همجية البلاد الإنجليزية والفرنسية
في القرون التي كانت فيها العرب تنعم بلذائذ العقل والعمل، وتأخذ من مسرات الحياة الفاضلة بأوفر نصيب، ويهاب سطوتها البادي والحاضر في كل قطر استصفته أو لم تستصفه، وتؤلف أمة منطوية على علم كثير، وأدب غزير، وتعرف لها وثبات ظاهرة، وحكومات ناهضة - في هذه القرون كان الغربيون متوحشين جاهلين، لا يعرفون طعم الراحة، ولا يتذوقون عيش الرفاهية، لا أمن ولا إدارة، ولا ملوك يعرفون واجبهم في إقامة العدل وتوطيد الأمن، وهم في كل أحوالهم إلى حالة البوادي أقرب منهم إلى حياة المدن والحضارة.
كانت إنجلترا
1
الأنجلوسكسونية في القرن السابع الميلادي إلى ما بعد العاشر فقيرة في أرضها، منقطعة الصلات بغير بلادها، سمجة وحشية، تبني البيوت بحجر غير نحيت، وتشيدها من تراب مدقوق، وتجعلها في وطأ من الأرض: مساكن ضيقة المنافذ، غير محكمة الإغلاق، واصطبلات وحظائر لا نوافذ لها، تقرض الأمراض والأوبئة المتكررة المواشي والسائمة، وهي المورد الوحيد في البلاد، ولم يكن الناس أحسن مسكنا وأمنا من الحيوانات. يعيش رئيس القبيل في كوخه مع أسرته وخدمه ومن اتصل به، يجتمعون في قاعة كبرى في وسطها كانون ينبعث دخانه من ثقب فتح في السقف فتحا غليظا، ويأكلون كلهم على خوان واحد، يجلس السيد وقرينته في أحد أطراف المائدة، ولم تكن الشوكات معروفة، وللأقداح حروف من أسفلها، فكان على كل مدعو أن يمسك بيده قدحه، أو يفرغه في فيه دفعة واحدة، وينتقل السيد إلى غرفته في المساء، بعد أن يتناولوا الطعام ويعربدوا على الشراب، ثم ترفع المنضدة والصقالات، وينام جميع المجتمعين في تلك القاعة على الأرض أو على دكات، واضعا كل فرد سلاحه فوق رأسه؛ لأن اللصوص كانوا من الجرأة بحيث يقتضي على الناس أن يقفوا لهم بالمرصاد كل حين، لئلا يؤخذوا على غرة.
وكانت أوروبا في ذلك العهد غاصة بالغابات الكثيفة، متأخرة في زراعتها، وتنبعث من المستنقعات الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة، تجتاح الناس وتحصدهم. وكانت البيوت في باريز ولندرا تبنى من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب، ولم يكن فيها منافذ ولا غرف مدففة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش، ينشرونه على الأرض، ولم يكونوا يعرفون النظافة، ويلقون بأحشاء الحيوانات وأقذار المطابخ أمام بيوتهم، فتتصاعد منها روائح مزعجة، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال، وكثيرا ما كانوا يؤون معهم الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من القش، فوقه كيس من الصوف، يجعل مخدة أو وسادة، ولم يكن للشوارع مجار ولا بلاط ولا مصابيح. قال درابر: وكان من أثر ذلك أن عمت الجهالة أوروبا، وساورتها الأوهام ، فانحصر التداوي في زيارة الأماكن المقدسة، ومات الطب وحييت أحابيل الدجالين، وكلما دهم البلاد وباء فزع رجال الدين إلى الصلاة، وأغفلوا أمر النظافة، فكانت الأوبئة تفتك بهم فتكا ذريعا، وقد زارت أوروبا مرارا فاجتاحت الملايين من أهلها في أيام قليلة.
كان العالم القديم يقتسمه في القرن الحادي عشر مدنيتان:
2
في الغرب؛ مدن حقيرة صغيرة، وأكواخ فلاحين، وقلاع لا هندسة لها، وبلاد مضطربة على الدوام بالحرب، لا يتأتى أن يسير فيها السائر عشرة فراسخ دون أن يسلب وينهب. وفي الشرق: مدن القسطنطينية والقاهرة ودمشق وبغداد وجميع مدن ألف ليلة وليلة، بما فيها من قصور المرمر والمعامل والمدارس والأسواق والحدائق الممتدة على بضعة فراسخ، وبرية تروى أحسن إرواء غاصة بالقرى والضياع، وحركة التجار لا تنقطع، يذهبون بسلام من إسبانيا إلى فارس. قال سنيوبوس: ولا شك أن العالم الإسلامي والعالم البيزنطي كانا أغنى وأحسن نظاما ونورا من العالم الغربي، فكان النصارى يشعرون بنقصهم في التهذيب، ويعجبون باهتين بما يبدو لهم من غرائب الشرق، ومن يحب أن يتعلم يقصد إلى مدارس العرب، وبدأ العالمان الشرقي والغربي في القرن الحادي عشر يتعارفان، ودخل النصارى المتوحشون إلى حمى المسلمين الممدنين من طريقين: الحرب والتجارة. ا.ه. ولقد دهش
3
نامعلوم صفحہ