرطة ...
تبادلنا حديثا سطحيا مؤجلا الأسئلة الهامة للقاء آخر، ولكني لم أعثر عليه بعد ذلك، وقيل إن ظروفا اضطرته للسفر فورا إلى الصعيد ... ترى هل وقع ذلك بمحض الصدفة؟ ساورني القلق فخفت أن أكون مراقبا على غير ما أتصور، وشحذت انتباهي ما وسعني ذلك، ولكني لم أكف دقيقة عن نشاطي المرسوم. فتحت صدري لكل علاقة، استكثرت من الأصدقاء، قدمت الخدمات بلا حساب، وظل حديث الجريمة يجري على كل لسان، في البيت والمقهى والسوق والتاكسي، يتردد بغيظ وحنق، وأحيانا بسخرية، ولكنه لا يشق حجاب الغموض أبدا، ثمة شيء في الأعماق يعوزه التعبير، يكبته أنه في اللاوعي، أو الخوف أو الخجل أو الرغبة المحمومة في الهرب، ولاحظت ذات يوم - وأنا في السوق - أن امرأة فقيرة دمعت عيناها وهي تصغي إلى حديث الجريمة الذي لا ينقطع، جذب وجهها عيني بفقره وجماله الذابل المتواري وراء غلاف من الإهمال والتعاسة، ترى هل تبكي بدافع عاطفة إنسانية عامة أو لأسباب أشد خصوصية؟ وقررت في الحال تعقبها من بعيد لعل وعسى، ولما وصلت إلى آخر منطقة في السوق اعترضني صوت قائلا: ها أنت تهيم على وجهك مهملا عملك!
التفت فرأيت الضابط واقفا يرمقني بنظرته الباردة، فقلت: جئت أتسوق. - وأين التاكسي؟ - في الميدان الجديد.
ومضى إلى سبيله تاركا إياي في حيرة، فتشت بعيني عن المرأة، ولكنها كانت قد ذابت في الزحام، ورجح لدي أنني أواجه تدبيرا محكما لا صدفة عمياء، وأن علي أن أضاعف من الحذر.
وتفرغت لعملي كسواق تاكسي أياما متتابعة، وكلفت خاطبة أن تبحث لي عن عروس مناسبة، ثم تسللت ذات ليلة، عند منتصف الليل، إلى الحانة الموجودة عند مشارف السوق، وجدتها مكتظة بالشاربين، تضج بالنكات والأغاني، حارة بالأنفاس والدخان والهواء الفاسد. شربت قليلا ولكني تظاهرت بالنشوة والمرح، وأرهفت حواسي لتصيد الفلتات والشوارد. وكالعادة تطعم كل حديث، كل مزاح، بحديث الجريمة. قلت لنفسي متعجبا: كأنهم جميعا مجرمون أو ضحايا أو الاثنان معا.
وسمعت ضمن الأحاديث حوارا ذا دلالة فيما أعتقد. قال الرجل محتجا: نحن ضعفاء.
فأجابه بحدة: بل جبناء. - ماذا تفعل إذا اعترض سبيلك سياج من النيران؟ - أرمي بنفسي فيها؟ - ارم بنفسك وأرنا شجاعتك.
وعربدوا ضاحكين، وانثال علي نثار من الكلمات صالح لدى ربطه، وإعادة تكوينه لإعطاء اعترافات خطيرة أو ما يشبه ذلك. تابعت ذلك وأنا ألهث من شدة الانفعال، وشيء جذب رأسي نحو مدخل الحانة كما يقع لدى توارد الخواطر، فرأيت الضابط يتسلل خارجا! أفقت من نشوتي وانفعالي، وتنبهت في غريزة المهنة فأدركت فداحة الخطر الذي يحدق بي، امتلاك سر خطير من هذا النوع يعني الهلاك، وأنا خبير بأساليب مهنتي؛ ولذلك فعلي أن أفكر بصفاء ذهن. يجب مغادرة الحانة قبل أن تفتعل معركة من أجل القضاء علي قضاء وقدرا، يجب تجنب السير في الشوارع الخالية، لا تستقل التاكسي حذرا من انفجاره لأسباب مجهولة، لا ترجع إلى حجرتك حتى لا يغتالك كائن جاثم في ركن منها، إلى المحطة رأسا عن طريق شارع المسلة، وهناك تتعدد الوسائل للوصول إلى العاصمة.
وفي صحن المحطة شعرت بيد توضع على كتفي فالتفت متوثبا فرأيت الضابط، وقفنا نترامق مليا حتى ابتسم قائلا: جئت لأودعك بما تقضي به أصول الزمالة.
عدلت عن المكابرة وتمتمت ساخرا: شكرا.
وهو يضحك: ولم تترك التاكسي وراءك بلا سائق؟
فقلت ساخرا أيضا: أتركه في أيد أمينة!
وهو يعاود الضحك: ترى ما الملاحظات التي تمضي بها؟
ففكرت غير قليل ثم قلت: إنكم لا تؤدون واجبكم! - الناس لا يتكلمون. - أعلم أن أرزاق البعض بيد البعض الآخر، ولكن الغضب يتجمع في الأعماق وللصبر حدود.
فهز رأسه باستهانة وتساءل: ما واجبنا في رأيك؟ - أن تحققوا العدالة. - كلا. - كلا؟! - واجبنا هو المحافظة على الأمن. - وهل يحفظ الأمن بإهدار العدالة؟ - وربما بإهدار جميع القيم! - تفكيرك هو اللعنة. - هل تخيلت ما يمكن أن يقع لو حققنا العدالة؟ - سيقع عاجلا أو آجلا. - فكر طويلا بلا مثالية كاذبة، قبل أن تكتب تقريرك، ماذا ستكتب؟
فقلت بامتعاض: سأكتب أن جميع القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب!
المقابلة السامية
قمت بجولة في العمارة الجديدة الخالية، هي جديدة بكل معنى الكلمة، فواحة برائحة الطلاء ما زالت، تحتل مربعا صقعا، وعما قليل تعلق في أعلى مدخلها لافتة كبيرة تحمل اسم مصلحتنا العتيدة، وكنت وراء الملابسات السعيدة التي أدت إلى اختيارها وتأجيرها للمصلحة. كنت كاتبا منسيا بالأرشيف، ولكني اخترت كاتبا للجنة التي شكلت للبحث عن مقام جديد للمصلحة، يضم أشتاتها المتناثرة في أحياء متباعدة بالمدينة الكبيرة، وكنت أعبر الطريق كل صباح أمام موقعها في مسيرتي اليومية إلى المصلحة القديمة، فدعوت اللجنة لمشاهدتها، وسرعان ما اتخذت الإجراءات الإدارية ثم توقع العقد مع مالكها.
قمت بجولة في العمارة الجديدة الخالية، لم تكن إجراءات النقل قد بدأت بعد، وكنت مارا كالعادة في الصباح، فأغراني الزهو وشعور وهمي بالملكية، بالقيام بجولة بيروقراطية، وكان البواب قد عرفني في الزيارات الرسمية السابقة فاستقبلني باحترام جاهلا - لطيبة قلبه - مدى البؤس الذي أعانيه كموظف منسي حقير، ذلك البؤس الذي أكده كوني رب أسرة مكتظة لا تذوق اللحوم إلا في المواسم.
وفي فناء العمارة صادفت رجلا لا أدري من أين جاء، غاظني منه بصفة خاصة أنه كان يسير بأقدام ثابتة شديدة الرسوخ والثقة. ظننته جاء يبحث عن شقة يستأجرها، فتوقعت منه تحية متوددة، ولكنه تجاهلني بادئ الأمر تماما، ومضى يلقي على ما حوله نظرات متعالية خليقة بأن تثير حنق موظف - مهما قيل عن تعاسته - فهو مكتشف العمارة، فضلا عن أنه ممثل السلطة التي ستحتلها بعد أيام قلائل، وتحفزت للتحرش به ولكن في حدود المعقول إذ كان ربعة متين البنيان مهيب الطلعة، وإذا به يبادرني - بلا تحية - قائلا: أنت من طرف أصحاب العمارة؟
فقلت باعتزاز: أنا عضو لجنة المصلحة التي استأجرت العمارة.
فقال بهدوء: عظيم، أريد أن ألقي نظرة عامة على الداخل. - ولكن من حضرتك؟
فقال بتلقائية وبساطة: أنا مدير المصلحة!
صعقني قوله فتشنجت أطرافي، وسرعان ما انحنيت بطريقة آلية كرد فعل سريع للشحنة الكهربائية التي بعثها شخصه في كياني المتهالك، وقلت بخشوع: لا مؤاخذة يا صاحب السعادة.
فقال بعدم اكتراث: تقدمني.
اعتبرت أن السماء فتحت أبوابها في وجهي وأغدقت علي بركة ورحمة باختياري مرشدا لسعادته، وتقدمته في رشاقة، من مكان لمكان، واصفا الموقع، معددا المزايا، مستجديا نظراته الكريمة إلى الحجرات والأبهاء والردهات، مشيرا بمنتهى الذوق واللباقة إلى المرافق، وتطوعت قائلا: أعتقد يا صاحب السعادة أن الدور الثالث هو أليق الأدوار بمقامكم؛ فهو مرتفع لدرجة لا بأس بها تعتبر مانعا حاسما لضوضاء الطريق، وفي الوقت نفسه لا تعد مشكلة في الصعود أو النزول في حال تعطل المصعد.
وفي فرصة تالية قلت: الركن البحري ذو مزايا جغرافية لا يستهان بها فالطريق يحده من جهتين، أما الجهة الثالثة فتقع بها محطة بنزين منخفضة، فهو ممر دائم للهواء وضوء الشمس.
وفي فرصة ثالثة قلت مشيرا إلى أضخم حجرة: هذه حجرتكم، وممكن وصلها بالحجرة التالية، بهدم الجدار لتتسع للاجتماعات، وشق باب في الجدار القبلي ليفتح على السكرتارية الخصوصية.
وقرأت أثر ذلك كله في وجهه السمح رضا وارتياحا، ورجعنا إلى الفناء بعد جولة سعيدة موفقة، وأنا ثمل بإلهام سماوي من عنف الفرح.
وتفضل سعادته فسألني: وأنت في أي إدارة؟
فقلت متلقيا طاقة النجاة ببراعة: كاتب بالأرشيف يا صاحب السعادة، كاتب منسي، ولي شكوى قديمة ...
ولكنه قاطعني قائلا: فيما بعد ... فيما بعد.
فاعتذرت عن تسرعي قائلا: لا مؤاخذة يا صاحب السعادة، سأرفع مظلمتي فيما بعد!
ومضى إلى الخارج وأنا أهرول في أثره فصادفه بياع جرائد، فأخذ مجلة وكتابا بلغ ثمنهما خمسة وعشرين قرشا، وتبين لي أن المدير لا يجد نقودا صغيرة تفي بالثمن وأن البياع لا يملك فكة لورقة كبيرة، حتى هم المدير بإرجاع المجلة والكتاب، ولكنني بادرت - مدفوعا بأريحية ملهمة - بدفع المبلغ المطلوب، وتردد المدير قليلا ثم سلم بالواقع قائلا: تعال من فورك إلى مكتبي لأخذ نقودك.
وذهب يتمتم: شكرا.
تركني في دوامة من انفعالات السعادة والأشواق إلى المجهول، بحيث كان من أيسر الأمور أن تصدمني سيارة، وأنا غارق في بحر الوجد والأمل، وثبت في يقيني أن صفحة جديدة من الإشراق تفتح في تاريخي المليء بالمتاعب والمحن؛ فقد تعرفت بالمدير العام، وعملت له مرشدا، وأطلعته على سوء حالي، ووعد بالنظر في مظلمتي، وفي لحظة مباركة محفوفة بأنفاس الملائكة أصبحت له دائنا بخمسة وعشرين قرشا. ومعاذ الله أن أطالبه بالدين أو أن أذكر أحدا به؛ فهو القربان الذي يهبني عطفه ويفتح لي عند الضرورة بابه. أجل إنه مبلغ جسيم يقتضي اتخاذ إجراءات تقشف جديدة حتى يتحقق نوع من التوازن يكفل لي أدنى مراتب الحياة حتى ينقضي الشهر، ولكن كل شيء يهون إلا أن أقطع بيدي أسباب القربى التي تشدني إلى رحمته.
وتم النقل إلى العمارة الجديدة، وكالعادة استقر بنا المقام - نحن موظفي الأرشيف - في البدروم، ولم أكف عن التفكير في العلاقة الخفية السعيدة التي تربطني بصاحب السعادة، ولم أذهب إلى مكتبه للمطالبة بالمبلغ كما أمر ولم يرسله إلي مع أحد موظفي مكتبه والحمد لله. ومرت الأيام تباعا حتى ساورني خوف أن يكون قد نسيني في غمار شواغله الكثيرة اللامحدودة، وأن تفلت من يدي فرصة العمر. واستخرت الله، وتحوطت عليه ثم قررت أن أطلب مقابلة المدير العام، وقصدت حجرة السكرتير الخاص ولكن الساعي اعترض سبيلي، وأفهمني أن السكرتير مشغول جدا، وأبدى استعدادا لإبلاغه عن حاجتي، فقلت له: أرجو تحديد موعد للتشرف بمقابلة المدير العام.
فخطف الساعي نظرة جانبية من بدلتي المهلهلة، ولكنه غاب عني دقيقة وراء الباب المغلق ثم رجع وهو يقول: اكتب حاجتك على عرضحال تمغة، وأرسلها بالطريق الإداري المتبع.
ولم تجد معه أية محاورة فقد وجدته مغلقا صامدا، مثل الباب الذي يجلس أمامه، ورجعت إلى مكتبي فريسة لقهر معذب، ولكن بإرادة مصممة على الوصول مهما كلف الأمر، ومن توي لجأت إلى رئيسنا في الأرشيف وهو كهل يشاطرنا البؤس والهوان، ولا يتقدمنا إلا في العمر، فطمعت أن أجد عنده تجاوبا ورحمة. كاشفته برغبتي في مقابلة المدير العام وسألته الرأي والنصيحة فسألني: ولم تسعى إلى هذه المقابلة العسيرة؟ - أريد أن أعرض عليه شكواي. - ألسنا كلنا في البلوى سواء؟ - ولكنه شجعني على ذلك! - حقا ؟! ... متى وكيف؟
فقصصت عليه الجانب الذي يهمه من لقاء العمارة، فتفكر قليلا ثم قال: تلك كلمة طائرة عابرة لا يعول عليها. - لن أضيع على نفسي وأولادي فرصة قل أن تجود بمثلها السماء. - نصيحتي أن تقلع عن تصميمك.
فهتفت بحماس: إنه أمل حياتي الوحيد.
فجعل يهز رأسه مفكرا فلم أر مفرا من إطلاق الرصاصة الأخيرة، فهمست في أذنه: سأودع لديك سرا في ضميرك النقي، لقد اقترض سعادته مني خمسة وعشرين قرشا!
نظر الكهل في وجهي بذهول متجسم فقلت بحرارة: صدقني فأنا أحادثك، وأنا في كامل قواي العقلية.
وقصصت عليه قصة النقود التي أدينه بها فسألني بارتياب: هل سبق لك أن رأيت مديرنا العام؟ - كلا. - من أدراك أن ذلك الرجل هو المدير؟ - لا شك في ذلك ألبتة. - ولم لا يكون رجلا عابثا استغل طيبة قلبك؟ - مستحيل ... دعني أصفه لك ...
ولكنه قاطعني قائلا: لا جدوى من ذلك؛ فأنا لم أره إلا لمحا منذ سنوات ومن بعيد. - على أي حال أنا واثق من أنه المدير العام. - حكايتك حكاية ...
فقلت متجاوزا الجدل: خذني على قد عقلي، ودلني على كيفية رفع شكوى للمدير العام. - عظيم، تكتب الشكوى على عرضحال تمغة، وتقدمها إلي بصفتي رئيسك المباشر، فأعتمدها، ثم ترفع إلى مدير الإدارة ليعتمدها بدوره، ثم ترفع إلى المراقب العام ليعتمدها بدوره، ثم ترسل إلى مكتب المدير العام، وثمة نصيحة لوجه الله، وهي ألا تذكر أمام أحد حكاية الخمسة والعشرين قرشا!
وكتبت الشكوى بعناية، قدمتها لرئيسي المباشر، وقع عليها برجاء العطف، ومضيت بها إلى سكرتير مدير الإدارة، دسها تحت تل من الشكاوى، ثم انصرف إلى عمله، سألته: متى تتفضل بعرضها على مدير الإدارة؟
فأجاب دون أن يرفع بصره عن أوراقه: لا شأن لك بذلك. - ولكنها شكوى من نوع خاص، أعني أنني ما كتبتها إلا بإيعاز من سعادة المدير العام نفسه!
فرمقني بنظرة غريبة وتساءل ساخرا: سعادتك قريبه؟ - تلك هي الحقيقة بلا سخرية. - ستعرض في حينها أو خذها واذهب. - لا تزعل، متى أرجع لآخذها؟ - بعد أن يتم عرضها. - ومتى يتم عرضها إن شاء الله؟ - ستعرض في حينها.
وانصرف عني بحركة حاسمة طاردة فرجعت إلى مكتبي، وأنا أسب الكادر وشاغليه ما عدا سعادة المدير العام طبعا، ورجوت رئيسي أن يتشفع لي عند سكرتير مدير الإدارة، ولكنه رفض بغرور الشاب وقلة أدبه، ومرت الأيام وأنا أنتظر وأتصبر.
وذات صباح وزميل لي يراجع معي ميزان الوارد مال نحوي وسألني هامسا: هل حقا أقرضت المدير العام خمسة وعشرين قرشا؟
فانزعجت جدا وتولاني الذعر وسألته عمن أخبره بذلك، فقال إنه سمع همسا يدور حول الموضوع في الأرشيف. يا دافع البلاء ارحمنا، واتهمت رئيسي ولكنه أقسم لي بأولاده أنه لم ينبس بكلمة واحدة، فاتهمت زوجتي - ولها صديقات بين زوجات الموظفين - ولكنها أنكرت إما عن صدق أو عن خوف، انسكب سم القلق في نفسي، وتوهمت أن الأنظار تلاحقني بدهشة وسخرية، وأن أصحابها عما قليل سيرمونني بالعته أو الجنون؛ ولذلك كان علي أن أسرع في مسيرتي قبل أن يقع ما ليس في الحسبان. وذهبت إلى سكرتير مدير الإدارة، فلم يرد تحيتي ولكنه أشار بامتعاض إلى شكواي فتناولتها شاكرا، وهرعت من فوري إلى سكرتير المراقب العام، قدمت الشكوى، أردت أن أشرح له أهمية الموضوع ولكنه بادرني قائلا: اتركها واذهب.
ولكي أرضيه تحركت نحو الباب غير أنني سألته: متى أرجع لتسلمها؟ - لا ترجع.
فمن اليأس تجرأت على أن أسأل: والشكوى؟
فرفع عينيه إلى السقف كأنما يشهد الله على قحتى، وعند ذاك تطوع أكثر من شخص من المحتشدين في الحجرة ينصحونني بالامتثال وتنفيذ الأمر، حتى بهت واجتاحني الخوف، وتطوع الساعي لأخذي من ذراعي بلطف يوحي بالعطف، وأفهمني في الردهة بأن مكتب المراقب العام يرسل بريده مباشرة إلى مكتب المدير العام. - وكيف أعرف أنها أرسلت؟ - تعال بعد أسبوع أو عشرة أيام، وقابل كاتب الصادر بمكتب المراقب العام، فيعطيك الرقم والتاريخ وبهما تستدل على مصير شكواك في مكتب المدير العام.
فقلت مداريا عجزي: تصور أنني سألقى من الاحترام في مكتب سعادة المدير العام، ما لم ألق واحدا على مائة منه في مكتبكم !
فدعا لي الساعي قائلا: ربنا يرفع قدرك أكثر وأكثر.
رجعت إلى مكتبي، قلت لنفسي اشتدي أزمة تنفرجي، وقلت أيضا إن عذاب تلك الأيام سيكفل لي دخول الجنة بغير حساب، وقلت أيضا إنه ليس بعد الظلام إلا النور، وإنه إن عاجلا أو آجلا فسوف تدركني رحمة مفرج الكروب. أما الأعين الساخرة فلم تعتقني، لم ترحمني، ولم تقنع باستراق النظر، فهذا زميل يتساءل: كيف ... متى ... في أي ظروف غريبة أقرضت المدير العام خمسة وعشرين قرشا؟!
وهذا آخر يسأل: ألم يرد المدير العام دينه؟
ومرة لاحقني صوت يقول: هذا هو الشحاذ الذي أقرض المدير العام.
فدعوت الله أن يمدني بصبر نبيه أيوب، وظل أملي في رحمته قويا لا يتزعزع، وتذكرت سخرية آل نوح منه وكيف كانت العاقبة للمتقين، ولم أذهب إلى كاتب الصادر بمكتب المراقب العام إلا بعد مرور أسبوعين كاملين، فأعطاني رقم وتاريخ الكتاب الذي أرسلت معه الشكوى إلى مكتب المدير العام وسألته بأدب: متى يمكن أن أعرف النتيجة في مكتب المدير العام؟
فأجابني بامتعاض وحنق لا مبرر لهما على الإطلاق: علم ذلك عند علام الغيوب!
على أي حال قد وصلت الشكوى إلى مكتب المدير العام، وسوف يتذكرني من فوره، ولعله يستدعيني إلى مقابلته، أو يجبر في الأقل خاطري، وانهارت علي الأحلام السعيدة، ومنيت نفسي بترقية أو علاوة تدعم رزق الأولاد، وكنت راجعا إلى الأرشيف حاملا البريد، وأنا أتلو آية الكرسي عندما اعترضني موظف ومضى يسألني: هل حقا ...
وكنت قد ضقت بتحرش الساخرين فقاطعته قبل أن يتم كلامه: اخرس يا قليل الأدب.
فتراجع الرجل ذاهلا وهو يقول: أنت مجنون بلا شك.
فصحت به: اذهب وإلا خلعت الحذاء ومزقته على رأسك.
وسرعان ما حال بيننا أهل الخير والشر، وبعد يوم استدعيت إلى إدارة التحقيقات، قال لي المحقق: أنت متهم بالاعتداء بالقول على مراجع الحسابات، وبالشروع في ضربه.
فقلت بذل: أنا رجل مسكين، لقد أراد أن يسخر مني فزجرته، هذا كل ما حصل.
وقال مراجع الحسابات إنه أراد أن يسألني عن ورود مكاتبته من الخزانة ، وشهد على صدق قوله زملاء له وزميلان من الأرشيف. وصح صدقه حتى لي أنا، وأدركت أنني أسأت الفهم والتصرف، ودافعت عن نفسي قائلا: كثيرون يسخرون مني وقد حسبته واحدا منهم.
وسألني المحقق: لم يسخرون منك؟
فلذت بالصمت ولكن كثرة من الشهود فضحت حكاية القرض حتى هتفت: ذاك محض افتراء، واقعة لا أساس لها، ألصقت بي ظلما.
وكادت المناقشة بيني وبين الشهود تجاوز حدود الأدب إلى العنف، وغادرت إدارة التحقيقات مغلوبا على أمري تماما، وبعد أيام استدعاني رئيسي الكهل وقال لي بحزن: تقرر خصم خمسة أيام من مرتبك.
فصرخت: ذلك ظلم بين، أنا لا أكاد أجد قوت الأولاد. - ليتك تمالكت أعصابك. - أخطأت، ولكن لي عذري، ترى هل تبلغ حكاية القرض مسامع سعادة المدير العام؟
فقال الكهل بثقة: لا يجرؤ أحد في المصلحة على إبلاغها له.
رغم أحزاني جميعا؛ فإن ثقتي بالله لم تتزعزع، وقلت لنفسي إنه - جل جلاله - سيخرجني من أحزاني كما أخرج يوسف من سجنه، وبقدر ما حل بي من سوء تماديت في تخيل السعادة الموعودة وآمنت بإقبالها القريب، وانتظرت طويلا ثم ذهبت إلى كاتب الوارد بمكتب صاحب السعادة لأسأله عما تم في شكواي، فقال لي بجفاء مجهول الأسباب: إني أخصص يوم الخميس للاستفسارات.
وكان اليوم الأحد، ولكني كنت قد لقنت الحكمة في إدارة التحقيقات فرجعت بلا تعقيب، وشكوت حالي إلى رئيسي فمضى بي إلى وكيل المخازن، وهو صديق رئيسي وقريب لكاتب الوارد، فقبل الرجل أن يتلفن إلى قريبه مستفسرا عن شكواي، ولبث يصغي إلى كلامه غير المسموع لنا، ثم أعاد السماعة وقال: آسف، لقد حفظ الطلب!
اغتالني الخبر فسقطت آمالي جثة هامدة، وقلت وأنا مطمور تحت الأنقاض: هل عرض الطلب على سعادة المدير العام؟ - طبعا، هو الذي أمر بالحفظ. - مستحيل!
فابتسم الرجل بلا تعليق فقلت: كنت أتوقع أن يدعوني لمقابلته!
فحدجني الرجل بنظرة غريبة دون أن ينبس، وعدت مع رئيسي وأنا أقول: لا أصدق.
فقال الكهل بنبرة مواسية: ولكنه المصير المحتوم لجميع الشكاوى. - ولكنه أوعز إلي بكتابتها. - ما زلت أعتقد أنك كنت ضحية رجل مهذار. - كلا ... كلا. - إذن فلعله نسي، وشواغل المدير تنسي. - والعمل؟ - سلم لله أمرك.
ولكن الإصرار كان قد ملك علي أمري، وبكل همة رحت أتحرى مواعيد المدير وحركاته وسكناته، وقررت ألا أذعن للقوة الباغية ولا للأوامر المكتبية العمياء. •••
وتحركت سيارة المدير لتنتظره أمام العمارة، وقف البواب والسعاة صفين بالإضافة إلى شرطي الحراسة، وكنت متواريا وراء لافتة كبيرة في المدخل سجل عليها دعوة لمزايدة، وترامت من ناحية الفناء ضجة وتراءى موكب المدير قادما، وعندما حاذاني في سيره بسملت ثم وثبت نحوه لأجثو بين يديه مستعطفا.
وصاح رجل: المجنون ... حذار يا صاحب السعادة ...
ووقع اضطراب شامل وضوضاء عالية.
لم أدرك بوضوح ما حدث، مادت بي الأرض، حوصرت تحت ضغط عشرات من الأيدي القوية.
ماذا أقول بعد ذلك؟ لقد جرى معي تحقيق خطير باعتباري مجرما سياسيا، ولما تبين لهم خطأ الرأي وجهوا لي تهمة الشروع في الاعتداء على المدير، انتقاما لحفظ شكواي.
وقد تعلمت في السجن حرفة النجارة، وفي ميدانها أكدح اليوم لتربية الأولاد.
أهلا
دقة أيقظته من شروده، دقة ماسح الأحذية التقليدية، رفع عينيه عن النارجيلة، فرآه واقفا يرمقه بعين صياد، مضت لحظة وهما يترامقان ثم تهلل وجه الرجل، هو أيضا ابتسم. - حمدا لله على السلامة يا بيك. - أهلا ... كيف حالك؟
وأشار إليه فقرفص عند قدميه فأعطاه حذاءه، لم يره منذ عشرين عاما، منذ انقطع عن المقهى القديم، كان فتى يافعا متين البنيان، متدفق الحيوية، يطوف بأرجاء الحي في رشاقة النحلة، يمسح الأحذية، ويروي النوادر والملح ... ها هو قد جف عوده وتغضن وجهه وأدركته شيخوخة مبكرة. - لم أرك منذ عمر طويل يا بيك؟ - الدنيا! - سافرت؟ - كلا. - وكيف هان عليك مكانك المفضل؟ - ها أنا أرجع إليه عند أول فرصة فراغ. - هل مرت الأعوام في عمل متواصل؟ - نعم. - ربنا معك.
منذ عشرين عاما كانا يكافحان عدوا مشتركا هو الفقر على اختلاف موقعهما منه. - لم تتغير يا بيك والحمد لله. - أنت أيضا لم تتغير! - أنا؟!
وضحك في سخرية ورثاء. - ربنا يقويك ! - كنت فقيرا حقا، ولكن الدنيا كانت رحيمة ويسيرة.
هكذا كانت، ترى هل يخطر بباله أنه يملك عمارة وفيلا وسيارة؟ هل يتصور أنه يخاطب لصا أريبا في ثوب موظف كبير؟! - الحياة أصبحت شاقة. - جدا جدا جدا يا بيك. - ولكنك مؤمن والإيمان كنز لا يقدر بمال. - الحمد لله. - قديما كان العيش يتيسر لك ببضعة قروش حقا، ولكن كان يتسلط على البلد إقطاعيون يبذرون الملايين على ملاذهم. - انتهى أمرهم يا بيك ولكن حالي ازداد سوءا. - بسبب عملك فقط أما ملايين الفلاحين والعمال فقد تحسنت أحوالهم. - إني لا ألقى إلا شاكيا مثلي. - أنت محصور في بيئة معينة، هذه هي المسألة. - ومتى نتحسن بدورنا؟ - كل آت قريب. - ولكن مرت عشرون سنة! - ما هي إلا لحظات في عمر الزمان. - علينا أن ننتظر عشرين سنة أخرى؟ - لا أدري، قد يضحى بجيل في سبيل الأجيال القادمة. - ولكني أرى يا بيك كثيرين من المحظوظين السعداء. - مظاهر خادعة، لكل شكواه ومتاعبه. - أراهم في السيارات الفاخرة كأيام زمان. - هل تصورت أعباءهم القاتلة؟ هل تصورت ما يؤدون للدولة من خدمات؟ ثم أمن يعمل كمن يرث؟
ابتسم مستسلما وهو مكب على عمله في تكاسل ليطيل فرصة الحوار، وجعل ينظر إليه بمودة صافية، وفي نظرته تتجلى أشواق للذكريات المشتركة الماضية. - هل أضايقك يا بيك؟ - أبدا ... هات كل ما في قلبك. - الله يكرمك، كنا نضحك ملء قلوبنا من الماضي. - وممكن نضحك الآن أيضا. - ولكن ... - ولكن داءنا أننا ننظر دائما إلى الوراء، دائما نتوهم أن وراءنا فردوسا مفقودا. - ألم نكن نضحك من أعماق قلوبنا؟ - تذكر، لقد رقصت يوم قامت الثورة. - طبعا، سكرت بالآمال، سكرنا جميعا بالآمال. - ولقد تحققت الآمال، ولولا سوء الحظ، ولولا الأعداء ... ماذا كنت تتوقع؟ - زوال الظلم والفقر، لقمة متوفرة، مستقبل للأولاد. - حصل ذلك كله. - دائما نسمع ولكن الأولاد ضاعوا جميعا. - واضح أنك تشكو كثرة العيال؟ - إني أحمد الله. - المدارس مفتوحة لاستقبال الجميع. - دخلوها وخرجوا كما دخلوا، ولم ينجح أحد. - وما ذنب الثورة؟ - لا ذنب لها، ولكننا نسكن جميعا في حجرة واحدة! وفي المدرسة لا يفهمون شيئا. - إنكم تنشدون معجزة لا ثورة. - إنه حال أبناء الفقراء جميعا. - كلا. - الاستثناء لا يعول عليه. - كان اليأس القديم أنسب لكم! - ما زال المال يملك الحظ كله. - المسألة أن الأمور معقدة، أمور الدنيا كلها معقدة. - خلنا في أنفسنا. - ولكننا جزء من الدنيا. - هل أنتظر حتى تحل مشاكل الدنيا؟ - ليس كذلك بالضبط، ولكنه تساؤل لا يخلو من حقيقة.
وضحك ليخفف من وقع قوله ثم استطرد: ولا تنس أننا في حال حرب.
أرجع فردة الحذاء وتناول الأخرى ثم قال: وسبق ذلك الهزيمة. - لا داعي لتذكيري بما لا يمكن أن ينسى. - بعد أن نفختنا الآمال حتى طرنا في الجو. - قيل كل ما يمكن أن يقال. - متى نحارب يا بيك؟ - هل تنتظر من وراء الحرب حلا لمشاكلك؟ - الحركة بركة. - ربما اللقمة نفسها لن تجدها.
فهز منكبيه استهانة. - سنحارب عندما نضمن النصر.
لم ينبس ولكن وضح أنه لم يقتنع. - هل تعرف معنى الحرب؟ ... هل تتصور حالنا إذا خربت المصانع والسدود والمواصلات؟ - نفعل بهم مثلما يفعلون بنا. - ستتوقف الحياة هنا. - ليكن، المهم أن نحرر أرضنا. - هل تهمك الأرض حقا أم أنك تريد الخراب؟ - أريد أن أحيا في ظل العدل. - يبدو أنك تريد أن تهدمها على رءوس من فيها. - لا والله يا بيك.
خيل إليه أنه يقصده بشيء ما. - المهم النصر لا الانتقام. - أنا لا أفهم. - الأمور واضحة. - يا بيك أنا أريد النصر والحياة المعقولة، خبرني كيف ومتى يتم ذلك؟ - لا أدري متى، ولكنه يتم بالصبر والعمل والإخلاص.
كأنه أصم، يرفض التصديق والاقتناع، وقد أنجز عمله، أعطاه خمسة قروش بدلا من قرشين، تهلل وجهه ودعا له بالستر، واعترف فيما بينه وبين نفسه بأنه في حاجة ماسة لذاك الدعاء، وبأنه يشاركه حيرته فضلا عن المخاوف التي ينفرد بها وحده، ورآه يهم بالذهاب فسأله: ما رأيك فيما قلت؟
ابتسم مداريا شكوكه وتمتم: كلام جميل ... - وحقيقي أليس كذلك؟ - مثل كلام الراديو.
شعر بأنه يذكره بكلام الراديو طيلة عشرين عاما، شعر بأنه يوبخه فأوشك على الانفعال. - ولكن بروح جديدة تماما. - نرجو ذلك. - ألا تريد أن تصدق؟
فرفع درجة صوته ليقنعه بإيمانه قائلا: ما دمت تصدق فأنا أصدق.
ضحك ضحكة فاترة مقتضبة، وسأله الرجل: هل ترجع إلى المقهى كالأيام الخالية؟ - إن شاء الله كلما سنحت فرصة. - عندما رأيتك فرحت ورجعت فجأة إلى الشباب.
ثم حياه وانصرف.
وصفق يطلب وقودا للنارجيلة الخابية.
نامعلوم صفحہ