51
الاستنباط العقلي إذن ضروري لكي نستعين به على إدراك الروابط الضرورية بين الأشياء؛ لكن الاستقراء أيضا ضروري لكي نستعين بمنهجه على إجراء التجارب التي نحاكي بها الطبيعة في إخراج شيء من شيء؛ فكيف نجمع بين المنهجين؟
إن لجابر عبارة وردت في كتابه: «الأحجار على رأي بليناس»
52
أراها - مع شيء من الاجتهاد في التأويل - تصف لنا كيف يكون الجمع بين المنهجين في الطريقة العلمية، وهذه العبارة هي: «ينبغي أن تفرد ما أخرجه لك الهجاء، عما أخرجه لك الحدس، لتطلب مثل ما أخرجه الحدس بالإضافة إلى الصورة، ليصير لك الشكلان شكلا واحدا.» فما معنى ذلك؟
إن أحد المبادئ المنهجية عند ابن حيان مبدأ سنفيض القول فيه فيما بعد،
53
وهو أن اسم الشيء دال بحروفه على طبيعة ذلك الشيء، وإذن فمن أحرف الهجاء التي منها تتركب أسماء الأشياء، تستطيع أن تستدل على طبائع الأشياء التي على أساسها تجري تجاربك العلمية في إخراج الأشياء بعضها من بعض، وهذا هو جانب واحد من البحث، وأما الجانب الثاني فهو أن تستلهم الحدس العقلي ماذا عسى أن تكون طبيعة شيء معين تريد معرفة تركيبه؛ فبالحدس العقلي وما ينبني عليه من استنباطات عقلية صرف، يمكنك أن تعرف - مثلا - طبيعة النحاس أو الذهب، دون أن تلجأ إلى ملاحظة خارجية لخصائص هذين المعدنين؛ وبهذا تتكامل عندك نتيجتان عما تريد العلم به: إحداهما جاءت عن طريق البحث في اسم هذا الشيء الذي تريد أن تحيط به علما، وما تدل عليه الأحرف المكنونة لهذا الاسم، والأخرى جاءت عن طريق التفكير العقلي الباطني الخالص. فإذا تطابقت النتيجتان كان بها، وإلا فإذا اختلفتا فعليك أن تكمل النتيجة التي جاءت عن طريق البحث الظاهري بما قد دلت عليه النتيجة التي جاءت عن طريق التفكير الباطني؛ أي أن الأولوية لحكم العقل، فهو معيارنا الأخير في استقامة الأحكام التي تجيء عن طريق البحث في الظواهر بالملاحظة الخارجية.
فمهما يكن من قيمة البحث في الظواهر، فلا مناص لنا من الرجوع آخر الأمر إلى ما يحكم به العيان العقلي لنهتدي به سواء السبيل؛ وهذا العيان العقلي لا يكون لك ولي من أفراد الناس، بل يكون بادئ ذي بدء وحيا يوحى به إلى نبي ثم يتوارث؛ وبغير هذا السند نظل تتخبط أين يكون الحق وأين يكون الباطل، فالشكوك - في رأي جابر - لا تنجاب «إلا بالعيان وبإقامة البرهان ... وإقامة البرهان لا تكون إلا بالعيان ... والعيان من أفعال الأنبياء.»
54
نامعلوم صفحہ