وهذا الرأي من سخف الضعف والاضمحلال، الذي ابتلي به الشرقيون في زمن من الأزمان.
فالعشق أقوى غريزة تختلج بها البنية الإنسانية، وهو لم يخلق للذة العاشقين ونعيمهما حتى يكون كل ما فيه لينا ونعمة ورقة، ولكنه خلق لبقاء النوع واستدامة الحياة، فربما ذهب العاشقان معا ضحية له في بعض الأحيان، وربما غلب فيه الجماح والسورة فطغى جانب الغضب على جانب الرضى، وجارت القسوة على الرقة، وظهر المحبان في مظهر أشبه بصراع الأعداء منه بملاطفة الأوداء؛ لأن كليهما مسوق مغلول ضعيف الحيلة في النجاء.
وإنما نعرف أحسن الغزل حين نعرف مبعث الغزل من طبيعة الأحياء.
فالغزل - قبل كل شيء - خاصة من خواص الذكور في الإنسان وفي جميع الأحياء؛ لأن الذكور هي التي تبتدئ الغزل وتتعارك في طلب الإناث، وكل ما تصنعه الأنثى من دور طبيعي في الغزل أن تتعرض له وتلبيه وتستجيب إليه.
ومتى بلغ الذكر سن التغزل فآية ذلك أن يغلظ صوته ويخشوشن، وتشتد فيه دوافع السطوة والطراد.
فالصفات التي تجعل الغزل صالحا للإصغاء إليه والوقوع في موقعه هي الصفات التي تجعل الرجولة صالحة لما تستبق إليه، وهي صفات ليس فيها تأنث ولا ضراعة ولا خفوت.
وقد عرضنا لهذا البحث في مقال من مقالات كتابنا «الفصول» وعقبنا على رأي دارون فقلنا: إنه تلمس «علة الطرب من ناحية الرقة والرخامة، فعسر عليه الوصول إلى مصدرها، وقال في كتابه (أصل الإنسان): لو سأل سائل: ما بال بعض الألحان والأوزان يرتاح إليه الإنسان وأنواع من الحيوان؟! لما كان في وسعنا أن نجيب عن ذلك إلا بجواب السؤال عن سبب ارتياحها إلى بعض المذوقات والمشمومات».
ثم قلنا: إننا «إذا تلمسنا علة الطرب أولا من جهة التأثر بقوة الصوت وجدنا الجواب عن ذلك السؤال سهلا قريبا، وأمكننا أن يجيب من سألنا: لماذا يؤثر أعمق الأصوات ارتجافا وتمييدا وأكثرها تنوعا وتجويدا؟ فنقول له: لأنه ترجمان العاطفة الشديدة، والعاطفة من شأنها أن تبعث العاطفة، ولا يزال الغناء كذلك حتى يتعلم الناس الكلام، وينعقد الصوت ألفاظا، فيتدفق الغزل من النفس المحتدمة تدفقا عارما ويكون أجهر الرجال رغبة أهيجهم لرغبة المرأة وأبلغهم إلى نفسها كلاما وأغلبهم على طبعها سلطانا ...»
واستطردنا من ذلك إلى أن العشق في طبيعته الأولى بعيد عن الرفق والسلاسة، وإنما هو شواظ لاذع يلتف دخانه بناره، ويلتهب شوقا إلى وقوده، فإن أصابه خمد وعاد الشاعر يترنم بهناءة نفسه ويغتبط بالراحة من سورة طبعه، وإن لم يصب وقودا كان نقمة لا تطاق، وأي رقة في قول المجنون:
كأن فؤادي في مخالب طائر
نامعلوم صفحہ