هل صحيح ما تقوله أوروبا عن الجامعة الإسلامية؟
هل صحيح ما تقوله أوروبا عن الجامعة الإسلامية؟
الجامعة الإسلامية وأوربا
الجامعة الإسلامية وأوربا
تأليف
رفيق العظم
باسم الله نبتدئ وباسم الحق والعدل والتاريخ نشفع وبعد.
فقد كثر في هذه الآونة لغط الجرائد الأوروبية في الجامعة الإسلامية، وارتفع صوت المرجفين المنادين بخطرها العتيد من قادة الأمم الغربية وأرباب الحل والعقد في دول أوروبا، فسنحت لي من ذلك خواطر رأيت في النفس ميلا إلى قيدها، وفي الدواعي داعيا إلى نشر ما انطوى في الصدر منها؛ لعله لا يخلو من فائدة ينشدها طلاب الحقيقة ويسكن إليها أهل الإنصاف من كل قوم فأقول:
تمهيد
من البديهي أن الاجتماع طبيعي في العالم الإنساني لانبعاثه عن ضرورة التعاون الذي هو قوام حياة الإنسان، وأغراض الاجتماع تختلف باختلاف الحاجات، فمن الاثنين يجتمعان على الأمر الحقير إلى الجماعات يجتمعون على الأمر الكبير، وللاجتماع نظامات وروابط وهي العصبيات تكاد تكون طبيعية بين البشر، أهمها الروابط العامة التي تجمع قوما أو أقواما كثيرين على كلمة واحدة وهي رابطة العشيرة أو الجنس أو الوطن أو الدين، والارتباط بهذا النوع من الروابط أو العصبيات من مستلزمات الاجتماعات الأولى التي يقوم بها نظام البشر؛ لما يترتب عليها من تكافؤ القوى بين الجمعيات البشرية المدفوعة إلى التغالب بحكم الأنانية والطمع المفطور عليهما هذا الإنسان الذي يشبه في نموه النبات القوي يهلك ما حوله من النبات الضعيف؛ ولهذا كان كل مجتمع إنساني مهددا في كيانه من المجتمع الآخر ما لم يكن ذا رابطة تجعله متكافئا معه في القوة تراعى فيها النسبة في القوة بين الرابطتين، فكلما اتخذ المجتمع رابطة أوسع تحتم على الآخر أن يتخذ ما يقابلها، فالرابطة أو العصبية القومية - أي عصبية العشيرة - أضعف من عصبية الوطن أو رابطته، فلا يصح أن تقابل بالعصبية الوطنية، ولا الوطنية بما هو أوسع منها وهي الجنسية، ولا الجنسية بما هو أعم منها وهي الدينية، بل كل عصبية من هؤلاء عند قوم تقابل من مثلها عند آخرين إذا هددوا بأعم من عصبيتهم، ومثاله أن الألمانيين أقوياء بإزاء الفرنساويين ما لم يضم إلى هؤلاء كل الجنس اللاتيني ويتعصب للفرنساويين، وحينئذ ينبغي لتعادل القوة وتكافئها أن يتعصب للألمانيين كل الجنس الجرماني، ويتخذ لجامعته شكلا أوسع من شكلها الأول.
وعليه يقاس ما هو أعم من هذه الرابطة وهي عصبية الدين، ومثاله أن الترك المسلمين ضعاف بإزاء الأمم المسيحية إذا اعتصبت عليهم بجامعة الدين، فلابد لتكافؤ قوتهم مع هؤلاء من أن يتعصب للترك كل المسلمين، وهناك روابط أخرى وهي الروابط الودادية والسياسية التي يستدعيها أحيانا اتحاد المصالح، إلا أنها ليست بطبيعية الوجود بين الأقوام، بل هي طارئة قد تحل وتزول بزوال أسبابها العارضة، وأما الروابط الأخرى لا سيما رابطة الجنس والوطن، فإنها طبيعية الوجود لا سبيل إلى انحلالها إلا بانحلال القوم المنتسبين إليها، ويلي هاتين في المنزلة العصبية الدينية، ونقول تليهما هذه العصبية؛ لأنها نادرة الظهور بين الأمم ولا يلجأ إليها إلا حين الضرورة القصوى، وقل ما جمع الدين كلمة أهله بأجمعهم إلا في الشاذ النادر اللهم إلا في العواطف دون الفعل، فقد يتألم مسلم الغرب لمسلم الشرق إذا أصيب بمصيبة كبرى، فلا يتعدى تألمه هذا دائرة الشعور، وهذا الإسلام فإنه مع حضه أهله على التعاون والإخاء كما سنبين بعد نراهم كانوا أقل الأمم اجتماعا على كلمة الدين إلا فيما لم يتجاوز عهد النبوة، وربما كان لهم اجتماع على عهد الخليفتين أبي بكر وعمر، ومن ثم أخذت عصبيتهم الدينية بالتفرق والانقسام وحلت محلها العصبيات الأخرى، فلم يلتئم بعدها لهم صدع، ولم تضمهم جامعة الدين حتى في إبان المصائب الكبرى التي حلت في ساحة الإسلام، وكان من مقتضاها اجتماعهم على رابطة الدين فلم يفعلوا، وسببه حكم الأفراد الذي بسط يده الحديدية على المسلمين بعد دولة الخلفاء الراشدين ففرقهم بتفرق أهواء أولئك الجبارين وأذهلهم حتى عن أوامر دينهم المبين وقانونه الجامع لمصالح الناس أجمعين.
وهذه الحروب الصليبية التي أثار نارها في أواخر القرن الحادي العشر للمسيح الراهب بطرس الناسك والبابا أوربانس الثاني، فمع استمرار هذه الحروب مدة تزيد عن جيلين، فإن المسيحية كانت أنشط في جمع كلمة أهلها من الإسلام، ولم يعهد في تاريخ تلك الحروب اجتماع لكلمة المسلمين كما اجتمعت كلمة المسيحيين، بل كل ما عهد في التاريخ أن السلطان نور الدين زنكي أمكنه بحكمته وجميل شيمه وحسن سياسته أن يجمع إليه باسم الدين كلمة بعض الأمراء الأتابكية في الجزيرة وسورية سنة (559ه) بعد ما لاقى من جيوش الصليب ضروب القهر وأشرفت دولته على شفا السقوط، وبعد أن أخذ يكاتب العباد والزهاد ممن لهم سلطة روحية على نفوس العامة في الجزيرة مستنجدا بنفوذهم مبينا لهم ما وصل إليه إخوانهم المسلمون من الضنك وما يتهددهم من خطر الاضمحلال العاجل، فأنجده حينئذ بعض أمراء الجزيرة.
بل إن هناك كارثة أعظم ومصيبة أكبر وأعم حلت في أوائل القرن السابع الهجري بالشرق الإسلامي، فعفت بها آثاره وتداعى عمرانه، وتضاءلت دوله، وقضي على الخلافة العباسية في عروس أقطاره وعاصمة ملكه، ألا وهي هجمات التتار الذين خرجوا من أقصى الشرق فغزوا الممالك الإسلامية بخيلهم ورجلهم، وقصدوا الشرق الأدنى بقضهم وقضيضهم، فكانوا كشواظ من نار يلتهم كل ما أتى عليه من الخضراء واليابسة حتى بلغوا سورية وآسيا الصغرى، وإليك ما قاله ابن الأثير في حوادث سنة (617ه) في مقدمة كلامه على كارثة التتار؛ لتعلم مبلغ فعلها في المسلمين وقبيح أثرها في البلاد، قال:
لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأوخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فياليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
إلخ ما وصف به هذه الحادثة.
وأنت ترى أنها حادثة كبرى كانت تهدد كل دول الإسلام في الشرق الأدنى بالزوال، وتنذر المسلمين بسوء المآل، وقد شعروا عند أول صدمة من صدمات هؤلاء الهمج الوثنيين الغزاة أن لا قبل لعصبيات الدول والشعوب الإسلامية بهم، ولا قوة تصد تيارهم المتجه صوب الممالك الإسلامية إلا قوة الاجتماع التي تقابل قوتهم، ولم يكن أدعى يومئذ لمثل هذا الاجتماع مثل الدين الذي يضم تلك الدول المتفرقة والعصبات المتغالبة بحكم الرابطة الإسلامية، ومع هذا فلم يجمع على هذا الأمر رأي، ولم تقل بوجوب السعي إليه والاعتصام به دولة من تلك الدول المخذولة التي يقرأ أمراؤها في كتابهم المنزل
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، بل انفرد كل قوم بعصبيتهم، وزادت كل دولة عن حوضها بسلاحها حتى وهنت قواهم جميعا، وفعل التتار في ممالكهم فعلا مروعا انتهى بالتسلط على أكثر الممالك الشرقية الإسلامية وبزوال الخلافة العباسية.
هل صحيح ما تقوله أوروبا عن الجامعة الإسلامية؟
علمت أيها القارئ من هذا التمهيد أن الاجتماع يستدعي بطبيعته وجود الروابط القومية والوطنية إلخ، وأن الغرض من هذه الروابط حفظ التوازن بين قوى المجتمعات الإنسانية الميالة إلى المغالبة بحكم الأنانية والطمع، وأن أقل هذه الروابط تأثيرا في المجتمعات رابطة الدين، وأن المسلمين لم تجمعهم هذه الجامعة يوما حتى ولا على التعاون على دفع الكوارث الكبرى التي حلت ببلاد الإسلام من هجمات أهل الصليب والتتار، ولو اجتمع المسلمون أمام أمثال هذه الجوامع الكبرى، سواء في ذلك الوقت أو الآن أو في كل زمان، لأتوا عملا تستدعيه طبيعة الوجود لا سبة فيه ولا مؤاخذة عليه، إلا إذا محيت من صفحات الوجود قوانين الروابط الاجتماعية بحكم الأخوة الإنسانية والمساواة العامة بين أفراد البشر وأقوامهم، ولا يكون هذا ولن يكون إلا إذا استبدل البشر بخلق آخرين من جنس الملائكة المطهرين.
إذا تقرر هذا فاعلم أن دعوى القائلين بخطر الجامعة الإسلامية المتوقع بمعناها الذي يريده أولئك القائلون مدفوعة من وجوه:
الوجه الأول:
أن الجوامع الجنسية غالبة عند الأمم وأخصها الأمة الإسلامية، لهذا نرى المسلمين قد مزقهم الأوروبيون وتشاطر ملكهم الدول المسيحية دون أن يمد بعضهم يد المعونة إلى بعض باسم الدين والجامعة الإسلامية؛ لغلبة العصبية الجنسية أو الوطنية على العصبية الدينية، ولتخاذلهم المعروف المتأتى عن تحاسد أمرائهم الذين أعماهم الجهل وحب الذات والأنانية الباطلة حتى عن الاعتصام بالجوامع السياسية التي تقضي بها أحيانا المصالح المتحدة بين دول الأرض.
الوجه الثاني:
أن المسلمين ولو اجتمعوا باسم الدين لمناهضة دول أوروبا، فلا يكون اجتماعهم خطرا على المدنية كما يذهب إليه سياسيو المغرب، بل يكون وفاء بحق القومية، ورجوعا إلى الاعتصام بالرابطة العامة التي يمكنها أن تقابل رابطة الدول المسيحية الغربية التي اجتاحت أغلب ممالك الإسلام وكانت خطرا كبيرا على حياة المسلمين السياسية، وقد أبنا فيما سبق أن قوانين الاجتماع الطبيعية تقضي على الشعوب بالذود عن مجتمعها والذب عن استقلالها ما لم يصبح البشر كله في حقوق الإنسانية والتمتع بثمرات الحياة سواء.
الوجه الثالث:
إن القول بالجامعة الإسلامية واتحاد الإسلام وغير ذلك من الألفاظ الوضعية التي أراد واضعوها إيغار صدور الأمم على المسلمين إنما هي من موضوعات السياسيين في هذا العصر، لم ترد في تاريخ الإسلام وليس لها في الدول الإسلامية شأن غير سياسي أصلا وهو شأن الدول القائمة والأمم الفاتحة في كل عصر، وعلى تقدير أن هناك ما يدعو إلى الظن باتحاد المسلمين في هذا العصر، فمنشأه اتحاد أوروبا على اكتساح ممالك الإسلام واستبعاد المسلمين، فليسموا اتحاد المسلمين بإزاء اتحادهم الاتحاد الديني أو الجامعة الإسلامية أو الشرق والغرب أو ما شاءوا من الأسماء، أفليس معنى ذلك كله أن المسلمين يريدون الاعتصام بجامعة كبرى تقابل اجتماع الدول المسيحية على اهتضام حقوق الأمم الإسلامية.
من العجيب أن الدول الأوروبية التي تسوغ لنفسها الحق بالاستيلاء على الممالك الشرقية والقضاء على حياة المسلمين السياسية لا تسوغ للمسلمين الحرص على هذه الحياة بأن يحموا بقوة الاجتماع والتآلف ذمارهم، ويصونوا من عبث العابثين استقلالهم، وأن ينادي ساستهم أن في وجود الجامعة الإسلامية خطرا على أوروبا، وبعبارة أوضح على سياسة دولها الموجهة إلى تدويخ الممالك الآسيوية والإفريقية، ولا يجوزوا أن يقول المسلمون إن في وجود الجامعة المسيحية الأوروبية خطرا على الممالك الإسلامية مع تحقق الخطر من قبل هذه وانتفائه من قبل تلك.
إن ساسة المغرب يوهمون العالم أن الجامعة الإسلامية خطر على المدنية لاصطباغها بصبغة، دينية مع أنها خير على المدنية وأرجى لنفع الإنسانية لو قام بها المسلمون. وإليك البيان. (1) الإسلام والجامعة الإسلامية
من المعلوم بالضرورة أن معنى الدعوة إلى الدين هو ربط أفراد كثيرين وأقوام عديدين بعقيدة واحدة، فالأمة التي تدين بدين واحد مسوقة بضرورة المشاركة في الاعتقاد إلى المشاركة في العواطف، وهذا هو الارتباط الديني الذي قلنا إنه كباقي الروابط طبيعي بين البشر ما دام لهم دين أو أديان، والإسلام من هذه الوجهة كباقي الأديان إلا أنه يمتاز بأمرين جديرين بالنظر والاعتبار؛ وهما تنويهه بشأن الارتباط الأخوي بين المسلمين ارتباطا خاصا ثم الارتباط الإنساني بين الناس كافة ارتباطا عاما، ومما جاء في الأمر الأول قوله تعالى في القرآن الكريم
إنما المؤمنون إخوة ، وقوله
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وقوله تعالى
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، وفي الحديث النبوي «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم»، وفي الحديث أيضا «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» ولذا كانت رابطة التعاون والإخاء عقيدة من عقائد المسلمين، وإن تناسوها ولم يعملوا بها إلا قليلا.
ومما جاء في الأمر الثاني أي في الرابطة الإنسانية قوله تعالى
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ، وفي الحديث: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى».
1
وأنت ترى من هذا البيان أن الإسلام له رابطتان؛ رابطة العواطف التي يشترك بها كل أرباب دين، ورابطة التعاون والإخاء التي يدعو إليها بالفعل، إلا أنه بين معنى هذا التعاون في أنه على الخير دون الشر، وعلى البر بالناس دون العدوان عليهم، لكي يكون ارتباطهم بجامعة الإخاء الديني واجتماعهم عليه غير مقصود به العدوان؛ بل المحاسنة والإحسان وصريح قوله بالاجتماع وعدم التفرق محمول على ما تستدعيه حالة الاجتماع، من لزوم حفظ البيضة وكف الأيدي العادية عن المجتمع، وهذا ضروري للمجتمعات كما أشرنا إليه في التمهيد.
ثم لكي لا تكون جامعة الدين سببا للعدوان مع الآخرين؛ بل وسيلة إلى التدرج في مدارج الإنسانية في أعم مظاهرها وهي المساواة العامة بين أفراد البشر وأقوامهم فيما تقتضيه حقوق الإنسان على الإنسان من الكرامة وحسن الجوار وتبادل المنافع، والأعمال التي جعلت الإنسان مدنيا بالطبع، أي محتاجا إلى التعاون مفتقرا بعضه إلى بعض، قال الله تعالى إرشادا للمؤمنين إلى ذلك
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
الآية.
هذه هي الوحدة الدينية التي يدعو إليها الإسلام، أفلا يرى المنصفون من كل قبيل أن الجامعة الإسلامية التي يوهم ساسة الغرب العالم المسيحي بخطرها على المدنية إذا اصطبغت بصبغة الدين هي خير للمدنية من ألا تصطبغ بهذه الصبغة،
2
وأن فوضى العقول عند الطوائف الإسلامية تأتي بما هو شر على المدنية مع تنكر نفوس المسلمين لهذا العهد؛ لما تأتي به دول أوروبا لمضادتهم ومضادة دولهم من أساليب المكر والخديعة؛ توصلا لامتهان حقوقهم وسلب استقلالهم ووطء بساط ملكهم حيثما كان.
اللهم إن المسلمين ما قذف بهم في لج الحيرة، ووقف بهم عن السير مع الأمم الراقية في سبيل المدنية الصحيحة، وكشف ما بينهم وبين الأمم المتمدنة، فرموهم بكل نقيصة ونالوهم بكل سوء إلا انفصام عروة وحدتهم الدينية والخروج عن قانونها الجامع الذي يرمي إلى غرض الاجتماع الصحيح والمدنية الفاضلة، ويريد الشعوب على توحيد الكلمة لضرورة القيام على شئون الحياة المدنية، وإنما يتحقق معنى الحياة في قوم إذا أعزوا جانبهم، وذادوا عن حوضهم، وكانوا يدا على من ناوأهم وأقسطوا في المعاملة إلى من عداهم، وهذا ما يريده الإسلام.
من الظلم أن يمثل ساسة المغرب الجامعة الإسلامية بصبغتها الدينية في صورة معكوسة ينكرها الإسلام ويأباها العدل والتاريخ ولا تنطبق على نص من نصوص الدين، كما رأيت وحسبك من الدين والتاريخ دليلا على أن الإسلام لا يحض أهله على الجامعة إلا ليكونوا يدا على من ناوأهم، وأن يقسطوا إلى من سواهم وإن افترق عنهم في الدين ما لم يبادئهم بالعدوان، ويرد بهم السوء، أن بعض القرشيين من المشركين كانوا يزورون بعض المهاجرين من ذوي قرابتهم في المدينة، فلا يقبلون عليهم ولا يحسنون إليهم؛ لما عرفت به قريش من الشدة على المسلمين والإصرار على الشرك، فنزلت في تنبيههم إلى أن الدين لا يمنع من الإحسان إلى غير أهله، ما داموا غير مناوئي المسلمين، هذه الآية:
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين .
وهذا التسامح الذي عرف به الإسلام ونبه عليه القرآن هو الذي سد كل منفذ من منافذ الأغراض السياسية التي تفسد نظام الاجتماع، وتفرق وحدة الإنسانية، وتلقي العداوة والبغضاء بين بني الإنسان، فلم يستطع زعماء السياسة في الدول الإسلامية جمع الشعوب العائشة في البسيط الإسلامي على كلمة الإسلام بقوة الإكراه، ولم يسعهم أن يعاملوا مخالفيهم في الدين بضروب من العنت تلجئهم ولو إلى الهجرة والجلاء عن بلاد بسط عليها الإسلام جناح سلطانه، وآخر من نعهد أنه حاول ذلك من ملوك المسلمين السلطان سليمان العثماني، فإنه لما رأى شغب المسيحيين في ولاياته الأوروبية وتوالي خروجهم عن الطاعة، وعلم أن بقاءهم على النصرانية خطر على تلك الولايات استفتى علماء عصره في إكراههم على الإسلام، فأبوا أن يفتوه بذلك، وكان ما توقعه ذلك السلطان من الخطر على تلك البلاد فضلا عما لاقته الدولة العثمانية من النصب والتعب في سياسة أهلها، ولم تزل تلاقيه فيما بقي منها في حوزتها إلى الآن.
إن السياسيين وأهل الأنانية المتوحشة في أوروبا الذين يرجفون بخطر الجامعة الإسلامية لا يرون أن من الخطر على المدنية والعبث بنظام الألفة الإنسانية والوحدة البشرية اضطهاد المسلمين الذين تحت كنفهم ، وإرهاقهم بضروب من الإزلال والإعنات قصد القضاء عليهم واستئصال شأفتهم باسم السياسة، ويرون أن من الخطر على المدنية وجود جامعة إسلامية تعامل باسم الدين مخالفيهم في السياسة والدين معاملة الأكفاء في الإنسانية، والعشراء في الوطنية كما سبق بيانه، أفليس في هذا ما يدعو إلى الحكم على رجوع الإنسانية القهقرى وتقدم المدنية إلى الوراء.
حقا إن هذه «السياسة» المطلقة من قيود الإنسانية والوجدان ومن قيود الحق والعدل تشبه في تشكلها حكايات الغيلان الواردة في أساطير الأولين، وتماثل إله الشر عند اليونانيين، فالسياسيون إذا ساقوا الشعوب إلى الدمار وقتلوهم بالسيف والنار قالوا إنها السياسة، وإذا وطئوا بأقدامهم الحقوق، وامتهنوا الشرائع اتهموا السياسة، وإذا أخطئوا خطأ يجلب على بلادهم الدمار، وعلى دولتهم العار تدرعوا بالسياسة، وبالجملة فحيثما سنحت لهم سانحة قدموا أمامهم السياسة، فالسياسة عندهم «كالجسم المرن» قابلة للتشكل بأشكال الأهواء التي تنبعث في نفوسهم، وتدعوهم إليها أطماعهم، ولهذا لما استباحوا لجامعتهم الأوروبية أو المسيحية أو السياسية اضطهاد الجامعة الإسلامية في ملكها ودينها وأهلها، ورأوا أن يأتوا لهذا العهد على البقية الباقية منها، أخذوا يصيحون بخطر الجامعة الإسلامية تمهيدا لمقاصدهم السيئة، وتكفيرا عن إجرامهم إلى المسلمين أمام العقلاء وأنصار العدل والفضيلة من أهل البلاد الأوروبية، ولسوف يعلمون أنهم مخطئون. (2) أوروبا والجامعة الإسلامية
قبل أن نأتي على تاريخ مناهضة أوروبا للجامعة الإسلامية، أو بعبارة أصح على أسباب توجه الأفكار فيها إلى تدويخ الممالك الإسلامية نريد الإشارة إلى السبب الذي يدعو الساسة الأوروبيين في هذا العصر إلى التمويه وبسط المقدمات الواهية، من نحو قولهم بخطر الجامعة الإسلامية والتعصب الإسلامي وغير ذلك عندما يجمع أمرهم على اكتساح جزء من الممالك الإسلامية وسلب استقلال شعب من الشعوب، مع أن المعروف عندهم أن الحق مع القوة، والمسلمون حيثما كانوا ضعاف لا تحتاج غارة الدول على أي فريق منهم إلى بسط المقدمات وانتحال الأسباب فأقول:
اعلم أن الأمم المسيحية لما كانت مسوقة في أوروبا بيدي الكهنة والملوك مأخوذة الإرادة بقوة هاتين الفئتين، كانت كعامة أهل المشرق مسيرة غير مخيرة ليس لها من الأمر إلا أن تدعى إلى عمل فتجيب، وتساق إلى حرب فتسير، لا تبحث عن الباعث على ذلك ولا تسأل عن المصير، ولما قدت هذه الأمم قيود تلك السلطة وتمتعت بالحرية، وشاركت الحكام بالرأي أصبح الحكام بيد الشعب لا الشعب بيد الحكام، وصار الساسة وأرباب الحل والعقد محاسبين على كل عمل يأتونه، وغالى بعض الأحزاب المغرقين في الحرية، فقالوا بوجوب اشتراك البشر على اختلاف الطبقات في حقوق المساواة العامة وسد سبل المطامع دون زعماء السياسة والمال، وقال بعضهم بوجوب نزع السلاح من الدول أي تجريدها عن كل قوة تدعو إلى النزاع والخصام وتعدي الأقوام على الأقوام إلى غير ذلك من الأحزاب ذات الآراء المعروفة لهذا العهد في إصلاح الهيئة الاجتماعية، يضاف إلى ذلك كثير من الفلاسفة ومحبي خير الإنسانية وأهل الفضيلة من الطبقة الراقية في العقل والوجدان الموجودين في كل مملكة من ممالك أوروبا، كل هؤلاء ينظر إليهم رجال الحكومات الأوروبية بعين الحذر عند الإتيان بكل عمل كبير في السياسة الخارجية أو الداخلية؛ لأنهم قادة الأفكار ومالكوا أزمة عامة الشعب، وهذا ما يدعو الحكومات أحيانا إلى التمويه ومغالطة الشعوب لا سيما في مسائل الشرق البعيدة عن أنظار القوم؛ لكي يمهدوا لأنفسهم سبيل المعذرة في غارتهم الشعواء على الأمم الضعيفة بغير ما سبب إلا الأنانية المتوحشة وحب التوسع في الفتح، وهم يستخدمون الجرائد في أكثر الأحيان لنشر بهتانهم وترويج مقاصدهم؛ لأن صوتها مسموع عند عامة الشعب وخاصته، ومن هذا القبيل صيحتهم القائمة اليوم في الجامعة الإسلامية والاتحاد الإسلامي، ونحو ذلك من الأقوال المفتراة التي تجسم للعالم الأوروبي المسلمين في صورة تستوجب الذعر وتستدعي الحيطة على مصالح الأمم الأوروبية التجارية المنتشرة في أنحاء الشرق، والتجارة روح تلك الأمم وعماد سعادتها وغناها وسبب مجدها وقوتها، وإنما تحاط مصالحهم التجارية بالحكومات، فحينما يطرق مسامعهم أمثال تلك الصيحة يبعثهم حب المصلحة والحرص على المنفعة إلى التسليم بما تقضي به حكوماتهم من القضاء الجائر على المسلمين بالخصوص والشرقيين بالعموم.
هذه هي الأسباب التي تدعو حكومات أوروبا إلى التمويه والتضليل وإيغار صدور الشعوب المسيحية على المسلمين، وتفجير بركانها السياسي في المشرق من حين إلى حين.
أما تظاهر الدول الأوروبية بالعدوان على المسلمين، وتوجه مقاصدهم نحو الشرق وطمعهم في ممالك الإسلام، وتذرعهم بكل وسيلة لمناهضة أهله ومشاكستهم فله تاريخان: قديم وحديث؛ أما القديم فمنبعث عن تعصب ديني قبيح ملوث بأدران الهمجية الأولى، ومنه فظائع جمعيات التفتيش وتمثيل الإسبانيول بمسلمي الأندلس تمثيلا قلما جاء مثله في التاريخ، ومنه الحروب الصليبية التي انكفأ بها الغرب على الشرق الأدنى الإسلامي، وأصلى أهله حربا عوانا مدة تزيد عن جيلين، وليس من قصدنا الكلام على هذا التاريخ؛ لأنه طويل الذيل مثير للشجون، يأنف من ترديده على السمع أبناء هذا العصر، ويأبى من الخوض فيه قلم الحكيم، وإنما نريد أن نلم بشيء من تاريخه الحديث لعلاقته بالتمدن الحاضر واتصاله بمبدأ النهضة الأوروبية الجديدة، التي ابتدأ معها ضعف أعظم دولة إسلامية في الأرض وهي دولة آل عثمان.
إن النهضة الحديثة التي ظهرت في أوروبا تبتدئ من عهد المصلح الديني الشهير «لوثر» الذي قام في ألمانيا في أوائل القرن السادس عشر للمسيح، واشتهرت مقالته بعدم مشروعية الرهبنة والاعتراف وسيادة البابا الدينية، فكانت مقالته هذه أول خطوة خطاها الأوروبيون للتملص من أغلال السلطة الدينية التي استأثر بها «الأكليروس» فاستخضع لإرادته النفوس والأرواح، وحال بينها وبين الترقي إلى متناول المعرفة بمزية الحرية والعلم، نعم إن نور المدنية قد كان ظهر في أوروبا قبل ذلك بقرون في أواخر القرن الثامن للمسيح في عهد شارلمان ملك الفرنسيس، إلا أنه ما لبث أن انطفأ بموت ذلك الرجل العظيم، وكان يلمع من حين إلى آخر لا سيما بعد احتكاك الغرب بالشرق ومخالطة الأوروبيين للمسلمين في الأندلس وفي الحروب الصليبية، إلا أن لمعانه كان من وراء حجب كثيفة أقامها الكهنة وزعماء الرياسة، فلما جاء لوثر بتعاليمه التي من مقتضاها هتك تلك الحجب وتخليص العقول من أسر الخضوع الأعمى لأرباب السلطة الدينية، وسرت مقالته في أوروبا سريان النار في الهشيم، تلقتها العقول بمزيد القبول ، وأعقب هذا الإصلاح الديني الإصلاح السياسي والمدني، وظهرت ثمرات هذا المذهب على أتمها في إنكلترا في أواسط القرن السادس عشر على عهد الملكة «إليصابات»، حيث أصبحت هذه المملكة ملجأ الفارين من اضطهاد الكاثوليك من أرباب الحرف والصنائع النفيسة في أنحاء أوروبا.
والعجيب أن هذا العهد الذي هو عهد الإصلاح والترقي في أوروبا كان أول عهد التدلي فيما يجاور شرقي أوروبا من الممالك الإسلامية وهي المملكة العثمانية، وفي عصر أعظم ملوك العثمانيين شهرة وأشدهم صولة وهو السلطان سليمان القانوني الذي كان معاصرا للوثر مؤسس الإصلاح الديني في الغرب.
منذ اكتشف كولمبوس أميركا في أواخر القرن الخامس عشر دبت روح التنافس بين الدول الأوروبية في استعمار الممالك القاصية فيما وراء البحار، فاشتهر البرتغاليون بأسفارهم البحرية، واكتشاف طريق الهند، واستولوا على كثير من جزر المحيط واتبعهم الإسبانيول والإنكليز، فأسس الإنكليز شركة الهند التجارية في القرن السادس عشر تمهيدا لتملك ذلك القطر الواسع الأكناف والممالك المتنائية الأطراف، وجرى مجراهم الفرنساويون والهولانديون، فكانت ممالك الإسلام في الهند وجزائر آسيا وإفريقيا عرضة لهذه الغارة الأوروبية بعد إذ أخذ الضعف حده من المسلمين وحكوماتهم في تلك الأرجاء، وكانت الدولة العثمانية في شرق أوروبا تكافح دول أوروبا وتذود عن حياض الشرق الأدنى بقوة السيف دون الانتباه إلى قوة العلم التي أخذت بذورها تنبت في أرض الغرب، ولما كان عهد السلطان سليمان الذي ألقى الذعر في نفوس الملوك، وأزعج بسطوته الحكومات الأوروبية عن مطمئن الراحة لا سيما شارلكان إمبراطور ألمانيا وإسبانيا ولويس ملك المجر وفردنياند ملك النمسا، أخذت الدولة العثمانية دورا غير دورها الأول، وهو دور الانحطاط لأسباب: السبب الأول منها ظهور فكرة الإصلاح عند الأمم الأوروبية ودخولها في دور جديد من المدنية بإعطاء العقل حق السلطان المطلق مع وقوف المسلمين في الجانب الآخر وقفة المتفرج المؤذنة بصعود أولئك إلى أوج المجد والقوة، وهبوط هؤلاء إلى حضيض المهانة والضعف، والسبب الثاني منح السلطان سليمان بعض الامتيازات القنصلية لجمهوريتي جنوى والبنادقة ولفرنسيس الأول ملك فرنسا، والثالث: ويشترك به غيره ممن سبق من سلاطين العثمانيين وهو صرف قوة الدولة إلى القسم الأوروبي مما يلي الأستانة، وإضعاف قوتها في إخضاع شعوب لم يكن منهم في مستقبل الدولة إلا الضرر وإيجاد العقبات في سبيل تقدم الدولة في أنحاء أخرى؛ لإشغال قسم كبير من جندها في توطيد دعائم الأمن في تلك الولايات وإخماد نيران الثورات المتوالية التي كان يضرمها إليها المسيحيون من حين لآخر إلى هذا اليوم.
أما امتيازات القناصل فإنها كانت الآفة الكبرى والوسيلة العظمى التي توسل بها الدول إلى إرهاق الدولة، لا سيما بما استزدنه بعد عهد السلطان سليمان من المنح والامتيازات الأخرى التي تخول بعض الدول حماية الكنائس في الشرق، وبعبارة أخرى حماية المسيحيين تذرعا بذلك إلى خلق المشاكل التي تمهد لهن السبيل إلى التسلط على ممالك الدولة عند سنوح الفرص الملائمة، ونذكر من هذه المنح والامتيازات ما أعطي لدولة فرنسا سنة 1740 من حق حماية جميع قسس الكاثوليك في المملكة العثمانية.
وبينما الدولة العثمانية تخبط في ديجور الحيرة في دورها هذا؛ أي دور التدلي والانحطاط، وتتسرب إليهما أفاعي الدسائس والامتيازات والدول الأوروبية تقضي لباناتها من الممالك الإسلامية في أقصى الشرق، وتوالي هجماتها على الثغور الإسلامية من إفريقيا الشمالية الغربية كتونس والجزائر وطنجة وسلا والعرائش، سعى أحد الباباوات بتحالف الدول الأوروبية على الدولة العثمانية، فاتحدت كل من النمسا وبولونيا والبندقية والروسيا ورهبنة مالطة وذلك سنة (1094ه) و(1683م) اتحادا سموه الاتحاد المقدس، وهاجم هؤلاء الدول المملكة العثمانية من البر والبحر وأصلوا بلادها حربا تشيب لها الرءوس، وفي غضون ذلك كانت الدولة الروسية تعد بهمة بطرس الأكبر عدوا هائلا للمسلمين يهدد أوروبا العثمانية والقوقاز والتركستان وفارس وكل آسيا الوسطى وأمرائها من المسلمين بسيل جارف يقضي على بقية الممالك التي لم يتيسر للدول الأوروبية الوصول إليها وسلب استقلالها، وأخذ بطرس الأكبر بمناوئة الدولة العلية، وآثار عليها حربا عوانا لم يصادفه فيها التوفيق فحول وجهته إلى جارتها أي دولة الفرس، وانتهز فرصة ضعفها وانقسامها، فتجاوز جبال القفقاس، واكتسح إقليم داغستان وكل الثغور الغربية الواقعة على بحر الخرز ، ووضع وصيته المشهورة التي يوصي بها أخلافه بصرف الهمة إلى القضاء على استقلال التتار في بلاد القريم وتدويخ الممالك التركية والإيرانية، والاتفاق مع بعض الدول الأوروبية على الرضا بذلك، فتبع قياصرة الروس بعد ذلك هذه الوصية على قدر ما وصل إليه جهدهم، فتوفقوا في بعضها ولم يتوفقوا في البعض الآخر، ولما كان عهد الإمبراطورة كاترينا (إلى سنة 1773م) أخذ الروس بدس الدسائس في القريم وإلقاء الشقاق بين الأهالي بعد أن سعوا باستقلال القريم عن تركيا استقلالا تاما في معاهدة قينارجة الشهيرة، حتى توصلوا إلى احتلال القريم وامتلاك سواحل البحر الأسود الشمالية، ثم اتفقت الإمبراطورة كاترينا سنة (1194ه/1780م) مع إمبراطور النمسا يوسف الثاني
3
على اقتسام تركية أوروبا وبعض جزائر البحر الأبيض وإقامة حكومة جديدة في الأستانة كالحكومة البزنطية المنقرضة، وإرضاء دول أوروبا بشيء من هذه القسمة، تنفيذا لوصية الإمبراطور بطرس الكبير، فقدم سفيرا روسيا والنمسا إلى الباب العالي تقريرين يشتمل كل منهما على ثلاثة مواد تتضمن: (أولا) طلب الدولتين لحرية التجارة، وأن تضع النظامات اللازمة والإصلاحات الموافقة لحرية الملاحة، ونقل المحصولات من ثغورها البحرية مراعية في ذلك الأصول والنظامات المعمول بها عند أكثر الدول الأوروبية، (ثانيا) عدم مداخلة الدولة في أمور التتار، واعتبار الخان مستقلا في حكومته، (ثالثا) رفع الجزية المضروبة على الإفلاق والبغدان.
وقد استشعرت الدولة من هذين التقريرين بالنيات الروسية السيئة، وظهر لها أن هناك اتحادا بين الدولتين يراد به محوها من الوجود، فعقدت في الأستانة في محرم سنة (1197ه) مجلسا للمشورة والإيجابة على هذين التقريرين، فرأى المجلس أن الدولتين تريدان التحرش بالدولة واستفزازها للحرب لتعزوا إليها نقض العهود السابقة والمبادئة بالعدوان، فينقضا عليها بالخيل والرجل مع أنهما هما البادئتان بالعدوان، وأن بينهما اتفاقا سريا على مهاجمة الدولة، وقد أخذا لأنفسهما أهبة الحرب مع أن الدولة لم تكن كذلك، فأقر المجلس على أن يجاوبا عن التقريرين جوابا محكما يدافع به رغباتهما الخبيثة ريثما تأخذ الدولة أهبتها للحرب، وأن تباشر من تلك الساعة أمر الاستعداد والتجهز لما عساه يكون بلا توان ولا إهمال ، فأجابت الدولة جوابا خلاصته: أن التقريرين المقدمين من سفيري الدولتين المحبتين قد نظر فيهما، وقدرت الدولة سعي واهتمام الدولتين الحبي بالإصلاح المطلوب حق قدره، وستنظر من الآن في الوجوه التي تشكو منها دولة الروسيا مطبقة أعمالها على العهود السابقة، وأن بادرت الدولة بتقديم هذا الجواب لسفيري الدولتين المتحابتين لتكونا واثقتين بأنها كانت ولا تزال حريصة على السلم والمصافاة.
ولم تلبث الدولتان بعد هذا أن أشهرتا الحرب على الدولة، واحتلت الروسيا بلاد الفلاخ والبغدان وبسارابيا، ودخل النمساويون بلاد الصرب وارتكب الروسيون الفظائع في هذه الحرب في قلعة إسماعيل.
4
وصارت الدولة على شفا الخطر لو لم يعجل الموت على إمبراطور النمسا يوسف الثاني، وتسعى بعض الدول في إبرام الصلح مع الدولة العلية ووضع معاهدة زشتوي المعروفة.
ولما أخذت الدولة بعد هذه الحرب في لم شعثها وإصلاح جنديتها، فاجأتها الجمهورية الفرنساوية بإرسال نابليون إلى مصر واحتلالها دون سابق سبب ولا إعلان للحرب، وذلك سنة (1213ه) سنة (1798م)، وكان ما كان من غزو الفرنساويين لسوريا، ثم جلائهم عنها، ثم اتفاق الإنكليز مع الدولة على إخراجهم من مصر، وتم ذلك فعلا.
وقد قضت أوروبا أن لا تستريح هذه الدولة ولا يوما واحدا من عناء الحرب، أو يقضى عليها إذا اتفقت الدولة الروسية والدولة الإنكليزية سنة (1807م) على حرب شعواء يقيمانها على الدولة بسبب تقرب نابليون منها بعد توليه شئون الحكومة الفرنساوية، فهاجمتاها من البر والبحر، ودمر الأسطول الإنكليزي كل المراكب الحربية العثمانية الواقفة في مدخل مضيق الدردنيل، بينما كانت الجيوش الروسية تهاجم الجيوش العثمانية عند نهر الطونة، ولم يطفأ شواظ هذه الحرب إلا بمهاجمة نابليون للدولة الروسية، وتقهقر جيوشها أمامه، ولما استقر الصلح بين الدولتين، وعقدت بينهما معاهدة تلسيت الشهيرة سنة (1223ه)، واجتمع الإمبراطور نابليون والقيصر إسكندر الأول في تلسيت وارفورد، اتفقا بينهما على اقتسام المملكة العثمانية، وأن تكون الأستانة في القسم التابع لروسيا أو على الحياد، بل يقال: إنهما اتفقا على ما هو أوسع من ذلك من الآمال المبنية على المطامع الوهمية التي يصورها خيال الملوك القادرين، على أن هذا الاتفاق - وإن وافق مقاصد نابليون الكبيرة وأطماعه الأشعبية - إلا أن وجود الدولة الروسية في مركز عظيم كالأستانة أو قربها أمر جلل لا يجهل نابليون عواقبه الوخيمة على أوروبا جميعها، بل وعلى آسيا وإفريقيا أيضا لهذا غض النظر عن الوفاء بوعده فأغاظ ذلك دولة الروسيا، ورأت أن الاضطراب الواقع في الأستانة العلية في شأن تغيير نظام الجندية، وما حصل فيها من تمرد الانكشارية على السلطان سليم وخلعهم له، وما أعقب ذلك من قتل سليم وخلع السلطان مصطفى وتولية السلطان محمود، فرصة لا تفوت، فاستأنفت الحرب مع الدولة العثمانية، إلا أنه لحسن حظها كانت العلائق فترت بين الروسيا ونابليون لإخلال هذا ببعض شروط معاهدة تلسيت، ورأى نابليون أن يعيد الكرة على الروسيا لاشتغالها بالحرب مع الدولة العلية، فبادرت الروسيا إلى عقد الصلح بينها وبين هذه الدولة لتتفرغ لقتال نابليون، وأمضيت بينهما معاهدة بخارست سنة (1812م).
كل هذه الحروب المتوالية والدماء المسفوحة لم تقف بطمع الإمبراطور إسكندر عند حد؛ إذ لما أعياه أمر القضاء على هذه الدولة وتنفيذ وصية بطرس الأكبر أخذ بتحريض اليونانيين من أهالي الموردة على الثورة والاستقلال؛ فأنشئوا جمعية سرية مركزها في «بطرس برج» برئاسة أحد الغراندوقات، وأخذت هذه الجمعية بنشر مبادئها الثورية وإعداد المورة لثورة يتطاير شررها في أنحاء البلاد، حتى إذا تخمرت في النفوس دواعي البغضاء ونمى حب الاستقلال نهض أهل المورة في وجه الدولة ورفعوا راية العصيان، وأنجدتهم يومئذ أكثر أوروبا المسيحية مؤملة إضعاف الدولة ومشاطرة ممالكها فيما بعد، وبعد استمرار الثورة مدة طويلة، وتطوع عدد غير قليل من الضباط الأوروبيين والجنود أيضا لمساعدة اليونانيين، ويأس الدول من توصل اليونانيين إلى قهر الدولة، أرسلت كل من فرنسا وإنكلترا وروسيا أساطيلهن إلى سواحل اليونان لإرهاب الدولة العثمانية، ثم فاجأت هذه الأساطيل في ناڤارين المراكب العثمانية والمصرية بالحرب بدون سابق إعلان بها ودمرتها تدميرا، ثم أصرت هاته الدول على الباب العالي بوجوب التسليم بمطالب اليونانيين ومنحهم الاستقلال، فأبى ذلك فأعلنت الروسيا عليه الحرب وناهيك بحرب تدخل فيها الدولة بعد ذلك الجهاد الطويل مع الروسيا من قبل واليونان بعد ذلك، ثم هي تكون مضطربة في شئونها الداخلية لقضاء السلطان محمود على جنود الانكشارية وحل معسكراتهم، واشتغاله بتنظيم جند جديد على الطراز الأوروبي، وهم لم يكونوا بعد شيئا مذكورا بالنسبة لقوة الروس العظيمة واستعدادهم الهائل.
لهذا لم يقو الجيش العثماني على الوقوف في وجه العدو إلا قليلا، ثم أخذ بالتقهقر حتى بلغت الجيوش الروسية مدينة أدرنة، وهناك رأت الدول أن الغاية من إنهاك قوى الدولة قد حصلت وأن دخول الجيوش الروسية إلى الأستانة خطر عظيم على مصالحهن في الشرق والغرب؛ فتداخلن في الصلح بين الدولتين على كره من روسيا، وأمضيت بينهما معاهدة أدرنة سنة (1829م) وقد ردت الروسيا بمقتضاها إلى الدولة العلية كل ممالك البلقان.
وعلى عقب هذه الحرب وإنهاك قوى الدولة وجهت فرنسا فكرها إلى إفريقيا الشمالية الغربية، وانتهزت فرصة ضعف الدولة واضطراب حالة الجزائر، فهاجمتها بحجة الانتقام من واليها لإهانة ألحقها بالقنصل الفرنساوي، وما زالت الحرب ناشبة بينها وبين الجزائريين حتى سنة (1847م) حيث بسطت عليها جناح سلطتها إلى اليوم.
رأيت أيها القارئ العناء الدائم الذي لاقته الدولة العثمانية من مكافحة أوروبا ومصادمة الدول الطامعة في ملك الإسلام، وربما قلت إن دولة بلغ بها الوهن وضعف القوة من الحروب المتوالية مبلغا يستدعي اتفاق الدول الأوروبية على اقتسام ممالكها منذ أكثر من مائة سنة ولم تفعل فلم هذا؟ فنجيبك: أن لهذا سببا ها نحن باسطوه لديك.
إن الدول الأوروبية لما وجهت مقاصدها إلى الشرق ورغبت في الفتح والاستعمار في البلاد القاصية كانت الدولة العلية في مكانة من القوة لا تتطاول إليها الأعناق ولا تتناولها الأطماع، فكانت كسد منيع قائم بين الغرب والشرق ليس فيه منفذ تتسرب منه جيوش تلك الدول الفاتحة إلى ممالك الإسلام في الشرق الأدنى، حتى اضطرت الدول إلى تحويل وجهتها إلى ما وراء البحار ودارت أساطيلها حول الكرة عن طريق رأس الرجاء لتبسط جناح سلطانها على ممالك الإسلام في الشرق الأقصى، وشغلها من هذا الفتح الجديد شاغل عظيم عن تركيا حتى إذا بدأ الوهن والضعف يظهران على الدولة العثمانية وسنحت لأوروبا فرصة العمل في تركيا، ظهرت شوكة العنصر السلافي المنتشر من حدود الطونة إلى أقصى الشمال في الروسيا، وذلك بهمة بطرس الأكبر الذي نهض بالأمة الروسية إلى مقام السياسة نهوضا ارتج له الغرب، وأخذت من ثم الدولة الروسية تنازع الدول الأوروبية بحكم الوحدة المسيحية على مشاطرة الممالك الإسلامية، وأقرب ما يكون إليها القسطنطينية التي تشبه بمركزها الجغرافي مرتفعا مشرفا على الأرض إذا اعتلا قمته النسر الروسي بسط جناحيه على الشرق والغرب، وهو مطمح نظرها في كل آن، فهال الدول ذلك المنازع الجديد وأخافها طموع الروسيا إلى الأستانة ومحاولة خروجها بقوتها العظيمة إلى شطوط البحر الأبيض، وأكثر ما أخاف ذلك دولة إنكلترا لا سيما وأن الروسيا لم تنحصر مطامعها في تركيا، بل امتدت إلى الهند، فكانت تهدد إنكلترا من جهات التركستان، وتنازعها النفوذ في البامر وفارس وخليج العجم، فهذا ما جعل الدول وفي مقدمتهن إنكلترا تنكمش عن التطاول إلى تركيا ما دامت الروسيا شريكة معهن في اقتسام ممالكها، ومن ثم غيرن وجهة سياستهن في الشرق حيث عدلن عن الاتحاد على اقتسام الممالك التركية إلى ترقب الفرص المناسبة لاختطاف كل دولة على حدة جزءا منها مع بذل الجهد في منع الروسيا عن التجاوز إلى داخل المملكة العثمانية، وكان من نتائج هذه السياسة مشاركة الدول للدولة العثمانية في حرب القريم التي كان منشؤها الامتيازات الأجنبية التي كانت بلاء على الدولة وسببا عظيما من أسباب تحكك الدول الأوروبية بالدولة العثمانية وإليك البيان.
تنازع قسس الروم مع قسوس الكاثوليك في القدس سنة (1260ه) في شأن يتعلق بكنيسة القيامة، وتصدت الروسيا للانتصار للروم توسلا إلى الأغراض الكامنة في نفس الإمبراطور «نقولا» إمبراطور الروس، فتداركت الدولة الأمر وأخذت على نفسها إجراء التحقيق اللازم في هذا الأمر وإحقاق الحق حيثما كان، ولم تدع للروسيا ولا لفرنسا سبيلا للتداخل في هذا الحادث ، ولما كادت تصل إلى فصل النزاع، ووضع الحق في نصابه لعبت يد الدسائس الروسية بقسوس الروم فلم يقتنعوا بالتحقيق الذي عملته الدولة، وتعدوا على حقوق اللاتين في الكنيسة وهدموا منها مكانا يختص باللاتين، فاحتج على ذلك سفير فرنسا في الأستانة المسيو بوركنه، وطلب إلى الباب العالي عمل تحقيق دقيق في هذا الأمر، مستندا إلى المعاهدة المنعقدة بين فرنسا والدولة العثمانية سنة (1156ه) التي تخول لفرنسا حق حماية الكاثوليك في الشرق.
أما الإمبراطور «نقولا» فقد اغتنم فرصة انقلاب الجمهورية وارتقاء نابليون على عرش فرنسا، وما تتمحض به تلك المملكة من الفتن مع اطمئانه من جهة أوستريا لوقوفها موقف المحتاط الحذر بإزاء المبادئ الحرة التي تسربت إليها عقب الثورة الفرنساوية، يضاف إلى هذا النزاع الواقع يومئذ بين الباب العالي والجبل الأسود فأوعز إلى سفيره في الأستانة المسيو «تتوف» بتذكير الباب العالي بالمادة الواردة في معاهدة (قينارجه) المعقودة سنة (1190ه) التي تبحث عن عدم معارضة الروم من أي قبيل كان في إقامة شعائرهم الدينية في القدس الشريف وبيت لحم، فقدم السفير تقريرا إلى الباب العالي يتضمن مطالب الإمبراطور في إنصاف قسوس الروم.
فألف الباب العالي لجنة لهذا القصد غير اللجنة الأولى التي بدأت بالتحقيق، فلم تفلح في إرضاء الروم مع كل ما صرفته من العناية في جلاء الحقيقة وصرف أسباب النفور، بل استأنف الروم التعدي على الكاثوليك، وأوقعوا بهم في مشاجرة وقعت بين الفريقين، فألف الباب العالي لجنة ثالثة مختلطة من روم وكاثوليك برئاسة عفيف بك، فسافرت من الأستانة سنة (1268ه) وبقيت في القدس إلى السنة التالية، ووفقت بين الفريقين جهد الإمكان، هذا مع شدة ما كانت تلاقيه الدولة من تصعب كل من فرنسا والروسيا وتشبث كل دولة منهما بما يوافق مصلحتها السياسية.
ولما لم يكن قصد الإمبراطور «نقولا» إلا الحرب بإيجاد أي سبب كان من الأسباب، أنفذ إلى الأستانة البرنس منشيكوف لأجل المخابرة في مسألة الأماكن المقدسة في بيت لحم والقدس في الظاهر، وفي الباطن للتحكك بالدولة وخلق سبب للحرب، وبمجرد وصوله إلى الأستانة أظهر من العجرفة والغرور ما جعل فؤاد أفندي - باشا فيما بعد - ناظر الخارجية يمتنع عن مقابلته حتى اضطر إلى تقديم استعفائه، وتولى نظارة الخارجية بعده رفعت باشا.
وفي أثناء ذلك اجتمع الإمبراطور «نقولا» مع سفير إنكلترا لدى حكومته السير هاملتون سيمور وأسر إليه بما في طويته من المقاصد الخبيثة نحو الدولة العثمانية، مظهرا له ضرورة اتحاد دولة إنكلترا معه على اقتسام تركيا، وأن الدولة العثمانية أصبحت كالرجل المريض الذي تحتم اليأس من شفائه، فأولى بهاتين الدولتين المبادرة إلى اقتسام تركته قبل أن يموت، ويقوم النزاع على اقتسامها بين الدول، وعرض عليه أن تأخذ إنكلترا مصر وكريد، وأن تكون الصرب ومقاطعات الدانوب وبلغاريا حكومات مستقلة تحت حماية الروسيا، وإذا دعت الضرورة إلى احتلال جنوده (أي جنود الروسيا) الأستانة، تكون كأمانة في يد الروسيا ليس لها حق التملك عليها.
وكان مما قاله له: إني أكلمك الآن باعتبارك صديقا لي، وإذا توصلنا إلى الاتفاق مع دولتك على هذا الأمر، فلا تهمني البقية (يريد بقية الدول) ولا أخاف مما يصنع أو يريد صنعه الآخرون (يعرض بفرنسا والنمسا).
فكان جواب السفير له: إن تعهد هذا المريض بالعلاج والاعتناء به حتى يشفى من مرضه وتعود له قوته خير من القيام إلى اقتسام تركته، الذي يجر إلى حرب تسيل فيها الدماء أنهارا.
ثم كتب السفير بما دار بينه وبين القيصر من الكلام وزاعت كلمات القيصر التي تنم عن مقاصده بين الدول، فأكبرن الأمر، وعد القيصر إفشاء السر خيانة من السير سيمور، ولكن لا خيانة فيما فيه المصلحة في شرع السياسيين.
ولما تأكدت عند الدول مقاصد الروسيا أمضيت بين فرنسا وإنكلترا معاهدة في لوندرة تقتضي المحافظة على أملاك الدولة بالمال والرجال.
وبعد أمور يطول شرحها أعلنت الحرب الدولية على الروسيا بعد أن بدأت بالعدوان باحتلال الإفلاق والبغدان ومهاجمة الأسطول العثماني في سينوب على حين غرة منه وتدميره كله.
وفي أثناء الحرب اتفقت الدول الثلاث المحاربة للروسيا مع إمبراطور النمسا على أن يحتل بجيوشه الإفلاق والبغدان إذا انجلت عنها الروسيا، وكان كذلك، وبعد ذلك انضمت حكومة إيطاليا مع الدول المتحالفة ضد الروسيا وأرسلت جيشا مؤلفا من 18 ألف مقاتل انضم إلى جيوش الدول المتحالفة على قتال الروسيا في القريم، وكذلك انضمت إلى هذا التحالف دولة السويد، ولم يبق بعد هذا كله وبعد الخذلان المتوالي الذي أصاب الجيوش الروسية في القريم أمام الجيوش المتحالفة، وفي البلقان أمام الجنود العثمانية، إلا التسليم بمطالب الدول، والكف عن الإمعان في الحرب، فاضطر الإمبراطور إسكندر المتولي بعد الإمبراطور «نقولا» الذي توفي في أثناء الحرب، إلى طلب الصلح والمسالمة، فوضعت الحرب أوزارها وانعقد الصلح في مدينة باريس بانعقاد مؤتمر دولي هناك، أمضى أعضاؤه على معاهدة باريس المعروفة التي تكفلت بحفظ أملاك الدولة العلية من أطماع الروسيا، وجعلت للدولة العلية المقام السياسي المطلوب بين دول أوروبا على شرط أن تتعهد الدولة بإجراء إصلاح في قوانين المملكة يقضي بتحسين حال رعاياها من كل الملل والأجناس، وذلك سنة (1856م).
انقضت هذه الحرب في عهد المرحوم السلطان عبد المجيد الذي توفي عقبها وتولى مكانه السلطان عبد العزيز، فداهمته الدول بالمطالب الكثيرة التي ترمي إلى المداخلة في شئون الدولة، التي أقرت تلك الدول على سلامتها واستقلالها التام في أمورها الداخلية في مؤتمر باريس، لكنها لم تلبث أن انقلبت عليها بدس الدسائس السياسية في بلادها لإلجائها إلى التصديق على صحة إمارة أمير رومانيا الذي اختارته الدول، وللتسليم بمطالب الصربيين الذين يريدون الاستقلال المطلق عن الدولة، ثم بتحريك أهالي كريد للنهوض إلى الثورة والانفصال عن الدولة حتى اضطرت الدولة إلى إكراههم على الطاعة بقوة الجند.
وبينما الدولة تلاقي هذه الخطوب بعزم ثابت ونضال مستمر حدثت الانقلابات الشهيرة والخطوب الكبيرة بموت السلطان عبد العزيز وتولي السلطان مراد ثم السلطان الحالي عبد الحميد، وقامت الفتنة ثانية في البلقان، وشبت بعدها نار الحرب الأخيرة بين الروسيا والدولة العثمانية، وانفصلت عنها بسببها البوسنة والهرسك والصرب والبلغار ثم الروملي الشرقي وتضعضعت قوى الدولة، وهذا ما تريده أوروبا منذ قررت الدول أن لا يهاجمن الدولة مجتمعات، بل ينتهزن مثل هذه الفرص وينقصن من أطرافها منفردات، وكانت فرصة ضعفها سانحة لهن عقب هذه الحرب، فأخذت إنكلترا جزيرة قبرص، واحتلت فرنسا تونس ثم احتل الإنكليز مصر، ولم يكف الدولة ذلك حتى قامت اليونان فاغتصبت تساليا، ثم أقامت حربها الثانية التي انخذلت فيها، فعاقبت الدول الدولة العثمانية على قهرها لليونان بفصل جزيرة كريد عنها، وكل هذه حوادث غير بعيدة عهد من الناس فلم نر حاجة للإسهاب في ذكرها وتجديد ذكرى الآلام في نشرها، ثم أعقب هذا أمور في مناهضة أوروبا للدولة العثمانية في الجليل والحقير من شئونها الداخلية، كانت ولم تزل تتجدد كل يوم، ومع هذا كله فإن السياسيين من أهل أوروبا لا يخجلون من الحق ولا يستحيون من جميع العالم الإنساني الشاهد عليهم بالكذب والبهتان، حيث ينادون بخطر الجامعة الإسلامية واتحاد الإسلام، مع أن المسلمين في كل ناحية من الأرض صاروا أسرى الدول الأوروبية، وأصبحوا لا حول لهم ولا قوة إلا تلك العاطفة الدينية المنبعثة عن الشعور دون العقل الفعال، كما أبنا عن ذلك فيما سبق من الكلام.
إن أوروبا تناهض المسلمين منذ عدة أجيال كما رأيت، وتنقص من أطراف ملكهم في أقطار الأرض، وهذه تركيا التي هي أعظم دولة إسلامية وتاريخها مع أوروبا شاهد على ذلك، وهذه القريم وقفقاسيا وداغستان وطاشقند وبخارى وخيوى وتاريخها مع الروسية شاهد على ذلك، وهذه الهند والسند «بلوجستان» وجزائر آسيا وإفريقيا كجاوى وسومطرا وسنغافوره وهنزوان وزنجبار والبحرين وغيرها، وتاريخها مع إنكلترا وفرنسا وهولاندا والبرتغال شاهد على ذلك، وهذه إفريقيا الشرقية وتاريخها مع إيطاليا وإنكلترا وفرنسا وألمانيا شاهد على ذلك، وهذه إفريقيا الشمالية والغربية وتاريخها مع إنكلترا وفرنسا شاهد على ذلك، وهذه إفريقيا الوسطى والسودان المصري وتاريخها مع إنكلترا وبلجا وفرنسا شاهد على ذلك، وهذه مراكش التي هي البقية الباقية من إفريقيا الشمالية الغربية ومعاهدة أبريل سنة (1904م) بين إنكلترا وفرنسا القاضية بسلب استقلالها شاهدة على ذلك.
هذا ما تفعله الدول الأوروبية بالمسلمين ودولهم منذ أربعة قرون تارة مجتمعات وتارة منفردات، وهكذا كانت ولا تزال تتشاطر ملك الإسلام وتقف لأهله في كل مرصد وتسد في وجوههم كل منفذ، وأكثر الساسة والكتاب الغربيين ينذرون البقية الباقية من دولهم بيوم عصيب وخطر قريب، يجهزون به على البقية الباقية لهم من الاستقلال إذ حان على زعمهم بعث المسألة الشرقية من رمس السياسة، وهي المسألة التي طال قولهم فيها وتعريضهم بها وأقوالهم في هذه المسألة مستفيضة في التاريخ وعلى الألسن، فمن العبث استقصاؤها في هذه العجالة، وإنما ننقل قولا واحدا لمتأخر جاء في كتاب «مستقبل مصر» تأليف «المستر ديسي» المطبوع حديثا وهو قوله:
ومن الجلي أن المسألة الشرقية تحل نفسها بنفسها، وإن كان هذا الحل يظهر أنه بطيء للأمم التي تئن من الظلم التركي والتي هي في شوق لأن ترى مصرع الرجل العليل في أوروبا (يريد الدولة العثمانية) ليقتسموا ميراثه بينهم، ولكن مرض الدولة العلية قد بلغ حدا من المحال أن تبرأ منه، وليست حقيقة المسألة الشرقية البحث عن الوقت الذي يتقلص فيه ظل الأتراك عن آخر أملاكهم في قارة أوروبا، وإنما الحقيقة التي يبحث عنها هي من ذا الذي يخلفهم في القسطنطينية والبوسفور والدردنيل، وكلما تباطأ حل هذه المسألة كلما زادت فوائد إنكلترا بصفتها نصيرة السلام العام، ولا حاجة بي إلى بيان أنه لولا الخوف من سعة نفوذ الروسيين لمحي الأتراك إلى اليوم من صحيفة الوجود في أوروبا، ومهما كانت نتيجة القلاقل المنتشرة الآن في الروسيا سواء كان نتيجتها نزع سلطة القيصر أو محو آثار هذه القلاقل، فمما لا ريب فيه أن حربا ستقوم يمحى بها أكثر الأتراك من أوروبا، ولا بد أن يأتي يوم نسمع فيه أن المسألة الشرقية قد انحلت.
ثم هو يدعو في مكان آخر من هذا الكتاب الدول المسيحية إلى الاتفاق على جهاد المسلمين وسحقهم خصوصا في إفريقيا.
كل هذا يسمعه المسلمون ويرون أثره ظاهرا في وجودهم السياسي الذي تكافحه أوروبا منذ أربعة قرون، وكادت لهذا العهد تأتي على آخره، وتمحو من الوجود معالمه، فماذا صنع المسلمون؟ هل خطر لهم يوما خاطر الاتحاد الإسلامي أو هبت في نفوسهم عاطفة الدين فمد بعضهم لبعض يد الإخاء وتناصروا على دفع الأعداء، وهل كان أمراؤهم الكبار وطواغيتهم الجاهلون الأغرار يتناصرون حين اشتداد الخطوب ويتصارخون حين الحاجة ويتحابون عند نزول العدو في ساحة أحدهم بقصد اكتساح بلاده وثل عرشه واستخذائه وقومه؟
كلا، بل بلغ بهم ضعف العقول، وانحلال الرابطة أن كان بعضهم عدوا لبعض يتربص به الدوائر، ويسارقه نظر العدو الغادر أو الصديق الجاهل، ولم نظفر في التاريخ الحديث - أي منذ نهوض الدول الأوروبية لمصادرة المسلمين ومناوئتهم - إلا بالشاذ النادر من الأخبار التي تنبئ عن الاستنجاد أو التناصر بما لا يتعدى حد القول، ولم يبرز من القوة إلى الفعل، وها نحن نسوق إليك تلك الأخبار في مساق الحكم على ضعف أمراء المسلمين وانحلال رابطة الوحدة الإسلامية بين حكومات الإسلام، بل والوحدة السياسية أيضا التي تقضي بها طبيعة الاجتماع لما يقابلها من وحدة السياسة الغربية التي ترمي بسهامها إلى غرض واحد وهو تدويخ المشرق واستعباد أهليه، وهذا ما تشتغل أوروبا للوصول إليه من عدة أجيال، وحسبك من نتائج تخاذل الحكومات الإسلامية المدارة بيد الأفراد، سقوط مملكة الأندلس بيد الإسبانيول وهي تستغيث بأمراء المسلمين وليس من مغيث، وآخر مدينة سقطت منها بيد العدو مدينة غرناطة وأميرها يرسل الرسالة تلو الرسالة إلى سلطان المغرب السلطان الشيخ الوطاسي والسلطان بايزيد العثماني لينجداه وينقذا المسلمين من بلاء كبير أعده لهم الإسبانيول، فلم ينجده إلا السلطان بايزيد برسالة بعث بها إلى پاپا رومة لم تغن عن جند أو مال، وانتهت الحال بسقوط الأندلس كافة بيد الإسبانيول.
أشرنا فيما سبق إلى أن وجود الدولة العثمانية بين دول أوروبا والشرق الأقصى وعدم تمكنهن من الاستيلاء على ممالكها حول مطامعهن إلى المحيط الهندي خصوصا بعد اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح، فانكفأت الدول الطامحة إلى الفتح والاستعمار على تلك الأرجاء، وأخذت بأكظام المسلمين على حين استحكام العداوة بين أمرائهم وتفشي الجهل والفوضى بين خاصتهم وعامتهم، ولما ضاقت بأمراء الهند سبل الخلاص من تلك الدول وخاصة الإنكليز والبرتغال؛ كان أول من تنبه منهم إلى وجوب الاستعانة بغيره من سلاطين المسلمين السلطان علي نجا سلطان مليبار في الهند، فأرسل إلى السلطان عبد الحميد الأول سنة (1191) رسولا ومعه كتاب يقول فيه إن المرحوم السلطان مراد كان أسعف حكومة مليبار بسفينتين حربيتين وجنود انتصرت لهم على أعدائها من المجوس وذلك سنة (950ه)، ويطلب في هذا الكتاب تجديد هذا التفضل من الدولة على حكومة مليبار بإنجادها الآن بالمال فقط لتستعين به على محاربة أهل جوارها من المجوس الذين كانوا أصلوا السلطان علي نجا حربا عوانا بدسائس الإنكليز والبرتغاليين، وكانت الدولة أكثر منه حاجة إلى المال، فلم تساعدها الأحوال على إسعافه بما طلب، ثم في سنة (1194ه) أرسلت أخته السلطانة بيبي وكانت خلفته في الملك رسولا آخر إلى الأستانة تستنجد الدولة العلية على أعدائها، فاعتذرت الدولة ببعد المسافة بين المملكتين وأعادت الرسول مصحوبا بهدية نفيسة إلى السلطانة مع تطمينها أن الدولة أوصت دولة إنكلترا والبرتغال بعدم التعرض لحكومة مليبار بما يقلق راحتها وراحة الأهلين، ثم لما اشتدت وطأة الإنكليز على بلادها وأشرف ملكها على السقوط، وذلك سنة 1199 ولم ينجدها أحد من ملوك الهند المتخاذلين استنجدت بالدولة أيضا، والدولة كتبت إلى والي بغداد تسأله إن كان في الإمكان إسعافها بشيء من النجدة، ولم يتم لتلك الملكة التعيسة ما تريد؛ لأن الدولة كانت في حرب دائمة مع أوروبا في ذلك الوقت وخصوصا الروسية، فلم تستطع إمداد الهنود بشيء من القوة، ولو فعلت لكانت لها السيادة على الهند إلى اليوم.
وفي سنة (1179ه) رأى السلطان محمد بن عبد الله سلطان المغرب، وكان من عقلاء الملوك المسلمين وفضلائهم أن يمهد السبيل لإزالة أسباب التقاطع الواقع بين المسلمين وأمرائهم، وعلم أن الدولة العثمانية وهي أكبر دول الإسلام أولى بأن يوصل بها حبل الألفة، فأرسل إلى القسطنطينية رسولين ومعهما هدية إلى السلطان مصطفى الثالث فيها خيل عتاق بسروج محلاة بالذهب، وسيوف مرصعة وما أشبه ذلك، فقوبلت هديته بالسرور، وأرسل إليه السلطان مصطفى مركبا موسوقا من آلة الحرب كالمدافع والقنابل والبارود وإقامة خاصة بالمراكب الحربية التي كان يسمونها يومئذ المراكب القرصانية من كل ما تحتاج إليه.
ثم لما وقعت الحرب بين الروسيا والدولة العثمانية مدة السلطان عبد الحميد الأول الذي تولى الملك بعد السلطان مصطفى الثالث بادر السلطان محمد بن عبد الله المومأ إليه فأرسل إلى حاكم الجزائر أربع سفن حربية موسوقة بالهدايا وآلات الحرب، ورغب إليه أن يرسلها بواسطة حكومة الجزائر إلى القسطنطينية، فأساء ذلك الحاكم الوساطة ورد على سلطان المغرب ردا قبيحا، فلم يمنعه ذلك من المضي في سبيل التقرب من الدولة العثمانية ونصرتها، فبعث إلى القسطنطينية سفيرا هو محمدين العربي بهدايا نفيسة وكتاب إلى السلطان عبد الحميد، فبسط السفير إلى السلطان خبر إساءة حاكم الجزائر، وقال له: إن مولاي بلغه بواسطة بعض أن قناصل الدولة المحابة أن الروسيا والنمسا اتفقتا على مهاجمة القسطنطينية وسحق الدولة العثمانية بزعمها الفاسد فأقلق
5
ذلك خاطر مولاي وآلمه الخبر، ثم علم من ذلك القنصل أن دولتكم العلية أخذت بالاستعداد لمقابلة العدو وتوفرت على تجهيز الأساطيل وتحصين القلاع، فأرسلني لتبليغكم خبر استعداده لكل ما يطلب منه من المعونة ليقدم ما في استطاعته حتى نفسه وما يملك فداء عن حضرة السلطان، ولكي أبين لكم أسفه من تقاطع ملوك المسلمين لا سيما في مثل هذا الحين؛ لأن معاضدة الدول للروسيا أضر بالمسلمين، فما بالنا ونحن ملوك المسلمين لا نتحد ونتعاضد.
فأجيب السفير بالشكر على هذه العناية، وأن اعتبار سلطان المغرب بقوله تعالى:
وتعاونوا على البر والتقوى ، الذي يوجب اتفاق المسلمين وتعاون ملوكهم واتحادهم قد قدر عند السلطان تقديرا عظيما، وأن الدولة ولله الحمد كثيرة الجند ولا تحتاج لغير المال إذا أشهرت عليها الحرب، فإذا احتجنا إلى شيء منه فكم يستطيع السلطان أن يقرضنا.
فأجاب السفيران في إمكانه أن يقرضكم خمسة آلاف كيس.
فاستصغر هذا المبلغ من مثل سلطان المغرب، ومع ذلك لم تحتج الدولة يومئذ لهذا القرض؛ لأنها عقدت معاهدة صلح مع الروسيا وسافر السفير المغربي مكرما إلى الحجاز، ومن ثم بقيت الصلة الأدبية بين الدولتين مدة السلطان محمد المذكور.
وفي أواخر مدة السلطان عبد العزيز أرسل أمير بخارى رسولا إلى الأستانة يستغيث بالدولة من تعدي الدولة الروسية عليه وعزمها على اكتساح ملكه، وكان ذلك قبيل سقوط بخارى في يد الروس، ولم يستقر السفير في الأستانة حتى وردت الأخبار بسقوطها بيد الجنود الروسية.
وآخر من نعلم من أمراء الإسلام الذين أرادوا التقرب من الدولة العثمانية ولكن عند آخر نفس من الحياة السلطان برغش سلطان زنجبار، وذلك أنه طلب أن يضع بلاده تحت حماية الدولة العلية لما أخذت دولتا ألمانيا وإنكلترا بمضايقته ومحاولة الاستيلاء على بلاده فلم يفلح في طلبه، وأنى يفلح والدولة كانت خارجة من حرب الروس والدول كلها تتربص بها الدوائر، وليس بين ملوك المسلمين ما بين ملوك أوروبا من التعاون إذا اتحدت المصلحة وإن افترقت تلك الدول أحيانا في المطالب والغايات.
هذا كل ما رأيناه من تناصر المسلمين وأمرائهم في التاريخ الحديث بإزاء تناصر الدول الأوروبية واتفاقها على اكتساح ممالك الإسلام وإصلائها المسلمين حربا عوانا في كل أنحاء الأرض منذ بدأت أوروبا تصعد في معارج الرقي والمدينة الحديثة إلى اليوم.
فهل يجوز لساسة المغرب أن يصوروا قوما هذا شأنهم في التخاذل وانحلال عرى الاتفاق في صورة غول إذا تضامت قواه يلتهم العالم، وهم أولى بهذه الصورة وحقيقتها، والتاريخ كما بينا شاهد عدل.
حقا إن الإنسان إذا أحرج أخرج
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، إني أعتقد أن ساسة المغرب في هذا العصر قد خدموا المسلمين أكثر مما خدموا به سياستهم الطامعة وأنانيتهم العظيمة في إلحاحهم بتهمة المسلمين بالتعصب الإسلامي والاتحاد الإسلامي وما شابه ذلك، ومجاهرتهم بما في أنفسهم من نية السوء واستعجالهم بالشر الذي يريدونه بدول الشرق على العموم والإسلام على الخصوص، حتى كادوا أن ينبهوا بذلك شعور المسلمين بقصورهم في جانب دينهم الذي يأمرهم بالتعاون ويربطهم بربط الإخاء؛ ليفزعوا إلى الاعتصام به جزعا من جيوش السياسة التي تطاردهم في كل مكان، ويعلموا أن الماضي كان جريمة اجترمها أمراؤهم الظالمون المستبدون الذين أضلوهم عن سبل الخير وسدوا في وجوههم منافذ النور الذي تستمد منه الحياة.
إن حركة الفكر الإسلامي القائمة الآن هي نتيجة تبادل الشعور بما تريده أوروبا من المسلمين من الاستخذاء والتعبد، ونتيجة الشعور بما بلغته الأمم الأوروبية من قوة السلطان والبسطة في الملك في الشرق والغرب، فهي أي هذه الحركة إذا ظنها الأوروبيون مقدمة للاتحاد الإسلامي أو عين الاتحاد، فإنما هي اتحاد على معرفة الواجب بالبحث عن مصدر ترقي أوروبا ألا وهو العلم والحرية، فأما العلم فقد نشطوا له في كل مكان بقدر ما تساعدهم الظروف وما ينفذ إليهم من خلال حجب الاستبداد، من نور المعرفة، وأما الحرية فهم ينشدونها حيثما وجد الاستعباد، لا فرق في ذلك عندهم بين الدول المسيحية والإسلامية، فكما نرى المصريين يطالبون الإنكليز بالحرية نرى الإيرانيين يحاربون حكومتهم الإسلامية من أجلها، ونرى العثمانيين كذلك يبذلون مع حكومتهم الإسلامية كل جهد ويفادون بكل نفس ونفيس لأجل الحصول عليها والتخلص من ربقة الظلم والاستبداد.
أليس هذا اتحاد في الشعور بالحاجة إلى الرقي وإلى مسابقة الأمم المتمدنة؟ أليس التمدن والرقي ضد الهمجية؟ فإذا كان المسلمون همجا متعصبين، وبهذا يصمهم الأوروبيون، أفليس في طلبهم الرقي وتراميهم على الدخول في صفوف الأمم الراقية المتمدنة ما يزيل عنهم هذه الوصمة، ويسقط حجة أعدائهم في تلك التهمة؟ بلى هذا هو الحق الصراح، فلينصف الساسة الغربيون، وليرجعوا عما يقولون. (3) نصيحة للمسلمين
قد رأى المسلمون مما تقدم بسطه أن الذي فصم عروة اجتماعهم وفرق أجزاءهم وأنساهم معنى الأخوة في دينهم منذ قرون بعيدة، إنما هو حكم الأفراد، أي أمرائهم المستبدين، وأن الانشقاق بين المسلمين إنما هو نتيجة الانقياد لحكم الأشخاص الذين من دأبهم التخاذل حتى في أشد الأوقات حرجا على المسلمين وخطرا على المتفرقين كما رأيت فيما تقدم من هذه الرسالة؛ حيث كانت الأعداء تتشاطر ملك الإسلام، فلا يأخذ الجار بناصر جاره، ولا يشد الملك بعضد أخيه، وحسبكم إذا تركتم النظر إلى الماضي أن تنظروا إلى الحاضر وتعرفوا منه العبر، وتلمسوا الخطر، فإنكم تسمعون كل يوم باتحاد الدولة الفلانية مع الدولة الفلانية على المسألة الفلانية في الشرق، وتعاقد الدولة الفلانية مع الدولة الفلانية على مسائل البحر الأبيض أو خليج فارس أو البحر الأحمر أو غير ذلك من بلاد الإسلام، فهل تسمعون لملوككم ركزا؟ أو تبصرون منهم رمزا؟ وهل ترونهم يتضامون على حفظ استقلالهم كما يتضام غيرهم على نزعه منهم واستعباد رعيتهم؟ إنكم لا ترون منهم ذلك ولا تسمعون، بل إنهم يأخذون بكم إلى مهاوي الخطر وأنتم لا تشعرون.
فكل مصائبكم إنما كانت من قبل حكم الأشخاص وموت إرادة الملايين من البشر في إرادة شخص، وهو موت لهم أجمعين، وخذلان يخرجهم عن مصاف الآدميين، وليس هذا من شأن الإنسانية ولا من شأن العقل ولا من شأن الدين.
إن دينكم يريد أن تكونوا في أرقى منازل البشرية وأدناها في الوجود إلى متناول العقل، فلم يجعل حتى للأنبياء سلطانا على الإرادة والعقول إلا بالحق والهداية، فاسمعوا ماذا يقول الله لنبيه في كتابه الكريم:
ما على الرسول إلا البلاغ ،
لست عليهم بمسيطر ،
وما أنت عليهم بوكيل .
واسمعوا ماذا يقول في خطابه للمؤمنين:
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم .
كل هذا إشارة إلى أن لا حكم للإرادة على الإرادة وإنما الحكم للعقل والوجدان، فحرية الوجدان هي التي يقاتل من أجلها الروس، وقاتل من أجلها الفرنساويون، وكل أمم أوروبا، وهي التي كانت أساس الدعوة في دينكم، أي التبليغ كما رأيتم في الآيات، وإنما أضلكم عنها وترككم صرعى دونها حكم الأفراد الذي هو بطبيعته قاتل للوجدان خاذل للنفوس مانع من ترقي العقول وتلمس طرق العلم الصحيح، فلتعلموا إذن أن حكم الأشخاص إذا استمر سائدا على المسلمين فليس هو بأقل خطرا على حياتهم السياسية من هجمات الأوروبيين وصدمات الفاتحين، بل هو ممهد له داع في القريب العاجل إليه.
إذا تقرر هذا فنصيحتي الأولى لكم هي أن تعلموا أن حياتكم الأدبية بالعلم، وحياتكم السياسية بالحكومات النيابية، فأقبلوا بكليتكم على طلب العلم، جودوا بالأموال لتأسيس المدارس، ابعثوا بأولادكم إلى دور العلم في أوروبا، استفيدوا خير ما في المدنية الغربية وهو العلم، اهدموا كل حاجز يقوم في سبيل نشر العلم في بلادكم مهما كان ، عضدوا نوابغكم حيثما كانوا، عظموا قدر علمائكم أينما وجدوا، توفروا على التأليف وعلى العمل بجد في سبيل الرقي، انبذوا الأوهام ولا تستسلموا لليأس، ولتقم فئة من كل طائفة منكم استنارت بنور العلم والمدنية ببيان فوائد العلوم الحديثة للأقوام الآخرين الذين عزلتهم حكومات الاستبداد عن عالم الحركة وعالم العلم كأهالي مراكش وجزيرة العرب والتركستان وغيرهم، فأصبحوا يستنكرون كل ما أتاهم من طريق الغرب، لا لانحطاط في مداركهم أو لأثر من الدين في نفوسهم؛ بل لضعف في قلوبهم ولده استبداد الأمراء وممالأة الفقهاء أجيالا متوالية كادت تذهب بآثار الحياة الصحيحة من البلاد الإسلامية.
العلم به يحارب الاستبداد، وبه يعرف كل فرد قيمة الحياة ومعنى إرادة النفس وحرية الوجدان، فتعلموا ثم قاتلوا بسلاح العلم الحكم الشخصي حيثما كان سائدا عليكم، متحكما فيكم، قيدوا حكوماتكم أنى كان جنسها بالقانون النيابي؛ إذ بهذا تتم سعادتكم ويسلم استقلالكم وتأمنون على حياتكم السياسية وجوامعكم الملية، وبه تتعارفون وتتحابون كما كنتم في أيام الحكم الشخصي تتنافرون وتتباعدون.
واعلموا أن تبادل العواطف بين الشعوب الأوروبية هو الذي رفع منزلتهم بين الأمم ونفخ فيهم روح القوة، ومثاله إذا نهض أحقر شعب أو أكبره من الشعوب المسيحية في طلب الحرية والدستور أو الاستقلال عطفت عليه ثمة كل القلوب، ونصره الساسة وأرباب الأقلام، فإذا رأيتم شعبا منكم يحاول هدم الحكم الشخصي ويطالب بالحكومة الدستورية، فاعطفوا بقلوبكم عليه وانصروه ولو بالأقلام وعلى صفحات الجرائد كما تصنع الأمم المسيحية؛ ليعلم العالم أجمع أنكم أحياء متعاطفون تريدون السعادة الشاملة وتخدمون الإنسانية الراقية، واقتدوا في ذلك بشعب منكم لم ينل حرية الفكر والقول إلا بالأمس وهم مسلمو الروسيا، فإن أكثر جرائدهم تأتينا وفيها من روح التعضيد للعثمانيين الأحرار في طلبهم الحكومة الدستورية، ومن حسن استقبال النهضة المصرية وشكر القائمين بها، وبطلب الحكومة الدستورية في تركيا ما يدل على أن قوة الحنو والمشاركة في العواطف قد دبت في ذلك الشعب النشيط، وستسري إلى غيره قريبا إن شاء الله.
هذه نصيحتي الأولى، ونصيحتي الثانية أن توقنوا أن الشرق للشرقيين متى توفر لديكم ذانكم الشرطان وهما العلم والحكم النيابي، وأن تكتبوا ذلك على صفحات قلوبكم وتتدارسوه في دور علمكم، وأن تعلموا أن الأرض التي ينبت فيها المسلم والمسيحي واليهودي في الشرق هي وطن لهم جميعا، فتناصروا مع أهل وطنكم واعرفوا لهم حقوقهم التي عرفها قبل ذلك نبيكم
صلى الله عليه وسلم
وقررها شرعكم وأرشدتكم إليها آداب دينكم، ولا تجعلوا إليكم سبيلا لطعن الطاعنين أو مؤاخذة المساكنين في التقاطع مع غيركم من أهل الملل الأخرى، وكونوا أوسع صدرا من غوغائهم ومتعصبيهم يعرفون لكم بعد ذلك جميلكم، ويحفظون جواركم متى حفظتم جوارهم، ولا يمنعنكم ما تسمعونه من تهم الأوروبيين وغلوهم في ذم المسلمين أن تحسنوا إلى أهل جواركم وتكذبوا مع الزمن مفتريات أعدائكم، فسيأتي يوم يحصحص فيه الحق، ويعترف العالم أجمع أن المسلمين خير الناس معاملة للناس واستمساكا بالفضيلة، وأن الشرق منبت الإنسانية الأولى سيكون بأهله مجمع الإنسانية الفاضلة إلى ما شاء الله.
إن الأوروبيين يقولون أوروبا للأوروبيين ودولهم لا تزال تدأب على العمل لتقليص ظل سيادة المسلمين عن آخر ملك لهم في أوروبا، فلا حرج عليكم أن تقولوا مثلهم إن الشرق للشرقيين، وأن تحققوا هذا القول لا بالجلبة والضوضاء بل بالتماس القوة من طرق العلم، نعم من طرق العلم إذ لا قوة بغير العلم، فاليابان في أقصى الشرق سبقتكم إلى تحقيق هذه الأمنية، فكونوا مثل أولئك القوم في أدناه تتحقق حينئذ آمالنا في أن الشرق للشرقيين وتصافحكم أوروبا كما صافحت اليابان مصافحة الصديق للصديق؛ لأنها في حاجة إليكم وأنتم في حاجة إليها.
فهي تحتاج إلى ترويج متاجرها في الشرق وأنتم تحتاجون إليها في تلقي دروس المدنية عنها، وفي أخذ العلوم النافعة منها، فالحاجة متبادلة حتما، ولا غنى للشرق عن الغرب وبالعكس.
وبعد هذا كله يجب أن تعلموا أن من الإنصاف والعدل الاعتراف بفضل المدنية الأوروبية التي نهضت بالإنسانية إلى منزلة سامية لم تبلغها من قبل، وأن الاحتكاك بالأوروبيين قد نفع الشرق نفعا محسوسا نلمسه بالأيدي لمسا، فنحن مدينون لهم بالرقي العقلي والصناعي، فلا يمنعنا عنت ساستهم بنا من معاشرتهم بالمعروف والاعتراف لهم بالفضل وتوثيق عرى الصلة الإنسانية معهم في كل مكان وزمان، وبعد فإنا في حاجة إلى صداقة بعض الدول الأوروبية، فأية حكومة منهن عاملتنا بالمعروف ومهدت لقوم منا سبيل الحرية والاستقلال فلنحرص على صداقتها، ولنعرف لها صنيعها، ولعل في نهضة المسلمين العلمية وحركتهم الفكرية وتشربهم روح الديمقراطية ما يقرب أوان التوفيق بين مصالح الشرق والغرب، ويدعو الدول إلى مصافاة الأمم الإسلامية؛ إذ هذا أبقى للمودة، وأدعى لاستفادة الغرب من الشرق، وإنما يستفيد الغرب من الشرق إذا راعى في تطلب المصلحة قاعدة تبادل المنافع دون التمسك بالأنانية وحب الأثرة ومصادرة الأمم في حقوقهم الطبيعية التي تحرص عليها الإنسانية المتمدنة؛ فيستحيل أن يفرط بها الشرق العريق في المدنية وحب الاستقلال. (4) نصيحة لغير المسلمين
إن العالم يسير إلى الديمقراطية الصحيحة سيرا حثيثا يجعل حياة الأمم السياسية بمعزل عن الاعتقادات بحيث لا يكون تباين اعتقادين في شعب واحد مانعا من توثق عرى القومية أو مباينا بين أغراضها السياسية، وقد سبق الغرب الشرق لهذا العهد إلى هذه الديمقراطية، وبدأ الشرق يحس بها أو يشعر بالحاجة إليها بعد أن ثقلت عليه سيطرة الغرب، وأنهكه طول التفرق والانقسام، فليس المسيحي واليهودي وغيرهما بأقل حاجة من المسلم إلى الاعتضاد بالقومية وتوثيق وشائج الإخاء الوطني للدخول في تلك الديمقراطية الصحيحة التي ترفع شأن الأمم وتحوط حياة الأقوام السياسية بسور من القوة.
وهذا ما نريد أن ننبه إليه أهل جوار المسلمين من أرباب الملل الأخرى حيثما جمعهم جميعا وطن واحد وجبلوا من طينة واحدة، ونخالهم يسلمون معنا أن عصور الجهالة التي كان انطفأ فيها مصباح العلم في أيام الاستبداد الغابر الذي طمس معالم الفضيلة الدينية والوطنية ونفث في المسلمين والمسيحيين وغيرهم سم التعصب قد مضى أمره وذهب سلطانه، إلا أثرا منه في النفوس نرجو أن يعالجه العلم بالأدواء النافعة ويحل محله الوفاق والحب والمصافاة.
العلم هو رسول السلام في هذا العصر، والمشرق على القلوب، ونرى الشرقيين عامة قد تنبهوا إليه وأخذوا بالحظ الوافر منه وإن تفاوتوا في النسبة بين السابق واللاحق والمبتدئ والمتوسط، وما دامت السيادة مؤكدة في المستقبل للعلم فلنتلقاها من الآن بصدر رحيب ولنمهد لها السبيل الذي لا عوج فيه، وخير الذرائع إلى ذلك أن يسمع إخواننا من أهل الملل الأخر نصيحتنا التي أسمعناها للمسلمين بنبذ التعصب وإزالة أسباب البغضاء والتنافر التي بينهم وبين المسلمين، وأن يحفظوا حق الجوار والسكن والجنسية للمسلمين حيثما جمعهم وإياهم وطن واحد، وأن يمهدوا بذلك للشرق طريق الدخول في الديمقراطية التي يسير إليها العالم بحكم الحاجة، وأن يعلموا أن الشرقي مهما كان دينه لا يكون في عوائده وأخلاقه ومعيشته وحكومته غربيا قط، ولا الغربي يقبل أن يكون الشرقي غربيا قط؛ إذ إن الحياة السياسية في أوروبا قد صارت أو كادت تصير بمعزل عن الاعتقاد، فالغربي إذا حكم في الشرق مسيحيا مثلا لا ينظر إلى ما بينهما من المشاركة في الاعتقاد، بل ينظر إلى المصلحة، وهذا الغرب أصبح لهذا العهد يحكم القسم الأكبر من آسيا وإفريقيا، فهل صير المحكومين منه غربيين، أي أعطاهم من الحقوق ما له وجعل عليهم منها ما عليه؟ كلا، بل هو يعتبرهم أحط منه منزلة وأبعد عنه مشاكلة؛ لذا ترى القانون الأساسي لكل دولة أوروبية لا يشمل سكان ممالكها في آسيا وإفريقيا، بل اختص هؤلاء بحكم مخصوص لا يمتاز عن حكم المالك في المملوك مع أن الشرقيين سواء في الحقوق عند أية حكومة شرقية مهما اختلفوا في الأديان، فالمسيحي في حكومة إسلامية له ما للمسلم وعليه ما عليه، والمسلم في الصين في نظر حكومتها الوثنية كالبوذي لا فرق بينهما في المعاملة؛ إذن فالشرقي سيد نفسه ما دام سيدا في بلاده، فليعتبر بهذا إخواننا الذين يخالفونا في الاعتقاد من أي نحلة كانوا، وليتاكتفوا مع المسلمين على المضي في سبيل العلم والترقي والديمقراطية الصحيحة التي يسير إليها الشرق كما سار الغرب، وليحققوا بذلك آمال الشرق في بنيه وخير الأعمال ما سبقته العزيمة الصادقة وكانت مطية صاحبه الإخلاص.
كلمتنا مع ساسة أوروبا
بقي علينا أن نقول كلمة لساسة أوروبا وقادة الأمور فيها لعلها تصادف منهم قلوبا واعية تنصر الحق ولو يوما، والإنسان كما أنه ليس بخير محض، فهو ليس بشر محض، بل هو قابل للأمرين، وربما كان إلى الخير أقرب منه إلى الشر.
يعلم مما تقدم كله أن الفرص التي سنحت للدول الأوروبية في مناهضة المسلمين واقتسام أملاكهم في القارات الثلاث إنما كان سببها تخاذل ملوك المسلمين وانقياد الأمة لحكم الأشخاص بحيث كان كل شعب من المسلمين لا يحس ولا يعتبر بمصائب الشعب الآخر؛ لأنه مسلوب الإرادة بقوة الحاكم المطلق، ضعيف الحس؛ لشدة ما توالى عليه من الإحن والمحن من وجه، ومن وجه آخر كان المستبدون من أمرائه يحجبون عنه نور المدنية والعلم الصحيح بحجب صفيقة لا ينفذ منها إلا شعاع ضئيل يكاد لا ينبه الحس، شأن الحكومات المطلقة مع الرعية في كل زمان ومكان.
ولم يكن احتكاك المسلمين بأهل المدنية الحديثة بالغا مبلغه الآن ليتكهربوا بتيار الحرية الجاري في جسم الممالك الأوروبية، وليمزقوا تلك الحجب ويندفعوا إلى فضاء الحرية فضاء العلم والحياة، لذا كانوا في حالة تشبه الخدر يصيب الجسم، وينبه قليل من الدلك.
أما الآن فقد تغيرت الحال، وتنبه ذلك الجسم المتخدر رغم الوسائط الكثيرة التي كان يستعملها لتعطيل حركته أولئك المستبدون؛ وذلك لسببين: السبب الأول اندفاع الدول الأوروبية بكليتها إلى الشرق، وتهافتها على البلاد الإسلامية في إفريقيا وآسيا وخصوصا في أواخر القرن الماضي تهافتا خاليا عن كل تبصر ارتعدت له فرائص المشرق، واهتزت له أعصاب المسلمين في كل أنحاء الأرض، فشعروا بالخطر المحيط بهم وبوشك سقوط سيادة كل شعب منهم حتى على الأرض التي جبلوا هم وأجدادهم الشرقيون بترابها، وتمتعوا بحق القرار فيها منذ عرف تاريخ الإنسان.
والسبب الثاني هو احتكاك المسلمين بالأوروبيين خصوصا في هذا العصر احتكاكا شديدا، سواء كان في المعاشرة والمتاجرة أو باقتباس العلم عنهم في أوروبا وفي الشرق نفسه، وهذا يدعو بطبيعته إلى الاستفادة من العلوم والمبادئ التي نهض بها الغرب، وهذا أمر لا محيص عنه ما دام الشرق متصلا بالغرب، وما دام العلم مشاعا بين الأمم، والمبادئ تسري من قوم إلى قوم بحكم الحاجة إلى النافع وتقليد الضعيف للقوي.
إذا تقر هذا فقد تعين على ساسة أوروبا أن يقدروا نهضة المسلمين لهذا العهد قدرها، ويتحققوا أنها نهضة طبيعية انبعثت عن أسباب قاهرة وطبيعية لا عما يسمونه التعصب أو غيره، والأسباب التي دعت الأمم الأوروبية إلى المطالبة بالحرية وهدم أركان الحكومات المطلقة عقب الثورة الفرنساوية وسريان مبادئها يومئذ في نفوس الشعوب؛ تقليدا للفرنساويين واقتداء بهم، هي عينها التي تدعو المسلمين الآن إلى طلب الحرية، سواء كانوا محكومين بحكومات مسلمة أو مسيحية، فكما يطالب العثمانيون حكومتهم الإسلامية بالدستور، ويتفانى الإيرانيون في سبيل الحرية وتأييد دعائم الحكم النيابي الذي نالوه من الشاه من بضعة شهور، كذلك يؤيد المسلمون في القفقاس والقريم وكل البلاد الروسية إخوانهم الروسيين في طلب الدستور من حكومتهم المسيحية، وكثير منهم انحاز إلى جانب السوسيالست من الروسيين؛ مغالاة في المبادئ الحرة التي نفثت فيهم بحكم الطبيعة أو الاقتداء والجوار.
والأسباب التي دعت اليونانيين والبلغاريين وغيرهم إلى طلب الاستقلال عن الدولة العثمانية ونصرتهم على هذا الطلب كل أوروبا المسيحية باسم الإنسانية، هي التي تدعو الشعوب الإسلامية المحكومة بالأجنبي إلى طلب الاستقلال والحرية وتأمل أن تسعفهم أوروبا باسم الإنسانية أيضا.
إذن ما دامت هذه النهضة الإسلامية أثرا من آثار الترقي الطبيعي في العالم منعكسة صورته عن الغرب، والغرب هو السابق في بث هذه الروح العالية روح الحرية والاستقلال، فمن الواجب على ساسة أوروبا أن يتلقوا بالارتياح كل خطوة يخطوها المسلمون إلى الأمام ما داموا يحذون بخطاهم حذو الأوروبيين ويعترفون لأهل المدنية الحديثة بفضل السبق في رفع راية الحرية والعلم.
إن المسلمين - أيها الساسة - أمم مثلكم أهل شعور لا يختلف في شيء عن شعور غيرهم إلا بكونه أرق وأشد استعدادا للتأثر بالجميل بما أودعه فيه دينهم المبين من حب الفضيلة وحب الغير وحب المحسنين إليهم، فعاملوا ولو شعبا واحدا منهم كما عاملت فرنسا الأميركيين أيام حروب الاستقلال ، وكما عاملت كل دولكم اليونان أيام طلبها الاستقلال، وكما تعاملون كل الشعوب المسيحية التي تحاول نيل الاستقلال والحرية، وانظروا بعد ذلك كيف يكون ذلك الشعب مع ناصريه على الاستقلال ومانحيه الحرية، وكيف يقابل الإحسان بالإحسان، ويذكر الجميل لصاحبه على مدى الزمان.
إنكم تعاملون المسلمين الآن حكمتموهم أو لم تحكموهم بالقسوة المتناهية، بحيث لم يبق شعب منهم إلا ذعرتموه، ولم تبق دولة من دولهم إلا قصدتم إذلالها وحاولتم نزع استقلالها، وإذا ثار على المسلمين شعب مسيحي تألبتم لنصرته باسم الإنسانية، وإذا نال شعبا مسلما من حكومة مسيحية ظلم في الأموال وإرهاق في الأنفس وهضم في الحقوق لا تأخذكم عليه الرحمة، ولا تدفعكم إلى نصرته الإنسانية، ومع هذا كله تطلبون من المسلمين وداعة الحملان، وطاعة العميان، وإلا وصمتموهم بالتعصب ورميتموهم بأنواع التهم.
ليس هذا ما تطلبه منكم الإنسانية، وليست سياستكم هذه بالسياسة التي تنتج تألف قلوب الأمم الإسلامية أو تؤدي إلى بسط السيادة على الشرق الإسلامي إلا إذا كنتم تظنون أن من الهين استخضاع ثلاثمائة مليون من البشر في الشرق لسلطان الغرب بالقوة، وأخذهم بالعنف، وأعيذ عقلاءكم من مثل هذا الظن لا سيما في هذا العصر الذي تكهربت فيه أعصاب الأمم بكهرباء الحرية، وأحس الشرق كله بثقل سيطرة الغرب، وأنانية أهليه البالغة، لا فرق في هذا الإحساس بين المسلم والمسيحي والوثني كما نعلم وتعلمون.
وبناء على هذه الاعتبارات كلها، فإني كما نصحت لإخواني المسلمين أنصح لكم أيها الساسة الكرام أن توقنوا أن المسلم إنسان كامل يتأثر بكل المؤثرات التي يتأثر بها غيره، وأنه يأنس بمن يحسن إليه، وينفر ممن يسيء إليه، وأن المسلمين الذين سادوا على كثير من الممالك، وشيدوا بنيان التمدن الإسلامي، وأدخلوا دينهم وتمدنهم إلى كثير من ممالك آسيا وأوروبا وإفريقيا، وبسطو سلطانهم على جزء عظيم من الأرض، يضنون بالبقية الباقية لهم من السيادة، ويحرصون على أن لا تأتي أوروبا على آثار مجدهم القديم، فمن الصعب بل المستحيل أن تذهبوا أيها الساسة بحياة المسلمين السياسية في أنحاء الأرض؛ لأنها مرتبطة بحياتهم المادية، والفراغ الذي يشغله من الكرة ثلاثمائة مليون من البشر يستحيل أن يشغل بغيرهم من جنس البشر إلا إذا خلف فراغا مثله أنتم أحوج إلى شاغليه في متاجركم وصنائعكم، فاتقوا الله والإنسانية في سياستكم البالغة منتهى التهور والأنانية الباطلة مع المسلمين، واعلموا أن دعواكم العريضة في نصرة الإنسانية ونشر التمدن وما شابه ذلك من الألفاظ إنما تكون بأن تساعدوا الأمم الإسلامية على الرقي مساعدة الإنسان لأخيه، وأن تسعفوا المحكومين منكم من المسلمين بما هم في حاجة إليه من الحرية والعدل وتشرب روح العلم والمدنية، وأن تعرفوا لهم من الحقوق ما تعرفه كل حكومة إسلامية لغير المسلمين من رعيتها تبعا للقاعدة الإسلامية المحتم عليهم العمل بها، وهي «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، وعندئذ ترون من إخلاص المسلمين لكم، واعترافهم بالجميل لحسن معاملتكم والتودد إليكم ما يذهب بثورة الغل من الصدور، ويؤلف بين الشرق والغرب.
إن المسلمين في الهند لما كان الإنكليز يعاملونهم بالقسوة ويمتهنون حقوقهم امتهان القوي لحقوق الضعيف تنكروا لهم تنكرا يعرفه الإنكليز، ولما أخذوا من عهد غير بعيد بأن يحسنوا إليهم في المعاملة وينشطوهم على السير في سبيل الرقي ولو ببطء، انقلب ذلك التنكر إلى إخلاص وتودد بنسبة ما يرونه من حسن المعاملة، وذلك اعتراف من المسلمين بالجميل، ومقابلة للإحسان بالإحسان، ولما كان الإنكليز أصدقاء الدولة العثمانية يسعفونها في المآزق السياسية، كان المسلمون في الشرق يقدرون قدر هذه الصداقة، وكان المسلمون في تركيا يميلون بكل قلوبهم إلى الإنكليز ميلا يؤيد ما عندهم من رقة الشعور ومعرفة الجميل، وإنما تباعدت قلوب المسلمين الآن عن الإنكليز لما انقلبت صداقتهم تلك إلى عداوة ينكرها عليهم الآن مسلمو تركيا، ويحس بخطرها عقلاء الأمة الإنكليزية، وفي هذا دليل على أن المسلمين - كما ذكرنا - شديدوا الشعور بالجميل ليس كما تصورونهم أو تتصورونهم أيها الساسة، فخير لكم أن تصافحوا هذه الأمة مصافحة الأصدقاء، وتقلوا من ذلك العداء، وليس في هذا أدنى خطر على مصالح أممكم التجارية كما تزعمون، بل بالعكس إذا أفسحتم للمسلمين مجال الترقي، ولم تتعرضوا لشئونهم الداخلية بما يعوق سيرهم في سبيل المدنية والاستقلال جعلتم ممالكهم سوقا غنية لمتاجركم وصناعاتكم، والشرق مهما ترقى لا يستغني عن الغرب، والغرب كذلك في حاجة إلى الشرق، والمستقبل كشاف لما في ثنايا الأيام والسلام. ا.ه.
نامعلوم صفحہ