وقلت لنفسي إنه ليس بالمرأة وحدها يحيا الإنسان.
وندمت أشد الندم على تعريض نفسي للزوبعة التي عصفت بها. •••
وكنت جالسا بمكاني المختار عندما لمحت صديقي قادما من بعيد، رددت في نفسي الكلام الفظ الحاسم الذي سأجابهه به، وقررت أن أعلن تمردي على الزواج إلى الأبد.
وبادرني الصديق قبل التحية، قائلا: عابد ميري يحييك، ويرجو أن تحدد موعدا لإعلان الخطوبة في أقرب وقت ممكن!
العري والغضب
ناعمة مستكينة، مهذبة غارقة في الطمأنينة، ملهمة لأحلام البيت السعيد، تنتشر كالشذى في أعماقه، فتشكل بضعفها المنساب طاقة مسيطرة بعون الإغراء والرغبات الدفينة، وكانت بمجلسها أمامه في الترام صورة مجسدة لأمنية عذبة غامضة، منعشة للروح، مبدعة للألفة الحميمة، فقال لنفسه إن هذا هو ما أبحث عنه. والتقت عيناها في حركة عفوية بعينيه المركزتين، فانتبهت من أحلامها، واعتدلت في جلستها، ونحت وجهها مدارية ابتسامة خفيفة جدا لإدراكها بأنها كانت موضع نهم والتهام. ودفعته الابتسامة إلى اتخاذ قرار جريء بتأجيل زيارته للمحامي - رغم دقة المرحلة التي تمر بها القضية - إذا دعت إلى ذلك فرصة طيبة، ولم يغادر مجلسه في محطة «المحامي»، لبث ينتظر حظه المجهول، ولكنه تذكر على رغمه المحن التي عاناها - هو وأسرته من قبل - ما يقارب ربع القرن، والتي احتوتها في النهاية القضية، فلم يمض قراره بلا قلق، ولكن هل تقوم القيامة إذا تأجلت الزيارة أسبوعا؟ وانقبض قلبه وهو يتخيل محاميه في غضبه لتخلفه عن الميعاد دون اعتذار، فإنه محام صارم، يحتقر المزاج ولا يحنو على الضعف البشري.
ولما رجع بوعيه إلى الجالسة قبالته ضبطها تنظر إليه في دهشة، فأدرك من توه أن انفعالاته قد ترجمت إلى تشنجات في قسمات الوجه وعضلاته، وربما تعدت ذلك إلى اليدين، أجل فإن ذلك مما يلاحظ عليه أحيانا، ولكنه ابتسم إليها بجرأة لا تعوزه في أمثال هذه المواقف فأحنت رأسها باسمة، عند ذلك حل الرضا بصدره، واطمأن إلى أن تضحيته لن تضيع في الهواء، وقامت فقام وراءها بتلقائية وبلا أدنى ارتباك، وبعد ثوان كانا يترامقان مواجهة على الطوار، على حين امتد وراءهما ميدان الضاحية، شبه خال، وقد احمر قرص الشمس إيذانا بالمغيب. تمتم: فرصة سعيدة.
فمضت إلى الطريق الوسطي دون أن تجيبه، ولكنها دعته بأسلوبها المشجع الصامت للحاق بها، ومشى إلى جانبها فتقبلت ذلك دون اعتراض فعاد يقول: فرصة سعيدة.
كان الطريق سكنيا بلا دكاكين، به قلة من المارة، وكثرة من السكان تتواجد في الحدائق، ولما لم يتبين لها هدفا قريبا فقد قال: يوجد قريبا من هنا فرع للفردوس.
ولكنها واصلت السير فسار إلى جانبها، وهو ينظر فيما أمامه متسائلا، ووجدها تتجه نحو بيت صغير من دور واحد، فاقتحمته دهشة وتلقى رد فعل حاد وأليم، صدق ما يرى بصعوبة واحتجاج وتبرم، وقال لنفسه: «حقا إنه لزمان زالت فيه الفوارق بين الأنواع.» وبتبدد الحلم لم تبق إلا الحقيقة القاسية المبتذلة، فشعر بتأنيب لتفويته ميعاده الهام بشأن القضية، وتبعها إلى الداخل بلا حماس يذكر. ووجد البيت صغيرا حقا، يتكون من صالة طويلة وحجرة وحيدة في النهاية. حجرة نوم آية في البساطة أو في الفقر، بها فراش ومشجب ومقعد وحيد، وحتى الفراش اقتصر تجهيزه على حشية ووسادة بلا غطاء، ولا ملاءة، وانبسطت أرض الحجرة الخشبية بلا سجادة ولا كليم، ولا حصيرة. ابتسم بفتور وهو يتذكر أحلامه المنتشية، وقال إنه لم يبق ما يستحق الاهتمام إلا المرأة نفسها، الجميلة ذات المظهر الخداع، ورجع المحامي يلح على وجدانه فسألها، وهو يعلم بالجواب مسبقا: يوجد تليفون؟
نامعلوم صفحہ