جمال الدين الأفغاني
جمال الدين الأفغاني: المئوية الأولى ١٨٩٧–١٩٩٧
اصناف
إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . الميل إلى الوحدة، والتطلع إلى السيادة طبيعيان في البشر، أكده الدين، وعبر عنه القرآن، وصاغه الحديث.
10
ثم ينتقل الأفغاني من المثال إلى الواقع، من الوحدة إلى التنوع. فالبشر يعيشون في أوطان وفي قوميات وفي إنسانية واحدة، الإنسان نوع واحد وليس له غير هذه الكرة وطنا؛ فوحدة النوع تقتضي وحدة المكان. ومع ذلك لا تتحدد الهوية بالجغرافيا والمكان ولا بالعرق والدم بل بالفكر والتاريخ، بالتوحيد والثقافة المشتركة، الإخوة الإسلامية والتاريخ المشترك، العروبة هي اللغة، والإسلام هو الفكر، والعالم الواحد هو الواقع الحي، فالعصر عصر الأوطان وتخطي الأوطان في آن واحد، ويفصل الأفغاني الصلة بين القومية والإنسانية معتمدا على التشبيه طبقا لعادة القدماء خاصة الفارابي. فكما أن للإنسان «حواس خمس» فللأقاليم حواس خمس بها تميزت الشعوب والقبائل التي خلقها الله من نفس واحدة. وتقسم المعمورة إلى أوطان، والخواص الأربع تستمد طبيعة الإقليم منها، والخامسة تطرأ فتؤثر، وهي: الأول الدين، أي العقائد، وهو الأول في الترتيب، والثاني اللسان، أي اللغة ، الثالث الأخلاق أي القيم، والرابع العوائد، أي العادات والأعراف، والخامس الإقليم الذي يؤثر في المجموع. وبهذه العناصر الخمسة تحصل ميزات الأقوام، وتحصل المساواة بينهم. فإذا ما أصابها الغرور ساءت الطبيعة، ونشأ الغلب والقهر بالتذرع بالدين. توجد القوميات بالعناصر الخمسة كما توجد الإنسانية أيضا. وبالرغم من تقسيمات الغرب واستقلال عناصره بميزاتهم القومية تساووا نسبيا بالفضيلة وأهمها العلم بالواجبات لهم وعليهم. انتفى منهم التفرد بالسلطة وسوق الأمة على هوى السلطان. وسينتفي هذا الحكم المطلق في التاريخ تدريجيا حسب مقتضيات الفطرة كما حدث في الغرب اليوم، تحكمه الشورى. وصارت كل أمة في مأمن من أن تغزوها الدولة المجاورة. فإذا ما فشا العلم في الأمة فأول ما تقوم به مناهضة هذا الشكل من الحكم حتى تتخلص منه. هذه سنة الله في الكون
ولن تجد لسنة الله تبديلا .
11
ومع ذلك ارتبطت نشأة القوميات في الغرب بالاستعمار بينما ارتبطت في الشرق بالتحرر. ولم تكن القومية الغربية كلها خيرا. إذ نشبت فيه حربان عالميتان طاحنتان في القرن العشرين بعد وفاة الأفغاني. وقامت الحروب باسم القومية بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا، واستعمرت فلسطين باسم القومية اليهودية. ووقعت مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك باسم القومية العربية. وذبح ملايين من الأفارقة في مذابح متبادلة بين القبائل في رواندا. فالأفغاني أحيانا يحول التاريخ إلى مثال لا يصدق في الواقع، وأحيانا أخرى يستقرئ حوادث التاريخ لإثبات المثال في صيغة قانون للتاريخ.
وبحثا عن الأوطان والقوميات والإنسانية عرج الأفغاني على الماسونية. انضم إلى المحفل البريطاني، ثم غادره إلى المحفل الفرنسي ثم غادر الماسونية كلها مبينا ميزاتها وعيوبها؛ إذ تمتاز الماسونية، وهذا ما أغرى الأفغاني بها، أنها هدم للقديم، الظلم والجور والعتو، وبناء للجديد، الحرية والإخاء والمساواة. غرضها نفع الإنسان. تهدف إلى دك الظلم وتشييد العدل. كما تعمل على بلورة همة العمل، وعزة النفس والشمم، واحتقار الحياة في سبيل مقاومة الظلم، واعتبار كل قادر وظالم من الحكام من الخوارج. والماسونية أشرف وأرفع من أن تعمل على إيجاد سلطة لرئيس تخدم له بها غاية شخصية أو منفعة مادية أو معنوية. أراد الأفغاني أن يكون عاملا ماسونيا نزيها متجنبا الرذائل حرصا على شرف الشخصية وحتى لا يعاب على الماسونية بأشخاصها، وصحة البدن وذل السؤال لا يجتمعان، الماسونية تسعف الأخ إذا سقط في العلل أو اعتراه شلل. وتقدم على من سواه في البشرية. تربي أبناءه إذا مات فقيرا، وتحسن تربيتهم. الماسونية هي أن يصبح الإنسان إنسانا، وألا يكون الإحسان له إساءة.
ومع ذلك، وبعد أن عرفتها مصر بلد العجائب، وبعد دخول الأفغاني فيها والخروج عليها، وتجربتها ومعايشتها اكتشف عيبها مثل الجبن والخوف والنفاق والزلفى. كما لا يوجد وصف دقيق لها؛ إذ يقول
أما نحن معشر الماسون فيؤلمني أنني للآن ما عرفت لنفسي بصفتي ماسونيا ولا لمطلق الماسونية تعريفا يجعل لها صورة في الذهن أو وصفا ينطبق على من ينخرط في العشيرة .
12
نامعلوم صفحہ