الإهداء
مقدمة
1 - الموضوع والمنهج
2 - الفكر النظري (الرد على الدهريين) (التوحيد)
3 - الحرية والعقل (العدل)
4 - الأخلاق الفردية والاجتماعية
5 - الأنا والآخر
6 - مصر والشرق
7 - الأمة في التاريخ
8 - الخاتمة
الإهداء
مقدمة
1 - الموضوع والمنهج
2 - الفكر النظري (الرد على الدهريين) (التوحيد)
3 - الحرية والعقل (العدل)
4 - الأخلاق الفردية والاجتماعية
5 - الأنا والآخر
6 - مصر والشرق
7 - الأمة في التاريخ
8 - الخاتمة
جمال الدين الأفغاني
جمال الدين الأفغاني
المئوية الأولى 1897-1997
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى أنصار الإسلام الثوري.
الخطاب الثالث الغائب.
في عصر الاستقطاب الفكري.
حسن حنفي
مدينة نصر نوفمبر 1997
مقدمة
لم أشأ أن تمر الذكرى المئوية الأولى ل «جمال الدين الأفغاني» (1897-1997م) دون أن أحييها بكتيب حماسي بالرغم من معاناتي من الإنشائية السائدة في خطاب مشروع
التراث والتجديد
والذي لم يستطع المحافظة على القول البرهاني في
من العقيدة إلى الثورة ، وبالرغم من وجود منابر خطابية له في
الدين والثورة في مصر
و
اليسار الإسلامي .
1
ومع ذلك، رأيت أنه من النفع العام تخصيص جزء من العمر، وترك الصياغة الأخيرة من
من النقل إلى الإبداع
الذي بدأت فيه منذ أكتوبر 1984م، ولم يصدر حتى الآن نظرا لاشتغالي من جديد بالحياة الثقافية في عصر تفكك الوطن والاستقطاب الثقافي بين الخطاب السلفي والخطاب العلماني،
2
لإحياء الذكرى المئوية الأولى لجمال الدين الأفغاني رائد الحركة الإصلاحية الحديثة ومؤسس المدرسة المصرية بعد أن كبت حركة الإصلاح جيلا وراء جيل، من الأفغاني إلى محمد عبده بسبب فشل الثورة العرابية، ومن محمد عبده إلى رشيد رضا بسبب نجاح الثورة الكمالية في 1923م وإلغاء الخلافة، ومن رشيد رضا إلى حسن البنا واغتياله في 1949م والصدام بين الإخوان والثورة في 1954م، وتحول سيد قطب من
العدالة الاجتماعية في الإسلام
و
معركة الإسلام والرأسمالية
و
السلام العالمي والإسلام
إلى
معالم في الطريق ، وانتهاء الحركة الإصلاحية إلى الحركات الإسلامية المعاصرة مثل جماعة الجهاد وكتابات محمد عبد السلام فرج وعمر عبد الرحمن، وضعف الإسلام المستنير وعدم قدرته على تكوين تيار مستقل أو جناح ليبرالي في حركة الإخوان المسلمين بالرغم من وجود بعض الأقلام المتميزة وعلى ما بينها من تنوع واختلاف.
3
وقد يكون هذا آخر عهدي بالكتابات الشعبية بعد أن تضخمت على حساب كتاباتي العلمية. وقد أزمعت. وأرجو أن تساعد الظروف، ظروف مصر والعالم العربي، على أن أخصص ما بقي من عمر لإتمام باقي أجزاء مشروع
التراث والتجديد
بجبهاته الثلاث. وأرجو أن تكون دار قباء للطباعة والنشر خير ختام لتعدد الناشرين ويسر التعامل معهم.
حسن حنفي
مدينة نصر، نوفمبر 1997م
الفصل الأول
الموضوع والمنهج
(1) دلالة الأفغاني
جمال الدين الأفغاني هو رائد الحركة الإصلاحية، وباعث النهضة الإسلامية كما هو مسطور على شاهده في كابول، وهو أول من صاغ المشروع الإصلاحي الحديث في النصف الثاني من القرن الماضي، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل. وبفضل تعاليمه اندلعت الثورة العرابية وعبرت بلسان عرابي أمام الخديوي توفيق في ساحة قصر عابدين
إن الله خلقنا أحرارا ولم يخلقنا عقارا ،
والله لا نورث بعد اليوم . وهو رافع شعار
مصر للمصريين ، فكان الأب الروحي للحزب الوطني المصري والذي كتب برنامجه تلميذه محمد عبده. وهو أول من صاغ مفاهيم الوحدة في العصر الحديث وبؤرتها مصر، الدولة القاعدة، مصر وجنوبها، مصر والسودان، وحدة وادي النيل. مصر وغربها، وحدة المغرب العربي. مصر وشمالها، وحدة مصر وسوريا، مصر والشام. مصر وشرقها، وحدة مصر وشبه الجزيرة العربية، مصر ومحيطها، الوحدة العربية. مصر وجناحها الشرقي في الجامعة الشرقية. مصر كعبة الإسلام ومنارة الأزهر الشريف في الوحدة الإسلامية الشاملة. ولما أعادت الصحوة الإسلامية الحالية للإسلام حيويته من جديد، وأعادت الحركة الإصلاحية، الإسلام الثوري، فعاليتها في المقاومة الإسلامية في فلسطين وجنوب لبنان وأفغانستان قبل أن تتحول المقاومة الأفغانية ضد الاحتلال السوفيتي إلى حرب أهلية ومقاومة البوسنة والهرسك العدوان الصربي ظهرت دلالة الأفغاني في ذكراه المئوية الأولى، لحاقا به بعد أن كانت النتائج تتناقض مع المقدمات، وأصبح الجيل السادس من الإصلاحيين على طرف نقيض من جيل الرواد الأوائل، وبعد أن كان يطويه النسيان؛ لأنه لم يعد موضوع اهتمام في عصر الاستقطاب في الخطاب السياسي الحالي بين السلفيين والعلمانيين، صراعا على السلطة وليس تأصيلا للفكر حتى انقسمت الأمة إلى فريقين متقاتلين متخاصمين، يتبادلان تهم التكفير والتخوين، والعدو يحاصر من على الأبواب، ويحكم الحصار يوما وراء يوم.
من الأفغاني تبدأ كبوة الإصلاح؛ فبعد أن أسس حركة إسلامية ثورية لتحرير العالم الإسلامي وتوحيده بشعار بسيط وواضح، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل وانتشرت تعاليمه عند بعض رجال الدين وضباط الجيش والأدباء والمفكرين المهاجرين من الشام اندلعت الثورة العرابية في مصر للمطالبة بالحرية والدستور والمساواة بين الوطنيين والأجانب. واستمرت روحها عند عبد الله النديم. خطيب الثورة، متخفيا عشرات السنين.
1
ولما فشلت الثورة العرابية واحتلت مصر، ونفي عرابي ورفاقه إلى سرنديب في المحيط الهندي ارتد تلميذه محمد عبده، وندم على اشتراكه في هوجة عرابي وفتنة العرابيين.
2
ونفي إلى بيروت أستاذا في جمعية المقاصد الإسلامية معززا مكرما. فقد كان صديقا للورد كرومر. وآثر محمد عبده التحول من السياسة إلى التربية، ومن الثورة السياسية إلى التغير الاجتماعي، ومن النفس القصير إلى النفس الطويل ابتداء من إصلاح اللغة العربية والمحاكم الشرعية والتحول بالوقائع المصرية من ثبت للقوانين إلى مقالات نقدية إصلاحية. ومع ذلك قامت ثورة 1919م بفضل تلاميذه، مثل سعد زغلول، وبدأت حركة تحرر المرأة المصرية بفضل قاسم أمين، وبداية الليبرالية السياسية بفضل علي عبد الرازق، والنقد الجديد بفضل طه حسين والعودة إلى التراث الفلسفي بفضل مصطفى عبد الرازق.
ولما قامت الثورة الكمالية في تركيا، وانتصرت القومية الطورانية على الجامعة الإسلامية، وحزب الاتحاد والترقي على حزب الإصلاحيين، وتركيا الفتاة على الخلافة حدث رد فعلي سلفي عند رشيد رضا تلميذ محمد عبده خوفا من تكرار التجربة التركية في باقي أرجاء العالم الإسلامي، فدافع عن الإمامة أو الخلافة العظمى ضد العلمانية التركية، ودافع عن الوحي المحمدي ضد العقلانية العلمية الغربية، وحاجج الإسلام ضد شبهات النصارى. فارتدت الحركة الإصلاحية مرة ثانية من السلفية المجاهدة عند الأفغاني إلى السلفية المحافظة عند محمد بن عبد الوهاب الذي رده إلى ابن تيمية الذي رده بدوره إلى أحمد بن حنبل باسم النص. وتحولت الدولة القاعدة من مصر إلى السعودية، ومن الدستور والبرلمان إلى القبيلة والأسرة.
ولما أراد حسن البنا تلميذ رشيد رضا في دار العلوم العودة إلى تعاليم الرائد الأول، الإسلام المجاهد، وتحقيق حلمه لتأسيس حزب إسلامي ثوري يقوم بتحقيق الأيديولوجية الإسلامية الثورية أسس
الإخوان المسلمين
في الإسماعيلية وعلى ضفاف القناة وأمام جنود الاحتلال الإنجليزي في الشرقية، وقيادتها في التل الكبير، وأصبحت الجماعة بعد الوفد أكبر تنظيم سياسي شعبي في الأربعينيات قبل الثورة المصرية وبعدها بسنتين. ولما اغتيل حسن البنا في 1949م وبداية تكوين التنظيم السري، وبعد الصدام بين قيادة الإخوان والضباط الأحرار في 1954م واستشهاد بعض قياداتهم ونزول الإخوان تحت الأرض وتعذيبهم في السجون نشأ جيل جديد منهم رافض غاضب. يود الانتقام من المجتمع والثأر من النظم العلمانية الليبرالية والقومية والماركسية خاصة بعد أن تحول سيد قطب في السجن وتحت أهوال التعذيب من
العدالة الاجتماعية في الإسلام
و
معركة الإسلام والرأسمالية
و
السلام العالمي والإسلام
إلى
معالم في الطريق
الذي يكفر المجتمع ويقسمه إلى إيمان وكفر، إسلام وجاهلية، إيمان وطاغوت. ويدعو إلى حاكمية الله ضد حاكمية البشر تحت تأثير المودودي وكأنهما متناقضان. ولا علاقة بين الاثنين إلا بقضاء أحدهما على الآخر. ولا يقضي على الكفر والجاهلية والطاغوت إلا جيل قرآني فريد تحت شعار
لا إله إلا الله . فارتدت الحركة الإصلاحية مرة ثالثة لتكون جيل الجماعات الإسلامية الحالية. تمارس العنف، وتحمل السلاح، وتكفر حتى الخارجين عليها. فالحق المطلق لا يقبل المساومة أو الحوار.
3
وإلى الأفغاني تعود الفعالية للحركة الإسلامية المعاصرة في أفغانستان أثناء حرب الاستقلال ضد الغزو السوفيتي قبل أن تتحول إلى حرب أهلية بين الفرق، كل منها يظن أنه الفرقة الناجية، وفي البوسنة والهرسك بالرغم من عجز المسلمين على مدى ثلاث سنوات وانتظار القطب الأوحد في العالم لإنهاء الصراع على حساب المسلمين، وفي لبنان وفلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي دون استنارة الأفغاني وليبراليته ودعوته إلى حرية الفكر والنظم البرلمانية والدستور. فقد بعدت المسافة بين ليبرالية القرن الماضي وأوائل القرن، منذ ثورة 1882م حتى ثورة 1919م، وبين هذا الجيل بعد أن قضت الثورات العربية الأخيرة منذ أوائل الخمسينيات على النظم الليبرالية العربية، وغابت عن النظم الملكية الوراثية التي ترسخت بعد انحسار المد الثوري العربي، وبالرغم من أشكال الديمقراطية في مجالس الشورى والشعب والأمة والبرلمان والتعددية الحزبية في بعض الأقطار.
ويبدو أن طول اضطهاد الحركة الإسلامية واستبعادها من العمل الوطني على مدى نصف قرن حولها إلى حركة مناهضة تقابل الإقصاء بالإقصاء، والرفض بالرفض، والاستبعاد بالاستبعاد، وتواجه العنف بالعنف، والسلاح بالسلاح. لا تفرق بين العدو الخارجي، الاستعمار والصهيونية، وبين العدو الداخلي، الملكية والعسكرية. ولا تفرق بين المرحلتين التاريخيتين، مرحلة التحرر الوطني ضد الاستعمار، ومرحلة التحرر الاجتماعي ضد التخلف وبعد استقلال الدول. بل يعطي البعض الأولوية للنضال ضد الداخل على النضال ضد الخارج ولتحرير الأنظمة العربية من الطاغوت على تحرير فلسطين من الاستعمار الاستيطاني. إذ
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، في حين أن القرآن أيضا أعطى الأولوية للنضال ضد الخارج على النضال ضد الداخل،
أشداء على الكفار رحماء بينهم ، وجاعلين الجهاد الأكبر هو جهاد النفس، والجهاد الأصغر هو الجهاد ضد العدو الخارجي بالرغم من تحذير الإخوان الأوائل من سوء تأويل الأحاديث وعدم التيقن من صحتها لخطورتها على الجهاد ضد الاستعمار والصهيونية.
4
وتظهر دلالة الأفغاني في عصر الاستقطاب بين خطابين سائدين في الفكر العربي المعاصر، الخطاب السلفي الذي يعرف كيف يقول ولا يعرف ماذا يقول، والخطاب العلماني الذي يعرف ماذا يقول ولا يعرف كيف يقول. إذ يقدم الأفغاني الخطاب الثالث الذي يعرف كيف يقول ويعرف ماذا يقول. وهو الخطاب الذي حاول
اليسار الإسلامي
إعادة صياغته في أوائل الثمانينيات في بداية الاستقطاب. أما وأن الاستقطاب تحول إلى حرب أهلية في الجزائر وإراقة الدماء بالآلاف، دماء الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وأصبح يهدد تركيا بالنزاع بين الجيش وحزب رافاه، ويثير القلاقل في مصر واليمن والخليج وليبيا ولدرجة الكبت في سوريا والعراق والمغرب وتونس فقد أصبحت دلالة الخطاب الثالث عند الأفغاني، الإسلام الوطني أو الإسلام الثوري أو الإسلام السياسي، ملحة للغاية في الداخل والخارج، وفي عصر التحول من قرن مضى إلى قرن آت.
وظهرت محاولات لتشويه صورة الأفغاني في جيلنا من أجل قطع جذور نضالنا الوطني والقضاء على الإسلام الثوري إبقاء للاستقطاب بين الإسلام السلفي والثورة العلمانية الغربية، والفتور من الأول والإعجاب بالثانية، وحتى يبقى الباحث وحده مثالا للوطنية ورافعا شعار
مصر للمصريين
بمضمونه العلماني وليس الإسلامي الوطني وربما بمضمونه القبطي ودرءا لمخاطر الثورة الإسلامية في إيران التي أصبحت محط جذب للشعوب العربية الإسلامية. فالثائر لا يكون إلا غريبا والإسلامي لا يكون إلا متخلفا؛ فكل شيء سيئ في الأفغاني حتى الوطنية والمعاداة للاستعمار ودعوته للجامعة الشرقية في مواجهة الغرب؛ فالباحث قبطي والمبحوث إسلامي، والباحث علماني والمبحوث ديني، والباحث غربي والمبحوث شرقي.
5
وقد استمدت هذه الصورة من أرشيف المخابرات البريطانية، وكأن صورة الأفغاني أصدق في ملفات الأعداء منها في كتابات الأفغاني وتلاميذه، وفي كتب الاستشراق المعادية للحركة الإسلامية المعاصرة دفاعا عن الغرب وقيمه التي كانت موضع نقد من الأفغاني؛ فتقارير المخابرات مثل تقارير المباحث العامة عن الوطنيين لتشويههم لإيجاد ذريعة للقبض عليهم وتعذيبهم. فالوطني إرهابي، والاشتراكي شيوعي، والليبرالي إباحي.
6
وقد قيل عن الأفغاني: (1)
إيراني وليس أفغانيا وكأن الجنسية عنصر حاسم في حياته ورسالته وآرائه. وهو الذي حارب الجنسية كرابط بين الجماعة وكعامل توحيد بين الأقوام. وهو الذي رد على رينان في الربط بين الثقافة والعرق ونظريته العنصرية التي راجت في القرن الماضي، تفوق العقلية الآرية الغربية في مقابل انحطاط العقلية السامية الشرقية. فالتركيز على الجنسية إسقاط من الحاضر على الماضي، ومن الباحث على المبحوث، ومن الدولة الوطنية المعاصرة على عصر الخلافة. ويتحول الحديث عن الجنس إلى حديث بيولوجي عرقي عن ملامح الوجه ولون البشرة وفصيلة الدم في ثقافة ساوت بين الشعوب، وجعلت لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح. (2)
طائفي شيعي، ادعى أنه من أهل السنة للوصول إلى قلوب الأغلبية من المسلمين. بل إنه بابي بهائي من فرقتين شيعتين معاصرتين أخرجهما المسلمون من الأمة لادعاء الباب وبهاء الله النبوة، استثمارا للنزاع التقليدي الموروث بين السنة والشيعة. والأفغاني نفسه يدعو إلى وحدة الأمة وتجاوز هذا الخلاف التاريخي. (3)
إرهابي انقلابي، شارك في عديد من المؤامرات والانقلابات السياسية في أفغانستان، مؤيدا فريقا ضد فريق، بل أخا ضد أخيه. دبر اغتيال الخديوي إسماعيل على كوبري قصر النيل. وهو الاتهام الذي يلقى عادة على كل الثوريين من الأنظمة الرجعية التسلطية أو نظم الاحتلال مثل اتهام المقاومة الفلسطينية المشروعة ضد الاحتلال الصهيوني بالإرهاب. الإرهاب أفعال فردية أو جماعية محاصرة لا تجد من يساندها. في حين أن الثورة حركات شعبية بدليل اندلاع كثير من الثورات في العالم الإسلامي بفضل تعاليمه. الثورة العرابية في مصر، والثورة المهدية في السودان. وقد قامت الانقلابات الحديثة بفضل الجيوش في البلاد النامية بتثوير مجتمعاتها في الخمسينيات والستينيات وكما حدث في الثورات العربية الأخيرة. كما نجحت الثورة الإسلامية في إيران ضد إرهاب الشاه والسافاك. ومع ذلك فالأفغاني من كبار المدافعين عن النظم البرلمانية والتعددية الحزبية والدستور والملكيات المقيدة حتى أصبحت الليبرالية الغربية نمطا للتحديث في الحركة الإصلاحية لا فرق بينها وبين الليبرالية السياسية عند الطهطاوي وخير الدين التونسي أو العلمانية عند شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى وزكي نجيب محمود. وقد ظهرت تيارات إخوانية تعود إلى هذا النموذج الليبرالي في الأردن واليمن والكويت وحزب الوسط (تحت التأسيس) في مصر. (4)
استبدادي تسلطي نازي، ينتقل من استبداد إلى استبداد حتى ولو قال بالمستبد العادل. فالمستبد لا يكون عادلا والعادل لا يكون مستبدا. والحقيقة أن المستبد العادل تعبير عن تجربة النهضة في عصره وإعجابه بمحمد علي وبنهضة اليابان وبسمارك في ألمانيا. ويعتمد في ذلك على حكم شرعي قديم باجتماع صفتي القوة والعدل في الإمام، وأولوية الأولى على الثانية في حالة التعارض؛ لأن الحاكم القوي ضروري للدفاع عن البلاد، ويستطيع العالم أن ينبهه على ضرورة مراعاة العدل ومقاومة الظلم. (5)
متآمر ومناور، يتفق مع رياض في إستانبول ويخطط معه. يتآمر على عزل إسماعيل، وتفضيل عباس حلمي. يقيم محاور ضد محاور، ضد تركيا ومع الخلافة، وضد الخلافة العثمانية ومع الخلافة القرشية. أنشأ «العروة الوثقى » دفاعا عن الخلافة، واختفت رسالة التأسيس التي أرسلها له السلطان لهذه الغاية. كما ادعى باحث آخر من نفس الملة اختفاء رسالة خطيرة من محمد عبده إلى تولستوي. لو ظهرت لكشفت النقاب وبان المستور. (6)
انتهازي متلون، لا يثبت على حال، وله ظهر وبطن، ولا ينتمي إلى مذهب سياسي. يشك كل الحكام في ولائه بعد أن يثقوا فيه. وهي صفة السياسي أكثر منها صفة المفكر. لا يعني ذلك أنه ضحى بالفكر من أجل السياسة أو تنازل عن النظر من أجل العمل بل يكشف عن القدرة على تجميع المذاهب والفرق تحقيقا لوحدة المسلمين. ويعترف الأفغاني نفسه بذلك ويكشف عن صورته في ذهن الناس؛ إذ يقول عن نفسه بالنثر الفارسي: الإنجليز يعتقدون أني روسي والمسلمون يظنون أني مجوسي، والسنة يحسبون أني رافضي، والشيعة يخالون أني نصيبي (أعداء علي)، وبعض أصحاب الرفاق الأربعة يعتقدون أني وهابي، وبعض أتباع الأئمة يتوهمون أني بابي، والمؤمنون بالله يظنون أني مادي والأتقياء يتصورون أني خاطئ مجرد من التقوى، والعلماء يعدونني جهولا، والمؤمنون يظنون أني كافر. لا الكافر يدعوني إليه ولا المسلم يعدني من ذويه. منفي من المسجد، منبوذ من المعبد. وفي نفس الوقت له صورة أخرى: عالم ديني قوي الإيمان، مفكر حر، متفلسف ملحد. وهي نفس صورة كل مفكر من هذا النوع يحاول أن يلم الشمل، ويجمع بين فرق الأمة، ويوحد الخطاب الوطني. فهو عند السلفيين شيوعي متخف، وعند الشيوعيين سلفي متخف، وعند الدولة إخواني شيوعي. (7)
عميل سوفييتي، يعمل لحساب القيصر. وهي نفس التهمة التي قيلت على عبد الناصر في عصر الاستقطاب، بل وعلى كل الزعماء الوطنيين في العالم الثالث في عصر التحرر الوطني. بل وقيلت على لينين إنه عميل لألمانيا، والأفغاني هو الذي أراد توحيد الشرق في مواجهة الغرب. وتتداخل لديه الوحدة الإسلامية مع الجامعة الشرقية. وقد استأنفها السلطان جالييف وهوشي منه. وكانت أكبر ملهم لربط مصر بالشرق منذ حافظ إبراهيم
أنا تاج العلاء في مفرق الشرق
والصحافة المصرية مثل
مرآة الشرق
حتى
كوكب الشرق ، و
ريح الشرق
عند نيدهام، وأنور عبد الملك. (8)
ماسوني يهودي، انضم إلى عديد من المحافل الماسونية، وكان من زعمائها، ما دام يريد السيطرة على العالم مثلها. ويهودي صهيوني بالرغم من أنه توفي في نفس العام الذي عقد فيه المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بزعامة هرتزل. صديق يعقوب صنوع مع أنه صديق أيضا لنصارى الشام المهاجرين مثل سليم الضموري، وسليم النقاش، ولويس صابونجي وشبلي شميل، وأديب إسحاق أقرب تلاميذه إلى قلبه، ولم يتهم بأنه نصراني، ويكشف هذا الاتهام عن طائفية بغيضة من الباحث وإسقاطها على المبحوث، وينبه على صداقته للشوام إقلالا من مصريته في ثقافة لا تقوم على القومية ولدى مفكر يسعى إلى وحدة الأمة بداية بين مصر والشام. (9)
طموح شخصي، يريد أن يكون رئيس جمهورية، سياسي متطلع يحقق أحلامه. وهو الذي رفض تتويجه على السودان. وهو الذي كان مطاردا من كل نظام حتى استقر به المقام في باريس ينشر
العروة الوثقى . وعادة ما يتهم كل زعيم وطني بأنه يعمل لصالحه وليس للوطن مما يدفع بعض الزعماء للتوحيد بينهم وبين الأوطان كما فعل ديجول في عبارته الشهيرة
أنا فرنسا . (10)
مثالي لم يع الواقع القطري. حماسي خطابي، لم يترك فكرا سياسيا نظريا منظما. والحقيقة أن هذه الصورة قراءة للحاضر في الماضي؛ فقد كان عصر الأفغاني ما زال عصر الخلافة بالرغم من محاولات الأقطار الانفصال بعد ضعف مركز الخلافة. فكان دفاع الأفغاني عن وحدة الأمة حماية لها من الاستعمار الذي يتوحد للقضاء عليها بعد تفتيتها. فلا فرق بين الاستعمار الإنكليزي والروسي والفرنسي. والخطاب العربي المعاصر ما زال على هذا المستوى من التنظير؛ لأنه خطاب جماهيري اختارته النخبة من أجل النضال الوطني وليس خطابا نظريا في مجتمعات مستقرة بلغت شأوا من التعليم وقطعت مع تراثها الماضي. وهو نفس نوع الخطاب في الثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية والثورة الروسية مع اختلاف في الدرجة وليس في النوع.
هذا التشويه المتعمد لصورة الأفغاني هو في الحقيقة قضاء على جذور النضال الوطني في وقت تشتد فيه الحاجة إلى التمسك بها حرصا على وحدة الوطن وكرامته. وهو حكم مسبق عليه له دوافعه غير العلمية. لم يترك له حسنة واحدة مثل عدائه للاستعمار وللاستبداد وتثويره للمسلمين وتوحيده للقوى الثورية. يشق على القلوب لمعرفة ولائها وهو ما قد ينطبق على الباحث أيضا. يسقط التصور القومي على مسيرة حياته، من المرحلة الأفغانية إلى المرحلة التركية إلى المرحلة المصرية، والأخيرة هي أكبر المراحل لهزها وانتزاعها من الشعور الوطني.
7
يحول الفكر إلى تاريخ. والمفكر إلى رحلاته من أجل القضاء على استقلال الفكر وقدرته على التأثير ما دام وليد الظروف، وانطباعات رحالة. ويقيم فكره من سلوكه الشخصي لسهولة رفض الفكر عن طريق الحجة ضد الشخص. بل إن الدهرية التي ارتبطت بأحمد خان عميل الإنجليز أصبحت مجرد غنوصية من تراث الشرق القديم دون أن يكون لها مغزى سياسي. وتتم السخرية من فلسفته في التاريخ، نهوض الأمم ثم سقوطها ثم نهوضها من جديد، ومن محاضرته عن النبوة والصناعة مع أنها من تراث الفلاسفة القدماء خاصة الفارابي وابن سينا. وينضم إلى موقف الخصوم الذين اتهموا الأفغاني بالإلحاد ولإنكاره النبوة وتشبيهها بالصناعة، وقسمته الناس إلى خاصة وعامة، وتقريبه بين النبي والفيلسوف. والباحث تقدمي علماني، لا يرى التقدمية والعلمانية إلا في التراث الغربي دون جذورهما في التراث الفلسفي القديم. (2) السيرة والشخصية
كتابة الأفغاني في ثلاث فقرات لسيرته الذاتية ذات دلالة كبيرة. يذكر فيها تاريخ ميلاده، وهو غير ذي نفع كبير. وعاش نصف عصر أو نصف قرن. ولا يهم التاريخ. إنما الذي يهم الشخصية في عصرها. اضطر إلى مغادرة بلاده الأفغان، ومن ثم يعترف بأنه أفغاني وليس إيرانيا بالرغم من عدم أهمية السلالة البيولوجية في البشر. وترك الهند إلى مصر ثم إلى الآستانة، وكل هذه الرحلات غير مفيدة للناس، مجرد خاطرات. والسجن رياضة في طلب الحق، والنفي سياحة، والقتل شهادة. وهو غير راض عن نفسه لخموله وعدم وصوله إلى مرتبة الشهداء، بل وصل فقط إلى مرتبة السجن والنفي. ومن ثم لم يقم بمهمته الأولى وبالعمل الجليل المناط به مع أنه لم يترك عملا جليلا للنوع الإنساني عامة وللشرقيين خاصة إلا اقتحمه إلى حد الخروج من الاعتدال إلى التهور.
8
لا يهم إذن مسقط رأسه فذلك تصور قومي، ابن هذا القرن ولم يكن في القرن الماضي في العالم الإسلامي. لم تكن هناك حدود قومية بين أفغانستان وإيران. ولكنه ولد بالقرب من كابل، ومسقط رأسه بلاد الأفغان. أقام في الهند وإيران وفي مصر وتركيا ثم في باريس. تعدد المقام والشخصية واحدة، والفكر متصل. هو شرقي في مقابل الغرب، يحمل معه هموم الشرق.
نعمت ونحن مختلفون دارا
ولكن كلنا في الهم شرق
9
وقد كتب محمد المخزومي مقدمة قصيرة عن حياته مما اختبره بنفسه ودون الاعتماد على ما سبق كتابته من آخرين، لا فرق بين حياته وشخصيته، بين فكره وملامحه. كما أبدى جرجي زيدان صاحب الهلال، وكان من محبيه، رغبته في كتابة سيرته الذاتية مع أن العادة كتابتها بعد وفاة صاحبها؛ لذلك أرسلها المخزومي إليه بعد وفاة الأفغاني، ونشر جزء منها في «الهلال». ولما أبدى المخزومي هذه الرغبة إلى جمال الدين قال: «العيان لا يحتاج إلى ترجمان». يكفي ما قاله الآخرون عنه، «سري، سري»، أي متشرد تائه في الأرض. وهي صورته لدى خصومه وحساده بعد إقبال السلطان عبد الحميد عليه.
كان صحيح العقيدة، مؤمنا بالألوهية، شديد التمسك بحكمة الدين. ومع ذلك كان نفورا من التعصب ومن التقليد في المذهب، مجتهدا لدرجة الغرابة والخروج على المألوف في التفسير. كان قوي الذاكرة، سريع الحفظ، بطيء النسيان. يذكر خطابا ارتجله أو مقالا أملاه أو كتابا ألفه منذ سنين. كان قوي الحجة يجذب مخاطبه إليه ويرضخ لبرهانه ولو لم يكن ساطعا. له أسلوبه الخاص في المقدمات التي تتولد عنها مقدمات أخرى بالطبع. يتعذر إقناعه جدلا لأسلوبه الخاص في إبطال الحجة عليه أو التخلص منها دون مكابرة. يعطي خصمه الحق بعد أن يفحمه، ويدله على ما أغفل من حجج وهو حاد الذهن لا يخلو من حدة في المزاج، يحمل من خاطبه على العظائم ويذلل له الصعاب.
وهو عظيم النفس، كبير الهمة، شجاع جريء. يقدم حيث يحجم الناس. ويتكلم حين يسكتون رغبة أو رهبة، سريع بمبادآته الذهنية. كان مهابا أكثر منه محبوبا. وفي نفس الوقت كان متواضعا مع من أقل منه، متكبرا على الملوك والعظماء لحد التجبر. لم يكن مغترا بنفسه، مستخفا بمن يخاطبه بألقاب دولتكم أو سماحتكم أو يمدح فكره وحكمته وخطابته واحتقار الموت. كان غرضه بهذه الصفات الوصول إلى طمأنينة القلب بأنه قال الحق ولم يكتمه. يذكر المسلمين لأنهم العنصر الغالب في الشرق وملة ممالكه؛ فالشرق لفظ يدل على الأمة الإسلامية. أراد إيقاظ الشرقيين وتنبيههم وتقريبهم. وفي نفس الوقت محب لخير البشر، يساوي بينهم جميعا في الحقوق العمومية التي تقوم على الحرية العاقلة.
10
وأفضل من كتب سيرته تلميذه محمد عبده كما كتب الجوزجاني سيرة أستاذه ابن سينا. كتب بعضها، ونسي البعض الآخر، وكتم جزءا لأسباب سياسية. ولد في قرية سعد أباد عام 1839م، وانتقل مع أبيه إلى كابول. تعلم في سن الثامنة. واعتنى به والده لما رأى فيه قوة الفطرة والعزيمة وذكاء العقل. برع في علوم العربية والتاريخ والشريعة والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والكلام والتصوف. كما برع في بعض العلوم العقلية مثل المنطق والسياسة والاقتصاد، والعلوم الرياضية مثل الحساب والهندسة والجبر والفلك، والطب والتشريح. فجمع بين الحكمتين.
ويبرز محمد المخزومي باشا الذي رافقه في آخر سنوات حياته بالآستانة طفولته أنه ابن السيد صفر من أسرة أفغانية ينتسب إليها الترمذي المحدث، وترتقي إلى الحسين بن علي. نشأ في كنر من أعمال كابول، في بيت علم له احترامه لنسبه الشريف. وكانت للأسرة السيادة على بعض الأراضي الأفغانية. ثم سلبها الإمارة دوست محمد خان الذي نقل والد جمال الدين وبعض أعمامه إلى كابول.
تعلم بالطرق التقليدية، وأكمل تعليم المشايخ وهو في الثامنة عشرة. ثم سافر إلى الهند لمدة عام؛ فقد كانت موطن التعليم الإسلامي التقليدي وأحيانا الحديث، لاستكمال الدروس الرياضية الحديثة. ومنها إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. فتعرف على عادات الأمم وأخلاق الشعوب لمدة عام آخر. ثم عاد إلى كابول موظفا في حكومة دوست محمد خان. رافقه الأفغاني لفتح هراة التي كان يحكمها أحمد شاه صهره وابن عمه، واشترك في الحصار إلى أن توفي الأمير وفتحت المدينة وتقلد إمارتها ولي عهده شير علي خان. وأشار عليه وزيره بالقبض على إخوته محمد أعظم ومحمد أسلم ومحمد آية. وانتصر الأفغاني لمحمد أعظم. وفرا سويا حتى عظم أمر الأمير وغلب على منافسيه. ثم تولى بعده محمد أعظم الذي عظم الأفغاني وجعله الوزير الأول ومستشارا له دون استبداد بالرأي حتى أوغر صدره عليه. فأوسد الأمر إلى أبنائه الأحداث مما أدى إلى هزيمته. ترك بعدها الأفغاني إلى الأراضي الحجازية للحجج عن طريق الهند. وهناك استقبلته الحكومة الإنجليزية استقبالا حارا، وبعد نشاطه في الهند ضاقت به الحكومة الإنجليزية وأخرجته منها وقبل خروجه وجه نداءه الشهير إلى الهنود بأنهم لو كانوا ذبابا لطن آذان بريطانيا، ولو كانوا سلحفاة لخاضوا البحر وأغرقوا جزيرة بريطانيا. ولم يجئ السلطان الغزنوي الهند باكيا يذرف الدمع بل فاتحا شاهرا السلاح.
11
نفي من الهند إلى مصر وأقام بها أربعين يوما تردد فيها على الجامع الأزهر. وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين ومالوا إليه، وطلبوا منه قراءة شرح الأظهار، فقرأ لهم منه بعضا في بيته. كان مقامه أول مرة قصيرا في مصر، ولكن كان له أبلغ الأثر في إنارة الأزهريين بالعلم الجديد والجرأة على شرح القدماء شرحا عصريا، وهو ما كان يبحث عنه طه حسين فيما بعد ولم يجده إلا في الجامعة المصرية.
ثم سافر إلى الآستانة، والتقى بالصدر الأعظم عالي باشا، وأقبل عليه الأتراك بزيه الأفغاني. وبعد ستة أشهر عين عضوا بمجلس المعارف مما أثار حفيظة شيخ الإسلام في ذلك الوقت لآراء الأفغاني التي كانت تمس رزقه، فتآمر عليه بأن طلب إليه مدير دار الفنون أن يلقي خطابا للحث على الصناعات. فكتب الخطاب وعرضه على وزير المعارف وعلى مشير الضابطة وعلى بعض أعضاء مجلس المعارف فاستحسنوه. وقد قام الخطاب على تشبيه المعيشة ببدن حي، وكل صناعة بعضو في البدن؛ فالملك هو المخ مركز للتدبير، والإدارة والحدادة العضد، والزراعة الكبد، والملاحة الرجلان، وعلى هذا النحو يتألف جسم السعادة الإنسانية وهو التشبيه القديم الموروث من الفارابي وابن سينا. ولما كان لا جسم بلا روح فإن الروح هي النبوة أو الحكمة. الأولى هبة إلهية، والثانية كسب للبشر. الأولى يقين والثانية ظن، الأولى صادقة والثانية يعتريها الخطأ والصواب. الأولى واجبة الاتباع والثانية مندوبة من جهة الأولى والأفضل بشرط عدم مخالفتها للشرع الإلهي.
غضب شيخ الإسلام، واتهم الأفغاني بأنه يعتبر النبوة صنعة كعادة المزايدين في الدين في كل عصر، وأنه ذكر النبوة في معرض خطاب عن الصناعة. وأعطى توجيهاته إلى خطباء المساجد، هذا الجهاز الإعلامي الجاهز في أيدي رجال الدين ورجال السياسة، بنقد الأفغاني والمطالبة بمقاضاته واتهامه بالكفر وإنكار ما علم من الدين بالضرورة. ووقعت الفتنة، وانقسم الناس فريقين، فريق معه وفريق ضده. وخشي الصدر الأعظم وطالب الأفغاني بمغادرة الآستانة كي تهدأ النفوس، معتذرا له عن أهل الجمود، وأنه كان بوده أن يجعله شيخ الإسلام. ومثل الأفغاني يناهض السلطتين الدينية والسياسية ويفضح تعاونهما الخفي والعلني.
ثم غادر الأفغاني الآستانة إلى مصر في 22 / 3 / 1887م سياحة فيها حتى لاقي رياض باشا رجل الإصلاح فمال إليه. والتفت حوله طلبة العلم. وقرأ عليهم كتب الكلام والحكمة النظرية الطبيعية والعقلية والفلك مع أصول الفقه في بيته وفي الأزهر يوم الجمعة. فذاعت أفكاره في مصر، واستمر في محاولاته للقضاء على الأوهام والدفاع عن العقول. نبغ تلاميذه وتأثروا به، واتسعت حلقاته. فحسده الحساد، وحقد عليه الحاقدون كما هو الحال في كل عصر. واتهموه بقراءة الفلسفة التي حرمها المتأخرون بفتاوى ابن الصلاح. وشوهوا ما ينقلون عنه عن طريق أنصاف المتعلمين عن قصد.
تم تولى توفيق حكم مصر وأيده الأفغاني وجمع القلوب عليه. ولما كان الأفغاني ميالا بفطرته إلى السياسة، فقد نظر في أحوال مصر ورأى تزايد تدخل الأجانب في شئونها يوما بعد يوم. فبدأ يفكر كيف تتغير الأحوال بتأييد الحاكم الصالح أو بتنوير العقول أم بالعمل على إنشاء الجمعيات الإصلاحية وتنشيط ما هو موجود منها.
فانضم إلى الجمعية الماسونية، المحفل الاسكتلندي، وأصبح من رؤسائها دون أن يخفي ذلك. وبعد أن عايشها انتقدها، ردا على من قال إنها لا دخل لها بالسياسة، وأنه يخشى عليها من بطش الحكومة. وضاق المحفل بآرائه التي ينتقد فيها الخمول والخوف والجبن. وأنشأ محفلا وطنيا تابعا للشرق الفرنسي لتحويل الماسونية الغربية إلى حركة وطنية مصرية. وانضم إلى المحفل عدد بارز من المفكرين والمصلحين المصريين من تلاميذه ومريديه من العلماء والوجهاء. وقسمه إلى شعب. شعبة لإنذار ناظر الجهادية لإنصاف الضباط المصريين الوطنيين الذين يعملون في السودان أكثر مما تسمح به القوانين الخاصة بالتناوب بين المصريين والشراكسة والمتمصرين. وطالب بأن تكون أقصى مدة للضابط المصري سنتين بعدها يستبدل بالمصري ضابط شركسي بدلا من مكوثه أربع سنوات دون استبدال أو استبدال مصري آخر لا سند له من أمير أو شفاعة من وزير، وشعبة أخرى لإنذار ناظر الحقانية، وثالثة للمالية ورابعة للأشغال، وغيرها لباقي النظارات والمصالح الأميرية لإحقاق الحق وإقامة العدل مع الموظفين المصريين والمساواة في الرواتب مع غير المصريين. وقامت الشعب بواجباتها خير قيام.
بلغ توفيق الأمر. وكان لا يبالي قبل ذلك بالماسونية. وجزع من تحويل الأفغاني لها إلى حركة وطنية مصرية. فتردد في زيارة الأفغاني له. ثم استدعاه الخديوي وأخبره أنه يحب الخير لكل المصريين ويبغي تقدم مصر. ومع ذلك قد تضر أفكار الأفغاني الثورية الشعب المصري؛ لأنه ما زال قاصرا عن فهمها كما هي العادة في فرض وصايا الحكام على الشعوب. دافع الأفغاني عن شعب مصر وأن من بينهم العقلاء والعلماء، وطالبه باشتراك الأمة في حكم البلاد. فهذا أثبت للعرش. ولم يرض الخديوي بكلامه وأضمر له الشر. واستأنف الأفغاني خطبه في المحفل الماسوني لتعليم الجاهل واستنفار الخامل وحث المستمعين على الدفاع عن حقوق الشعب المهضومة. وكان في مقدمتهم أديب إسحاق، طراز العرب وزهرة الأدب كما كان يسميه الأفغاني، أقرب التلاميذ إلى قلبه وهو النصراني، وكان يمسك بتلابيب محمد عبده صارخا فيه
والله إنك لمثبط . وهو المسلم.
وبدأت الحركة الوطنية في مصر في الظهور، وأخذت الحكومة حذرها منها. تماطلها وتجاملها وتتقرب إلى الشعب بالوعد بمجلس نيابي إذا ما حافظ على الهدوء. وطلب المصريون الأحرار من جمال الدين وضع خطة للمجلس النيابي.
12
وكانت تلك بداية الثورة العرابية، تحويل الماسونية إلى حركة سياسية وليست صوفية، وإلى حركة وطنية وليست غريبة. وتحول الأفغاني من مصلح الأمراء والوزراء والقادة والنخبة إلى فقيه الأمة ومثور الشعب. انتشرت أفكاره بين الوطنيين المصريين، وذاع نقده لسياسة بريطانيا. فترجمت إلى الإنجليزية ونشرت في جرائد إنجلترا، وأثارت جدلا واسعا شارك فيه جلادستون. ولما اشتدت خطورة المحفل تدخل قنصل إنجلترا عن طريق أعينه في الحفل، وأخاف الخديوي من خطورته، فأصدر أمرا بإخراجه من مصر عام 1879م وترحيله إلى الهند. وقابله في السويس بعض تلاميذه وقنصل إيران، وعرضوا عليه بعض المال، فرفض قائلا
أنتم إلى هذا المال أحوج، والليث لا يعدم فريسة حيثما ذهب . وأقام بحيدر أباد. وفيها كتب رسالته في الرد على الدهريين. وأجبرته حكومة الهند على عدم مغادرتها والبقاء في كلكتا حتى انتهاء الثورة العرابية. بعدها سمحت له بالمغادرة إلى أوروبا، لمدة أيام في لندن ثم بعدها في باريس. وأقام بها ثلاث سنوات، ولحق به محمد عبده.
وكانت تألفت في مصر جمعية من الفضلاء، جمعية العروة الوثقى. وكلفته أن ينشئ جريدة تدعو إلى الوحدة الإسلامية تحت لواء الخلافة. فكلف محمد عبده بتحريرها، ونشر منها ثمانية عشر عددا قبل أن تتوقف، صودرت في الهند. ووضعت تحت الرقابة في مصر بأمر من نوبار الأرمني. وصدر قرار من مجلس النظار بمنع دخول الجريدة الأراضي المصرية. ويغرم كل من توجد لديه نسخة منها من خمسة جنيهات إلى خمسة وعشرين جنيها، ويبرئ الأفغاني نظار مصر والخديوي من إصدار هذا الحكم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، مصريين أو شرقيين؛ لأنها تدافع عن المصريين وجميع الشرقيين، وتدعوهم إلى نبذ التنازع بينهم، وترتيب البيت من الداخل قبل الخارج. كانت مهمة الجريدة مناهضة سياسة بريطانيا. وكانت الشرطة الإنجليزية في الهند تستدعي المشتبه فيه بقراءة الجريدة وتمتحنه في آية الجهاد أو في حديث فيه. فإن لم يشأ الرد وأخبر أنه صوفي درويش معتزلي أمهل أربعة أيام لتحديد رأيه. فإذا أثبتها نفي نفيا مؤبدا إلى جزيرة إندومان حتى امتلأت بالعلماء.
ثم اندلعت ثورة المهدي في السودان، وزاد تدخل الإنجليز في مصر بحجة قمع ثورة السودان. فحذر الأفغاني جلادستون من سوء مصير غوردون. واستمر في الكتابة في موضوع السودان فحذر بريطانيا كاشفا دسائسها. حتى استدعياه سالزبوري وتشرشل إلى لندن لسؤاله عن رأيه في المهدي. فأوضح لهما خطأ سياسة إنجلترا نحو الإسلام ومصر والشرق. واقترحوا عليه تتويجه سلطانا على السودان لاستئصال ثورة المهدي وتحقيق أهداف بريطانيا. فرفض لأن بريطانيا تعطي ما لا تملك لمن لا يستحق كما فعل بلفور في وعده إلى وايزمان بإنشاء دولة فلسطين؛ فمصر للمصريين والسودان متمم لها، وصاحب الحق فيها الخليفة. والأولى ببريطانيا إصلاح أيرلندا. فأعجب به الأيرلنديون الأحرار. ثم عاد إلى فرنسا. واستمرت بريطانيا في مصادرة
العروة الوثقى . وأقام في باريس أكثر من ثلاث سنوات. نشر في المجلة عدة مقالات عن سياسات روسيا وإنجلترا ودولة الخلافة في مصر. وأجرى حوارا مع الفيلسوف الفرنسي رينان في العلم والإسلام وحقيقة القرآن والمعجزات. وشهد له رينان بصحة العلم وقوة الحجة. ورجع عن كثير من آرائه في الإسلام والقرآن والحضارة والعمران، وأرجع تخلف المسلمين وتأخرهم إلى جمود رجال الدين.
ثم استدعاه ناصر الدين شاه الفرس إلى طهران. فغادر باريس والتقى في أصفهان بالأمير الذي عظمه وقدمه إلى طهران، وعهد له بنظارة الحربية مع لقب مستشار خاص للشاه. حاول الأفغاني تغيير كل قديم، ونصحه الشاه بالتدرج وعدم التسرع. ثم خاف الشاه من شعبيته وخشي على سلطانه. فتنكر له. فاستأذنه جمال الدين في السفر إلى روسيا. ونال هناك الاحترام والتقدير لما عرفوه عنه من أنه كان وزيرا أولا في عهد الأمير محمد أعظم خان، ونشره مقالات عن سياسة الأفغان والفرس والدولة العلية والروسية والإنجليزية ونفوره من سياسة الإنجليز في الشرق. ولما سأله القيصر عن سبب اختلافه مع الشاه وأجابه الحكومة الشورية . فأيد قيصر روسيا شاه إيران وأمر بإخراجه من روسيا. فجال في أوروبا، لندن وغيرها من العواصم مع كل إجلال وتقدير في أي مكان حل به، ناقدا استبداد الشاه، ومؤيدا لأحرار إيران للانقلاب على حكم الطغيان دون تدخل الإنجليز. ثم تصادف وجود الأفغاني في معرض باريس عام 1889م، فالتقى بالشاه في ميونخ، واعتذر له الشاه، وطلب منه العودة إلى طهران. فرجع معه لتنظيم الدولة. فسن لها قانونا تكون به الحكومة ملكية شورية. ثم أوغر صدر الشاه عليه من جديد، وخشي من تقلص سلطانه، فذهب الأفغاني إلى قرية بالقرب من طهران، وتابعه العلماء. ولما عظم أمره قبض عليه الشاه وأخرجته الشرطة إلى البصرة وهو مريض، فقامت ثورة في إيران من مريديه أخمدها الشاه. ثم قتله رجل من أهل فارس بطعنه ثأرا لجمال الدين.
13
وبعد أن غادر إلى لندن تلقى دعوة من السلطان عبد الحميد لزيارة الآستانة. وبعد إلحاح شديد قبل جمال الدين الدعوة وذهب إليها آخر عام 1892م، وليس عليه إلا جبة واحدة، وكتب في رأسه لكثرة نفيه من مكان إلى مكان. واستمر في نقد استبداد السلطان ناصر الدين الذي رجا السلطان عبد الحميد التدخل لدى جمال الدين لوقف الحملة عليه. ولما عاتبه أحد المنافقين أنه يلعب بالسبحة في حضرة السلطان رد عليه بأن السلطان يلعب بمقدرات الملايين دون اعتراض أحد. فعظمه السلطان عبد الحميد بالرغم من الدسائس. ولما طلب جمال الدين زيادة راتب أحد المصريين بالآستانة وعد السلطان ولم يفعل. فطلب جمال الدين الإذن بمقابلة السلطان وقد جرت العادة استقدام السلطان له. ودخل عليه جمال الدين عبوسا والسلطان بشوشا، وطلب خلع البيعة له. فاستعجب السلطان، وحقق وعده، واعتذر لجمال الدين. وناوله الحاجب عند خروجه كيسا ودنانير فرفض. ولما كانت هبة السلطان لا ترد فوزعها على طلاب العلم وأهل الفضل والأدب المعوزين. واستمرت العلاقة بين جمال الدين والسلطان بالرغم من دسائس الأمراء والحساد. فطالب جمال الدين بتخليص الحاشية من الخونة الدساسين. فعظم السلطان جمال الدين، وتذكر جده محمود وقت أن كان الفساد في الإنكشارية. وقد عم الآن الفساد في البلاط كله. ولكن المسئولية تقع على جمال الدين الذي اعتذر عن عدم قبول المشيخة لإصلاحها، ولا حل الآن إلا بحدوث أمر عظيم في أوروبا يشغلها عن السلطان وتعطيه الفرصة لإصلاح الدولة. وقد اعتذر جمال الدين؛ لأن وظيفة العالم مجرد الوعظ والإرشاد والتعليم. وقد مكث أربعة أعوام يعلم ويحذر حتى أصيب بسرطان في فكه الأسفل. وأجريت له ثلاث جراحات لم تنجح. فتوفي في 9 / 3 / 1897م.
14
وبالإضافة إلى رحلاته التي تجعل من الأفغاني رجل نظر وعمل، فكر وممارسة، هناك أيضا صفاته ومذهبه، وآماله ومقاصده، ومناقبه وأخلاقه، ومنزلته من العلم التي تحدد معالم شخصيته.
15
فمن صفاته وملامحه أنه عربي، قمحي اللون، عظيم الرأس، عريض الجبهة، واسع العينين، عظيم الأحداق، ضخم الوجنة، رحب الصدر، جليل النظرة، مسترسل الشعر، ينجذب إليه كل من يراه بهذه الملامح الأخاذة حتى قبل أن يتكلم.
وهو حنفي المذهب غير مقلد، سني العقيدة مع ميل إلى التصوف، حريص على الفرائض، حمي الدين. آماله ومقاصده إنهاض دولة الإسلام من ضعفها كي تلحق بالأمم الراقية، وحل العقول من الأوهام، وتوحيد الشرق كي يستعيد مجده، ومناهضة سياسة بريطانيا في الشرق، وبث الحياة في الناس بعيدا عن الخمول والكسل. ومن مناقبه احتفاؤه بزائريه، ونهوضه للاستقبال والوداع، وزيارة الصغير والكبير. لا يتكلم إلا الفصحى، ولا يتحدث بالعامية إلا مع العامي. يوضح مقصده كي يوصل فكره للناس. يخطب دون أن يمزح كثيرا. وهو رزين كتوم زاهد في الدنيا، لا مطالب له في زوج أو ولد أو منصب أو جاه. لذلك لم يتزوج ولم يتقلد وظيفة ثابتة.
ومن أخلاقه سلامة القلب، حرية الضمير، صدق الحجة، عفة النفس، رقة الجانب. وهو وديع حليم. فإذا مس كرامته أحد انقلب إلى غضب. يعتمد على الله وحده دون مبالاة لأي شخص آخر. وهو عظيم الأمانة، سهل مع من يلين له، صعب على من يستغلظ عليه. لديه قدر عظيم من العلوم مع بعض التسرع والعجلة للوصول إلى مقاصده. وهو قليل الحرص على الدنيا، لا يغتر بزخرفها ، مشغول بعظائم الأمور، ويعرض عن صغائرها. وهو ثابت الجأش، شجاع لا يهاب الموت، حاد المزاج لدرجة التهور ، فخور بنسبه الشريف دون ترفع. قد يكون في أخلاقه بعض التناقض. فهو كريم إلى حد الإسراف، بخيل إلى حد التقتير، متواضع لدرجة الذل، متكبر لدرجة التجبر، كتوم جهور. وهو التناقض الموجود في شخصية كل عظيم.
16
أما علمه فإنه خال من اللغو أو اللهو، غزير المعارف، دقيق المعاني، قادر على حل المعضلات بنظرة شاملة ليوضحها، إدخالا للجزء في الكل. وهو متخصص في كل شيء، واسع الأفق، خصب الخيال، قوي الحجة، شديد الجدال. ما خاصم أحدا إلا انتصر عليه. وهو قوي الذهن، نافذ البصيرة، حي الذاكرة، وهو واسع الاطلاع في العلوم العقلية والنقلية والفلسفية القديمة والتمدن الإسلامي، عليم بأحوال المسلمين وظروف عصرهم. يعرف اللغات الأفغانية والفارسية والعربية والتركية والفرنسية التي تعلمها في ثلاثة أشهر مع إلمام باللغتين الإنجليزية والروسية.
وقد رد الأفغاني على منتقديه بأن حكمته في لسانه أكثر مما هي في قلبه بأن كل مسلم مريض ودواؤه القرآن، وعلى طالب الحكمة تدبر معانيه. وهي حجة تقليدية سلفية. وكان محمد حكيما، حكمته من قلبه. فكيف يرفضها مرضى القلب وساقطو الهمم وأهل الذل؟ وهي حجة خطابية اتهامية كما يفعل الخطيب يوم الجمعة. فهل المسلمون اليوم عاملون بما جاء به الرسول أو مقتدون به كما اقتدى الصحابة؟ وهي حجة خطابية أخرى تقوم على الاقتداء بالرسول والاهتداء بالسلف الصالح كما يفعل الوعاظ. بئس الخلف نحن ونعم السلف السلف، يخشى من إدراك ذله خوفا من نزعه فيرجع إلى القول البارد والرأي السفيه.
17
لذلك كان جهوريا، يسرع بذهنه، يجهر بالرأي حتى ولو كان فيه خطر وضرر. يحسن الجدل والحجاج. كان من أكبر علماء الكلام. فعرف أنواع السفسطة لدرجة الإقناع في حالتي السلب والإيجاب وتأثيره في مخاطبه وحمل الخامل على العظائم والجبان على الجسارة. وساعده على ذلك حكمته وسرعة الخاطر وتوقد الذكاء، وسعة الاختبار لأخلاق البشر، وكثرة مخالطة الأمم، وحصوله على ملكة الخطابة وإحاطته بأخلاق العرب والترك والفرس والأوروبيين. يغالي في المدح ولا يسترسل في الذم. ويستعمل الصور الجدلية للمدح والذم مثل الهر والكلب.
اختلف الناس في أمره وتباعد صوره في الأذهان مع أنه شخص واحد يتميز بصفاء الجوهر وذكاء المخبر. وصفه أديب إسحاق بأنه قد تمر بالناس الأيام حتى يظهر عالم يعبر عن حاجات الناس أو يكشف أسرار الطبيعة في كل عصر. مثال ذلك جمال الدين، فيلسوفا، سياسيا مثل سقراط. لم يؤلف إلا رسالة، ولكنه باق بمريديه، يجلس في الأماكن العامة ويحولها إلى مراكز علم وحلقات درس حتى حسده فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس. (3) قراءة الأعمال
تتنوع أعمال الأفغاني بين الرسائل، والخاطرات، والمقالات. الرسائل هي الأعمال التي كتبها الأفغاني بنفسه. وهو لم يكتب إلا رسالة واحدة شهيرة هي
الرد على الدهريين
أثناء مقامه بالهند للمرة الثانية. كتبها بالفارسية ثم ترجمها محمد عبده إلى العربية بمساعدة أبي تراب، تابع الأفغاني وصديقه. كانت حياة الأفغاني وتنقلاته من بلد إلى آخر لا تسمح له بالاستقرار والكتابة المنظمة. كما أن طبعه الشفاهي يجعله أشبه بحكماء الشرق وأنبيائه، بوذا، المسيح، سقراط. كتبها عام 1880م وعمره واحد وأربعون عاما. والغاية منها إبطال مذهب الدهريين وإثبات أن الدين أساس المدنية، والكفر فساد العمران.
18
والخاطرات هو الاسم الذي فضله الأفغاني لمجموعة أقواله المتناثرة التي جمعها المخزومي منه في سنواته الأربع الأخيرة في الآستانة بين 1892-1897 وهو ملازم له. فهي حديث موجه إلى شيخ بني مخزوم. كان المخزومي قد سماها
جمال الدين الأفغاني في البلاط السلطاني . ولكن الأفغاني رفض هذه التسمية لأنها لا تطابق المضمون، وفضل لفظ
خاطرات
كما هو الحال في
خاطرات
بسكال ، و
فيض الخاطر
لأحمد أمين، وهو لفظ أفضل من لفظ
خواطر
الأكثر شهرة. ويعني هواجس النفس، السوانح، اللوامع والهوامع بتعبير الصوفية، ما يطرأ على النفس وما ينشغل به القلب بعيدا عن التصورات الذهنية الكلامية الفلسفية وبعيدا عن التاريخ الميت. لا يهم دعاة اللسان الأجوف الذين ليس لديهم جملة تمس شغاف القلوب. وهي من جوامع الكلم، نوع أدبي، جمل مختصرة، وأمثال حكيمة، معروف عند القدماء. ألف فيه المبشر بن فاتك.
19
تحفظ وتدون ويضرب بها المثل كالحكم والأمثال العامية. وكان السبب في اختيار هذا النوع الأدبي يحمي صاحبه من اضطهاد السلاطين، ويحميه من شدة المراقبة وكثرة الجواسيس والافتراء على الأبرياء.
وسبب نشره أن الأفغاني استقدم من إنجلترا إلى الآستانة ولم يكن له من الآثار المطبوعة أو غير المطبوعة نظرا لانشغاله بالمقاومة لكل صنوف القهر ومناهضة الحكام وتحمل جورهم في سبيل نهضة الشرق دفاعا عن الحرية والعدل. فلازمه المخزومي، وأبدى رغبته في التدوين. ووافق عليها الأفغاني أخيرا. وسمح له بالسؤال عما يريد
اكتب ما تسمع واحفظ ما تراه
مع التحذير من خطر النشر ومخاطر الطاغية وجواسيس عبد الحميد وعناد أهل الجمود وقلبهم للحقائق. فهم في كل زمان ومكان سبب هلاك الناس حتى يظهر الحق من أناس آخرين ناقدين باحثين؛ فالبحث التاريخي قادر على إجلاء الحقيقة.
تأخر الكتاب في النشر ما يقرب من ثلث قرن. كان يمكن نشره بعد صدور الدستور العثماني بناء على طلب العلماء في مصر والهند ولكن حال الأحزاب في الشرق ينطبق أيضا على جمعية الاتحاد والترقي، أي الإهمال. ثم تكرر الطلب مرة أخرى للنشر عام 1912م، ولكن انقلب الجو السياسي، وتنمر الاتحاديون مع أن الأفغاني لا يهاجم الأشخاص أو المؤسسات أو يدعو إلى قلب نظم الحكم بل ينقد الأوضاع. ولما اندلعت الحرب الأوروبية الأولى قطع الحلفاء تركيا إلى دويلات فتم تأجيل النشر.
20
وبالرغم من أعجمية الأفغاني ومرونته في الالتزام بقواعد اللغة إلا أن العروبة هي اللسان وليست العرق حتى لقد قال الفيروزآبادي
خذوا لغتكم من أعجمي .
21
وما يعيبها فقط أنها بطبيعتها موضوعات متفرقة غير مرتبة، وأجوبة على أسئلة كما هو الحال في الفقه القديم في أحكام السؤال والجواب. وهنا تبرز صعوبة التبويب المستقل لها عن باقي موضوعات الأفغاني في مقالاته في العروة الوثقى أو حتى في رسالته في الرد على الدهريين. يمكن دراسة أشكالها الأدبية في إطار آداب الشرق القديمة، ويمكن دراسة مضامينها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية وإعادة ترتيبها داخل موضوعاتها كتأكيد على وضوح الفكر وبلاغة التعبير .
وصعوبة العروة الوثقى أنها تمثل روح الأفغاني وصياغة محمد عبده كما هو الحال في محاورات أفلاطون، روح سقراط وصياغة أفلاطون، وكما هو الحال في الأناجيل، روح المسيح وصياغات كتاب الأناجيل. ومع ذلك جرت العادة على نسبتها إلى الأفغاني. فالروح أقرب إلى الفكر، والصياغة مجرد ألفاظ وعبارات، بالرغم من الصلة الوثيقة بين المعاني والألفاظ. صدر منها ثمانية عشر عددا ابتداء من 13 / 3 / 1984 حتى 16 / 10 / 1984م على مدى سبعة أشهر من عام واحد بعد الثورة العرابية بما يقرب من عامين. أصدرها بناء على تكليف من جمعية
العروة الوثقى
لإنشاء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة.
أنواعها الأدبية متعددة، بين المقال والخبر والتحليل السياسي والفن الأدبي مثل الأعجوبة والأسطورة والغريبة ... إلخ. وأهمها المقال الذي يتراوح بين العرض النظري وهو المقال الفكري الإصلاحي الذي يعزى أحيانا إلى محمد عبده، والخطبة الإنشائية الحماسية الموجهة مباشرة إلى الجمهور للحث على الثورة ضد إنجلترا في مصر والسودان والهند والأفغان. وغالبا ما يبدأ المقال بآية قرآنية بمفردها، وهو الأغلب أو بحديث نبوي وهو الأقل.
22
وأحيانا يبدأ بالآية القرآنية دون عنوان للمقال، وهو الأغلب، أو مع عنوان في عبارة، أو في مجرد لفظ واحد، وهو الأقل، وهذا يدل على منهج الأفغاني في التفسير؛ فإنه يبدأ بالآية، وهو الأغلب، أو الحديث، وهو الأقل، ويفسرها باللجوء إلى التجربة الفردية أو الجماعية ويحولها إلى قانون نفسي أو اجتماعي أو تاريخي وكأن الآية هي الواقع، وحكم الشرع هو قانون التاريخ. لا يستنبط معنى الآية من النص عن طريق قواعد اللغة العربية كما يفعل المفسرون بل يستقرئ التجارب والحوادث ليجد في العالم الخارجي تصديقا للآية كما هو الحال في المنهج التجريبي المعروف؛ فالواقع خير تصديق للوحي. وبتعبير القدماء يتبع الأفغاني منهج التأويل وليس التذيل، أي صعود المعاني من أسفل إلى أعلى وليس نزولها من أعلى إلى أسفل كما هو الحال عند الصوفية، وقد تم اختيار الآيات بعناية؛ لأنها هي التي تصوغ قانونا تاريخيا عاما يمكن التحقق من صدقه في الواقع. وهنا يتحول القرآن من قراءة إلى رؤية، ومن كلام إلى واقع، ومن عبارة إلى ثورة، ومن وحي إلى تاريخ.
وقد فصل الأفغاني منهج العروة الوثقى وأهدافها على النحو الآتي: (1)
خدمة الشرقيين، وبيان الواجبات التي كان التفريط فيها موجبا للسقوط والضعف، وتوضيح الطرق لتدارك ما فات، والاحتراس مما هو آت. فهي موجهة إلى الشرق، والإسلام جزء من ريح الشرق، والمسلمون جزء من الجامعة الشرقية، والخلافة جزء من جامعة شعوب الشرق. (2)
البحث في الأسباب والعلل التي أدت إلى التفريط وبواعث الحيرة والتشابه والتيه والضلال. لذلك اتجهت العروة الوثقى إلى العلوم الاجتماعية وفلسفة التاريخ. (3)
كشف الغطاء عن أوهام المترفين، ونزع الوساوس من عقول المنعمين الذين يئسوا من الشفاء، وظنوا أن زمان التدارك قد فات مما أدى إلى فتور الهمم، درءا لروح اليأس وبثا لروح الأمل. (4)
التمسك ببعض أصول الأسلاف الشرقيين للتمسك بالقوة لدفع الكوارث. وهو ما يتمسك به الأوروبيون. يلجأ الشرقيون إلى الأسلاف وليس إلى تقليد الغربيين، دفاعا عن الأصالة ضد التغريب والاغتراب الثقافي. (5)
التكافؤ في القوى الذاتية والمكتسبة هو السبيل للمحافظة على العلاقات والروابط السياسية وإلا ابتلع القوي الضعيف احتراما للجميع، والمساواة الفطرية بين البشر، ثم التعارف وتبادل الخبرات بين الشعوب طبقا لتجارب كل منها وكسبها. (6)
درء تهمة تخلف المسلمين والشرقيين وأنهم غير قادرين على اللحاق بالمدنية ما داموا متمسكين بأصول الآباء وإمكانية الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين القديم والجديد، وهو الدرس المستفاد من الاجتهاد. (7)
تقوية الصلات بين الأمم والألفة بين أفرادها، والدفاع عن المنافع المشتركة عامة، وحقوق الشرقيين خاصة تأكيدا لوحدة الجنس البشري والمقاصد الكلية للشريعة، وهي مقاصد الوحي. (8)
إرسالها مجانا كي يتداولها الأمير والحقير، الغني والفقير، فهي نموذج للصحافة الملتزمة بالقضايا الوطنية وليست صحافة الإثارة أو التكسب بالرزايا والمصائب والفضائح.
23
وتجمع العروة الوثقى بين المقال الفكري والتحليل السياسي والوصف الإخباري، فهي مجلة فكرية سياسية تجمع بين الفكر والواقع، بين الأيديولوجية والحزب، بين النظر والعمل. وتعلق على أخبار الجرائد الإنجليزية والفرنسية، وعلى أقوال السياسيين وتصريحاتهم، مثل غوردون وجراهام وجلادستون وبيكونسفيلد وغيرهم. وتعطي أخبار الحرب والمعارك الدائرة بين الإنجليز من ناحية، ومحمد أحمد وعثمان دجمة من ناحية أخرى. وتستدعي ذكريات التاريخ مثل قتال الإنجليز للأمير عبد الله الوهابي على حدود الهند، ومثل حملات فرنسا على الصين. المقالات أقل، والتحليلات والأخبار والتعليقات السياسية أكثر. كما تعطي معلومات مفيدة للمسلمين خاصة وللشرقيين عامة عن الاستعمار والغرب والإنجليز حتى تضيع هيبتهم ورهبتهم من النفوس؛ فقد أباح غوردون بيع الرقيق في السودان وهو الآتي من الحضارة الغربية التي طالما دافعت عن حقوق الإنسان. كما استبعدت بريطانيا مصر من إدارة السودان، وطلبت من الميرغني التدخل لدى عثمان دجمة لوقف جهاده ضد الإنجليز، وإعلان الحرب الدينية على إنجلترا، واستنفار أوروبا وروسيا ضدها، وكشف سياسة التلوي والمخادعة والنفاق التي تتبعها إنجلترا. وتنقد المجلة تدخل الأجانب في شئون الدول الإسلامية، وتقلد الجيش المصري جنرال أجنبي، وتدخل بريطانيا في شئون مصر والدولة العثمانية. كما تساعد المجلة على تبديد وهم القوة البريطانية والعجز عن مقاومتها، ورفض اعتقاد السذج أن الله يؤيد المهدي بالملائكة المسومين. وقد ارتبط القراء بالمجلة وراسلوها مما دفع المجلة إلى التعليق على الرسائل وازدياد ارتباط الناس بها. فمنعت من دخول البلاد المصرية.
لقد عاش الأفغاني في عصر بسمارك والوحدة الألمانية بالقوة وفي عصر الرومانسية الأوروبية. فانعكس ذلك على المجلة بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية بالخطاب الرومانسي لحشد الناس، وأحيانا بالخطابة المباشرة، وأحيانا أخرى بالتأمل النظري، ومرة ثالثة بالتحليل الاجتماعي الطبيعي لأسباب انهيار الدولة الإسلامية. فجاءت تعبر عن عصرها وكل عصر مطحون بالتجزئة والاستعمار الجديد والرهبة من الغرب أو تقليده وفتور الناس وركونهم إلى الوهم والخمول.
24
وتعتمد هذه الدراسة عن الأفغاني في ذكراه المئوية الأولى على منهج القراءة وإعادة إنتاج النص ونقله من ظروف القرن الماضي إلى ظروف هذا القرن، تمثلا للأفغاني وروح عمله؛ فلو أن الأفغاني بعث الآن بعد مائة عام فأي مذهب يرد عليه، الدهريين أم غيرهم من الفرق؟ يكتب
الرد على الدهريين
أم
دفاعا عن الدهريين ؟ وأي خاطرات يمكن أن تجول في ذهنه أو تعتمل في نفسه، وقد أخذت أمريكا مكان بريطانيا في السيطرة على العالم، وأصبحت تركيا تهدد شمال العراق وسوريا بالتحالف مع إسرائيل وأمريكا، ولم تعد دولة الخلافة ويهددها الشقاق بين الجيش الذي ما زال يمثل الثورة الكمالية والحكومة التي تمثل حزب رفاه، التيار الإسلامي المعقول وريث تركيا الإسلامية؟ وماذا عن إسرائيل التي استولت على فلسطين، وتقوم بتهويد القدس أمام عجز العرب وتفككهم؟ وماذا عن حصار العراق وليبيا؛ فالعرب لم يعودوا أحرارا في بلادهم؟ وماذا عن مخاطر تفتيت السودان وتهديد وحدتها من جيرانها بتدعيم الغرب وإسرائيل بعد أن كانت تمثل ثورة المهدي ضد الإنجليز، وتكون مع مصر وحدة وادي النيل؟ وهل انتهى مشروع الأفغاني الذي صاغه القرن الماضي: الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل؟ وماذا عن الغزو الصربي للبوسنة والهرسك، والسوفيتي للشيشان وقبلها لأفغانستان، والهند واحتلالها كشمير، وتقسيم باكستان؟ وهل انتهت نظم القهر في الداخل، والدول العربية نموذجا محكومة إما بنظم عسكرية أو ملكية، إما من الجيش أو قريش، وكلاهما ليسا نظامين إسلاميين يقومان على أن الإمامة عقد وبيعة واختيار؟ وهل انتهى تقليد الغرب أو جهل علماء المسلمين؟ وهل انتهت سلبية الجماهير وعجزها ولا مبالاتها أم أنها ما زالت في حاجة إلى أفغاني يبعث من جديد، وإلى عروة وثقى جديدة؟ لذلك يقوم المنهج المتبع في هذا الكتاب على عدة مستويات: (1)
العرض والتحليل لنصوص الأفغاني كما هي عن طريق شرحها والتعبير عنها موضوعيا كما يفعل المبتدئون في العلم وطلاب الدراسات العليا دون اجتهاد أو تأويل دون الوصول إلى حد التكرار الممل وتحصيل الحاصل الذي يسود الكتب الجامعية. (2)
المناقشة والحوار للآراء المعروضة في حد ذاتها، وفي إطارها التاريخي، وفي مستوى عصرها من أجل تعميقها وتفتيحها وتحريكها استعدادا لإعادة كتابتها وإنتاجها وصياغتها في ظروف أخرى جديدة حدثت بعد قرن من الزمان. وهو ما يفعله الطالب المجتهد الذي لا يكتفي بالعرض والتحليل بل يتجرأ إلى المناقشة والحوار إعدادا له وتمرينا كي يتجاوز المادة العلمية إلى مادة علمية أخرى يضيفها. فهو جزء من العلم وليس خارجا عنه، ذات وموضوع في آن واحد . (3)
إعادة كتابة نصوص الأفغاني بناء على الظروف الحالية، وكأن الباحث أصبح أفغانيا جديدا، وكأن الأفغاني نفسه قد بعث من جديد بعد مائة عام، فيتحول العلم إلى عمل، ويستمر القصد الأول في التاريخ، ويكون الباحث جزءا من حركته وليس متفرجا عليه، مصورا له في إحدى لحظاته الماضية.
وتتم الخطوة الثالثة على مراحل ثلاث: (أ)
وضع النص في صياغته الأولى في إطاره التاريخي من أجل تفسيره ووصف التجارب الأولى التي نشأ فيها، والظروف التاريخية التي عاشها المؤلف من أجل معرفة كيفية إنتاج النص الأول. ويكون الخطأ في إهدار سياق الصياغة الأولى أو تكرارها في سياق آخر مختلف والحكم عليها بالخطأ والصواب. (ب)
إعادة كتابة النص في صياغة ثانية بناء على الظروف المتغيرة وبيان مدى الاتفاق والاختلاف مع التجارب الأولى، الاتفاق واستمرار الصياغة والاختلاف وإعادة كتابة النص. فعل القراءة هنا يتجاوز فعل التأويل إلى إعادة إنتاج النص من جديد. فلا توجد صياغة ثابتة وإلا قضى على الهدف من النص وهو تحريك الواقع. ولا يوجد للنص مؤلف واحد بل عدة مؤلفين؛ فالقارئ الثاني مؤلف مشارك، والمؤلف هو قارئ أول. المؤلف الأول يفهم من الواقع إلى النص والقارئ الثاني يفهم من النص إلى الواقع ثم يعيد الكتابة من الواقع إلى النص. (ج)
لا يوجد خطأ وصواب في النص في صياغته الأولى إلا بقدر ما يعبر عن ظروفه التاريخية الأولى وبواعث مؤلفه الأول. لا توجد مرجعية خارجه، بعيدة عن لغته وسياقه وبواعثه. ولا يوجد خطأ وصواب في الصياغة الثانية إلا بقدر تغير نشأة النص الأول ثم إعادة إنتاجه في ظروف مغايرة مع الإبقاء على بواعثه ومقاصده وأهدافه التي تحدد مسار حركته. الثابت بين النص الأول للمؤلف والنص الثاني للقارئ وربما الصياغات المستقبلية لقراء آخرين هو روح النص، النص باعتباره مقاصد وغايات وبواعث فردية وجماعية وحركة تاريخية وتراكم خبرات طويلة تكون الوعي التاريخي لحضارة وشعب.
والمنهج في كلتا الحالتين، مستويات التحليل الثلاثة أو في خطوات المنهج الثلاث، إنما يعتمد على منهج واحد وهو تحليل الخبرات الشعورية الفردية والجماعية. فالنص صياغة لغوية لتجربة شعورية في صياغته الأولى. وهو أيضا تجربة شعورية في الصياغة الثانية إذا كان الواقع التاريخي لم يتغير، الاستعمار والقهر والتجزئة والتخلف والتغريب وسلبية الجماهير. هذه الوحدة المستمرة للتجربة الشعورية في النص الأولى وفي إعادة إنتاجه هي إحدى الضمانات للفهم الموضوعي للنص باللجوء إلى مصدره في وحدة التجربة. كانت العروة الوثقى تنزل على قلوب الناس كأنها
وحي سماوي أو إلهام إلهي
لقدرتها على التعبير عن الواقع وكشفه وإيصاله للناس.
25
والخاطرات ما زالت تنزل على قلوب الناس طازجة بالرغم من انقضاء قرن عليها؛ لأن التجربة المعاشة واحدة لم تتغير فيما يتعلق بتجارب الاستعمار والقهر بصرف النظر عن مصدرهما، إنجلترا ثم أمريكا، السلطان عبد الحميد ثم الأنظمة العربية الحالية، الجيش وقريش، وهذا ما سماه الأصوليون القدماء خصوص السبب وعموم الحكم.
وبطبيعة الحال كان يغلب على فكر الأفغاني طابع الدفاع؛ لأنه عاش في سياق الهجوم على الإسلام من التبشير والاستشراق. فرد على رينان كما رد عليه مصطفى عبد الرازق. وما زال هذا الطابع الدفاعي هو الغالب على الفكر الإسلامي المعاصر، رد محمد عبده على فرح أنطون وترويجه للتجربة الغربية وتعميمه على غيرها من تجارب الشعوب وثقافاتها في
الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية ، وفي الرد على هانوتو، ورشيد رضا في
شبهات النصارى وحجج الإسلام ، وعند محمد فريد وجدي في
لماذا أنا مؤمن؟
ردا على إسماعيل أدهم
لماذا أنا ملحد؟ ، وعند محمد الغزالي في
من هنا نعلم
ردا على خالد محمد خالد في
من هنا نبدأ
ومحمد الغزالي أيضا في
ظلام من الغرب
ردا علي زكي نجيب محمود في
شروق من الغرب . وطالما أن الهجوم على الإسلام ما زال مستمرا، ثروات وفكرا وهوية وتاريخا، فإن الدفاع عنه أيضا من الإسلام التقليدي أحيانا ومن الإسلام المستنير أحيانا أخرى يظل مستمرا أيضا حتى تخف حدة الجدل والسجال، ويبدأ العقل بالتحليل والبرهان. ما زال الفكر الإسلامي المعاصر فكرا جدليا كلاميا مع العصر ولكن في سياق تاريخي مغاير، ولكنه في النهاية أقرب إلى علم الكلام منه إلى الفلسفة. وإلى الجدل منه إلى البرهان. بل إن
الرد على الدهريين
كتب دفاعا عن الإيمان ضد الملحدين الداعين لنبذ الأديان وحل عقود الإيمان.
26
غايته نقض مذاهب الطبيعيين وإرغام الضالين بتأييد عقائد المؤمنين. والحقيقة أن مقاييس العلم برهانية خالصة وليس الدفاع الجدلي عن مسلمات الإيمان. يمكن تأويل الإيمان على نواح عدة حتى يتفق مع العلم أو يختلف معه. وفي هذه الحالة يكون العلم هو الثابت والإيمان هو المتغير، والعلم لا يدعى ثباتا بل هو متغير في كل عصر، والإيمان يدعى ثباتا وينكر التغير. والحقيقة أن كليهما متغير بتغير فهم البشر للعلم وللدين طبقا لتصورات كل عصر. كما تغلب على فكر الأفغاني الدعوة السلفية، الرجوع إلى الماضي؛ إذ لا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، وأن السلف خير من الخلف الذي أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، وأن خير القرون قرن الرسول، وأن الخلافة ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملك عضود. وهي الدعوة التي ما زالت تتردد في الخطاب السلفي والتي تجعل النموذج أو القدوة في الماضي وكأن للتاريخ نموذجا ثابتا في إحدى لحظات مساره. وهي الدعوة الرومانسية الموجودة في كثير من الحركات الإصلاحية في كل مكان مثل مارتن لوثر، ولامنيه، وشاتوبريان. وذلك على عكس الدعوة إلى المستقبل، وأن الكمال قادم وليس ماضيا، وأن حركة التاريخ في صعود وليست في هبوط. وهي الروح التي عبر عنها رينان في
مستقبل العلم
ومحمد عبده ربما في الجزء الأخير من
رسالة التوحيد
عن تقدم الإسلام في التاريخ بسرعة لم يشهد مثلها العالم من قبل، وأن الوحي ممكن الوقوع وكما هو الحال في كل محاولات إنشاء فلسفة جديدة للتاريخ تضع شروط النهضة ولا تكتفي بوصف أسباب الانهيار كما فعل ابن خلدون، محاولات بدأها أديب إسحاق تلميذ الأفغاني الأثير.
أما القول الخطابي فما زال يسيطر على الفكر الإسلامي المعاصر بالتناوب مع القول الجدلي، ويقل كثيرا القول البرهاني إلا فيما ندر. ومن الصعب تحويل الخطابة إلى تصورات، والحماسة إلى أفكار. فالمقصود منها الجماهير وليس العلماء، والمستمع جزء من مكونات الخطاب. فالخطاب رسالة من مرسل إلى رسول. والحركة الاجتماعية جزء من مكونات الخطاب أيضا باعتباره بواعث ومقاصد وليس مجرد الحقائق النظرية. لذلك يستعمل الأفغاني كثيرا أسلوب النداء وضمائر المخاطب مفردا أو جمعا.
27
قد يظهر الأسلوب الخطابي والقول الانفعالي أحيانا في هذه الدراسة أسوة بالموضوع، ومشاركة في الهم والقصد. فليس المطلوب باسم العلم إيقاف حركة التاريخ أو عزل الخطاب عن الجماهير وإلا كان ادعاء مقصودا وخطابة سلطان. وهو خطاب في النهاية كان منبره الصحافة. فالصحافة عند الأفغاني منبر الفكر، عمل شريف. ويعترف بأنه صحفي، له جريدة في باريس.
28
وبالرغم من أن تقسيم أعمال الأفغاني على الجبهات الثلاث وارد: الموقف من التراث القديم وضرورة إعادة بنائه، والتحول من السلب إلى الإيجاب مثل إعادة تفسير القضاء والقدر، والموقف من التراث الغربي خاصة السلبي منه مثل الدهرية أي المادية، مذهب الطبائعيين، دارون وسبنسر وبشنر، ويضع الأفغاني معهم السوسياليست والنهيلست فولتير وروسو، واتجاهات الغرب، والاستعمار، والتآمر والتعصب والجنس، والموقف من الواقع المباشر للأمة، الاستعمار والقهر والتفكك والفقر والتقليد للغرب واللامبالاة، إلا أن الأولوية كانت لمادة الأفغاني نفسه، فكره النظري في الرد على الدهريين وهو ما يعادل التوحيد، وإعادة تفسيره للقضاء والقدر على أنه حرية وهو ما يعادل العدل، ورأيه في العلم وصلته بالعمل وهو ما يعادل العقل والنقل، ثم الفضيلة كما تتجلى في الأخلاق الفردية والاجتماعية وهو ما يعادل الإيمان والعمل. وهنا يبدو الأفغاني متكلما في جبهة التراث القديم، ثم يأتي التقابل بين الأنا والآخر، والشرق والغرب، والمسألة الشرقية وهو ما يعادل الموقف من الآخر. ثم يأتي، مصر والمصريون، والوحدة الإسلامية، وأسباب تخلف المسلمين، وهو ما يعادل الموقف من الواقع، والمساهمة في حركة التاريخ.
قد يكون نص ناقصا هنا أو هناك أو تحليل تنقصه الدقة أو دراسة ثانوية ناقصة من هنا أو من هناك. ولكن الأهم هو إعادة إنتاج الأفغاني بعد قرن من الزمان في ذكراه المئوية الأولى.
29
الفصل الثاني
الفكر النظري (الرد على الدهريين) (التوحيد)
(1) النقد النظري
الرد على الدهريين
إجابة على سؤال من أحد القراء في الهند عن معنى لفظ «نيتشر» السائد في الأقطار الهندية. فالسؤال محلي حول موضوع محلي وليس سؤالا عن المذهب الطبيعي
Naturalism
الغربي. والسؤال طويل ومركب ومتعدد الجوانب، عن حقيقة المذهب الطبيعي كما شاع في الهند وعن الطبائعيين، وهل يمكن أن يكون المذهب عماد المدنية؟ وما قصده؟ وهل ينافي مقاصد أصول الدين أو يعارضها؟ وما علاقة هذا المذهب بمطلق الدين في عالم المدنية؟ وماذا كانت صورة المذهب قديما؟ ومن هم دعاته الآن؟ ولماذا ينتشرون؟ وما الغاية من ذلك كله؟
1
والحقيقة أنه لما استقر الاستعمار في الهند شجع الإنجليز أحمد خان بهادور، وهو لقب تعظيمي في الهند، من صنيعتهم لخلع دين المسلمين، والتدين بمذهب الإنجليز. فألف كتابا يثبت فيه أن التوراة والإنجيل ليسا محرفين ولا مبدلين لإرضاء الإنجليز. ثم قال بالمذهب الدهري. فلا وجود إلا للطبيعة العمياء دون إله حكيم. وجميع الأنبياء كانوا طبيعيين ومن ثم يمكن التخلص من الشرع وبالتالي من الجهاد، ودفع المسلمين إلى الشهوات والحياة الدنيا. وبنى الإنجليز له مدرسة عليكرة، مدرسة المحمديين لنشر الدعوة. فأوروبا لم تتقدم إلا بالمذهب الطبيعي. وقد كافأه الإنجليز بتعيين ابنه مولوي محمود عضوا في مجلس قرية من قرى الهند لا يزيد حجمها على شبراخيت في مصر. ووعدوا كل من اتبعوه بتعيينهم في وظائف الحكومة. وهو دجال آخر الزمان، يهدف إلى محو الإسلام في الهند. فالدهريون هم جيش الحكومة الإنجليزية في الهند. واستمر تلميذه الأول سميع الله خان في تضليل المسلمين، وكان صديقا للورد نورثبروك الذي كان يعمل على تنفير المصريين من الدولة العثمانية.
2
وقد كتب الكتاب بالهندية والفارسية. لا ينقسم إلى فصول أو أبواب كما هو الحال في التأليف الحديث، بل إلى عدة مطالب غير مرقمة أو مرتبة وخاتمة للكتاب. تشمل عرضا تاريخيا للمذهب وفرقه، وهو الجزء الأصغر ثم أربعة عشر مطلبا في خطورته على الأديان والرد عليه، وهو الجزء الأكبر، أربعة أضعاف الجزء الأول وهو ما يتفق مع عنوان الكتاب.
3
وهو مذهب ظهر في اليونان في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، يهدف في رأي الأفغاني إلى محو الأديان ووضع أسس الإباحة والاشتراك في الأموال والأبضاع بين الناس. ففسدت الأخلاق وانهارت الأمم، أي إنه قضى على الطبيعة والمجتمع، وفسدت المدنية، ونقضت الهيئة الاجتماعية الإنسانية، والدين هو أساس النظام الاجتماعي والتمدن. فالمذهب ضد الدين وضد أي تنظيم على أساس ديني.
4
فواضح من هذا التعريف أن العرض الموضوعي يشمل النقد بل يتجاوز النقد العرض الموضوعي. لا يتجاوز العرض نشأته التاريخية مكانا وزمانا ثم بعد ذلك يبتلع النقد العرض. والنقد كله يقوم على أساس خطورته على الدين وقضائه عليه؛ لأن الدين أساس المجتمع. فالمذهب يمحو الدين وبالتالي يقضي على المجتمع ويكون سبب انهياره في التاريخ. وهو النقد الشعبي الرائج في الصحف الدينية المحافظة التي تعتبر كل تفكير في المادة وكل تنظيم اجتماعي يقوم على الشراكة مادية وإلحادا، نقد رجال الدين للمذهب الطبيعي وهو ما زال سائدا حتى الآن، وليس نقد العلماء من داخل المذهب في مقدماته ونتائجه وحججه واستدلالاته وبراهينه.
5
ومنذ تاريخ اليونان في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد وجد تياران: الأول تيار إلهي يثبت وجود ذات مجردة عن المادة والزمان، مخالفة للمحسوسات في صفاتها، منزهة عن صفات الجسم وأعراضه، واحدة منزهة عن التأليف والتركيب، وجودها ذاتها وذاتها وجودها. وهي المصدر الأول والمبدع لكل الكائنات. ويعرف أنصار هذا التيار باسم المتألهين، أي الخاضعين لله، مثل فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو، والثاني طبيعي لا يثبت إلا المادة المدركة بالحس، ولا يوجد شيء وراءها. لذلك سمي أنصار هذا المذهب باسم الماديين، والمذهب نفسه بالمادية
Marérialisme . المادة طبيعة، والطبيعة مادة. يرجع اختلاف خواصها إلى طبيعتها. ويسمى أيضا المذهب الطبيعي. ويعربه الأفغاني ويسميه ناتوراليزم
Naturalisme
كشيخ تعلم اللغات الأجنبية على كبر. يذكرها أيضا بالفرنسية «ناتير» وبالإنجليزية «نيتشر» وبالألمانية «ناتور». وعرف أيضا عند العرب باسم الطبيعيين والأصح الطبائعيين الذين يقولون بالطبائع مثل أصحاب الطبائع من المعتزلة والنظام والجاحظ ومعمر بن عباد، وهشام بن الأشرس.
6
والحقيقة أن هذا التصنيف الثنائي للمذاهب غير دقيق بالرغم من شيوعه في الكتب الثانوية والثقافة الفلسفية الشعبية الشائعة لتثقيف العامة. فالمتألهون ليسوا هم الخاضعين لله بل المثبتون لله؛ لأن الأفغاني لا يفرق ضمنا بين الإيمان والعمل ، بين الفكر والسلوك. فمن يثبت وجود الله يكون بالضرورة مطيعا له. كما أن وضع أفلاطون وأرسطو معا في نفس المذهب الإلهي غير دقيق. أفلاطون إلهي وأرسطو طبيعي. صحيح أن الأول يقول بالمثال المجرد ولكن الثاني يقول بالطبيعة التي تتجه نحو الكمال. الأول لا يقول بالخلق بل بالصنعة ربما من مادة أولى قديمة، والثاني يقول بالمحرك الذي لا يتحرك، ويحركه الله نحو العالم بالعشق. كما أن فيثاغورس وسقراط وأفلاطون يسيرون في نفس الاتجاه، إثبات المعنى المستقل عن المادة، سواء كانت المعاني الرياضية مثل فيثاغورس أو الأخلاقية مثل سقراط أو الفلسفية مثل أفلاطون.
وينقسم أنصار المذهب الطبيعي إلى خمس فرق في تكوين العالم، الكواكب والحيوان والذبات على النحو الآتي: (1)
تكوين العالمين العلوي والسفلي عن طريق الصدفة والاتفاق، والترجيح بلا مرجح، وهو في رأي الأفغاني يناقض بداهة العقل. وأهم ممثل لهذه الفرقة ديموقريطس. فالعالم مكون من أجزاء صغيرة صلبة متحركة بالطبع، ومن حركاتها تظهر الأجسام وهيئاتها بقضاء العماء المطلق. وواضح أن الأفغاني لا يصبر على العرض كي يستوفيه معه بل يسرع بالنقد في أول العرض ويعتبره مناقضا لبداهة العقل، ويعني به قواعد الإيمان. فقد يرى آخر أنه متفق مع العقل الطبيعي. وهو المذهب الذي كتب فيه ماركس رسالته للدكتوراه معتبرا إياه مؤسس المادية الأولى. ويسمي الأفغاني العماء العماية. كما يسمي الحتمية القضاء، وهي ألفاظ إسلامية تكشف عن قراءة الآخر بمصطلحات الأنا طبقا لقواعد التشكل الكاذب، جدل اللفظ والمعنى في الالتقاء الحضاري، التعبير عن مضمون الأنا بلفظ الآخر أو التعبير عن مضمون الآخر بلفظ الأنا.
7 (2)
الأجرام السماوية والكرة الأرضية على حقيقتها منذ الأزل ولا تزال، لا بداية لها. وكل شيء لاحق مكنون في السابق، الشجرة في البذرة، والثمرة في الشجرة، والكائن الحي في الخلية إلى ما لا نهاية. فالمقادير اللامتناهية توجد في المقادير المتناهية. وهي نظرية الكمون والطفرة الشهيرة التي قال بها النظام وأقرانه من أصحاب الطبائع. وهو رأي لا يتناقض مع القرآن في وصف تطور الجنين في رحم الأم من العلقة فالمضغة إلى عظام إلى لحم. والأفغاني لا يعلق عليه ولا ينقده. (3)
النبات والحيوان قديمان بالنوع، والأجرام العلوية وهيئاتها قديمة بالشخص. ولا شيء من الجراثيم الأولى قديمة بل محدثة. قالب سابق يتكون فيه اللاحق. وينقد الأفغاني هذه الفرقة الثالثة بأن كامل الخلقة قد ينتج عن ناقص الخلقة، وأن ناقص الخلقة قد ينتج عن كامل الخلقة، وهو رأي وسط بين القدم والحدوث. فالأجرام السماوية قديمة بالشخص والحيوان قديم بالنوع ولكن الجراثيم الأولى محدثة. وهو ما يصعب فهمه. وحجة الأفغاني، خروج الكامل من الناقص والناقص من الكامل غير حاسمة في نقد هذه الفرقة الثالثة. (4)
إثبات التطور مع الإيهام بالبيان. فأنواع الحيوان والنبات تقلبت على أطوار، وتبدلت على أدوار على مر الزمان حتى وصلت إلى هيئاتها الآن. وهو رأي أبيقور أحد أتباع ديوجينس الكلبي؛ فقد كان الإنسان في بعض أطواره مثل الخنزير ذي شعر كثيف، ثم تطور حتى وصل إلى صورته الحسنى التي هو عليها الآن. ولا يوجد برهان على ذلك في رأي الأفغاني مع أن أصحاب نظرية التطور يعطون عشرات البراهين في وصف تطور الكائنات الحية لبيان اتصالها حتى ولو كانت هناك بعض الحلقات المفقودة؛ فالعلم الطبيعي وتطور الأحياء قادر على اكتشافها بمزيد البحث والاستقصاء. ولا يوضح الأفغاني إذا كانت هذه الفرقة مستقلة أم أنها فرع من الفرقة الثالثة. (5)
القول بالحدوث عند الماديين المتأخرين بعد أن بين علم الجيولوجيا، علم طبقات الأرض، بطلان قدم الأنواع، ثم اختلف أنصار هذا الرأي في موضوعين: الأول تكوين الجراثيم النباتية والحيوانية؛ فالبعض يرى أن تكوين الجراثيم جاء نتيجة تناقص التهاب الأرض ثم انتهى هذا التكوين بنهاية التطور. والبعض الآخر يرى أن تكوين الجراثيم ما زال متصلا حتى الآن خاصة في خط الاستواء حيث تشتد الحرارة. وينقد الأفغاني رأي الفريقين لعجزهما عن بيان سبب حياة هذه الجراثيم النباتية والحيوانية خاصة بعد ما تبين أن الحياة فاعل في بسائط الجراثيم، يوجب التئامها، وتحفظ تكوينها، وأن القوة الغاذية هي التي تجعل غير الحي من الأجزاء حيا بالتغذية، فإذا ضعفت الحياة ضعف تماسك البسائط وتجاذبها فصارت إلى الانحلال، وقد ظن فريق ثالث أن هذه الجراثيم كانت مع الأرض عند انفصالها عن الشمس، وهو ما لا يتفق مع القول بأن الأرض كانت جزءا ملتهبا من الشمس مما يؤدي إلى احتراق هذه الجراثيم وصورها في النار.
8
والثاني موضوع الخلاف هو التحول من النقص إلى الكمال؛ فالبعض يرى أن لكل نوع جرثومة، ولكل جرثومة طبيعة تميل إلى حركة تناسبها في الأطوار الحيوية، وتجذب ما يلائمها من الأجزاء غير الحية ليصير جزءا لها بالتغذية، ثم تملؤه بلباس نوعه. وينقد الأفغاني هذا الرأي بعلم الكيمياء وإثباته أنه لا فرق بين نطفة الإنسان ونطفة الحيوان، وبتماثل النطفة في العناصر البسيطة، وبالتالي بالعجز عن تفسير التخالف في طبائع الجراثيم مع تماثل عناصرها. والبعض الآخر يرى أن جراثيم الأنواع خاصة الحيوانية متماثلة في الجواهر، متساوية في الحقيقة، وليس بين الأنواع تخالف جوهري ولا انفصال ذاتي، وبالتالي يجوز الانتقال من صورة نوعية إلى صورة نوعية أخرى بمقتضى الزمان والمكان وحكم الحاجة والضرورة وقضاء سلطان القسر الخارجي. ويمثل دارون هذا الرأي في
أصل الأنواع . فأصل الإنسان قرد ثم عرض له التنقيح والتهذيب للصورة بالتدريج على توالي الأزمان وبتأثير العوامل الخارجية حتى ارتقى إلى درجة يسميها الأفغاني برزخ أو ران أو ثان، وهو لفظ قرآني صوفي، وهو نوع من القردة العليا حتى وصل إلى صورة الإنسان الأول، البمبم وسائر الزنوج، ثم إلى الإنسان القوقازي، ويسخر الأفغاني من ذلك بأنه طبقا لهذه النظرية يمكن أن يكون البرغوث فيلا بمرور الدهور وأن ينقلب الفيل برغوثا. فالتطور تقدم ونكوص، ارتقاء ورجوع. وهي حجة خطابية؛ لأن التطور يخضع لقانون. كما يسأل الأفغاني دارون عن سبب اختلاف الأشجار في بقعة واحدة وزمان واحد، تروى بماء واحد وفي طينة واحدة، وسبب اختلاف أشكال الأسماك في بحيرة واحدة وطعام واحد ومياه واحدة، واختلاف أشكال الحيوانات وهي تعيش في منطقة واحدة. ويسأل عن العلة الفاعلة لهذه الجراثيم في استكمالها الجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة، ووضعها على مقتضى الحكمة والإبداع، لكل منها وظيفة محددة . كيف يمكن إرجاع ذلك إلى الضرورة العمياء دون إرادة واعية مريدة قاصدة؟ ويرى الأفغاني أن العجز عن الرد على هذه التساؤلات يجعل نظرية التطور مجرد جهل ووهم وخرافة مثل المشابهة الواهية بين الإنسان والقرد التي هي مجرد عماية وحيرة، والحقيقة أن الأفغاني هو الذي يتحول من العلم إلى الدين عن طريق تشخيص العلل الطبيعية وتحويلها من قوانين ثابتة إلى إرادة مشخصة عالمة قادرة مريدة كما هو الحال في علم الكلام التقليدي في الأدلة على وجود الله. كما يحاول دارون تفسير اختلاف الخيل في سيبريا والبلاد الروسية؛ لأنها أغزر شعرا من الخيل في البلاد العربية مستعملا نظرية التطور. والسبب في ذلك في رأي الأفغاني هو البيئة الجغرافية وحاجة الخيل في البلاد الباردة إلى شعر يدفئها. وهو نفس السبب لكثرة النبات وقلته لكثرة الأمطار أو ندرتها، وكذلك السمنة في البلاد الباردة والنحافة في البلاد الحارة طبقا لدرجات الحرارة. كما ينقد الأفغاني ساخرا نظرية التطور الهاوية بأن من يقطع ذنب كلب عدة قرون تتولد الكلاب بلا أذناب بعد أن تكتسب الصفات الوراثية، ولأنه لم تعد للذنب حاجة في الطبيعة فاستغنت عنه مع أن الختان موجود منذ آلاف السنين عند العبرانيين والعرب ولم يولد إنسان مختنا.
9
ويستعمل الأفغاني أسلوب الحجاج التقليدي في علم الكلام، ويتخيل المعترض ويرد عليه سلفا بطريقة فإن قيل ... قال. ولا يتعرض الأفغاني للنقد الرئيسي لنتائج نظرية التطور على الأجناس البشرية وهي العنصرية التي تجعل الإنسان الأبيض أكثر رقيا من الزنجي، وتجعل الزنجي وسطا بين الإنسان والحيوان.
وبالإضافة إلى كثرة التقسيمات والتعريفات للفرق التي تقول بنظرية التطور على طريقة الفرق الكلامية القديمة فإن الأفغاني يفرق بين رأي المتقدمين والمتأخرين من أنصار نظرية التطور؛ إذ رفض المتأخرون رأي المتقدمين نظرا لاستحالة خلو المادة من الشعور لتفسير هذا النظام المتقن والهيئات البديعة. وجعلوا للكون العلوي والسفلي علة مركبة من ثلاثة أشياء: المادة (ماتيير )، والقوة (فورس)، والعقل (إنتليجانس)، أو الإدراك بترجمة الأفغاني الحرة أو المعربة. وباجتماع هذه القوى الثلاث تتجلى الأشكال والهيئات الحية النباتية والحيوانية نظرا لما يلابسها من شعور يؤدي إلى البقاء الشخصي وحفظ النوع. ثم تظهر الأعضاء والآلات لأداء الوظائف الشخصية والنوعية بالتعامل مع الأزمنة والأمكنة وفصول السنة. ويرى الأفغاني أن هذا هو أفضل ما هو موجود في المذهب المادي، الجمع بين المادة والشعور. وهو أيضا أبعد عن العقل والمنطق وأقرب إلى الوهم. فإذا كانت المادة مكونة من أجسام أو ذرات على رأي ديموقريطس فإن هذا الرأي الجديد، الجمع بين المادة والشعور، لا ينطبق على علة تركيب الأجسام في النظام الكوني؛ إذ يلزم عن هذا الرأي، شعور المادة، أن يكون لكل جزء شعور أو قوة يتمايز به عن سائر الأجسام؛ إذ لا يمكن قيام العرض الواحد بمحلين كما يقول قدماء المتكلمين. فلا يقوم علم واحد بجزأين أو أجزاء. وكيف يطلع كل جزء على مقاصد الأجزاء الأخرى؟ كيف يفهمها؟ وأي جماعة: جماعة، برلمان، مجلس شورى أو سنات (مجلس شيوخ) تشاور لإبداع هذه المكونات المركبة على غاية الإبداع؟ وكيف تعلم الأجزاء ضرورة تكونها في هيئة طير يأكل الحبوب أو اللحوم؟ وكيف تعلم أنها ستكون ذكرا أم أنثى، بحلمة واحدة أو بحلمات؟ وكيف تدرك حاجاتها إلى الأجزاء الأخرى؟ ولا سبيل إلى الإجابة على هذه التساؤلات إلا بإعلان العجز والحيرة والتردد والجهل، لزم إذن علم كل جزء بباقي الأجزاء العلوية والسفلية مراعاة لنظام الكون حتى لا يقع الخلل فيه نظرا لقيام العالم على ناموس واحد. وكيف يكون لكل جزء أبعاد غير متناهية ولا يدرك ولا بالمجهر؟ وإذا كان العلم مجرد ارتسام الصورة المعلومة في ذات العالم المادي، وهي صورة غير متناهية مع أن الأجسام متناهية، فإن ذلك يناقض العقل. وإذا كانت الأجزاء على درجة من العلم والقوة فلم تصاب الكائنات بالآلام والعناء للتخلص منها؟ لماذا عجز الإنسان والحيوان عن الحفاظ على حياتهما؟ ولا يجيب الأفغاني على هذه التساؤلات ولكنه ينتهي إلى أن هذا المذهب خرافة وأملته الحيرة. ولا يفسر مبدآه، الطبع والشعور، أي شيء. وهما مبدآن متناقضان؛ إذ كيف يكون شيئان مختلفين في الخواص ومتماثلين في العناصر؟ افتراض الأجزاء إذن رجم بالغيب، ولا سبيل إلا أن تكون مختلفة لتفسير اختلاف الخواص. وتؤدي هذه المذاهب كلها إلى إنكار الألوهية. أنصارها كالخلابيص، يقومون بحركات لإضحاك الناظرين، ويقدمون شيئا لا نظام له. فهم لا علم ولا إنسانية لهم، بعيدون عن مواقع الخطاب، ساقطون عن منزلة اللوم والاعتراض. ليس المقصود التشنيع عليهم بل إظهار الحق وكشف الواقع.
10
ونظرية التطور ليست جديدة. قال بها العرب، شعراء وفلاسفة وعلماء، قبل الأوروبيين مثل قول المعري.
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
لم يأت دارون بجديد، وربما لا يوجد جديد على سطح الأرض من حيث الجوهر والأصول، المهم أن يعترف الخلف بفضل السلف وأن يقوموا بإخراج النظرية وغيرها من بطون الكتب. الخلاف في طريق الوصول إليها. ما وصل إليه القدماء بالعقل وصل إليه الأوروبيون بالتجربة، وما وصل إليه القدماء للمعرفة وصل إليه المحدثون للكشف والاختراع. وهو أيضا ما قاله أبو بكر بن بشرون في رسالته لأبي السمح في بحث الكيمياء، استحالة التراب إلى نبات ثم إلى حيوان. وأرفع المواليد الإنسان. فالنبات أرفع درجات التراب، والحيوان أرفع درجات النبات، والإنسان أرفع درجات الحيوان، في سلسلة متصلة لا تنتهي. قال بذلك القدماء قبل دارون مع الاعتراف بفضله وثباته وصبره وخدمته للتاريخ الطبيعي، بالرغم من مخالفة الأفغاني له في نسمة الحياة التي أوجدها الله لا على سبيل الارتقاء من القرد إلى الإنسان، أو أن يصبح البرغوث فيلا لأن فيه ما يشبه الخرطوم. بل إن الأفغاني ينبه على عدم الإغراق في نسبة النشوء والارتقاء له لأنه يلتقي مع دارون في رصد الظاهرة ويختلف في تفسيرها؛ فالتطور عند دارون متصل الحلقات وعند الأفغاني منفصل الحلقات، وهو نفس الخلاف بين دارون وسبنسر ولامارك ودوركايم من ناحية وبين برجسون من ناحية أخرى.
وما يعيبه الأفغاني على الدكتور شميل ليس قوله بالتطور الذي قال به القدماء، ولكن سيره على أثر دارون مثل بشنر وهكسلي وسبنسر، وتحمل أعباء التكفير من غير علم دقيق. وبالرغم من جرأته الأدبية ورسوخه في الفلسفة وعدم خوفه من سخط المجموع وتسميته الحكيم أو حكيم الشرق، إلا أنه وقع في التقليد الأعمى للغرب، وانتصر لدارون ونشر مذهبه رغم معارضة الدين، أي إن الأفغاني يعيب عليه تغريبه أي تقليده للغرب بالرغم مما قد يعاب على الأفغاني من سلفيته أي تقليده للقدماء. بل إن شميل ينكر الخلق وهو ما زال مطروحا عند دارون. فبالرغم من أن مجموع التطوريين ينكرون الخلق بناء على التدرج في الأحياء إلا أن دارون نفسه وصل إلى النقطة الجوهرية، وهي موجد نسمة الحياة، وقال
إني أرى الأحياء التي عاشت على هذه الأرض جميعها من صورة واحدة أولية نفخ الخالق فيها نسمة الحياة. فما ينبغي ظهور الحياة على نحو طبيعي . ولكن الماديين أنكروا على دارون ذلك وجعلوا مذهبه ناقصا؛ لأن غايتهم إنكار الخلق، وشميل يوافق دارون إذا أنكر الخلق ويختلف معه إذا أثبته. فالأفغاني «يؤسلم» دارون ويجعله يقول بالتطور والخلق في آن واحد. ويعيب على شميل قراءته الغريبة لدارون وبالتالي تغريبه وعدم رؤيته للآخر من منظور الأنا. وينتهي الأفغاني من هذا العرض النقدي لنظرية التطور إلى أن حصر الحياة كما هو الحال في المذهب الطبيعي في أنواع قليلة لا ضرر منه، والانتخاب الطبيعي أمر معروف في انتخاب النساء والأزواج. وقد حرص العرب عليه لتحسين نسل الحيوان. فكان العربي يطوف البيد كي يبحث لفرسه عن زوج حرصا على الأنساب المختارة.
11
تمثل رسالة
الرد على الدهريين
النقاش الدائر في الغرب في القرن التاسع عشر إثر نظرية دارون وترويج أحمد خان لها في الهند كجزء من التغريب العام للتخفيف من حدة التقابل بين الشرق والغرب في عصر مواجهة الاستعمار. ويردد الأفغاني نفس الحجج التي رددتها الدوائر الدينية الكاثوليكية خاصة في الغرب ضد نظرية التطور. فهي تعتبر إحدى بدايات علم الكلام الجديد أو الفلسفة الجديدة في التعامل مع الثقافات الوافدة من الغرب الحديث كما تعامل القدماء، متكلمين وفلاسفة، مع الثقافات الوافدة من اليونان غربا وفارس والهند شرقا. كما تعبر عن الحالة الثقافية الراهنة والأفكار الشائعة عن المادية والإلحاد والمذهب الطبيعي والنقد الشائع لها في أذهان الناس الذي تقوم به الدوائر الدينية المحافظة من خلال سطوة أجهزة الإعلام وتأثيرها، يعتمد الأفغاني على البحث التاريخي والدليل العقلي، أي على الرواية والدراية، النقل والعقل. يجعل العقل الغريزي أي الطبيعي العلمي الصافي رافضا لها مع أنه قد يكون قابلا لها؛ فالعقل الديني يقوم على افتراض الانفصال بين العلة والمعلول. والعقل العلمي يقوم على افتراض الاتصال. يعبر نقد الأفغاني عن اختياره المسبق. لذلك يستبدل بلفظ البقاء الفناء. فيقول الصراع من أجل الفناء وليس من أجل البقاء. ويتصور العالم على نمط الألفة وليس على نمط الصراع. ويعتبر الألفة نظاما إلهيا والصراع نظاما شيطانيا مع أن النظامين مشاران إليهما في القرآن الكريم. ولكن الذي ساد في الثقافة الشعبية هو نظام الألفة دفاعا عن الوضع القائم ودرءا لحركات التغير الاجتماعي ولمخاطر الثورة. لذلك ألصق نظام الصراع بالماركسية، وجعلوه دمويا عنيفا كما هي الصورة الشائعة للصراع الطبقي الذي تروج له الدوائر الدينية الرجعية المحافظة. (2) النقد العملي
لا يكتفي الأفغاني بنقد الدهريين نقدا نظريا مبينا تهافت نظرية التطور، ولكنه ينتقل إلى بيان مضارها من الناحية العملية وآثارها السيئة على أخلاق الأفراد وحياة الأمم ومسارها في التاريخ. وهي المطالب الأربعة عشر التي تمثل ثلاثة أرباع الرسالة. فالنقد العملي أهم من النقد النظري. النقد العملي يقين، والنقد النظري قد يكون ظنا.
يدعي الماديون أنهم الحكماء بصرف النظر عن اختلاف أسمائهم بين الدهريين والماديين والطبيعيين والاشتراكيين والشيوعيين والعدميين. ويدعون أنهم المدافعون عن الظلم ورافعو الجور، وأنهم العارفون بالأسرار وكاشفو الحقائق والرموز، والواصلون إلى بواطن الأمور، والمطهرون الأذهان من الخرافات من أجل تنوير العقول، وأنهم محبو الفقراء وحماة الضعفاء وطلاب الخير للمساكين. وهم في الحقيقة مدعو النبوة لترويج مذاهبهم، أي أنهم متنبئون. هم صدمة على القوم، وصاعقة عليهم. يميتون القلوب الحية، ويقومون بنفث السم في الأرواح، وزعزعة راسخ النظام. هم سبب انهيار الأمم وسقوط العروش، وإفساد الأصول واقتلاعها.
12
ويفصل الأفغاني غايات النيتشريين الحقيقية بعد ادعاءاتهم السابقة وهي: (1)
جحد الألوهية وإنكار البنيان المسدس، نسق الأفغاني الأخلاقي، العقائد الثلاث: الإنسان أشرف المخلوقات، والأمة أشرف الأمم، والحياة الدنيا للمعاد، والخصال الثلاث: الحياء والأمانة والصدق، والنزول من علياء الإنسانية إلى حضيض الوحشية الحيوانية. (2)
بطلان الأديان كافة؛ لأنها أوهام باطلة ومواضعات. ولا يحق لملة ادعاء أفضليتها على سائر الملل مما يؤدي إلى الركود مع أن الدعوة إلى أشرف الملل وخير أمة قد يؤدي إلى العنصرية والحروب بين الأديان والأوطان، أو إلى الارتكان للعقيدة دون العمل بها وتحقيق شرطها مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرط أفضلية الأمة الإسلامية. (3)
اعتبار الإنسان مثل سائر الحيوانات وعدم الارتفاع على مستوى البهائم، بل الانخفاض إلى ما هو أخس منها. وقد يؤدي ذلك إلى الإتيان بالقبائح واقتراف المنكرات وممارسة العدوان. (4)
إنكار الحياة بعد الموت، واعتبار مقصد الحياة الدنيا الشهوة البهيمية. فتتحرر النفوس من الأخلاق، وتمارس العدوان والقتل والسلب وهتك الأعراض والغدر والخيانة، وارتكاب كل خبيث والوقوع في كل رذيلة، والإعراض بالعقل عن كسب الكمال البشري ومعرفة الحقائق وأسرار الطبيعة. (5)
الاشتراك في الأموال والأبضاع وإباحة تناول ما للغير؛ نظرا لأن المذهب الطبيعي يؤدي إلى المادية والاشتراكية والنزعة الإنسانية بالرغم من وجود نزعات اشتراكية إنسانية أخلاقية وروحية ومثالية. (6)
إزالة صفة الحياة للفوز بالقوة فيصبح الإنسان كالأنعام يعيش وفقا لقانون الغاب ولا يعرف له قانون إلا القوة والغلبة. (7)
إزالة صفتي الأمانة والصدق، وهما صفتان تقومان على الإيمان بيوم الجزاء وإزالة ملكة الحياء حتى شاعت الخيانة وراج الكذب، وهذا الثالوث الأفغاني الأمانة والصدق والحياء يمثل قواعد الأخلاق وقوانين التاريخ. (8)
الإباحة والاشتراك، وشيوع المشتهيات ولو اغتصابا وخيانة وكذبا، وارتكاب الشرور والرذائل، وإتيان الدنايا والخبائث مما يؤدي إلى فناء الأمم، وتساوي الجميع في الحظوظ فتدفع النفوس إلى الأخذ بالأسهل والابتعاد عن شاق الأعمال. ومن المبادئ الإنسانية حب الاختصاص والرغبة في الامتياز. ومن ثم تؤدي المادية إلى الركود وعدم التحرك إلى معالي الأمور. (9)
العداوة للنوع الإنساني، وسيادة الماليخوليا على أنصاره، يتخيلون الإصلاح والنجاح وهم مفسدون في الأرض باثون بذور الشقاق بين البشر.
13
وواضح من هذا الوصف لغايات المذهب الطبيعي بعض التسطيح ، وفهم على مستوى العقائد الشائعة والثقافة الشعبية والوعاظ وخطباء المساجد، واللجوء وإلى الأساليب الخطابية والحجج الإحراجية والنقد الأخلاقي نظرا لأثر النظر على العمل وتكرار النقد الأخلاقي العام، مرة إثبات الخصال الثلاث والعقائد الثلاث للمؤلهين ومرة نفيهما عن الطبائعيين، وبيان مزايا الفريق الأول وعيوب الفريق الثاني، وتحويل الأفكار إلى أمراض نفسية كما يفعل وليم جميس بل برجسون وكل الوضعيين، والدفاع عن الرأسمالية والتمايز والاختصاص ضد المساواة، والدفاع عن المنافسة والربح ضد تكافؤ الفرص، وهي سمة الفكر الديني التقليدي.
14
ويتبع النيتشريون في تحقيق غاياتهم عدة مسالك وطرق، أهمها: (1)
الجهر بالمقاصد صراحة في حالة الاطمئنان، واستعمال الرمز والإشارة والكنية والتلويح والتدليس في حالة السطوة وكأنهم فرقة باطنية شيعية صوفية. (2)
العمل على هدم النسق الأخلاقي المسدس عند الأفغاني، كله أو بعضه، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أو إبطال لوازمه وكأن الغاية من المذهب إبطال الأخلاق. (3)
الاكتفاء بأفكار الصانع، وجحد الثواب والعقاب لإفساد باقي العقائد مع أن العقائد الثلاث عند الأفغاني، الإنسان أشرف المخلوقات، الأمة أشرف الأمم، كمال الإنسان نحو المعاد ليس من بينها إثبات وجود الله، وإن كان متضمنا في المعاد. (4)
تزيين الإباحة والاشتراك وتحسينهما وتزيينهما لاستمالة النفوس وهو تكرار للقصد بحيث لا يبدو الفرق واضحا بين الغاية والوسيلة، كما أنه تصور شعبي للاشتراكية وتشويه لها من خلال الإعلام الغربي ونظم الحكم التسلطية الرجعية. (5)
القيام بأعمال جاهلية تأنف منها الطباع وتأباها الشرائع الإنسانية، مثل اغتيال معارضيهم والغدر بهم والفتك بآلاف الأرواح البريئة وإراقة الدماء الشريفة بالحيلة والمكر. وهي أساليب لا ترتبط بالطبائعيين بالضرورة، تستغلها كل القوى السياسية التسلطية للتخلص من الخصوم رأسمالية أو اشتراكية. وممارسة العنف ظاهرة اجتماعية لها أسبابها في بنية المجتمع، العنف القاهر الذي يولد العنف المحرر.
15
وواضح من هذا الوصف السلبي للوسائل التي يتبعها النيتشريون لتحقيق مقاصدهم التصورات الشائعة في الثقافة الشعبية تحت أثر أجهزة الإعلام الغربية الرأسمالية أو العربية الإسلامية الخاضعة للنظم التسلطية الرجعية. مع أن أصحاب الطبائع أيضا لديهم القدرة على كشف الزيف والنفاق والخديعة بالدين وبالمثالية. يتسمون بالصدق والإخلاص للمبادئ، ويستشهدون في سبيل الحرية والعدالة والمساواة بين البشر. وارتبطوا بالنزعة الإنسانية والأممية وتوحيد القوى الثورية ضد الاستعمار العالمي، وهو أيضا ما كان يعمل له الأفغاني بوحدة قوى الشرق التحررية في مواجهة قوى الاستعمار الغربية.
16
وأخيرا، يستقرئ الأفغاني التاريخ ويبين كيف انهارت الأمم التي تبنت المذهب الطبيعي، أمة وراء أمة، وكأن المذهب الطبيعي لم يقدم أي شيء إيجابي مثل تقدم العلم، وكأنه لم يكن رد فعل على التصور الخرافي الوهمي للطبيعة، فيتحدث طويلا عن
مطلب في بيان الأمم التي خضعت للذل، وضرعت للضيم بعد العزة والشرف . ويعدد ست أمم هي: (1)
الأمة اليونانية (الكريك): كانوا قليلي العدد، وورثوا العقائد الثلاث، خصوصا الحياء، أي الأنفة والكبرياء. واستطاعوا مقاومة الفرس. ووصلوا إلى درجة عالية من العلوم، وثبتوا ثبات الأبطال. امتد سلطانهم إلى الهند بصفة الأمانة، فكانوا يرجحون الموت على الخيانة كما هو الحال في قصة تيمستوكليس القائد اليوناني الذي نبذه الناس وطردوه، ففر ولجأ إلى أرتكزيس ملك فارس، فأمره بمحاربة اليونان، فأبى وانتحر بالسم. ثم ظهر أبيقور، واتبعه الدهريون، وأنكروا الألوهية، وجعلوا الإنسان معجبا بنفسه مغرورا يظن أن الكون العظيم خلق لخدمة وجوده الناقص، وهو أشرف المخلوقات والعلة الغائية لجميع المظاهر الكونية. قاده الحرص والجنون والخرف إلى الاعتقاد أن له عوالم نورانية وحياة أبدية بعد هذا العالم، فيها سعادة دائمة وليس فيها شقاء. فقيد نفسه بالسلاسل والتكاليف مخالفا نظام الطبيعة العادل، ووقف في وجه رغباته وحرم نفسه من الحظوظ الفطرية وهو لا يختلف عن الحيوانات. وما يفتخر به من الصنائع أخذه تقليدا للحيوانات. فالنسيج من العنكبوت، والبناء من النحل، وإنشاء القصور والصوامع وادخار الأقوات من النمل، والموسيقى من البلبل. فإذا كان هذا حاله من النقص فلا يزيد متاعبه والاغترار بأنه يزيد على الحيوانات والنبات والاعتراف بوجود حياة أخرى. بل عليه ترك التكاليف والتمتع بالبدن والأخذ باللذة وعدم ترك أي فرصة، ولا ينقاد إلى أوهام الحلال والحرام واللائق وغير اللائق. فهذه أمور وضعية تقيد بها الناس جهلا. فالإنسان ابن الطبيعة. ترك الناس الحياء واعتبروه ضعفا للنفس، وارتكاب كل قبيح دون انفعال أو خجل في المجاهرة، هتك الأبيقوريون ستار الحياء، وأراقوا ماء الوجه، واستحلوا أموال الناس حتى سموا بالكلاب دون رادع أو زاجر، تنبح في الأسواق. وكانت النتيجة أن سقط اليونان إلى حضيض البلاد، وكسد سوق العلم والحكمة، وانتهوا إلى الذل واللؤم، وتحولت الأمانة إلى خيانة، والحياء إلى وقاحة، والوقار إلى سفل، والشجاعة إلى جبن، ومحبة الوطن إلى أنانية. وتهدمت الأركان الستة، ووقعوا في أيدي الرومان عبيدا بعد أن كانوا أسيادا.
17
بهذا العرض الخطابي الإنشائي يحمل الأفغاني تبعة انهيار الحضارة اليونانية إلى عامل وحيد، ومذهب أوحد هو المذهب الطبيعي. والتاريخ لا يتحرك بعامل واحد بل بمجموعة من العوامل الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما أن ما يعرضه الأفغاني ليس كله شرا، مثل أن الإنسان سيد المخلوقات، خلق الكون لتسخيره له، وأن هناك حياة بعد الموت كلها سعادة دون شقاء، وأن الإنسان مكلف على الأرض، وأن نظام الطبيعة عادل، وأن الإنسان قادر على السيطرة على رغباته وانفعالاته، وأنه لا يجوز تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. وهل من مظاهر السيادة استيلاء اليونان على فارس والهند والروم ومصر؟ (2)
الأمة الفارسية: كانت للأصول الستة فيها، نسق الأفغاني الديني الأخلاقي، أعلى مكانة أحقابا طويلة حتى وصلوا إلى درجة عالية من الشرف. تمثلوا الصدق والأمانة فكان أول تعليم ديني عندهم دون كذب وكما عرضت لذلك الشهنامة. وامتداد الملك حتى ظهر مزدك الفيلسوف الدهري، وادعى أنه أتى لرفع الجور والظلم. فنزع منهم الخصال، وادعى أن كل القوانين الموضوعة تؤدي إلى الظلم، وقائمة على الباطل، وأن الشريعة الدهرية هي الباقية لا تنسخ، وموجودة عند الحيوانات. فقد جعلت الطبيعة حق الطعام والشراب والبضاع مشاعا بين الناس دون تخصيص. فلماذا يحرم الإنسان نفسه ما أحلت الطبيعة باسم الشريعة والأدب؟ وبأي حق تكون الملكية خاصة وهي مشاع بين الناس؟ ولماذا حظر النساء والميل لواحدة دون الأخرى، والأنثى للذكر والذكر للأنثى؟ البيع والشراء اغتصاب وظلم، وتطبيق حد السرقة على الفقير المحروم. القوانين جائرة تمنع كل شيء، والطبيعة محررة تبيح كل شيء. شاعت هذه التعاليم فعم الغدر والخيانة، وانتهى الحياء، وغلبت الدناءة والسفالة، وسادت الصفات البهيمية. فقتل أنو شروان مزدك وشيعته. ولكنه لم يقض على أفكارهم التي علقت بالعقول حتى هاجمهم العرب وانهزموا مع الروم.
18
وواضح من هذا العرض المبسط تفسير الحركات الاجتماعية والسياسية الفكرية بعامل واحد هو العامل الأخلاقي، وأن الحياة قبل المذهب الطبيعي كانت جنة وانقلبت بعد ظهوره إلى نار في ثنائية تطهرية بين الحق والباطل، الخير والشر، الصواب والخطأ، العلم والجهل. كما أنه ينكر أي ثورة تقوم على الظلم والجور، تلك الثورة التي لم تقم في عهد البراءة الأولى قبل الدنس والخطيئة في المذهب الطبيعي. كما أن نقد تطبيق حد السرقة على الضعيف وترك الشريف حديث عن الرسول. ولماذا الدفاع عن الملكية الخاصة والإسلام أقرب إلى الملكية العامة لما تعم به البلوى؛ كالماء والكلأ والنار! وما العيب في نقد التجارة وأخلاق التجار كما فعل ابن خلدون؟ وهل القتل وسيلة التعامل مع المفكرين؟ (3)
الأمة الإسلامية: جاءتها الشريعة، وعلمتها هذه العقائد والخصال، فبسطوا سلطانهم على الأمم في الشرق والغرب، كسرى وقيصر. والباقي دفع الجزية. ثم ظهر الطبيعيون في القرن الرابع بمصر تحت اسم الباطنية وخزانة الأسرار الإلهية، وانبثوا في كل أرجاء العالم الإسلامي خاصة في إيران. ودلسوا على المسلمين عن طريق إثارة الشك في القلوب حتى يضعف الإيمان، والإقبال على الشاك في حيرته ليمنوه بالنجاة وهدايته، وخداعه بدعاتهم للتشكيك في الشريعة بأن لها ظاهرا وباطنا، الظاهر للمحجوبين والباطن للمستنيرين، ثم إسقاط التكاليف عن المستنيرين والوقوع في الإباحية والشك في الحلال والحرام، والصدق والكذب، والأمانة والخيانة، والفضائل والرذائل. هي مجرد ألفاظ لمعان مخيلة وليس لها حقيقة واقعية. وأفكار الألوهية والإقرار بالمذهب الطبيعي عن طريق التنزيه، فالله منزه عن المخلوقات، لا موجود ولا معدوم. وإثبات الاسم وإنكار المسمى سفسطة، بالإضافة إلى قتل معارضيهم الذين يكشفون أمرهم، والجهر بالآراء بعد التمكن من السلطة، وإبطال التكاليف، ورفع الأحكام الظاهرة والباطنة. فالقيامة من القائم بالحق، فقاموا بالتأويل. أصبح الكمال نقصا والنقص كمالا. انحل الإيمان، وانتهت السعادة، وفسدت الأخلاق، وعم الجبن والخور والخوف والكذب والمنافع الشخصية والخيانة والشهوات البهيمية حتى أتى الاستعمار الفرنسي على سوريا. فلم يستطع الناس المقاومة. فقتل الأبرياء، حوالي مائتي عام أثناء الحروب الصليبية، مع أن الإفرنج كانوا خائفين من المسلمين قبل أن تفسد عقائدهم. ثم قام أوباش التتر والمغول مع جنكيزخان، واخترقوا بلاد المسلمين، وهدموا المدن. كل ذلك بسبب تفشي تعاليم الدهريين والقضاء على الأخلاق الإسلامية الراسخة في القلوب. فكانت أسباب السطوة الغربية على البلاد. ثم عادت الأخلاق الإسلامية، وطردت الأمم الإفرنجية من سوريا، وصدوا هجمات جنكيزخان ولكن دون العودة إلى مكانتهم الأولى. وكان ذلك بداية الانحطاط منذ الحروب الصليبية أي منذ تفشي الآراء الباطنية الدهرية كسم قاتل.
19
واضح من هذا العرض أيضا أن الدهرية هي الشماعة الوحيدة التي تعلق عليها أخطاء البشر، والعامل الأوحد في انهيار الأمم. ويعتبر الأفغاني الباطنية من الدهرية مع أنهم من غلاة الروحانيين، فالمادة لديهم روح، وأقرب إلى النزعات الصوفية الإشراقية. كما يرى أن التنزيه طريق لإنكار الألوهية مع أنه إثبات لها دون تجسيم أو تشبيه. كما يتبنى تصورا آليا لحركة التاريخ، وكأن العودة إلى الأخلاق مفتاح سحري يقلب الهزيمة نصرا، والسقوط نهضة، ويصحح ما فعلته الدهرية، الشر الكامن في كل عصر. (4)
الأمم الشرقية: ويعني الأفغاني بالأمم الشرقية شمال العراق، منطقة كركوك. فقد أنكر الدهريون هناك الألوهية. وظهروا في لباس المهذبين. ولونوا الظواهر بألوان المحبة. وادعوا طلب الخير للأمة وهم حملة العلم والمعرفة بما حفظوا من كلمات ناقصة. ولقبوا أنفسهم بالهادين وهم أهل غباوة ورذيلة. يستعملون العقل والمعرفة في تبين وجوه الغدر والاختلاس. تسودهم الشهوة وحب الدنيا.
20
ولا يعطي الأفغاني جديدا في هذا الوصف، ولا يبين كيف قامت الدولة بالإيمان وانهارت بالدهرية. هم أقرب إلى الشيعة الباطنية بهذا الوصف ولا يمثلون أمة جديدة يضرب بها المثل. (5)
الأمة العثمانية: ويفرد الأفغاني نموذجا من الأمة العثمانية وكأنها ليست جزءا من الأمة الإسلامية. ويعتبر الدهريين سبب خيانة العثمانيين لصالح الروس. يعدون أنفسهم أبناء العصر الجديد. فالإنسان حيوان، والأخلاق ضد الطبيعة، وضعها تحكم العقل وتطرف الفكر. أنكروا الشرف والحياء والأمانة والصدق والعفة والاستقامة، فجلبوا المذلة على الأمة.
21
وهذا أقرب إلى الهجاء منه إلى النقد، والدعاية المضادة منه إلى التحليل العلمي الرصين. (6)
الشعب الفرنسي: له النصيب الأوفر من الأصول الستة. فرفع منار العلم والصناعة بعد الرومان حتى ظهر فولتير وروسو يزعمان حماية العدل ومغالبة الظلم، وإنارة الأفكار، وهداية العقول. فنبشا قبر أبيقور الكلبي، وأحيوا الدهريين الذين نبذوا كل تكليف ديني، وغرسوا الإباحة والاشتراك، وجعلوا الآداب خرافية، والأديان مخترعة بسبب نقض العقل الإنساني، وإنكار الألوهية والتشنيع على الأنبياء. خطأهم فولتير، وسخر منهم، وقدح في أنسابهم، وعاب رسالتهم ومع ذلك دخلت الأباطيل نفوس الفرنسيين، ونالت من عقولهم، فنبذوا المسيحية، وتحولوا إلى شريعة الطبيعة، وألهوا جمال النساء في محراب الكنيسة. وكل ما في الطبيعة من آثارها وليس من الله. وكانت تعاليم الدهريين سبب اندلاع الثورة الفرنسية التي فرقت أهواء الأمة وأفسدت أخلاق الناس. فاختلفوا وانقسموا. وانغمس كل فريق في شهوته، وأعرض الجميع عن المنافع العامة. واختلت سيادتهم الخارجية. وحاول نابليون الأول إعادة المسيحية ولكنه لم يستطع محو الأضاليل، فظلوا مختلفين إلى الآن. قالوا بالاشتراكية ومذهب الكمون، نسفوا كل عمران على أرض فرنسا.
22
وواضح أن الأفغاني هنا أيضا يضع فولتير وروسو مع الدهريين وهما من أنصار التأليه الطبيعي
Deism . كما يعارض فلسفة التنوير ويرفض الثورة الفرنسية، ويضع نفسه مع المشايخ المعممين مما يجعل موقفه النظري أقل جرأة ونقدا من مواقفه العلمية، ويمثل خلفا بين النظر التقليدي والعمل الثوري.
ويخصص الأفغاني جزءا خاصا لدحض مطلب السوسيالست (الاجتماعيون)، والنهيلست (العدميون) والكومونيست (الاشتراكيون) مستعملا اللفظ المعرب كأساس واللفظ المترجم كفرع. وهم صنوف من الدهرية في الأمة الفرنسية. تزين الظاهر وتدعي الدفاع عن الضعفاء والمطالبة بحقوق المساكين والفقراء. وكل طائفة لها غاية مخالفة. ولكنها تشترك جميعا في رفع الامتيازات الإنسانية، وإباحة الكل، واشتراك الكل في الكل، وسفك الدماء، وتخريب العمران، وإثارة الفتن. المشتهيات في الأرض منحة من الطبيعة ومن فيضها للتمتع بها دون اختصاص واحد بها دون الآخر. الدين والملك عقبتان عظيمتان ضد الطبيعة، أي الإباحة والاشتراك. والحل هو القضاء على السلطتين الدينية والسياسية، قتل الأغنياء، وإنشاء المدارس تحت ستار المعارف والبداية بالتربية، إشارة إلى روسو. وهي في النهاية طوائف تؤدي إلى انقراض المجتمع البشري، وواضح أن الأفغاني قد وقع ضحية التفسير الرأسمالي للدين، وينقد الاشتراكية والاجتماعية، ويخلط بينهما وبين الشيوعية والعدمية. يرى العيب في نقد الامتيازات والقضاء على الإقطاع وملاك الأراضي، ونقد السلطتين الدينية والسياسية!
23
ويخصص الأفغاني فقرة خاصة لمورمون. وهو أيضا من دعاة الطبيعة. ظهر في إنجلترا وأمريكا. وادعى أنه ملهم من الطبيعة. يقول بالإباحة والاشتراك للمؤمنين بالطبيعة دون غيرهم. ودعا كل مؤمن إلى الاجتماع مع كل مؤمنة. فالزواج شركة، والنبوة اشتراك. وهي الدعوة المنتشرة الآن في أمريكا في يوتا، والتي تسمى الطائفة باسمه.
24
وينهي الأفغاني هذا النقد النظري العملي بالإعلان عن أساس النقد
مطلب في مضار إنكار الألوهية .
25
فالدهرية تنكر الألوهية والمعاد مما يؤدي إلى إنكار الأخلاق فتنهار الأمم. كلما انتشر المذهب فسدت أخلاق الأمة. اختلت العقول، وتملكت الحيل من القلوب وألوان التلبيس حتى تعم الرذائل وعبادة الشهوات وارتكاب الخيانات حتى تنقرض الأمة أو تستعمر وتستعبد. أخفى البعض المقصد الأصلي وهو الإباحة والاشتراك، واكتفى بإنكار الألوهية وجحد المعاد تحت شعار حرية الفكر وهو ما يؤدي إلى فساد الحياة الاجتماعية وزعزعة أركان المدنية. ولا يمكن الجمع بين الدهري والأمانة والصدق وشرف الهمة وكمال الرجولة. وكثير من خاطرات جمال الدين تعبر عن هذا النقد الديني للدهرية، مثل:
كيف لا يفضل أضعف حيوان ناهق يذكر الله إنسانا ناطقا ينكر وجود الله؟
فإذا ما تم إنكار الألوهية فإن الإنسان يعبد هواه
يكفر الإنسان في كل شيء لا يرضاه ويعبد كل شيء يهواه . والاعتقاد بالألوهية هو الذي يؤدي إلى الاعتقاد بالمعاد، وبالتالي نيل السعادة الأبدية
من اعتقد أن لا حياة إلا هذه الفانية فقد خسر الأولى والثانية . فالسعادة لا توجد في هذه الحياة الدنيا بالرغم من أنها ضالة البشر
السعادة في الدنيا ضالة البشر. وإذا وجدها أحد قلما يدل عليها. ولا أظنها من موجودات هذا العالم الفاني .
26 (3) البديل الديني الأخلاقي
إذا كان الرد على الدهريين ونقد الدهرية نظريا وعلميا يمثل الجانب السلبي فإن البديل الديني الأخلاقي هو الجانب الإيجابي الذي يقدمه الأفغاني، وهو متضمن أيضا في الجانب السلبي. إنكار الدين سبب السقوط وإثبات الدين طريق الخلاص. الدين قوام الأمم، وبه خلاصها وسعادتها ومستقبلها في مقابل النيتشرية وهي
جرثومة الفساد وأرومة الأداد ، أي مصدر الأمور الفظيعة، وسبب خراب البلاد وهلاك العباد؛ فالدين والنتيشرية على طرفي نقيض كالحق والباطل، الخير والشر، الصلاح والفساد، الفوز والهلاك. والإنسان ظلوم جهول هلوع جزوع.
إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا . لذلك أتاه الدين لإكماله كي يتمسك بأصوله وتربيته على الخصال المتوارثة حتى تشرق العقول بالمعارف، وتهتدي إلى السعادة، ويقيم البشر المدنية ويحافظوا على ثباتهم وبقائهم.
27
لقد أفاد الدين ثلاث عقائد وثلاث خصال. وأكسبها عقول البشر. وهي أساس قيام الأمم وعماد بنيتها الاجتماعية، وقوام مدنيتها، وشرط تقدمها ورقيها ونيل سعادتها لإبعاد النفوس عن الشر ومفارقتها للأجساد، ويبعدها عما يهدد البقاء ولها آثار جليلة على المجتمع البشري ومنافع المدنية والروابط بين الأمم وبقاء النوع والمسالمة بين الأفراد ورقي الأمم. وهذه العقائد الثلاث هي: (1)
الإنسان ملك أرضي، أشرف المخلوقات، من أجل رفع الإنسان من الخصال البهيمية، وسموه إلى العالم العقلي، وتجاوزه شريعة الغاب. وهو ما يتفق مع القرآن، في اعتبار الإنسان خليفة الله في الأرض، أعظم المخلوقات بتحمله الأمانة بعد أن رفضتها السموات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها وأشفقن منها. وهذه العقيدة لا تبتعد كثيرا عن مقصد الدهرية باعتبارها الإنسان مركز الكون وآخر درجة في سلم التطور، وما تزهو به الحضارة الغربية منذ عصورها الحديثة والتحول من التمركز على الله
Theocentrism
إلى التمركز حول الإنسان
Anthropocentrism
والتي فيها صدر
الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان . وظهرت النزعة الإنسانية
Humanism
فلماذا وضع الدين والدهرية على طرفي نقيض والإنسان يجمعها كما جمع الصوفية بين الله والإنسان في الإنسان الكامل؟ (2)
يقين كل متدين أن أمته أشرف الأمم، وكل مخالف له فهو على باطل مما يدفع إلى التنافس بين الأمم. ولماذا يغفل الأفغاني أن هذا الاعتقاد قد يؤدي إلى التعصب وحروب الأديان، والعنصرية والصهيونية والحروب والمنازعات؟ ولماذا لا يكون النموذج، المساواة بين الأمم والتفضيل بينها في الخيرات
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ،
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ؟ (3)
الحياة الدنيا ممر للحصول على كمال المعاد في عالم أوسع وأرحب. تدفع إلى التزود بالمعارف بعيدا عن الجهل، والارتقاء في العلم، والتقارب بين الأمم، والترابط بينها بالمحبة وإلا وقع الإنسان في الكذب والنفاق والحيل والخداع والرشوة والاختلاس، واقتصر على الحس والحرص والشره والغدر والاغتيال وهضم الحقوق والجدال والقيام بدور الجلاد.
28
وواضح خلو هذه العقائد الثلاث من الإيمان بالله، بل تكتفي بالإيمان بالإنسان والجماعة والمعاد، وأن العقائد ليس لها صدق في ذاتها بل هي وسيلة لتحقيق الخير للفرد والجماعة وتقدم التاريخ. تعبر عن روح إشراقية وثنائية متطهرة، الصعود إلى أعلى في الخلاص والهبوط إلى أسفل في السقوط.
وهناك أيضا خصال ثلاث تتوارثها الأمم، وتطبع النفوس بطابع الدين، فالأخلاق أساس الدين، والدين يقوم على الأخلاق كما هو الحال في النزعات المثالية. وهذه الخصال، وتعني الفضائل هي: (1)
الحياء. وهو انفعال النفس من إتيان ما يجلب اللائمة والتوبيخ. ويلزم عنه شرف النفس. وكل أمة تفقد الغيرة والإباء تحرم من الترقي. وبه تتم روابط الألفة بين آحاد الأمة. وبدونه تقع في الفحشاء والشهوات البهيمية. وواضح أن هذا التعريف غير جامع مانع، يساوي بين الحياء وشرف النفس والغيرة. ويجعله سببا للترقي، والتقدم له أسباب عديدة. ويربطه باللائمة والتوبيخ معه أنه قد يرتبط برؤية الحسن والجميل. (2)
الأمانة. وهي أساس المعاملات والمعاوضات في الأعمال. والأمة في حاجة إلى حكومة جمهورية أو ملكية مشروطة أو مقيدة. والحكومة في حاجة إلى رجال أمناء يقومون بالأعمال، يجمعون الكلمة، ويمنعون الاعتداء دون استعلاء على أحد. ويعطي الأفغاني هنا معنى اقتصاديا سياسيا للأمانة وليس معنى أخلاقيا نفسيا كما أعطى للحياء. كما أن فكره يقوم على دور. تحتاج الأمانة إلى حكومة وتحتاج الحكومة إلى أمانة. (3)
الصدق. نظرا لأن الإنسان كثير الحاجات منح خمسة مشاعر، هي الحواس الخمس، فإنها كلها لا تعمل إلا بالصدق. فالكاذب يرى البعيد قريبا والقريب بعيدا، والنافع ضارا والضار نافعا. الصدق إذن شرط عمل الحواس، وأساس مبدأ التحقق. يقوم الصدق عند الأفغاني بدور معرفي، صدق عمل الحواس، وتتأسس عليه الأخلاق. وهو نفس المقياس النفسي الأخلاقي في تعريف الحياء.
29
ولا يبين الأفغاني إذا كانت هذه الخصال في بدايتها فطرية أو مكتسبة. ويكتفي بالقول بأنها متوازنة بين الأمم. فهي مكتسبة من حيث التربية دون توضيح عمن اكتسبها الإنسان الأول؟ ولا يبين هل هي خصال فردية أو جماعية؟ هل هي عند كل الأفراد والشعوب أم أن هناك فروقا فردية فيها؟ ولماذا اختار الأفغاني هذه الخصال الثلاث واستبعد غيرها؟ وما الدليل العقلي والنقلي على اختيارها دون غيرها؟ كما تبدو أحيانا متداخلة فيما بينها من حيث الوظائف الاجتماعية، بل ومتداخلة مع غيرها. ميزتها أنها أحيانا تقوم على تفسير نفسي اجتماعي تاريخي كما يفعل علماء النفس والاجتماع والتاريخ.
ولما كانت الفضيلة وسطا بين طرفين، وكانت الحكمة المحافظة على الهيئة المتوسطة، والفضائل هيئات متوسطة بين خلتين ناقصتين خصص الأفغاني مطلبا في الوسائل التي يمكن أن تلزم النفس حدود العدل. فكل فرد في فطرته شهوات تحيل إلى مشتهيات. والأولى دافع للحصول على الثانية، وهو ما يسمى في الظاهريات الشعور باعتباره ذاتا
noèse ، والشعور باعتباره موضوعا
noème . ولم تحدد الطبيعة طريقة محددة لذلك. ومع ذلك هناك طريقان عرفتهما البشرية: طريق حق وطريق باطل، هدى وفتنة، تعفف من ناحية وسفك دماء واغتصاب حقوق من ناحية أخرى، طبقا لثنائية الأفغاني التطهرية. والطريقة المثلى هي حد الاعتدال وقصر النفوس عليه تخفيفا للأهواء. ويكون ذلك بطرق أربع: (1)
المدافعة الشخصية. وهو طريق النضال والقتال وإسالة الدماء، طريق الجلاد، وغلبة القوي على الضعيف. فإذا قوي الضعيف وضعف القوي طبقا لجدل السيد والعبد تدور الدائرة، ويستمر الفساد في النوع الإنساني. فالأفغاني هنا يدين العنف واستعمال القوة لتحقيق الخير والمنفعة العامة. (2)
شرف النفس. وهو طريق يمنع صاحبه من إتيان ما يذم عند قومه، وهو ما يتغير بتغير الأقوام وعند البدو والحضر مثل الحيلة والمكر، مقبولة عند قوم مرفوضة عند آخرين. ولما كان لكل كائن علة غائية فغاية الأخلاق توسيع الرزق، والشرف من أجل البقاء. ومن ثم يجوز جعل شرف النفس ميزانا للعدل. وأما حب المحمدة فقد يتعارض مع الشهوات. ولا يمكن الجمع بينه وبين شرف النفس. وكلاهما اختياران. (3)
الحكومة. وقوتها تكمن في الكف عن العدوان الظاهر ورفع الظلم البين ولكنها لا تستطيع منع الاختلاس والزور والتمويه والباطل المزين والفساد الملون بصيغ الإصلاح، والخفايا والدسائس. الحكومة تقوم بالأمن الخارجي ولكنها تعجز عن منع الاضطراب الداخلي. تستطيع الحكومة أن تسيطر على المجتمع ولكنها لا تستطيع التحكم في أهواء النفس. (4)
الاعتقاد بالألوهية. هو الحل الجذري للشهوة والأهواء، أي الإيمان بأن للعالم صانعا عالما بالظاهر والباطن، قادرا على الخير والشر، يجازي في الحياة الأخروية. ويكبح هذا الاعتقاد والنفس عن الشهوات ويمنعها من العدوان، هاتان العقيدتان، وجود الله والإيمان بالمعاد أفضل طريق لنيل الفضائل.
ويبطل الطبيعيون هاتين العقيدتين من أجل الإباحة والاشتراك فينهدم بناء الإنسانية، وتنهار قواعد المدنية، وتفسد الأخلاق البشرية. قد ينخدع بأقوالهم طلاب التمدن. فالدين، مهما انحطت درجته، أفضل من طريقة الدهريين مهما علت. وقد ألهم الله النفوس بالتحذير من الطبيعيين حفاظا على نظام الكون والنظام الإنساني. فالدين فطري يطرد آراء الطبيعيين، ويخلص النفوس منها، ويحقق سعادة الإنسان.
30
ولا يبين الأفغاني كيف أن الاعتقاد بالألوهية أيضا قد يكون غطاء وستارا يخفي أبشع صور الاستغلال كما حدث في شركات توظيف الأموال وفي كل مظاهر القهر والاستغلال باسم الدين. وواضح تعصب الأفغاني للدين ضد المذهب الطبيعي. فالدين مهما انحط أفضل من المذهب الطبيعي مهما علا وكأن الجاهلية وعبادة الأصنام أفضل من المذهب الطبيعي. والتأليه الطبيعي والأخلاق الطبيعية هي أخلاق الفطرة، وهي من خلق الله،
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ؟
وينتهي الأفغاني من عرض هذا البديل الديني الأخلاقي بالإعلان عن موقفه الدفاعي في مطلب
إن الدين الإسلامي أعظم الأديان .
31
فهو دين متين قائم على أساس الحكمة، يهدف إلى إسعاد البشر وتدرجهم في العلم والفضيلة. وذلك لا يتحقق إلا بأربعة أمور تتم بها سعادة الأمم هي: (1)
صفاء العقول من كدر الخرافات وصدأ الأوهام نتيجة صفاء التوحيد. فالأفغاني هنا يوحد بين العقل والوحي، بين بداهة العقل وتنزيه الله. وكلاهما يجتمع في النور الفطري. (2)
استقبال النفس وجهة الشرف، وطموحها إلى بلوغ الغاية بحيث تكون لائقة بالكمال الإنساني باستثناء النبوة. وقد فتح الإسلام باب الشرف لذلك بالدعوة إلى الإسراع إلى الفضيلة والتسابق إلى الخير. لقد قسم دين براهما الناس أربعة أقسام. لكل قسم كماله من الفطرة. وكان هذا التقسيم سببا في انحطاط الدين. وفضلت اليهودية شعبا على باقي الشعوب. تكرم الأول وتحقر الثانية. فارتفع امتياز الجنسية وقدر العرق. وظهر البناء الطبقي للمجتمع اليهودي، طبقة عليا للأحبار والكهان وطبقة دنيا لعامة المؤمنين. وكعب الأحبار واسطة بين العبد والرب، بين الشعب ويهوه، مخالفة لما جاء في الكتاب. فأتى الإصلاح الديني اليهودي والبروتستنتي موافقا لما جاء به الإسلام ضد التوسط بين الإنسان والله وضد اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله. (3)
إقامة عقائد الأمة، وهي أول ما ينتقش في النفس، على البراهين القويمة والأدلة الصحيحة وليس على التقليد. وقد طلبت أوروبا في العصور الحديثة البرهان على صحة العقائد، وعارضت رجال الدين وسلطتهم، دفعا للتقليد وتشجيعا على الاجتهاد. وينفرد الإسلام عن باقي الديانات بطلب البرهان، وقيام عقائده وأصوله على العقل والبرهان. (4)
قيام طائفة في كل أمة يختص عملها بتعليم الأمة. وهم العلماء المناط بهم تنوير العقول بالمعارف، وتحليتها بالعلوم من أجل نيل السعادة وطائفة أخرى تقوم بتربية النفوس وتثقيفها، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر طبقا لأمر القرآن
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون . وكان الأفغاني ينوي وضع كتاب لبيان أن المدينة الفاضلة لا تقوم إلا بالدين الإسلامي. ولما كان المسلمون على غير الإسلام فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فالأديان نافعة لقيام النظام البشري على الإطلاق، والإسلام على الخصوص.
32
هكذا يبدو الأفغاني من مؤسسي علم الكلام الجديد، مدافعا عن الإسلام فيما تصوره يمثل خطرا عليه وهو الدهرية أو المذهب الطبيعي، ومثبتا وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس وأمور المعاد. ولكنه أخطأ الطريق ولم يصب الهدف. فالمذهب الطبيعي ليس ضد الدين ولا الدين ضد المذهب الطبيعي. الإسلام دين الفطرة، أي دين الطبيعة، والطبيعة خيرة تتجه نحو حقائق الدين. الدين طبيعة، والطبيعة دين. الدين طبيعة نازلة، والطبيعة دين صاعد، لا فرق بين تنزيل وتأويل بتعبير القدماء. لذلك يوجه القرآن النفس والعقل نحو الطبيعة والتأمل في ظواهرها. والآية ظاهرة طبيعة ونص في آن واحد. الطبيعة مصدر تحرر دائم من النص. الطبيعات مقدمة للإلهيات في علم الكلام، ولما بعد الطبيعة في الفلسفة، والخلق والحق واجهتان لشيء واحد عند الصوفية، وتحليل العلل ومقاصد الشرع واحد في علم أصول الفقه. ومن ثم برز سؤال عند المحدثين وبحق: عود إلى النص أم عود إلى الطبيعة؟
33
الفصل الثالث
الحرية والعقل (العدل)
(1) القضاء والقدر
بالرغم من أن الأفغاني ظل أشعريا في التوحيد والعدل وخروج محمد عبده عليه إلى المنتصف فأصبح أشعريا في التوحيد معتزليا في العدل، إلا أنه حاول الخروج عن الأشعرية بنقده عقيدة القضاء والقدر التي صب فيها الكسب الأشعري في الممارسات الشعبية وتحول إلى جبر وظل معتزليا خارجيا في الإمامة يقول بضرورة الخروج على الحاكم الظالم، بينما ظل محمد عبده أشعريا مرجئا يقول بضرورة طاعة الإمام حتى ولو كان ظالما.
يبدأ الأفغاني ببيان أثر العقائد القلبية في الأعمال البدنية، وأن صلاح الأعمال وفسادها راجع إلى صلاح العقيدة. فإذا ما تم تأويل العقيدة الحسنة تأويلا سيئا تصبح وكأنها عقيدة سيئة وتبطل الأعمال. فالأعمال دليل على العقائد. لذلك يطعن البعض على العقائد والدين استنادا إلى أعمال بعض السذج. فإذا كان محمد بن عبد الوهاب قد بدأ بإصلاح العقيدة، ومدحت باشا بإصلاح الحكومة والإدارة فإن الأفغاني بدأ بإصلاح العقول والنفوس أولا ثم إصلاح الحكومة ثانيا، وربط ذلك بالدين. وإذا كان مدحت باشا يرى أن إصلاح الشعب يأتي عن طريق إصلاح الحكومة فإن الأفغاني يرى أن إصلاح الحكومة يأتي عن طريق إصلاح الشعب. وإذا كان مدحت باشا يرى أنه إذا صلح الراعي صلحت الرعية والغاية الدستور فإن الأفغاني يرى أن القوة النيابية تنبعث من نفس الأمة.
1
ومثال هذه العقائد التي لها أبلغ الأثر على النفوس، عقيدة القضاء والقدر التي كثر اللغط فيها وسوء فهمها خاصة من الإفرنج؛ فقد زعموا أنها سبب تأخر المسلمين وضعفهم وفقرهم وفسادهم وكذبهم ونفاقهم، وأن الاعتلال بالقدر سبب الخيانة والتحاقد والتباغض والتفرق والجهل بالأحوال الحاضرة والمستقبلة والغفلة عما يضرهم وينفعهم، والركون إلى الحياة طعاما وشرابا ونوما دون تنافس في فضيلة والإضرار بالآخرين. تحول البأس بينهم والأمم تبتلعهم جزءا جزءا. قبلوا العوارض، وارتكنوا إلى السكون دون أداء الواجبات، ومالوا إلى التخاذل والتنافر، وإهمال المصالح العامة. والتنافر يذهب بشوكة الأمة، ويضيعها مثل الصراع بين زعيمين، وموالاة أحدهما للأجنبي ضد أخيه. وقعوا في الإسراف والتبذير والتخاذل، وسكنوا لغياب الجمعيات لإحياء الغيرة في النفوس. وسبب كل ذلك عقيدة القضاء والقدر التي تؤدي إلى الفناء والأفول. فالنظر أساس العمل.
لقد أخطأ الإفرنج في الخلط بين القضاء والقدر ومذهب الجبرية. وتابعهم المسلمون في هذا الخلط. والاعتقاد بالقضاء والقدر غير الاعتقاد بالجبر ولا من مقتضياته. ولا يوجد مسلم الآن، سنيا أو شيعيا، زيديا أو إسماعيليا، وهابيا أو خارجيا يرى مذهب الجبر المحض، وسلب الاختيار عن نفسه. انقرض مذهب الجبرية في أواخر القرن الرابع للجهرة. واستقرت في نفوس المسلمين عقيدة الكسب، مناط الثواب والعقاب. هنا يدافع الأفغاني عن القضاء والقدر باعتباره متكلما حديثا ضد الطعن على الإسلام والترويج للشبهات الجديدة التي تلتقي حوله من الغرب عامة والمستشرقين خاصة، رسالة القضاء والقدر إذن تعطي التفسير الصحيح للعقيدة التي كثر فيها لغط المغفلين من الإفرنج.
2
القضاء والقدر ترشد إليه الفطرة والدليل القاطع؛ فلكل حادث سبب يقارنه في الزمان. والإنسان لا يرى إلا الأسباب المباشرة دون الأسباب الأولى. وإرادة الإنسان حلقة من حلقات سلسلة العلل. وهي أثر من آثار الإدراك. والإدراك انفصال النفس بما يعرض للحواس والشعور بما في الفطرة من الحاجات. فلظواهر الكون سلطة على الفكر والإرادة. وهذه الأسباب من مدبر الكون الذي أبدع كل شيء وفقا للحكمة، وجعل كل شيء تابعا لشبهه في العالم الإنساني. ولا يمكن إنكار تأثير الفواعل الطبيعية والحوادث الدهرية في إدراك البشر.
3
وواضح اعتماد الأفغاني على وصف السنن الكونية والتحليل التاريخي لمسار العقائد، مثل انقراض الجبرية في أواخر القرن الرابع الهجري، وتحول الكسب الأشعري إلى جبرية في العقائد الشعبية. وبالرغم من أن الأفغاني يبدأ عادة بوضع قانون عام يندرج الموضوع تحته مثل أثر العقائد في سلوك الأفراد والجماعات، إلا أنه كثيرا ما يقع كالعادة أيضا في نوع من الخطابة والإنشاء، وتغليب أسلوب الداعية على أسلوب الباحث.
وقد لجأ بعض الإفرنج إلى الإطالة في إثبات القضاء. والتاريخ علم أفضل من الرواية، علم البحث عن سير الأمم صعودا وهبوطا، وطبائع الحوادث وما فيها من تغيير في العادات والأخلاق والأفكار، وفي الإحساس والوجدان. ولو كان الأمر بيد البشر وحدهم لما حدث قيام أو سقوط. هنا يلجأ الأفغاني إلى تحليل التجارب التاريخية للأمم والشعوب، أسباب النهضة وأسباب الانهيار. وهو أفضل من علم الرواية أي المنهج النصي، بالرغم من عدم خلو الأسلوب من خطاب الوعظ والإرشاد، مثل
أنتم يا عصبة الرحمن وأولياء الشفعة .
4
ويعطي الأفغاني تحليلا نفسيا لآثار القضاء والقدر في النفس بحيث تدفع على الفعل أكثر مما تؤدي إلى الخمول؛ فالقضاء والقدر إذا ما تميز عن الجبر يخلق في الإنسان القدرة والإقدام والشجاعة والبسالة واقتحام المهالك. فإذا كان الأجل محدودا فلا يجدي الخوف
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم . اندفع المسلمون للفتح، وقضوا على الإمبراطوريتين، الفرس والروم، في أقل من ثمانين سنة، وعمروا الأرض، وصعدوا الجبال بالاعتقاد بالقضاء والقدر، وثبتت أقدامهم للعلى، لا فرق بين نساء وأطفال وشيوخ، وقد استكانوا اليوم بسبب الاستعمار الأجنبي. ويشهد التاريخ أن كل القائمين العظام كانوا يؤمنون بالقضاء والقدر مثل كورش الفارسي (كيخسرو)، والإسكندر الأكبر، وجنكيزخان، ونابليون. فالاعتقاد يخلص النفس من الجبن، وهو الذي يعوق عن التمدن. ولم يجد الأفغاني إلا الغزالي للاستشهاد به على أن التوكل والركون إلى القضاء من مطالب الشرع، في النشاط والعمل وليس في البطالة والكسل. ليس التوكل هو سبب التخلف بل صدمة الاستعمار، من الشرق التتار ومن الغرب الأمم الإفرنجية. الإسلام لن يموت فالعقائد حية. إنما المطلوب هو الاعتدال. وقد فتح العثمانيون البلاد بعد صدمة الصليبية والتتار، ودانت لهم البلاد الإفرنجية بفضل القضاء والقدر.
وكما حدث الخلط عند الإفرنج بين الجبرية والقضاء والقدر حدث خلط مماثل عند بعض العلماء المسلمين المزيفين بين القدرية وهم المعتزلة والجبرية. فهاجم أحدهم الزمخشري ومؤلفه
الكشاف ، وأخرج من قرأه من عداد أهل السنة، وأدخله في زمرة الملحدين؛ لأنه من المعتزلة المدافعين عن الجبرية! لذلك أدانه ابن خلدون؛ لأنه أشعري، وكل من خالف ابن خلدون فهو مارق من الدين مضل للمسلمين. فالشيخ لا يعلم أن مذهب المعتزلة هو خلق الأفعال، أي حرية الاختيار مع أنه يدعي أنه من كبار مدرسة السليمانية، درس كل العلوم العقلية والنقلية والخلافيات. ويضع الجبرية والمعتزلة القدرية في سلة واحدة. ويرى العالم المزيف أن كل الأفعال مسندة إلى الله كما يقول الزمخشري المارق المضل! ويذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية انتقاء لإثبات ذلك وينقد تفسير الفخر الرازي وشرح الكشاف لابن الطيبي. ويدافع الأفغاني عن المعتزلة ككل ولا ينقد كل آرائهم. ففيها الحسن والقبيح. ويمدح واصل بن عطاء لاعتزاله مجلس الحسن البصري وخلافه معه في مسألة مرتكب الكبيرة، وقوله بالمنزلة بين المنزلتين، بين الخوارج وأهل السنة. ثم ينقد الجبرية لنسيانهم الجزء الاختياري الكسبي. فينتهي الأمر إلى المذلة. وقد ينطبق المذهب على العالم الروحاني أكثر من العالم الجسماني؛ لأن الأول خال من الإرادة وحرية الاختيار . وينقد تفسير «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» بأن التعوذ معرفة الله بالمحدثات كلها وسبق القضاء الأزلي. فالله أقدر من الشيطان ، ومحيط بكل الكائنات والحوادث، وهو تناقض. فإما أن يعصي الشيطان وهو ما ينال من القدرة الإلهية أو يكون مسلطا على الإنسان مما ينال من الحرية الإنسانية. فعندما يتهم العالم المزيف الجبرية قاصدا المعتزلة بالقول بأن الاستعاذة من الشيطان لا فائدة منها يكون أقرب إلى الجبرية وأبعد عن القول بالحرية الإنسانية عند المعتزلة. كما يدافع الأفغاني عن ابن خلدون ضد اتهامه بالتحذير من الزمخشري بإيراد نص منه. وينتهي الأفغاني إلى الدفاع عن القضاء والقدر؛ لأنه حال الربوبية في الخلق معتمدا على الأستاذ علي منلا خان بأن القضاء هو ما قضى به الله في الخلق وسبق علمه في اللوح المحفوظ أزليا، والقدر ما نزل على الأرض بالتدريج حادثا ومسببا. ويكون محمد عبده قد تقدم خطوة على أستاذه ببقائه أشعريا في التوحيد وتحوله إلى الاعتزال في العدل لقوله بالحسن والقبح العقليين وبحرية الاختيار دون الاكتفاء بحسن تأويل القضاء والقدر.
5 (2) العقل والتكليف
وإذا كان أصل العدل يشمل عقيدتين عند المعتزلة، خلق الأفعال، والعقل أساس النقل أو الحسن والقبح العقليين فإن الأفغاني يحاذي أصل العدل عن المعتزلة ولا يدخل إليه كلية كما فعل محمد عبده. فالعقل مناط التكليف قبل ورود الشرع عند الأفغاني. وهو أعظم ما خلق الله. كرم الله الإنسان به؛ لأنه أشرف المخلوقات. وهنا يبدو الأفغاني معتزليا قحا. وإذا صح القضاء والقدر بمعنى الجبر بطل الثواب والعقاب. ويعتمد الأفغاني على منلا خان لإثبات إباحة الإسلام الجدل بالتي هي أحسن استجلاء للحقيقة، أي استعمالا للعقل. وتم تكليف الإنسان وحده دون الحيوان والجماد لتحمله مسئولية الأمانة باختيار حر. فعل الإنسان مرجح بين الفعل والترك، والأفعال خارج الترجيح لا ثواب ولا عقاب عليها. تسخير كل ما في الأرض له وجعله خليفة الله في الأرض. وهذا كله لا يتعارض مع علم الله بكل المحدثات وقدرته على كل شيء. فكلا الإثباتين شرعيان، عقل الإنسان وحريته، وعلم الله وقدرته .
خلق الله الإنسان وأودع فيه العقل لمعرفة أسرار الكون كما قال ابن عربي:
وتحسب أنك جرم صغير
وفيك اطوى العالم الأكبر
6
الإنسان نفسه من أكبر أسرار الكون. ويستجلي بعقله ما غمض عليه عن طريق العلم. فما كان خيالا أصبح حقيقة. يقلب الإنسان النظر في الفضاء والبحار، ويقلد الطيور والحيتان فتنكشف الطيارات والغواصات والصواريخ، ويتحرر العقل من الأوهام كل يوم. وليس بمستحيل إيجاد مطية توصله إلى القمر أو الأجرام الأخرى (وقد حدث بالفعل). فالعقل ليس فقط مناطا للتكليف وسندا للحرية والمسئولية متوجها نحو الفعل، ولكنه أيضا الطريق إلى العلم واكتشاف قوانين الطبيعة متوجها نحو العالم.
7
ويدافع الأفغاني عن السببية وانتظام حوادث الكون في قوانين ثابتة يدركها العقل، وينكر وقوع الصدفة في الكون. ومن ثم يتأسس العلم، ويتم تفسير الظواهر الطبيعية، وتخضع الأحياء أيضا للقوانين مثل هروب الجرذ من الأفعى، ولجوء الإنسان تحت الشجرة للوقاية من ظواهر الطبيعة. ويحيل الأفغاني إلى القرآن
وآتيناه من كل شيء سببا . فالعلم هو العلم بتسلسل الأسباب. ولولا قصر العمر لعلم الإنسان أشياء كثيرة كما يقول القرآن
يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا ، لذلك كانت العلوم باستمرار ناقصة مثل علم الطب الذي يكتشف كل يوم شيئا جديدا. ولا يعرف كنه الكهرباء حتى الآن. عرفه القدماء في شكل الحجر الصواني. ويقول علماء اليوم إن الأصل الماء - الحركة، ومنها تتولد الحرارة، مثل ما قاله أبو بكر ابن بشرون منذ أكثر من ألف عام. وإذا كانت حقائق الأشياء ثابتة فإنه يتعذر على فرد واحد العلم بها؛ لأن العلم تراكم معرفي تاريخي بين جماعات متعددة وعبر العصور.
8
وبالعقل والتكليف والعلم تنشأ الصناعة وتعني العمران كما هو الحال عند الطهطاوي؛ فالإنسان من الحيوانات الأرضية، وليس من الحيوانات السماوية كما كان يزعم حكماء الفرس والصين. نشأ في الطبيعة راعيا وصائدا وزارعا، يتعلم من الحيوان الدفاع والهجوم. لم يكن قد تربع بعد على عرش الوجود، بل كان جاهلا بحقائق الكون، هيابا من العالم. هذا حال القبائل في جنوب أفريقيا التي لم تختلط بالعالم وما زال فيها سذاجة الفطرة. ثم تحضر الإنسان بالكد والعناء وبقوة العقل في التصريف. وقد تحقق ذلك في الصناعة التي اخترعها بقوته العقلية لتكوين عوض له عن ضعفه. فصناعة الحياكة تحمي جسمه مثل الحيوان. وصناعة الحديد والأسلحة بدلا من المخالب. ومن هنا أتت أهمية الصناعة وأقسامها الأولية. الصناعة قوة تتجاوز الأفعال الطبيعية مثل حرق النار، وتزداد قوة. وبالفكر الصحيح يتم اكتشاف نظام الكون. وتستعمل القوة ليس فقط لخدمة النفس كما يفعل الحيوان بل لخدمة الغير. العقل آلة الإنسان وقوته. وعمله الصناعة. فالصلة بين العقل والصناعة كالصلة بين النظر والعمل. ينظر العقل في كلية العالم فيدرك النوع الإنساني، ويعمل على حفظه وكماله. ويرى أن ذلك يتم بالاجتماع والزراعة والحدادة والتجارة والحياكة ثم التخصص في بعض منها حتى ينشأ من مجموعها التعاون الإنساني. وذلك مثل أعضاء البدن التي في مجموعها وعلى تخصصها تكون البدن. وتنقسم إلى صنائع طبقا للمنفعة والضرورة والكثرة والكمال والتمام إلى ثمانية: ناقصة ضرورية كالحدادة، ناقصة غير ضرورية كقص الثياب، نافع للإنسان وحده كالحكمة، خيرة بالوسط مثل الزراعة والكتاب، ولها غايات سوى نفس الإنسان ولكن تئول إليه، كثيرة النفع كالنجارة والتجارة، قليلة النفع مثل صناعة الصيد، متممة لفعل الطبيعة مثل الطب المتمم لأفعال القوى الحيوانية المساعد لها على وظائفها، ومزينة له مثل الصباغة والنقش والتلوين. وتتفاوت هذه الصناعات الثمانية شرفا وحكمة. أعلاها الحكمة؛ لأنها تبحث في كل شيء، فهي أشرف الصناعات، وغيرها خادم لها. وهو نفس تصور الفلاسفة القدماء خاصة الفارابي.
9
هنا يأخذ الأفغاني وجهة نظر أنثروبولوجية في نشأة الصناعات تقليدا للحيوان في الطبيعة.
ثم يتوجه الأفغاني بعد ذلك إلى نقد التصوف المناهض للعقل والتكليف والعلم والصناعة. وينقد الإباحية أي عدم العمل، ونفي الملكية وإباحة الشيوع، وترك الأعمال، وهي أمراض المجتمع مثل الفسوق والفجر. ومثلها البطالة وترك الأسباب بدعوى التوكل الكاذب ومعارضة سنن الله في الكون، وانقطاعا عن عالم الظواهر مع التخلي عن التعفف. ولا سبيل إلى تحقيق الصناعة إلا بتطهير المجتمع من كل هذه القيم السلبية التي يروج لها التصوف كما يتم التخلص من شعر الإبط؛ إذ يدعو الصوفية إلى الزهد والبطالة وترك العمل، وهم أقرب إلى الطمع والرياسة الكاذبة والحقد والحسد ونهب أموال الناس بدعوى الإباحة. فلا قوام للإنسان إلا بالصنعة قوام البنيان الإنساني.
10
وهنا يبدو الأفغاني كالعادة رافضا الاشتراكية التي يسميها الإباحية، ويدافع عن الملكية الخاصة كما تفعل الاتجاهات الدينية الرجعية المحافظة في المجتمع التجاري مدافعة عن الرأسمالية باسم الدين.
والعقل والفعل أو النظر والعمل ليسا بغريبين على الإسلام. العلوم والسياسة في صلب القرآن. فكل شئون السياسة من سلطان وحكومة وشورى في القرآن في سورة النمل، في قصة سليمان والملكة سبأ والهدهد. الملك يتفقد الهدهد فلا يجده. والهدهد يأتيه بالأخبار، امرأة ملكا وقومها يسجدون للشمس، ثم رسالة من سليمان لها، ومشورة سبأ، وحكمها على الملوك والفساد وإذلال الأعزة، وإرسال هدية إلى سليمان لعل المال يكون مطمعا له. فردها سليمان إيذانا بالحرب. ثم نقل عرشها إلى القدس. كل ذلك مثل العلوم الحديثة، الطائرة واللاسلكي، والانتقال من البطيء إلى السريع، من إحضار سبأ قبل أن يقوم سليمان من مكانه إلى سرعة أكثر قبل أن يرتد إليه طرفه مثل المغناطيس. كما أشار القرآن إلى كروية الأرض
والأرض بعد ذلك دحاها ، ودوران الشمس حول محورها
والشمس تجري لمستقر لها ، وانفصال الأرض عن الشمس
كانتا رتقا ففتقناهما ، وفناء العالم باختلال النظام الشمسي بالزلزال
إن زلزلة الساعة شيء عظيم ،
إذا زلزلت الأرض زلزالها ، ومحاور الأرض الأربعة
وترى الأرض بارزة ، ومن علم الاقتصاد تجميع الثروة وجباية العشر وقت الحصاد كرسوم
وآتوا حقه يوم حصاده .
11
وواضح أن الأفغاني من أنصار رأي المعاصرين أن العلوم في القرآن، الطبيعية والإنسانية. كما يحدث في برامج
العلم والإيمان
وفي تيار أسلمة العلوم، أخذ العلوم الغربية ثم تأويل القرآن طبقا لها سلبا أو إيجابا. فالغرب يبدع والمسلمون يؤولون النصوص طبقا لإبداع الغرب. مع أن القدماء أبدعوا العلوم بعد أن تحول النص إلى تحرير للعقل وتوجه نحو الطبيعة. اكتشاف السياسة والعلوم في القرآن لا يؤيد ما يدعو إليه الأفغاني من عقل وتكليف وعلم بل يؤدي إلى الكسل والتقليد والنقل، النقل عن العلوم الغربية ثم الاكتفاء بتسليط الآيات القرآنية عليها قبولا أو رفضا، وتحكيما للنص في العقل والتجربة. يوهم المسلمين أن القرآن به كل شيء، فيستفيدون من علوم الغرب نقلا بعد ختمه بطابع القرآن. فإذا ما تغير العلم الغربي تغير التأويل والطابع والختم. فيصبح العلم الغربي هو الثابت، مع أنه متحول، ويصبح القرآن متحولا مع أنه هو الثابت. ويوهم المسلمين بأنهم حصلوا على الحسنيين في الدنيا والآخرة، في الدنيا علم الغربيين الذين سخرهم الله للمسلمين، وإيمان المسلمين الذي حرم الله منه الغربيين. فالغرب لديه العلم دون الإيمان فهو الخاسر، والمسلمون لديهم العلم والإيمان، وهو الفتح المبين. وقد اعترف الغرب بفضل العرب على العلم الغربي نفسه مثل الجبر الذي وضعه أبو السمح والجاذبية التي اكتشفها أبو بكر بن بشرون قبل نيوتن في القرن الثالث للهجرة، واعترافه بوجود قوة حاسة قابضة منعكسة من المركز، الأرض، في تفسير مركبات الكيمياء. كما اكتشف التحليل والتركيب تلميذ المجريطي في القرن الثالث كما ذكر في رسالته إلى أبي السمح التي يذكرها ابن خلدون بتعبير الحل والعقد. واكتشف ابن بشرون الفوسفور واستحضاره. ويقول المؤرخ الألماني هوفر لتاريخ الكيمياء إنه وجد رسالة مترجمة إلى اللاتينية لبشير من علماء العرب يبين فيها استحضار الفوسفور من الأدرار، ويسميه الياقوت الجمري الاصطناعي. واكتشف ابن بشرون استحضار الأوكسجين من حجر المغنيسيا، ويسميه روح حساسة أي غاز. وكذلك اكتشف الأيدروجين وخواصه مثل إطفاء الأجسام الملتهبة. واكتشف جابر بن حيان حامض الأزوت في القرن الثاني. كما اكتشف الرازي حامض الكبريت في القرن الثالث. وعرف استحضاره، وذكره في الحاوي، وسماه روح الزاج، وبتقطير كبريت الحديد يستحيل إلى حامض الكبريت وهو أهم الحوامض وأنفعها في الصناعة. واكتشف المجريطي الذي انتهت إليه الرياسة في الأندلس في القرن الثالث، فاعتبر الكيمياء ثمرة الحكمة، تتم بالصناعة، وعمل المعادن الخسيسة، وتحويلها إلى ذهب وفضة، وقد أنكر ابن خلدون على المجريطي وابن بشرون قولهما بصحة الكيمياء؛ لأن رسالة ابن بشرون من قبيل الألغاز مع أنها واضحة وفنية صرفة. وهو علم جليل أخذه الأوروبيون عن العرب قبل لافوازييه. وقد دل ابن بشرون في رسالته إلى أبي السمح على الحجر الفلسفي أو حجر الحكمة. وذكر مع التحليل والتركيب التقليب وهو تغير جوهر الشيء. ويمكن بالتفاعل حدوث جسم معتدل منها البوتاس دون تمويه على السذج من انقلاب الورقة دينارا. كما ذكر التنشيف. فالصابون لا يمكن تنشيفه بالهواء ولا بالشمس أو الحرارة. كما ذكر التنقية أو التطهير. وذكر التكليس بالاحتراق أو ضغط الهواء، ومكتبة بغداد والأندلس والقيروان وما ترجم في عصر العباسيين وما حققه العرب من المباحث كانت وأوروبا ما زالت في عصر الجليد.
12
وهكذا يضع الأفغاني التقابل بين علم القدماء وجهل المحدثين، ويضرب المثل بعلم الكيمياء رافضا استعماله كأداة من أدوات السحر. بل إنه ينقد ابن خلدون لهجومه على علم الكيمياء لإدخالها كلمات أعجمية.
لذلك يرد الأفغاني ردا شهيرا على رينان الذي هاجم الإسلام في نقطتين: الأولى أن الديانة الإسلامية كانت بما لها من نشأة خاصة مناهضة للعلم. والثانية أن الأمة العربية غير صالحة بطبيعتها لعلوم ما وراء الطبيعة والفلسفة.
13
ويرد الأفغاني على النقطة الأولى بأن مناهضة العلم ليست في الإسلام نفسه بل في صورة الإسلام في العالم أو في أخلاق بعض الشعوب التي اعتنقت الإسلام خاصة إذا كان هذا الاعتناق بالقوة، ثم يتحول الأفغاني من الدفاع إلى الهجوم مبينا أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية ما زالوا يحاربون التدليس والضلال ويقصدون به الفلسفة. ويرد على النقطة الثانية بأن العرب خرجوا بسرعة من حالة القبيلة إلى حالة الأمة، تعادل سرعتهم فتوحاتهم السياسية. وفي خلال قرن، عرفوا العلوم اليونانية والفارسية، وحفظوا آثار روما وبيزنطة. ثم وسعوها وأضافوا عليها. وهو ما لم يفعله الإنجليز والفرنسيون والألمان. وظلوا ناقلين لروما وبيزنطة اعتمادا على العرب وتراثهم في المشرق والمغرب. وقد أخرج العالم الإسلامي على مدى خمسة قرون مفكرين وعلماء، أدباء شعراء. ولكن رينان يعتبرهم من أصول غير عربية، حرانية أو أندلسية أو فارسية. ويرد الأفغاني بأنه إذا كان العلماء فرسا فإن الحرانيين عرب، والعرب بعد فتح إسبانيا ظلوا عربا. واللغة قبل الإسلام كانت لغة الحرانيين برغم كونهم من الصائبة. وكان أكثر نصارى الشام عربا غسانيين. ولم يكن ابن باجة وابن رشد وابن طفيل أقل عروبة من الكندي. ونابليون نفسه ليس فرنسيا. وكثير من العلماء الذين استوطنوا ألمانيا أو إنجلترا أتوا من خارجها. لقد وحد الإسلام بين الشعوب، ولم تعد هناك جنسية غير الإسلامية. وإن تصور الجنسيات في دراسة تاريخ الأمة الإسلامية هو إسقاط من الحاضر على الماضي، ومن الغرب على الشرق، ومن الثقافة الغربية على الثقافة الإسلامية.
14 (3) العلم والعمل
إذا كان العقل مناط التكليف وطريق العلم فإن العلم طريق العمل. ولا يحصل علم دون تحرير العقول من الأوهام، فإن قيد الأغلال أهون من قيد العقول بالأوهام. العقل أشرف مخلوق. فهو عالم الصنع والإبداع ولا معطل له إلا الوهم، ولا يقعده عن عمله إلا الجبن، وهو الذي يخيل المفقود موجودا والقريب بعيدا. وكل شيء في هذا العالم خاضع لمطلق العقل الإنساني. والمستحيل اليوم في العلم يكون ممكنا غدا في العلم والصناعة، وإن ثمرة العقول لا تجتنى إلا بإطلاقها من قيود الأوهام. والحقائق لا تزول بالأوهام بل العلم والتحليل والعقل. فالحقيقة تثبت وتقضي على الوهم.
15
ولا يكتفي الأفغاني بهذه الأقوال المأثورة عن العقل والوهم بل يحلل الوهم ويطبقه في العمل السياسي؛ فالوهم ليس مجرد خداع في النظر وخطأ في الإدراك بل له تحققات عملية في التوهم أي خداع النفس، مثل التوهم بأن الإنجليز سيساعدون المسلمين ضد أطماع المستعمرين الهولنديين والبرتغاليين فيهم، وأنهم جاءوا إلى مصر لمساعدة توفيق ضد ثورة عرابي عليه، وجاءوا إلى الهند لحمايتها من الاستعمار البرتغالي والإسباني. الوهم مرآة للمزعجات والمسرات، يصور الواقع على غير ما هو عليه، يحجب الحقيقة عند الرؤية، ويتسلط على الإرادة. يجعل الضعيف قويا، والقريب بعيدا، والأمان خوفا، يصرفه الواهم عن حسه. يتخيل الموجود معدوما والمعدوم موجودا. كان الإنجليز أمة مجتمعة القوة، مستكملة العدد، مستعدة للفتوحات في وقت كانت الأمم الشرقية مفككة جاهلة بأحوال الغربيين، يعدون كل غريب معجزة، وكل بديع سحرا أو كرامة. انتهز الإنجليز الفرصة، واندفعوا إلى الشرق وبسطوا سلطانهم على أرجائه ، وأوهموا الناس بالأعاجيب والحيلة والمكر، وسلبوا أموالهم، وانتزعوا أراضيهم. ثم تنافست على ذلك الدول الأوروبية. والوهم يمثل للشرقيين أن الإنجليز أصدقاء، ويمثل للغربيين أن إنجلترا دولة منعزلة بعيدة. ذهب الإنجليز إلى الهند، وتسابقوا مع فرنسا وهولندا والبرتغال على الاستيلاء على أراضي الهند. وساعدتهم على ذلك غفلة الهنود، فمالوا إلى الإنجليز، وصدقوا أنهم يريدون تخليصهم من الدول الظالمة، فرنسا وهولندا والبرتغال. وأصبح للإنجليز سلطان على الهند والهند الصينية وبورما، ولا تزيد قوتهم على خمسين ألف إنجليزي، مع أن الممالك الصغيرة يمكنها جمع قدر هذا العدد عشرات المرات بالإضافة إلى ما عند الأهالي من سلاح. استولى الوهم على المشاعر فاستولى الإنجليز على الأراضي. وفي الدول العربية هناك من يهاب دولة الإنجليز تحت وهم أنهم سيدافعون عنها. وبعض الدول الأوروبية تهاب الإنجليز مثل أيرلندا. وينظر العثمانيون إلى الإنجليز كما ينظرون إلى الروس. ويظنون أن معارضتهم تجلب الضرر. وظنوا أن الاعتماد على إنجلترا يجلب النضج، والدولة العثمانية أكبر عددا وعتادا. وإنجلترا توهم الهنود أنها خليفة الدولة العثمانية. ولو أن العثمانيين استعملوا سلطتهم على الإنجليز والهند لما ضاعت الهند. كما تعدت إنجلترا على حقوق السلطان في المسألة المصرية وهي مسألة عثمانية.
وكان المصريون أيام عرابي قسمين، قسم من أنصار توفيق وقسم يميل إلى عرابي. الأول فشل، والثاني ارتاب، ولا عزيمة مع الشك. فدخل الإنجليز مصر بلا حرب، بالترهيب والترغيب والدسائس. فتفرق الناس عن عرابي، وأوهموا أن الإنجليز يؤيدون توفيق. فتساهل المصريون معهم، وأحسنوا الظن بالإنجليز. فاستقرت أقدامهم مع أنه لا يوجد أحد من المصريين يميل إليهم. بل هناك من يبغضهم. لكن الوهم يكبح العزيمة. ذهل المصريون عن الأسباب التي مكنت الإنجليز من البلاد ظانين أنهم على كلمة واحدة في مدافعة الإنجليز مع أن الإنجليز دخلوا بمعونتهم. احتلت مصر بالوهم، وهم أن العساكر قادرة على قهر الأهالي، فاستسلموا، مع أن إنجلترا لا تستطيع أن ترسل إلى مصر أو السودان أكثر من عشرين ألف جندي لا يستطيعون مقاومة المصريين والسودانيين على سواحل مصر وبحيراتها. صحيح أن للإنجليز قوة بحرية ظهرت في سواكن ولكنها تعجز عن العمل أكثر من فرسخين مع مناوأة الأهالي لهم من الأرض. لكن الوهم حجب الأبصار. وقد أزال الأوروبيون الوهم عن أبصارهم، وأدركوا ضعف الإنجليز، كذلك على الشرقيين إزالة الوهم وعدم استبدال سيد بسيد.
16
لا يستطيع الوهم أن يغلب الحقائق مثل خداع الشرقيين والمكر بهم. فللوهم آثار قوية في الأمم الضعيفة، له سلطان على الإرادة وحكم على العزيمة. يذهل الواهم عن نفسه ويصرفه عن حسه، يخيل الموجود معدوما، والمعدوم موجودا. الوهم كون غير موجود، وعالم غير مشهود. هو روح خبيث يلابس النفس وهي في ظلام الجهل. إذا خضعت الحقائق سادت الأوهام، وتسلطت على الإرادات فقاد إلى الضلالة.
17
ويرتبط الوهم بالجبن. فالجبن أب الوهم ومربيه. ويبدأ مقاله عن
الجبن
كالعادة بآيتين قرآنيتين
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ،
قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ، وهو الذي قضى على دعائم الملك، وقطع روابط الأمم، وأوهن عزائم الملوك، وأضعف قلوب الناس. يسهل على النفوس تحمل الذل والعبودية والهوان، وتلقي الإهانة بالصبر وطأطأة الرأس. الجبن عار، وتخاذل النفس عن المقاومة مرض نفسي، يرجع إلى الخوف من الموت
وما تدري نفس بأي أرض تموت . الجبن فخ ينصبه الدهر، يدفع إلى خيانة الأوطان، والكذب والنفاق.
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
والمسلمون أبعد الناس عنه. فلكل أجل كتاب
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ،
الإقدام في سبيل الحق سمة المؤمنين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة العلماء دون خوف أو جبن. وفرقعة السيوف بغير فتك، والتبختر بلامة الحرب إبان السلم من الأدلة على الجبن في مواطن القتال. الجبن لا يغني، والشجاعة لا تفقر، فلم الجبن دون الشجاعة؟ لولا الوهم والجبن لما احتل الإنجليز الشرق. ولو أدرك الشرقيون قوتهم الطبيعية لانكشف ضعف الإنجليز. ربح الإنجليز بالمكر والحيلة، وخسرت الأمة بالجبن والوهم. كان الإنجليز أمة مجتمعة القوة مستكملة العدد مستعدة للفتوحات، والشرقيون مغرقون في حجب الجهل بالصنائع، فأعدوا كل غريب معجزة، وكل بديع سحرا أو كرامة. فإذا انتهز الإنجليز الفرصة وسيطروا على الشرق، على الأمة إذن التحرر من الوهم والجبن، وأن تعود كما كانت أسودا تسترد المفقود وتحافظ على الموجود.
18
والوهم مثل الجهل ضد العقل والعلم. فما استحكم الجهل إلا وتفرقت الكلمة. ووجود الجهل في غياب العلم، وإذا وجد العلم غاب الجهل. وإذا خلا الميدان من العقلاء تسابق الجهلاء. وإذا ساد الجهال ساءت الأحوال. والجاهل الحي ميت، والعالم الميت حي. والعالم الفقير غني بعلمه، والغني الجاهل فقير بجهله. وانهزام العقلاء أمام الجهلاء أولى من الظفر بهم. وشر الأزمنة أن ينبح الجاهل ويسكت العاقل. فالجاهل أعلى صوتا والعالم أكثر صمتا.
19
والعلم هو العلم الواضح دون تطويل للمقدمات أو سقم للنتائج، ومع ذلك فالقياس منهج العلم. القياس هو البرهان وليس قال يقول، أقوال الناس. وإذا ما تعارض السماعي مع القياسي أي النقل مع العقل فإن في أحدهما عوجا أو انحرافا؛ إذ لا يحق لأحدهما أن يمنع الآخر. فإذا ما جاز انحراف السمع فإنه لا يجوز اعوجاج العقل، ومن ثم فالعقل أساس النقل.
20
لذلك ينقد الأفغاني رجال الدين الذين أضاعوا حقائق الدين بين سوء معقولاتهم وعدم تفهم منقولاتهم.
والعلم هو العلم الحي وليس العلم الميت، العلم في الراس وليس في الكراس، العلم الشفاهي وليس العلم المدون، العلم في القلب وليس العلم على اللسان. فالعلم الحي في الصدر الحي. ومقبرة العلوم خزانات الكتب. كان مقر العلم في الرأس والصدر ثم انحدر إلى الجبة والسطر. وأصبحت صورة العالم
عمامة كالبرج وجبة كالخرج . «وكما أن عظمة الملك لا تكون بالتيجان فإن وقار العلم لا يكون بالطيلسان.»
21
وينقد الأفغاني رجال الدين الذين يحللون ويحرمون بغير نص. وقد نهى الرسول عن ذلك. وكان قد رأى شيخا بعمامة كالبرج وجبة كالخرج أخذ بتلابيب رجل بجوار جامع الآستانة لأن لبس القميص حرام وكفر ؛ لأنه من صنع الإفرنج الكفار مع أن عمامة الشيخ وجبته من صنع الإفرنج. ولا يستوي العالم والجاهل كما لا يستوي الملك والرعية والأمير والصعلوك، وإلا لما نفع في الشرق لسان أو قلب. والعلم نور داخلي. وعماء البصيرة أضر من عماء البصر. وكم من أعمى نبغ، حسده ويحسده المبصرون، وكم من أبكم بإشاراته أفصح من عيي بكلماته. ولذلك يتم الحجر شرعيا على الفرد السفيه.
22
والعلم للجهر والإعلان؛ فالصامت عن حقه محروم. وصاحب الحاجة إذا لم ينطق بحاجته كان أولى بالخرس. وإن أكبر دليل على كبر الهمة مجاهرة المرء بمخالفته المألوف إذا تحقق بطلانه. ويكون التعبير عن الحق بلا اختصار مخل أو تطويل ممل. فقلة الكلام لا تكون في الغالب دليلا على الكمال. وليس في كل اختصار بلاغ. وفي نفس الوقت التكلف للسجع ينفر منه الطبع، ويحسن وقعه إذا جاء عفوا. وإن أحقر صناعة لنحات أنفع من تقعر النحاة، وإن أظهر الآداب وأليقها بالعلماء والمتعلمين عدم قطع الحديث على المتكلم وتركه يتم ما يريد، أن يرويه من غير أن يسبقه إليه ولو كان من منسياته.
23
والعلم الصحيح نسب صحيح بل وراثة النبوة طبقا للحديث المشهور «العلماء ورثة الأنبياء». العلم يتراكم حتى يحدث الوعي العلمي، والوحي يتوالى حتى يكتمل ويحقق غايته في إعلان استقلال العقل وقدرته على الفهم واستغلال الإرادة وقدرتها على الحرية والاختيار. وكل دعوة تستند إلى علم. فكثرة النصراء لداع أو لدعوة عن غير علم منهم بصحة الدعوى ذلة ومذلة. وقليل من النصراء لدعوة عن علم مكانة واستطالة.
24
والعلماء والعقلاء لا يصح أن يكونوا أكثرية في محيطهم. وحكيمان عاقلان في أمة مجموعها مليون خير من ألف متعاقل ومدعي حكمة فيها. ويقل العلماء حتى يكثر المتطفلون والمدعون. هنا يبدو الأفغاني من أنصار الأقلية المؤمنة والنخبة العالمة القادرة على قيادة المجتمع، نخبة العلماء والعقلاء والحكماء. فالعالم الحق يساوي نصف مليون من مجموعة الأمة . ومن ثم تكمن الخطورة في مدعي العلم والحكمة والمتطفلين عليهما.
25
وهي النظرة النخبوية الموروثة عن تاريخ الأنبياء والصحابة والحواريين والتي ما زالت مسيطرة حتى الآن على الجماعات الإسلامية المعاصرة. ومع ذلك علماء العصر يظهرهم العصر، وقادة الأفكار تبرزهم الأخطار في تفاعل جدلي بين القيادة والجمهور والعصر. والعلم هو العلم بالغاية؛ إذ ليس في الإنسان عضو يتحرك لغير قصد وغاية. فكل حركة يعملها الإنسان لا يعلم غايتها يحكم عليه بالجهل، العلم هو العلم بالعلة الغائية وليس بالعلة الفاعلة بالضرورة كما هو الحال في العلم الطبيعي. العلم الإنساني يتحدد بغاياته ومقاصده. العلة الغائية هي العلة الفاعلة بالحقيقة كما هو الحال عند إقبال وفشته. العلم على ما به من جمال لا يرضي الإنسانية كل الإرضاء؛ لأنها تتعطش إلى مثل أعلى، وتحب التحليق في الآفاق المظلمة التي لا يستطيع الفلاسفة والعلماء ارتيادها.
26
وصحيح العلم والذل نقيضان لا يجتمعان؛ لأن العلم يهب القوة والعزة. وصاحب القلم لا يحتاج إلى عصا؛ لأن علمه قوة. ولو لم يتنازع الخلق على الحق لما كان ثمة باطل، فالعلم نضال بين الحق والباطل. وبعض الخلق يرضون بالموت خوف الموت، ويلبسون لباس الذل خوف الذل، فيموتون بالذل. ولكن بعض الشرقيين يرون الحقيقة مرارة، والوهم حلاوة، والذل هناء، وطلب العلا والعز الشقاء والعناء. وقد شكا إليه مرة رجل من الأدباء عدم صرف رواتبه فشجعه جمال الدين؛ لأن الدخول في باب الذل يثمر الذل. والشرق في فقر لخوفه من الفقر، وفي موت لخوفه من الموت. فالذهاب إلى السلطان بمنطق الاستغناء، ومنطق الهمة ورفع الصوت أدعى لاسترداد الحقوق. والذل نتيجة للجبن الذي يقعد بالنفوس عن العمل، وينحدر بها إلى مناطق الزلل. فالجبن يوهن دعائم الملك، ويقطع روابط الأمم، ويوهن عزائم الملوك. فتنقلب العروش، وتضعف القلوب، وتسقط الصروح، وتغلق أبواب الخير، ويسهل للنفوس احتمال المذلة، وتحمل العبودية. يلبس النفس عارا وموتا كل لحظة.
27
والعلم تواضع، والعلماء أول المتواضعين. والمبتدئ في أوليات العلوم يظن أنه تبحر فيها وانتهى. والراسخ المحقق يعتقد أنه ما زال في الابتداء . ومحدث النعمة بالمال يستعرضه في كل مكان، ومحدث النعمة بالعلم يلقيه على كل إنسان. وقضايا الجهل في الإنسان أكثر من قضايا علمه. وعمر الإنسان أقصر من أن ينيله ما يجب أن يعلمه، والعلم قشور ولباب. فالواقف على القشور يغرق في بحر الغرور، والمغرور من لا يرضى إلا عن نفسه وعما يصدر عنه قولا كان أو عملا. وطالما كثر الادعاء المجرد بالصلاح والإصلاح عم الفساد وشمل. ولا تطيب نفس الإنسان بالتواضع إلا إذا علم بعض العلم. فالتواضع لا يعني الجهل حقيقة أو ادعاء. والإفراط في التواضع دليل على الادعاء. ويدافع الأفغاني عن صديقه شبلي شميل واتهامه بالغرور ويعتبره عزة نفس على عكس السوفسطائي قليل العلم ويطلب الاحترام ويضع النياشين ويدعي أبهة المنظر.
28
ويسترسل الأفغاني في بيان بعض الرذائل التي يمحوها العلم مثل الحسد والنفاق. فأثقل الأعباء محاولة الحسود ستر فضل المحسود. وكثيرا ما ينشأ النزاع بين العلماء لا بسبب العلم بل بسبب الحسد. فالأكفاء في العصر لا يكونون في الغالب أصدقاء وكأن السماء لا تسع إلا لكوكب دري واحد. والنفاق ادعاء، وإيجاد من لا وجود له. والمعوج الظاهر من الناس أقل ضررا من المتلبس بالاستقامة. ومن ظن أنه خدع الناس بالباطل يكون أول مخدوع. والعجيب أن المنافق لا يتصور أن الناس تراه. فهو كالأعمى الذي يظن أن جميع الناس بدون أبصار.
29
وأخيرا يبرز الأفغاني ارتباط العلم بالعمل بطرق عديدة. يبدأ العمل بالمبادرة. فالعاقل من اعتقد بعجزه ثم سعى إلى العمل. والاعتماد على النفس والتوكل من أقوى عوامل الظفر. ومن فتح له الباب ولم يدخل كان أولى بالطرد. والعمل لا يعني فقط الجهد النظري ولكنه يضم أيضا العمل اليدوي. فأصغر صناعة لنحات أنفع من تقعر النحاة. وحمال الحطب للاتجار أنفع من حمار الذهب للادخار. ولا تنفع الحكمة إن لم يشفعها عمل. فطلاب الحكمة كثيرون ولكن ما أقل العاملين. ولا ينفع القول إن لم يتبعه عمل. فالقائد من قاد بأفعاله لا بأوامره وأقواله. والأمير بأفعاله خير من الأمير بأمواله. وألف قول لا يساوي في الميزان عملا واحدا. والعمل تحقيق لأمل. فالأمة أرضها الأمل وبنيانها العمل. والاستقلال أمل يتبعه عمل وحمل النفس على المكاره واقتحام المهالك والمصاعب. والحرية تؤخذ ولا تعطى، والاستقلال لا ينال بالأقوال. وإذا لم تتذرع الأمة بشكواها من ظالمها بغير الكلام فاحكم عليها بأنها أقل من الأنعام. والعمل هو الطريق إلى جنة النعيم حاضرا أو مستقبلا. فالنعيم والجحيم يتجليان للإنسان في صور أعمال فيتنعم بالحسن منها ويتألم من القبيح. وقلما يأتي الحق بدون عناء. فالعمل جهد ومشقة. لذلك كان الأنبياء من كبار العاملين. فمحمد نبي مرسل. وكان قبل النبوة أمينا صادقا، لم يقتنع بأسود بيته، حمزة وعلي وأبطال قريش والأنصار. بل شاركهم في الحرب، وتكسرت ثناياه. وتخضب وجهه بالدم انتصارا للحق ومقاومة الباطل. كان معلما بنفسه لغيره بقوله وعمله. ويتخذ الأفغاني الرسول قدوة صائحا في المسلمين
أين المسلمون اليوم من هذا الإقدام وتلك الهمة؟
30
الفصل الرابع
الأخلاق الفردية والاجتماعية
(1) الفضائل الفردية
إن أهم ما يميز الإنسان على الحيوان هو الفضائل والأخلاق؛ فلا خير في إنسان يفضله الحيوان، فالإنسان حيوان أخلاقي، والأخلاق هي التي تدل على الإنسان وتعبر عن جوهره. فأنم شيء على الإنسان فضيلته ورذيلته.
1
وميسور على الإنسان فعل الأسود، وممتنع على الأسود عمل الإنسان، والإنسان مثل الحيوان قوة، والحيوان ليس كالإنسان فضيلة.
ويفسر الأفغاني مقولتي الحسن والقبح تفسيرا أخلاقيا مثل المعتزلة القدماء، مشيرا بهما إلى الفضائل والرذائل. فالفضائل سجايا للنفس للتأليف والتوفيق كالسخاء والعفة والحياء. أما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض للأنفس، تحلل وتفرق؛ كالقحة، والبذاءة، والسفه، والبله، والطيش، والتهور، والجبن، والدناءة، والجوع، والحقد، والحسد، والكبرياء، والعجب، واللجاج، والسخرية، والغدر، والخيانة، والكذب، والنفاق.
2
والغريب أن الأفغاني يجعل الأحكام بالحسن أو بالقبح نسبية على عكس المعتزلة، مرتبطة بحالة الإنسان في الرضى والغضب. فمن الغرائب في طبائع الإنسان أنه إذا رضي استحسن القبيح واستسهل الصعب، وإذا غضب عكس الأمر فيستقبح الحسن ويستصعب السهل. فلو مزج الإنسان ساعة رضاه في ساعة غضبه لوقع على الهيئة المتوسطة وفاز بالفضيلة، فالحكم بالحسن والقبح يتبع الحالة الشعورية للإنسان، ولما كان الشعور في حالتين متعارضتين كما هو الحال في أحوال الصوفية فإن الإنسان يصدر حكما في حالة التوسط بينهما، وهي حالة افتراضية صرفة؛ إذ إن الحكم الأخلاقي لا ينتظر هذه الحالة المتعادلة، ولا يصدر طبقا لهذه القسمة الحسابية. ويضرب الأفغاني المثل على نسبية الحقائق والأحكام بأن لكل خط طرفين، ولكل إنسان وجها وقفا، وهما الفضيلة والرذيلة. الفضيلة وجهه، والرذيلة قفاه. لذلك يختلف الحكم على الأشخاص باختلاف الزمان والمكان والموقف وقصد القائل، مما يجعل الإنسان قادرا على الاقتناع بالشيء وضده في موقفين مختلفين. ويؤصل الأفغاني هذه النسبية - على عكس ما هو شائع - في حياة الرسول. فقد تعامل مع أبي سفيان بطريقتين: إذلاله بعبور جيش المسلمين أمامه، وإكرامه بعد الفتح؛ لأنه من سادة قريش. وأثنى على تبختر أبي دجانة طالبا
قريش
للمبارزة، كما أثنى على الخل باعتباره نعم الأدم تطييبا لقلب الفقير.
3
ثم يعدد الأفغاني بعض الرذائل وبعض الفضائل الفردية وآثارها على حياة الأفراد والجماعات. وربما تكرر البعض منها في
الرد على الدهريين . منها الجبن والذل؛ فالجبن لا يغني والشجاعة لا تفقر. والجبن أقبح عيوب الملوك؛ إذ يحتاج الملك الجبان إلى الصعلوك الشجاع، وبالتالي يستمد الملك الجبان وجوده من الرعية الشجاعة، ومن ثم يكون الجبن والشجاعة نقيضين، الجبن من الرذائل والشجاعة من الفضائل. ومن دواعي الذل المسكنة، والسؤدد مع عزة النفس. وأصغر الناس من يطلب موت الناس ليحيا، وأعظمهم من يستميت ليحيا ولو واحد من الناس. فالحقارة أنانية، حياة الفرد ولو مات الآخرون، والشهادة غيرية، موت الفرد ليحيا المجموع. والتسفل أيسر من الترفع؛ لأن الترفع يحتاج إلى جهد ومعاناة وضبط للنفس. وساقط الهمة من علم موقع الفضيلة وصدق الدعوة ولم يبادر إليها بل ينتظر أن يكون تابعا مقلدا لغيره فيهما. وخبث النفس من الرذائل، ومن خبثت نفسه لان ملمسه وكثر ختله وخداعه. ومن الرذائل الإسراف في سوء استعمال الصحة. فإسراف الإنسان بصحته أضر من إسرافه بثروته. فالثروة تعوض، والصحة لا تعوض. ومن الأدواء والأمراض ما هي عند أكثر الناس نعمة تفوق نعمة العافية. ومثال الأمراض النفسية جمع المال مع صعوبة التمتع به وتربية الأولاد ثم استطالتهم على الأبوين. ووباء الغرض أفتك من دواء الأمراض؛ لأن فساد النية أخطر من فساد الجسد.
4
ويعد الأفغاني بعض الفضائل وهي عكس الرذائل؛ مثل الشجاعة والجبن، والترفع والتسفل، والرفعة والذل، والقناعة والطمع، والأمل وطلب المجد في مقابل سقوط الهمة. وتبدأ الفضائل بمحاسبة النفس أولا، وأمر النفس بها قبل أمر الغير. لو يحاسب الإنسان نفسه كما يحاسب غيره لقل خطؤه وقرب من الكمال. ومن عجز عن إصلاح نفسه كيف يكون مصلحا لغيره؟ وأقرب مواد العدل القياس على النفس، وعدم أمر الناس بالبر ونسيان النفس. والعاقل من مثل في نفسه مثال ما استحسن من غيره؛ فالبداية بالنفس قبل البداية بالغير. والبداية بالنفس شيء طبيعي في البشر؛ نظرا لأن حب المحمدة هو الدافع لحسن الأخلاق. العالم الإنساني كتاب مفتوح للنظر والقراءة، للعظة والاستبصار لكل ما خطه القدر الإلهي؛ فأول ما يلاحظ نهضة الشعوب وانهيارها وتبدلها في أطوار مختلفة. فمن الناس من يراها أحداثا بلا دلالات، ومنهم من يراها عظة وعبرة. والسبب في ذلك أن الله قد أودع في الإنسان ميلا وهو حب المحمدة الحقة، وحسن الذكر من وجوه الحق، ليس عن طريق الزور والغش والرياء. المحمدة غذاء روحي ومقوم نفساني. ومن الفضائل التوسط وعدم الإسراف. فالإنسان مسرف في كل شيء. لذلك كثر بين الناس المفرطون وقل المعتدلون. ومن أعظم مجال الحكمة المحافظة على الهيئة المتوسطة. والفضائل بلا شك هيئات متوسطة بين خلتين ناقصتين. ومن الصعب وضع حد للعفة وحصرها بداية وانتهاء. فالعفيف في الماديات مثلا إذا عف عن أخذ ألف دينار كيف يكون موقفه عن المليون إذا عرض عليه؟ فالفضيلة تختلف كما كاختلافها كيفا. ومن يقطع اليد في سرقة محفظة يترك من يسرق الملايين من ثروات الشعوب. وربما تكون القناعة أحد أسباب السعادة ولكن ليس لها حد معروف. ومع ذلك فإن أول صفة رافقت الإنسان الأول هو الطمع وفيه العناء وليس له حد. والقناعة وفيها الهناء وحدها ممكن وهو الاكتفاء بالموجود وترك المتشوق للمفقود ولكن لا يعمل بها أحد.
5
وتتداخل القيم الأخلاقية مع القيم الدينية مثل الإيمان ، وهو من أفعال الله كما هو الحال عند الأشاعرة. ومع ذلك ينقد الأفغاني ضعف الإيمان في نفوس المسلمين وجعلهم مذبذبين، مسلمين في النهار، منقلبين في الليل، سنيين وشيعيين، وهابيين وإباحيين، ومن القيم الدينية الأخلاقية الصبر والثبات. وهما فضيلتان مثل باقي الفضائل الأخلاقية، الصدق والكرم والشجاعة. أثبتهما الشعراء مثل زهير، والصوفية مثل الجنيد حتى لو كان على الرذائل مثل السرقة وقطع يد السارق ثم اليد الأخرى، ثم الرجل الأخرى، ثم الصلب؛ لأن السارق ثبت على السرقة، الثبات يعني التمسك بالطبيعة والفطرة
إنا خلقناهم من طين لازب ،
أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير . والعجيب أن الأفغاني لا يجعل فضيلة الصبر والثبات فقط على الخير، مثل الثبات في الجهاد من أجل النصر في مواجهة الجبن، فلا يهزم جيش يتحلى قائده بالصبر والثبات واقتحام الموت قبل الجنود ولكن أيضا على الشر. بل إن الصبر فضيلة في الطبيعة، في النبات. فالقوي من الشجر لا يعجل بالثمر. ومن الفضائل الدينية الأخلاقية السعادة. فالسعادة في الدنيا ضالة البشر. وإذا وجدها أحد قلما يدل عليها. وربما ليست من موجودات هذا العالم الفاني. يراها الأفغاني غاية قصوى يستأثر بها الفرد وكأنها أنانية لا يجوز تعميمها على الغير. ويعتبرها خارج هذا العالم كما يفعل الصوفية.
6
ثم تعود الفضائل من جديد أخلاقية مثل الشرف. والشرف ليس تشييد القصور ولا الفاخر من الثياب بل حقيقة محمودة، بهاء للشخص وكرامة له. وحقيقة الأنفة وعزة النفس عدم الاتكال على الناس. والأمل وطلب المجد والعلوم يدفع الإنسان إلى العلا. ويبدأ الأفغاني بآيات قرآنية
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ،
ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . ويحولها إلى تحليلات نفسية وتاريخية، فردية وجماعية لإثبات أن الوحي الإلهي والفطرة الإنسانية شيء واحد؛ فالأمل وطلب المجد شيء فطري. ومحبة الشرف في قلب الإنسان. والإنسان يسعى إلى المجد بالإلهام الإلهي ويواجه المخاطر لأجله. وكل أمة نالت مطلبها من المجد نالت حظها من السؤدد،
ذلك تقدير العزيز العليم.
الأمل ينير الطريق، ويبعث الهمم، ويعيد الحياة للأموات. الأمل وحب الكرامة طبيعيان في الإنسان، ويعيد الأفغاني ذكر الآيتين الأوليين لبيان الوحي صاعدا من الطبيعة وكأنه يبين أسباب النزول. اليأس ضد روح الإسلام وروح التاريخ،
فماذا بعد الحق إلا الضلال . وإن كانت للعامة غفلة فليس للعلماء عذر،
إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . فالراحة بالرضا، والنصب بالطموح. والغرب عالي الهمة يركب الأخطار وغيره من الفرنسيين الأحرار، فلماذا تقعد الشرقيين الأوهام الباطلة والأحلام الكاذبة وقد كان لهم في أسلافهم سنة حسنة؟
7
وتمثل مجموع الفضائل الأخيرة استرداد الحق ورفع الظلم واستعمال القوة. فلذة استرداد الحق لا تضارعها الهيبة والتهيب. وأمة ثبتت في جهادها لأخذ الحق ساعة خير لها من الحياة في الذل إلى قيام الساعة. وصاحب الحق قوي ولو كان ضعيفا، والمبطل ضعيف ولو كان قويا.
8
واسترداد الحق لرفع الظلم. ولا يكفي في ذلك الكلام. واعتماد المظلوم على وعود الظالم بالكلام أقتل له من المدفع والحسام، وإذا لم تتذرع الأمة بشكواها من ظالميها بغير الكلام فاحكم عليها بأنها أضل من الأنعام. والظلم حق باق حتى ولو لم يسترد. المظلوم حي ولو مات، والظالم ميت ولو عاش. المهم ألا يقع المنتصر للمظلوم في شرك الظالم. وسجن الظالمين للمصلح رياضة، ونفيهم له سياحة، وقتلهم له شهادة وهي أسمى المراتب. ولا خير في حق لا تدعمه القوة. وإن أضعف ما في هذا العصر حق لضعيف لا قوة له. وأقوى شيء باطل لقوي يجعل باطله حقا. القوة صنم مرهوب، والضعف شبح مربوب. ولا يؤمن بربوبية القوة إلا شبح الضعف. القوة قانون طبيعي، هو أساس تنازع البقاء. إذ تخضع الكائنات إلى ناموس عظيم هو القوة. وظهرت آثاره في الحيوان والنبات والجماد والأفلاك. فلكل حركة اضطرارية تأتيها طوعا أو كرها. القوة طريق استجلاب المنافع ودفع المضار. وتسمى أيضا الجاذبية لحفظ نظام الكون. بالقوة يحيا النبات، ويجذب الغذاء، ويدافع عن نفسه بأعضاء لافتراس الحشرات. وتظهر القوة في عالم الحيوان. القوة مظهر الحياة والبقاء، والضعف يؤدي إلى الفناء. بالقوة تظهر المواليد، وبالضعف يبدأ الموت. القوة للذات تتطلب إضعاف الغير وتسخيره؛ لذلك لا تنال الأمم المهضومة حقها إلا بالقوة. فقد امتلكها الاستعمار بالقوة، استعمر الإنجليز الهند لضعفها. وامتلك الإسبان المغرب بالقوة. والتحرر لا يكون إلا بالقوة. وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
وكان حقا علينا نصر المؤمنين . وقلما يأتي الحق بدون عناء، والقبة الجوفاء لا ترجع إلا الصدى. والمصلح الزعيم من لا يفر ولا يتضعضع من أذية اللئام. والأسد لا يعدم فريسة أينما ذهب. ويبدو أن الأفغاني هنا أقرب إلى دارون وتنازع البقاء ونيتشه وإرادة القوة، وإن رد على الدهريين لأسباب دينية خالصة تتعلق بالخلق.
9 (2) فلسفة التربية
والتربية هي وسيلة الانتقال من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية. وترتبط فلسفة التربية بفلسفة الطبيعة وتدرجها من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان. وهنا يبدو الأفغاني أقرب إلى نظرية التطور منه إلى نقدها. فإذا توجه العقل إلى الأجسام الحية علم أن قوام حياتها بتفاعل عناصرها الداخلية دون غلبة أحدهما على الآخر من أجل حدوث الوسط المتناسب أو التعادل بينها كما هو الحال عند القدماء. ووضعت علوم النبات والحيوان والطب لذلك لإعادة التوازن بين البسائط التي يتركب منها الجسم للوصول إلى حالة الاعتدال حتى تحقق حكمة الله في بقاء الأنواع. وقد ارتبطت علوم الحياة بعضها ببعض، ولزم الطبيب معرفة علم النبات وعلم الحيوان. والروح الإنسانية تعمل بالتضاد من أجل خلق هذا المزاج المعتدل، وروح الكمال الإنساني. وباجتماع أخلاق متضادة تقوم الأخلاق بالتعادل بينها. فالشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين التبذير والبخل كما قال القدماء. ويقع الفساد بتغلب أحد الضدين على الآخر. لذلك وضعت علوم التربية والتهذيب لهذا الغرض، المحافظة على فضائل النفس ضد الانحراف والتطرف مثل الطب، وعلاج الأرواح في مقابل علاج الأبدان. وكما يعلم الطبيب منافع الأعضاء يعلم عالم الأرواح منافع الأخلاق ومضارها. وكما أن الطبيب يتصف بأخلاق الشفقة والرحمة كذلك المربون فضلاء لضرورة تطابق الفكر والعمل. وكما لا يتخذ الطبيب الطب للوصول إلى أغراض شخصية كذلك المربي الناصح المرشد يقوم بتوجيه الأفراد نحو خدمة الأوطان والأقوام. هنا يبدو الأفغاني مثل القدماء في التماثل بين طب الأجسام وطب الأرواح مثل الرازي والفارابي وابن سينا وإخوان الصفا. ويقوم هذا الطب على العلة الغائية. فليس في الإنسان عضو يتحرك لغير قصد وغاية. كل حركة يعملها الإنسان لا يعلم غايتها يحكم عليه بالجهل. القصد هو أساس النظام. فالنظام هو ما انتظم به شمل عالم متفرق يصرفه لوجهة ناقصة، والحجر خير من بشر يقعد لغير علة ويحتاج بشرا مثله.
10
والعلم هو طريق التربية والتحول من فضيلة للفرد إلى فضيلة للجماعة. فالعالم إن كان أعزل فهو بعلمه اجتماعي، والجاهل وإن كان اجتماعيا فهو بجهله أعزل. وهو صادق على مصر وفي هذا الزمان، زمن تحرير الأرقاء وإسارة الأحرار. وتنهض الأمة ضد الوصايا عليها بإثبات كفاءتها وترقيتها بالعلم والأخذ بأسباب حكم ذاتها بذاتها. وهو ليس أمرا سهلا. العلم سلاح التحرر كما أن القوة أداة الاستعمار. وإذا كانت الدول حفاظا على مستعمراتها تحظر إدخال الأسلحة حتى لا تستعمل ضد الاستعمار فإنها تحجر على العالم؛ لأنه ليس أقل خطرا من إدخال السلاح إلى المستعمرات. فحياة الشرقيين بالعلم الصحيح، وموت لحكم الغرب فيهم وفك الحجر عنهم. والعكس صحيح أيضا من أجل يقظة الشرقيين وحصولهم على الاستقلال بدأب متواصل، وهمة لا تفتر، وعزيمة لا تكل.
11
والعلم هو العلم الوطني؛ إذ يمنع الغربيون الشرقيين بطرق خفية ترقيتهم لأنفسهم بطريقة وطنية خاصة بهم، ويعرقلون مساعيهم، ولا يسهلون وسائل تهذيب أخلاق مجموعهم بل يقومون بالعكس. وبالتالي لا يمكنونهم من التوصل إلى الحكم الذاتي بأساليب المكر والمغالطة والاستعانة ببعض أهل البلاد عليهم من الأسقط همة. مدارس الحكومة بها سموم للوطن يمكن إغلاقها والتعويض عنها بالمدارس الأهلية. مدارس الحكومة لا تسلم من ضرر لما فيها من علوم غير نافعة لا يحتاجها المتعلم، وفنون لا فائدة منها تترك التلميذ عليل الجسم والعقل، لا ينظر إلى كتاب، خياليا، وهاما، نفورا من العمل ، جامدا فيما تعلم، بليدا فيما يعمل. وتخشى المدارس الحكومية من المدارس الوطنية وحب الوطن؛ لأنها تحت وصاية الأجانب حتى يظل الطلبة تحت الوصاية. وكلاهما مر. أما المدارس الأهلية الوطنية فهي التي تجمع بين العلم والوطن. فهي دور علم وعمل، ليس فقط داخل القاعات بل أيضا خارجها لمزاولة العمل. كل علم بالعقل يتبعه عمل بالأعضاء. فيعمل الطالب بالحدادة والنجارة والبناء مع الرفاق، ويربي الحيوان، يحلب الأبقار، ويصنع الجبن، ويستخلص السمن والزبد مما ينفعه جسديا، ويفيده ماديا بعد التخرج. هو رجل علم وعمل، لا رجل غطرسة وعجرفة وكسل، كل على أهله، كثر لا ينتفع بهم أحد. ومن فاته سن التعلم من الرجال والكهول بالدروس يمكن للنوادي الوطنية والمحاضرات العامة أن تقوم بنفس الدور، وكذلك باختلاط أبناء الطوائف ومعرفة طرق النهوض بالوطن بالخطب والمثال الحسن والتذكير والتحذير أي بالنشاط الثقافي الوطني العام. والدين عبادات ومعاملات، العبادات للرب بمعزل عن الناس، لا يعارض غيره ولا يعارضه غيره، لكل وجهة هو موليها، نصارى ومسلمين ويهود، من نفس واحدة. أما المعاملات فهي للعموم، المساواة في الوطن، والتعاون والتفاضل فيه، والعمل في المدرسة سويا والتخرج إخوانا مع الولاء للوطن والإخلاص له دون حل لرباط الوطن أو نسيان عهد الصبا. هم في جسم الوطن كأعضاء الجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء كما هو الحال في الحديث المشهور. سماء واحدة، وأرض واحدة، ووطن واحد، ولغة واحدة، ومقاصد واحدة. وواضح أن تصور الأفغاني للعمل هو الزراعة وليس الصناعة التي لم تكن قد ازدهرت في عصره. كما أن الزمن قد تغير من الدفاع عن التعليم الأهلي الوطني إلى تحول التعليم الأهلي إلى خاص أجنبي في عصر الخصخصة. ولا ينسى الأفغاني من التنويه بضرورة تربية المرأة من أجل حسن تربية الأطفال والصبيان؛ فالأمم تتعهد الطفل رضيعا للكمال، الصحة والعقل، وترضعه حب الوطن مع التدرج في العلوم، وإفساح المجال للنور الفطري إبعادا له عن الكذب وتحبيب العلم إليه وتمرينه عليه.
12
ويعطي الأفغاني عناية خاصة لموضوع المرأة؛ فالمرأة شريكة حياة الرجل . فإذا اتخذت المرأة لفضلها شريكة حياة نعمت الشركة وطابت الحياة. وإذا ما اتخذت لمحض الشهوات كانت شركا للممات. المرأة عون الرجل، من صنع الأم، فكيف تترك هذه المنزلة؟ وإذا كانت حاجة الكون للرجل مرة فحاجته إلى المرأة كرة. ومع ذلك عاش الأفغاني أعزب. وكلما اشتكى له أحد كثرة العيال وقلة المال قال:
وأثقلت ظهري بالذي خلف ظهري
ومستشهدا بقول أبي العلاء:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
لم يتزوج الأفغاني؛ لأن الزواج يتطلب العدل وهو ما يعجز عنه، والطبيعة قادرة على التكيف. ومن ترك شيئا عاش بدونه. يقوم الأفغاني بواجباته تجاه السلطان. أما الزواج بالجارية الحسناء فلها أكفاؤها، وإذا أصر السلطان على ذلك فالأفضل للأفغاني أن يكون خصيا ويقطع أعضاء التناسل، وكأنه عدو المرأة كما يقال على بعض المفكرين المعاصرين. وقد قل من الرجال من يعرف الهناء بغير النساء، وندر منهم من لا ينسب شقاءه إليهن. والأقرب إلى الصواب أن يقال فيهن ما يقال في الأولاد: وجودهم بلاء وبلاهم بلاء!
13
والموضوع الرئيسي الذي يتطرق إليه الأفغاني هو موضوع المساواة بين المرأة والرجل الذي طالما هاجم فيه المستشرقون والمتفرنجون الإسلام، بداية بموضوع السفور. فلا مانع من السفور إذا لم يتخذ مطية للفجور. والحجاب له أنصاره وخصومه، وهو ستار إذا رفع فجأة تظهر شناعة الخلاعة والتبرج والفجور. أما السفور المعقول التدريجي فلا غبار عليه. وهنا يبدو الأفغاني انقلابيا ثوريا في السياسة، تدريجيا في التغير الاجتماعي. لذلك لا بد من تحديد صريح للمعاني المطروقة مثل مساواة المرأة بالرجل والحجاب ورفعه حقوق المرأة والغاية المرجوة من ذلك حتى لا يتحول إلى هتك الحجاب وهو عند الأفغاني مثل هتك العرض.
والموضوع كله ناتج من تقليد الغرب من بعض الناشئة في الشرق والمتفرنجين. فهم الذين يطالبون بمساواة المرأة بالرجل في التكوين وهو مستحيل. فالمواهب الفطرية لا مجال فيها للاكتساب. والعلوم المكتسبة على نسب مختلفة. فهل تستطيع المرأة ذلك؟ ويستشهد الأفغاني بالمتنبي في نقده للشرقيات المقلدات للغربيات ومدح أخلاق البداوة ونقد أخلاق الحضارة.
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة
أوراكهن ثقيلات العراقيب
وينتهي الأفغاني إلى أن المساواة بين المرأة مع الرجل ضد الطبيعة؛ إذ يقوم المجتمع على دعامتين: المرأة والرجل ولكل منهما تكوينه الخاص طبقا لعلم التشريح. وهذا من حكمة الطبيعة التي أحكمت الصنع، فتبارك الله أحسن الخالقين. الرجل للعمل في الخارج والمرأة للعمل في الداخل. وهذا ليس رفعة من شأن الرجل أو حطة في شأن المرأة وإذا لم تساو الطبيعة بين الرجل والمرأة بالتكوين فعبثا نحاول مساواتها بالأقاويل. وعمل واحد تختص وتقوم به النساء تعجز عنه رجال الغبراء. وقوة المرأة بضعفها. وتبلغ المرأة بضعفها ما لا يبلغه الرجل بقوته. الموضوع إذن به سفسطة كبيرة بالمطالبة بمساواة المرأة بالرجل بالرغم من الفروق الطبيعية. ويستعمل الأفغاني نظرية التطور التي نقدها من قبل في «الرد على الدهريين» مبينا أن المرأة والرجل كانا في مستوى واحد من التطور ثم سبق الرجل المرأة. وقوته أتته تدريجيا عبر العصور بعمله في الخارج ومصارعته الحيوانات وعمله في الأرض والحرب. ويذكر دعاة المساواة التاريخ، تاريخ مساواة المرأة بالرجل أيام الرومان، ويستلهمون عصر شيوع المرأة، وأن الولد لم يكن يعرف أباه بل كان ينسب إلى أمه. ولا يمكن الدعوة إلى ذاك اليوم. والتطور يخلق الأنسب والأنفع والأصح صناعة وأخلاقا واجتماعا. انتقل الإنسان من العصر الحجري إلى العصر الحديدي لمنفعته، ولا يمكن للتاريخ أن يرجع إلى الوراء. وقد ولد شيوع النساء وعدم طهارة الأزواج الزنا والسفاح وما يسببه من أمراض. الدعوة إلى المساواة ضد حكمة الوجود وثنائية الرجل والمرأة كي يصبح في الكون جنس واحد، رجلا أو امرأة، وتغيب الأم مربية الرجال. واجب المرأة في البيت. وأهم واجباتها صناعة الرجل. المرأة هي التي تهيئ الرجل للمجتمع، وهي أسمى مهمة للمرأة. قوة المرأة في ضعفها، وفضل الرجل في قوته وضعفه أمام المرأة. والمساواة خروج على الفطرة والطبيعة، غاية التطور بقاء الأنواع. ومع ذلك يعتبر الأفغاني أن للهيئة الاجتماعية دعامتين: الرجل والمرأة، ولكن الرجل تطور وارتقى، والمرأة جمدت وتوقفت. ويجعل الرجل مسئولا عن ذلك، يقتل مواهبها باسم الدين مرة، وباسم ضعفها الجسماني مرة أخرى، مع أنهما في البداية كانا متساويين في التكوين. الاستثناء الوحيد الذي يعترف به الأفغاني خروجا على القاعدة هو عائشة وركوبها الجمل. ولا يعتبر ذلك فخرا تتشبه به النساء. وقد تنبأ به الرسول وأدانه. أما ذهاب النساء إلى ساحات الحروب لخدمة الجيش فهو مستحسن إن لم يكن هناك زوج قعيد أو والد ووالدة وأطفال. فالجهاد فرض على كل مسلم ومسلمة. واستثنى منه المعيل، واشترط موافقة الوالدين؛ فخدمة الوالدين جهاد. فإذا لم يكن للجهاد مانع، زوج أو ابن أو أقارب كانت خدمتها في الجيش حسنة.
كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول
14
ولا يشير الأفغاني إلى تعدد الزوجات، ولكنه يرى استحالة عيش النساء في بيت واحد؛ لأن الفصل في نزاع نساء البيت ينغص الحياة. وأن أعدل قضاء في الدنيا يعجز عن إرضاء متخاصمتين من النساء على رجل واحد أو شيء. كما يتعرض لعلاقة الحماة بكنتها. فإذا كانت الأم تسعى وتتصور من وراء زواج ولدها النعيم فإن زوجته ترى نفسها في الجحيم. ويوصي بعدم سكن الأولاد مع الآباء. فإن أعقل الآباء من لا يساكن أولاده بعد الزواج، ويستعيض بالتزاور عن التجاور. وهذه كلها آراء لها ما يشابهها في القرن الماضي عن الغربيين خاصة فشته.
15
ويتعرض الأفغاني لبعض قضايا التربية الاجتماعية مثل الشباب والقضاة. فالشباب جسر من جنون لا غنى للعقلاء من المرور عليه، ومن الطبيعي للثائر أن يجعل الشباب في مقدمة الثوار. فالثورة روح الشباب. ويركز الأفغاني على ضرورة إنصاف القضاة. فإذا لم تنصف الحكومة القضاة فأحرى بها أن تجعل الذئاب رعاة؛ لأن إنصاف القاضي واجب قبل إنصاف المتقاضي. وإذا كان القاضي يتظلم فكيف لا يتألم المظلوم؟ ونظرا لأهمية القاضي العادل يرى الأفغاني أن قاضيا في الجنة وقاضيين في النار.
16 (3) الفضائل الاجتماعية
وتبدأ الفضائل الاجتماعية بتجاوز الأنانية وحب الذات إلى الغيرية وإنكار الذات. تظهر الأنانية وحب الذات إذا ما ظهر اعتقاد النفس وكمالها ونقص الغير، والرضا عن النفس واحتقار الغير. فيضيع الاعتدال، ويختل التناسب ما دام الخير في الذات والشر في الغير. ويظهر ذلك في علاقة الآباء بالأبناء وحال المواطنين في مدينة واحدة، وحال الملوك والرعية، كل طرف يدعي أنه على حق، والآخر على باطل. بل إن الحكماء والعقلاء أيضا وقعوا في ذلك، وظن كل حكيم أنه على صواب والآخرون على خطأ. فاختل ميزان النظر. وعادة ما يكون المحب للذات من أرذل الأخلاق وأشنع الخصال، قاسيا ظانا أنه رحيم، متكبرا واهما، أنه متواضع، يصغر عيوبه ويكبر عيوب الآخرين. هذا هو داء حب الذات، وهو غشاوة على العقل تمنعه من استطلاع الحقائق. وطريق الخلاص هو أن ينظر الإنسان إلى نفسه في مرآة غيره وليس في مرآة ذاته. فالإنسان جميل في مرآة ذاته، قبيح في مرآة غيره، خير الأخلاق إذن إنكار الذات. وأعظم الدلائل على إنكار الذات الأعمال. والإصلاح يبدأ بالنفس قبل الغير. ومن عجز عن إصلاح نفسه كيف يكون مصلحا لغيره؟ الإنسان من وقر نفسه، وعرف حق غيره من جنسه.
17
ثم تبدأ الفضائل الاجتماعية بعد تجاوز الأنانية إلى الغيرية. فالهيئات في الاجتماع، حكومية كانت أو غير حكومية إنما هي خليط من أفراد يقوم على مراعاة التشاكل والتجانس فيها وإلا فسد الخليط. وعدم التشاكل من أعقد المشاكل. ولكن بالضغط والتضييق تلتحم الأجزاء المبعثرة. فالأزمة تلد الهمة. وإذا ما تكونت الهيئة الاجتماعية سرت العدوى الاجتماعية أي الترابط الاجتماعي بين أفرادها؛ فالأجرب يعدي السليم، والمرتكب يعدي المستقيم.
18
الفضائل مناط الوحدة الاجتماعية. ومجموعها العدل في الأعمال، وهي قوة الحياة المستكملة في كل عضو، فهي فضائل وسطية عضوية حيوية. وهي فضائل اجتماعية وسياسية. فالأمة التي تسودها الفضائل تقوى وتنهض؛ لأنها تكون متحدة مجتمعة. يقوم كل فرد فيها بدوره، وتتمثل فضائل العقل والتروي وانطلاق الفكر بين قيود الأوهام والعفة والسخاء والقناعة والدماثة والوقار والتواضع وعظم الهمة والصبر والحلم والشجاعة والإيثار والنجدة والسماحة والصدق والوفاء والأمانة وسلامة الصدر من الحقد والحسد، والعفو والرفق ، والمروءة والحمية، وحب العدالة والشفقة. فإذا تحلت أمة بها غلبت. لذلك قال النبي:
إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق . فإذا تغيرت هذه الفضائل إلى نقائضها من رذائل هلكت الأمة
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون . فالرذائل تورث العداوة والبغضاء، والخلاف والشقاق تقضي على الأمة، وتجعل البأس بينها شديدا
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد . هذه علل الخراب. وقد ظهرت في طائفة الدهيرومنك في الهند المعروفين عند الأوروبيين بطائفة باريا
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم . فالفضائل والرذائل ليست فقط فردية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، بل هي أيضا قوانين للتاريخ، لنهضة الشعوب وسقوطها. فحياة كل أمة بيدها. يبدأ التغير منها
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . والشر من النفس
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم . وتلك مهمة العلماء
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ،
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون . ووعد الله حق
وكان حقا علينا نصر المؤمنين . وإن لم يبدأ الأفغاني بآية قرآنية تغني عن قانون التاريخ فإنه يضع هذا القانون بالعقل والتجربة. ثم يبدأ ببيان تجليات هذا القانون العام في الأفراد والمجتمعات والتاريخ. ففي مقاله عن
الأنا
يبدأ بتعريف الممكن مع وضع مقدمات تنتهي إلى إثبات الموضوع، وهو أن السعادة ممكنة التحقيق مثل الصحة للبدن التي تقوم على الاعتدال والتناسب كما تقوم العلاقات الدولية على المحافظة على الحقوق المتبادلة بينها.
19
وأهم فضيلة اجتماعية هي الاشتراكية. وهي نوعان اشتراكية غربية مادية تقوم على الصراع، واشتراكية إسلامية روحية تقوم على المحبة والإخاء. الاشتراكية في الغرب تؤدي إلى الضرر مثلما تؤدي إلى النفع؛ لأنها تقوم على حاجة الانتقام من جور الحكام وعوامل الحسد في العمال من أصحاب رءوس الأموال، وكرد فعل على حياة البذخ والترف. فكل إفراط يؤدي إلى تفريط. وينتهي الأمر إلى فوضى في الغرب تنتقل إلى الشرق. الشركة شرك. إذا لم يصطد الشركاء غيرهم اصطادوا بعضهم.
20
أما اشتراكية الإسلام فإنها نابعة من الإسلام. عمل بها الخلفاء، وهي من مقتضيات البداوة، أي أنها محلية وليست وافدة من الغرب. اشتهر بها حاتم الطائي في السنوات المجدبة. ذبح فرسه لإطعام امرأة وأطفالها الجياع. وتبرع طلحة الطلحات بسيفه وفرسه ورمحه وجهز ألف فارس. تظل الثروة مع الأفراد ولكن مع حسن استعمالها حتى تصبح الاشتراكية أمرا مقبولا، لا أنانية ولا أثرة، لا استطالة على الفقير، ولا عدوان على الغني. وهي قائمة على القرآن، مساواة الجميع أمام الله والحمد لله رب العالمين. وقد خاطب القرآن القادة والغزاة وأرباب القوة مؤكدا حق الجميع في الثروة
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير . فالله والرسول وذو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل لهم نصيب من المال. كما نقد القرآن اكتناز الذهب والفضة. وعقد الرسول الإخاء بين المهاجرين والأنصار، وأشركهم في الأموال. وخير الأمور الوسط. والزكاة من أركان الإسلام بالإضافة إلى الغنائم والصدقات. وحرم الربا
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم . وأيضا
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون . وحث الإسلام على الصدقات
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ،
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله
وأيضا
إن الحسنات يذهبن السيئات . والتفاوت في الثروات يجلب الحسد كما قال زهير.
ومن يك ذا فضل ويبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
وبالإضافة إلى تأصيل الأفغاني للاشتراكية في الإسلام فإنه يؤصلها أيضا في البداوة والمساواة الطبيعية التي لا تقوم على الحسد أو الانتقام. ثم جاء الإسلام فجالس الرسول الفقراء وشاركهم في الحياة العامة طبقا للطبيعة البدوية. وسار أبو بكر على سنة الرسول مع أنه كان تاجرا غنيا ولكنه كان يعيش عيشة الفقراء. وسار عمر على أثره بالرغم من اتساع الفتوحات وازدياد الثروات. وراقب سير عماله، معاوية في الشام، وعمرو في مصر، وغيره في العراق. وحذرهم من سيرة الأكاسرة.
21
واضح أن تصور الأفغاني للاشتراكية أنها دينية فقهية، وأنها أخلاقية تطوعية تقوم على إعطاء الصدقات، وأنها سلمية تنبذ العنف والحقد، وأنها بدوية محلية تقوم على حياة الفطرة والمشاركة في المجتمعات الأولية كما فعل كاوتسكي في «المسيحية البدائية». ويظل السؤال: هل يمكن من المبادئ الأخلاقية العامة تأسيس أيديولوجية اقتصادية متكاملة؟ وهل يمكن من هذه المبادئ العامة أن تتحول إلى ممارسة فعلية؟
ويجيب الأفغاني نفسه على بعض هذه التساؤلات جوابا على سؤال أحد الجالسين عن تكفير مشايخ الإسلام للاشتراكية بأن الاشتراكية وإن قل نصراؤها اليوم فإنها ستسود العالم عندما يعم العلم الصحيح ويشعر البشر بأنهم إخوة، وأن التفاضل بالأنفع للمجموع وليس بالسلطان السياسي أو المالي أو العسكر. وإنما يحتاج الأمر إلى الشجاعة والبسالة والجهر بالحق كما قال المسيح
بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص .
ثم تغير الأمر، وتبدلت الأحوال. وخاطب عمر بن الخطاب واليه عمرو بن العاص على مصر بأنه لم يقطعه مصر له ولقومه، وأنه يحيا حياة الأمراء بينما يموت باقي المسلمين جوعا وقحطا، يبني القصور والدور وغيره في العراء. وهدد معاوية في الشام وحذره من غطرسة هرقل وتعاظم الأكاسرة، وطالبه بمشاركة الناس في الأموال. وأعطى عمر النموذج والقدوة، فلبس مثل باقي المسلمين، وأكل وشرب وسكن مثلهم دون تململ أو تذمر من أحد. ولما جاءت خلافة عثمان ثم الأمويون من بعده، تذمر الهاشميون خاصة والقرشيون وفي مقدمتهم أبناء الصديق والفاروق. فقد تغيرت الحياة الروحية في الأمة، وقرب عثمان ذوي القربي وأرباب الثروة، طبقة فوق طبقة، أمراء وأشراف ، في ثروة وثراء وبذخ. ونشأت الطبقات الاجتماعية. فقام أبو ذر الغفاري وخاطب معاوية في الشام وأمره برد الأموال إلى الفقراء، ورد معاوية بأنه يستحيل العودة إلى الوراء، إلى الصديق والفاروق، إنما الصدقات واجبة، والوعظ ضروري لتخفيف حسد الفقراء للأغنياء. استمر أبو ذر في النصح، وعاود مذكرا بسيرة السلف الصالح، فأرسل له معاوية ألف دينار ليلا لامتحانه وشرائه فوزعها أبو ذر على الفقراء. فلما أراد معاوية استردادها لأنها أتت إلى أبي ذر خطأ أمره باستردادها من الفقراء. فلما علم معاوية صدق أبي ذر أرسله إلى الخليفة عثمان في المدينة. ولكن أبا ذر استمر في دفاعه عن الفقراء، وذكره بأحاديث الرسول إذا واصل التمييز بين الناس في العطاء واستعلاء الأغنياء على الفقراء. ووجبت الهجرة على أبي ذر. فترك المدينة وفي قول آخر نفاه عثمان إلى الربذة.
وظل الأفغاني يركز على القيم الاجتماعية مثل المساواة دفاعا عن الفقراء. فالفقر عدو الفضيلة، والثراء نصير الرذيلة. ولا فضيلة لفقير؛ لأن الصراع من أجل البقاء يأتي أولا. ولا فضيلة لغني؛ لأن الثراء يؤدي إلى الانحلال، الغنى غنى النفس، والفقر فقر الروح. وكم من غني محمود بمظهره فقير مقهور في حقيقة أمره. ومع ذلك فالمال عصب الحياة. ووضع الحسب يستطيل بالقليل من المال على غيره.
22
ويتناول الأفغاني قيم الزراعة والصناعة والتجارة؛ فالزرع قيمة. ولولا الزرع ولولا القرع ما كان سرف الأغنياء ولا ترف الأمراء، والصناعة قيمة. وموقف الزراع والصناع من الحضارة أنفع من موقف الإمارة، أما التجارة فهي فضيلة واحدة بصرف النظر عن المتاجر فيه. فبائع الدر وبائع الفحم يتساويان بالاسم ويختلفان بقدر المباع، والتجارة فضيلة إنسانية وإلهية. لذلك استعملها القرآن لشرح العلاقة بين الإنسان والله للمجتمع التجاري دون نقد أخلاق التجار كما يفعل ابن خلدون.
23
ثم ينتقل الأفغاني من الفضائل الاجتماعية والاقتصادية إلى الفضائل السياسية: النخبوية، والسلطة، والعدل، والديمقراطية، والأمة. فالنخبوية فضيلة. والحق مع الأقلية وليس مع الأكثرية دائما أو على الأقل أحيانا، والدليل خروج الحق عما ألفته الأكثرية، وقدرة الأقلية على تغييره. واعتناق الأكثرية المألوف أحيانا لا يفيد؛ إذ يتحول إلى تقليد بلا برهان. وقد انتشرت الحقائق بأفراد قلائل، وقاومها المجموع، لم يتجرأ أحد على مقاومة جوبتر وانتهت ديانته. وموسى كفر بألوهية فرعون. وعيسى كان معه نفر قليل من الحواريين ضد مجموع اليهود. ومحمد آمن معه نفر قليل وقاومه الجموع، والملايين اليوم تدين باليهودية وبالمسيحية وبالإسلام. والسبب في ذلك أن تعاليمهم جاءت موافقة لروح البشرية. هي حق في ذاتها حتى ولو خالفت المألوف. وقد اعتنق المخالفون لهذه الديانات الثلاث هذه الديانات بعد ذلك بفضل الصمود للمؤمنين الأوائل. وكانت الدعوة للحرية في فرنسا من الأقلية، وسالت من أجلها الدماء. وكذلك كانت دعوى الاشتراكية وإن قل أنصارها فإنها ستسود العالم يوم يعم فيه العلم الصحيح وتسود البشرية روح الإخاء والمساواة. إنما يحتاج الأمر إلى الشجاعة والبسالة والجهر بالحق كما قال المسيح
بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص . وكسر محمد الأصنام، وأبى قبول الملك من قريش. وأصر موسى أمام فرعون على إخراج اليهود من مصر. الأقلية تعلن، والأكثرية تستجيب. والساكت عن الحق شيطان أخرس. ولا يوجد في هذا الكون من القول أو الفعل ما يستدعي الكتمان إلا ما كان في علانيته مضرا. الإعلان كمال للبشر، والكتمان نقص، ولا خير في دولة تعتم عن أمتها أمورها.
من أحب فليعلن . والمحبة معنى مطلق، أي حب الخير والمعرفة للناس. حب الصدق الجهر به، وحب الكذب كتمانه، وحب الخير إعلان عنه والقبيح فقط هو الذي يتم التستر عليه. لذلك عرفت المروءة بأنها عدم العمل في السر ما يستحى منه في العلانية. ولما كانت الحاجة من حيث هي حاجة ذلا، والذل من حيث هو ذل قبيحا فإن أقل الناس حوائج أكثرهم جهرا، وأكثرهم حوائج أكثرهم كتمانا. وقد كانت أقصى مطالب ديوجينس وهو في برميله ألا يحول أحد بينه وبين الشمس كما طلب من الإسكندر. فالطبيعة ملك الجميع، والشمس تعلن عن أشعتها جهرا للجميع.
24
ثم يتناول الأفغاني قضية السلطة، فيميز بين السلطتين الزمنية والروحية، أي السياسية والدينية ثم يوحد بينهما؛ إذ لا يستغني البشر عن سلطتين زمنية وروحية، غايتهما واحدة، وجوهرهما واحد، وأصلهما واحد. وإذا طرأ على أحدهما الخلل يعمل الآخر على إصلاحه. السلطة الزمنية، ملكا أو سلطانا، تستمد قوتها من الأمة لقمع الشر وصيانة الحقوق العامة والخاصة، وتوفير الراحة للجميع، والسهر على الأمن، وإقامة العدل، ورعاية المنافع العامة. فإذا ما جهلت السلطة وعتت وفسدت فإنها تتحول إلى تسلط، وتصبح مشيئة الملوك قانون المملكة. ومن هنا لزمت مقاومة الشعب لاسترداد إرادته وحريته بعد أن أكره عليها وإلا ظل الشعب كالأنعام السائمة. والسلطة الروحية تعني كل ما للدين من نفوذ معنوي. وهي قوة أحيانا أقوى من السلاطين والشرطة. هي القضاء العادل. تقف بالمرصاد للسلطة الزمنية، تراقبها وترشدها، وتقتص منها في حالة انتهاك المحرمات وسفك الدماء. فإذا انحرفت تمت مقاومتها لإرجاعها إلى الصواب.
25
إذا سار الدين نحو غايته الشريفة حمدته السلطة الزمنية، وإذا سارت السلطة الزمنية نحو الغاية المقصودة وهي تحقيق العدل المطلق حمدتها السلطة الروحية. فلا تنافر بين السلطتين إلا إذا خرجت كل منهما عن أصلها وقصدها ومسارها. الدين رادع عن رضى في السر، والسلطان وازع في الجهر بالقهر، هذا هو الفرق بين الرقابتين، رقابة كل منهما على الآخر، الدين سرا، والسلطان علنا، الدين من الداخل، والسلطان من الخارج. الدين صوت الضمير، والسلطان صوت المصلحة العامة والأمن الجماعي. ولا فرق بين الأديان الثلاثة فيما ينفع المجموع البشري، الخير المطلق ورفع الشر، دون أن يعلن الأفغاني أنه لا فرق أيضا بين سلطة وسلطة. فالوظيفة واحدة، حماية الأمن وتحقيق المصلحة العامة. ثم يضرب المثل بضرورة السلطتين وتلازمهما بالجسم والروح. فكما لا يوجد جسم بلا روح، لا يوجد مجتمع بلا سلطة. ولكن القضية في الروح. فالروح الإنسانية إما النبوة وإما الحكمة. النبوة منحة إلهية يختص بها الله من يشاء من العباد، والثانية اكتساب بشري بالنظر والفكر. الأولى لا تخطئ والثانية معرضة للخطأ، الأولى ملزمة الطاعة، والثانية ملزمة أيضا عن طريق الأولى والأفضل بشرط عدم مخالفة الشرع. هذا هو جسم السعادة الإنسانية. وهي نفس ثنائية النبوة والحكمة عند القدماء. يحاول الأفغاني هنا أن يشق طريقا بين السلفيين الذين يوحدون بين السلطتين الدينية والسياسية، والعلمانيين الذين يفرقون بينهما. كل منهما رقيب على الآخر. إنما تختلف شكل الرقابة، داخلية في الدين من وازع الضمير، وخارجية في السياسة. وهي تفرقة أيضا غير دقيقة؛ فالدين رقيب من الخارج عن طريق الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء، والسياسة رقيب من الداخل عن طريق مبادئ العدل والشورى كأساسين للملك. كما أن هذا الطريق الثالث لا ينتهي بالضرورة إلى السلام بين السلطتين، فما العمل إذا لم تطع إحدى السلطتين نصيحة السلطة الأخرى؟ ولمن تكون الغلبة في حالة الصراع؟ ولمن يكون الحكم بينهما في حالة الخلاف؟ ويبدو أن الأفغاني لا يتصور السلطة الدينية سلطة رجال الدين بل مجرد وازع أخلاقي داخلي. فلا توجد إلا سلطة واحدة فعلية هي السلطة السياسية؛ فالإيمان واليقين ليس معناهما عبادة رؤساء الدين. لذلك كثيرا ما ينقد الأفغاني رجال الدين ويعتبرهم مسئولين عن انهيار الدولة وفساد السلطة السياسية. فإذا ما أمكن تحرير السلطة السياسية من سيطرة السلطة الدينية يلزم أيضا تحرير السلطة السياسية من رجال الدولة وبطانة الملك. وكما أمكن تحرير الدين من رجال الدين كذلك يمكن تحرير السياسة من رجال السياسة، من دسائس البلاط وجماعات القهر السياسي داخل الدولة، من الوزراء أو المستشارين أو الشرطة والجيش أو الأجانب. ويبدأ الأفغاني بوضع قانون عقلي تجريبي عام، مثل
كيف يجب أن تكونوا ، وآية قرآنية تصديقا لهذا القانون تأويلا
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . وأحيانا يضع الآية القرآنية أولا ثم يثني بالقانون التاريخي تنزيلا. ثم يشرح الأفغاني القانون والآية بأن البلاد تصان بحرس الملك والبروج والقلاع والجيوش والأسلحة. ولكنها لا تعمل بذاتها إلا من خلال البشر والرجال من ذوي التدبير والحزم والدراية، يقومون بشئون المملكة، ويوطدون الأمن، ويقيمون العدل، ويطبقون الشريعة، ويراقبون الممالك الأجنبية، ومن ثم يكون السؤال: كيف للحاكم أن يحصل على بطانة للمملكة من ذوي الرأي السديد، كيف له بعقلاء رحماء، أباة أصفياء، لهم الشفقة والرحمة والحمية والنعرة على الملك والرعية من الأمة، على الفطرة، يرتبطون معا برابطة الجنس أو الدين، فلا ينتقد مصري سوريا أو سوري مصريا لانتمائهما معا بعروبة واحدة؟ أما الأجانب الذين لا يرتبطون بهاتين الرابطتين الجنس أو الدين، فهم كالأجراء في المملكة، لا يهمهم إلا استيفاء الأجر، ولا يبالون بعد ذلك إذا انهدم الملك أو قام. هذا إذا صدقوا في الأعمال، يؤدون للدولة قدر ما يأخذون منها. لا يتشرف الأجنبي بشرف الأمة، ولا يمسه شيء مما يمسها لأنه منفصل عنها. يعود إلى منبته إذا ما أصابها السوء، ويخدم غيرها. لا يحزن على خير فقدته، ولا يفرح لشر تجنبته، على فرض عدم وجود دوافع أخرى لديهم مثل الحقد والخديعة والتآمر. هذا حال الأجانب في الممالك الإسلامية، يعتمدون على الغش والخيانة. ويثبت التاريخ أن الدولة التي تعتمد على الأجنبي لا تبقى. ودخول العنصر الأجنبي في الدولة إيذان بخرابها. ويأسف الأفغاني على أمراء الشرق خاصة أمراء المسلمين الذين سلموا أمورهم إلى الأجانب يحمونهم، ويوالون الغرباء ويثقون بهم، مستشهدا بآيتين
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ،
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها
هذه سنة الله في الكون.
26
وما يقال على الدولة يقال أيضا على الجيش. فإن قبول الدخلاء والمتطوعة، أي المرتزقة في الجيش مفسدة للنظام ومن عوامل الانهزام.
27
والعدل أساس الملك. وهو من أشرف الصفات وأسمى الفضائل. يحفظ المجتمع الإنساني، وعليه تقوم الممالك ويتأسس العمران. وهو وسط بين الجور والظلم من ناحية والخرق والتسيب من ناحية أخرى. ويلجأ الأفغاني هذه المرة إلى قانون التاريخ استقراء وليس إلى الآية القرآنية استنباطا. فالتاريخ يشهد على أن دول المؤابيين والرومان والآشوريين والمصريين والتتار وحكامهم كانوا على نوعين: الأول فاتح لا يأبه إلا بالغنائم والقتل والغزو، إعصار ينتهي. والثاني يحكم بالعدل فيدوم الحكم ويبقى أثره مثل كسرى أنوشروان الذي كان عادلا بالفطرة ومثل الفاروق الذي كتب إلى عمرو بن العاص
أكسرى أعدل منا؟
وأمره بهدم حائط مسجد بعد أن أخذه عنوة من يهودي وبغير رضاه بناء على حب العدل لذاته. في حين أن أحد أجداد كسرى وهو أبرويز أحب فتاة فرفع الظلم عن قريتها، ليس حبا في العدل بل حبا للفتاة. فانقضى العدل بانقضاء الغرض. وقد عدل المسلمون الفاتحون مع الرهبان والولدان والشيوخ وبناء على وصايا الصديق والفاروق والخلفاء الأمويين والعباسيين، بلا غرض أو غرور بل حبا للعدل في ذاته. أما سلاطين آل عثمان فلقد فتحوا البلاد بدافع الغرور بما لديهم من قوة وبأس، وما اعتقدوه رحمة وعدلا. كان العدل عرضيا لا جوهريا. لذلك سمح آل عثمان للأجانب كمترجمين بالتواجد في الدولة حتى تحكموا في البلاد واستطالوا على العباد، وصار الوطن محكوما ذليلا للأجنبي. إذا قتل اليوناني العثماني أنقذه القنصل كما كان معروفا في المحاكم المختلطة في مصر إبان الاحتلال الإنجليزي، اعتبر الإنجليز أنفسهم من طينة غير طينة الآدميين، ولا يجرءون على مثل ذلك مع باقي الأوروبيين مثل البلجيك أو السويسريين والدانماركيين. هناك إذن فرق بين عدل يأتيه الفاتح عن علم وحب بإجراء العدل والأخذ به وبين ما يأتيه من غرور وإتيان العدل لبواعث من خارجه. وأقرب موارد العدل القياس على النفس، وقبول للغير ما يقبله الإنسان لنفسه. بالعدل تتحقق المساواة والوفاق والوئام، وبالأثرة تتحقق الأنانية والنفرة والخصام. وكان الأفغاني يقسم بالعدل،
وعزة الحق، وسر العدل .
28
ويقرن الأفغاني العدل بالقوة. فخير ما يحتاجه الشرق من الملوك القوي العادل. ولا خير في العادل الضعيف كما أنه لا خير في القوي الظالم. وهو الموقف الفقهي القديم في الجمع بين العدل والقوة. والجبن أقبح عيوب الملوك؛ لأن عيب الكبير كبير، ويحتاج الملك الجبان للصعلوك الشجاع؛ فالشجاعة قوة، والجبن ضعف، وعظمة الملك لا تكون بالتيجان بل بالقوة والعدل. ولكن أكثر أمراء الشرق إذا ألقي أحدهم في أضيق جب من الاستعباد وحفظت له ألقابه الضخمة مجردة حسبها عرضها السموات والأرض، لأنه أصبح ألعوبة في أيدي الأجنبي. ومع ذلك لا يكون الملك القائم على العدل والقوة مظهر رهبة من الناس. فمن رهب الملوك بغير جريرة فهو الصعلوك. ومهابة تصدر عن كرسي الحاكم لا عن عدله وفضائله أقرب للسخرية منها إلى الاحترام.
29
والحكم العادل القوي هو الحكم الديمقراطي. والتحول من التسلط إلى الديمقراطية سنة تاريخية وسنة إلهية، لا فرق بين قوانين التاريخ والآيات القرآنية. الحكم للعقل والعلم. وإذا ما تحول إلى جهل يظهر الحكم المتسلط. والتفرد بالسلطة وسوق الأمم على هوى الفرد يزيل العالم ويحوله إلى خراب. والأمة التي لا تستشار في مصالحها وليس لها حل ولا عقد في إرادتها تكون خاضعة لحاكم واحد، وإرادته قانون، ومشيئته نظام. لا ينضبط لها سير، ولا تثبت للرجال، وتتأرجح بين السعادة والشقاء، بين العلم والجهل، بين الغنى والفقر، وبين العز والذل. فإن كان الحاكم حازم الرأي، رفيع الهمة، قويم الطبع، عدل السياسة صلحت الأمة. وإن كان سيئ الطبع، سافل الهمة، خسيس النفس، فسدت الأمة. فساد الأمة بفساد حاكمها إذا كان الحكم فرديا. لذلك وجبت استشارة أهل الرأي. هنا يقترب الأفغاني من نظريته الشهيرة في المستبد العادل، الذي يجمع بين العدل والقوة وإن ضحى بالشكل الديمقراطي. فقد لا يحكم قوم من غير قاهر من أهله وكأن الاستبداد طبيعي في الحكام. وقد يعبر الأفغاني هنا عن عصر محمد علي وبسمارك وقيصر روسيا وعصر الميكادو في اليابان وربما عن نظرية الاستبداد الشرقي عند مونتسكيو. ولكنه يسخر في النهاية من الجبروتية والفرعونية التي تساق بسياسة بقروتية؛ فالفرعون الجبار لا يسوق شعبه إلا بسياسة الأبقار. ويستشهد الأفغاني بتاريخ الغرب وصراعه من أجل الديمقراطية؛ فبالرغم من تجزئة الغرب واستقلال عناصره بميزات قومية إلا أن الغربيين تساووا نسبيا بينهم بالفضائل وأهمها العلم بالواجبات والحقوق، ما لهم وما عليهم، فانتفى منهم التفرد بالسلطة وسوق الأمة على هوى السلطان، وسينتهي الحكم المطلق في التاريخ تدريجيا طبقا لمقتضيات الفطرة كما حدث في الغرب. إذ تحكمه الشورى، وصارت كل أمة في مأمن من أن تغزوها الدول المجاورة، ومتى ساد العلم في أمة فإن أول ما تناهضه هو هذا الشكل الفردي في الحكم وتعمل على التخلص منه. هذه سنة الله في الكون
ولن تجد لسنة الله تبديلا . هنا تصدق الآية القرآنية قانون التاريخ، ويكون القانون تحقيقا لمناطها كما يقول الأصوليون. لذلك اشتمل القرآن على تدبير المالك وأصول الحكم الشورية ووظائف الملوك، والإشارات إلى مقدمات العلوم والفنون الحديثة.
30
وعلى هذا النحو يحتاج الملك إلى أمة أكثر مما تحتاج الأمة إلى ملك. فقد رأينا شعبا يعيش بدون ملك، ولكن ما رأينا ملكا يعيش بدون شعب. ومع ذلك فسؤدد الأمة معقود بقادتها طالما وجد الاثنان؛ الشعب والملك. لذلك تحتجب الحقائق عن الملوك بقدر تحجبهم من الأمة. الملك هو العالم بأحوال شعبه وليس الذي يسكن في قصره بمعزل عن الناس، والصراحة هي أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم منعا لازدواجية الخطاب والسلوك بينهما. يقول الحاكم ما لا يفعل، ويؤيد المحكوم وهو لا يرضى. والأمة التي تطعن حاكمها سرا وتعبده جهرا فإنها لا تستحق الحياة. والأمة بأفرادها. والشمم بالتجرد عن النفع الذاتي وطلبه في النفع العام. فالفرد للجماعة والجماعة للفرد. وما مات أحد في حب أمة إلا وأحبته. ومن أحب الحياة فإنه يموت في سبيل حياة أمته. ومن طلب الموت في سبيل حياة الوطن إما أن يموت بطلا شهيدا وإما أن يعيش سيدا عزيزا. ولا أمة بدون أخلاق، ولا أخلاق بدون عقيدة، ولا عقيدة بغير فهم. وخير موازين الأمم أخلاقها.
31
الفصل الخامس
الأنا والآخر
(1) الأصالة والتقليد
وانتقالا من الفلسفة النظرية إلى الممارسة العملية يضع الأفغاني ثنائيات الصراع بين الأنا والآخر التي تتجلى في الأصالة والتقليد، والإسلام والنصرانية، والشرق والغرب؛ فالتقليد أيا كان اتجاهه يؤدي إلى سقوط الهمة والعجز. فساقط الهمة من علم الفضيلة وصدق الدعوة ولم يبادر إليهما، بل ينتظر أن يكون تابعا ومقلدا لغيره فيهما. والتقليد يرفض الدين، وليس مصدرا من مصادر العلم عند المتكلمين والفلاسفة والأصوليين. ومن قال إن الدين يأمر بالعسر دون اليسر، بالضار دون النافع لمجرد التقليد والمألوف، فهو كذاب؛ فالحقيقة لا تؤخذ إلا بالبرهان ولا يحصل عليها بالتقليد . والطريق الصحيح للمعرفة، وهو البرهان، أضمن للمعرفة ذاتها بالتقليد. ولو كان لا بد من تقليد خاصة بالنسبة للعامة، فتقليد نافع ثبتت منفعته أولى من تقليد مألوف ثبتت مضرته. فالنفع هنا شفيع لنقص الاجتهاد. ويظل التوازي قائما بين الاجتهاد والتقليد، والمنفعة والضرر.
1
ويكون التقليد لجهتين، تقليد الغرب وتقليد القدماء. تقليد الغرب غالبا من الشباب، وتقليد القدماء غالبا من الشيوخ. يقلد الشباب الغرب بمجرد تعلمه لغته والتأدب بآدابه دون فهم لتجربة الغرب وتدرجها ومعناها. ويعتقد أن كل العيوب والرذائل ومظاهر الانحطاط ومعوقات التقدم في قومه. فيسير في تقليد الغرب، يجل الآخر، ويسفه الأنا. يعطي الآخر أكثر مما يستحق، ويعطي الأنا أقل مما تستحق. يأنف من الاشتراك في أي عمل وطني، ويسارع بالاشتراك في عمل الأجنبي ولو كان اسما. يعيب كل شيء في قومه، ويقدس كل شيء عند الغريب. يسهل له مقاصده، ويطلعه على معايب قومه، ويساعده على أهله. وقد يصل الأمر إلى حد الخيانة للوطن واستعباد الغرب له، مؤثرا مصلحته الخاصة على مصلحة الجماعة. وسواء تم ذلك عن علم أو جهل فقد ابتلي الشرقيون بهذه العلة. والأزمة في ازدياد حتى يستيقظوا عندما يصل الأمر إلى دين لا يتعبدون به، وتجارة دون مال أو مجال، وفقدان الحرية الشخصية، ووقوع في القهر والذل. ولا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحي. فكلاهما في التقليد سواء؛ لأن التقليد موقف حضاري لا ينبع من دين أو طائفة. وقد يشعر المسيحي ببعض الميزة على المسلم في تقلد الوظائف لمسيحيته ومعرفته باللسان الأجنبي، فيقربه الأجانب ويوالونه. فيقع التنافر، وتحدث الفرقة في الأمة. وكلاهما متساويان في المذلة والهوان. والعجيب أن هذه الأمة التي وقعت في تقليد الغرب كانت مبدعة في ماضيها. أمة لم تكن شيئا، وأصبحت كل شيء في العلم والعمران، ودانت لها الشعوب والأقوام. ثم وهن البنيان، وضعف التعاون، وتقطعت الأوصال. ومن ثم فإن هذه الأمة في حاجة إلى تربية جديدة حتى تبدع في الحاضر كما أبدعت في الماضي. ويضع الأفغاني قواعد لتربية الأمم لا عن طريق الجرائد الأجنبية بل عن طريق تعلم القراءة والكتابة لفهم الحياة الوطنية، وليس عن طريق إنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة على النموذج الأوروبي لحاجة ذلك إلى سلطان قوي، بل عن طريق المدارس الأهلية القادرة على التعليم الوطني. ولا يتم ذلك تدريجيا بالضرورة؛ لأن الأمة لا تعرف هذه العلوم الغريبة عنها ولا كيف بدأت، وفي أي تربة نبتت. ويكفي نقلها كما فعل العثمانيون والمصريون؛ لأنها ارتبطت بالبيئة التي نشأت فيها، وبنظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني. لذلك لم ينجح النقل من الخارج. وبدلا من التشدق بألفاظ الحرية والوطنية دون فهم لمعانيها يمكن البحث عن هذه المعاني أولا والتعبير عنها بعديد من الألفاظ الموروثة أو الوافدة. ويمكن أيضا تغيير عادات الشرقيين وقلب أوضاع المباني والمساكن وتبديل هيئات المأكل والملبس والفرش والتنافس مع الأجنبي فيها بعادات أصيلة جديدة أكثر قدرة على مواجهة تحديات العصر. لكل أمة طورها الحضاري، ولا يمكن انتحال طور أمة لأمة أخرى أو تقليدها كما حدث للأفغان من تقليد الإنجليز، فأصبحوا أعوانا لهم وامتدادا. ولا يمكن النضال ضد الاستعمار بتقليد المستعمر بالرغم من مقولة ابن خلدون بأن المغلوب مولع بتقليد الغالب إما إحساسا بالنقص أمامه أو لمحاربته بسلاحه.
2
وقد يكون التقليد أيضا للقدماء والأسلاف وهو الأقل شيوعا عند الأفغاني؛ فتقليد الغرب أخطر من تقليد القديم الذي يمكن محاربته بضرورة الاجتهاد، ومن الطبيعي أن يقلد المسلمون آثارهم القديمة، آثار العرب والعجم المدفونة عند القدماء، الآثار العلمية والعملية، آثار الفتوحات والنهضة والعمران. ومع ذلك فالمسلم، عربيا كان أم أعجميا، إنما يعجب بماضيه وتراث الأسلاف، وهو في أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله وكيف يجب أن يكون.
ليس الفتى من قال هذا أبي
ولكن الفتى من قال ها أنا ذا
3
ويأخذ الصراع بين الأصالة والتقليد شكل الصراع بين الأجداد والأحفاد. يعيب الأفغاني على الأحفاد عدم اتباع سنن النبي، والفخر بالثبات والصبر والإقدام والبسالة والاعتصام بحبل الله، ويدعوهم إلى استلهام الأجداد. ويستنفرهم للتمسك بالأصالة التي يرمز لها الأجداد. فللأحفاد حق في ميراث الأجداد. وفي نفس الوقت يؤيد الأفغاني الشباب في معركتهم ضد الشيوخ. فمن سفه الرأي أن يعتقد الرجل أفضليته على الغير بالعمر والمشيب فقط. وربما أفادت السنون تجارب ولكن الأقدمية لا تجدي الأفضلية غالبا. ليست الأفضلية بالعمر والزمن ولكن بالعمل. وتجربة العمر قد تكون أقل من علم الشباب. العلم قد يكون في الأحداث ولكن التجارب لا تكون إلا في الشيوخ، وبالرغم من أن كثيرا من الآباء يستميتون ليحيوا أبناءهم فقليل من الأبناء لا يستثقلون طول حياتهم ويستعجلون موتهم. فالآباء أكثر رحمة من الأبناء، والأبناء أكثر قسوة على الآباء.
4
والسبيل إلى تجاوز التقليد هو العودة إلى الأصول الأولى المبرأة من البدع، والتي تؤدي إلى الاتحاد ولم الشمل، وتفضيل الشرف على لذة الحياة، والحث على الفضائل. والدليل على ذلك تاريخ الأمة العربية ونبوغها العلمي في الماضي بعد أن عرفت طب بقراط وجالينوس وهندسة إقليدس وهيئة بطليموس وحكمة أفلاطون وأرسطو. ودليل آخر اليابان الحديثة. ليس صحيحا أن اليابان قد ارتقت بتقليد الغربيين دون توسط الدين. فاليابان مثل الصين أخذت بالأفضل، تركوا الأوثان وأخذوا العلم، وقلدوا الغرب على نحو صحيح، وأقاموه على قواعد المدنية السليمة والمتفقة مع أخلاقهم وعاداتهم، ونبذوا ما كان مألوفا في الغرب ولا يوافق طباعهم. أخذوا بالتدريج والارتقاء، لا فرق بين ذكر وأنثى في التربية على حب الوطن. لم تقم اليابان حضارتها على وثنيتها بل على العلوم الحديثة وعلى أخلاقها وآدابها. اليابان أمة شرقية مثل الصين ومصر تعتمد على العلم والعقل كما نص القرآن
وما يعقلها إلا العالمون ،
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، وكما أوصى الحديث
اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد . ومما ساعد اليابان في نهضتها العمرانية ميل الإمبراطور الميكادو «العادل» إلى تقييد الحكومة بالدستور وقبوله الشورى. فبعث البعثات إلى أوروبا لتعليم أسرته أشكال الحكم النيابي الدستوري وقواعده حتى تعجب إمبراطور النمسا من شدة رغبة إمبراطور اليابان في الحكم الدستوري النيابي، وهم يريدون التخلص منه في الغرب. وذهب تعجبه عندما أخبره إمبراطور اليابان بأنه يقيم حياته على أربعة أشياء: بلاده، ورعيته، والعدل، وأخيرا احترامه لنفسه. ولا تتحقق هذه المبادئ الأربعة إلا بالحكم النيابي الدستوري. تعلمت اليابان أنه لا قوة مع الجهل، ولا ضعف مع العلم. فتحملت جور الغربيين، وأخذت بالتقليد الصحيح، وأرسلت البعثات إلى أوروبا بالمئات في العلوم والفنون. وبعد ربع جيل انتظمت المحاكم وعم العلم، وانتشرت المدارس الوطنية، وأسست هيئات اجتماعية وقومية حديثة صحيحة دون تقليد للإفرنج. ورفعت التهم عن الشرقيين بأنهم لا يحسنون الإدارة أو معرفة الحقوق أو العدالة. استعملت اليابان أولا عددا من الإخصائيين الأجانب ثم تفوق اليابانيون عليهم وأخرجوهم من بلادهم بعد أن أصبحت اليابان دولة شرقية متفتحة، مع أن مصدر شقاء باقي الشرقيين الامتيازات الأجنبية، والمحاكم المختلطة الأجنبية التي تحابي الأجنبي على الوطني. والناس أبناء ما يحسنون. ولله في خلقه شئون.
5
فواضح إعجاب الأفغاني بتجربة اليابان التي يقارنها بتجربة محمد علي، الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الماضي والحاضر، بين العلم والحرية. ولا يفصل الصين كما يفصل اليابان.
والاجتهاد عند الأفغاني طريق التمسك بالأصالة والمعاصرة في آن واحد، والبعد عن تقليد القدماء والمحدثين. الاجتهاد ضد التقليد. فباب الاجتهاد مفتوح. ولم يغلق باب الاجتهاد لا نصا ولا عقلا ولا واقعا. وينكر الأفغاني كل قول يسد باب الاجتهاد. بل إن الاجتهاد عند الخلف أكثر منه عند السلف. فما أقل المجتهدين في السلف وما أكثرهم في الخلف. ويرفض قول القاضي عياض في إحدى المسائل. فهذا اجتهاده الذي قد يؤدي إلى الجمود. ويحق لغيره ومن يأتي بعده أن يجتهد من جديد نظرا لتبدل الأزمان. فلماذا يقال باب الاجتهاد مسدود؟ وأي دليل نصي أو عقلي أو تاريخي يدل على ذلك؟ وأي إمام قال إنه لا ينبغي لأمير أن يجتهد بعده والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان؟ ولو عاش أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل اليوم لجددوا مذاهبهم القديمة طبقا لظروف العصر. واجتهاد القدماء ما هو إلا قطرة من بحر
وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء . لقد نزل القرآن بلغة العرب
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ،
إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ،
إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ، وذلك من أجل أن يفهم وأن يعمل الإنسان بالعقل لتدبر معانيه وفهم أحكامه ومقاصده. وفكر الأفغاني هو فكر شرعي يقوم على الاجتهاد عن طريق الالتحام المباشر بالواقع والتنظير المباشر له اعتمادا على روح الإسلام ومقاصد الشريعة وليس القياس الفقهي القديم الآلي الثابت، تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة. فالنص هو الواقع، والعلة مقاصد الشريعة، والفرع أحوال المسلمين من استعمار وقهر وتسلط وتخلف وتجزئة، والحكم هو النضال والثورة. يعتمد على المعقول والمنقول والمعاش. والاجتهاد مذكور بنص القرآن.
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون . لقد أضر جمود بعض المستعلمين بالإسلام والمسلمين. لذلك يفتخر الأفغاني بصفات التعقل والتروي وانطلاق الفكر من الأوهام. نعم، في الإمكان أبدع مما كان. وتعجز العين المجردة عن رؤية الأشباح والأجرام البعيدة، وتستعين بالمجاهر والنظارات. وإذا كان على مستوى الخلق ليس في الإمكان أبدع مما كان فإنه على مستوى الصنعة هناك باستمرار في الإمكان أبدع مما كان. والعصامي قد يكون لمن يخلفه عظاما. والعظامي فقط قد يبقى وارثا للعظام.
6 (2) الإسلام والنصرانية
ويتجلى الصراع بين الأنا والآخر في الإسلام والنصرانية، أو الشرق والغرب، أو التحرر والاستعمار، أو السقوط والنهضة، ويبدأ الأفغاني بآية قرآنية
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
من أجل النظر في التاريخ، والإجابة على سؤال شكيب أرسلان تلميذه: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ ويبدأ بتقرير واقع حسي بديهي، أن الله خلق الإنسان عالما صناعيا، ويسر له سبل العمل، وهداه إلى الإبداع والاختراع، وقدر له الرزق من صنع يديه، يفلح الأرض ويرعى الحيوان، ويخيط الملابس، ويبني المساكن تحقيقا لفكره وإبداعه. ولو لم يعمل ويجتهد لعاش عالة على غيره يستجدي العون. وهو في فكره وعمله في حاجة إلى من يرشده ويعلمه وهو الدين. فالدين مرشد للحياة. وتتنازع في الإنسان صفتان متناقضتان: الشجاعة والجبن، الجزع والصبر، الكرم والبخل، القسوة واللين، العفة والشره، الكمال والنقص. لذلك احتاج إلى التربية منذ طفولته الأولى لتنشئة الإنسان على الفضائل دون الرذائل. وتبدأ في الإنسان ثلاثة بواعث: الأول يرفعه نحو الأسرار الإلهية وبالتالي اكتشاف الدين، والثاني نحو الخواص الطبيعية وبالتالي اكتشاف العلم، والثالث نحو الحقائق الإنسانية وبالتالي اكتشاف العلوم الإنسانية. ويعتمد في إشباع هذه البواعث على كل ما اختزن الآباء والأمهات والأقوام والمربون. أما التكوين البدني فلا شأن له بالاستعدادات الذهنية إلا قوة أو ضعفا. الاستعدادات موجودة بالطبع، ويختلف الناس فيها قوة وضعفا، فطرة واكتسابا. قد يتفوق فيها السابقون على اللاحقين، وقد يتفوق فيها اللاحقون على السابقين. ويظل للروح سلطان على البدن والذهن كما يقضي بذلك العقلاء.
والدين وضع إلهي، والبشر هم الداعون إليه، تتلقاه العقول عن المبشرين المنذرين. فهو مكتسب لمن لم يخصهم الله بالوحي ومنقول لهم بالإبلاغ والدراسة والتعليم. وهو أول ما يمتزج بالقلوب، ويرسخ في الأذهان، وتصطبغ به النفوس، وما ينتج عنه من عادات وممارسات بدنية، وعزائم وأدوات. فهو سلطان الروح ومرشدها لتدبير البدن وكأن الإنسان مجرد لوح أبيض ينقش عليه الدين أول ما ينقش. ولو خرج الإنسان على الدين لم يخرج عما تركه فيه من صفات. واضح أن الأفغاني يجعل تقدم النصرانية وتخلف الإسلام إنما هو راجع لقانون تاريخي، القدرة على السيطرة على العالم وإعادة تصنيعه بهدي الدين. وأن الإنسان به الخير والشر، ورسالته في العالم تقتضي غلبة الخير على الشر. وأن الإنسان في بواعثه إما يكون عالما إلهيا أو عالما طبيعيا أو عالما إنسانيا. وهي مقدمة ضرورية للإجابة على سؤال تخلف المسلمين وتقدم النصارى وإرجاع ذلك للدين دون أن يطور ملاحظاته بأن النصارى تركوا الدين القديم وأخذوا دين العقل والعلم والإنسان والطبيعة فتقدموا، وأن المسلمين أخذوا الدين الشعائري العقائدي الفقهي وتركوا الدين العقلاني العلمي الإنساني الطبيعي فتخلفوا.
7
وقامت المسيحية على المسالمة والمياسرة في كل شيء، ورفع القصاص، وطرح الملك والسلطة، ونبذ الدنيا وبهرجها، وأوصت بطاعة ملوك الدنيا وترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله، والابتعاد عن التنازع والأحقاد والأهواء كما هو الحال في الوصايا على الجبل. هذا على مستوى النظر، وهي مبادئ صحيحة في كل دين. أما على مستوى العمل فقد قام المسيحيون بعكس ذلك، التقاتل على الدنيا، والمفاخرة والمباهاة، ورغد العيش، والصراع بين الممالك، والتغلب على الأخطار. يبدعون في فنون الحرب، ويستعملونها ضد بعضهم البعض وضد الغير، فانقلب المثال إلى ضده. وتحول المسيحيون إلى وثنيين، وبدلا من تطبيق محبة الجار طبقوا شريعة الغاب. وقام الإسلام على طلب الغلبة والشوكة والفتح والعزة، ورفض كل قانون يخالف شريعته، ونبذ كل سلطة لا تقوم على أساسه، فهم أهل قتال وحرب، وعلم وقوة،
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة . لذلك حرمت الشريعة المراهنة إلا في السباق والرماية أي في الفنون العسكرية. وهي مبادئ صحيحة للإسلام ولكل دين يبغي العزة لقومه في الدنيا والنجاة في الآخرة، أما على مستوى العمل فإنهم مستضعفون متخلفون مستعمرون أذلاء، فاقتهم الأمم الأخرى في الفنون العسكرية وأصبحوا مقلدين لها. عاشوا تحت سلطة مخالفيهم، ورضخوا لهم. لقد اخترع أهل النصرانية مدافع الكروب والميتراليوز وبندقية مارتين، وأحكموا الحصون، وأقاموا البواخر قبل المسلمين. وهنا تكمن المأساة، تحول النصارى إلى مسلمين فتقدموا، وتحول المسلمون إلى نصارى فتأخروا. كل فريق عمل عكس ما توحي به تعاليم دينه، فتقدم النصارى، وتخلف المسلمون.
ويتساءل الأفغاني: ألم ترسخ الديانتان في قلوب الناس؟ هل نبذت كل ملة عقيدتها وكتبها المقدسة؟ هل تبدلت سنن الكون؟ هل طغت الأبدان على الأرواح؟ هل طغى الخيال على العقل؟ هل انقلب الناس على الدين وعصت النفوس؟ هل السبب اختلاف الأجناس مع أن البشر متقاربون وينتسبون إلى أصل واحد؟ هل السبب اختلاف الأقطار وطبائع البلدان؟ ولا يجيب الأفغاني على هذه التساؤلات ولكن يعطي حجة تاريخية. فالتاريخ خير شاهد؛ فقد تمثل المسلمون الأوائل الإسلام فبهروا الأبصار. وانتصر العرب والفرس والترك بفضل الإسلام. وكانت للمسلمين في الحروب الصليبية آلات نارية مثل المدافع أفزعت المسيحيين، وكان محمود الغزنوي يحارب الوثنيين في الهند بالمدافع، فهزمهم عام 400ه قبل أن يعرف النصارى عنها شيئا. فلماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ تقدم النصارى ضد قواعد دينهم، وتخلف المسلمون ضد قواعد دينهم كذلك. كان سبب تقدم النصارى أنهم أبقوا على عادات وطبائع الرومان، وبقيت في الأعماق. وجاءت النصرانية ولم تغيرهم في شيء. بقيت النصرانية في الكنائس والأديرة، خارج الحياة العامة. ثم شرعوا الحروب الصليبية فانتهت النصرانية، وتزعزعت العقائد، وعادوا كلهم إلى الوثنية التي نشئوا عليها، وأصبحوا مسيحيين في الظاهر، وماديين في الباطن. أما المسلمون فبعد تمثلهم الأول للإسلام وأصوله ظهر أقوام بلباس الدين، وأدخلوا في أصوله ما ليس منه. فانتشرت عقائد الجبر والاستكانة بالإضافة إلى ما أدخله الزنادقة والسوفسطائيون في القرنين الثالث والرابع، ووضع الأحاديث المهبطة للعزائم. وتحول السم من الخاصة إلى العامة خاصة بعد انحسار التعليم والتقصير في الإرشاد. ولم يبق الدين إلا عند خاصة الخاصة. ومع ذلك لو أصبح المسلمون مسلمين، أو عادوا إلى الأصول لخفت العوارض وما لحق بهم من تخلف في التاريخ. هذه المقارنات بين المسلمين والنصارى تقوم على المرآة المزدوجة، قراءة الأنا في مرآة الآخر وقراءة الآخر في مرآة الأنا مع بيان أوجه التشابه والاختلاف بين التجربتين التاريخيتين كما فعل الطهطاوي في
تخليص الإبريز
وكل أدب الرحلات الذي حاول
علم الاستغراب
تحويله إلى علم دقيق.
8
وإذا كانت أوروبا قد وصلت إلى مبادئ الإسلام ومقاصد الشريعة بالعقل فإن أهل أوروبا يكونون مستعدين لقبول الإسلام إذا أحسنت الدعوة إليه. فالإسلام مقارنة بالديانات الأخرى يتسم بيسر العقائد وقرب تناولها. وأقرب الناس إليه الأمريكيون. فلا يوجد بين الإسلام وأمريكا عداوة كما هو الحال بين الإسلام وأوروبا، وقد تحققت نصف نبوءة الأفغاني، وانتشر الإسلام بين الأفريقيين الأمريكيين، الإسلام الأسود، وأصبح قوة مؤثرة في حياة الأمريكيين في الداخل والخارج بما يمثله من دعوة إلى الفضائل وسياسة خارجية لصالح الشعوب. ولم يتحقق النصف الآخر وهو تحول أمريكا إلى عدو للإسلام مع أوروبا خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والبحث عن عدو جديد. وقد لفت القرآن نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام؛ لأنه يدعوهم بلسانهم، العقل والتجربة. ولكنهم يرون سوء حال المسلمين فيتراجعون عن الإسلام. ومن ثم يكون السبيل إلى الدعوة إلى الإسلام، التغير العملي والتحقق بالإسلام. فالقرآن أول من دعى إلى الوصول إلى الحقائق بالبراهين الفلسفية والبحث عن العلل. وقد كان العرب في الجاهلية لا شيء معهم. وبفضل القرآن ملكوا العالم، وفاقوا الأمم علما وصناعة، فلسفة وحضارة. وإذا استطاع القرآن ذلك قديما فهو قادر على أن يصنعه اليوم. العيب في المسلمين والتبعة على الأمة، الانصراف عن الأخذ بروح الإسلام والعمل بمعانيه ومضمونه، وانشغال المسلمين بالألفاظ والإعراب، والوقوف على الباب دون الدخول إلى المحراب. وكما لخص تلميذ الأفغاني القضية عندما ذهب إلى الغرب، فقال: رأيت إسلاما بلا مسلمين، وعندنا مسلمون بلا إسلام.
9 (3) الشرق والغرب
الشرق والغرب أحد مظاهر ثنائيات الأنا والآخر على مستوى المواجهة وكما بدت في الاستعمار الحديث. ويرسم الأفغاني صورتين للشرقي والغربي ويحدد معالمهما وخصائصهما التي تجعل الغربي يستعمر الشرقي، والشرقي يقبل استعمار الغربي. ويأخذ الإنجليزي نموذجا للغربي. فالإنجليزي قليل الذكاء عظيم الثبات، كثير الطمع والجشع، عنود صبور متكبر، على عكس ما هو شائع من ذكاء العربي. وواضح أن هذه الصفات إرادية أكثر منها ذهنية، رومانية أكثر منها يونانية. ويأخذ العربي نموذجا للشرقي. فالعربي أو الشرقي على عكس الإنجليزي كثير الذكاء، عديم الثبات، قنوع جزوع، قليل الصبر متواضع. فواضح أن صفات الشرقي هي العكس، صفات ذهنية، وعيبه ضعف الإرادة وجزعه وعدم ثباته وصبره ونقص طموحه. فكان من الطبيعي أن يستعمر الغربي الشرقي بهذه الصفات المتباينة. فالاستعمار إرادة بلا عقل. كما يثبت الإنجليزي على الخطأ إذا تسرع وقاله أو باشره، والشرقي لا يثبت على الصواب ولا على طلبه. فيفوز الإنجليزي على العربي بفضيلة الثبات، ويخسر العربي أو الشرقي كل حق لرذيلة التلون والتردد وقلة الثبات وعدم الصبر. استعمر الغربي الشرقي لثبات الغربي وتردد الشرقي وهي صفة أيضا من صفات الإرادة إيجابا وسلبا، والأفغاني يعيش في عصر نيتشه ، وتوفي قبله بثلاثة أعوام. وما أكثر ما ورد في القرآن من ذكر للصبر
اصبروا وصابروا ،
والذين صبروا ،
ولو أنهم صبروا ،
وبشر الصابرين . والأمة العربية خاصة والمسلمون عامة أحوج ما تكون إلى الصبر والثبات. يستهويها الوعد الكاذب وترضى به ولا تصبر على الوعد الصادق، وتخسر في الحالتين؛ فالأفغاني لا يشخص الداء ولكنه يشير إلى الدواء. وربما تغير الأمر الآن بعدما أصبح الصبر داء لا دواء.
والمصريون خاصة والشرقيون عامة في لقائهم مع الإنجليز أو الغرب مثل رجل مثر ترك من الأموال والأملاك وخلفه ورثة سفهاء مبذرون. لذلك قضت الشريعة بالحجر على الوارث. وهذا الوصي هو الغرب. وفرق بين حجر الشريعة الذي يمكن أن يرفع وبين وصاية الغرب الباقية إلى الأبد فتتحول إلى استعمار وتملك واستعباد. ويتخذ الغرب ذريعة حفظ حقوق السلطان أو إخماد فتنة ضد الأمير أو إنقاذ نصوص الفرامين أي صكوك الدائنين أو حماية حقوق المسيحيين أو الأقليات أو حقوق الأجانب وامتيازاتهم أو دفاعا عن حرية الشعوب المقهورة أو تعليم أصول الاستقلال أو إعطاء الشعب حقوقه تدريجيا من الحكم الذاتي أو إغناء الشعب الفقير بالإشراف على موارد ثروته. ويصدق الشرقي هذه الدعوى كما قال الشاعر.
ما زال يغدق آلاء ويشفعها
بما يفوق أماني النفس بالعظم
فيطيع الشرقي الغربي منتظرا تحقيق الوعود. والغربي نفسه يعتبر الشرقي خاملا جاهلا متعصبا. أراضيه خصبة، ومعادنه كثيرة، ومشاريعه كبيرة، وهواؤه معتدل، والغربي أولى بالتمتع بكل هذا عن الشرقي، ويضع خطة للاستيلاء عليه. فالبقاء للأصلح. ويستعمل لذلك عدة أساليب، منها: إقصاء كل وطني يمكن أن يجهر بمطالب وطنية، تقريب الأسقط همة، والأبعد عن المطالبة بالحق، تفريق البلاد طوائف وشيعا، وإيثار واحدة على الأخرى حتى يقع الشقاق بينهما، ويتقارب كل منهما للأجنبي طالبا العون والتأييد ضد الطوائف الأخرى.
10
ولا يتم مطلب الاستقلال إلا بترقية النفس بالعلم الصحيح، والوقوف على مواطن الضعف، ومعرفة الواجبات، وكيفية تحقيق الهدف، واقتصاص الضعيف من القوي، واتفاق الكلمة، وجمع الأهواء. نهض الغرب بالعلم والعمل، وانحط الشرق بالجهل والكسل. الداء دفين في جسم الشرق يجب معرفته قبل طالب الدواء. والدواء هو العزة كما قال الشاعر:
عش عزيزا أو مت وأنت كريم
بين طعن القنا وخفق البنود
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
وهو دواء أخذه الغربيون فحقق لهم العظمة والاستعلاء. ووجده الشرقيون مرا فطرحوه جانبا كما قال الشاعر:
ولا يقيم على ذل يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
والأديب في الشرق يموت حيا ويحيا ميتا، بينما الأدباء في حياتهم أفقر الفقراء فإذا هم بعد الموت يصيرون بالرثاء وحفلات التأبين أغنى الأغنياء. فلا يلتفت إلى عظمائه إلا بعد مماتهم.
الشرق في حاجة إلى عمل جديد، وجيل جديد، وعلم صحيح، وفهم جديد لحقيقة معنى السلطان على الأجساد والأرواح وهو الدين، وجمع شتات أهل الأديان، وقبول الموت في سبيل الحياة، حياة الوطن. وقد تأسست جمعيات أهلية لتكوين جيل جديد لا يقرع باب السلطان ولا تضعف إرادته، ولا تهن عزيمته، ولا يغريهم الوعد بالمنصب، ولا تلهيهم تجارة أو مكسب، وارتياد المكاره لنجاة الوطن. ويؤول الأفغاني حديث الرسول
اشتدي أزمة تنفرجي
بأن الأزمة هي تلك الهمة التي يستثيرها في الشرقيين، وهي سنة الله في الخلق وأداة تحريك التاريخ كما قال الشاعر:
ومهما ادلهم الخطب لا بد ينجلي
وأظلمت الدنيا فلا بد من فجر
هذه الهمة هي التي خلقت مجد الأقدمين في العراق والشام والأندلس ضد روح اليأس والقنوط. لقد حاول الغرب إضعاف لغة الشرقيين والتدرج بقتل التعليم القومي، وتشجيع احتقار اللسان القومي، وإيهامه بعجزه عن الإبداع الأوروبي حتى ينفر الشرقي من لغته وآدابه ويقع في الرطانة الأعجمية واستجداء المناصب من الغربيين. ويمكن مواجهة ذلك بتعليم وطني، تكون بدايته الوطن، ووسيلته الوطن، وغايته الوطن.
لا ينفع في الشرق لسان ولا قلب طالما خلق المالك والمملوك، الأمير والصعلوك، العالم والجاهل سواء في العالم الصوري قبل الخلق المادي، وطالما يرى الشرقيون في الحقيقة مرارة، وفي الوهن حلاوة، وفي الذل هناء، وفي طلب العلا والعز الشقاء والعناء، المشكلة في الشرق إذن مشكلة سياسية، السيد والعبد، الراعي والرعية ، وطالما لا يتم القضاء على هذه الثنائية، ثنائية الأعلى والأدنى، التصور الرأسي للعالم، الاستبداد الشرقي ينتهي كل إصلاح في الشرق إلى طريق مسدود، ويظل الشرقيون ضحية الوهم، ويعوج الشرقي باعوجاج حاكمه، ويستقيم إذا استقام. لذلك لا ينطبق على الشرقيين
مثلما تكونون يولى عليكم
بل ينطبق عليهم
مثلما يولى عليكم تكونون
ليس الحاكم من نوع المحكوم، بل المحكوم من نوع الحاكم. الأول طريق الديموقراطية والشورى، والثاني طريق الدكتاتورية والتسلط والقهر.
11
وكما لاحظ ابن خلدون من قبل أن المغلوب مولع بتقليد الغالب.
ولهذا التقابل بين الشرق والغرب طمع الغرب في الشرق. وامتدت مطامع الغرب إلى عموم دول الشرق. وأصبحت ممالك الشرق وأهله مهددة بأن يكون مصيرها مثل مصير مصر والاحتلال، والاحتلال سبب الفوضى وارتكاب المنكرات والتعدي والسرقات. فالشراك منصوبة والسقوط قريب إلا إذا نهضت الأمم الشرقية ووحدت كلمتها ونشطت عقولها، وعمل أولو العزم، وحفظت أسباب الملك، ومقومات الحرية والاستقلال. وشر أدواء الشرقيين اختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف. وبعد تقسيم الدولة العثمانية إلى عشر خديويات، لكل منها استقلالها الذاتي في نظام لا مركزي، تطالب إيران وأفغانستان والهند الآن بالاعتماد على السلطنة حماية لها من مطامع الغرب وحتى يعود الشرق للشرقيين. كان هدف الأفغاني إذن إيقاظ المسلمين والشرقيين بالحجج والبراهين وإظهار فظائع حكمهم ليبين لهم أسباب الاستعباد والذل والمهانة لمن لم يسقط بعد من ممالك الشرق في براثن الاستعمار أو ليؤجل سقوطه ويلم شمله. ولكن انهيار ممالك الشرق كان لا يمكن إيقافه وهو في الانحدار لبعده عن الدين، والمسكنات لا تغني عن المرض والموت، وموت الأموات خير من ميت الأحياء، وكأن الأفغاني هنا مع حتمية التاريخ في السقوط والنهضة.
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
وبسبب هذا الطمع، وهو الباعث الأخلاقي على نشأة الاستعمار، وسع الأوربيون ممالكهم، وتفننوا في ذلك بالحرب والقتال والغزو أو بالدهاء والحكمة واللين والخديعة. وقد أدى كلاهما إلى الاستعمار، وتحويل ممالك الشرق إلى مستعمرات، وحكامه إلى مستعمرين. ولفظ «الاستعمار» من الأضداد فإنه يعني الإعمار والتعمير حسب الاشتقاق، ولكنه في الواقع يعني التخريب والاسترقاق والاستعباد، ولا تستعمر إلا البلاد الغنية في ثرواتها ومعادنها وتربتها لجهل أهلها وخمولهم. ولا تنفع المقاومة الضئيلة أمام المعدات الحديثة. وقد يدخل الاستعمار بلعبة حربية، انتصارا لأمير أو تثبيتا لملك أو قمعا لثورة وبدعوى الصداقة وحب الشعب ورقيه، الاستعمار تسلط دول وشعوب قوية على دول وشعوب ضعيفة وجاهلة. فالقوة والعلم أسباب حركة الشعوب والتاريخ إلى مناطق الضعف والجهل. فهو قانون تاريخي ثابت. والدول تخضع لقانون الحياة، القيام والسقوط، النهضة والانهيار، وهي قوانين الحياة والموت. الضعيف يخشى من القوي ويرهبه، والقوي يستذل الضعيف ويستعبده. استعمر الإنجليز الأمريكيين، فقام الأمريكيون بثورة ضد الإنجليز، وتحرروا من الاستعمار دون اللجوء إلى الشكوى. وقاد استقلالهم جورج واشنطن طبقا لقول الشاعر:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
كما استقلت ولايات العثمانيين، اليونان والعرب والجبل الأسود وبلغاريا ورومانيا وهي دويلات صغيرة مدافعة عن الحرية والاستقلال. لا يفرق الأفغاني إذن بين استعمار إنجلترا لأمريكا واستعمار الأتراك لدول شرق أوروبا، ويأخذ صف المستعمرين حتى ولو كانوا من النصارى ضد المستعمرين حتى ولو كانوا من المسلمين. لم يكن حضور آل عثمان في دول البلقان حضور الفاتحين المسلمين الأوائل، حضور العدل والحرية والمساواة والتعريب بل كان حضور المستعمر الأجنبي، حضور الظلم والقهر والاستغلال والتتريك.
12
ويحلل الأفغاني بمزيد من التفصيل وكثير من التكرار وعدم الترتيب سياسة إنكلترا في الشرق واستعمارها لمصر والهند والسودان وقمعها لثورة عرابي في مصر وثورة المهدي في السودان وقضائها على إمبراطورية المغول ثم على ثورات الهند المتعددة منذ القرن الماضي. ويبدأ بصورة فنية، وهو الخطيب الثائر
هلع على ما في البيت فهلوع لإغلاق الباب، فانخلع المصراع، وانفض الجدار من ورائه . هذا حال بريطانيا في الهند وقناة السويس. كانت تريد باب أمن، فانخلع الباب وانهدم الجدار. أرادت إنجلترا بعد احتلالها مصر أن تدخلها تحت حمايتها، وتبدل بالجيش المصري جيشا إنجليزيا. وتقيم في السودان سلطة مستقلة، وإرضاء المصريين بتنظيم أموالهم وتسكين روع العثمانيين. ثم قسمت الممالك في الهند ، وأقامت لكل قسم حامية فيها حتى استولت على الهند تحت غطاء الإحسان الإنجليزي والاستبشار العثماني بما يحدث في مصر والهند.
ثم ظهرت الدعوة المهدية في السودان. وسارعت إنجلترا بالتدخل في مصر كطريق للهند. وسالت الدماء على سواحل البحر الأحمر. ونفرت القلوب من الإنجليز. وبدأ الخوف في المغرب الإسلامي وطرابلس الغرب والشرق الإسلامي. فجزيرة العرب باب الهند. وأرسلت إنجلترا جوردون باشا إلى السودان لتفريق كلمة المحاربين فشتتهم ظلما، وجلب قساوسة بروتستانت من السويد لنشر المسيحية بين المسلمين لإخماد الثورة، وأراد منح المهدي لقب أمير كردفان. ولكنه أخفق في سعيه. فذهبت قوة إنجليزية بقيادة الجنرال جراهام إلى سواحل البحر الأحمر لاسترجاع شرف بيكر وهس من الضباط الإنجليز الذين هزمهم أنصار المهدي. وغلبوا ثلاثة آلاف من العراة السودانيين، وقتل منهم ثمانمائة بدوي ومع ذلك لم تجبن القبائل وظلت تحارب وتقاوم. وقد فتك المهدي بعشرة آلاف جندي بريطاني مرة، ومرة أخرى بألفين وخمسمائة، وكلهم تحت مشاهير قواد جيش إنجلترا. فلا يفت في عزمه انهزام بعض المنتسبين إليه. تخيلت إنجلترا أنها نجحت وهنأتها الدول على انتصارها في معركة وكأنها نابليون الأول أو غليوم الثاني. وليس في أفكار غوردون أن يخمد الثورة ولكنها قد تهدأ قليلا بفضل العثمانيين والمصريين المتعاطفين مع المهدي.
كان يكفي إنجلترا حفظ باب الهند بتأييد العثمانيين والمصريين. ولكنها التفتت إلى تقوية باب الهند الشمالي، أفغانستان وباكستان. ولم يغن الباب عن انهيار البناء كله. فقد لجأ التركمان في مرو إلى روسيا بعد أن كانوا مستقلين. وقد يتبعهم تركمان سرخس وينضمون إلى فارس، وهم مخالفون لهم في المذهب فيفتح بذلك الطريق إلى روسيا إلى فراه ثم إلى قاين ثم إلى سجستان ثم إلى الهند. وهناك قبائل أفغانية في ضجر من حكومتها قد تتبع أبناء عمومتهم التركمان. وقد تخرج قبائل أخرى على الأفغان ضد سلطة أهل السنة، وقد كانوا في الحرب الأخيرة مع الإنجليز. وقد يتجاوزون إلى روسيا لوعودها لهم، فيمتد سلطان روسيا إلى شمال الهند، وتهدد الهند، وربما يمتد إلى قناة السويس، والإيقاع بقبائل الأفغان واختلافها على الإمارة بعد أن تقربت إلى ألمانيا والنمسا، وعقدت معاهدة معهما على حفظ السلام في أوروبا حتى تتفرغ لآسيا . فهل يمكن للإنجليز تفهم الخطر القريب وألا يقعوا في شرك المسألة المصرية. يخافون منها ويقعون في شركها، وهم لا يقدرون عليها إلا بمعونة العثمانيين وبعض المصريين؟ فواضح أن الأفغاني هنا يؤسس سياسة ضرب إنجلترا بروسيا، وضرب روسيا بإنجلترا، واللعب على تناقض المصالح بين القوتين الكبيرتين في عصره، تخويف إنجلترا بروسيا، وتخويف روسيا بإنجلترا كما حدث نفس الشيء، بعد ذلك أثناء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وقيام حركات التحرر الوطني وقادة العالم الثالث خاصة عبد الناصر بالاستفادة من التناقض بين المعسكرين المتنازعين لصالح الاستقلال الوطني للشعوب المتحررة.
13
ومع ذلك يبدو الأفغاني أكثر تعاطفا مع روسيا كما كان عبد الناصر فيما بعد، وأكثر عداوة للاستعمار الغربي ممثلا في إنجلترا كما كان عبد الناصر معاديا للاستعمار الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. فبريطانيا تفتح البلاد وتوقع بين أهلها البغضاء، وتتدخل في أمور الشرق، وتستعمر الهند ومصر لاستعباد أهليهما. الإنجليز في ذاتهم أمة من أرقى الأمم تعرف العدل في الداخل، ولكنها تمارس الظلم في الخارج. الإنسان له حق الحياة. وهو الإنجليزي، ولغيره من البشر الموت، ليس في الوجود إلا الله وحق الإنجليزي، الطمع دافعه. وكل بقعة غنية في العالم له. لذلك لا يصدر عنهم في الخارج إلا الظلم. ووسيلتهم المكر والخديعة. ومن السفه مطالبة الشرقيين الإنجليز بالعدل أو الإنصاف؛ لأن معنى العدل هو التخلي عن البلاد وهو ما لن تقبله إنجلترا. يكشف المعيار المزدوج لإنجلترا العدل في الداخل، والظلم في الخارج، التشدق بالعدل كمبدأ عام ثم تخص نفسها بالوصاية على النوع الإنساني.
ومما ساعد على استعمار الشرق من الغرب، تفكك عرى الأمة الإسلامية وعدم الاتصال بين الأقوام مثل الأفغان والإيرانيين؛ فقد وقعت ثورة الهند عام 1860م، ولم تصل أخبارها إلى إيران وأفغانستان إلا بعد أن تمكن الإنجليز من إخمادها، وكذلك لا يعرف الهنود أخبار إخوانهم المسلمين؛ فالتركي والمغربي، والتونسي والجزائري والمراكشي يعلمون أنه توجد مقاطعة اسمها الهند بها ملايين من المسلمين الهنود، ويعلم الهنود أن على الأرض دولة عثمانية إسلامية، يفرحون لفرحها. ومع ذلك تجهل كل أمة أحوال الأمم الأخرى. فلا يدري أحد أخبار الهند باستثناء وقوعها تحت الاستعمار الإنجليزي. والهند درة غالية في آسيا، كانت هدف الفاتحين منذ القدم ومطمح أنظار الملوك والسلاطين. زحف إليها الإسكندر، ودخلها فاتحا من الشمال كما فتحها جيش الحجاج من الشمال، من بخارى وكابول. ثم أعاد فتحها السلطان محمود الغزنوي. وعطش الجيش في الطريق فأعطى خادم السلطان له قربة ماء فأراقها أمام الجيش
لا خير في حياة إذا هلك الجيش . وفضل الموت إذا كان فيه سلامة العسكر فتحمس الجند، وساروا حتى وصلوا إلى مكان المياه ثم انقضوا على حصون الهند، ودكوها بالمدافع ثم فتحها تيمور لنك ثم نادر شاه الإيراني وأخذ من خزائنها وأموالها. وفتحت الهند بعد ذلك عدة مرات بحروب ومخاسر عديدة.
أما الإنجليز فقد ملكوا ثلث العالم بلا مخاطر ولا دماء ولا أموال. بل استعملوا سلاح الخديعة والحيلة، أسودا في ملمس جلود الأفاعي. يعرضون أنفسهم خدما صادقين وأناسا ناصحين، داعين إلى الأمن واستقرار النظام، وتثبيت الأمراء، وتنفيذ الفرمانات، وتأييد السلطان. فإذا تصدى لهم ملك شرقي حاذق شوشوا عليه، وألبوا عليه الرعية، وأثاروا عليه الأحقاد، وأيدوا، بدلا عنه، السفهاء من الأمراء، ودعوا إلى عصيانه أو الاتفاق معهم على خلعه، وتنصيب أمير ضعيف أحمق أو صبي لم يبلغ بعد سن الرشد من أبنائه أو أقاربه. فعلوا ذلك بالهند. انتشروا كتجار، وفرقوا كلمة الأمراء، وأقروا الراجات، وطالبوهم بالاستقلال والانفصال عن الدولة التيمورية لتقسيم الهند إلى ممالك صغيرة، وأغروا كل أمير بلقب. فإذا ما احتاج إلى المال عاونوه، مرة بالذهب، ومرة بالسيف. ونفروهم من عساكرهم، واتهموهم بالضعف والجبن والخيانة والإضلال، وطالبوا بإحلال الإنجليز محلهم لما هم عليه من قوة وبسالة ونظام وقيادة إنجليزية مع بعض الجنود الهنود. ووضعوا على كل عاصمة فرقة إنجليزية لحماية الحاكم، وأعطوها أسماء محلية مثل العمرية للحكومة السنية، والجعفرية للحكومة الشيعية، والكشتية للحكومة الوثنية . فإذا ما فرغت خزائن الحكام فتح الإنجليز خزائنهم، وأقرضوهم بفوائد كثيرة أو قليلة. فإذا ما عجز الأمير عن السداد طالب الإنجليز بقطعة أرض للاستفادة منها وسداد الدين وإرجاعها، فيضعون أيديهم على أخصب البقاع، ويؤسسون فيها القلاع والحصون على أبواب العواصم. ويغرون الأمراء بمزيد من الإسراف والتبذير، ويغرون الحكام بالحروب بينهم، ويأتون لمساعدتهم، ويجبرونهم على الصلح في مقابل تنازل المهزوم عن جزء من أرضه للمنتصر، وهم الخادم الصادق والناصح الأمين، حتى إذا ضعف الجميع قادوهم إلى السياف بجنوده أو خلعوه، وأحلوا محله أحد أعضاء العائلة المالكة بشرط أن يقطع لهم أرضا أو يمنحهم امتيازا، ويقع الكل في مخالب الإنجليز.
14
ويستمر الأفغاني في هذا الوصف التفصيلي المعروف في مصر أيضا في عصر إسماعيل وتكبيله بالديون ثم شراء أسهم قناة السويس وخلعه ووضع سعيد ثم توفيق مكانه حتى احتلال مصر، مركزا على شبه القارة الهندية خاصة في الشمال. فعندما وقعت الحرب بين الأفغانيين والبنجابيين خاف الإنجليز من تسلط الأفغان. فتدخلوا للصلح بينهم. وسحروا الأفغانيين بلين القول حتى تركوا لهم بيشاور وما يليها، وأجلى الأفغان بنجاب. وبعد ذلك بعشر سنوات زحف الإنجليز على بنجاب وافتتحوها بأنفسهم، واستولوا على بيشاور، وأدرك الأفغان الحيلة بعد فوات الأوان. وقد حدث أيضا أن خلع الإنجليز في الهند أميرا رأوا فيه البصيرة والحزم، وأقاموا بدلا منه ابنه، وجعلوا أنفسهم أوصياء عليه. واستولوا على خزائنه، وأداروا مملكته، واستولوا على عسكره، ولم يبق له إلا الاسم. وتم لهم ذلك تحت راية العدالة والإصلاح واستقرار النظام، والمحبة والإخلاص. وإذا اشتكى الملك إلى لندن تركوه حتى يجوع. وأمراء الشرق تلهيهم الألقاب والأسماء والألفاظ حتى ولو كانت مجردة من أية حقوق يلتذ بها، مثل: نائب، راجا، خديوي، سلطان. وفي نفس الوقت يستولي الإنجليز على كل الوظائف السامية. ويوزعون بعضهم على الطوائف لتقريب بعضها على البعض الآخر، مثل الفرس أولا الذين على دين زرادشت، وهم المجوس، ثم الوثنيون وأخيرا المسلمون. فليس للمسلمين حظوظ في الوظائف إلا ما يتركه المجوسي والوثني، وفي نفس الوقت يدعي الإنجليز أنهم أولياء المسلمين، وينفون علماء المسلمين الذين يؤمنون بآيات الجهاد في القرآن الكريم.
تحولت الهند إلى خراب بفضل الإنجليز بعد نهبها وتقطيعها . وأهان الإنجليز الهنود، يركلونهم بالعصي لأنهم ليسوا من البشر. وتسلط الإنجليز في الأماكن العالية مع أن البراهما الذي فتح الهند قادما من إيران لم يذل الهنود مع أنهم كانوا يعتقدون أنهم من سلالة الآلهة، وأشركوا الهنود معهم. وفتح المسلمون الهند، وعاملوا الوثنيين مثل معاملة المسلمين حتى أوقع الإنجليز بينهم الشقاق، يتهمون المسلمين بالتعصب مع أن في حكومة المسلمين سنة وشيعة ووثنيين وفي حكومات الإنجليز لا يوجد هندي في وظيفة شريفة، ولكن النعمة تجلب النقمة. ونعمة الهند جلبت نقمة الإنجليز لا على ما يحيط بالهند؛ لأن الإنجليز يعتبرونه من خلال ما يجب تأمينه حفاظا على الهند. أتت النقمة على العثمانيين ومصر. فقد استولت إنجلترا من العثمانيين على قبرص بحجة المحافظة على ممتلكات إنجلترا في شرق المتوسط، وربما كانت نفس الحجة لاحتلال مصر وقناة السويس باب الهند والسودان مصوع وسواكن وعدن وباب المندب وجبل طارق، وكلها أبواب للهند وأفغانستان وإيران. وقد حاول الإنجليز نفس التحايل على أفغانستان فلم تفلح فأتت بجيش قوامه ستون ألف جندي لاحتلاله وهم في أعلى درجات التسليح ولكن هزمهم الأفغان، فعاد الإنجليز إلى الحيلة. أما بلاد العجم فقد تم تقسيمها إلى مناطق نفوذ بين إنجلترا وروسيا اقتصاديا، ملاطفة الأفغان مرة والقسوة على إيران، وملاطفة إيران مرة للقسوة على الأفغان، ضربا للأخ بأخيه، والعدو كاسب في كلتا الحالتين، توحيد الأعداء، وتفريق الأصدقاء. ولم يأت الأفغاني الهند ليخيف بريطانيا أو لإحداث شغب عليها ولكن خوف بريطانيا من عالم أعزل يثبت ضعفها وعدم أمنها من حكمها. إنما مهمة الأفغاني استنهاض الهنود ويقظة الشرق في مواجهة الاستعمار.
ويستعمل الأفغاني أسلوب الرمز. ويشرح أسطورة هيكل عظيم خارج مدينة إصطخر لم يأوه أحد إلا مات دون معرفة سبب موته. فأتاه شخص يحب الموت. وسمع أصواتا مزعجة تريد الفتك به. فرحب بها لأنه سئم الحياة. ثم اختفت الأصوات داخل الطلسم، وتناثرت الدراهم والدنانير . وفي الصباح أتوا لتشييع جنازته فوجدوه حيا مستبشرا. وذلك لأن هلاك من هلك إنما كان بالفزع مما لا حقيقة له. فكذلك بريطانيا هيكل عظيم يموت الداخلون فيه من الفزع. هكذا حال الهنود، يخافون من شبح لا وجود له. فقد ذهب الإنجليز إلى الهند قوة مجتمعة، وتسابقوا مع الفرنسيين والهولنديين والبرتغاليين إلى أراضي الهند الواسعة، وغلبوا طيبة قلوب الهنود، وأوهموهم بتخليصهم من الأمم الظالمة، فرنسا والبرتغال وهولندا. سيطر الإنجليز في الهند والهند الصينية وبرما على نحو مائتين وثمانية ملايين من الشرقيين، ولو كانوا ذبابا لأصموا الآذان بالطنين. ويصيح فيهم الأفغاني صيحته الشهيرة
لو كنتم وأنتم تعدون بمئات الملايين ذبابا مع حاميتكم البريطانيين، ومن استخدمتهم من أبنائكم فحملتهم سلاحها لقتل استقلالكم وهم بمجموعهم لا يتجاوزون عشرات الألوف، لو كنتم أنتم مئات الملايين كما قلت ذبابا لكان طنينكم يصم آذان بريطانيا العظمى، ويجعل في آذان كبيرهم المستر غلاد ستون وقرا. ولو كنتم أنتم مئات الملايين من الهنود وقد مسخكم الله فجعل كلا منكم سلحفاة وخضتم البحر وأحطتم بجزيرة بريطانيا العظمى لجررتموها إلى القعر وعدتم إلى هندكم أحرارا ... اعلموا أن البكاء للنساء والسلطان محمود الغزنوي ما أتى إلى الهند باكيا بل أتى شاكيا السلاح. ولا حياة لقوم لا يستقبلون الموت في سبيل الاستقلال بثغر باسم .
15
وهذا ما حققه غاندي بعد ذلك بالساتياجراها، تحويل الملايين من الهنود إلى قوة بشرية في مواجهة الاستعمار الإنجليزي. وهو ما استأنفه غاندي وسعد زغلول وعبد الناصر ونهرو وعرابي والمهدي من قبل وليس كما يحدث الآن من تفتيت للسودان وعزله عن مصر، واتجاه مصر غربا.
الفصل السادس
مصر والشرق
(1) المسألة الشرقية
سواء بدأ الأفغاني من العام إلى الخاص، من الشرق إلى مصر أو بدأ من الخاص إلى العام، من مصر إلى الشرق فإن النهاية واحدة، مصر بؤرة الشرق، والشرق مركزه مصر.
ويبدأ الأفغاني بتأصيل الموضوع في المسألة الشرقية في الماضي والحاضر والمستقبل. فقد انتشر الإسلام في الشرق، ومصر والمغرب العربي جزء من روح الشرق. انتشر حربا أم صلحا في أقصر عصر، انطلاقا من شبه الجزيرة العربية إلى الشام والعراق ومصر وفارس والهند وتركيا بدافع ديني يقوم على المساواة والترابط الاجتماعي وانتشار الآداب واللسان العربي والأخلاق الفاضلة مثل الصدق والوفاء بالعهد والعدل والحرية والمساواة وإغاثة الملهوف والكرم والشجاعة. لذلك سقطت العروش. وتحولت مصر الرومانية إلى إسلامية عربية، وكذلك سوريا والعراق. كانت الفضائل وسيلة التعرب وكذلك الآداب. فقد كان العرب الأوائل، حتى قبل الإسلام، يقدرون آداب الغير، ويحلون بها لسانهم مثل كسرى أنوشروان. وظهر من بينهم الحكيم الطبيب مثل الحارث بن كلدة يماثل حكماء الفرس. وكان للشاعر في قبيلته المكان الأول. وإذا ما استعمرت أقوام وحافظت على لسانها فإن ذلك يكون أحد أسباب تحررها.
أما الفتح التركي فقد كان عسكريا وليس ثقافيا. توغل الأتراك في كبد أوروبا حتى فينا، واستولوا على بلغاريا والصرب والجبل الأسود، ولكنهم لم يتركوا آثارا كما ترك العرب في مصر والشام والعراق والأندلس وكما قال الشاعر:
هذه آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
تعرب الأتراك ولكن الأتراك لم يعربوا غيرهم أو يتركوه. لذلك ثارت دول البلقان ضدهم. عرب العرب بالحكمة والتسامح واللين، والتركي لم يترك أثرا باعتراف الأتراك أنفسهم مثل ضيا باشا. فتوحات العرب حضارية وفتوحات الأتراك مجرد غزو. لم تتبع الأتراك سنة محمد الفاتح والسلطان سليم، وهو قبول اللسان العربي. أخذ الأتراك الإسلام الشعائري العقائدي البدوي، ولم يتركوا وراءهم الإسلام الحضاري للناس وللشعوب المفتوحة. وانغمسوا في السفه والترف والبذخ والإسراف. وكلها عوامل اضمحلال وانقراض وزوال للعمران. الأتراك مسلمون كالعرب ولكن شكلا دون مضمون. وفضل العرب على الأتراك ترك الآثار والعمران. والفرنسيون كالعرب يتركون الآثار في حين تظهر عيوب الألمان لفرنسا في الحروب السبعينية. ويستشهد الأفغاني بآية
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، ويفسر السعي بأنه ترك الآثار. وهو سبيل النجاح. لقد أثر العرب في الشعوب بإعطائهم أفضل ما لديهم، اللغة والعلم، وانتشر الإسلام باللغة والحضارة في كل الأرض القديمة بآداب الدين وليس بالجزية، ونشر قيم المساواة وحفظ كيان المجموع بحرية دون إكراه مع الإبقاء على التعددية اللسانية والفكرية والاجتماعية. وسبب ذلك أخلاق العرب، واستحسان الأمم أخلاق الوافدين، والإعجاب بلسانهم. انتشر اللسان العربي ليس بسبب الفتح بل بسبب الآداب العربية، الحكم والأمثال والمواعظ. وقد ساهم فيها البدو والحضر. ولكن العربية وسعها البدو في البراري والقفار وضيقها الحضر في المدن والأمصار. وكان التحول من البدو والحضر خسارة للغة وانتقال لها من الطبيعة إلى الصنعة، ومن الحرية والإبداع إلى التزمت والتقليد، لا فرق في ذلك بين الأفغاني وروسو. لذلك لزمت التربية الوطنية للشرقيين بعد أن حظر الغرب إدخال الأسلحة والتعليم إليها، أي القوة والعلم لإبقائهم تحت الوصاية وإبعادهم عن الوطن والعمل له. فحياة الشرقيين بالعلم الصحيح موت لحكم الغرب فيهم وفك الحجر عنهم.
1
يدرس الأفغاني المسألة الشرقية كفيلسوف سياسة وفيلسوف تاريخ نظرا لارتباط فلسفة السياسة بفلسفة التاريخ، السياسة محرك التاريخ، والتاريخ مجال النشاط السياسي. ويقصد بها الخلافة العثمانية وضعفها وتفككها وطريقة فتوحاتها للبلقان وشرق أوروبا وحال ولاياتها مثل مصر. وجوهرها الصراع بين الغرب والشرق، واستعمال الدين لصالح كل منها. يتذرع الغرب بالنصرانية والشرق بالإسلام، وأهل كل دين صامت خامل لا يتحرك. يسخر قادة النصرانية الدين من أجل الدنيا، ويحسنون أمور حياتهم، ويسخر قادة الإسلام الدنيا من أجل الدين ولا يعملون بأحكامه فخسروا الدين والدنيا معا. في الغرب الدين وسيلة والدنيا غاية. وفي الشرق الدين غاية والدنيا وسيلة. سبب نهضة الغرب التحول من إحياء علوم الدين إلى إحياء علوم الدنيا، وسبب تخلف المسلمين التحول من إحياء علوم الدنيا إلى إحياء علوم الدين.
2
لقد ولد فتح محمد الفاتح القسطنطينية حقد الملوك المسيحيين ضد المسلمين، وأخذوا في الكيد لهم، وناصبوا الدولة العثمانية العداء والعمل على اضمحلالها وسلب فتوحاتها منها. ويتحمل العثمانيون جزءا من المسئولية؛ لأن استمرار الحروب والتغلب والانتصار فيها لا يكون إلا بالقوة والعلم وليس بالقوة وحدها. ولو أن الدولة العثمانية راقبت حركات الغرب وجارته في مدنيته وحضارته وعمرانه، وزاوجت الفتوحات المادية بالقوة العلمية كما فعلت اليابان لما كانت هناك مسألة شرقية، ولما ظهر هذا التباين بين قوة وجهل عند العثمانيين ، وقوة وعلم عند الغربيين. ولما انهزمت حكومة الجهل على يد حكومة العلم. يهزم الغرب المسلمين الآن بالعلم مصدر القوة. وينهزم المسلمون الآن أمام الغربيين بالجهل مصدر الضعف. إذن ليس الدين وحده سبب المسألة الشرقية. فقد فتح آل عثمان الممالك، وبقي أهلها نصارى أشد تمسكا بالنصرانية. فتحوا البلاد ولم ينشروا الإسلام ولا لغته، ولا عملوا بآدابه وتعاليمه. انتصر الأتراك أولا على الأوروبيين بالعلم العربي، وقد كان الأوروبيون أولا جاهلين به. وجمعوا بين القوة والعلم كما يفعل الأوروبيون الآن. وجمع السلاطين بين القوة والعدل. وظل النصارى في طاعتهم طالما كانوا يجمعون بين القوة والعلم في الحكم، والضعف والجهل في المحكوم. ثم انعكس الأمر فتحول الحاكم إلى محكوم، والمحكوم إلى حاكم بنفس القانون،
وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وهو قانون ثابت،
ولن تجد لسنة الله تبديلا ،
ولن تجد لسنة الله تحويلا .
قامت الدولة العثمانية في القرن السابع الهجري بآسيا الصغرى. واستخلص السلطان عثمان الأول ما بيد السلجوقيين من الملك من الشرق، والروح من الغرب. وركزوا على شبه جزيرة البلقان، وهي منطقة التقاء آسيا وأوروبا. وقد كانت في المملكة الشرقية بعد قسمتها إلى شرقية وغربية. وفيها غير تركيا اليونان والصرب ورومانيا والجبل الأسود. ولكل أمة منها مطامع وعروق وطوائف وميول سياسية. وقد كانت البلقان مهد الفتن والقلاقل ولا تزال. كل دويلة صغيرة تطمع في توسيع نطاقها على حساب جاراتها أو ابتلاعها كلية من الدول الكبرى؛ كروسيا والنمسا اللذين ساعدا البلقان على الاستقلال تحت ذريعة الدفاع عن العنصر السلافي والصربي مثل حجة النصرانية وتخليصها من الحكم الإسلامي.
افتتح السلطان مراد الثاني بلغاريا عام 1382م. وبقيت تحت حكم الأتراك أربعة أجيال. وهم قوم أشداء من أصول مغولية مثل المجريين والفنلنديين، نزحوا من قازان في روسيا وأوروبا، ونزلوا البلقان في القرن السابع الميلادي. تعودت على الاستقلال منذ نشأتها. وقد خشيها البيزنطيون. ثم تقهقرت وتخلفت فاستولى عليها الروس. ثم استقلت وضعفت حتى فتحها الروم، وصارت جزءا من المملكة الرومانية الشرقية. ثم استقلت وضعفت مرة ثانية ففتحها العثمانيون. ولكن العثمانيين لم يتركوا شيئا وراءهم ولم يبدلوا شيئا، وتركوا البلقان لجاهاتهم ودينهم ولسانهم ولتاريخهم، يتطورون مع الغرب. والحكام الأتراك قاعدون في فخفخة وغطرسة وفخر بالإسلام. فنهضت وبدأت تهدد العثمانيين.
وفتح مراد الثاني الصرب عام 1389م. وظل الأتراك بها مدة أربعة قرون بالرغم من ثورتهم أربعة عشر عاما حصلوا بعدها على نوع من الاستقلال الجزئي أولا ثم النهائي ثانيا عام 1878م مثل بلغاريا. كما أخضع العثمانيون اليونان حتى عام 1829م. ثم استقلت بمناصرة الغرب، وبعد حروب دامت سبع سنوات اشترك فيها الأسطول المصري بقيادة إبراهيم باشا. وأخضع العثمانيون رومانيا وأدت لهم الجزية حتى عام 1716م، وظلت تحت الحكم العثماني حتى استولت عليها روسيا. ثم ثارت عام 1866م، وأصبحت ملكية. ثم فتح السلطان سليمان القانوني الجبل الأسود وسكانه من الصقالبة. ثم استقل عن العثمانيين عام 1862م. والخلاصة أن الدولة العثمانية لم تكن تحسن الاستعمار. وكانت سدا يمنع الشعوب من التقدم والرقي.
3
شعوب البلقان أمم وممالك، لها تاريخ ودين ولسان، وعادات وأخلاق، على طرفي نقيض مع العثمانيين. لم يوحدها العثمانيون دينا أو لسانا أو ثقافة كما يفعل المبشرون. بدءوا باللسان التركي لتعميمه دون الدين، فكان لغة المستعمرين. وتحررت شعوب البلقان طبقا لسنة الكون على عكس فتوحات المسلمين الأوائل في مصر والشام. ولو أن الأتراك نشروا اللسان العربي والدين الإسلامي لاستمرت البلقان تحت حكم العثمانيين. وبدلا من تعريب الترك بدأ تتريك العرب، فبدأ النفور بين العرب والأتراك. لم يقبل العثمانيون فكرة السلطان الفاتح والسلطان سليم بتعميم اللسان العربي. وقد توغل العثمانيون في أوروبا والبلقان، وجعلوا القسطنطينية عاصمة لهم، مع أن المدينة المستعمرة لا تكون عاصمة للملك لأنها قابلة للاسترداد. كانت المدينة مثل دمشق وبغداد عواصم وسط المحيط العربي وليست على الأطراف. وأن فتح الأتراك القسطنطينية أمر عظيم بعد أن فشل فيه يزيد وخالد وأبو أيوب الأنصاري والعباسيون واكتفى الرشيد بالجزية مع أن الرسول تنبأ بفتحها
لتفتحن القسطنطينية، فنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش ذلك الجيش . إشارة إلى السلطان محمد الفاتح. العيب أن الأتراك جعلوها العاصمة . ولو فتحت قديما لكان عليها من الولاة مثل مصر والأندلس والهند وبخارى وفارس.
4
كان فتح البلقان إذن مظهر ضعف في الدولة العثمانية نظرا للقلاقل والفتن وإعداد الجيوش لسفك الدماء . لذلك لم يكن البقاء في البلقان مضمونا، وكان استقلالها معروفا للعقلاء. وهو رأي عالي باشا الصدر الأعظم بعد أن رأى مخاسر تركيا. ولكن الدولة العثمانية لم تأخذ برأيه، جعل الخلافة في بغداد وسط الأمة. وربما لم تصدق نبوءة الأفغاني هنا. فالقسطنطينية ما زالت باقية في يد الأتراك، وتشهد نهضة إسلامية معاصرة. ولو كانت إمارة لشجع ذلك الغرب على استردادها كما استرد الأندلس.
لو عمر الأتراك الأرض، وعدلوا في أهلها، وجروا على سنة الرشيد أو المأمون، وقد كانوا أغنى أمم الأرض وأكثرهم سلطانا! لم يحسنوا إلا الحرب دون العمران، ولم يقبلوا اللسان العربي، لسان الدين والأدب، والذي دخل اللسان التركي فأغناه، ولو خلا اللسان التركي من الكلمات العربية والفارسية لكان من أفقر لغات الأرض، ولعجز عن التعبير عن حاجات الأمة البدوية، ولما كان للأتراك شعر ونثر وبيان. فكيف يعقل تتريك العرب، وقد تبرك العجم بالاستعراب، وأصبح اللسان العربي لغير المسلمين لسانا؟ لقد خاطب الأفغاني السلطان عبد الحميد في الأمر ولكن السلطان لم يكن جيد الإصغاء. وكان لا يرى أن فضل اللسان العربي كما كان يرى سليم أمر صائب. وكان لا يريد الاعتراف بأن توغلهم في أوروبا وفتح شبه جزيزة البلقان كان خطأ. وواضح أن الأفغاني هنا ضد الاستعمار، واحتلال أراضي الشعوب بالقوة والقهر حتى ولو كان من جانب المسلمين الأتراك؛ فالفتح الإسلامي ليس استعمارا للشعوب ولكنه تحرير لها، وليس احتلالا للأرض بل فتحا لها. لم يحتل المسلمون العرب مصر وفارس والشام بل فتحوها في حين احتل الأتراك العثمانيون شبه جزيرة البلقان ولم يفتحوها.
5
لقد ساءت الأمور، في رأي الأفغاني. وانقضى وقت الإصلاح، وإخراج التصورات من ميدان النظر إلى ميدان العمل، بعد أن كانت الدولة العثمانية في عنفوان قوتها وأوج عزتها. أصبح الأمر الآن للقوة وحدها. ينتصر القوي على الضعيف. ولم يعد في إمكان السلطان عبد الحميد ما كان يفعله السلطان الفاتح أو السلطان سليم أو السلطان سليمان. لم يعد الأمر الآن، في رأي الأفغاني، تحقيق ما ينبغي أن يكون بل الاعتراف بما هو كائن، وليس تحقيق الواجب بل تحقيق الممكن، وبلغة الفقهاء، ليس تحقيق المنفعة بل الإقلال من الضرر، ليس العمل إيجابا بل العمل سلبا. ليس طلب المستحيل، إبقاء الدولة العثمانية في أوروبا، بل تحقيق الممكن وهو إبقاء الدولة العثمانية في غير أوروبا. وقد حادث الأفغاني عبد الحميد في تصوراته عن الإصلاح، ورفض تدوينها حتى يظل الأمر سرا لا يطلع عليه أحد، وجوهرها تحويل الممالك إلى خديويات وليس إلى مجرد ولايات يرسل إليها الولاة من الآستانة مثل باكير باشا ومحمد علي باشا لجمع الأموال من غير حق وإرسالها إلى الآستانة، وتوزيعها على رجال الدولة. إن نظام الولايات ليس خيرا لها بل هو خير للسلطنة، أما نظام الخديويات فهو خير للولايات وحفاظ على السلطنة كما فعل الإنجليز في الاستيلاء على الولايات باسم السلطنة وحفاظا عليها. وأيهما أفضل أن يأتمر الوالي بأمر السلطان، وتكون العساكر المصرية عثمانية تنفذ الأوامر باللحاق بجيوش السلطان، وأن يكون الشعب المصري رعية خاضعة طائعة للسلطان أم أن تصبح الولاية خديوية، وأن يكون الخديوي معينا من السلطان ولكنه منفذ لمصالح الخديوية وشعبها؟ كان الأفغاني من أنصار اللامركزية وإعطاء الاستقلال الذاتي للولايات. ولكن السلطان كان يخشى من أن يتحول الاستقلال الذاتي إلى استقلال كامل وبالتالي تتفتت الدولة العثمانية، وتضيع الخلافة. وكاد محمد علي وإبراهيم باشا أن يستقلا بمصر. إن السلطنة العثمانية تتألف من ثلاثين ولاية، ومساحتها في آسيا فقط 661000 ميل مربع على حين أن مساحة بريطانيا وإيرلندا معا 120000 ميل مربع. يمكن أن تتحول الولايات إلى خديويات في بغداد والبصرة والموصل وبيروت وسورية وحلب والقدس والجزائر والحجاز مع تعزيز أساطيل الدولة لحماية الخديويات من الغزو الأجنبي. تقتصر مهمة الدولة المركزية على الدفاع عن الخديويات اللامركزية كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قديما، وكل الدول الفيدرالية مثل ألمانيا. وتتحول تركيا ذاتها إلى ثلاث ولايات، لكل منها منفذ على البحر، كما تصبح ألبانيا خديوية، ويكون مجموعها عشر خديويات أو ممالك كل واحدة منها أعظم من اليونان. ولا يعوقها عن التقدم واللحاق بما خسرته من الانفصال عن الدولة العثمانية إلا شكل الحكم التسلطي والسلطة المركزية البيروقراطية القاتلة للهمم والموهنة للعزائم. والدولة العثمانية اليوم لا ترسل من الولاة إلا أحد رجلين: إما الخامل البليد الذي همه جمع المال، وإما الرجل النشيط العاقل ولكن ليس له من الأمر شيء، يستأذن الباب العالي في ترميم جسر في بغداد سقط منه حجران فلا يأتي الإذن إلا بعد أشهر وأعوام يكون طغيان النهر قد جرف الجسر كله! وما يقترحه الأفغاني أن يفوض السلطان آل عثمان إلى الخديويات بدلا من قعودهم مع النسوان، وتقريبه الخصيان. ويكون مع كل أمير وزير فاضل وأمين من غير حاشيته التي تحاصره وتكذب عليه. كان هم الأفغاني إذن الحفاظ على الدولة العثمانية وحمايتها من التفكك وتوحيد أجزائها وفي نفس الوقت إعطاء الولايات قدرا من الحكم الذاتي، وربما فيما بعد، وهو ما لم يصرح به الأفغاني، تعيين حكام وطنيين من أهل البلاد وليس من الأتراك بالضرورة، وتعزيز أساطيل الدولة لحماية الولايات من الغزو الأجنبي. هذا هو الحل الوحيد لأية دولة في حالة اتساع ملكها. اتبعه العباسيون قديما، ولا يغيب عن تصور الإنجليز حديثا، هو النظام الفيدرالي الذي يحافظ على الكيان الوطني القومي في إطار من وحدة الأمة.
ولكن السلطان عبد الحميد شعر بأنه لم يبق له من السلطة شيء بعد أن سمع هذا التصور الفيدرالي للدولة العثمانية والاستقلال الذاتي للولايات. لم يبق شيء لتخت آل عثمان. ورد الأفغاني عليه بأنه يبقى له ملك الملوك وعرش العروش، ربما للإبقاء عليه بلا سلطات من أجل القضاء عليه وربما اقتناعا باللامركزية من أجل الحفاظ عليه وعلى الدولة في آن واحد. كان السلطان عبد الحميد سيئ الظن، لا يأمن لأحد. وظن أن الأفغاني بتصوره عن اللامركزية العثمانية يعمل لحساب إسماعيل كمال الذي عين لولاية طرابلس الغرب، وطلب توسيع صلاحياته وحق عقد قرض لتحسين الولاية وإصلاحها. وإذا كان الأفغاني لا يعمل لحساب إسماعيل ضد العرب فإنه يعمل لحساب إسماعيل التركي. ولكن السلطان رأى أن الأمر قد فات أوانه ، ولا يمكن عمل شيء الآن، مستعملا المثل التركي
أن الجواد اجتاز اسكدار .
والعجيب أن يمدح الأفغاني بعد ذلك السلطان عبد الحميد. فلو وزن السلطان عبد الحميد مع أربعة من رجالات العصر لبزهم ذكاء ودهاء. لقد ذلل لملكه الصعاب، وصمد أمام دول الغرب، وحول العدو إلى صديق من دول الغرب، واقتنع الجميع بحججه. يعلم دقائق السياسة ومطامع الغرب، ويخرج سالما من كل أزمة. ولكن عيبه هو العجز عن اتخاذ القرار، والجبن من أكبر عيوب الملوك، وعيب الكبير كبير، مع أن السلطان قد قبل بارتياح أفكار الأفغاني عن اللامركزية ومحاسن الحكم الدستوري، والإسلام أول من أقامه، وحسنت نواياه لإقامة الدولة اللامركزية، المناط بها نهضة المسلمين. وأعد كل شيء حتى لا تتفق أوروبا على عمل خطير ضد الممالك العثمانية. وأقنعها أن ذلك سيكون خرابا على نفسها. فيقظ لدول البلقان الصغيرة التي أحدثتها أوروبا للتدخل في شئونه ولتقطع أجزاء من مملكته. وكلما حاولت أوروبا توحيد البلقان ضده استطاع بدهائه تفريق ما جمعوه. فخضع له أمير البلغار، ولبس الشعار العثماني «الطربوش»، وافتخر برتبة المشيرية، وانتظم في حفلة صلاة الجمعة. وكان أمير الجبل الأسود يعتبر نفسه كالابن أمام والده، يطلب الإعانة لمساعدته في تجهيز ابنته. فدفع ذلك أوروبا إلى تحريض اليونان على حرب السلطان، والأعجب من الأفغاني مدح أبي الهدى الصيادي وهو المدافع عن السلطان والخلافة بأي ثمن.
أما الرجل (أبو الهدى الصيادي) فهو خير عربي صحب السلطان. وقد درأ شرا واستدر ما استطاع من الخير لقومه. وفي الرجل هزة هاشمية، وخلق كريم، وهمم وشمم لا ينبغي أن يناله طعن الطاعنين. ولا أدل على فضل الرجل من قياسه مع غيره من العرب الذين انسلوا إلى السلطان ودخلوا خدمته .
6 (2) مصر والخلافة العثمانية
مصر هي بؤرة الخلافة. والدفاع عن الخلافة العثمانية إنما هو دفاع عن استقلال مصر وتقدمها؛ فمصر من الأراضي المقدسة. ولها في قلوب المسلمين جميعا منزلة كبيرة. وقلق المسلمين عليها ركن من أركان الدين. مصر في المركز والقلب. ومع أن الأفغاني غير مصري إلا أنه تجلى في مصر، وتجلت روح مصر الوطنية فيه. ويعلن الأفغاني عن ذلك في العروة الوثقى قائلا:
وعزة الحق أن ما كتبته عن حق مصر وما استنهضت من الهمم وما حذرت به من سوء المصير لو تلي على الأموات لتحركت أرواحهم، ولرفرفت على أجداثهم، ولأحدثت لأعدائهم أحلاما مزعجة ومراء مريعة. كاد لا يخلو سطر من العروة الوثقى إلا فيه ذكر مصر، ولا براهين وأدلة على ظلم الإنكليز إلا ويتمثل في مصر، ولا خوف من شر مستطير يفكك أجزاء السلطنة العثمانية إلا وتراه في التهاون في أمر مصر. وذلك لأن جرح مصر كان ولم يزل له في جسم الأمة الإسلامية والعرب عموما نغولا وبعروقها اتصالا ... ولا يفوتن أهل الشرق العلم بأن كل مدينة وكل مقاطعة إسلامية شرقية هي بمنزلة مصر وإن لم تسقط تحت الاستعمار بعد. فالشرك منصوب للكل .
7
فمصر هي نموذج مصغر أو مكبر لكل الدول التي يطمع فيها الاستعمار والتي تناهض وتقاوم من أجل الاستقلال.
مصر مركز الخلافة ودرة الممالك العثمانية. وصون مصر صون لها. ومصر مفتاح المسألة الشرقية. وتحررها بداية العالم الإسلامي كله. وكل المقاطعات الإسلامية في الحملة العثمانية هي بمنزلة مصر. فمصر هي نموذج الوطن والذب عنه. وقد كانت مصر قبل الدولة العثمانية مركزا للخلافة. فقد انقسمت الخلافة قديما إلى عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في الأندلس. وبدأت مصر والدولة العثمانية نهضتهما الحديثة معا بنقل العلوم الغربية دون معرفة كيفية نشأتها. ونصبت الدول الغربية الحبائل للإيقاع بهما معا.
ويرصد الأفغاني تاريخا لمصر قبل محمد علي وأثناء محمد علي وبعد محمد علي حتى ثورة عرابي واحتلال الإنجليز لمصر، مبينا مأساة مصر وعظمتها في آن واحد. كانت حكومة مصر قبل محمد علي تعد من حكومة الأشراف (المماليك) دون معرفة ما حقيقتها. ثم أتاها محمد علي يحول مصر إلى دولة حديثة وحكومة نظامية حتى تقدمت على جميع الممالك الشرقية. وهو أمي على الفطرة يحب الحضارة وبث العلوم وتأسيس العمران. وتفجرت في مصر ينابيع الثورة وفاضت على البلاد الشرقية حتى صارت قبلة الغربيين. سادها الأمن وأصبحت مثل الممالك الأوروبية العظيمة. ثم تعثرت مصر، وحسدتها الأيام. عثر العاقل، وفرط المالك، وتهور الغبي، تقرب البعيد، وبعد القريب. وانتشرت الدسائس في دوائر الحكومة. تقطع الوصال، وعمت الفتن. حل القضاء بالبلاد، وطمع فيها الأجانب. واحتلتها إنجلترا بحجة الدفاع عن طريق الهند. وقامت إنجلترا بالقتل والشنق والحرق والتدمير. وأصبحت ماليتها محط أنظار أوروبا، وبدعوى عدم الوفاء بالدين تم احتلال مصر وأوروبا ناقصة الإيراد، وتريد تعويض مخاسرها في السودان في احتلاله ثم إخلائه. وألغى الجيش الوطني وهو الذي حقق أعظم الانتصارات أيام محمد علي وإبراهيم. وطرد آلاف الوطنيين من الحكومة، وتشرد الأطفال والنساء. سادت الأهواء، وملئت السجون بالرعية، والكرابيج على الأبدان. أغلقت أبواب العمل، وتنازع الحكام، وعمت الفوضى. وارتفعت الأصوات بالشكوى، وانتشرت الأمراض، وفسدت الزراعة. اشتد الضنك، وباع الفلاح بيته. وزاد الويل بالنيل من الحريات الشخصية والأخذ بالشبهات والتهم الباطلة. تحتاج مصر إلى الإصلاح ولكن إنجلترا دخلت البنجاب بدعوى الإصلاح، واستولت عليه أربعين عاما. فليحذر المصريون. دخل الإنجليز مصر لقمع الثورة العرابية والاستيلاء على طريق الهند وإعادة الأمن. وطردوا الآلاف من الموظفين الوطنيين فأصبحوا مشردين. امتلأت السجون بالأحرار. وأغلقت أبواب العمل. شاعت الفوضى، وتوقف العمل، وانتهكت الحريات الشخصية. أراد الأفغاني توجيه بريطانيا إلى إيقاف الخطر الروسي على شمال الهند بدلا من وقوعها في الشرك المصري بعد أن ظنت أنها تستطيع القضاء على مصر. وذلك لا يتم إلا بمساعدة العثمانيين وبعض المصريين.
8
والحديث عن محمد علي هو الاستثناء في الدولة العثمانية التي آثرت الغزو لا الفتح والقوة لا العلم، والاستعمار لا التمدن، وذلك بفضل محمد علي في مصر. محمد علي
ذلك الأمي الكبير، نابغة رجال أمصار وأجيال. فقد طوى تحت جبته همما تدك الجبال، وقلبا يقدم به على هائل الأعمال، وتحت عمامته دماغا فعالا، وعقلا جوالا، وبصرا نافذا ، وفكرا ثاقبا، ورأيا صائبا .
9
فقد بلغ من حدة الذهن وفرط الذكاء، وبعد أن حسن خراج مصر، وعدل ما اختل فيها، وبنى القناطر الخيرية، وشق الترع والرياحات طلب من الباب العالي أن يعيضه بالبصرة عن مصر، يفعل فيها ما فعل في مصر ثم الموصل للإعمار والبناء، وكما عمر القدماء دمياط ورشيد والإسكندرية ودلتا النيل. عمر محمد علي مصر كما عمر القدماء البصرة والموصل. وكان المسافر من بغداد في عصر الرشيد غربا يمشي بين الأشجار حتى يصل إلى دمشق وحلب، وشمالا يرى الخضرة حتى سيحون وجيحون، وجنوبا حتى دمياط ورشيد والإسكندرية ومصب النيل. وكلها ملك للمسلمين. وكانوا في نفس الوقت قادرين على الصمود ضد أهل المكر والخديعة.
كان يمكن أن تكون نهضة مصر كخديوية مستقلة نموذجا لنهضة باقي الخديويات التي يقترحها الأفغاني كصيغة للامركزية للعراق ولباقي الولايات العشر. كما أن نهضة ولاية مثل مصر ستبعث باقي الولايات على التنافس. فتنهض ولاية العراق. بل إن ولاية إيران تسرع لتأييد السلطنة والاتحاد معها تدعيما لكليهما ضد مطامع الغرب الموجهة نحو عموم الشرق. وقد يبعث ذلك الهند إلى الاتحاد مع السلطنة حماية لهما من الغزو الاستعماري، ويعود الشرق للشرقيين بفضل نموذج مصر وعلاقتها بالخلافة العثمانية، الخديوية القوية المستقلة في الدولة اللامركزية. ولكن السلطان عبد الحميد تردد في قبول فكرة تقسيم الدولة العثمانية إلى عشر خديويات بدلا من ثلاثين ولاية؛ لأن محمد علي باشا وابنه إبراهيم كادا أن يستقلا بمصر فتحا بالقوة. ولم يرغب في الاستماع إلى نصيحة الأفغاني باللامركزية ابتداء من الواقع الذي فرض نفسه، واقع مصر، روح الممالك الإسلامية، وباب الحرمين. ففي صون مصر داخل الملك الإسلامي وطرد الإنجليز منها صون للممالك الإسلامية، وغلق لكل بلية قد تقع للمسألة الشرقية وبؤرتها ومحركها مصر، أوصل محمد علي مصر إلى باب السعادة والثراء في أقل وقت. وما أبعد الشقة بينه وبين الإنجليز في صنع مصر.
10
وقدم إلى الآستانة الخديوي عباس حلمي مع وفد من المصريين. فدعاه الخليفة إلى حدائق يلدز. وخطب فيهم الأفغاني بأن الخديوي قد أحسن صنعا بزيارة دار الخلافة التي تجمع شتات المسلمين. ثم طلب الخديوي مقابلة جمال الدين فأذن السلطان. وقابله الأفغاني في نزهته المعتادة. عبر الخديوي عن إعجابه بجمال الدين ومحبته له، ودعاه لزيارة مصر. ولم يتطرق إلى أي موضوع سياسي. ثم أبلغت الجواسيس السلطان أن جمال الدين قد تعهد للخديوي عباس بتأسيس دولة عباسية في مصر كما فعل الخراساني مع العباسيين قديما. ومصر مفتاح الطريق إلى ربوع الدولة الإسلامية. وحذر الأفغاني السلطان من خطورة الجواسيس وشبههم بالكلب العقور الذي يمنع نزول صاحب المنزل لاستقبال الضيف أو صعود الضيف لصاحب المنزل. وقد اتهم عبد الله النديم بالمشاركة في هذه الخطة لقوله دعابة إنه لو تخلصت مصر من براثن بريطانيا وتسنى لعباس أن تكون له همة محمد علي ومضاء إبراهيم وسخاء إسماعيل لأصبح لائقا للخلافة. ولكن ليس لأمير المؤمنين اليوم ولاية على ممالك الإسلام. ولا يوجد مؤمنون ملتفون حوله. ولا توجد حرية للخليفة للتصرف، وليس لديه القوة للدفاع بها عن الإذلال واستعباد المسلمين في بلادهم. ومع ذلك أخذ السلطان على الأفغاني اتصاله بعباس حلمي خديوي مصر من أجل نقل الخلافة إليه. وهو اتهام باطل. فالخلافة في رأي الأفغاني، كفالة الله في خلقه، لها صفاتها وشروطها، وعباس حلمي نظرا لظروفه أعجز من السلطان في القيام بأعباء الخلافة.
11
والسودان جزء متمم لمصر؛ فالأفغاني من أوائل الذين وضعوا شعار وحدة وادي النيل؛ فمصر للمصريين والسودان جزء متمم لها. ويدافع الأفغاني عن السودان ضد الإنجليز كما يدافع عن مصر. والعثمانيون والمصريون يخففون من حدة ثورة المهدي حقنا للدماء ولكنهم متعاطفون معها، مؤيدون لها مثل تأييدهم لثورة عرابي. ويكشف الأفغاني تفصيليا خداع الإنجليز في السودان منذ كان اللورد دوفرين بالقاهرة لبيان حالة مصر وكتابة تقرير لحكومته عنها، وتلويح الإنجليز بالتنازل عن السودان حرصا على عدم النفقات. وأصدرت الأمر إلى جوردون بالتخلي عن السودان لتوهم السودانيين بمنة الاستقلال. فعين المهدي أميرا على كردفان، ورد الاعتبار لأمرائها على الولايات للاستيلاء عليها تعويضا لها عن مقاومة مصر، وإقامة سكة حديد من سواكن إلى بربر لتخليص جوردون تظاهرا، والحقيقة لربط إنجلترا بالسودان عن طريق البحر مباشرة في التجارة دون المرور بمصر. ومع ذلك حدث زلزال للإنكليز في السودان، وزحف محمد أحمد عليه بجيش، والسلطان ومصر معه. ويحث الأفغاني مصر والمصريين على القيام بواجب الدين والوطن دون انتظار أمر السلطان ضد الإنجليز ودون بيع البلاد بالنقد. والخائن للوطن خائن للدين. ويعطي الأفغاني نموذجا من الخطاب الوطني والدعوة إلى الجهاد اعتمادا على قول الأسلاف، والحث على الشجاعة ورفض الجبن. ويستعمل آيتين قرآنيتين
فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ،
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ،
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ،
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين . ويرفض الأفغاني تتويجه على السودان؛ لأن ما لا يملك لا يمنح، وصاحب الحق السلطان حي يرزق. ويخدع الإنجليز السودان كما يخدعون مصر؛ لأن الذي يريد الإصلاح ينشئ الجامعات، وهي معدومة في مصر والسودان.
12
وقد كان الموضوع الرئيسي للعروة الوثقى مصر وسوريا، وثورة المهدي في السودان بالرغم من انتهاء الحركة وموت المهدي واحتلال الإنجليز للسودان ومصر فدية لموت غوردون. فارتباط مصر بالسودان الاحتلال والثورة.
وإذا كان السودان محور مصر الجنوبي فإن سوريا محور مصر الشمالي منذ صلاح الدين ووحدة مصر وسوريا لمواجهة الزحف الصليبي. والتاريخ يكرر نفسه؛ فمصر هي القلب، والساقان في السودان، والرأس في الشام. مصر هي مفتاح الحجاز وباب الأقطار الشامية. لذلك لا يوجد مصري ينتقد سوريا أو سوري ينتقد مصريا نظرا لرابطة الجنس، العروبة.
13
لا فرق بين بر الشام وبر مصر كما هو الحال في نهضة العرب الحديثة. وقد كان معظم تلاميذ الأفغاني من بر الشام، أديب إسحاق، وسليم النقاش، من المسيحيين. وكان أديب إسحاق المسيحي أثيرا عند الأفغاني أكثر من محمد عبده المسلم. وقد حاول الغرب إجبار مصر وسوريا معا على قبول المسيحية. وهو يدعي أن الإسلام متعصب. ومصر أيضا بؤرة محورها الغربي العرب، في المغرب العربي وإن كان الأفغاني لا يشير إليه كثيرا ولا إلى استعمار فرنسا للجزائر منذ 1830م ولتونس بعد مصر مباشرة، ولكن ينبه على نفور العرب بالطبع من الخضوع للأجنبي. ولمصر أيضا محورها في الشرق، في فارس والهند وأفغانستان. فوحدة الأفغان والفرس نواة وحدة الشرق، وظهير للمسألة المصرية. كما أن احتلال مصر وقناة السويس كان ذريعة لحماية الهند؛ فإنجلترا عدو مشترك لمصر والهند حتى لقد أصبح 22 فبراير 1946م عيدا وطنيا عالميا للطلاب يوم أن ضربت إنجلترا مظاهرات الطلاب في مصر والهند في آن واحد. فمصر والهند وريثا الشرق ومحركاه كما اتضح بعد ذلك في حركة عدم الانحياز في هذا العصر بقيادة عبد الناصر ونهرو.
14
فمصر طائر ساقاه في السودان ورأسه في الشام، وجناحه الغربي في المغرب العربي وجناحه الشرقي في فارس والهند. فإذا طارت نهض الشرق والغرب مع القلب، بدلا من أن يقوى الجناح الغربي فتطير متجهة غربا كما يحدث هذه الأيام. (3) مصر للمصريين
والأفغاني هو الذي وضع شعار
مصر للمصريين
الذي تحول إلى عنوان رسالة سليم النقاش التي تقدم بها في باريس للحصول على الدكتوراه، والشعار موجه ضد سيطرة الأجانب على مصر ابتداء من الاحتلال الإنجليزي والامتيازات الأجنبية التي أدت إلى ثورة عرابي. وكان الناس أيام عرابي قسمين: الأول مع توفيق والثاني مع عرابي. الأول فاشل، والثاني متردد. ومع الفشل تضيع الأمة، ومع التردد يغيب الحزم. فدخل الإنجليز مصر بلا حرب حقيقية، بالترغيب والترهيب والدسائس، فابتعد الناس عن عرابي ظانين أن الإنجليز يؤيدون توفيق. تساهل المصريون مع الإنجليز وأحسنوا الظن بحكومة إنجلترا التي أوهمت بأنها جاءت دفاعا عن الشرعية. ولا يوجد من المصريين من يميل إليهم، وذهلوا عن الأسباب التي مكنت الإنجليز من النيل منهم مع أن الإنجليز دخلوا البلاد بمعونتهم. ولو علم المصريون أنه ليس في طاقة الإنجليز حشد أكثر من 20000 جندي لمصر والسودان لقاوموهم في الشرقية وفي منطقة البحيرات. والإنجليز في ارتباك شديد في المسألة المصرية مع ضعفهم في القوة العسكرية وتورطهم بسبب اختلاف الدول حول مقاصدهم. هذه هي الأسباب التي أدت إلى وقوع المصريين تحت سيطرة الإنجليز . القسم الأول يريد الحفاظ على الحالة القديمة وطاعة الخديوي، والثاني يميل إلى عرابي ولكنه يهاب القسم الأول. فارتاب في أمره، ووهنت عزيمته. فدخل الإنجليز مصر من باب الوهم بلا حرب بدعوى تأييد الخديوي وتأديب الثائرين عليه. واقتنع المصريون أن صاحب السيادة الشرعية هو السلطان، ففاز الإنجليز غدرا. ودخل الإنجليز مصر بمعونة المصريين وتأييد الخديوي بفرمان من السلطان. هذا هو الوهم. كما يوحي الوهم بأن الإنجليز قادرون على السيطرة على الأهالي دون مقاومة. وهذا هو الفرق بين الإنجليز ومحمد علي نابغة الدهر فيما حل بمصر، وهو الفرق بين الهدم والبناء، بين الأجنبي والوطني، بين الاستعمار والاستقلال، بين العبودية والتحرر.
15
وتضرب الإنجليز في الأراضي المصرية ولا يتحرك أحد من إخوانهم الشرقيين مع أن احتلال مصر ينبه الأذهان، صحيح أن الاحتلال قانون تاريخي، احتلال القوي للضعيف، والموحد للمفكك مثل احتلال إنجلترا لقوة كبيرة ضعفت وتفككت. وصحيح أيضا أن التحرر من الاحتلال دفاعا عن الاستقلال قانون تاريخي كذلك، إذا تأنف الأمم من الخضوع للأجنبي المختلف عنها في الأخلاق والعادات. لذلك نشأت حركة فكرية في أغلب أقطار الشرق للمطالبة بالخلاص من الأجنبي والدعوة إلى الوحدة. ويضرب الأفغاني المثل لذلك بالحركة العرابية والتي يسميها «العشواء» بالرغم من أنه هو منظرها والتي اتخذها الإنجليز ذريعة لاحتلال مصر، مما يبين أن نقد الأفغاني للثورة العرابية ليس لتعاليمها ومبادئها بل لطرق تنفيذها ووسائل تحقيقها على نحو أهوج غير منظم، وهي تشبه الثورة المهدية في السودان عندما يقف السودانيون أمام البنادق بالسيوف. ومصر عند المسلمين من الأراضي المقدسة مثل الحرمين. لذلك حركت أحزان مصر أشجان المسلمين. وقد اعتمد الإنكليز على المداهاة والمكر أكثر من الاعتماد على الجيوش. ولكن من الهند إلى مكة إلى مصر ما زال الناس غافلين. ومع ذلك فقد جدد احتلال مصر الروابط ووحد الكلمة. كاد الإنجليز لمصر مرة بدعوى الدفاع عن الخديوي والشرعية ضد الخارجين عليه والثائرين ضده، ومرة لإخضاع رجال الدين وأئمة المساجد وعلماء الأوقاف. وهي نفس الطرق التي اتبعتها إنجلترا في الهند، الاستيلاء على الأوطان بالحيلة والدهاء وليس بالسلاح حتى ملكوا ثلث العالم، يشككون في الحكام الوطنيين، ويقلبون عليهم الرعية للعصيان حتى يخلعوهم أو طي الضعيف الأحمق وإقامة صغير بدلا عنه. وقد يسلبونه كل شيء إلا اللقب ولواحقه، مثل: نائب، صاحب، راجا، خديوي، سلطان. وأشهرهم حيلة اللورد نورثبروك (كرومر) الذي فقد حكم الهند. عذبها وبكى عليها، ووعدها بالإصلاح مثل زعيم المنافقين عبد الله ابن سلول. ثم خدع المصريين، واستعمل توفيق باشا لإدخال مصر تحت حماية إنجلترا، ويلقنه الأوامر. ثم خلع توفيق وطلب تولية عباس ولدا صغيرا، وجعل نوبار باشا وزيرا يعينه الإنجليز، وهو غير مسلم ولا عربي. وقام بنفس الشيء في الهند، خلع أمير وتنصيب أمير. والحال هو سبات من له الحق وحراك من لا حق له.
16
فبينما تنظر أوروبا خاصة فرنسا إلى ضياع مصالحها في مصر، والدولة العثمانية لما لها من مكانة في قلوب الهنود، وإنجلترا بين أصابع آل عثمان فإن الناس لا تحرك ساكنا ولا تتقدم إلا بالشكوى، وهم فقراء. والإنجليز تعد بالجلاء وهم على يقين أن الدولة العثمانية في طريقها إلى الزوال. وأعلنت السيادة على مصر، وتم الاستيلاء على السودان فداء لرأس جوردون. وقد سمح العثمانيون لإنجلترا بذلك، وسكن الناس انتظارا لوعود إنجلترا بالجلاء، فلما بسطت إنجلترا سيادتها ثار الناس، وأيدوا الثورة المهدية في السودان والثورة العرابية في مصر.
وكما لا تكون مصر للمصريين إلا بالاستقلال والتحرر من الإنجليز كذلك لا تكون مصر للمصريين إلا بالحكم النيابي والتحرر من الاستبداد. ففي الشعب المصري الخامل والجاهل، ولكن هناك أيضا العاقل والعالم، وكما ينظر الأمير إلى الشعب ينظر الشعب إليه. النصيحة هي إشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى، وانتخاب نواب الأمة لسن القوانين. فهذا أثبت للعرش وأدوم للسلطان. وتتكون القوة النيابية من نفس الأمة وليس من قوة أجنبية تكون الأمة تابعة لها أو حماية منها. ويثبت التاريخ أن الملوك لم يثبتوا رغم إرادة الشعوب، وتستطيع الأمة أن تعيش بدون ملك ولكن الملك لا يستطيع أن يعيش بدون أمة، ويكون المجلس النيابي المصري مشابها للمجالس النيابية الأوروبية. أقل ما فيه من الأحزاب حزبان، حزب الشمال وحزب اليمين، الشمال للمعارضة واليمين للحكومة. والمجلس لا يعيش بقوة واحدة مناهضة للحكومة أو مؤيدة لها. ليس النائب هو هذا الوجيه الذي يمتص دماء الفلاح، الجبان الذي لا يقوى على مناهضة الحكام، الضعيف الذي لا يملك الحجة تجاه الحاكم الظالم، بل ذلك الرجل القوي في الخير والحكمة والدفاع عن الوطن ومناقشة الحساب، ويرفض الأفغاني المجلس النيابي المزور والمعين الذي يزيف إرادة الأمة ويبرر للحاكم إرادته. ويتوجه بنداء إلى قيصر روسيا بأن تكون الملايين من الرعية أصدقاء للعرش خيرا من أن تكون أعداء له تتربص به الفرص. كما يتوجه إلى شاه إيران ناصر الدين بأن عظمة التاج والعرش بالحكم الدستوري، وأن الفلاح والعامل والصانع أنفع للأمة من الأمراء والوزراء.
17
ولكن الأحزاب السياسية في الشرق دواء وداء في نفس الوقت؛ إذ تتألف الأحزاب لطلب الحرية والاستقلال، وتبدأ والكل أصدقاء، ثم ينتهون والكل أعداء بسبب عدم تكافؤ القوى بين الأمة وأحزابها السياسية أو بلغة العصر بين الدولة والمجتمع المدني؛ إذ يقوم الحزب السياسي بعناصر ضعيفة وبأفراد قلائل، يعلنون برنامجا لتحرير الأمة من الاستعمار والاستعباد، فتتألف القلوب حولها، وتجتمع الكلمة. ويستحسنها الغريب، ويخافها الدخيل. تفرح الأمة ببرنامج الحزب ووعوده في الآجل والعاجل فتؤازره وتطيعه، ثم بعد ذلك تظهر في رؤساء الأحزاب الأثرة والأنانية، وتفضيل حب الذات على مصلحة الأمة. فتنزوي الناس عنه وتنكمش النفوس منه، وتترك الحزب أو تعاديه. لا يعني ذلك أنه لا فائدة من الأحزاب على الإطلاق، فإن الشرق بعد أن وقع في الاستعباد في حاجة إلى يقظة، والحزب يقوم بذلك حتى يظهر في الشرق أفراد كما ظهر في الغرب أفراد يستشهدون في سبيل الأوطان. حينئذ ينشأ الحزب لجمع الشتات، والقضاء على الذل، وبيان نعمة الإخاء والتعاون والاتحاد، يعمل على عزة البلاد ونصرة المظلوم، فواضح أن مهمة الحزب تربوية ثورية، وهو ما كان الأفغاني يحلم به بتأسيس العروة الوثقى، النواة السرية للحزب، وحولها تقوم الخلايا، ولكنه لم ينج نظرا لعدم استقراره في وطن. وهو ما حاوله حسن البنا بعده وينجح في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما نجحت فيه أيضا الجماعات الإسلامية ولكن دون نظرية ثورية.
18
ومع ذلك، وبالرغم من تأكيد الأفغاني على أهمية الحكم النيابي والتعدد الحزبي إلا أنه صاغ أيضا نظريته في
المستبد العادل
كنظام أمثل للشرق، فقد عرفت مصر النظام الفرعوني على ضفاف وادي النيل. وانتصر لها موسى ويوسف. فالمصريون في حاجة إلى عزم وحكمة وقوة، وذلك لا يتم بالقهر بل بالكلمة وتوحيد الأهواء وتوجيهها نحو الغاية، وتلك مهمة الرجل القوي العادل. القوة المطلقة استبداد، والعدل بلا قوة تراخ. يحتاج العدل إلى قوة قصدية وهو ما يستطيعه المستبد العادل. لا تحكم مصر إلا بأهلها واشتراكهم في الحكم والدستور الصحيح دفاعا عن الحرية والاستقلال؛ فالحرية لا يهبها الملك، والاستقلال لا يعطيه المستبد. إنما يؤخذان بالكفاح. ولا يسلم الشكل الدستوري من رجل قوي. لذلك لا يحكم الشرق إلا قوة عادلة تخضع لها الأمة. وهي تحقق مصالحه. وهي قوة وطنية؛ لأن الأمير الصالح القريب أولى من البعيد الغريب. أما الحكم الجمهوري فلا يصلح للشرق اليوم ولا لأهله.
19
ومصر أحب البلاد إلى الأفغاني، ترك لهم فيها محمد عبده، طودا من العلم الراسخ، وعرمرما من الحكمة والشمم وعلو الهمم. ومع ذلك ما زال المصريون في جمود وقعود. ويتساءل الأفغاني كيف لم يستطع الشيخ تحقيق مهمته وله تلاميذ مثل سعد زغلول؟ كيف لم تتألف منهم اليوم عصبة حق تقف للإنجليز، تحمي الهرمين وتصون الحرمين؟ يريد الأفغاني الاستمرار في تلاميذه ليس فقط في البداية في الثورة العرابية ولكن أيضا باستمرارها في ثورة 1919م التي قادها سعد زغلول. واستمر تراث الأفغاني في الحزب الوطني المصري الذي كتب برنامجه محمد عبده معبرا عن أفكار الأفغاني. كان الأفغاني يسمي محمد عبده الشيخ الصديق، وعبد الله النديم الصديق. كان عبد الله النديم كثير التردد في آخر أيامه على جمال الدين حتى غار منه محمد عبده. ذهب الشيخ محمد عبده إلى لندن لمناقشة المسئولين. فناقش اللورد هرتكتون وزير الدفاع دفاعا عن حق المصريين في الاستقلال؛ لأن حب الأوطان مغروز في الطبيعة البشرية التي تنفر من الأجنبي، وأن مصر شعب تعلم منذ محمد عبده بعد أن رأى اللورد أن ذلك من خصائص الأمم المتعلمة المهذبة، وأن الشعوب المستعمرة مثلها مثل الحيوانات السائمة. فالمصريون إما إن يختاروا الاستقلال دفاعا عن شرف الوطن أو الدين أو يكونوا كالحيوانات. لقد عرف الأفغاني محمد عبده في الضراء والنديم في السراء. وقد كان النديم نفسه كالأفغاني في النفي والسجن والحكم عليه بإهدار الدم.
20
كما اعتبر الأفغاني رياض باشا رمز الوطنية، ونعم الوطني الغيور. خدم بلاده. مواقفه كالهرمين، صائب الرأي، ثاقب الفكر. أقوم أمير، وأشد حرصا على الاستقامة، وأبصر أهل البلاد بعواقب الأمور. نقد من يتجنس بالجنسية الإنجليزية ويصبح كالأجنبي، موقفه الوطني جعله يرفض الحماية؛ فلفظ
برتكتورا
غير مفهوم. فإما ترك إنجلترا البلاد وإما احتلالها ولا وسط بين الاثنين. وشريف في وطنيته مثل رياض. لذلك تأسست مجلة الرياض المصرية على اسمه، والتي قال فيها الأفغاني إنه يعيش
زمن تحرير الأرقاء وإسارة الأحرار . ويغادر الأفغاني إلى لندن وباريس ويطالب بأمواله وكتبه من رياض باشا، ويبين ما وقع له في الهند. ويطلب من عبد الله فكري التدخل لصالحه. أما نوبار باشا فعلى العكس رمز الخيانة. ليس مصريا ولا عربيا ولا مسلما. باع مصر بثمن بخس. طالب بإبعاد الوطنيين من مصر مثل الزبير ورياض وشريف وكل شريف وربما أيضا منع العروة الوثقى، وطالب بإغلاق الأزهر. عطل جريدة وطنية كالأهرام شهرا وزج بأصحابها في السجون. عمل على نكاية مصر. وتبوأ منصب رئيس النظار وليس بينه وبين المصريين أي صلة. فلو باع مصر بأبخس الأثمان فهو الرابح، ولا يخسر ببيعه ملة أو دينا أو صلة أو جنسا. ومن الدخلاء في مصر ما هو أشنع من نوبار وآلة للاستعباد. والخونة لا يتبدلون إلا في الأسماء. لذلك وجبت مواجهة نوبار وإحباط مساعيه ومساعي أوليائه الإنجليز في الكيد لمصر وتطبيق ما يسمى بإصلاحات للورد دوفرين التي عارضها رياض. ومثل نوبار الضابط عثمان باشا. ففي رسالة إلى عبد الله فكري يصرح الأفغاني أنه لم يضمر للخديوي ولا للمصريين شرا ولا أراد ضرا، ولكن الضابط عثمان باشا نهشه ضغينة منه على إبراهيم اللقاني وإغراء من أعدائه، أحزاب عبد الحليم باشا. كان الأفغاني يقف في صف الوطنيين المصريين مثل رياض وشريف ضد الأجانب المتغربين مثل نوبار وعثمان وغيرهم من الأرمن والشراكسة تحقيقا لشعاره
مصر للمصريين .
21
الفصل السابع
الأمة في التاريخ
(1) وحدة الأمة
إذا كانت مصر والشرق تعبران عن أحد جوانب الفلسفة السياسية عند الأفغاني فإن الأمة في التاريخ تعبر عن فلسفته في التاريخ، تحويل فلسفة السياسة إلى دراما التاريخ.
والأمة واحدة، ترتبط فيما بينها برابطة الدين لا الجنس، بعصبة الأخوة وليس بعصبة العرق. ويستعيد الأفغاني العصبية عند ابن خلدون بمعنى الترابط الاجتماعي بالإضافة إلى الأخوة الدينية، والتعصب تهمة لصقها الإفرنجي بالإسلام والمقلدون لهم واتهام كل من يحافظ على شريعته بالتعصب
Fanatisme
مطالبين بالقضاء على التعصب الديني. والتعصب من العصبية نسبة إلى العصبة والقوم. والعصبة بهذا المعنى أساس الترابط بين الشعوب واتحاد الكلمة، روح كلي يربط بين الأفراد، يحميه من الأجنبي ويرفع الرءوس، وهي سنة الله في خلقه. إذا ضعفت العصبية فشلوا وغفل بعضهم عن بعض وتقطعت الأواصر فيدخل الأجانب. والتعصب له حد الاعتدال والتفريط. اعتداله كمال، وتفريطه نقص. الكمال وحدة ترابط، والنقص الدفاع عن النفس عن حق أو باطل وهو الممقوت على لسان الشرع في حديث
ليس منا من دعا إلى عصبية . التعصب الإيجابي نعرة على الجنس والنسب والاجتماع في منبت واحد والترابط بين النوع. هو الذي يربط المصري بالتركي والعربي والفارسي والهندي والمغربي. الأصل عون والعرق جساس.
1
والتعصب المرذول هو الذي قاد الغرب إلى اندفاعه نحو بلاد المشرق لمحض الفتك والإبادة لا للفتح أو الدعوة إلى الدين كما هو الحال في الحروب الصليبية وكما فعل الإسبان في طرد المسلمين من الأندلس وحرق المسيحيين اليهود في القدس.
وإذا كانت رابطة العصبية قد تتحول إلى تعصب عرقي فإن رابطة الأخوة الدينية قد تتحول أيضا إلى تعصب ديني. ولا فرق بين التعصب الجنسي والتعصب الديني في أن كليهما ذميم وإن كان الثاني أظهر من الأول. والعصبية قد تكون من الدين أو النسب. وهما رابطتان عند كل البشر، وصدرت عنهما آثار يفتخر بها الإنسان، وأوصلا الأقوام إلى المجد. ويأمر القرآن برابطة الدين
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ، وللتمييز بين رابطة الدين ورابطة التعصب. الدين أول معلم ومرشد لاكتساب المعارف والعلوم والتحلي بالأخلاق الكريمة والفتح والدعوة للدين كما كان الحال في عصر الفتوحات الأولى بناء على تعاليم الإسلام وحديث الرسول
إن من رضي بذمتنا فله ما لنا وعليه ما علينا . وآية
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . وقد وصل رؤساء من الأديان الأخرى إلى مناصب عالية في الدولة الإسلامية ما لم يبلغه الغرب والروم. وساروا على نحو عادل على خلاف اليونان والرومان الذين كانوا يطالبون الناس بالتخلي عن دينهم والاقتناع بدين الغزاة كما فعلوا في مصر وسوريا وفي البلاد الأوروبية نفسها.
ولما أراد الغرب السيطرة على المسلمين أوحى لهم بأن رابطة الدين تعصب، وهو المتعصب دينيا وجنسيا. وحاول إبعاد الأمة عن الدين وكما فعل الإنجليز في الهند واعتمادهم على الدهريين في إخراج المسلمين عن دينهم. وأنشئوا مدرسة في عليكره وجريدة لتحقيق هذا الغرض حتى تضعف العقائد فيتسلط الإنجليز
تعس من يبيع ملته بلقمة وذمته برذائل العيش . كان أسلوب الأوروبيين للنيل من الشرقيين لإيقاع البلاد العثمانية والمصرية بالتعاون مع المدعين بالعلم والمدنية الحديثة ذم التعصب الديني واعتباره ضد العلم والمدنية، لا فرق بين تعصب معتدل وتعصب مرذول. والغربيون أشد تعصبا، يتشدقون بالحرية مثل جلادستون، وهو بطرس الراهب. ليست الرابطة الدينية تعصبا بل أحكم الروابط بين التركي والعربي والفارسي والهندي والمصري والمغربي. وهي أساس المنافع الوطنية من أرباب الديانات المختلفة. فالمصلحة واحدة للجميع. ليست عصبة الدين وسيلة للعدوان وانتهاك حقوق الآخرين بل هي وسيلة للدفاع عن النفس وتقوية أواصر الأخوة بين المسلمين. ولا تكفي العصبة في الداخل بل هي في الخارج أيضا من أجل التنافس بين الأمم في القوة والسلطان واكتساب العلوم الناقصة والفضائل الخلقية والكمالات الإنسانية
اجعلوا عصبيتكم سبيلا لتوحيد كلمتكم واجتماع شملكم، وأخذ كل منكم بيد أخيه ليرفعه من هوة النقص إلى ذروة الكمال .
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .
ويحول الأفغاني رابطة الجنس وعصبة الدين إلى قانون عام لقيام الأمم وانحطاطها؛ إذ لا تتكون الدول إلا بقوتين: الجنس للاتحاد ولمغالبة الآخرين، والدين الذي يجمع الكلمة ويوحد الوجهة. ويعطي الأفغاني نماذج من التاريخ، قيام العرب وسقوط العثمانيين. بدأ العرب في التاريخ بقوة العروبة والتوحيد بين القبائل. وجاء الإسلام فضم إلى وحدة الجنس عصبة الدين، فانتشر المسلمون في الأرض فاتحين. ودانت لهم القياصرة والأكاسرة من إسبانيا غربا إلى خراسان شرقا في أقل من ثمانين عاما، واستمر الأمر كذلك عند الأمويين والعباسيين، ووصل إلى الذروة في عصر المأمون والرشيد. ثم حدث التقهقر، ليس لقلة العدد بل لإهمال أسباب التقدم، حكمة الدين والعمل بها، جمع الأهواء وتوحيد الكلمة. فشا الجهل في الخلفاء، وبعدوا عن العلم بحقيقة الدين. وهن الملك ولم تبق إلا عصبة الجنس والقبائل. ثم فقدوا عصبة الجنس فلم يبق شيء،
وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون . نظرا لوحدة الجنس لم يدخل الغريب في بداية الدولة، وفي نهايتها دخل الغريب فقوي، واستولى على الدولة. والأمثلة على ذلك كثيرة. وما حدث للعرب تكرر للعثمانيين. استعملوا الغريب في لحظة الانهيار، عكس الأوروبيين الذين لا يوجد لديهم مستشار هندي أو مصري، في الدولة العثمانية مستشار الخارجية أرتين باشا الأرمني وسفيرها لدى إنجلترا موزوروس باشا الرومي. وحاكم جزيرة كريت قسطاكي باشا. وشغلت مناصب الدولة ببورغاكي وقسطاكي وأعزب وأوخانس. ولكل منهم أمة يحكمها العثمانيون، وتريد التخلص منهم. فكان ولاء هؤلاء الرجال لأممهم وليس للدولة العثمانية. واضح أن الأفغاني يصف الشعوبية قديما وهي الارتباط برابطة الجنس وليس برابطة الدين كأحد عناصر الانحلال في الحكم العربي أولا، وتعيين الأجانب الذي لا يرتبطون بالأمة بوحدة الجنس ولا الدين كأحد أسباب انهيار الدولة العثمانية حديثا ، في التاريخ القديم، دين بلا جنس وفي الحالة الثانية لا جنس ولا دين، مع أن الشريعة الإسلامية تبيح توظيف غير المسلمين في كل وظائف الدولة المدنية حتى وزارة التنفيذ. وقد كان من سمات العثمانيين هذا الانفتاح على أممهم والاعتماد على خبرائهم. إنما القضية كانت في الأمم ونزعاتهم الاستقلالية وولائهم لأقوامهم وليس للدولة العثمانية.
2
ويضع الأفغاني قانونا أنه في عزة الدولة تم توظيف الغريب باسم وحدة الدين وفي ضعفها تم استبعاده باسم وحدة الجنس. مع أنه في الشريعة وحدة الدين كافية لتجاوز وحدة الجنس؛ فالأمة الإسلامية مكونة من أقوام عدة ساوى بينها الإسلام من حيث المبدأ وتركها تتنافس وتتسابق نحو الخير، ولا تفترق الأفراد في كل منها إلا بالعمل الصالح، وهو نوع من تحويل التاريخ إلى مثال كما هو الحال في الحركة السلفية المعاصرة.
وباستقراء أحوال الأفراد والشعوب توجد نعرة للجنس وتعصب له، ولكنه ليس من الثوابت في الطبيعة البشرية بل من عوارضها، فالإنسان له منافع يحصل عليها بالتربية. وفي حالة العدوان يحتمي الناس بالنسب حتى كونوا أقواما وأجناسا. وتوزعوا إلى الهندي والإنجليزي والروسي والتركماني. فلو زالت الضرورة التي أدت إلى هذا النوع من العصبية لاختفت عصبية الجنس. وتساوى الناس أمام الله العلي الكبير بدلا من خضوعهم للحاكم القاهر؛ لذلك أعرض المسلمون عن الجنسيات في وقت قوتهم ولجئوا إليها في وقت ضعفهم. الدين الإسلامي أقوى رابطة تذوب فيها روابط الأجناس وكما قال الرسول
ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية . وكما ذكر القرآن
إن أكرمكم عند الله أتقاكم . وقد حكمت المسلمين أجناس عدة لا فرق بينهم ما داموا يلتزمون بالشرع، لا فرق بين عربي وعجمي وحبشي وتركي وهندي وأفغاني. لذلك يتأسف المسلمون دون غيرهم على انهيار وحدة الأمة إلى عصبية الجنس. فواضح أن الأفغاني يرى أن عصبية الجنس مكتسبة وليست طبيعية في البشر. سببها التجمع بين قوم واحد درءا للعدوان وليس للعدوان.
3
أما الوحدة الإسلامية فإنها تقوم على الأخوة الدينية ،
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . قوة المسلمين في دينهم وإيمانهم، وينعكس على وحدة الأمة. وتطالب الشريعة بالوحدة والارتباط، وتظهر العقيدة، التوحيد، في حياة الجماعة. الأخوة الإسلامية نسب وقرابة، أخوة في الله ونصر للدين وليست للعدوان. والملة جسم عظيم قوي البنية. يصاب بأمراض مثل الانحلال وضعف الروابط مما أدى إلى انقسام الخلافة إلى دويلات في الداخل، والغارة على العالم الإسلامي في الخارج، من الغرب والشرق على حد سواء
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين . الوحدة هي الأساس والتجزئة طارئة. والنهضة هي الأصل والسقوط طارئ. والتفاؤل هو الدائم والتشاؤم وقتي. والفضائل هي القاعدة والرذائل استثناء، والعلم هو الجوهري والجهل عرضي. والنصر هو الثابت والهزيمة متغيرة.
ويستقرئ الأفغاني حوادث التاريخ، ويقرأ سنن الكون، ويتخذ العبرة التي لخصها القرآن في محكم الآيات، مثل
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم
للتأكيد على الوحدة الإسلامية كقانون للتاريخ. الوحدة سبب النهضة والتفكك سبب السقوط. ويتذكر وحدة الأمة الماضية من المغرب الأقصى غربا إلى الصين شرقا، ومن قازان شمالا إلى سرنديب جنوبا، أراض وثروات وعمران، وظهور حكماء الشرق، الرازي والفارابي وابن سينا، وحكماء الغرب ابن ماجه وابن طفيل وابن رشد. وتفوقوا في العلوم العقلية والشرعية. وكان الخليفة العباسي موضع رهبة من كل الملوك في الشرق والغرب. وكذلك كان باقي حكام المسلمين مثل محمود الغزنوي، وملكشاه السلجوقي، وصلاح الدين الأيوبي، «تيمورلنك» ومحمد الفاتح، والسلطان سليم، وسليمان القانوني. كانت أساطيل المسلمين في البحر الأبيض والمحيط الهندي، تحمي الديار الموروثة عن الآباء. والقرآن يعطي العقائد الصحيحة، ويطرد الأوهام، ويحث على الكمال الإنساني. ويتحقق الوعد والاستقلال ووراثة الأرض. وقد تم ذلك بفضل وحدة الأمة والإخاء، والافتخار بالتمسك بأصول الدين ورابطة الأخوة والتواصل بين التركي والهندي والأفغاني والحجازي.
ثم انهار البنيان، وتفككت الأمة، واستعمرتها القوى الأجنبية وتأخرت في المنافع والصنائع؛ فلا جنسية للمسلمين إلا في دينهم. تفرق الأمراء فتسلط عليهم الأعداء. ساد الهوى، واكتفوا بمظاهر الإمارة، ووالوا الأجنبي فضاع الأندلس، وانتهت السلطة التيمورية في الهند، وظهر الحرص على الدنيا، وضاعت وحدة الكلمة. ولو اتبع المسلمون عقائدهم ورعاية العلماء لتوحدت الكلمة. ويقترح الأفغاني طرقا ثلاثا: الأول إثارة الأذهان وتنبيه الغافلين لمعرفة ما يكون به الدفاع، والثاني اتفاق الآراء على القيام بذلك وتوحيد الكلمة، أي القرار الجماعي، والثالث الارتباط القلبي بين الإخوة لبناء الأقطار. وقد توحد الروس وكانوا متأخرين عن أوروبا بهذه الطرق الثلاث حتى ارتقت في الفن العسكري، ولكن الأمراء المترفين تقاعسوا، وركنوا إلى الدنيا، يحرصون على الألقاب والمظاهر في المواسم والأعياد، والانحناءات كرد التحيات والتوقيعات على الأوراق الرسمية بأسماء لا مسميات لها، والنياشين على الصدور. فلا سبيل للخروج من هذا التفكك والانهيار إلا بالوحدة
إنما المؤمنون إخوة . من الصعب توحيد الأمراء في شخص واحد، بل توحيدهم تحت سلطان القرآن ووجهة الدين. لا يكفي الحزن بل العمل لتجاوز اليأس والضعف
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ، والابتعاد عمن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل لهم اقعدوا مع القاعدين، أو من الذين
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون . القرآن حي لا يموت ولم ينسخ بوحي آخر
وما الله بغافل عما تعملون . وللعلماء العاملين اليد الطولى في هذا العمل الشريف.
4
وبالفعل، دبت الحياة في الممالك الشرقية فهبت من رقدتها، فتوحد الفرس مع الأفغان بالاتفاق على أصل واحد، ورابطة واحدة، الدين الإسلامي ونشر ذلك الاتفاق على إخوانهم في الهند. ولا اختلاف بينهم في المذهب يدعو إلى الفرقة. والجزء لا يضحي بالكل، والفرع لا يقضي على الأصل، الوحدة الدينية إذن أساس الوحدة السياسية والحضارية لمقاومة العادين والطامعين. وقد تم استيلاء الإنجليز على بلاد الهند لخلافهم مع الأفغان، وكل مسلم في الهند، في بنجاب، شاخص ببصره إلى هذه الوحدة بين الفرس والأفغان. فالاتحاد أفضل وسيلة لدرء العدوان. واتفاق سلطنة الشاه مع إمارة الأفغان، قوة إسلامية جديدة في الشرق، نواة الاتحاد بلاد الشرق. وفي وسطها الخلافة العظمى لاستعادة عز الأمة وسيرة الإسلام الأولى، فتخشاه أوروبا.
ويعبر الأفغاني عن أهمية الوحدة الدينية بأقواله المأثورة ؛ مثل: شر دواء الشرقيين اختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف. فقد اتفقوا على ألا يتفقوا، عدم التشاكل من أعقد المشاكل، أي إدراك العالم بعين الاختلاف وليس بعين التشابه، لا يتم عمل والتآلف مفقود، بالضبط والتضييق تلتحم الأجزاء المبعثرة، وهذا الضبط هو الترابط الديني. الشرق، الشرق، داؤه انقسام أهليه، وتشتت آرائهم، واختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف، اتفاقهم على عدم الاتفاق، واختلافهم على الاتفاق. لقد تفرقت كلمة الشرقيين عموما، والمسلمين خصوصا، وقد كان اتهام الغرب الشرقيين بالتعصب من أجل تفكيكهم وابتلاعهم وفرض المسيحية عليهم باسم الحرية.
5
ويفصل الأفغاني دعوته لاتحاد الفرس مع الأفغان في آسيا، مثل دعوته لوحدة وادي النيل في أفريقيا، الأولى نواة لوحدة المشرق الإسلامي والثانية دولة - قاعدة لوحدة المغرب الإسلامي. ولما كانت مصر بين آسيا وأفريقيا فإن نواة الوحدة الإسلامية في المشرق والمغرب هي مصر. ويصدر الأفغاني ودعوته بحديث
إذا أراد الله بقوم خيرا جمع كلمتهم . والتعبير عن سروره بخدمة الجرائد الفارسية لأوطانها واعتدالها ونقلها بعض أبواب العروة الوثقى إلى الفارسية تنبيها للمسلمين، وإنارة للعقول من أجل تعميم الفائدة. واللغة الفارسية في الشرق كاللغة الفرنسية في الغرب تعبر عن إبداع القرائح السليمة خاصة فيما يتعلق بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية وإحياء الرابطة الملية بين المسلمين خاصة بين الإيرانيين والأفغانيين. وهما فرعان لشجرة واحدة وشعبتان لأصل واحد، هو الأصل الفارسي القديم. ومن الطبيعي أن تكون المبادرة من الإيرانيين. فالعلماء من فارس: البخاري، ومسلم، والنيسابوري، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وأبو داود، والبغوي، والبلخي، والكليني، والرازي الطبيب، والرازي المفسر، والغزالي، والإسفراييني، والبيضاوي، والطوسي، والأبهري، والإيجي، وابن سينا، والسهروردي، وكثير من المحدثين من العلماء والمفسرين والمتكلمين والفلاسفة والصوفية. وكانوا أول من خدم اللسان العربي وضبط أصوله مثل سيبويه، وأبو علي الفارسي، والرضي، والجرجاني، والجوهري، والفيروزآبادي، والزمخشري، والكسائي، والأصفهاني، والهمذاني من علماء القرآن والبلاغة، والطبري، والإصطخري، والقزويني من المؤرخين والجغرافيين، والشيلي، والبسطامي، والهروي، أستاذ ابن عربي من الصوفية، والبزدوي، والآمدي، والميرغناني، والسرخسي، والتفتازاني، والشريف، والأبيوردي من الفقهاء، والقطب، والصدر الشيرازي، وميرباقر، وميرفندركس من الحكماء . لذلك قال الرسول:
لو كان العلم في الثريا لناله رجال من فارس . فالفرس مهيئون للمبادرة للوحدة الدينية كما أبدعوا في العالم، واسترجاع فتوة الإسلام الأولى، والوحدة مع الأفغان والتحالف معهم على مقاومة المعتدين. وقد تم استيلاء الإنجليز على الممالك الهندية بسبب الخلاف بين الفرس والأفغان، وكل مسلم في الهند ينظر إليهم. وحدة الفرس والأفغان هو السد المنيع الذي يحمي الهند من الشمال ضد الغزو الأجنبي، وأمير الأفغان والأفغان من أشد الناس عداوة للإنجليز. فلو اتحد الأمير مع الشاه لوجدت قوة إسلامية في المشرق نواة لتوحيده، وكانت رصيدا للمسألة المصرية. مهمة الفرس بيان أسس هذا الاتحاد وأهميته وضرورته. وقد بدأ الروس الهجوم على الهند وأوروبا مشغولة بمقاصدها. فاتحاد إيران وأفغانستان تدعيم لمقاومة الهند للغزو الروسي خاصة وأن الهند بعيدة عن روسيا، وجبالها وعرة، ولا سبيل إلى الوصول إلى الهند إلا عبر فارس وأفغانستان. وليس من المعقول أن تستعمر روسيا الهند عن طريق إيران وأفغانستان ومشاركتهما في الغنيمة. ورابطة الدين الإسلامي أقوى الروابط بين الفرس والأفغان والهنود، وترك الخلاف المذهبي الفرعي إلى المصالح العامة والدفاع عن الأوطان. وقد اختلف الألمان في الدين المسيحي كما يختلف الإيرانيون مع الأفغان في الإسلام ولم يكن لهذا الاختلاف الفرعي أساس في الوحدة السياسية، توحد الألمان بعد أن ضعفوا، ولم يكن لهم دور في السياسة الأوروبية. فراعوا الوحدة الوطنية في المصالح العامة. واللسان الفارسي هو لسان الطائفتين، وبالتالي تكون مهمة الجرائد الفارسية العمل لهذه الدعوة.
6
واضح أن الأفغاني يؤسس الدعوة للوحدة على الرصيد التاريخ الحضاري والثقافة المشتركة بين الشعوب الإسلامية، كما يعتمد على التجارب الأوروبية المعاصرة، مثل الوحدة الألمانية من أجل تدعيم الوحدة الإسلامية.
ويستبعد الأفغاني كون الفرس من الشيعة والأفغان من السنة أن يكون ذلك مانعا من الوحدة بينهما كما لم تكن البروتستانتية والكاثوليكية مانعتين من وحدة الشعب الألماني؛ فقد ظهرت أحزاب وشيع منها من ضلت مثل المؤلهة التي تقول بألوهية علي، والمفضلة والغلاة في محبة آل البيت طريقا للقول المأثور
يهلك فينا أهل البيت، محب غال، ومبغض غال . المفضلة من الشيعة يقلدون جعفر الصادق، من كبار فقهاء آل البيت، يغالون في تفضيل علي، ولكنهم لا يخرجون على الأمة. إنما هي فروع أوجبت الخصام؛ فالاقتتال لجهل الأمة وسفه الملوك الطامعين في توسيع الممالك، ملوك السنة هولوا وعظموا أمر الشيعة لاستهواء العامة بأوهام ضد توسيع شيعة آل البيت ليتسنى لهم قتالهم، فيقتل المسلمون بعضهم بعضا بحجة الشيعة والسنة، والكل موحد بالله، مؤمن بالكتاب والسنة. أما مسألة تفضيل علي والانتصار له يوم قتال معاوية، والخروج عليه فلو كانت في هذا الزمن مفيدة ولإحقاق الحق فإنها لم تعد كذلك اليوم ولا ينشأ منها إلا الضرر وتفكيك عرى وحدة الأمة. فهل لو أجمع أهل السنة اليوم، ووافقوا المفضلة، وأقروا بأولوية علي بالخلافة قبل أبي بكر فهل يحسن ذلك حال السنة والشيعة؟ ولو وافقت الشيعة أهل السنة على أولوية أبي بكر وأحقه بالخلافة فهل ينهض أهل السنة مما وقعوا فيه من مذلة وهوان؟ لا يرضى علي عن الشيعة إذا قاتلوا أهل السنة لمجرد تفضيله على أبي بكر، ولا يرضى أبو بكر أن تدافع أهل السنة عنه، وتقاتل الشيعة لأفضليته التي تخالف روح القرآن، وأن المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، إن قصة التفضيل لو استحقت البحث لكفى أن يقال لحلها إن أقصر الخلفاء الراشدين عمرا تولى الخلافة قبل أطولهم عمرا. فلو تولى الخلافة علي لمات أبو بكر وعمر وعثمان ولم يتيسر لهم خدمة الإسلام.
7
يقدم الأفغاني هنا حجة الأمر الواقع على حجة شرعية الفكر، ومقياس المنفعة وأولويته على الضرر، والزمن الحاضر وأوليته على الماضي، وضرورة الوحدة على الانقسام.
والدين واحد بالرغم من تعدده، والأديان متفقة في الهدف والقصد والغاية. هناك ثلاث ديانات كبرى: اليهودية النصرانية والإسلام، وكتبها السماوية: التوراة والإنجيل والقرآن، القصد منها واحد، إرشاد الخلق إلى الحق، وتوجيههم إلى الطريق المستقيم في العبادات والمعاملات، وبيان مشيئة الله في خلقه وصون مصالح العباد. وهو قصد واحد، ومشيئة واحدة. والكتب السماوية كلها تهدف إلى غاية واحدة. عبادة الله واحدة، والمعاد واحد ، أنانية الإنسان وحبه الذاتي ورغبته في البقاء بعد الموت، وكأن الأفغاني يؤسس العقائد في التجربة الإنسانية. لا يوجد في الأديان الثلاثة ما يخالف نفع مجموع البشر. الكل يعمل للخير المطلق، ودفع الشر ، وجلب المنافع، ودفع المضار. الأديان الثلاثة، الموسوية والعيسوية والمحمدية متفقة في المبدأ والغاية، وكل منها يكمل الآخر في الخير المطلق. وإذا قدم العهد ونشأ الطغيان أو سادت الكهانة ظهر نبي لإكمال الناقص، فوحدة الأديان طريق البشرية إلى السلام. القصد واحد وهو التحرر، كمال العقل الإنساني واستقلال الإرادة البشرية. فإذا ما ضعفت الإنسانية عبر التاريخ وقعت في الخرافة والجهل أو رضيت بالطغيان يظهر نبي يذكر بالقصد والغاية؛ فالوحي مربي الإنسانية.
8
والخلاف فيها بين رجلين: الأول يؤمن بالوحي ويثبت الأنبياء، والآخر يجحد بالوحي وينكر الأنبياء. الأول يدرك وحدة الأديان، والثاني يقول إن الكون ليس فيه جديد ويأتي العلماء فيصوغونه. توحيد الله عند قدماء المصريين قبل موسى، والتثليث من الوثنيين، قال به فيثاغورث قبل المسيح. وموسى وعيسى ومحمد اعتمدوا على أقوال الحكماء القدماء وضموها إلى كتبهم. فهي كتب بشرية وليست إلهية. ولو كان بهذه الكتب بعض النفع فضررها أعظم. وقد سببت الشحناء والبغضاء. ولو كان الدين حقيقة لما وقع الاختلاف فيه. ويرد الأفغاني على الجاحد بأن الاتفاق بين الأديان حقيقة، والاختلاف من صنع رؤساء تلك الأديان الذين يتاجرون بالدين ويشرون بآياته ثمنا قليلا. وما أنفع رجال الدين إذا صلحوا وما أضرهم إذا فسدوا، الأديان الثلاثة واحدة، يكمل بعضها بعضا، إلا أن كل طائفة اعتبرت نفسها حانوتا أو متجرا. فظهر الاختلافات الدينية والطائفية والمذهبية كما قال الشاعر:
قد يفتح المرء حانوتا لمتجره
وقد فتحت لك الحانوت في الدين
صيرت دينك شاهينا تصيد به
وليس يفلح أصحاب الشواهين
فإذا قاوم رجل الاختلاف قطع رزقهم، واتهموه بالكفر والزندقة والإلحاد والجحود والمروق على الدين. فأكبر خطأ مس كرامة الدين لمجرد عمل يأتيه فرد من رجال هذا الدين. والإيمان واليقين ليس معناهما عبادة رؤساء الدين. لقد تحولت الأديان إلى متاجر وحوانيت. وينقد الأفغاني بالمناسبة الشيخ الميرغني الذي صاحب فرقة إنجليزية ضد ثورة القبائل السودانية، والشرع يحذر منه. وقد حكم العلماء بمروقه، وهو مثل نقد الكندي لرجال الدين الذين يدافعون عن مناصبهم المزورة باسم الدين وهم عدماء الدين؛ لأن من جهل الحق عاداه في أول رسالته إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى.
وتنشأ الشبهات حول الأديان بمقارنة المثال بالواقع، ما ينبغي أن يكون بما هو كائن. فقد سأل أحد نواب الهند: إذا كان الإسلام هو الدين الحق، فلماذا تقهقر المسلمون؟ ويرد الأفغاني على ذلك بحجة جدلية بأن الدين الحق هو الظاهر وليس الإسلام. وإذا كان المسلمون غير ذلك فهذا لا ينفي الإسلام؛ لأن حجة الواقع لا تطعن في الفكر. والدين الحق هو الدين الواحد وليس مراحله المتتالية، اليهودية والنصرانية والإسلام، الدين الحق هو الدين الخالص. كما يستعمل الأفغاني حجة خيالية، إذا وضعت الكرة الأرضية بين يديه وتم قياسها ببعض الأجرام كانت صغيرة، والإنسان أصغر. وإذا عاش الإنسان في كوكب آخر فإنه قد يمتلك حجم الكرة الأرضية، ولما نشأ الاختلاف. وتقوم الحجة على عظم الكون والأرض، والإنسان لا يشغل إلا مساحة ضئيلة فيه، ومع ذلك يختلف الناس عليها. فما بالهم لو تكاثروا وعاشوا في الكون الأرحب والأوسع؟ وما المانع أن يعيش أهل كل قرية في أمن وسلام؟
9
ويستشهد الأفغاني بالتوراة والإنجيل والقرآن ما دام الدين واحدا. وهو أقرب إلى موقف الصوفية والفلاسفة وإخوان الصفا منه إلى المتكلمين والفقهاء إلا أنه يسميها الديانات الموسوية والعيسوية والمحمدية، وهو خطأ؛ لأن أسماء الديانات لا تشتق من أسماء مؤسسيها، مثل البوذية والمسيحية والزرادشتية والمانوية، بل من جوهرها. فالإسلام من أسلم، والنصراني من نصر.
والوحدة تؤدي إلى السيادة. ويصدر الأفغاني مقاله عن
الوحدة والسيادة
بحديث
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا . فهناك أمران خطيران تدفع إليهما الضرورة أحيانا والدين أحيانا أخرى، وهو الميل إلى وحدة تجمع وسيادة لا توضع. فكل أمة تنهض وتضمحل كالصحة والمرض، والحياة والموت. التغلب في الأمم كالغذاء في البدن. والوفاق تواصل وتقارب إحساسا من كل فرد بمنافع الوحدة، النظر في أمور الآخرين. ثم تنشأ الرغبة في السيادة كنتيجة طبيعية للوحدة. هذان الأمران، الوفاق والغلب ركنان في الدين وفرضان شرعيان طبقا للحديثين الشهيرين
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ،
لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا . والاعتصام بحبل الدين ضروري، وكذلك الصلح بين المتخاصمين كما نص القرآن
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ،
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات . وكما نص الحديث «يد الله مع الجماعة.»
لو دعيت إلى حلف الفضول لفعلت . فالإحساس بالجماعة والتضامن معها وتمثل قيمها قبل الوحي وبعده، وله أساس في الطبيعة البشرية، مثل عدم أخذ فضل من حقه، ورد حق المظلوم إليه. كما يدعو القرآن إلى بسط السيادة ولكن افتتن المسلمون
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ،
إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . الميل إلى الوحدة، والتطلع إلى السيادة طبيعيان في البشر، أكده الدين، وعبر عنه القرآن، وصاغه الحديث.
10
ثم ينتقل الأفغاني من المثال إلى الواقع، من الوحدة إلى التنوع. فالبشر يعيشون في أوطان وفي قوميات وفي إنسانية واحدة، الإنسان نوع واحد وليس له غير هذه الكرة وطنا؛ فوحدة النوع تقتضي وحدة المكان. ومع ذلك لا تتحدد الهوية بالجغرافيا والمكان ولا بالعرق والدم بل بالفكر والتاريخ، بالتوحيد والثقافة المشتركة، الإخوة الإسلامية والتاريخ المشترك، العروبة هي اللغة، والإسلام هو الفكر، والعالم الواحد هو الواقع الحي، فالعصر عصر الأوطان وتخطي الأوطان في آن واحد، ويفصل الأفغاني الصلة بين القومية والإنسانية معتمدا على التشبيه طبقا لعادة القدماء خاصة الفارابي. فكما أن للإنسان «حواس خمس» فللأقاليم حواس خمس بها تميزت الشعوب والقبائل التي خلقها الله من نفس واحدة. وتقسم المعمورة إلى أوطان، والخواص الأربع تستمد طبيعة الإقليم منها، والخامسة تطرأ فتؤثر، وهي: الأول الدين، أي العقائد، وهو الأول في الترتيب، والثاني اللسان، أي اللغة ، الثالث الأخلاق أي القيم، والرابع العوائد، أي العادات والأعراف، والخامس الإقليم الذي يؤثر في المجموع. وبهذه العناصر الخمسة تحصل ميزات الأقوام، وتحصل المساواة بينهم. فإذا ما أصابها الغرور ساءت الطبيعة، ونشأ الغلب والقهر بالتذرع بالدين. توجد القوميات بالعناصر الخمسة كما توجد الإنسانية أيضا. وبالرغم من تقسيمات الغرب واستقلال عناصره بميزاتهم القومية تساووا نسبيا بالفضيلة وأهمها العلم بالواجبات لهم وعليهم. انتفى منهم التفرد بالسلطة وسوق الأمة على هوى السلطان. وسينتفي هذا الحكم المطلق في التاريخ تدريجيا حسب مقتضيات الفطرة كما حدث في الغرب اليوم، تحكمه الشورى. وصارت كل أمة في مأمن من أن تغزوها الدولة المجاورة. فإذا ما فشا العلم في الأمة فأول ما تقوم به مناهضة هذا الشكل من الحكم حتى تتخلص منه. هذه سنة الله في الكون
ولن تجد لسنة الله تبديلا .
11
ومع ذلك ارتبطت نشأة القوميات في الغرب بالاستعمار بينما ارتبطت في الشرق بالتحرر. ولم تكن القومية الغربية كلها خيرا. إذ نشبت فيه حربان عالميتان طاحنتان في القرن العشرين بعد وفاة الأفغاني. وقامت الحروب باسم القومية بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا، واستعمرت فلسطين باسم القومية اليهودية. ووقعت مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك باسم القومية العربية. وذبح ملايين من الأفارقة في مذابح متبادلة بين القبائل في رواندا. فالأفغاني أحيانا يحول التاريخ إلى مثال لا يصدق في الواقع، وأحيانا أخرى يستقرئ حوادث التاريخ لإثبات المثال في صيغة قانون للتاريخ.
وبحثا عن الأوطان والقوميات والإنسانية عرج الأفغاني على الماسونية. انضم إلى المحفل البريطاني، ثم غادره إلى المحفل الفرنسي ثم غادر الماسونية كلها مبينا ميزاتها وعيوبها؛ إذ تمتاز الماسونية، وهذا ما أغرى الأفغاني بها، أنها هدم للقديم، الظلم والجور والعتو، وبناء للجديد، الحرية والإخاء والمساواة. غرضها نفع الإنسان. تهدف إلى دك الظلم وتشييد العدل. كما تعمل على بلورة همة العمل، وعزة النفس والشمم، واحتقار الحياة في سبيل مقاومة الظلم، واعتبار كل قادر وظالم من الحكام من الخوارج. والماسونية أشرف وأرفع من أن تعمل على إيجاد سلطة لرئيس تخدم له بها غاية شخصية أو منفعة مادية أو معنوية. أراد الأفغاني أن يكون عاملا ماسونيا نزيها متجنبا الرذائل حرصا على شرف الشخصية وحتى لا يعاب على الماسونية بأشخاصها، وصحة البدن وذل السؤال لا يجتمعان، الماسونية تسعف الأخ إذا سقط في العلل أو اعتراه شلل. وتقدم على من سواه في البشرية. تربي أبناءه إذا مات فقيرا، وتحسن تربيتهم. الماسونية هي أن يصبح الإنسان إنسانا، وألا يكون الإحسان له إساءة.
ومع ذلك، وبعد أن عرفتها مصر بلد العجائب، وبعد دخول الأفغاني فيها والخروج عليها، وتجربتها ومعايشتها اكتشف عيبها مثل الجبن والخوف والنفاق والزلفى. كما لا يوجد وصف دقيق لها؛ إذ يقول
أما نحن معشر الماسون فيؤلمني أنني للآن ما عرفت لنفسي بصفتي ماسونيا ولا لمطلق الماسونية تعريفا يجعل لها صورة في الذهن أو وصفا ينطبق على من ينخرط في العشيرة .
12
كما تقوم الماسونية على الأثرة والأنانية وحب الرئاسة، والأفغاني لا يحب الرياسة بل يتوجه إلى الجماهير. كما تسود الجماعة الأهواء والانفعالات البشرية دون مراعاة لحق مطلق أو مبدأ ثابت. ويبدو أنها تهدف إلى إخضاع الشرق وتهديده ووعيده، وأنها نحلة غربية تقع تحت معاداة الأفغاني لاستعمار الغرب للشرق. الماسونية لم تزل في المهد وقد تختنق في المهد إذا لم يفقه مغزاها أحد. الماسونية اليوم مجرد
كيس أعمال وقبول أخ . نوع من أساطير الأولين، تخل بعقائد الناس، وتقسمهم إلى رئيس ومرءوس، تابع ومتبوع، غرب يأمر وشرق يرضخ، غرب يجمع المال وشرق يدفع الجزية. لن تعيش الماسونية في الشرق؛ لأنها لا تعبر عن مصالحه ولا تبغي تحرره، وهي أحد مظاهر الهيمنة للغرب. (2) التقدم والتخلف
ويحاول الأفغاني أن يرصد بعض القوانين العامة لنهضة الشعوب وسقوطها تنطبق على جميع الأمم عبر التاريخ وليس فقط على الأمة الإسلامية، وهي قوانين التقدم والتخلف على أساس أن النهضة هي القاعدة والسقوط هو الاستثناء، أن التقدم هو الأصل والتخلف هو الفرع، مفسرا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لاستنباط هذه القوانين أو واصفا حوادث التاريخ مستقرئا لها، جمعا للتنزيل مع التأويل. ربما تنقص الصياغة النظرية ولكن الهم واضح، والنية معلنة.
كانت للمسلمين شدة في الدين وقوة في الإيمان وثبات في اليقين. وكانت العقيدة من أوثق الأسباب لارتباطهم. وكان الإيمان يؤدي إلى السعادة في الدارين. وكان العلماء مرشدين للناس، موجهين للعامة. والمسلمون تحكمهم الشريعة، مطالبون بالحفاظ على ما لديهم من البلدان. ثم غفل المسلمون عن بعضهم البعض. ولم يتألموا لما حل ببعضهم البعض. كان أهل بلوخستان يرون حركات الإنجليز في أفغانستان ولا يتحركون. والأفغانيون يرون تدخل الإنجليز في إيران ولا يتكلمون. ويضرب الإنجليز في الأراضي المصرية، تقتل وتفتك ولا ينجد المسلمون. فتفكك الرابطة الدينية سبب الانهيار والاستعمار، وقوتها سبب النهضة والتحرر.
وتمسك المسلمين بالعقائد له أسبابه؛ إذ تبعث الأفكار والعقائد على الأعمال تثبتها. والإنسان بفكره وعقائده، وللأخوة ونسب القرابة صورة من العقل، وهما من الروابط الإنسانية. والآن لم يبق للمسلمين إلا الدين والعمل، وانقطع التعارف بينهم، وهجر العلماء بعضهم بعضا، ولا سفارة للعثمانيين في مراكش ولا لمراكش عند العثمانيين. ولا توجد صلات بين العثمانيين والأفغان. كثرت المذاهب والتشعب والخلاف في بداية القرن الثالث للهجرة. وانقسمت الخلافة إلى عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس. ثم ظهر جنكيز خان وأولاده وتيمورلنك وأحفاده. وواجب العلماء الآن إحياء الرابطة الدينية والترابط بينهم.
13
واضح أن الأفغاني هنا ينوع على نفس القانون. فالنهضة بالدين والعمل، والسقوط بالدين دون العمل. كما أن التقدم بالترابط والتخلف بالتفكك. ويكون القانون هو: ترك ما كان سببا للصعود يؤدي إلى الهبوط والسقوط.
والجهاد أيضا قانون تاريخي. الجهاد سبيل النهوض، والنكوص يؤدي إلى الانهيار. ويعتمد الأفغاني هنا على استنباط هذا القانون من الآيات القرآنية، مثل
ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . الجهاد امتحان واختبار للنفس. وجهاد للعدو ضد الخوالف المثاقلين إلى الأرض. الجهاد سبيل النهوض والنكوص، والقعود الطريق إلى السقوط. ويذكر أيضا
لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون . فالإيمان بالله يؤدي إلى الجهاد، أي إلى العمل مثل القانون السابق. فإن تخلت الأمة عن الجهاد فإنها لا ترث الأرض بل ترثها أمة غيرها
وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم . والتولي هو خيانة البلاد، والجهاد هو الدفاع عن الأوطان. ملعون من يخون البلاد لمرض في قلبه. ملعون من يبيع أهل ملته بحطام يلتذ به. ملعون من يمكن الأجانب من دياره، محروم من شرف الملة الحنيفية، من يعظم الصغير ويصغر العظيم، ويمهد الطريق لخفض كلمته وإعلاء كلمة الأغراب. ملعون من يختلج في صدره أن يلحق عارا بأمته ليتمم ناقصا من لذته. هنا يتوجه الأفغاني بالخطاب السياسي إلى الأمة، ويوحد بين النكوص والخيانة. إن المولعين بحب الحياة يقضونها في الذل من خوف الذل، ويعيشون من خوف العبودية في العبودية، ويجرعون مرارات سكرات الموت في كل لحظة خوفا من الموت. فلا الدين يسوقهم إلى مرضاة الله، ولا الحمية الوطنية تدفعهم إلى ما به فخار بني الإنسان.
14
ويصوغ الأفغاني بعض الأقوال المأثورة لبيان أهمية الجهاد، وإيثار الموت الكريم على حياة الذل. وأحقر الناس من يطلب موت الناس ليحيا، وأعظمهم من يستميت ليحيا ولو واحدا من الناس. وطالب الموت في سبيل حياة الوطن إما أن يموت بطلا شهيدا وإما أن يعيش سيدا عزيزا. وأمة ثبتت في جهادها لأخذ الحق ساعة خير لها من الحياة في الذل إلى قيام الساعة. وخير لون لراية الاستقلال دماء المجاهدين والأبطال.
15
والإصلاح الديني أيضا قانون للنهوض وأحد وسائل الانتقال من التخلف إلى التقدم، ومن السقوط إلى النهضة. ولا يمكن التخلص من الانحطاط والتأخر إلا بتأسيس النهوض والتمدن على قواعد الدين وليس عن طريق تقليد الغرب الذي يؤدي إلى الانبهار بالأجانب والاستكانة لهم والرضا بسلطانهم. فيتحول الإسلام من تحرر وإبداع إلى خمول واستئناس لحكم الأجنبي، والسبيل إلى ذلك حركة دينية تقلع ما رسخ في عقول العوام وبعض الخواص من فهم خاطئ للعقائد والشرائع، ونشر تعاليم القرآن الصحيحة بين الجمهور وشرحها بحيث تؤدي إلى السعادة في الدارين. ومن هنا تأتى ضرورة تهذيب العلوم وتنقيح المكتبات، ووضع مصنفات سهلة. وكان هذا طريق إصلاح الغرب، وانتقاله من الهمجية إلى المدنية. وهي الحركة الدينية التي قام بها لوثر بعد أن رأى خضوع أوروبا لرجال الدين ولتقاليد خارجة عن العقل والدين، فأصلح الأخلاق، وقوم الاعوجاج، وطهر العقل، ونبه إلى الحرية الطبيعية ضد الاستعباد والطغيان. ثم نشأت حركة عداوة ثم منافسة بين البروتستانتية والكاثوليكية على القوة والعزة والغلبة والارتقاء في المدنية للتفوق على الآخر. ومن هذه المنافسة تولدت المدنية الحديثة التي ينبهر الناس بها. مع أن لدى المسلمين فرقتين كبيرتين، سنة وشيعة، ولم ينشأ تحد بينهما نحو المدنية. تبدو الشيعة أحيانا كالكاثوليكية نظرا لأهمية رجال الدين والتراث والتاريخ، والسنة كالبروتستانتية نظرا للعقل والفردية والحرية. وأحيانا تبدو الشيعة كالبروتستانتية نظرا لما فيها من معارضة واعتراض، والسنة كالكاثوليكية نظرا لما فيها من خضوع. ومع ذلك يرى الأفغاني نفسه كمارتن لوثر، وحركة مثل البروتستانتية. وسجن الظالمين للمصلح رياضة، ونفيهم له سياحة، وقتلهم له شهادة، وهي أسمى المراتب.
16
والحروب أقبح ما اخترعه الإنسان في الأرض. وهي وحدها أحق الأعمال بالكتمان لفظاعتها. بينما العلم أفضل ما اخترعه الإنسان الذي أدى إلى التقدم والعمران عند الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكيين. ولكن في مقابل ذلك ترجح كفة ويلات الحروب على العلم عندما يتحول العلم والمدنية والرقي إلى جهل ووحشية وهمجية، ويتحول الإنسان إلى حيوان بل أحط منه لعدم استفادته من حقيقة العلم. الحروب أكبر دليل على ذلك فلم تقف الحيوانات بعضها أمام بعض كما يقف الإنسان أمام أخيه الإنسان، والدول أمام بعضها البعض بالقتل والدمار. وقد نبه القرآن على ذلك بقوله
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . فاعترضت الملائكة بأن الإنسان يسفك الدماء
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، والملائكة يريدون فهم السر دون عصيان الله
لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . لذلك أخبرهم الله
إني أعلم غيب السموات والأرض . وفضل آدم بالعلم
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض ، وجاء في القرآن تعظيم العلم الصحيح.
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ،
وما يعقلها إلا العالمون . العلم الصحيح يؤدي إلى السلام والمدنية والعمران وليس إلى الحروب والدمار، مرة باسم الوطن والوطن بقعة من الأرض. ولو أنصف الناس لوسعتهم الأرض وهم لها تاركون وفي جوفها داخلون. فالأولى أن يعيش الإنسان مع أخيه الإنسان فوقها، ولا يحتاج لتوقف الحروب إلا توقف الأمة عن الاستجابة لها وتحكيم العقل والعدل. السبيل إذن إلى إبطال الحروب الارتقاء في العلم وتحويل عساكر بريطانيا إلى نيوتن ودارون وعساكر فرنسا إلى باستير. فهل يقف الجنود صفوفا للحروب والتدمير أم يقف العلماء صفوفا للبناء والتعمير؟
17
ويبدو الأفغاني هنا مثل فولتير ناقدا للحرب بالرغم من نقده له باعتباره دهريا. كما يضع تقابلا بين الحرب والعلم مع أن العلم أحد وسائل الحروب والدوافع عليه. فالعلم والحروب في يد السياسيين، ولا يوجد علم مجرد ليس في يد أحد مهما كثرت الدعوات على العلم في سبيل السلام، والتمييز بين العلم وتطبيقاته أو بين العلم والسياسة. فهذه نظرة مثالية أخلاقية لم تمنع من وقوع الحروب. وإدراكا منه لفظاعة الحروب في القتل والدمار فإنه يفضل استعمال تعبير تنازع الفناء على تنازع البقاء؛ لأن البقاء صفة لله، ولأن قانون التنازع يبقي الأقوى ولكنه يفني الأضعف. الحرب إذن استثناء في التاريخ والسلام هو القاعدة.
ومع ذلك يفرق الأفغاني بين الحروب العادلة والحرب غير العادلة على ما هو معروف في الفكر الديني والسياسي منذ العصر الوسيط في اصطلاح
Just War . الحرب غير العادلة هي حرب العدوان، والحرب العادلة هي حرب الدفاع لردع العدوان. الأول مثل الحروب الغربية لتوسيع البلاد استعمارا واستعبادا. والجهاد من النوع الثاني، الحرب العادلة لردع العدوان وإرجاع الخلق للحق. لقد جاء الإسلام لتصحيح الأوضاع في شبه الجزيرة العربية كما جاءت المسيحية لتصحيح الأوضاع في اليهودية، وجاءت اليهودية لانتشال اليهود من سلطة فرعون. جاء الإسلام تصديقا للديانات السابقة لتحرير البشر
قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ،
هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ،
الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار . ومن ثم فاحتمالات الحرب بين الأديان قليلة نظرا لاعتراف الإسلام بالديانات الثلاث في حين أن احتمالات حروب الأديان في اليهودية والمسيحية أكبر لعدم اعتراف اليهودية بالمسيحية والإسلام وعدم اعتراف المسيحية بالإسلام. فالإسلام مرفوض مرتين، من اليهودية والمسيحية، وهما مقبولان منه. وقد يفسر ذلك أحيانا تكاتف وتضامن اليهودية الغربية «الصهيونية» والمسيحية الغربية في العداوة ضد الإسلام منذ الحروب الصليبية حتى احتلال فلسطين ومذابح البوسنة والهرسك وحرب الشيشان. وإذا كانت آية السيف قد نسخت ثلث القرآن من أجل رفع القهر عن الناس والإيمان بالله وحده فإن القتال قد يقع اضطرارا كما لاقى الرسول من أذى الكفار فاضطر للقتال، وكتب على الناس وهو كره لهم. وقد خير الإسلام الناس بين الإسلام أو الجزية من أجل صون النفوس. أما القتال فهو من أجل تحرير الأرض من الشرك والطغيان والعدوان على الناس معنويا وماديا. لذلك خيم العدل المطلق على فتوحات الإسلام بمبادئه وليس بالقهر والسيف كما يدعي الغرب. وعم الإسلام جزيرة العرب، ولم تقم إلا غزوات محدودة اتقاء لطغيان قريش حتى عام الفتح. وانتشر في اليمين بدون قتال. ولم تتجاوز جيوش أبي بكر وعمر أربعين ألف مقاتل. ودخل الإسلام الشام وفلسطين وحلب والعراق ومصر وفارس حتى الصين دون أن تكون الحرب في كل الحالات وسيلة لنشره. أما الآيات التي تقرأ في القرآن التي تحث على الاستعداد للقتال، مثل
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل . فلا يعني سفك الدماء بل مجرد التخويف والردع كما يقال في الأسلحة النووية حاليا وكما نص القرآن
ترهبون به عدو الله وعدوكم . وكما قال مولتكه
أبطال الحرب لإبطال الحرب . ولكن عم الجهل، وكثرت التفسيرات للباء والصاد حتى جهل المسلمون الحقائق العلمية مثل كروية الأرض ودورانها حول الشمس ودون أخذ المخترعات الحديثة كالبرق والسكك الحديدية منه حتى لا يكذبه الناس. إنما أشار إلى ما هو حادث وما يمكن حدوثه في المستقبل مع مراعاة العقول والتقريب إلى الأذهان. إذن العنف ليس هو الأصل في التاريخ بل التسامح. والحرب ليست أداة لتحريك التاريخ إلا دفاعا. قوانين التاريخ هي الفضائل والرذائل، للنهضة والسقوط.
18 (3) قوانين التاريخ
وتبلغ ذروة فكر الأفغاني في فلسفته للتاريخ وكيف أنه ميدان للاعتبار ومرآة تكشف صدق النص، وأن الآية القرآنية حصيلة استقراء طويل؛ فالنص والواقع شيء واحد داخل التجربة الإنسانية الفردية والاجتماعية ومقاييس صدقها. وهذا هو معنى الوعد الإلهي ووراثة الأرض ونصر المؤمنين وإظهار الدين. وقوانين التاريخ مثل قوانين الطبيعة حتمية ضرورية؛ لأن العقل أي الروح هو محرك التاريخ وهي الإرادة الإلهية في التاريخ ومساره. وهي سنن الكون، وسنن الله في الأمم. والتاريخ دورات طبقا للتصور الحيوي، بين الماضي والحاضر، بين النهضة والسقوط ثم النهضة من جديد بفضل الإصلاح والرقي والتمدن ووسائله. وللتاريخ فعالياته، العقل والدين والعلم والجهاد. وهو ميدان السياسة والصراع السياسي بين الاستعمار والتحرر، وبين الغرب والشرق.
فالتاريخ مرآة للأفراد والشعوب، يقرءون فيها تاريخ البشرية وخبراتها السابقة، ويستفيدون منه العظات والعبرات. ومن تولى زمام أمور الجمهور لا غنى له عن مرآة وكتاب وتاريخ صحيح. فكما أن المرآة تريه شخصه على علاته هكذا يفعل التاريخ أيضا، ينقل أعماله في حياته وحياته في قوانين التاريخ. وقد نبه القرآن على ذلك في آيات العبرة؛ مثل
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ،
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . فالتاريخ للعظة والاعتبار والتذكير والذكرى
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ،
إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .
قانون التاريخ إذن هو تجربة نفسية واجتماعية قبل أن تتحول إلى قانون. فالقانون ما هو إلا تراكم الخبرات الفردية والاجتماعية عبر التاريخ. يتحول من خلالها الوعي الفردي الاجتماعي إلى وعي تاريخي. ومقاييس الصدق لهذا القانون متعددة. فمنها العقل والبرهان والقياس والتأمل والتفكير والنظر والتدبر. لذلك طالب القرآن بالبرهان كمقياس للصدق. ومنها أيضا الإحساس الفطري والوجدان والشعور والبداهة الطبيعية. وهو ما سماه القرآن الصبغة
ومن أحسن من الله صبغة ، والفطرة،
فطرة الله التي فطر الناس عليها . ومنها التعليم الشرعي واكتساب العلوم والمعارف. لذلك فضل الله العلماء على غيرهم، وجعل العلماء ورثة الأنبياء. ومنها أخيرا الإلهام الإلهي الذي يهبه الله خاصته، اليقين الداخلي الموضوعي، الحدس الرباني وهو يقين الأنبياء.
19
وبهذا المعنى يستشهد الأفغاني بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية باعتبارها صياغات إلهية لقوانين التاريخ بناء على رصيد طويل من تجارب البشر. فالنص صورة للواقع، والواقع مادة النص، وبتفاعل الصورة والمادة تنشأ حركة التاريخ. الوحي يتحقق في التاريخ، والتاريخ ميدان لتحقق الوحي. وبالتالي يمكن معرفة قوانين التاريخ استنباطا من النص واعتمادا على العقل والبداهة والفطرة. ويمكن معرفته استقراء من حوادث التاريخ. الطريق الأول سماه القدماء التنزيل، والثاني التأويل. وتطابق الطريقين تصديق للوحي. ويمكن صياغة قوانين التاريخ بالمنقول والمعقول حول العدل في التاريخ ووراثة الأرض للمؤمنين، وتحقيق الوعد الإلهي، والنصر للمؤمنين، وإظهار الحق على الباطل، وتحقيق العزة للمؤمنين، وعدم تغيير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وذلك مثل
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين . هذا قانون تاريخي يمكن للعقل استنباطه بعد رؤية حوادث التاريخ. فالعقل يستدل على سيطرة الإنجليز على ممالك الهند بالقوة والحيلة وكذلك روسيا. كما يستدل على وحدة النضال ضد الاستعمار، الثورة المهدية، والثورة العرابية، ونضال الهند ومقاومة الاستعمار وأيضا مثل
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . ويستطيع العقل أن يستدل على أن التفرق ضعف، وتستطيع التجربة أن تثبت أن الوحدة قوة، ومن هنا لزمت وحدة الأفغان والفرس والهند ومصر والسودان وسوريا. وأيضا
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، فالتغير من الداخل إلى الخارج وليس من الخارج إلى الداخل، من الفرد إلى الجماعة وليس من الجماعة إلى الفرد طبقا للنظرة المثالية للعالم.
20
ويمكن الاستدلال على قانون التاريخ بالعقل الصريح؛ مثل
لا يجتنى الشهد من الحنظل . فالنتائج من نوع المقدمات،
الأعمى من يظن الناس بدون أبصار . فالإنسان يقيس الآخرين بمقياس نفسه،
من ثابر وكابر على تجربة الضار أولى أن يتخذ عبرة . فالعبرة من الضرر أقوى من العبرة من النفع،
القبة الجوفاء لا ترجع الصدى . تعبر عن عدم التطابق بين الداخل والخارج وبالتالي الكذب والنفاق والازدواجية والمداهنة والتزلف. فلا فرق بين مستويات القانون، في الطبيعة وفي النفس وفي التاريخ.
والله لا يتدخل في التاريخ مباشرة ولكن علمه وإرادته وصفاته هي قوانين التاريخ. فالعدل ليس صفة لله فقط أو اسما من أسمائه الحسنى بل هو قانون للتاريخ. وكذلك صفات الحكمة والسلام والعزة كلها قوانين للتاريخ؛ فالتاريخ ليس مجرد مادة صماء بل يسري فيه الروح والعقل. الروح والعقل في التاريخ. تهبط في بخارى وتحرك الشعوب. والقوانين الطبيعية والشرائع السياسية والاعتقادات الدينية والصراعات السياسية وانتصار الأقوياء على الضعفاء كل ذلك من قوانين التاريخ. الصفات والأسماء الإلهية التي هي جماع الفضائل قوانين للتاريخ ومقومات نهضته. وهو ما يسمى في الإلهيات العناية الإلهية.
21
قوانين التاريخ هي سنن الله في الكون
سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا . ولكنه لا يتحقق من نفسه بل من خلال إرادات البشر. لا يتحرك التاريخ إلا بتقابل قانونين، القانون الموضوعي للتاريخ والقانون الذاتي لإرادات البشر، نخبة وجماهير، قلة وكثرة. ضرورة التاريخ وفطرة البشر. الموضوعية والذاتية شرطان لحركة التاريخ؛ فقد نشأت الأمة الإسلامية بفضله، جماعة مؤمنة، جيل قرآني فريد كما يقول سيد قطب. لذلك كانت فعاليات التاريخ بالإضافة إلى القانون الطبيعي الموضوعي العقل والدين والجهاد وما تتضمنه من قيم وفضائل أخلاقية وسياسية مثل الوحدة والعلم والإخلاص.
22
والصراع السياسي أتون التاريخ وميدان تحققاته. والسياسة هي ميدان المصالح المتصارعة. لذلك ارتبطت السياسة بالتاريخ. فالنظام السياسي الصالح شرط البقاء في التاريخ للأمة. وهو النظام الشوري والذي يقوم على إسناد الأمر إلى أهله، والاشتراكي الذي لا يترك المال دولة بين الأغنياء. والثورة قانون اجتماعي عندما يصل المجتمع إلى حالة اليأس مثل الحالة التي وصل إليها المجتمع المصري والتي لم يعد من الممكن تحملها حتى انفجرت الثورة العرابية. كما أن أحوال الشرق كله أدت إلى استعماره من الغرب ثم ظهور روح التحرر في الشرق للنهضة والثورة ضد الإجحاف بالشرقيين. فالإحساس بالظلم يولد الثورة. والاستعداد للنضال قانون طبيعي فطري يؤكده القرآن في ندائه
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة
وإن سيادة أمة على أخرى وإذلالها مخالف للطباع والعوائد، والمقاومة لهذا التسلط والذل أمر طبيعي. السيادة الأولى تريد الإفناء والمقاومة، والثانية تريد البقاء. الوعد الإلهي هو قانون التاريخ. ولما كان الوحي لا يخلف؛ فالقانون الإلهي ضروري، نشأت الأمة من لا شيء ونالت كل شيء ثم فقدت كل شيء. وهو قانون للتاريخ، لنهضة الأمم وسقوطها، والأمة الإسلامية مترامية الأطراف حوالي مائتين وثمانين مليونا وهي الآن بليون نسمة من الأطلنطي إلى الصين، ثروات وأراض ولكنها منهوبة ومسلوبة ومجزأة ولا قوة لها. وقيامة الأمة بالفضائل والتمسك بالحق. وانهيارها بالرذائل والابتعاد عنه. يغتصب الأجانب الديار، ويستذلون الأهل، ويسفكون دماء الأبرياء من الإخوان، ولا يتحرك أحد. عدو وفير ومذلة وهوان. فهي أمة أصحاب الملك المسلوب والمال المنهوب.
والأمة في التاريخ، والتاريخ هو الزمان، حركته نحو الماضي ونحو المستقبل. الحركة نحو الماضي تنشئ الحركة السلفية وتقليد الأسلاف، والحركة نحو المستقبل تنشئ الحركة التقدمية والرغبة في التجديد. فالمسلم الآن يعجب بماضيه، ويغفل عن حاضره ومستقبله، في حين أن الغربي يهتم بحاضره وبمستقبله أكثر مما يعكف على ماضيه.
23
ويقارن الأفغاني بين السلف والخلف في الخطبة، ويجد أن خطبة السلف خير من خطبة الخلف مما يقوي الموقف السلفي. ففي مقاله عن
سنن الله في الأمم
بالرغم من أن العنوان يوحي بقوانين التاريخ إلا أن المضمون في حسن البلاغة والخطاب والإيجاز في البيان للخلفاء الراشدين، مثل خطبة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة عن العقد بين الحاكم والمحكوم، وموعظته لأسامة بن زيد أمير الجيوش عن تحريم التدمير والقتل للزرع والنساء والأطفال والشيوخ في الحرب، ووصية عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري في كيفية القضاء وضرورة الاعتماد على القياس، الأشباه بالأشباه والنظائر بالنظائر، ووصيته إلى أمير الجيوش سعد بن مالك بن وهب إلى العراق، ووصيته لعتبة بن مروان إلى البصرة وللمغيرة بن شعبة ثم لعزله، وقوله لعمرو بن العاص عن خلق الناس أحرارا. ويقارن الأفغاني بين الماضي والحاضر، خطبة القدماء وخطبة جامع البصرة مكتوبة دون قواعد ودون مضمون.
24
ولما كانت اللغة عنوانا للفكر وكاشفة لمضمونه فإن اختيار الأفغاني لبنية الخطاب القديم المركز الدال وبنية الخطاب الجديد المسهب الذي لا يحيل إلى شيء له دلالته على أدبيات اللسان ونهضة الأقوام. وكيفية الكلام تكشف عن كيفية الفكر ومدى الالتزام بالواقع أو الخروج عنه. وقلة الكلام قد تعني التوجه نحو الفعل. وكثرة الكلام قد تعني العجز عن الفعل. والتركيز في الكلام قد يعني صدق الفكر، والإسهاب فيه قد يعني النفاق والكذب والإلهام. لذلك نهض القدماء وسقط المحدثون.
وإذا كان حاضر الأمة ليس فقط موزعا بين شد نحو الماضي وانجذاب نحو المستقبل، فإن تاريخ الأمة أيضا موزع بين حركتي النهضة والسقوط. ويحاول الأفغاني معرفة الأسباب التي حولها تلميذه شكيب أرسلان إلى سؤاله الشهير: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ لقد نهضت الأمة بفضل الإسلام ثم انهارت بعد أن تركته. وهي الآن تعود إلى النهضة من جديد بفضل حركة الإصلاح. فهناك ثلاث مراحل: النهضة في القرون السبعة الأولى، والسقوط في القرون السبعة الثانية، ثم الإصلاح بداية من القرون السبعة الثالثة طبقا للتصور الحيوي للتاريخ ودورانه بين الحياة والموت. لذلك يشبه الأمة بالبدن كما فعل الفارابي وإخوان الصفا من قبل في حالتي الصحة والمرض والعودة إلى الصحة من جديد. فالإصلاح يمثل فترة ثالثة للأمة في التاريخ يريد اللحاق بفترة نهضتها الأولى وتجاوز فترة سقوطها الثانية. وهو سعي نحو الكمال الإنساني. ويضع الأفغاني تقابلا بين مرحلتي النهضة والسقوط على النحو الآتي مبينا أسبابهما : الوحدة في مقابل افتراق الكلمة، المستقبل في مقابل الغفلة من العاقبة، الجهاد بدلا من الركون إلى الراحة، الإحساس بالرسالة بدلا من الافتتان بنعيم الدنيا، التحرر بدلا من الاستعمار والخضوع للأجنبي. وللانتقال إلى النهضة الأولى عن طريق الإصلاح، هناك عدة وسائل: إلهام النخبة، والسعي نحو الكمال من الجميع، والرجوع إلى أصول الدين. فلا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها كما هو الحال في الحركة السلفية، والجمع بين الحضارة والملك كما كان المسلمون في سيرتهم الأولى دون الاكتفاء بالحضارة ويكون الملك للأجنبي يستنزف ثروات البلاد كما هو حادث في تجربتي تركيا ومصر. فلا بد من سلطان قاهر يقود الناس إلى الثورة أو يأخذهم بالتدريج. هذا بالإضافة إلى الأدوات العلمية مثل الجرائد الوطنية والمدارس الحديثة دون تقليد للغرب بلا فهم والتشدق بألفاظ غريبة، وتقديم علم بلا وطن، ونسيان الأصول الدينية، وبالتالي فإن ترك ما كان سببا للصعود يؤدي إلى الهبوط والسقوط.
25
وهكذا تنتهي ملحمة التاريخ عند الأفغاني تشدها الخطابة أحيانا نحو السلفية في الماضي ويرجعها العقل أحيانا أخرى نحو الإصلاح في المستقبل.
الفصل الثامن
الخاتمة
الأفغاني بعد مائة عام
هناك أشياء باقية في الأفغاني بالرغم من مرور مائة عام، أهمها: (1)
الشجاعة على نقد القدماء، ورفض التقليد والدعوة إلى الاجتهاد. فالتراث القديم ليس مقدسا بل هو من إبداع أجيال ماضية. هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم. والعيب فينا إذا لم نجدد ونبدع وليس فيهم إذا كان اجتهادهم قد تجاوزه الزمان. ويتميز إبداع الأفغاني بأنه حر طليق يتجاوز القياس الفقهي القديم، تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة على نحو آلي ثابت، إلى التحام مع الواقع وإدراك قوانينه ومرحلته التاريخية بناء على روح الإسلام وقوته في التاريخ. وهي الروح التي بدت في أول
رسالة التوحيد
لمحمد عبده لإثبات أن علم الكلام تاريخي خالص خضع للظروف السياسية في عصره وليس علما مقدسا، وقد كان عيب الأجيال اللاحقة عندما خلطت بينه وبين العقيدة. وما زالت مدرسة التجديد عند طه حسين، وأمين الخولي، وخلف الله محمد خلف الله، وسيد قطب، ونصر حامد أبو زيد، ومحمود إسماعيل، وسيد القمني، تعاني من تضييق الخناق على التجديد باسم التقليد. (2)
تحويل القرآن إلى تجارب فردية واجتماعية وقوانين للتاريخ بحيث يمحى الفرق بين الوحي والواقع؛ فالقرآن خلاصة تجربة البشر كما يرويها في قصص الأنبياء وكما يصوغها في بعض القوانين، مثل
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ،
وكان حقا علينا نصر المؤمنين . وبالتالي ساهم الأفغاني في بلورة فلسفة في التاريخ ما زالت ناقصة في تراثنا الفلسفي القديم. وحاول التعرف على سنن الله في الكون ووضع الآية في التاريخ وتحقيب دورانها. وقد جعل الأفغاني هذه القوانين في العقل والتاريخ، في الذات والموضوع، في النفس وفي الآفاق
وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون ،
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . واستعمل الأفغاني الآيات استعمالا حرا بحيث تعبر أدبيا وفكريا عن أحوال العصر. إن عظمة الوحي في أنه يعبر عن خلاصة تجارب البشر، وإعجاز آياته أنها صياغات ثابتة لقوانين التاريخ. فالوحي واقع يتحرك، وتاريخ يسير، والواقع وحي يتحقق، ويتراكم في التاريخ. إن الوحي علم الله والتاريخ إرادته، وبالتالي أمكن للأفغاني تجاوز تقابل القدماء بين أولوية الإرادة على العلم «الغزالي» وأولوية العلم على الإرادة «ابن رشد»، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن. كما أمكن للأفغاني تجاوز التقابل الشائع بين التاريخ الإلهي والتاريخ البشري، بين مدينة الله ومدينة الأرض كما يقول أوغسطين إلى تاريخ واحد يكون فيه التاريخ التقاء الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية، تحقيق مدنية الله في الأرض نهضة أو انحسارها عنها سقوطا. (3)
الدفاع عن أصالة الأمة ودورها في العلم والحضارة من أجل مساعدتها على نبذ التقليد، ودعوتها إلى التعرف على أسباب إبداع القدماء وحتى يقضي على الإحساس بالدونية تجاه الآخرين، وتأكيد عزة النفس والكرامة، والقضاء على ثنائية المبدع والناقل التي ميزت علاقتنا بالغرب الحديث. هو يبدع ونحن ننقل حتى تحول الغرب في وعينا إلى معلم أبدي وجعلنا أنفسنا تلميذا أبديا، مع أنها دورات بين الشعوب والحضارات. كنا معلمين فأصبحنا تلاميذ، وكان الغرب تلميذا فأصبح معلما،
وتلك الأيام نداولها بين الناس . ومن لا تاريخ له لا مستقبل له، ومن لا ماضي له لا حاضر له. وهو أكبر رد عملي على تهمة تخلف المسلمين بسبب دينهم. فبهذا الدين أصبح القدماء روادا للعلم تأكيدا على وحدة الوحي والعقل والطبيعة، وقدرة الوحي على التوجه بالعقل نحو العلوم الرياضية والطبيعية. (4)
إدراكه الخطر الأول على الأمة، الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، وتجميعه قوى الشرق كلها باعتبارها قلب العالم الإسلامي في مواجهة قوى الغرب، حتى يقابل التحرر بالاستعمار، والثورة بالهيمنة دفاعا عن الأوطان والأقاليم مع بؤر متعددة للوحدة ابتداء من مصر، جنوبا مع السودان، وشرقا مع إيران والهند، وشمالا مع الشام وتركيا، وغربا مع المغرب العربي أو ابتداء من وحدة آسيوية، وحدة الفرس مع الأفغان. لا فرق بين الإسلام والوطن، بين الدفاع عن الإسلام والدفاع عن الأوطان قبل أن تظهر القومية بينها لإيقاع تناقض مفتعل بين الإسلام والقومية أو بين القومية والوطنية. فالإسلام في العصر ثورة، وليس مجرد شعائر أو طقوس أو عقائد أو شرائع. وقد كان المسلمون القدماء ثوارا على أوضاعهم الطبقية والقبلية، الإسلام يهدف إلى تغيير الأمر الواقع وليس تثبيته. هو جزء من الحراك الاجتماعي وليس الثبات الاجتماعي. هو رفض لأوضاع الاحتلال والقهر والفقر والتجزئة والتبعية والتغريب، واللامبالاة. وإذا كان في الخلق الكوني ليس في الإمكان أبدع مما كان فإنه في الإبداع الإنساني هناك باستمرار في الإمكان أبدع مما كان. الإسلام كما قال سيد قطب فيما بعد حركة إبداعية في الفن والحياة. ولا إبداع بلا تغيير ورفض ومقاومة واعتراض وغضب. وكأن الأفغاني يضع كوجيتو جديدا ليس «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، بل «أنا أثور فأنا إذن موجود». (5)
البداية بالواقع المباشر وإعادة بناء التراث القديم طبقا لمتطلباته، وأخذ موقف من الغرب طبقا لحاجاته. والواقع في حاجة إلى تنوير ويقظة وحركة. لم يكن الأفغاني نصيا، يبدأ من النص إلى الواقع بل كان واقعيا يبدأ من الواقع إلى النص. لم يقرأ الواقع والنص مرآة فوق عينيه سواء كان نصا من القدماء أو نصا من الغرب الحديث، بل رأى الواقع مباشرة وحوله إلى نص جديد. ومن ثم يبدأ الأفغاني باعتباره أصوليا ليس من القرآن فالسنة فالإجماع فالقياس كما هو الحال في الترتيب التقليدي القديم لمصادر الشرع الأربعة، بل يبدأ من الاجتهاد فالإجماع فالسنة فالقرآن حتى يشجع المسلمين على الاجتهاد. والواقع هو أساس النص ومصدره كما هو معروف في أسباب النزول. الواقع يسأل والوحي يجيب. والواقع يتغير والشرع يتغير معه طبقا للقدرة كما هو معروف في الناسخ والمنسوخ. والواقع في النهاية لفظ قرآني يصف صدق الوعيد
إن عذاب ربك لواقع . وهو أحد أسماء يوم القيامة في
الواقعة . (6)
تفجير الثورة العرابية بفضل تلاميذه، أحمد عرابي وعبد الله النديم، واشتراك محمد عبده فيها أولا ثم ارتداده عنها، والدعوة إلى إنشاء المدارس الوطنية والجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني بلغة العصر التي تقاوم التغريب والتعليم الرسمي الخالي من هموم العلم والوطن، ولا يقوم إلا على التقليد والتلقين من ناحية، أو الإعجاب بالغرب من ناحية أخرى. وقد تفجرت ثورة 1919م بفضل تلميذه سعد زغلول. فالثورة الوطنية جزء من الثورة الإسلامية، وهي الثورة التي توحد فيها المسلمون والأقباط؛ فالدين واحد، يبعث على الخير والصلاح. وهي الثورة التي جمعت بين وعي النخبة وحركة الجماهير في مواجهة الإنجليز والتي انتهت بالحصول على الاستقلال. كما ارتبطت ثورة 1952م به عن طريق بعض الضباط الأحرار من الإخوان المسلمين تلاميذ حسن البنا، تلميذ رشيد رضا، تلميذ محمد عبده، تلميذ الأفغاني. وقد أشاد
الميثاق الوطني
في 1963م بجذور النضال الوطني لدى رواد الحركة الإصلاحية وفي مقدمتهم الأفغاني رائدها الأول. وما زال الإسلام السياسي يحمل لواء المقاومة ضد الاحتلال في جنوب لبنان وفلسطين، وضد القهر في الداخل. واستطاع الانتصار في أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وجنوب أفريقيا، وما زال يمثل تحديا كبيرا للغرب والولايات المتحدة بالإسلام
الأبيض والإسلام الأسود . (7)
الدعوة إلى الطموح والأمل وطلب المجد ونيل الأعالي وعدم الاكتفاء بالسفوح، وعدم الرضى إلا بقمم الجبال ضد روح اليأس والإحباط والتشاؤم التي سيطرت على الناس. وهذا هو معنى أداء الرسالة التي أشفقت منها السموات والأرض والجبال وحملها الإنسان. لذلك ركز الأفغاني على ارتباط العمل بالنظر، وأن النظر بلا عمل طبل أجوف. وقد انتشرت روح اليأس والإحباط في هذا الجيل بعد أن بدأ التفريط في الاستقلال الوطني وفي القضية الاجتماعية وفي قضايا الوحدة والهوية، وبعد أن تقلص المشروع القومي إلى مصالح قطرية، وتغيرت الثوابت التاريخية في المنطقة، مناهضة الاستعمار والصهيونية إلى تحالف معهما. لقد تغيرت مثل هذا الجيل عدة مرات، من الليبرالية إلى الاشتراكية والقومية إلى الرأسمالية والقطرية، وكل بديل جديد يهدم البديل القديم حتى تحطمت المثل كلها ولم يعد هناك إيمان بشيء ولا حتى بالقضية. فوجد الناس في الدين ملاذا
كل شيء هالك إلا وجهه .
1 (8)
التمييز بين الدين ورجال الدين من أجل تخليص الدين من السلطة الزائفة التي تتحدث باسمه وتسيطر عليه وتحتكر تفسيره، وتتسلط على رقاب المؤمنين. فآفة الدين رجاله. لذلك ثارت البروتستانتية ضد الكنيسة. والأفغاني يوحد بينه وبين مارتن لوثر في الهدف والقصد والغاية. فهو لوثر الشرق. وبالتالي استطاع الأفغاني أن يعبر عن روح الإسلام والعلاقة المباشرة بين الإنسان والله، ويبرز تجربة الإسلام في التاريخ التي كانت رد فعل على تأليه الأحبار والرهبان واتخاذهم أربابا من دون الله، وتسلط رجال الدين في الكنيسة والمعبد على رقاب الناس، يحللون ويحرمون طبقا لأهوائهم أو إرادات الحكام. ففقدوا مصداقيتهم أمام الناس.
2
يصدرون الفتاوى المتناقضة طبقا لرغبات الحكام. فإذا ما أراد مقاومة الصهيونية جاء الإسلام متفقا مع اللاءات الثلاثة، لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات. وإذا أراد الحاكم الصلح خرجت فتوى مؤيدة لذلك اعتمادا على صلح الحديبية
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها .
3
ومع ذلك، فالأفغاني بعد مائة عام في حاجة إلى تطوير على النحو الآتي: (1)
تقوية الجانب النظري فيه حتى يصبح أكثر مطابقة وسندا للجانب العملي. ربما كان «الرد على الدهريين» صحيحا في ظروف عصره إذ ارتبطت المادية بأحمد خان المرتبط بالإنجليز والذي روج هذا المذهب بدعوى تأسيس العلوم الطبيعية. كما عبر عن روح القرن التاسع عشر وثورة المتدينين ضد المذهب الذي رمز إليه دارون، وكان مقياس النقد إنكار الألوهية والخلق والمعاد والشرائع الثابتة، وبالتالي خطورة نتائجه مثل الإلحاد والإباحية والعدمية. ولا يعتبر فولتير وروسو من الدهريين العدميين مع الاشتراكيين. والطهطاوي يعتبرهما مع مونتسكيو من كبار العقليين، ويعتبر مونتسكيو ابن خلدون العرب، وابن خلدون مونتسكيو فرنسا، وأنه يقيم فهمه للشرائع على قاعدة الحسن والقبح العقليين. والمذهب الطبيعي موجود في كل حضارة، عند أصحاب الطبائع من المعتزلة القدماء. ربما ما يحتاجه المسلمون اليوم هو الرد على المثاليين والرجعيين والأصوليين والمحافظين والسلفيين الذين جعلوا الإسلام مجرد عقائد وشعائر، مظاهر ورسوم دون الالتفات إلى الجوهر والمضمون. ربما ما نحتاجه اليوم هو
دفاعا عن الدهريين
حتى يلتفت الناس إلى الطبيعة ويتوجه العقل نحوها فيبدع علوما رياضية وطبيعية كما أبدع القدماء. وعلى هذا النحو يمكن أن يكون الأساس النظري مطابقا للمشروع العملي. فبالطبيعة تكون القوة وعليها يتأسس العلم. كما أن الاكتفاء بإعادة تأويل عقيدة القضاء والقدر تدفع إلى الشجاعة والإقدام والمجازفة بالمخاطر وارتكاب الصعاب والأهوال لا يكفي في تجاوزها إلى خلق الأفعال وإثبات حرية الإرادة، والتحول من الأشعرية إلى الاعتزال. كما أن محاولة إعادة بناء العقيدة على ثلاث منها، أن الإنسان أشرف ما في الكون، أن الأمة أشرف الأمم، وأن الدنيا ممر إلى عالم آخر ربما لا تكفي أيضا؛ لأنها تسقط الألوهية كلية ولا تحيلها إلى فاعلية في الأرض والخبز والحرية والأمة والتاريخ. كما أن اعتبار الأمة أشرف الأمم بلا شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يوقع في العنصرية. أما اعتبار الدنيا ممرا إلى الآخرة فلا يحدد اتجاه الغائية ويتركها إلى ما بعد الموت دون إبراز أهميتها في الدنيا. لم يستطع الأفغاني إعادة بناء نسق العقائد كله لاستعماله كأساس نظري للثورة. أبقى على تصورات العقائد القديمة، واندفع نحو الخطابة السياسية. فلم تتغير العقائد ولم تغن الخطابة السياسية عن تأسيس الإسلام كعقيدة ثورية قادرة على أن تكون أساسا نظريا للمشروع الثوري. (2)
بالرغم من تأكيد الأفغاني على العلم وأهميته إلا أن الدين له الأولوية القصوى. فهو سبب الصلاح والفلاح، وتركه سبب الانهيار والهلاك. وأوروبا تقدمت بالعلم والقوة وإن تركت الدين يأسا من إصلاح رجاله. الدين هو كل شيء تقريبا في فكر الأفغاني، مرشد للحياة، ومشرع للقوانين ومكتشف للعلوم، ومنظم للطبيعة، وكأن الدين غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة لغاية أخرى هي سعادة الفرد وكمال المجتمع. بل يبدو الأفغاني أحيانا معليا من شأن الدين على حساب العلم في رده على رينان. وقد يصل فهم الدين إلى حد التصوف بالرغم من نقده التصوف على أساس أنه مصدر التواكل والكسل. فقد بدأ الأفغاني صوفيا مثل محمد عبده. ويرى أن التصوف موجود في كل دين، وقد يكون هو أساس وحدة الأديان وإن اختلفت الصور والألفاظ، موجود في التوراة متخفيا، وفي الإنجيل بعد أن أول المسيح الناموس تأويلا روحيا. التصوف مذهب الحكماء والعقلاء ترويضا لنفوسهم. يعكس كالمرآة نور الشمس. وهو ما اتهم بسببه بالقول بالحلول مع أنه انعكاس صورة تجلت لشفافية المرآة، وهو ما يسمى بالشطحات عند ابن عربي والخواص والجنيد والحلاج والجيلي وابن حشيش والسهروردي والبكري. ظاهرها تناقض فيما يتعلق بالحلول الموضوعي أو الذاتي ولكن المعنى واحد.
4 (3)
لا يكفي المدخل الأخلاقي لبناء الفرد والمجتمع ولإقامة النظم القانونية والسياسية. صحيح أن الأخلاق هي الأساس ولكن الاكتفاء بالفكر الأخلاقي كنظرية اجتماعية وسياسية في حاجة إلى تطوير، والتحول من الفكر الأخلاقي إلى البنية الاجتماعية والأيديولوجية السياسية. لا يكفي أن يقال إن محرك التاريخ ثلاث فضائل: الحياء، والصدق، والأمانة. فلماذا هذه دون غيرها؟ وأين العوامل المادية في تحريك التاريخ؟ ولا يمكن تفسير الظواهر بعامل واحد أخلاقي أو فردي دون باقي العوامل. ليست قائمة الفضائل مفتاحا سحريا يحل كل مشاكل المجتمع وهي الرذائل؛ فالمشاكل الاجتماعية أكثر تعقيدا وتحتاج إلى حلول أكثر تداخلا وتباينا. لا يكفي تصور الاستعمار على أنه انحلال يمكن مقاومته بالأخلاق، وأن المادية رذيلة يمكن مقاومتها بالفضيلة، وأنها تجعل الإنسان حيوانا، وأن الاشتراكية اشتراك في الأموال والأبضاع وإباحية. فهي تصورات شائعة شعبية كانت رائجة في الصحف الدينية المحافظة. ولا تكفي كتحليل علمي وتاريخي دقيق للاستعمار كحركة تاريخية وللمذاهب السياسية كأيديولوجيات علمية. (4)
عبر الأفغاني عن التيارات الفكرية التي كانت موجودة في القرن التاسع عشر في الغرب خاصة المادية والداروينية والاستشراق، فكان ضحيته، ولم يستطع تجاوزه. فالمادية والداروينية إلحاد وانحلال. والاستشراق نموذجه رينان الذي ينكر على العرب وعلى الساميين كلهم أصالتهم العلمية طبقا للنظرية العنصرية. فالمفكر ابن عصره، ولكنه أطلق الأحكام على المذاهب والتيارات دون أن يقيدها بظروف عصرها. وربما كانت الدعوة إلى العلم «الوضعية» والقوة «نيتشه» والتطور «دارون» أخص ما يميز روح القرن التاسع عشر. وتكون مهمة الأجيال التالية في الإصلاح نقل الأفغاني من الجو الفكري في القرن الماضي إلى الجو الفكري في هذا القرن بكل ما فيه من تحولات، من الاستعمار البريطاني القديم إلى الاستعمار الأمريكي الجديد، ونشأة الصهيونية وإقامة دولتها في فلسطين، وانهيار النظم الشرقية، وبزوغ أفريقيا وحركة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا. (5)
بالرغم من نقد الأفغاني الغرب الاستعماري المهيمن والمسيطر على الشرق إلا أن الغرب لديه كما هو الحال لدى رواد عصر النهضة بتياراته الثلاثة: الإصلاح الديني عند الأفغاني، والليبرالية عند الطهطاوي، والعلمية العلمانية عند شبلي شميل، هو نمط التحديث ونموذج التقدم والقدوة في الرقي والعمران، وكأن لسان حاله يقول: فداوني بالتي كانت هي الداء، وقد أدى ذلك الانبهار بالغرب بعد مائة عام إلى مزيد من التغريب حتى نشأ رد الفعل السلفي عليه وشق الصف الوطني بين العلمانية والسلفية إلى حد الاقتتال في الجزائر وتهديد وحدة الدولة في تركيا والتخوين والتكفير المتبادلين في مصر وتونس والعراق وسوريا وشبه الجزيرة العربية. فهل يمكن لجيل جديد أن يحول الموقف من الغرب من نطاق المواقف الانفعالية، الانبهار بالغرب أو رفض الغرب إلى أن يصبح الغرب موضوعا للعلم بدلا من أن يكون فقط مصدرا للعلم؟ ألا يمكن أن يتعود العرب المحدثون دراسة الغرب، نشأة وتطورا، تكوينا وبنية كما درس القدماء اليونان والصين، وأن يؤسسوا علم الاستغراب في مقابل الاستشراق، وأن يصبح الوعي العربي ذاتا، والغرب موضوعا، بدلا من أن يكون الغرب ذاتا والعرب هم الموضوع؟ ألا يمكن التعامل مع الغرب من موقف الندية المعرفية كمقدمة للندية السياسية والاقتصادية والعسكرية؟
5 (6)
ما زالت أداة التغيير الأثيرة عند الأفغاني هي السلطة السياسية طبقا للقول المأثور عن عثمان
إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن . لذلك يتوجه الأفغاني إلى الحكام، السلطان عبد الحميد، خديوي مصر، شاه إيران، ملك أفغانستان. فقد عمل من خلال السلطان عبد الحميد ومبايعته ثم خلع البيعة، وأمير أفغانستان عبد الرحمن خان، وشاه إيران للتوحيد بين إيران وأفغانستان، وعباس حلمي خديوي مصر. كما يعمل من خلال النخبة المثقفة والصفوة العالمة من الأزهر والقواد والأمراء أهل العلم والقوة بالرغم من دعوته إلى الجماهير وتثويره للشعوب وندائه على المسلمين الذباب الذي يصم طنينه آذان بريطانيا، أو الجراد الذي يغرق الجزيرة البريطانية بثقله وكثرة عدده. كما لم يحل قضية ازدواجية السلطة السياسية والسلطة الدينية، وهل وظيفة الثانية إرشاد الأولى دون توقع الصدام بينهما ورغبة كل منهما في السيطرة على الأخرى، مما أدى إلى الفصل بينهما في العلمانية الغربية الحديثة، دون التوحيد بينهما كما تبغي الحركة السلفية المعاصرة. صحيح أنه من كبار الداعين للديموقراطية والشوري والدستور إيجابا مما أدى إلى تعثرها. ولم يستطع القضاء سلبا على الجذور التاريخية والثقافية التي تمنع من الحرية والديموقراطية في وجداننا المعاصر.
6 (7)
ما زال يغلب على فكر الأفغاني تقنين ما ينبغي أن يكون أكثر من تحليل ما هو كائن، وأسلوب الماينبغيات والواجبات مما يجعل من الصعب التمييز بين العلم والأخلاق، بين الواقع والمثال، بين الممكن والواجب، بين الوصف والمعيار، بين الفرع والأصل. وهي طبيعة الفكر التقليدي الذي يتصور الوحي على أنه نمط مثالي مستقل عن الواقع والتاريخ وليس حركة فاعلة فيه. من السهل صياغة خطاب أخلاقي يعبر عن أشواق الناس وتمنياتهم. ومن الصعب تحليل الواقع الموضوعي ومعرفة مكوناته وفعالياته ومساره. لذلك ندر أن يكون من بين المصلحين علماء اجتماع وليس علماء دين. فعالم الاجتماع هو الذي يبدأ من الواقع الاجتماعي، ويضع له تخطيطا من أجل التغيير الاجتماعي. الإصلاح الديني بمعنى ما ينبغي أن يكون مفيدا في مرحلة اليقظة ولكن يصبح مجرد خطابة في مرحلة التغير الاجتماعي. ويجوز في مرحلة الثورة ولكن يعجز عن أن يتحول إلى مرحلة الدولة التي تتطلب التحول من الإصلاح الديني إلى العلم السياسي. إن الوحي ليس فقط مثالا بل واقع. ولا يصف فقط ما ينبغي أن يكون بل أيضا ما هو كائن.
7 (8)
يغلب أسلوب الخطابة والحماسة والنداءات والأوامر. كما حضرت التشبيهات والصور البلاغية والأساطير والرموز، وتشبيهات الصحة والمرض والداء والدواء والجسم الحي. كما امتلأ بالشعر للاستشهاد به. فالشعر في الوجدان العربي ما زال يقوم بدور القرآن والحديث والأمثال. كما غلبت العبارات القصيرة والمواعظ المركزة التي يسهل حفظها ونقلها شفاها، وهي من جوامع الكلم. ولا فرق في ذلك بين القرآن النص والقرآن الحر. فالإنسان خلق جهولا، خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا.
8
وهي كلها أساليب بلاغية في الخطاب الإصلاحي يتفق مع المضمون الفكري والهدف الشعبي. وربما يحتاج الأمر بعد مائة عام إلى التحول من القول الخطابي والقول الجدلي إلى القول البرهاني بمصطلحات ابن رشد من أجل مزيد من الإحكام للخطاب الإصلاحي حتى يتحول إلى خطاب علمي كما هو الحال في العلوم الإنسانية. فالإصلاح والتحديث والتغير الاجتماعي أصبحت الآن من الموضوعات الرئيسية في علم الاجتماع بكافة فروعه خاصة علم الاجتماع السياسي، علم اجتماع الثقافة، علم اجتماع المعرفة.
إن الشعوب الآن تعي مصالحها، وانتهت مرحلة اليقظة. ولكنها تبحث الآن عن وسائل التحقيق وطرق العمل، ومناهج للتفكير، ولأنواع جديدة من الخطاب السياسي والثقافي. فهل يستطيع الأفغاني بعد مائة عام أن يبعث من جديد في أحفاده، وتعاد صياغته بحيث تعود إلى حركة الإصلاح حيويتها الأولى من أجل تجاوز الاستقطاب الحالي بين الخطابين السلفي والعلماني، وحشد الجماهير بثقافة جديدة، وتقوية الدولة برؤية جديدة لدورها في الداخل والخارج، وإكمال المشروع الإصلاحي التحرري الوطني المتحد مع المشروع التحرري القومي من أجل النهوض بالإصلاح بعد كبوته وإقالة حركة التحرر الوطني بعد عثرتها، وإدخال هذا الجيل كله من جديد داخل حركة التاريخ؟
نامعلوم صفحہ