هذا كل ما رأيناه من تناصر المسلمين وأمرائهم في التاريخ الحديث بإزاء تناصر الدول الأوروبية واتفاقها على اكتساح ممالك الإسلام وإصلائها المسلمين حربا عوانا في كل أنحاء الأرض منذ بدأت أوروبا تصعد في معارج الرقي والمدينة الحديثة إلى اليوم.
فهل يجوز لساسة المغرب أن يصوروا قوما هذا شأنهم في التخاذل وانحلال عرى الاتفاق في صورة غول إذا تضامت قواه يلتهم العالم، وهم أولى بهذه الصورة وحقيقتها، والتاريخ كما بينا شاهد عدل.
حقا إن الإنسان إذا أحرج أخرج
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، إني أعتقد أن ساسة المغرب في هذا العصر قد خدموا المسلمين أكثر مما خدموا به سياستهم الطامعة وأنانيتهم العظيمة في إلحاحهم بتهمة المسلمين بالتعصب الإسلامي والاتحاد الإسلامي وما شابه ذلك، ومجاهرتهم بما في أنفسهم من نية السوء واستعجالهم بالشر الذي يريدونه بدول الشرق على العموم والإسلام على الخصوص، حتى كادوا أن ينبهوا بذلك شعور المسلمين بقصورهم في جانب دينهم الذي يأمرهم بالتعاون ويربطهم بربط الإخاء؛ ليفزعوا إلى الاعتصام به جزعا من جيوش السياسة التي تطاردهم في كل مكان، ويعلموا أن الماضي كان جريمة اجترمها أمراؤهم الظالمون المستبدون الذين أضلوهم عن سبل الخير وسدوا في وجوههم منافذ النور الذي تستمد منه الحياة.
إن حركة الفكر الإسلامي القائمة الآن هي نتيجة تبادل الشعور بما تريده أوروبا من المسلمين من الاستخذاء والتعبد، ونتيجة الشعور بما بلغته الأمم الأوروبية من قوة السلطان والبسطة في الملك في الشرق والغرب، فهي أي هذه الحركة إذا ظنها الأوروبيون مقدمة للاتحاد الإسلامي أو عين الاتحاد، فإنما هي اتحاد على معرفة الواجب بالبحث عن مصدر ترقي أوروبا ألا وهو العلم والحرية، فأما العلم فقد نشطوا له في كل مكان بقدر ما تساعدهم الظروف وما ينفذ إليهم من خلال حجب الاستبداد، من نور المعرفة، وأما الحرية فهم ينشدونها حيثما وجد الاستعباد، لا فرق في ذلك عندهم بين الدول المسيحية والإسلامية، فكما نرى المصريين يطالبون الإنكليز بالحرية نرى الإيرانيين يحاربون حكومتهم الإسلامية من أجلها، ونرى العثمانيين كذلك يبذلون مع حكومتهم الإسلامية كل جهد ويفادون بكل نفس ونفيس لأجل الحصول عليها والتخلص من ربقة الظلم والاستبداد.
أليس هذا اتحاد في الشعور بالحاجة إلى الرقي وإلى مسابقة الأمم المتمدنة؟ أليس التمدن والرقي ضد الهمجية؟ فإذا كان المسلمون همجا متعصبين، وبهذا يصمهم الأوروبيون، أفليس في طلبهم الرقي وتراميهم على الدخول في صفوف الأمم الراقية المتمدنة ما يزيل عنهم هذه الوصمة، ويسقط حجة أعدائهم في تلك التهمة؟ بلى هذا هو الحق الصراح، فلينصف الساسة الغربيون، وليرجعوا عما يقولون. (3) نصيحة للمسلمين
قد رأى المسلمون مما تقدم بسطه أن الذي فصم عروة اجتماعهم وفرق أجزاءهم وأنساهم معنى الأخوة في دينهم منذ قرون بعيدة، إنما هو حكم الأفراد، أي أمرائهم المستبدين، وأن الانشقاق بين المسلمين إنما هو نتيجة الانقياد لحكم الأشخاص الذين من دأبهم التخاذل حتى في أشد الأوقات حرجا على المسلمين وخطرا على المتفرقين كما رأيت فيما تقدم من هذه الرسالة؛ حيث كانت الأعداء تتشاطر ملك الإسلام، فلا يأخذ الجار بناصر جاره، ولا يشد الملك بعضد أخيه، وحسبكم إذا تركتم النظر إلى الماضي أن تنظروا إلى الحاضر وتعرفوا منه العبر، وتلمسوا الخطر، فإنكم تسمعون كل يوم باتحاد الدولة الفلانية مع الدولة الفلانية على المسألة الفلانية في الشرق، وتعاقد الدولة الفلانية مع الدولة الفلانية على مسائل البحر الأبيض أو خليج فارس أو البحر الأحمر أو غير ذلك من بلاد الإسلام، فهل تسمعون لملوككم ركزا؟ أو تبصرون منهم رمزا؟ وهل ترونهم يتضامون على حفظ استقلالهم كما يتضام غيرهم على نزعه منهم واستعباد رعيتهم؟ إنكم لا ترون منهم ذلك ولا تسمعون، بل إنهم يأخذون بكم إلى مهاوي الخطر وأنتم لا تشعرون.
فكل مصائبكم إنما كانت من قبل حكم الأشخاص وموت إرادة الملايين من البشر في إرادة شخص، وهو موت لهم أجمعين، وخذلان يخرجهم عن مصاف الآدميين، وليس هذا من شأن الإنسانية ولا من شأن العقل ولا من شأن الدين.
إن دينكم يريد أن تكونوا في أرقى منازل البشرية وأدناها في الوجود إلى متناول العقل، فلم يجعل حتى للأنبياء سلطانا على الإرادة والعقول إلا بالحق والهداية، فاسمعوا ماذا يقول الله لنبيه في كتابه الكريم:
ما على الرسول إلا البلاغ ،
نامعلوم صفحہ