176

Issues in Which the Messenger of Allah Contradicted the People of Ignorance

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية

اصناف

ثالثًا: الأدلة من الآثار السلفية
أما الآثار الدالة على اتباع السنة فكثيرة جدًا، فعن عمر بن عبد العزيز أنه بعث إليه رجل فقال: اعلم أخي المسلم أن النجاة في السنة، والتزم السنة تعصم.
أي: أن العصمة بالتزام السنة.
وكان سفيان الثوري يبعث ويقول: أعزوا أهل السنة فإنهم غرباء.
ويقول البخاري: رحمة بأهل السنة فإنهم إلى قل، أي: هم قليل.
وأبو بكر بن عياش ﵀ ورضي الله عنه وأرضاه كان يقول: غربة أهل السنة في أهل الإسلام كغربة أهل الإسلام بين الأديان.
وقال ابن القيم: ليست الغربة التي يجدها المرء المسلم بين أهل الأديان، لكن الغربة كل الغربة التي يجدها الذي يتمسك بسنة النبي ﷺ بين أهل الإسلام.
ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتمسكون بسنة النبي ﷺ، ويعضون عليها بالنواجذ، وما أتتهم الرفعة والعزة إلا بتطبيقهم لهذه الآية العظيمة، والبرهنة الواضحة الجلية على حب الله جل في علاه ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران:٣١].
قال الحسن البصري زعم أناس محبة الله فامتحنهم الله باتباع سنة النبي ﷺ.
لقد كان أبو بكر ﵁ الله أعظم الناس قدرًا، وأرفع الناس شرفًا، وأحسنهم مكانة عند رسول الله ﷺ، وما اعتلى عرش هذه المكانة إلا بشدة تحريه لسنة النبي ﷺ، فعندما مات رسول الله ﷺ -كما قال أبو هريرة -؛ وارتد من العرب من ارتد، جهز أبو بكر جيشًا وأمر عليه أسامة، وكان هذا الجيش قد أعده النبي ﷺ، وكان يوصي به قبل أن يموت، فكانت وصية النبي ﷺ بين عيني أبي بكر ﵁ وأرضاه، وقد ظهرت الردة في كل مكان ولا يمكن أن ينفذ هذا الجيش؛ لأن هؤلاء المرتدين قد يدخلون المدينة فيقتلون الخيار من صحابة رسول الله ﷺ، فقام مجلس الشورى يعارضون أبا بكر وأولهم عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه، ويقول: كيف تنقذ هذا الجيش وأنت تعلم أن العرب قد ارتدت ورمت الإسلام عن قوس واحدة؟ فقال أبو بكر مبينًا أن التمسك بأمور النبي ﷺ وبوصاياه فيها العزة، فقال: والله لأنفذن جيش أسامة، ولأفعلن ما أمر به رسول الله ﷺ.
فلما وجد عمر ذلك التصميم من أبي بكر عرف أن الحق مع أبي بكر، ثم عارضه مرة أخرى فقال: كيف تؤمر أسامة على جيش وفيه الأشياخ من المهاجرين والأنصار؟ وكان وأسامة لم يبلغ العشرين من العمر، فقال عمر: أمر غيره.
فقال: لا والله لا أنزع أميرًا أمره رسول الله ﷺ.
فالشاهد من هذا: معرفة شدة تحري أبي بكر ﵁ وأرضاه وتتبعه لخطى النبي ﷺ، فذلك هو الذي كتب له الفوز من هذه المخاطرات، ومن هذه الضوائق والبليات التي نزلت عليهم، فلما نفذ وصية رسول الله ﷺ أُرعبت الأمم التي ارتدت ورجعت إلى جحورها ولم تهاجم المدينة، وقال ﵁ كلمته المشهورة: والذي نفسي بيده! لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة.
أي: لن أرد وصية الرسول الله ﷺ التي أوصى بها.
وقد ظهر تمسك أبي بكر بسنة النبي ﷺ على الصحابة بأسرهم، ففي صلح الحديبية عندما لم يطق عمر بن الخطاب بندًا من بنود هذا الصلح، وهو: لا بد من رد أهل الإسلام إلى الكفار، وإذا كفر منهم أحد لا يردوه إليهم، والنبي ﷺ يذعن لهذه الشروط، لكن أبا بكر كان موفقًا مسددًا من قبل الله جل في علاه، فقد كان يقتفي أثر النبي ﷺ ويتحرى سنته، فجاء عمر بن الخطاب يستنفر أبا بكر لعله يقنع رسول الله، فيقول: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ فقال: بلى، قال: ولم نعط الدنية في ديننا؟ أي: اذهب واستنفر رسول الله ﷺ، فقال له أبو بكر كلمات تحفر على الصدور بماء الذهب، ويظهر منها شدة تحري وتمسك أبو بكر ﵁ وأرضاه بسنة النبي ﷺ، قال: هو رسول الله فالزم غرزه، يعني: تمسك بسنة رسول الله ﷺ، فإن جاءك الأمر ولم تستطع فهمه فلا بد أن تقبله، وإن لم تستطع تطبيقه فقل قبلته، ولعل الله جل وعلا يقويني على تطبيقه، لكن لا ترد أمر رسول الله ﷺ، فإنا نخشى عليك الفتنة، قال الله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:٦٣].
والفتنة تستلزم الشرك أو الكفر أو النفاق أو البدعة أو العذاب أليم.
فقال: هو رسول الله، يعني: أنصحك نصيحة يا عمر! عليك بسنة النبي ﷺ فعض عليها بالنواجذ، قال: هو رسول الله ﷺ ولن يضيعه الله، فكانت الغلبة والقوة والعظمة مع تحري أبي بكر ﵁ وأرضاه في تمسكه بسنة النبي ﷺ.
كما ظهر تمسكه ذلك في المسائل الخلافية الفروعية والأصولية، كما يقول أهل التفريق بين الأصول والفروع، مع أن الدين كله متكامل لا فرق بين أصل وفرع، فقد جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأل ميراثها بعدما مات عنها حفيدها، تقول: مات عني ابني فمالي من الميراث؟ قال: لا أعلم في كتاب الله لك من ميراث، ثم عقد جلسة لأصحاب رسول الله ﷺ فسألهم: هل جعل رسول الله ﷺ لها قسطًا أم لا؟ فقال محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة: (جعل النبي ﷺ لها السدس)، فأمضى لها السدس تمسكًا بسنة النبي ﷺ.
يا للروعة! ويا لعظم هؤلاء الأخيار الأماجد! فحق لنا أن نفتخر بهؤلاء؛ لأنهم ما ارتفعوا وما ارتقوا إلا بتمسكهم بسنة النبي ﷺ؛ برهنة على حب الله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران:٣١].
وهذا عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه وهو الوزير الثاني لرسول الله ﷺ يضرب لنا أروع الأمثلة في تمسكه بالسنة، وأنه لا يقدم قول أحد على قول رسول الله ﷺ.
فقد كان الأشياخ من المهاجرين والأنصار يجلسون في مجلس التحديث والمذاكرة، فذكروا مسألة وهي: إذا جامع الرجل امرأته ولم ينزل فماذا عليه؟ فاختلف الصحابة على قولين، القول الأول: إذا لم ينزل فلا غسل عليه؛ لقول النبي ﷺ: (إنما الماء من الماء)، أي: إنما الغسل من إنزال المني.
والقول الثاني: عليه الغسل، والدليل على ذلك قوله ﷺ: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)، أي: إذا داعب الرجل امرأته فلامس ذكره فرجها ومس ختانه ختانها فقد وجب عليهما غسل الجنابة، وهذا ما ذهب إليه عثمان ﵁ وجمهور الصحابة.
فلما نظر عمر قال: لا بد من رد المسألة إلى رسول الله عملًا بقول الله تعالى: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» [النساء:٥٩]، فبعث إلى عائشة ﵂ وأرضاها وأخبرها بهذه المسألة، فقالت: (كان رسول الله ﷺ يفعل ذلك ويغتسل)، ثم ذكرت حديث النبي ﷺ: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل).
وحديث: (إنما الماء من الماء) كما قال ابن عباس: ليس منسوخًا، ولكنه في الاحتلام، أي: أن الرجل إذا رأى في منامه أنه يجامع امرأة وأحس بشهوة ثم قام فلم يجد بللًا فليس عليه غسل، وقد صرح بذلك النبي ﷺ كما في سنن أبي داود: (أن الرجل إذا استيقظ فوجد في ثيابه بللًا كان من احتلام فعليه الغسل، وإن لم يجد البلل فليس عليه غسل).
والمقصود أن عمر بن الخطاب رد التنازع إلى رسول الله ﷺ؛ ليبين لنا أن أي مسألة مهما يكن فيها من خلاف لا بد من ردها إلى الله ورسوله، لا إلى أبي بكر أو عمر أو إلى الشافعي أو أبي حنيفة: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:١٠]، وقال ﷿: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران:٣١].
وهذا عثمان بن عفان ﵁ وأرضاه يبين لنا شدة تحريه لسنة النبي ﷺ حتى في طريقة الوضوء، فقد روي أنه أوتي بوضوء، ثم غسل يديه ثلاثًا، ثم توضأ كما توضأ رسول الله ﷺ حذو القذة بالقذة.
وهذا ليس تنطعًا ولا تطرفًا، بل هو التماس لسنة النبي ﷺ، فتوضأ كما توضأ النبي وقال: لقد توضأ رسول الله ﷺ نحو وضوئي هذا وقال: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه).
فهذا الثواب العظيم لمن يتحرى سنة النبي ﷺ.
وكان عثمان بن عفان ﵁ ينهى عن المتعة في الحج ويقول بحج الإفراد والقر

16 / 7