كلمة شكر
الداعي إلى هذا التأليف
المخالفون ودواعي الخلاف
منازع الناقدين والناقمين
الشعوبية في الشرق والغرب
متعصبة الشعوبية وأرباب الإنصاف
أمهات المسائل التي يرددها الشعوبيون
العرب قبل الإسلام
العرب في الإسلام
ثروة العرب وعلومهم
مواطن العربية وأثرها في اللغات الشرقية والغربية
حال الغرب في شباب الإسلام
تأثير العرب في البلاد المغلوبة
أثر علوم العرب في الغرب
أثر الشعر العربي والفنون الجميلة في الغرب
مدنية العرب في الأندلس
مدنية العرب في جزيرة صقلية
المسلمون والغربيون في الحروب الصليبية
غارات المغول والأتراك على الحضارة العربية
غارات المستعمرين من الغربيين على بلاد المسلمين وغيرهم
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
العلوم والمذاهب في الإسلام
الإدارة في الإسلام1
إدارة الخلفاء الراشدين
إدارة الأمويين
إدارة العباسيين
السياسة في الإسلام
سياسة الخلفاء الراشدين
السياسة في الشرق والغرب
الخاتمة
تعاليق
مراجع الكتاب
كلمة شكر
الداعي إلى هذا التأليف
المخالفون ودواعي الخلاف
منازع الناقدين والناقمين
الشعوبية في الشرق والغرب
متعصبة الشعوبية وأرباب الإنصاف
أمهات المسائل التي يرددها الشعوبيون
العرب قبل الإسلام
العرب في الإسلام
ثروة العرب وعلومهم
مواطن العربية وأثرها في اللغات الشرقية والغربية
حال الغرب في شباب الإسلام
تأثير العرب في البلاد المغلوبة
أثر علوم العرب في الغرب
أثر الشعر العربي والفنون الجميلة في الغرب
مدنية العرب في الأندلس
مدنية العرب في جزيرة صقلية
المسلمون والغربيون في الحروب الصليبية
غارات المغول والأتراك على الحضارة العربية
غارات المستعمرين من الغربيين على بلاد المسلمين وغيرهم
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
العلوم والمذاهب في الإسلام
الإدارة في الإسلام1
إدارة الخلفاء الراشدين
إدارة الأمويين
إدارة العباسيين
السياسة في الإسلام
سياسة الخلفاء الراشدين
السياسة في الشرق والغرب
الخاتمة
تعاليق
مراجع الكتاب
الإسلام والحضارة العربية
الإسلام والحضارة العربية
تأليف
محمد كرد علي
كلمة شكر
أرى من الواجب إسداء الشكر لصديقي الأستاذ محمد أسعد برادة بك مدير دار الكتب المصرية لتفضله بإخراج هذا الكتاب في مطبعة الدار على أكمل وجه، وأشكر لصديقي الأستاذ أحمد أمين رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، والأستاذ أحمد زكي العدوي رئيس القسم الأدبي بدار الكتب المصرية لعنايتهما بالنظر في تجارب الطبع؛ فقد صحح الأول تجارب الجزء الأول، وعني الثاني بإصلاح تجارب الجزء الثاني.
وثناء طيب على الأستاذ محمد نديم ملاحظ مطبعة الدار لبذله الجهد في إتقان طبعه، جزاهم الله عن العلم والآداب خيرا.
محمد كرد علي
الداعي إلى هذا التأليف
لما قرر المجمع العلمي العربي انتدابي إلى تمثيله في مؤتمر المشرقيات الذي عقد في مدينة ليدن من بلاد القاع في صيف سنة 1931م، رغب إلي أعضاؤه المفكرون أن ألقي فيه جملة أعرض فيها لما لا يزال يسري على أسلات أقلام بعض مؤلفي الغرب، ولا سيما علماء المشرقيات، من أمور نابية عن حد التحقيق والنصفة، كلما ذكروا الإسلام وأهله، والعرب ومدنيتهم.
وفي الحق إن المعارف استفاضت في هذا العصر، حتى لم يبق مجهول إلا علم، ولا بعيد إلا اقترب، ولا صعب إلا سهل، وقد نقل إلى لغات الغرب من طرق مأمونة منوعة عشرات من الأسفار في مدنية العرب، المدينة للإسلام بحسناتها وانبعاثها، فتجلى بها ما كان غامضا على أهل المدنية الحديثة، فليس من الإنصاف إذا أن يظل بعض من تأثروا بالمؤثرات القديمة على الاستمداد من عصور الظلمات، يطرسون على آثار من كتبوا من رجال الدين، وهؤلاء ما كان لهم من مصلحة غير تصوير الإسلام في صور باهتة، وإنكار فضل العرب في إنشاء مدنية كانت على الجملة من أعظم ما قام في الأرض منذ عرف تاريخها.
وإن فئة تمثلت أساليب هذا العصر في البحث والحل، ولم تتحرر إلى اليوم من سلطان العوامل الجنسية والدينية والسياسية، لمؤاخذة كل المؤاخذة بأحكامها الجائرة على الإسلام والمسلمين، بيد أن الإعجاب بطرائق أولئك الباحثين لا يمنع من مناقشتهم في آراء لهم غير سديدة، قال بها من قالوا ذهابا مع أهواء النفس الكثيرة، وسبيل هذا الموجز الآن، تصحيح هفوات من أساءوا وما برحوا يسيئون للعرب ودينهم ورسولهم ومدنيتهم، وذكر ما أثرته الحضارة العربية في أمم الغرب والشرق، وما مني به الإسلام، لما غير أهله ما بأنفسهم، من خصماء غير رحماء ، نالوا من روحه وجسمه، فالتاثت أحواله، وتنكرت معالمه، والإلماع إلى ما قام به المسلمون بعد طول الهجعة، يلوبون على استعادة مجد أضاعوه، وعلقوا اليوم يقطعون إليه أشواطا، حتى لم يبق أمامهم غير مراحل قليلة لبلوغ الغاية.
والرجاء في هذه الصفحات أن تنفع في باب اعتبار الأحفاد بذكرى صنيع الأجداد، وأن تنتصف بها حضارتنا ممن ثلموها وما رحموها، والعمدة في وضعها على ما أطال حكماء العلماء من الإفرنج في بسطه، وفي وصف ماضي الأمة العربية على مقتضبات من أمهات أسفارها المحررة، والمنهاج فيها إطلاق حرية التفكير والتقرير، والتقية ليس مذهبا مجديا في زمن لم يعرف البشر حرية كحريته، ولا علما أعظم من علم أهله، ولا عقولا صفت كعقولهم، ولا طبقات رشيدة تعلمت حسن الاستماع على غرار طبقاتهم.
وأسأله تعالى أن يحل عقدة من لساني وقلمي؛ لأجمل ما توفرت من قراب أربعين سنة على الدعوة إلى الأخذ به، من حسنات الحضارتين العربية والغربية، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
محمد كرد علي
دمشق، في: 19 جمادى الثانية سنة 1352
8 أكتوبر سنة 1933
المخالفون ودواعي الخلاف
إنصاف الإسلام والعرب
أخذ أبناء الغرب يتمتعون بعد القرن السابع عشر بحرية الفكر والوجدان، فنشأت فيه طائفة من العلماء تم لها معظم أدوات الفضل، وقد راعها ما شاهدت وحققت، فردت أقوال من ظلموا العرب والإسلام، متوخية كشف القناع عن وجه الصواب الذي غشيته الغواشي
1
في الدهر الغابر، ومن أبناء الغرب المعتدلين من استهدفوا للطعن؛ لأنهم لم يمالئوا الكاتبين الأولين على ما كتبوه، وخرجوا عن المألوف فأنصفوا المخالف، ولم يثنهم عن عزيمتهم نقد ناقد، ولا طعن طاعن، وراحوا يهزءون بمن اتهموهم ظلما بأمانتهم، ويصدعون بالحق الذي تبين لهم.
ولذلك وجب على أصحاب هذه المدنية، وهذه الدعوة الإسلامية، أن يشكروا لأولئك المنصفين، وأن لا يغرقوا باللائمة على من ينظرون إلى أشياء غيرهم، بغير العين التي يبصرون بها أشياءهم، فمن الظواهر الاجتماعية هنا، ما نرى له ما يماثله في المجتمع الغربي، كسيت هناك ثوبا جميلا بفعل الحضارة الممتدة الرواق، وبقيت هنا على سذاجتها للتأخر الطارئ من تراجع المدنية، والقوى قد تبدو سيئاته فيخيل لقصار النظر أنها حسنات، أو يفسر معاني غيره تفسيرا يظنه ضعاف النظر آيات بينات، والضعيف مهما أحسن مغمور مدحور، وربما قلبت حسناته سيئات، والعالم على الدهر عبد القوة القاهرة.
وما دامت المعضلة معضلة تخالف في عقيدة، وتخالف في تربية وعادة، وتخالف في عنصر وبيئة، فمن الواجب علينا أن نساد ونقارب حتى تفعل الأيام فعلها: نعذر المنابذ المعتدل، إذا كان ممن يؤمن بما يقول، ونشكر للموافق العادل الذي يصدر رأيه عن عقيدة واقتناع، وعلينا أن لا ننسى أيضا أن مجتمعنا ما كان في الحقيقة في عامة أدواره وأطواره فائضا بالعدل والتسامح، فقد عهدنا طوائف بالغت في الحط من المخالف لأفكارها، فحاربته بكل سلاح تحت كل كوكب، فأضعفت بعملها العقل، وقضت على الحضارة بأن وضعت العقبات في محجتها.
نحن اليوم قد نستفيد من سماع أقوال المخالف، ومنازع الصريح في نقده قد تقوم المعوج وتصلح الفاسد، لا جرم أن من المسائل ما يصعب تمييز بهرجه من صحيحه، إلا بمعاناة طويلة، وأناة وروية، ورفق جميل، وقد يكون منشأ التعقيد على الأغلب من الواضع الأول، إما لسوء فهم، ومشايعة وهم، أو لتعمد في إفساد حكم، بعلم وبغير علم، فيتسرب الضعف إلى العقول، ويتأصل فيها بمرور الأيام، والضلالة إذا رسخت احتاجت إلى جهود طويلة حتى تنزع من الأذهان، والحق إذا اختلط بالباطل وامتزج باللحم والدم استلزم التفريق بينهما معالجة طويلة، وهذا ما يصدق على تاريخ الإسلام، وحكم بعض الغربيين عليه منذ القديم، فإن الخطأ فيه عندهم عمدا أو عن غير عمد، قد أتت عليه القرون حتى انتفى، وظهرت بين ظهرانيهم حقيقته على جليتها، ولذلك يحمد قصد من أنصفوا في أحكامهم علينا، والعدل من القريب حلو ومن البعيد أحلى، ومن خالفنا في مسألة ووافقنا في مسائل كان أقرب للتقوى.
العوامل في جفاء الغربيين
وهناك عقدة مدنية وعقدة دينية، إذا سهل الخطب في الأولى عسر في الثانية؛ لأنها صعبة المراس، متعذرة على الانتزاع، مهما جهدت بكل جهدك، وجمعت كل عقلك، وحكم الغرب على العرب منبعث في الأصل من تباين في المعتقدات، والمعتقدات وليدة التسليم والاستهواء والعادات، ومن الصعب استئصال ما تأصل في النفوس بمرور الأيام؛ لأن العناد في الاعتقاد، فطرة لا تبغي عنها النفوس البشرية حولا، والعاقل من أنصف غيره من نفسه.
وأهم أسباب الجفاء بين الغربيين والشرقيين في القرون الأولى من الهجرة؛ كون الإسلام جاء لهداية البشر كافة، فأتى على الوثنية في البلاد التي انتشر سلطانه فيها، ودخل فيه من الصابئة واليعاقبة والنساطرة والمجوس واليهود وغيرهم جمهور كبير، وخافت أوروبا النصرانية من تسربه إلى ربوعها، فاتفقت كلمة الملوك ورجال الدين على حربه، حتى وقفت دعوته عند جزيرتي الأندلس وصقلية وما إليهما من أرض الفرنجة، ثم نشأت الحروب الصليبية ودامت قرنين كاملين، يجيش فيهما الغرب على الشام ومصر، حتى كتبت الغلبة الأخيرة للإسلام في أرض الشام.
وبديهي بعد هذه الطوائل والأحقاد التي طالت لياليها السود - خصوصا بعد أن هزت الدولة العثمانية في العصور الأخيرة أعصاب أوروبا زمنا، حتى دب الهرم فيها - أن يقول الخصم في خصمه ما قد يحط من قدره، ويصغر من أمره، ولا يفوتنا النظر أن الجهل كان فاشيا في الغرب، وأن الدين كان آخذا بمخنق
2
كل عالم وباحث، وأن آراء المؤرخين حتى في العهد الحديث تختلف في الجوهر والعرض أحيانا في الحادثة الواحدة؛ لأن من مظاهر هذا العصر اشتداد سلطان التحزب القومي، إلى ما لم يصل إليه في عصر من عصور التاريخ.
ولما انبلج فجر الأدوار الأخيرة من القرون الوسطى، وجاء دور النهضة والانتباه في الغرب، أنشأ المشتغلون بتلمس الحقائق يخففون من شرتهم على العرب، ويقللون من النيل من دينهم ومدنيتهم، وزادت معرفة الغرب للإسلام، يوم أنشأت بعض جامعات الغرب دروسا لتعليم اللغات الإسلامية، وفي مقدمتها اللغة العربية، وذلك للدعوة إلى النصرانية في الشرق، ثم انقلب الغرض إلى درس الحضارة العربية والإسلام، من طريق العقل والنظر، وكان من مجموع هذه الأبحاث بأخرة،
3
استبطان أحوال الإسلام ودياره، لغرض الفتح والتجارة.
يقول قاسم أمين:
4
إن العداوة القديمة التي استمرت أجيالا بين أهل الشرق والغرب بسبب اختلاف الدين، كانت ولا تزال إلى الآن سببا في أن جهل بعضهم أحوال بعض، وأساء كل منهم الظن بالآخر، وأثرت في عقولهم حتى جعلتها تتصور الأشياء على غير حقيقتها؛ إذ لا شيء يبعد الإنسان عن الحقيقة أكثر من أن يكون عند النظر إليها تحت سلطان شهوة من الشهوات؛ لأنه إن كان مخلصا في بحثه، محبا للوقوف على الحقيقة، وهو ما يندر وجوده، فلا بد أن تهوش عليه شهوته في حكمه، وأدنى آثارها أن تزين له ما يوافقها وتستميله إليه، وإن كان من الذين لا منزلة للحق من نفوسهم، وهم السواد الأعظم، ضربوا دون الحق أستارا من الأكاذيب والأوهام والأضاليل، مما تسوله لهم شهوتهم، حتى لا يبقى لشعاع من أشعة الحق منفذ إلى القلوب.
5
صعوبة درس التاريخ
وليس البحث في تاريخ بلد واحد بالأمر السهل، على من كتب له حظ من البحث والنظر، فما بالك بتاريخ أمة عظيمة تباعدت أرجاء بلادها كالأمة العربية؛ ولذلك رأينا الغربيين لما بلغ العلم هذه الدرجة العالية من الارتقاء والتشعب، يقسمون التاريخ أقساما كثيرة، فمن بحث منهم في تاريخ قرن أو قرون من تاريخ أمة، لا يتطال إلى البحث في دور آخر من أدوارها، أو من خاض في تاريخ إقليم أو بلد يحظر عليه، أو يحظر على نفسه الخوض في تاريخ إقليم أو بلد آخر، ومن اختص بجانب من تاريخ الرومان، يتعذر عليه معالجة التاريخ الحديث، ومن تاقت نفسه أن يتناول في أبحاثه النظر في حال أمة من أمم الشرق، لا يجود تأليفا له في تاريخ الغرب؛ ولذلك تقل قيمة سفر يؤلفه واحد على الأغلب، إن كان متشعب المقاصد، فكتب المعلمات أو دوائر المعارف ينشئها مئات، وأحيانا ألوف من العلماء عندهم، وكتب التاريخ والجغرافيا والآداب يؤلفها عشرات من المؤرخين والأدباء والجغرافيين، وربما لا تكتفي أمة بما عندها من الرجال فتستعين برجال من غير أمتها، تلاحظ أنهم أرقى كعبا.
إذا فالتاريخ اليوم صعب المراس لتنوع أغراضه، فكيف يعتمد على من يقرأ بضعة كتب في تاريخ العرب، ويحكم على أهله ومدنيتهم، ألا يعد من كان هذا شأنه من كتاب العامة؛ لقلة بضاعته، فما الحال بما يصدره من الآراء، وهو على رأي له قديم اصطنعه، وما استطاع أن يتحلل من قيوده، وهذا فيما نرى ما دعا «رنان» أن يقول: إن التاريخ مجموعة ظنون أو علم صغير سداه ولحمته من الفرضيات البعيدة، وقالوا: كل امرئ يحاول أن يدمج في التاريخ أفكاره من طرف خفي، وأن يتصور الحقيقة ويخلقها؛ وذلك لقلة الوثائق التي تثبت على محك النظر، ويحاول المؤرخون أبدا أن يحيوا نظريات قائمة على نظريات أخرى، ويدخلوا إلى روح أشخاص يجهلون مزاجهم، وما ورثوه من تربية وأفكار؛ ولذلك يصعب جدا كتابة تاريخ عصر أو رجل، وما زال البشر منذ عهد «توسيديد» و«هيرودتس» يحاولون كتابة التاريخ، وقلما وصلوا إلى الحقائق؛ لقلة معرفتهم باكتناهها، ويحاولون شرح الحوادث ومعرفتها وحفظها؛ ليدخلوا شيئا ضئيلا كالخيال من العناصر التي تركها العالم في ماضيه السحيق، وكان «تاسيت» يحاول أن يضع نفسه فوق الحوادث وأن يحكم عليها، ويحاول «مونتسكيو» و«هردر» أن يستخرجا من نصوص التاريخ فلسفة، وحاول «رنان» أن يوفق بين الحوادث، ويكشف أسرارها الممكنة الظهور، وأن يورد وقائعها ملموسة ذات وحدة، ولكل مؤرخ طريقته. يقول كارلايل: إن التاريخ مجموعة إشاعات، وفولتير يقول: إنه مجموعة أساطير قبلها الضعفاء.
وقال لبون:
6 «منذ القديم كان الإنصاف في التاريخ صفة جوهرية في المؤرخ، ويؤكد عامة المؤرخين منذ عهد تاسيت خلوهم من الغرض، وتجردهم عن الهوى، وحقا إن الكاتب يرى الحوادث، كما يرى المصور منظرا من المناظر، بحسب مزاجه وخلقه وروح عنصره، وإذا جئت تضع عدة مصورين أمام منظر واحد، فإنك ترى كل فرد منهم يعبر عنه بالضرورة تعبيرا يخالف فيه صاحبه، ومنهم من يعني بتفاصيل أهملها غيره، وعلى هذا تأتي كل نسخة صورة خاصة لمصورها، بمعنى أنها تمثل شكلا خاصا من التأثير، وهكذا الحال في الكاتب، فلذلك تعذر على المؤرخ أن يقول الإنصاف كله، كما يتعذر ذلك على المصور. لا جرم أن للمؤرخ أن يأتي بالوثائق كما هو العرف اليوم، ولكن هذه الوثائق إذا طال عهدها عن عهدنا كالثورة الفرنسية مثلا؛ إذ قد بلغ من اتساعها أن حياة رجل لا تكفي للإحاطة بها، وجب الاختصار على لباب ما فيها، وقد يبلغ بالمؤلف عن عمد أو غير عمد، أن يختار المواد التي توافق أهواءه السياسية والدينية والأخلاقية؛ ولذلك تعذر تأليف كتاب في التاريخ بلغ من الإنصاف مداه، اللهم إلا إذا اقتصر فيه على إيراد الحادثة في سطر واحد وفي زمن واحد، وليس هذا في طاقة مؤلف، ولا يؤسف لعدم اقتدار المؤلفين عليه، وقد بلغ من انتشار دعوى عدم التحزب في التاريخ اليوم، أن ظهرت للناس آثار تافهة تورث مللا وأي ملل، بحيث يتعذر بالرجوع إليها فهم تاريخ عصر من العصور.» ا.ه.
وقيل: إن التاريخ
7
رواية يخترعها كل كاتب من توليد خياله، وينتحل لها الأسماء والأعلام، من سير الناس وحوادث الأيام، وكلما اتفق المؤرخون على رواية مسطورة كان ذلك أدعى إلى الشك فيها، والتردد في قبولها؛ لأنه دليل على الأخذ بالسماع والتسليم بغير مناقشة، فأما إذا اختلفوا واضطربت أقوالهم بين الثناء والمذمة والترجيح والتضعيف، فأنت إذا حيال التاريخ في بابل من الفروض والآراء، ومضلة من الحقائق والشكوك، ويحتاج المؤرخ إلى كل ما يحتاج إليه القاضي من الشهادات والأسانيد والبينات، وقد ينقصه كل أولئك في أكثر الحوادث التي يتصدى لها بالبحث والتقرير، فكل حادثة تاريخية قوامها الأشخاص والأخبار والمصالح والآراء، ولكل عنصر من العناصر آفة تتطرق إليه بالزغل والارتياب، فالأشخاص يحيط بهم الحب والبغض، والرغبة والرهبة، والظهور والخفاء، والأخبار يعتورها الصدق والكذب، والفهم والجهل، والوضوح والغموض، والمصالح تتفق ولا تتفق، وتجاري الحقيقة وتناقضها، وتصبغ الأشياء عامدة أو غير عامدة، بصبغة تلوح لهذا غير ما تلوح لذاك، والرأي عرضة لاختلاف العلم والنظر والمزاج، وكل ما يدخل في تكوين الآراء وتقدير الأحكام، وإذا تأتى للمؤرخ أسباب الحكم على الأعمال الظاهرة، فقد تعوزه أسباب الحكم على النيات الخفية، والبواعث المستورة، والعوامل التي يحجبها الإنسان عن خلده ، ويغالط فيها ضميره، وهبه تأتى له كل ما يتأتى للقاضي من الشهادات والأسانيد والبينات، فهل يسلم القاضي من الزلل؟ وهل يأمن الزيغ في الفهم، والمحاباة في الهوى، وانتشار الأمر عليه في القضايا التي لها خطر، وللناس بها اهتمام؟ أما سفساف الحوادث فسواء أصاب فيها القاضي أو أخطأ فهي أهون من أن يتعلق بها خبر في تاريخ أو مذهب في قضاء. ا.ه.
تفنيد «لبون» أقوال من نالوا من العرب والإسلام
وما أجمل ما قال لبون في كتابه حضارة العرب:
8 «وإذا كان للأديان تأثير عظيم في الأخلاق، كما ينسب إليها في العادة، ونحن ممن لا يقول بهذا التأثير على ما يزعم الزاعمون، فإنا نجد المقابلة مدهشة بين الإسلام وسائر المعتقدات التي تزعم مع هذا أنها أسمى منه، ولقد قال بارتلمي سان هيلير - وهو من العلماء المتدينين - في كتابه في القرآن: تدمثت نفوس قساة الطباع من سادة القرون الوسطى، بملابستهم العرب وتمازجهم بهم، وعرف الفرسان بدون أن يفقدوا شيئا من شجاعتهم شعورا أرق وأشرف وأعرق في الإنسانية من شعورهم، ومن المشكوك فيه أن تكون النصرانية وحدها، على ما حملت من المنافع، هي التي ألقت في روعهم ما ألقت، وبعد هذا النظر ربما تساءل القارئ، ولماذا غمط اليوم حق العرب وتأثيرهم، وأنكر حسناتهم علماء عرفوا باستقلال أفكارهم، وكانوا بحسب الظاهر بمعزل عن الأوهام الدينية؟ وهذا السؤال قد سألته نفسي، وأرى أن لا جواب عليه غير ما أنا كاتب، ذلك أن استقلال آرائنا هو في الواقع صوري أكثر مما هو حقيقي، ونحن لسنا أحرارا على ما نريد في خوض بعض الموضوعات؛ وهذا لأن فينا أحد رجلين: الرجل الحديث؛ الذي صاغته دروس التهذيب، وعمل المحيط الأدبي والمعنوي في تنشئته، والرجل القديم: المجبول على الزمن بخميرة الأجداد، وبروح لا يعرف قراره يتألف من ماض طويل، وهذا الروح اللاشعوري هو وحده الذي ينطق في معظم الرجال، ويبدو في أنفسهم بمظاهر مختلفة، يؤيد فيهم المعتقدات التي اعتقدوها، ويملي عليهم آراءهم، وتظهر هذه الآراء بالغة حدا عظيما من الحرية في الظاهر فتحترم.» «لا جرم أن أشياع محمد كانوا خلال قرون طويلة من أخوف الأعداء الذين عرفتهم أوروبا، فكانوا بتهديدهم الغرب بسلاحهم في عهد شارل مارتيل، وفي الحروب الصليبية، وبعد استيلائهم على الآستانة، يذلوننا بمدنيتهم السامية الساحقة، وإلى أمس الدابر لم ننج من تأثيراتهم، ولقد تراكمت الأوهام الموروثة المتسلطة علينا، والنقمة على الإسلام وأشياعه في عدة قرون، حتى أصبحت جزءا من نظامنا، وكانت هذه الأوهام طبيعة متأصلة فينا، كالبغض الدوي المستتر أبدا في أعماق قلوب النصارى لليهود.» «وإذا أضفنا إلى أوهامنا الموروثة في إنكار فضل المسلمين هذا الوهم الموروث أيضا النامي في كل جيل، بفعل تربيتنا المدرسية الممقوتة، ودعوانا أن جميع العلوم والآداب الماضية أتتنا من اليونان واللاتين فقط، ندرك على أيسر سبيل أن تأثير العرب البليغ في تاريخ مدنية أوروبا قد عم تجاهله، ويرى بعض أرباب الأفكار أن من المذل على الدوام أن يذهبوا إلى أن أوروبا النصرانية، مدينة لأعداء دينها بخروجها من ظلمة التوحش، وهناك أمر يحمل في مطاويه ذلا كثيرا في الظاهر لا يقبل تحمله إلا بشيء من العنت، وذلك أنه كان للمدنية الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وتم لها هذا التأثير بفضل العرب، بل بصنع العناصر المختلفة التي دانت بالإسلام، وبنفوذهم الأدبي هذبوا الشعوب البربرية التي قضت على الإمبراطورية الرومانية، وبتأثيرهم العقلي فتحوا لأوروبا عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، وهذا ما كانت تجهله، وعلى ذلك كان العرب ممدنينا وأساتذتنا مدة ستمائة سنة.»
وقال في حاشية هذا الفصل: إذا استحكمت الأوهام الموروثة وأوهام الثقافة في رجل، يعمى مع اتساع معارفه عن تفهم أسرار المسائل، وما هو إلا أن ينطوي على بغضين: بغض الرجل القديم الذي أنشأه الماضي، وبغض الرجل الحديث الذي هو ابن الملاحظة الشخصية، ولا يلبث أن يأتي بصور من التعبير عن الأفكار غريبة في تناقضها، ويجد القارئ مثالا من المتناقضات في محاضرة في الإسلام ألقاها في جامعة السوربون كاتب مبدع عالم، عنيت السيد رنان، حاول أن يثبت عجز العرب، فنقض بيده كل مزاعمه؛ فقد ذكر مثلا أن ارتقاء العلم كان بفضل العرب خلال ستمائة سنة، وأبان أن التعصب في الإسلام لم يظهر كل الظهور إلا لما خلفت العرب عناصر منحطة كالبربر والترك، ثم جاء يؤكد أن الإسلام طالما اضطهد العلم والفلسفة، مدعيا أنه قضى على العقل في البلاد التي افتتحها، ولكن باحثا ذكيا كالسيد رنان لا ينام على رأي مخالف لأصول التاريخ الظاهرة، فما إن تزول الأوهام فيه حينا حتى يتجلى فيه العالم فيضطر إلى الاعتراف بتأثير العرب في القرون الوسطى، وبما بلغته العلوم من الرقي في إسبانيا مدة استظلالها بظل سلطانهم، ومن الأسف أن الأوهام اللاشعورية تتغلب عليه حالا، فيدعي على وجه أكيد أن علماء العرب ليسوا عربا بأصولهم، بل هم أخلاط من أهل سمرقند وقرطبة وإشبيلية ... إلخ، وبديهي أنه لا يتيسر النزاع في أصل الأعمال التي خرجت بفضل طرائق العرب، ولعمري هل من الميسور إنكار أعمال علماء الفرنسيين، بحجة أن من تمت على أيديهم كانوا من عناصر مختلفة كالنورميين والسلتيين والإكتيين وغيرهم، ممن كونوا فرنسا بتمازجهم، وقد يكتئب هذا المؤلف العالم أحيانا من الأسلوب الذي جرى عليه في إساءته للعرب، وينتهي الصراع بين الإنسان القديم والإنسان الحديث إلى هذه النتيجة التي لم تكن متوقعة منه، فيأسف لكونه لم يخلق مسلما قائلا: «وما دخلت مسجدا قط إلا وعراني خشوع يمازجه أسف على أني لم أكن مسلما.» ا.ه.
نقد التاريخ وتوحيده
هذا وقد عقد لبون في آخر كتاب خطته يده في السنة الماضية، سماه الأسس
9
العلمية في فلسفة التاريخ فصلا في النقد التاريخي، قال فيه: «رأينا في الفصول السابقة مدى الشكوك التي تعرض للوقائع التاريخية حتى لما كان منها معروفا، فاقتضى للحكم عليها أن يتجرد فيها عن التأثيرات القومية والدينية والسياسية التي هي مرجع البت في معظم الأحكام؛ ولذلك جاءت التآليف التي كتبت في مختلف البلدان حاملة تقديرات متباينة في الحوادث الواحدة، وللأوهام الدينية خاصة سلطان على المؤلفين، على حين يعتقدون أنهم نجوا من تأثيراتها، لا جرم أن كثيرا من المؤرخين قد اندفعوا بسائق هذه الأوهام فأتوا بآراء بعيدة جدا عن محجة الصواب في بيان فضل الحضارة الإسلامية، ولا يزال التحامل على العالم الإسلامي القديم بحالة من الشدة؛ ولذلك وجب أن يعاد النظر في تاريخ القرون الوسطى بجميع أجزائه التي لها مساس بانتقال المدنية القديمة إلى العصور الحديثة.» ا.ه.
وبعد، فلم يبق من رأي يدلى به بعد هذا الكلام البالغ أقصى حدود الإنصاف والتعقل. وحقيقة إن من كتاب الغرب من إذا ذكروا الإسلام إلى اليوم، وصفوه بكل ما ينقص من قدره، وإذا اضطروا إلى الإشارة إلى المدنية العربية كأنهم يقولون بلسان الحال: إنها كعلم جابر، اقرأ تفرح، جرب تحزن، علمها لا ينفع، وجهلها لا يضر، يقول ماكس نوردو: «ولكم كبر مقام أناس بما دون المدونون من أخبارهم، حتى إن كثيرين ليعجبون من أرباب الرحلات السخفاء عجبهم من كبار الفاتحين المصلحين، وكم من أناس هم عظماء في نظر أمة، ولا يذكرون عند أمة أخرى، وكم من زلازل وحرائق أثرت في الانقلاب البشري أكثر من الحروب والغارات، وما السبب في ذلك إلا المؤرخون فإنهم غالوا في هذه وسردوا أخبار تلك على وجه عادي.»
أما الآن فمن المستحسن جد الاستحسان توحيد التاريخ في العالم، وتقليل جميع مصادر الأحقاد بين الأمم، على ما صرح بذلك رئيس مؤتمر التاريخ في لندن، وألح بوجوب السير عليه أحد كبار علماء إيطاليا قبل بضع سنين في رومية، وترى طائفة من العقلاء في الغرب نبذ كل ما يثير الحقد، ويدعو إلى الظنة، ويفك عرى الألفة، ولن يتم قيام هذا المجتمع الحديث إلا بتعاون الشرق مع الغرب تعاونا حقيقيا يقوم على الحرمة المتبادلة والمصلحة المشتركة، والعدل الذي لا يتجزأ، وللبشر اليوم مقصد أسمى من الخلافات والمناقشات التي جاءت القرون إثر القرون، وما زالت بحالها، لم تورث النفوس إلا اشمئزازا، ولم يترك الزمن الحافز مجالا للناس ليشتغلوا بأمور كان لها ما يبررها في عصور البطالة والجهالة، البشر بعد هذا التقارب في المواصلات والأفكار أحوج ما كانوا إلى التعارف والتعاطف، وإنصاف بعضهم بعضا، ليقوم نظامهم على الوئام والسلام.
منازع الناقدين والناقمين
نقد مؤرخ أميركي وكلام في المذابح الدينية
اختلفت مناحي الطاعنين على الإسلام في الغرب منذ نحو مائتي سنة، فكان فيهم المخلص في نقده في الجملة، بيد أنه لم يرزق من ثقوب الذهن، ونزع ربقة الهوى، ما يؤهله لإصدار أحكام على العرب ومدنيتهم خالصة من العيوب والنزعات، ومنهم الذي لم يصل إلى درجة من التحقيق يستعد بها لوزن الأشياء بميزان القسط، فأرسل كلامه إرسالا، ظانا أنه أصاب شاكلة
1
الصواب، وما هو منه بقريب، ومنهم من أعمى التعصب المذهبي بصره وبصيرته، فكال الباطل كيلا، وخلط وخبط تحت ستار العلم والبحث، وهو لو حلف لك بكل محرجة
2
من الأيمان، ليثبت لك خلوه من الغرض ما زدته إلا تجهما
3
وسخرية، وللقارئ أن يجعل بعض من وقعوا في هذه المضايق من الغربيين في المرتبة التي يراهم أهلا لها، وذلك بجنايتهم على التاريخ الصحيح، والعلم المجرد، ولتسجيلهم على أنفسهم جهلا وغباوة.
فمن سخافات المؤلفين الذين ألقوا الكلام على عواهنه
4
في الإسلام قول كوفين
5
من جامعة واشنطون: «إن الشريعة الإسلامية التي دان بها وقدسها، مائتان وثلاثة وثلاثون مليونا من الناس،
6
قد حفظت في تضاعيفها شرورا اجتماعية تئن منها الإنسانية، ومع هذا قدست الشريعة هذه الشرور باسم الدين.» جملة ربما قالها الكاتب الأميركي وهو لم ير حياته مسلما، ولا قرأ كتابا معتمدا من كتب العرب، قالها بدافع هو يعرفه أو فاه بها ليأتي بالغريب، وأميركا مهد الغرائب، وكأنه اكتفى بهذا الاقتضاب علما منه بأن ما قاله من البديهيات لا يعوزها شرح وتفصيل، ولو أنصف لفسر لنا هذه الشرور التي اتهم بها الإسلام وأنت منها الإنسانية، كأن الإنسانية لم تئن مثلا من معاملة الجنس الأبيض للأسود في أميركا، قال فوليه:
7 «تحدث مشاهد في الولايات المتحدة لا تورث الأميركان فخرا، وذلك أن الزنوج يحبون النساء البيض محبة شديدة، حتى لقد يرضون شهواتهم بالعنف أحيانا، ويقضي قانون «لنش» أن يطلي من يأتي ذلك بالقطران، ويحرق كما تحرق الشموع، وتضطر الحكومة السود في الناحية التي وقع فيها الفعل إلى حضور مشهد إحراق رفاقهم.»
نعم، كأن الإنسانية لم تئن من الحروب الدينية التي أهلكت فيها الإمبراطورة تيودورا وحدها نحو مائة ألف من المانويين في أواسط القرن التاسع، كما أهلك الكاثوليك من البرتستانت في مذبحة سانت بارتملي مائة ألف
8
أيضا، وكأن الإنسانية كانت راضية عن أعمال ديوان التحقيق الديني الذي قتل في إسبانيا وحدها، كما قال ريناخ:
9
نحو مائة ألف إنسان على أقل تعديل، وكأن الإنسانية أقرت المذابح العظيمة التي قامت في الغرب تنفيذا لرغبة الباباوات في قتل الملحدين، ومنها ما قضى على أقاليم برمتها بالخراب، كالحرب التي أعلنها
10
البابا إينوسانت الثالث سنة 1208م، فخرب جنوبي فرنسا وأقفرت مدن برمتها، ومنها كركاسون وبزيه، وكالحرب التي أثارها الكاثوليك على البرتستانت المفرطين في طلب الإصلاح، وكانوا يدعونهم الأنابابتيست، فقتل فيها 160 ألفا، وأهلك توركمادا الدومنيكي الإسباني 1420-1498 ستة آلاف إنسان بالنار، وطلب جزاء عمله منصب كردينال من البابا، وقد حكم على 8800 بالحرق، وعلى 96504 بعقوبات أخرى، وكانت الحكومة تحميه بخمسين فارسا ومائتي راجل، وكانت الأرواح لا قيمة لها في نظر المدافعين عن المعتقدات، ويرون القسوة فضيلة يثاب عليها فاعلها، وكان المؤمن حقا من لا تنفثئ
11
سورة غضبه للدين الذي يتخيل أنه الحق وما عداه باطل، ولو لم تأت الثورة الفرنسية الكبرى على هذه الفجائع التي امتدت لأواؤها
12
قرونا باسم الدين، والدين منها بريء، لظل سلطان الدينيين في الغرب إلى اليوم بحاله، ولتأخرت المدنية عن سيرها الطبيعي أكثر مما تأخرت بصنع رجال الكنيسة ومن جاراهم من الأقيال والأمراء والملوك.
رد على رنان وجانو في الإسلام
ومن الناقدين من وقعوا في غلط الحس؛ فحكموا على العرب والإسلام أحكاما لا مبرر لها، ربما كانوا يعدلون عنها لو ساعدهم الزمن فرجعوا اليوم إلى تمحيص ما دونوا، كما وقع لرنان يوم زار في القرن الماضي جزيرة أرواد،
13
فشاكسه بعض أهلها، فهجا أهل الجزيرة بأسرهم، بل السوريين بأجمعهم، بل المسلمين عامة، وقال: إن غلط الفكر هو مظهر خلق السوريين، وإن الأرواديين قاوموه للبغض المتأصل في قلب كل مسلم لما يقال له علم، وقال في مناسبة أخرى: إن الذي يميز العالم الإسلامي إنما هو اعتقاد المسلمين أن البحث لا طائل تحته، وأنه قد يؤدي إلى الكفر، وحكم هذا المؤلف على جماع السوريين، بما رأى من انحطاط صيادين معدمين في جزيرة صغيرة، وعلى كل مسلم بأنه عدو العلم والبحث في فطرته، لا يصح على إطلاقه؛ لأنه بعيد عن المنطق، ولا يتلاءم بحال مع حكمة صاحبه وعلمه الواسع، ونظن رنان وهو يكتب قبل زهاء سبعين سنة، لو زار بعض البلاد العربية اليوم لغير رأيه في الحكم على المسلمين، ولرأى كثيرا من عامتهم قد تحرروا مما سماه تعصبا أعمى، وألفوا ممارسة الحقائق، وأقبلوا على العلم على اختلاف ضروبه وكان بعضهم بالأمس ينكرونه ويعقونه.
ومثل ذلك وقع أيضا لعالم أثري مشهور اسمه كلرمون جانو، حيث قال: «إن المدنية العربية ليست سوى كلمة خداعة، لا وجود لها أكثر من فظائع الفتح العربي، وإنها آخر أنوار المدنية اليونانية والرومانية، طفئت بأيد خرقاء ولكنها محترمة وهي الإسلام.» كلام غث في الحقيقة ينم عن جهل بحقائق التاريخ، وإن كان صاحبه الصدر المقدم في علم الآثار، والغالب أنه شق عليه أن لا يرى العرب يرمون ما عور من مصانع اليونان والرومان، فسلبهم حقهم كله من اشتراكهم في خدمة المدنية، وجعلهم في مرتبة الفانداليين في التخريب، مدفوعا إلى هذا القول على ما يظهر بعاطفته لا بعقله، وفاته أن معظم آثار من أحبهم من اليونان والرومان خربت بعوامل الزمن الأرضية والسماوية، وما كان الإسلام سبب تداعيها على ما زعم بعض النافخين في بوق التعصب الديني، ورددوا ما طالما أجملوه ثم فصلوه، من أن الإسلام كان السبب في انقراض
14
الإرث الثمين الذي خلفته بابل وأشور وآسيا الصغرى وسورية وفينيقية فيما يختص بفن البناء والنحت وما إليه، ولو كان جانو حيا اليوم لما أحلناه إلا على ما كتبه ابن وطنه سيديليو
15
قال: وما زال الفرنج إلى الآن ينسبون إلى العرب جميع التخريب الذي يرون اليوم آثاره في الأقطار التي آغاروا عليها، وقد هولت الفرنج في شأنهم، مع أنهم كانوا في جميع الوقائع ذوي لطف عند الانتصار، وسبب ذلك ما رسخ في عقول الفرنج من الخوف والنفرة من العرب، وكانت وجوههم كالحة من حر الشمس وأعينهم مخيفة، هذا مع شدة عدو خيلهم، وغرابة ملابسهم، وتجريدهم سيوفهم، وتكلمهم بلغة لا يعرفها أهل تلك البلاد، لنشر دين بين هؤلاء النصارى المملوءة قلوبهم بتعاليم أساقفتهم، وكانوا لا يتفوهون إلا بالألفاظ الدالة على العداوة والبغضاء لهؤلاء العرب المنكرين ألوهية عيسى ابن مريم. ا.ه.
ومن أين لأثري أن يتفهم تاريخ العرب، وتاريخ الإسلام، كما قال لبون: «لم يوفق كثير من عظماء المؤلفين إلى فهمه، وما زالوا ينكرون فيه إبداع المدنية التي ولدها الدين.» ولو كتب لهذا الأثري أن يحسن التاريخ، لاقترحنا عليه أن يدلنا على الفظائع التي ارتكبها العرب في فتوحهم، ومعظم ما يبالغ في نسبته إليهم مما تبيحه القوانين الحربية، والرومان وهم مثال الدولة المدنية بزعمه، أتوا في بضع سنين من أنواع الجور واستعباد الخلق، ما لم يأت مثله العرب في القرون الأربعة الأولى، على اتساع رقعة ممالكهم.
وقد أجمع مؤرخو الغرب على أن فتح العرب في الأندلس كان أرحم بكثير من فتح الغوط «الويزغوت»، على أن تخريبات الحروب الدينية في الغرب في سبيل نشر النصرانية لتحل محل الوثنية، ثم ما نشب هناك من الفتن والغوائل قرونا طويلة دفاعا عن حمى الدين، كل ذلك كانت فظائعه أعظم من كل ما ارتكبته العرب من الفجائع المزعومة، وماذا نعمل وهذا الأثري كأمثاله، مأخوذ بحب الأحجار ورصفها، لا يثبت على ما يظن لأمة مزية إلا إذا جمعت منها جبالا وتلالا بأية طرق كانت، وما دامت الغاية تبرر الواسطة عنده، فلا يهمه إذا هلك عشرات الألوف من الخلق إن كان من وراء ذلك إنشاء معبد أو قلعة أو مسلة أو قوس أو طريق أو مسرح أو ساحة أو حمام.
السبب في قلة آثار العرب
ولقد رأينا الرومان حكموا الشام سبعة قرون وخرجوا منه، وهم لم ينهوا بناء هيكل الشمس في بعلبك، على كثرة من ساقوهم من الخلق ليعمروه، ومن سوء حظ العرب في الإسلام مع هؤلاء الناقمين عليه، أن السخرة محظورة في شريعتهم؛ ولذلك كانت مصانعهم مما عمر على الأغلب بأموال الملوك والخلفاء والأمراء وأهل الخير، فجاءت أعمال أفراد لا أعمال جماعات، ولكل أمة أسباب قاهرة ليس في مكنتها التفلت من قيودها، ولكل جماعة مصطلح لا تخرج عنه؛ لأنه ربيب عاداتها وأليف خلقها وروحها.
يقول ابن خلدون:
16
إن الهياكل العظيمة جدا، لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، والدول العربية لم يطل عهد حكمها قرونا، كما كانت آماد أمم القبط والنبط والروم والعرب الأولى من عاد وثمود والعمالقة والتبابعة؛ ولذلك لم تقم للمسلمين العرب مصانع عظيمة كأهرام مصر، وسد مأرب، وإيوان كسرى، تخلد ذكرى ملوكهم، وتنم عن مدى تفننهم في صناعاتهم، ومن أجل هذا استغنى المسلمون بما وجدوا من مباني غيرهم، وعمروا ما اشتدت حاجتهم إليه بالطرق المشروعة، ومع هذا كتب لهم في زمن قصير أن يشيدوا مصانع بلغت من الإبداع مبلغا تعرفه العين لأول نظرة؛ لأنها لم تألف رؤية أمثاله، كما قال أحد الفلاسفة المعاصرين، وهناك شيء آخر: وهو أن بعض مصانع العرب لم تعمر بالحجر الصلد، بل اتخذ لها في الغالب الآجر والقرمد والخشب والأتربة، فكان فعل الطبيعة فيها عظيما، ويقول سكريتان:
17
منذ استعاض الغرب عن البناء بالخشب، وألف البناء بالحجر، ظهرت مدنه ومصانعه بمظهر غير مظهرها، وقد أبطأ الشرق في البناء بالحجر خيف الزلازل.
ومن ينكر على الرومان تفردهم بين الأمم بإقامة المصانع العجيبة التي أعجب بها كلرمون جانو وكثير قبله وبعده من أمم الإفرنج، أحفاد الرومان وورثة مجدهم، ولكن هذا الإعجاب بما صنعوا لا ينفي أنهم كانوا كاليونان يستبيحون ارتكاب
18
كل منكر مع أعدائهم الذين جاهروهم العداء؛ فكانوا لا يتحرجون من قتل العزل من أسلحتهم ومن بيع الأسرى كالرقيق، ومن نهب المدن وحرق القرى، ومع أن هذا الظلم لم يرتكب مثله التتر وبرابرة الشمال، فإن المتغني بعدل الرومان واليونان، المأخوذ بالإعجاب بما تركوا من مصانع وتماثيل ، يحاول تمجيدهم في كل شيء بالباطل والحق، حتى ليعتذر عن ظلمهم وتعذيبهم، ويصورهم كأنهم المثل الأعلى في الإنسانية، والبعد عن الصغائر. ولكل أمة لو أنصفنا مساوئ ومحاسن، تساوى في ذلك القديم والحديث والصغير والكبير منها.
التهمة بحريق خزانة الإسكندرية
طالت محاولة المتعصبة إلصاق تهمة حريق خزانة الإسكندرية بعمر بن الخطاب، وقد ثبت لعلمائهم أنفسهم أنها حرقت قبل الإسلام بقرون،
19
ومع ظهور الحق في هذه المسألة، بعد أن لاكتها الألسن كثيرا، نرى أناسا يتخيلون أن في ترديد هذه الأكذوبة على الخليفة الثاني حطا من قدره، فيذكرونها عند كل موقف، ليدلوا على جهل الخليفة، وتصلبه في أفكاره، وتجافيه عن الأخذ ممن سلف من الأمم.
حرقت خزانة الإسكندرية غير مرة بأمر الإمبراطورين ثيودوسيوس ويوستنيانوس، وآخر حريق لها كان قبل الهجرة بمائتي سنة، ذكر جيبون في تاريخ سقوط دولة الرومان أن هذه الفرية على المسلمين لفقها أبو الفرج بن العبري في تاريخ مختصر الدول، وذلك بعد الإسلام بنحو ستمائة سنة، ولم يتعرض قبل أبي الفرج مؤرخ واحد لذكرها، حتى إن أفتيكيوس بطريرك الإسكندرية مع توسعه في الكلام على استيلاء المسلمين على ثغر مصر، لم يذكر كلمة عن حريق عمرو بن العاص لهذه الخزانة، وقد ذكر أرفنج وكريستون وفلين وغيرهم أن ما أشيع من مساوئ الإسلام والمسلمين بهذا الشأن، لم يكن له ذكر قبل نقل كتاب مختصر الدول إلى اللاتينية، ومن ذلك الحين ابتدأ الغربيون يبغضون المسلمين ويحتقرونهم.
ومن جملة من نقضوا هذه الرواية من علماء الفرنسيس أرنست رنان، وآلبرسيم، وقد قال رنان من خطاب له في المجمع العلمي الفرنسي: إن العلم والدين الإسلامي لا يجتمعان، بيد أنه لا يعتقد أن عمر هو الذي أحرق خزانة الإسكندرية؛ لأنها أحرقت قبله بزمن طويل، وكتب إلينا آلبرسيم 14 آب سنة 1908: «لشد ما استحكم الوهم التاريخي زمنا بشأن عمر وخزانة الإسكندرية، وها هو الآن آخذ بالاضمحلال، أما أنا فقد اغتبطت بما سنح لي من الفرصة، فكنت من العاملين على مكافحة هذا الوهم، وأثبت بالبراهين التي وصلت يدي إليها ما اعتقدت أنه هو الحقيقة .» ونص عبارته في كتابه الذي سماه الكتاب
Le Liver ، وشكرناه عليها: «ولم تحرق خزانة الإسكندرية التي قال بعضهم: إنه كان فيها نحو سبعمائة ألف مجلد على يد الإمام عمر ولا بأمره، كما جاء في بعض المصادر، فإن هذه الدعوى من الأغلاط التاريخية العظيمة؛ إذ لم يكن أثر لهذه الخزانة عندما فتحت العرب مدينة الإسكندرية سنة 640، وعلى عهد البطالسة أصبح أمر الخزانة إلى ضعف، فقسمت شطرين جعل كل منهما في مكان مستقل، فحرق القسم الأول قضاء وقدرا عندما استولى يوليوس قيصر على الإسكندرية سنة 47 قبل المسيح، وذهب القسم الثاني وكان جعل في معبد سيرابيس على يد الأسقف تيوفيل بعد ذلك التاريخ بأربعمائة سنة، عقيب الأمر الصادر عن ثيودسيوس بالقضاء على جميع المعابد الوثنية وجعل عاليها سافلها.»
وقال فوت
20
وأهلويلر في كتابهما «جنايات الأوروبيين»: «إن تيوفيل هو الذي حرق خزانة الإسكندرية لا المسلمون؛ لأن الدين الإسلامي لا يبيح إحراق الكتب.» وقال مسبرك في كتابه «الادعاءات الكاذبة»: «إن الإفرنج هم الذين أحرقوا خزانة الإسكندرية، والمسلمون هم الذين أدخلوا العلم إلى أوروبا.» وقال استيفونس في كتابه «التفكر والأديان»: «أحرقت أيدي الجاهلين خزانة الإسكندرية، وهي مكتبة مهمة وبفقدانها اضمحل العلم، وبقيت أوروبا تتخبط في ظلمات الجهالة إلى أن أنارها المسلمون بعلومهم.»
وقال غريفيني من علماء المشرقيات في إيطاليا: بعد أن فتح عمرو بن العاص الإسكندرية مرت ستة قرون كاملة، لم يسمع خلالها قول لمؤرخ مسلم أو غير مسلم، يتعرض لاتهام عمرو بن العاص بإحراق خزانة الإسكندرية، وينقض هذه التهمة ما اشتهر به عمرو بن العاص من سياسة التساهل التي جرى عليها، وشهد له بها أشهر المؤرخين النصارى الذين كانوا في عهده، كيوحنا النيقيوسي في كتابه «تاريخ مصر» الذي وضعه باللغة الحبشية القديمة.
21
وقال بونه موري:
22
يجب أن نصحح خطأ شاع طول القرون الوسطى، وهو أن العرب أحرقوا خزانة الإسكندرية بأمر الخليفة عمر، والحال أن العرب في ذلك العصر كانوا أشد إعجابا بعلوم اليونان وفنونهم من أن يقدموا على عمل كهذا، كما أنه معلوم أن قسما من تلك الخزانة كان احترق في أثناء ثورة الإسكندريين التي باد فيها أسطول قيصر، وأن قسما آخر أحرقه النصارى في القرن السادس، واختط العرب الفسطاط وتركوا للقبط ممفيس ولم يتعرضوا لهم في دينهم وعاداتهم، وأطلقوا لهم الحرية في انتخاب البطريرك وبناء الكنائس، وغاية ما أبطل عمرو من العادات القديمة هو ما كانوا جارين عليه من زمان الوثنيين من رمي فتاة في النيل كل سنة التماسا لفيضانه.
وعلى كثرة ما رد المنصفون تهمة حريق خزانة الإسكندرية عن عمر بن الخطاب، لا يزال فريق الإثبات مصرا على رأيه؛ لأن هذا العمل مما يحط ضمنا من رجال الإسلام، وهذه فرصة قلما تسنح للمتعصبين حتى يثبتوا أن الرجل الذي يفاخر المسلمون به هو همجي؛ ولذلك كان ينقلها الخلف عن السلف بكل أمانة كأنها حقائق، وكأنهم يشيرون إلى أن هذه الخزانة لو سلمت لغيرت وجه الكون، أما إذا وقع شيء من هذا من جماعتهم كحريق الكردينال كسيمنس كتب المسلمين في ساحات غرناطة، وكانت ثمانين ألف مجلد على رواية مؤرخيهم، فإنهم يحاولون أن يبرئوه من هذه الوصمة، ويقللوا من شأن خزائن الكتب التي أحرقتها إسبانيا وكانت عشرات، يوم قضت على العرب في بلادها في القرن السادس عشر، وصرفت نصف قرن في القضاء على كل أثر لهم، ولولا تلك المترجمات إلى العبرية واللاتينية لقضي على الحضارة العربية التي امتد رواقها على إسبانيا مدة ثمانية قرون
23
وعفت آثارها، ولا نذكر أننا قرأنا لبعض نقاد الغربيين نبذة في تقبيح ما فعله الصليبيون يوم غارتهم على طرابلس، أوائل المائة السادسة للهجرة، ويوم أمر صنجيل بإحراق كتب دار العلم فيها، وكانت تقدر بأكثر من مائة ألف مجلد، ويوم أخذ الصليبيون بعض ما طالت أيديهم إليه من دفاترها ومن كتب الخاصة في بيوتهم.
وقع الحق من نفوس بعض المستشرقين
وقع لنا أن قلنا مرة في مجلة المجمع العلمي العربي
24
أثناء كلامنا على ما نشره أحد المشتغلين بالمشرقيات من الإسبان من رسالة سماها: «حديث ذي القرنين»، ونقلها إلى اللغة الإسبانية: «إن هذه الرسالة كبعض الكتب التي تقل الفائدة من نشرها؛ لأنها لا تؤيد أصلا من الأصول العلمية أو الدينية، وإذا كان المقصد أن في الإسلام مثل هذه الحكايات، ويريد أرباب الغايات أن يحملوه إياها ليحملوا عليه، فإن أهل الفريق الآخر يجيبونهم بأن في خزائنكم من أمثال هذه الأسفار مئات.» ونصحنا للناشر يومئذ أن يعنى بإحياء كتب ورسائل أخرى للعرب، يأخذها من خزانتي الإسكوريال ومجريط في بلاده، وبذلك يخدم اللغة والعلم، ويقلل من الخرافات التي تغلغلت في أحشاء أمته أكثر من كل أمة أوربية، ولما صدر هذا الكلام قام غراتشقوفسكي المستشرق من ليننغراد يأسف في مجلة ليترى الدولية
25
لهذا النقد، ويقول: إن من المدهش أن يصوب مثل هذا الكلام على ممثل بلاد أنشأت أمثال ريبرا وآسين، وإن قليلا من العلماء المحدثين قد عاونوا مثلهما على فهم مدنية الإسلام، وما فيه من قيمة جوهرية، وإن هذا التقريظ كتب بلسان مهين لأمة بأسرها ... إلى آخر ما قال مما لا تأويل له إلا العصبية المذهبية التي تأثر عرقها الحساس، عندما رأى شرقيا يرد غربيا إلى الصواب، وتعالى العلم عن أن يكون آلة مصانعة وعصبية، وعبد شهوات وأهواء.
ونحن إذا لم نوافق بعض المشتغلين بالعلوم الشرقية على منازعهم الخاصة، فليس معنى ذلك أننا نهينهم؛ فلأصحابنا جولدصهير المجري، ومرجليوث الإنكليزي، ولامنس البلجيكي أقوال بعيدة عن محجة الصواب في الإسلام، وما حال ذلك دون تقديرهم قدرهم يوم يحسنون، وإذا كان في الإسبان أمثال ريبرا وآسين اللذين يأتي الناقد الروسي بهما حجة على ارتقاء إسبانيا، فإن انحطاطها قال به قبلنا عشرات من الباحثين المنصفين، ومنهم بعض مؤرخي الإسبان وعلماء الاجتماع منهم، وظهور شخصين أو أكثر في أمة لا يقوم دليلا على أنها وصلت ذروة الارتقاء، وسلمت نفوس خاصتها وعامتها من الخرافات والسخافات، حاشا طبقة راقية تأخذ بمذاهب العلم والأدب وتفاخر إلى اليوم بمجد العرب وتاريخهم، وتحرص على إحياء مدنيتهم ودراستها حرصها على كل علم نافع.
وليت ذاك الرصيف الروسي الذي أخذته العزة بالإثم، واستهجن رأينا، يتلو على الأقل ما كتبه في انحطاط الإسبان ألفريد فوليه في كتابه «روح شعوب أوروبا»،
26
إذا لرآه شعبا متأخرا في مضمار العلم والتربية، لا يهتم إلا بالظواهر، والعجب المفرط من صفاته، والبطالة هجيراه، والاكتفاء بالقليل شأنه، ولساهمنا رأينا بأن مجموع الشعب المصري أرقى من مجموع الشعب الإسباني، وإن كان هذا أوربيا نصرانيا، وذاك إفريقيا مسلما، ولشاهد أن الإسبان يضرب المثل بتعصبهم الذي كان منه فساد أمرهم،
27
وقد ابتلوا كما قال ماريفو:
28
بكثلكة ممزوجة بالتخريف والتصوف، تأصلت في أرضهم فأضعفت في منتحليها مادة العقل والتفكير. وقال كارلي الإيطالي بعد أن ذكر كيف انحط الإسبانيون بسرعة بعد فتوح أميركا: إنهم أخذوا يحتقرون الأعمال اليدوية، فزاد الشقاء، وكثر التشرد والجرائم، وهذه علامة انحطاط قيم الأمم، وهذا هو الخراب بجملته وتفصيله.
نعم، لو قرأ الناقد شيئا مما كتب في الإسبان لأيقن أن ليس التنافر على أتمه بين ابن الشمال وابن الجنوب فقط، بل بين أهل المدن المتجاورة، وعلى كثرة تحمس الفرد للوطنية، لا تتعدى حماسته أسوار بلده، خلافا للفرنسيس والإنجليز والألمان والطليان وغيرهم من الأمم الكبرى، وتاريخ هذه الأمة سلسلة من التعصب الديني الذميم، استعملوا النار والحديد في الدعاية للدين، واستكثروا من الرهبنات، حتى كان الرهبان إلى أمس الحاكمين المتحكمين في البلاد، يملكون ثلث أرضها، ويأخذون شطرا عظيما من موازنتها، وجاء زمن كانوا يحظرون فيه الاستحمام على الناس؛ لأنه يشبه الوضوء عند المسلمين بزعمهم، فكثرت الأمراض الجلدية، وتعذر على الأطباء أن يصفوا لمرضاهم النظافة والاغتسال؛ مخافة أن يفشوا أمرهم فيما يقترحون، ويقعوا، بدعوى مروقهم من الدين، تحت طائلة العذاب. وإلى اليوم ينقص القوم كثير من المبادئ الأولية الشائعة بين الأمم الراقية؛ فتراهم يدخنون في كل مكان خاص وعام، ويبصقون في القطار والمقهى والنزل والفندق والبيع، على صورة تشمئز منها النفس، فالقذارة عندهم فاشية، والجهل والتشرد من الأمور المتعارفة، والتواكل والتوكل لا تشبههم فيهما أمة راقية.
وإذا كانت كل هذه الإشارات لا تكفي لبيان حال الإسبان؛ فاسمعوا ما يقوله لبون: «ساعد الإسبانيين الاختلاف الطارئ بين العرب؛ فوفقوا بعد غارات طويلة إلى تأسيس عدة من الممالك الصغرى، كانت تتسع رقعتها كل يوم، ولما كتب للمملكة الإسبانية بعد حروب ثمانية قرون، أن تستولي على عاصمة آخر مملكة عربية، أي غرناطة، ووحدت ممالك الجزيرة تحت لواء واحد، ظهرت إسبانيا في الحال في مظهر أول دولة حربية في أوروبا، وكان شارلكان وفيليب الثاني بعد فرديناند على جانب من المهارة السياسية، وكان القرن الذي انقضى من الاستيلاء على غرناطة إلى وفاة فيليب الثاني، عهد عظمة لإسبانيا لن ترى مثله، والعرب خلال هذه المدة بين صعود ونزول، تركوا وشأنهم في تلك الأصقاع، وكان من تفوقهم العلمي أن أصبحت لهم مكانة سامية، فكان العلماء وأرباب الصنائع والتجار في البلاد من العرب، وكانت كل حرفة ما عدا حرفة الراهب والمحارب مما يحتقره الإسبان، وبعد أن فقدت إسبانيا عظماء رجال الحرب الذين توالى قيامهم على رأسها مدة قرن، ساغ أن يقال: إنها حرمت القوة الحربية بهؤلاء، والقوة المدنية بطرد العرب؛ فباد فيها كل شيء، وسرعان ما سرى إليها الانحطاط بعد طرد العرب وتقتيلهم، وليس في التاريخ مثل إسبانيا شعب انحط إلى مثل هذه الهوة السحيقة، في مثل هذه المدة القصيرة ... هوت في سنين قليلة إلى أحط درجات السقوط، وفقد من بنيها الحزم والنشاط، حتى آلت بها الشقوة إلى أنها لم تنتفض من عوارضها إلا باستيلاء الأجنبي عليها، وتخلت عن سلطانها السياسي والإداري والصناعي والتجاري، فكان الفرنسيس والطليان والألمان وغيرهم، هم الذين يتولون كبر هذا الأمر فيها، جلبت إسبانيا العلماء وأرباب الصنائع من الخارج، ولكن كيف السبيل إلى إحياء الموتى، فقد ذهبت العرب، وقضى ديوان التحقيق على كل من كان من الذكاء في درجة فوق المتوسطة، فكان فيها سكان، ولكنها فقدت الرجال. وكانت جميع كتب الإسبان كتب عبادة وتبتل وزهد، ولم يبق فيها كيماوي يعرف البسائط من هذا العلم، وما كشف أوائل القرن الثامن عشر في الغرب، كان الإسبانيون بمعزل عنه لا علم لهم به، بل لا علم لأطبائهم بمسألة دوران الدم حتى بعد قرن ونصف من كشفه، وقد اقترح بعضهم مرة رفع القمامات من أزقة مجريط سنة 1760؛ لما كان ينبعث منها من الأمراض، فقام ديوان الصحة يمانع في رفعها، قائلا: إن أجدادهم كانوا على جانب من العقل يعلمون ما يبرمون، وما حاولوا جمع القاذورات قط، وعاشوا وسطها، فعلى أبنائهم أن يسيروا على مثالهم؛ لأن إزالة الأوساخ قد تحدث منها أمور لا يعرف ما يكون منها.»
قال: لقد بذل كثير من المساعي المحمودة، ولما تهب هذه البلاد من سباتها، وإلى اليوم لا تزال الصنائع والزراعة مفقودة فيها، وأهلها في كل ما يتجاوز القدرة المتوسطة، عيال على الغريب، فالغرباء يديرون معاملها، وينشئون خطوطها الحديدية، ويأتونها بالميكانيكيين يسيرون قطاراتها، وكل ما فيها من العلم والصنائع هي فيه حكرة للأجنبي، ومهما بلغت حكومة من قوة فيها، فهي عاجزة أمام هذه الحال، وما من بلد يحكم بغير رأي أهله، ومهما بلغ من انحطاط الحكومة في إسبانيا فالشعب فيها أحط. إسبانيا أحرزت ظواهر خارجية من المدنية، وليس فيها غير الظواهر، والجهل ضارب سرادقه فيها، على نحو ما كان في القرون الوسطى، وإذا عاد ديوان التحقيق الديني إلى عمله، يجد اليوم الاستعداد له في كل طبقات الأمة. ا.ه.
وقال لبون
29
أيضا: «تقدر أخلاق كل شعب بما رزق من أخلاق خاصة؛ فإذا كان ستون ألف إنجليزي يخضعون لسلطانهم ثلاثمائة مليون هندي يساوونهم في الذكاء، فذلك بفضل صفات خاصة في الفاتحين، وإذا كان الإسبان لم يستطيعوا أن يأتوا غير الفوضى في الولايات اللاتينية في أميركا، فذلك لنقص في أخلاقهم.»
قال: «وإذا كانت جزيرة كوبا تحت حكم الإسبان لم تر مدة ثلاثة قرون غير الظلم والفوضى وإهراق الدماء حتى أقفرت، وانقلبت في بضع سنين تحت حكم الأميركان جنة أرضية، فذلك لتفوق العنصر الأميركي، وصلاحه للبقاء وإعمار الأرض، أكثر من الإسبان.» ثم إن تاريخ كل أرض حلها الإسبان وطردوا منها - وما أوسعها في أوروبا وأميركا وغيرهما - حلقة من المظالم والمغارم لا يتصورها العقل.
هكذا يقول من يكتبون للحقيقة والتاريخ، أمثال الفيلسوفين المحدثين فوليه ولبون، أما ذاك الروسي المتحمس للإسبان فلا يرضيه إلا أن نصانعهم ونعترف برقيهم؛ لأنهم خرج منهم فلان الباحث، ولكن فوليه يقول: إن إسبانيا لم تخرج إلى اليوم فيلسوفا يذكر، بل أخرجت رجالا نصفهم فلاسفة ونصفهم لاهوتيون. وقال غيره: إنها لم تنشئ مؤرخا واحدا، وذلك أنك بينا ترى مؤرخهم يسرد تاريخه، إذا هو شاعر يخطب، وأديب يبالغ، ومع عادة صراع الثيران المألوف عندهم، على ما كانت عادة إحراق المتهم بدينه بالنار، لا ترق حاسة ولا يرتقي شعور، ولا يتأتى من عادة صراع الثيران إلا التوحش الممقوت، وما كان التلذذ بإهراق الدم ضروريا في تخريج الأبطال، حكم بوكل المؤرخ الإنجليزي على الإسبانيين حكما شديدا، قال: «لم تبرح إسبانيا في سباتها، تنام هادئة لا هم لها، ولا ألم يساورها، غير متأثرة بالعوامل الخارجية، ولا بما يحدث في العالم من مظاهر الرقي، فهي تنزل هناك في طرف القارة الأوربية كتلة عظيمة لا حركة فيها، حتى صح أن تصور بأنها آخر ممثل لشعور القرون الوسطى وأفكارها، ومن مؤسف المظاهر فيها، أنها راضية عن حالتها، فهي أحط أمة في أوروبا، وتعتقد نفسها أرقى أمة، تفاخر بكل ما كان عليها أن تخجل منه، كثيرة الاعتداد بعتيق آرائها، واستقامة دينها، وصحة يقينها، معجبة بأمور شتى بسذاجتها التي تشبه سذاجة الأطفال، وبكراهتها وتحسينها معتقداتها وعاداتها، تعتز ببغضها للملاحدة، وبانتباهها الدائم الذي به قضت على كل المساعي التي بذلها من أرادوا النزول فيها.»
ومع كل هذا وذاك، يريدنا الأديب الروسي أن نسكت عمن يسيء؛ لأن هناك من يحسن، فسبحان من قسم العقول!
اليسوعيون والدعوة إلى تآلف الإسلام والنصرانية
وبعد، فإن من أعظم العابثين بتاريخ المسلمين، المنكرين أثر العرب في الحضارة، جماعة يدعون إلى النصرانية، وقد جعلوا همهم الأكبر في دعوتهم تشويه بعض الحقائق الثابتة، فنازعونا حتى في البديهيات، وأملوا ولا يزالون يملون علينا ضروبا من إفكهم، تفننوا في تنويع أساليب دعوتهم، وأصحاب هذه المفاخر من أهل البلاد، قلما حدثتهم أنفسهم في كف عاديتهم، نسي دعاة التفريق أنهم دخلاء في بلاد لم يبرح سلطان الإسلام فيها متفوقا، وجهلوا أنها أحسنت وفادتهم، أو لم تضق بهم ذرعا كما ضاقت بهم مواطنهم الأصلية، فطردوا منها مرات، فكان جزاؤها منهم أن قابلوها بمصادرة عواطفها، وأغلظوا القول في دينها ونبيها ومدنيتها، على حين تجهم لهم حتى أبناء نحلتهم، وكانوا أحق من غيرهم بالتسامح معهم، ومنهم، بل من المقدمين فيهم، مؤلف اسمه لامنس، عاهد تاريخ الإسلام على مناقضته، وتمحض للحط من قدر العرب منذ عرفوا بين الأمم، وإليكم أمثلة مما يجنيه على الحقائق، تعرفون منها افتئاته على العلم، بحيث تخجل من عبثه حتى أرباب الوجوه الصفيقة.
30
من الكتب المهمة التي تنشر تباعا في مدينة ليدن الهولاندية بلغات العلم الثلاث: الفرنسية والألمانية والإنجليزية، كتاب «معلمة الإسلام
Encyclopédie de l’Islam »، وتعد هذه المعلمة، بما ضمنت لها من مؤازرة أعاظم الباحثين من علماء المشرقيات، من أجمع ما كتب على الإسلام وأصول أهله وبلدانه وتقويمها، عمل جليل، لم يخل، ويا للأسف، وجهه الجميل من تشويه قليل أتاه ذاك الذي ينظر إلى الإسلام أبدا بعيون البغيض، وأعني به لامنس، فأساء إلى الحقيقة في مقالاته، ظانا أن هذه المعلمة أيضا بوق دعاية مذهبية، وأن على الداعية أن يحتال لبث دعوته، ولو خان الواجب عليه في عمل آخر وسد إليه.
ولقد نسي لامنس هذا وبعض جماعته أمورا، كان من الحري بكل من يشتغل بالعلم أن يجعلها قيد نظره؛ نسوا أو تناسوا المتحتم عليهم من أمانة العلم، فأخذوا منذ ألقوا رحالهم في الشرق، يحرفون آيات القرآن، ويحذفون من كتب المسلمين ما لا يروقهم، يخلطون
31
الآيات بأبيات من الشعر، ويجعلون الأحاديث النبوية من كلام بعضهم، حتى إنهم لا يذكرون الرسول عليه السلام بما ينوه من شأنه بزعمهم، وما تحرجوا قط من اقتطاع جملة واحدة من نص طويل، ليبنوا عليها ما يتخيلونه نافعا لغرضهم، يوردون الخرافات المنقولة بصيغ التضعيف، حتى في كتب الوضاعين والقصاصين، ويدعون مع هذا أنها منقولة من كتب الثقات الأثبات، وقد انتبه بعض النابهين من علماء المشرقيات، وأشاروا على أولئك الناشرين أن لا يحرفوا نصوص المؤلفين من العرب؛ لرغبة الناس في أن يقفوا على ما قاله المؤلف بنصه في الدهر الغابر، لا أن يقرءوا مختصرات وافقت رأي ناشر كتابه، فجاء بها مهزعة منقوصة في العهد الحاضر.
ألف لامنس
32
تاريخا مختصرا لسورية لم يذكر فيه للإسلام ولا للعرب محمدة مدة ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن، ومما أورد فيه من الأفكار المضحكة، أن العربي أثبت في فتوحه أنه جبان ضعيف في الجندية، لا يفكر في غير المغانم، وأن العرب ظهروا كما كانوا على عهد الرسول وسطا في القتال، وعلى استعداد للنهب، يحجمون أمام الخطر، وأنهم تركوا لسكان البلاد الأصليين محاكمهم ولسانهم وأنظمتهم البلدية عجزا منهم لا تسامحا، وأن العرب لا قابلية لهم لشيء من أسباب الحضارة، بل الفضل كل الفضل لأولئك المتفسخين في فارس والعراق والشام ومصر وغيرها من الأقطار التي افتتحت، وأن الحروب الصليبية وقائع البسالة، وأن الصليبيين كانوا عجبا بأنظمتهم وترتيباتهم، وتعامى عما ذكره مؤرخو الصليبيين أنفسهم من فجورهم وخبثهم ولصوصيتهم، وادعى أن محاسنة صلاح الدين للصليبيين كانت عجزا وخوفا، أي إن إبقاءه على الصليبيين يوم فتح القدس، كان لضعف فيه، فلم يعاملهم كما عامل الصليبيون المسلمين، يوم كانوا هم الفاتحين للقدس، بأبشع ضروب القسوة والعذاب، وقبح عهد صلاح الدين، وقال: إنه كان قليل البهاء، ووصفه بأنه طماع، على حين قد ثبت أن هذا الطماع، بعد أن فتح ما فتح من الممالك الغنية لم يخلف دارا ولا ملكا ولا مالا، وكثير من المدارس والربط والجوامع وأساليب العمران في بلاد الشام ومصر، وبعضها باق إلى الآن، هو مما عمره من سهمه من الغنيمة، ولم يرض أن ينسب إليه، فعزي إلى قواده ومماليكه، وكان رجاله يخفون عنه ما في خزائنه من النقد؛ لئلا ينفقه في وجوه المبرات والإحسان، والبلاد محتاجة إلى المال تنفقه في مصالح الدولة.
وادعى أن اليهود عوملوا في عهد الحروب الصليبية في الغرب معاملة حسنة، وأنهم كانوا ممتعين بحقوق الوطنيين عند الصليبيين، مع أن سيوف هؤلاء حصدت أولئك المساكين، وحلت بهم عجائب من ضروب العذاب لأخذ أموالهم، مما فصله مؤرخو الغرب أمثال كونده، وريناخ ، وسيديليو، ودي كاستري، ولافيس، ورامبو، فقالوا: إن النصارى أيام الحروب الصليبية ما دخلوا بلدا إلا وأعملوا السيف في يهوده ومسلميه، وذلك يدل على أن اليهود إنما وجدوا مجيرا وملجأ في الإسلام، فإن كان لهم باقية حتى الآن في الغرب فالفضل فيه يرجع لمحاسنة المسلمين ولين جانبهم.
وهكذا يوغل هذا المؤلف المضلل في الحط من قدر العرب والإسلام، يحاول بكل ما لديه من قوة أن يسلبهم مجدهم الأقعس،
33
يقول: إن العربي وسط في الجندية، ولكن هذا الوسط فتح من الممالك ما عجز عنه أشجع الأمم وأكبرها استعدادا، وقال: إن العرب لا قابلية فيهم لشيء من مشخصات المدنية، والتاريخ شاهد على أنهم علموا العالم القديم، ونقلوا إليه ما لم يعرفه، وأتوا من الأعمال النافعة ما لا يزال العدو قبل الصديق يعترف به، ولكن هذا المؤلف لا يعترف لهم بمنقبة، وبحق ما وصفه العالم «دينه» بأنه في علم المشرقيات كبطرس الناسك في الحروب الصليبية، جهز بهمة لا تعرف الملل، صليبية دعية في العلم، طمعا بصرع الإسلام صرعة لا قيام منها. وقال درمنغم في كتابه «حياة محمد»: «إن كتب الأب لامنس الجيدة قد شوهت محاسنها بما بدا في تضاعيفها من كراهة الإسلام ورسوله، فاستعمل في التاريخ طرقا بالغ فيها بالنقد، وبعض المؤلفين يعمد إلى مثلها للغض من النصرانية إلخ.» ونحن قد طالعنا أكثر ما كتب هذا المتعصب بالعربية والفرنسية، فما رأيناه غلط مرة واحدة فأنصف العرب ومدنيتهم، أو دون لهم أقل حسنة، ولو كان يكتب في وحوش السودان، لاستحى منهم يوما، وذكر لهم ولو بعض ما يستحسن من عاداتهم ومصطلحاتهم.
ومثل لامنس كان صنوه وزميله لويس شيخو، ضرب على نغمة واحدة طول حياته، ولم يأل جهدا في جميع تآليفه في إثبات دعواه أن العرب قبل الإسلام وبعده لا شأن لهم في المدنية، وإذا كان هناك من حضارة فبنوا بجدتها نصارى العرب، وقد لفق كتابا طويلا
34
ادعى فيه أن معظم شعراء العرب قبل الإسلام كانوا نصارى، وبراهينه على دعواه أوهى من بيت العنكبوت، وهناك طائفة من المتظاهرين بعداء الإسلام وحضارته، يضربون في النصرانية والإسلام ومقصدهم الحقيقي الحط من الإسلام فقط، مثل: مارتن هارتمان الألماني؛ فقد كتب إلينا منذ سنين يقول: إن الإسلام والنصرانية
35
حاولا أن ينشئا مجتمعا يقوم بالدين وحده، ليكون أهل الشهادة بذلك الدين ظاهرين على الدين كله إلا أنهما لم ينجحا، وتوسع في هذا السخف، فقال: إن دعوى تفوق
36
الإسلام على الشعوب الصينية خيال لا يتأتى منه إلا خراب المسلمين وشقاؤهم، وإذا ساعدت الأحوال على صورة غير منتظرة وتحققت أماني المسلمين هناك ولو مؤقتا، فسيلحق من ذلك بلاد الصين ضرر عظيم؛ لأن الإسلام ليس دين مدنية، والإسلام قبل كل شيء عدو المدنية الإفرنجية، وصلاح الصينيين بالمدنية الغربية. وهارتمان كلامنس «وقف عمره
37
على مجادلة الإسلام وأسلس في هذا السبيل العنان لهواه وإحنة صدره.»
هذه أمثلة طفيفة من منازع الناقمين على العرب والإسلام، أثرناها؛ لأنها أثارت على النفوس الساذجة براكين التعصب الديني، فضربت الحقائق في محياها فأدمته، وعملت على تفريق أجزاء النفوس بين شعوب عاشوا وتعاشروا وتعاملوا قرونا، والحب جامعتهم، والإخاء مؤلف بين قلوبهم، وسماحة دين الغالب تمتع المغلوب بحريته، ومن المؤلم للنفس أن تحمل الحضارة الجديدة روح العصبية المذهبية، وأن يجزل حظنا من تجهمنا لغيرنا، وتجهم غيرنا لنا، كلما بعدنا عن الأمية، واستزدنا من نعمة العلم، والتحلي بحلي المدنية، وأن يأتي على العرب حين من الدهر، وهم وحدهم الأمة الرشيدة المتفردة بين أمم العالم، ولا تعبث بمقدسات مخالفيها، بل تبقي عليها وتحترمها، وتعامل أهلها بالحسنى وزيادة. وفي وصايا الخلفاء الراشدين، فمن بعدهم من بني أمية وبني العباس بأهل الذمة ما يقطع ألسن المفتاتين، ويفقأ حصرما في عيون المغتابين والعيابين، ولو كان المسلمون كما تحاول متعصبة الغرب أن تصورهم، لما بقي في الشرق القريب دين يخالف دين الإسلام، ولا معبد ينادى فيه بغير كلمة الشهادة، وغاية رجاء العقلاء اليوم كما قال محمد عبده: أن تصبح الملتان العظيمتان النصرانية والإسلام، وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد، وتعانقتا معانقة الألفة ، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين.
الشعوبية في الشرق والغرب
تعريف الشعوبية ومراميهم
الشعوبية قوم متعصبون على العرب مفضلون
1
عليهم العجم، نشأت دعوتهم بعيد عصر الخلفاء، بدخول أجيال كثيرة من الفرس والترك والنبط في خدمة الدولة الإسلامية، فنشأت العداوات بين العرب أصحاب الدولة، وبين العجم الذين انتحلوا الإسلام، وكما حدثت هذه المفاضلة بين العرب والعجم، حدث أمر المفاضلة بين العدنانية والقحطانية، وصيغت هذه العداوة بعد ذلك في صيغة أخرى وهي قيس ويمن، هذا مع أن هدي الكتاب العزيز:
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ،
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، وقد قال الرسول في حجة الوداع: «أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء، ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب.»
ويقال على الجملة: إن الإسلام الذي جاء لإسقاط الجنسية، حاول بعضهم للحرية التي استمتعوا بها على عهد عز العرب أن يعيدوا نغمتها، وألف الشعوبيون رسائل وكتبا، وصنفوا المسامرات والخطب، وراجت أسواق الممادح والمقابح، ورد العرب على العجم برفق لئلا ينفروهم، وكانوا يرمون إلى تأليف القلوب لا إلى تمزيقها، شأن الأمم العاقلة التي ترمي أبدا إلى تكثير سوادها، وجمع القلوب على حبها، تتحامى العبث بمقدسات الناس، وتحفظ لهم حرمتهم وكرامتهم.
ونحن هنا نطلق لفظ الشعوبية على كل من ناهضوا العرب في القديم والحديث، وفي الشرق والغرب، وقاموا ينقصون من قدر حضارتهم وتاريخهم، لأغراض في نفوسهم لا تخفى على أرباب البصائر. ولهؤلاء الشعوبيين طرق غريبة في الحط من العرب، يتناولون فيها كل مسألة تؤدي مباشرة أو غير مباشرة إلى العبث بمزايا لهم، تناصرت
2
الأخبار على تفردهم بها، ولو أنصف الشعوبيون لما ارتكبوا كبيرة إنكار الثابت، وإثبات المنكر، وأنت كلما حججتهم بأقوال الأعلام من علمائهم أصروا معاندين، بل اشتدوا في الغلو حتى وصموا المعتدلين من جماعتهم بقلة البضاعة في هذه الموضوعات التي أصبحت لعهدنا على طرف الثمام
3
لكثرة النقل والنشر، وأنت إذا ما أحلتهم على قوانين العقل الطبيعية، فروا كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة.
4
ومن أغرب ما قرأنا ونحن نكتب هذا، دعوى أحد هؤلاء الشعوبيين أن رينان لما لم يكن متمكنا من العربية، وأن تين ولامارتين ولبون لما لم يعرفوا كلمة منها كان بحثهم في العرب غير صحيح، ذلك أنه شق على هذا الشعوبي المتعصب أن يذكر هؤلاء العلماء العرب بشيء من الإنصاف، فما وسعه إلا أن ينسب إليهم الجهل بلغة العرب، وما عهدنا أن الحكم على مدنية من المدنيات يشترط فيه أن يكون المرء ماهرا بلغة تلك المدنية، ولو صح هذا النظر لاستلزم أن ندرس اللغة اليونانية لنحكم على مدنية اليونان، ونتلقف اللاتينية لنحكم على الرومان، والهيروغليفية لندرس مدنية الفراعنة، وهكذا لو طمحت أنفسنا إلى أن ندرس الهند والصين واليابان، وأجناس البشر من الأصفر والأحمر والأسود والأبيض، لاقتضى لنا أن نتقن لغاتهم، حتى يسوغ لنا بزعم ذاك الشعوبي أن نحكم عليهم، وفاته أن لغات أوروبا، ولا سيما الأمهات التي يتكلم بها عشرات الملايين من الخلائق، قد نقلت إليها معظم النصوص العربية، بحيث لا يكاد يفوت الباحث شيء يلزمه للبحث في حضارة العرب والإسلام.
ومتى كانت الإحاطة بلغة أمة شرطا أعظم في صحة الحكم على مدنيتها؟ وهل في مقدور البشر أن يدرس الفرد عشرات من اللغات، إذا صح عزمه على معرفة تواريخ الأمم؟ حقيقة العرب تعرف من القدر الذي ألف ونقل إلى كل لغة من لغات المدنية الحديثة، وهو شيء كثير تتألف منه خزانة في كل أمة من الأمم المتحضرة اليوم. سألنا مؤلف كتاب حاضر العالم الإسلامي الأميركي، من أين له هذا الوقوف الجيد على تاريخ الإسلام وهو لا يعرف العربية؟ فقال: إنه درس التاريخ الإسلامي عشر سنين عند أستاذه في التاريخ، وكان هذا يحسن العربية، ويستخرج من كتبها كل ما يلزمه لدراسة تاريخ الإسلام؛ ولذلك أخذ لباب ما كان أستاذه متمكنا منه، ولم يحتج كثيرا إلى تلقف العربية للحكم على الإسلام والعرب، ولكن ذاك الشعوبي طلق المنطق فلذ لقلبه إسقاط أربعة من كبار علماء فرنسا المتأخرين، ليسقط بإسقاطهم مدنية أمة عظيمة يرى من مصلحته أن يعمل على حربها حتى لا تقوم لها قائمة، ولا تنسب لها في قديم الدهر وحديثه صفة من الصفات الطيبة التي قل أن تتجرد منها أمة عظيمة مهما كان جنسها وهواؤها ودينها.
نقض علماء الغربيين مماحكات الشعوبيين
وكل ما رددنا عليه آنفا هو رأي الشعوبي لامنس المؤرخ المحابي، كما لقبه بعض علماء أوروبا، وما فتئ يضعف من شأن أكبر مؤرخي العرب أمثال الطبري، والبلاذري، وابن سعد، والأصفهاني، وابن الأثير، وابن خلدون، وأبي الفداء، ويوثق بعض القصاص الوضاع. هؤلاء المؤرخون يغمز قناتهم لامنس البلجيكي بينا هيس السويسري
5
يأسف لتساهل المسلمين في دراسة هذه المدنية الإسلامية البديعة التي يعجب بها علماء المشرقيات، لما يقرءون من آياتها في كتب مشاهير المؤلفين أمثال ياقوت، والبيروني، والخوارزمي، وابن خلدون إلخ، قائلا: إن المسلمين يزهدون في مدنيتهم ليتمثلوا نصف تربية أوربية في المدارس التي قلما تهتم بتعليمهم عظمة الآداب التاريخية والجغرافية والعلمية التي خلفها أجدادهم. ا.ه.
لامنس الشعوبي البلجيكي يسقط من شأن مؤرخي العرب، كما يسقط من شأن علماء الإفرنج، وبراون
6
الإنجليزي يقول: إن كتب العرب في التاريخ أوسع الكتب وأدقها، ويرى أن التاريخ في بعض المؤلفات العربية لم يكتب على نسقه في أوروبا، ويذكر بالإعجاب ابن خلدون، وابن الأثير، والطبري، والفخري وغيرهم، قال: وفي باب العلم والفلسفة والأخلاق نجد من المؤلفات ما لا يوجد له مثيل.
يطعن الشعوبيون بكتب العرب، ويطعنون أيضا بكتب الإفرنج المنصفين للعرب، وكلما أوقدوا نارا للفتنة أطفأها العلماء بوثائق كثيرة تصفع النافخين في أبواق الشقاق، وتقضي على أماني الدجاجلة
7
المشعوذين، ولقد كتب أحدهم مؤخرا يقول: فطر الإسلام على الفناء
8
فهو يبني ولا يعرف الاحتفاظ بما بنى، وشعوره متحرك متحول، ومع هذا يحتفظ على تعاقب القرون بتقاليده البدوية وينكر المدنية، لكنه يقبل الانتفاع من الآلات والأدوات الجديدة، قال: وتنوعت المرادات التي أحدثها الإسلام في حواسنا الغربية، ولطالما شعر لوتي «من أدباء فرنسا» نحو المسلمين بعاطفة شديدة، وشهد لهم في كتبه وفي حياته العامة الشهادات الحسنة ، فكان المدافع عن تركيا، وقام في حياته الخاصة على تعهد مسجد له أقامه في داره في روشفور، وبلغ من تأثير الإسلام في إيبنهارد أن دان به مختارا، ثم تطرق إلى ما بدا في كتب الأخوين تارو
Tharaud
وهما من أكبر كتاب فرنسا، من العطف على الإسلام، ولا سيما في مؤلفاتهما «العيد العربي»، «الحرب في أشقودرة ألبانيا»، «طريق دمشق»، «رباط الفتح أو ساعات في مراكش»، «رباط ومراكش»، «فاس وأهل المدن في الإسلام»، وقال: إنه ظهر تبدل في عاطفتهما في هذا الكتاب الأخير، بالقياس إلى أول كتاب كتباه في الإسلام منذ عشرين سنة، فأخذا يعمدان الآن إلى طرق النقد والسخرية أحيانا بما يريان من مدنية إسلامية إلخ، وختم بقوله: نشأ الإسلام في أصقاع مشمسة، فكان دين الشعر والخيال والبطالة، ولما كان الحظر من أهم قواعده، قضى على أهله بالجمود بل بالموت، وقد عرف الإسلام بتذوق الحاضر والمعجل والزائل، وبالتجاهل المقصود من البقاء، وبعقيدة القضاء والقدر، فكان مخربا هائلا، وقال: إن العربي يوحي إلى الذهن صورة الطفل الذي يبني على شاطئ البحر قصرا من الرمل، والرسام الذي يتلف عينيه بتزيين غرفة مظلمة، أو المطرز الذي ينسج بالذهب والفضة قطعة لا قيمة لها. ا.ه.
هذا الشعوبي يتحامل على الإسلام فيرميه بالتعصب وقلة المسامحة وعدم ائتلاف من يدين به مع من يخالفه في عقيدته، يزعم أنه عدو المدنية الأزرق، كلام من أنطقه الهوى، وأعوزته الحجة لتأييد دعواه المزورة، تقرأ في تضاعيفه المكر، وفساد الذمة، ومقاومة البديهة. وليوتى
9
من أعظم رجال فرنسا الذين عرفوا الشرق معرفة حقيقية، يقول من مقالة له أخيرة: «وإذا كان فريق من ذوي الأغراض الملتوية، يزعم أن الإسلام يبعث على التدمير والفوضى والتعصب، فإني بصفتي رجلا قضيت بين المسلمين مدة من الزمان في الشرق والغرب ولم أكتف بما قرأته عن الإسلام في الكتب، أقول: إن جميع تلك المزاعم لا نصيب لها من الصحة.»
تسامح المسلمين ودولهم مع أبناء ذمتهم
لو كان الإسلام كما ادعى ذلك الشعوبي الأخرق متعصبا جامدا، يسيء إلى من يخالفه، ولا يأتلف مع أحد، هل كانت تتم أعماله المدنية التي تجلت للعيان بدون بيان؟ بل لو كان الإسلام متعصبا جامدا، هل كان على الأقل يبقي على أحد ممن يخالف معتقده؟ وقد شاهدنا التعصب الديني في أوروبا لما اشتدت وطأته يقضي بجلاء جزء عظيم من أمة، حتى يسلم دين السواد الأعظم، كما وقع للإسبان فلم يرضوا بعد أن خضع العرب لسلطانهم إلا بتنصيرهم أو إجلائهم عن بلادهم، فخربت إسبانيا من أجل ذلك، وكذلك جلا البرتستانت من فرنسا إلى إنجلترا وهولاندة وألمانيا يوم اشتداد الثورة الدينية، فكان من ذلك أن فقدت البلاد عشرات الألوف من الأذكياء، وهاجر ألوف من الخلق من إنجلترا لأسباب دينية إلى أميركا الشمالية، ولقد كان الإسلام على العكس من كل هذا في معظم أيام عظمته، يبر المخالفين ويقربهم، وينتفع بإحسان المحسن منهم، ويعدل فيهم عدلا لم يؤثر عن كسرى ولا قيصر، وما قامت حرب دينية قط في ربوع الإسلام قصد منها إبادة أعدائه، اللهم إلا حوادث عادية تقوم بين متخالفين فتطفئها الولاة لساعتها، وترد على كل الرعايا حرياتهم. ذكر ابن عساكر في سيرة ابن فاتك الذي شهد فتح دمشق أنه تولى قسمة الأماكن بين أهلها بعد الفتح، فكان يترك الرومي في العلو ويترك المسلم في أسفل لئلا يضر بالذمي، أهذا عمل من يسيء إلى من يخالفه، ولعل الشعوبيين يماحكون فيزعمون أن هذا من باب الضعف، وأين كانت قوة أهل الإسلام يوم عملوا هذا من قوة غيرهم من أهل الأديان الأخرى في الشرق والغرب؟
مثال آخر: لما
10
جمع هرقل صاحب الروم جموعه للمسلمين ردوا على أهل حمص من الروم ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد.
مثال ثالث: مر عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى، قال: أسأله الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ
11
له بشيء مما في المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: أنظر هذا وضرباءه،
12
فوالله ما أنصفناه، أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم
إنما الصدقات للفقراء والمساكين ، والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.
خذ لك مثلا آخر من هذا التسامح الشريف: كتب الإمام الأوزاعي
13
إلى صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، لما قتل مقاتلة أهل لبنان، وأجلى بعضهم لما خرجوا على الخليفة: «وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئا لمن خرج على خروجه، ممن قتلت بعضهم، ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت، فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فإنه قال: من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه.»
14
قال الجاحظ في معرض كلامه على أن المسلمين كانوا أعطف على النصارى من اليهود: إنهم نافسوا المسلمين في لباسهم ومركوبهم وألعابهم، وتسموا بالحسن والحسين والعباس والفضل وعلي واكتنوا بذلك أجمع ... فرغب إليهم المسلمون وترك كثير منهم عقد الزنانير، وعقدها آخرون دون ثيابهم، وامتنع كثير من كبرائهم من إعطاء الجزية، وأنفوا مع اقتدارهم من دفعها، وسبوا من سبهم، وضربوا من ضربهم، وما لهم لا يفعلون ذلك وأكثر منه، وقضاتنا وعامتهم يرون أن دم الجاثليق
15
والمطران والأسقف وفاء
16
بدم جعفر وعلي والعباس وحمزة، قال: وكان منهم كتاب السلاطين وفراشو الملوك وأطباء الأشراف، ولم يكن اليهودي إلا صباغا أو دباغا أو حجاما أو قصابا أو شعابا.
17
وإذا كان الشعوبيون يشكون متعنتين في هذه الأخبار الصحيحة من مسامحة المسلمين في معظم أدوار عزهم، مع أنه لم يعهد لأمة فيما نحسب أن دونت أيام سعادتها ما لها وما عليها، بمثل هذا التدقيق الذي اشتهر به علماء العرب، فما قولهم فيما كتبه عالم معاصر
18
من جامعة الجزائر؟ قال: «لقد ثبت أن الفاتحين من العرب كانوا على غاية من فضيلة المسامحة لم تكن تتوقع من أناس يحملون دينا جديدا ... وما فكر العربي قط في أشد أدوار تحمسه لدينه الجديد، أن يطفئ بالدماء دينا منافسا لدينه، وقد جاءنا العالم ميز في باب التسامح الإسلامي بتفاصيل أشد غرابة من هذه قال: إن من أعظم بواعث الاستغراب كثرة عدد غير المسلمين من رجال الأمر في الدول الإسلامية، وقد شوهد المسلم في بلاده يحكم عليه النصارى، وحدث مرتين في القرن الثالث للهجرة، أن كان من النصارى وزراء حرب، وكان على القواد حماة الدين أن يقبلوا أيدي الوزير، وينفذوا أمره، هذا والدواوين غاصة بالكتاب من النصارى.»
هكذا عامل المسلمون أهل ذمتهم وهكذا عاملهم الخلفاء من الراشدين والأمويين والعباسيين، بل الخلفاء والأمراء في كل أرض انتصب عليها علم التوحيد، وكان الخلفاء بل من اشتهر منهم بتعصبه الديني يبوحون لأبناء الذمة بأسرارهم، ويطلعونهم على خويصة أنفسهم، ويوسدون إليهم مهمات أمورهم، ويأتمنونهم على حرمهم وأرواحهم، ويرفعون منازلهم، ويغدقون
19
عليهم إحسانهم، وهل عهدت مثل هذه المسامحة في بعض ممالك الغرب إلا بعد حروب طويلة وثورات مستديمة، ومجازر بشرية فظيعة؟ وذلك في العصر الأخير فقط.
لما أراد المأمون تدوين العلوم في بغداد استدعى ثلاثمائة عالم من أهل كل دين وجنس، وحظر عليهم في اجتماعهم مسلمهم وغير مسلمهم أن لا يستشهدوا بآي القرآن والإنجيل والتوراة وأن لا يتعرضوا للأديان في مباحثهم، وقد وضع أبوه هرون الرشيد من قبله جميع المدارس تحت مراقبة يوحنا بن ماسويه، وكانت إدارة المدارس في بلاد العباسيين مفوضة إلى النسطوريين تارة وإلى اليهود أخرى، وجامعات قرطبة وغرناطة وغيرهما من المدن الكبرى في الأندلس كانت تدار في الغالب بأيدي اليهود على ما قال درابر ، ولما خربت بغداد في القرن الرابع أمر عضد الدولة ابن بويه وزيره نصر بن هرون وكان نصرانيا بعمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم، فماذا يقول الشعوبيون بعد هذا من الباطل ليدحضوا به الحق؟ وهل من العدل في شيء أن يعتز الشعوبيون بقوة الغرب المادية؟ فيحطوا من قدر مدنية استغربوا كيف حملها الأجداد على ما يظهر.
نشرت في العهد الأخير عدة كتب بلغات الأمم الكبرى في الغرب في موضوع الأديان البشرية، فغمز أكثرها الإسلام من طرف خفي أو جلي، فعجبنا كيف لم يرق البشر بمدنية القرن العشرين، ومن الغريب أن يكتب أبو الريحان البيروني في أديان الهند في القرن الخامس من الهجرة، ولا يمس عاطفة أحد من أهلها، كأنه إذا كتب في نحلة يوهمك أنه هو أحد أبناء تلك النحلة لتلطفه في وصف شعائرها، ويكتب علماء اليوم وينحون على من لا يدين بدينهم، ويمجدون دين السواد الأعظم وحده، إن مدنية هذا القرن لم تصف النفوس من الشوائب، فإذا ذكر حتى العظيم من المسلمين ذكر على الأغلب بتقزز ممقوت، وكراهية بادية، أما إذا كان الكلام في مجموع الأمة الإسلامية فإن تصويرهم لها يصدر من تصوراتهم وأوهامهم.
رأينا كتاب العرب أيام قوتهم يذكرون جميع المخالفين لهم بكل حرمة، وفي كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وفي طبقات الحكماء لابن القفطي، وفي طبقات الأدباء لياقوت، وفي الوافي بالوفيات للصفدي، وفي تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي، وفي الجامع المختصر لابن الساعي مثال ظاهر من هذه المسامحة المحمودة، فقد ترجم هؤلاء المؤلفون للمسلم كما ترجموا للصابي واليهودي والسامري والمجوسي واليعقوبي وغيرهم كأنهم أبناء ملة واحدة، ونحن في هذا القرن وهو سيد القرون بتسامحه نرى الكاثوليكي إذا ترجم للبرتستانتي، أنحى عليه وثلمه والعكس بالعكس، وهما في الحقيقة أبناء نبعة واحدة، وكتاب واحد.
شعوبيان مخرفان شامي ومصري
ومن هؤلاء الشعوبيين في الشام هزاء خيالي، دعا الشاميين في جملة الآراء التي جاهر بها إلى أن تصفوا نياتهم فينسوا الأجداد الذين يشيدون أبدا بمفاخرهم، وينسوا الدول الإسلامية التي يتغنون على الدوام بمجدها، وما عهدنا عاقلا يدعو أمة إلى تناسي تاريخها، بل رأينا كل أمة تدرس تاريخها، مهما كان من اسوداد صفحاته؛ لأنه مهمازها إلى العمل، وتتمة ما بدأ به أجدادها: تتوقى شرهم وتقتبس خيرهم، ورأينا من الأمم كبعض جمهوريات أميركا الجنوبية من يصطنع لأمته تاريخا تتغنى به فيعينها على نهوضها، وأنت لو أردت هذا المتفلسف أن يأتيك برجل يصح لنا أن ننسج على منواله لعجز واكتفى بأن قال لك: إن الإسلام لم يأت فيه رجل يذكر، ولاختلق الأكاذيب على من أجمعت الأمة بل الأمم على صلاحه أمثال صلاح الدين يوسف، ولشوقي في هذا المعنى:
مثل القوم نسوا تاريخهم
كلقيط عي في الناس انتسابا
أو كمغلوب على ذاكرة
يشتكي من صلة الماضي انقضابا
ومن هؤلاء الشعوبيين في مصر رجل، يزعم أن الإسلام دين بدوي يتسم بكراهة الترف، وبشدة الإيمان بالوحدانية، وأن الوهابيين اليوم يمثلون روحه أصدق تمثيل، وأن العرب تقيدوا لأول أمرهم بالقرآن، فلم ينقلوا شيئا من الأدب الإغريقي، ثم كان الروح البدوي سائدا أيضا، فقوطعت الفنون الجميلة؛ لأن البدوي يكره بطبيعته جميع ضروب الترف والحضارة، وهو نفسه يعيش في صحراء لا يحتاج معها إلى فنون الحضارة من عمارة وتصوير ونقش؛ ولذلك حرم التصوير كما حرم صناعة التماثيل، وصار الغناء والموسيقى يتلهى بهما السكارى، وأن من الرسم تستفيد الأمة رأيها وذوقها في الجمال، ومن الدرامة تكتسب سليقة النقد الاجتماعي، فتبقى جذوة الإصلاح حية متقدة، وتنزع الأمة نزعة رقي وتقدم، وأن تعصبنا للشرق تعصب للقديم أكثر مما هو للشرق، نستمسك بالشرق لكي نتعلل به في كراهة الغرب، ونستمسك بالقديم كبرياء وأنفة من أن يقال: إن حضارتنا قد أفلست أمام حضارة أوروبا.
قال: وليس علينا للعرب أي ولاء وإدمان الدرس لثقافتهم مضعف للشباب ومبعثر لقواهم، فيجب أن نعودهم الكتابة بالأسلوب المصري الحديث، لا بالأسلوب العربي القديم، ويجب أن يعرفوا أننا أرقى من العرب، وأن ندرس العربية الفصحى كما ندرس الأشورية والبابلية، وأن ننظر إلى لغة النابغة والمتنبي كما ننظر إلى اللغة الروسية أو الإيطالية ، وأن العربية ليست لغتنا ولا نستفيد منها، وأن لنا من العرب ألفاظهم فقط لا لغتهم بل بعض ألفاظهم، قال: وكل من اختبر هذه اللغة يعرف أن قاسم أمين ولطفي السيد كانا على حق عندما نصحا باستعمال العامية المصرية بدلا منها، وقال: إن الرابطة الشرقية سخافة والرابطة الدينية وقاحة، وأن الرابطة الحقيقية أن نفنى في مدنية أوروبا، ونتطور بأطوارها، ونتزوج من بناتها، ونزوجهم بناتنا، ونأخذ عنهم كل شيء، وأن الأصلح لمصر إذا أرادت التخلص من آسيا والشرق والتاريخ العربي، أن تعود إلى وطنية فرعونية مقصورة على مصر وتاريخ مصر، ودرس مدنية الفراعنة أفيد من درس العرب، وأن تدرس آثار العرب والفراعنة كما تدرس الفينيقية، وقال: إن من تأمل أحوال الأمم الناهضة يعرف أنه ليست أمة تنهض في العالم الآن إلا وتنسلخ من قديمها سواء أكان هذا القديم آسيويا أم غير آسيوي، هذه خلاصة آراء المتفلسف الشعوبي ولو أردناه وصاحبه معا أن ينزل عن مشخصاته ومقدساته التي يتظاهر بالبعد عنها وهي أعلق بقلبه من شعرات قصه
20
لاستكبر وأبى.
يتقدم الشعوبي المصري إلى السواد الأعظم باسم الناصح، أن ينزل عن دينه؛ لأنه دين لا يقبل الرفاهية، ويتجاهل ما تم للعرب من هذا القبيل، مما ملئت به بطون الأسفار، وينكر عناية العرب بالفنون الجميلة؛ لأن العرب في صحرائهم لا يحتاجون إليها، وفاته أن العرب ليسوا كلهم سكان بادية، والفرق ظاهر بين العرب والأعراب، وأن العرب في أقصى جاهليتهم كانوا قسمين بادية وحضرا، وأن البوادي لم تعمل الحضارة العربية في دمشق وبغداد والفسطاط وقرطبة وغرناطة والقيروان، بل عملها أهل الحضر من العرب، وما قصروا في كل فنونها بحسب ما ساعدهم عصرهم ومعتقدهم، وإذا خلت مدنية العرب من «الدرامة» لبث روح النقد في اجتماعها، فما خلت كل عصر من كتاب مجودين نقدوا كل شيء فيها بدون عصبية ولا عنجهية.
أما قوله أن يرجع العرب عن تاريخهم، ويتركوا آسيا ويلتحقوا بأهل أوروبا في كل مظاهرهم فهو السخف بعينه، وما عهدت أمة تسير على هذا الطريق حتى ولا اليابان التي استشهد بتلقفها الحضارة الأوربية، فإنها بقيت على وثنيتها، محتفظة بتقاليدها، وأخذت عن أوروبا أصولها في مادياتها فقط، وكذلك يقال في دعوة العرب إلى ترك لغتهم والاعتماد على اللغة العامية، كأن ما حفظه هو لم يحفظه العرب: هو يريد أن يمزق شمل العرب، ويأتي على رابطتهم اللسانية فيحلها جملة واحدة كما انحلت رابطتهم السياسية، ولغة القرآن هي التي حمتهم كل هذه المدة على كثرة ما لاقوا من عنت الدول الشرقية الإسلامية، ومن عنت الدول الغربية النصرانية، هو يستشهد برجلين يقولان بزعمه هذا القول في إحلال العامية بدل الفصحى، وهما قد كتبا تآليفهما بالعربية الفصحى، ولو كتباها بلغة العوام لكان مصيرها الدفن ساعة تولد، وهذا مثل ما ادعاه أحد فضلائنا
21
من أن جمال الدين الأفغاني قال له: إن العرب لو وفقوا إلى نقل الإلياذة لهوميروس إلى لغتهم لكانوا أحسنوا أكثر من كل ما نقلوه من كتب العلم والفلسفة والصنائع، وما نخال ذلك القول إلا مدسوسا عليه.
يقول المازني:
22
إن العامية ينقصها الضبط والإحكام وهي ليست لغة واحدة حتى في مصر، بل لهجات شتى تختلف وتتقارب وتتباعد، تبعا للإقليم وسكانه وأحوالهم حاضرها وباديها، وليس لها ثبات واستقرار على حال، وأراها مع انتشار التعليم واتساع العلم بالفصحى ترتفع إليها وتدنو منها، وقد صار المتعلمون يتكلمون عامية هي أقرب إلى العربية وأشبه بها، ولا يكاد ينقصها إلا حركات الإعراب، ومن الحمق، ولا شك، أن يؤثر أحدنا عامية لا قواعد لها ولا أصول ولا أحكام ولا تاريخ ولا ثبات، وأحمق الحمق أن تجري وراء لغة تفر منك إلى ما تفر أنت منه. ا.ه.
وقول ذاك الشعوبي: إن الرابطة الحقيقية - بعد أن أرادنا على ترك جميع روابطنا الشرقية والدينية - هي أن نفنى في أوروبا، ونقول بالمدنية الفرعونية، وندرسها أكثر من المدنية العربية، ونجعل المدنية العربية واللغة العربية كالمدنية الأشورية واللغة الإيطالية والروسية، قوله هذا أشبه بسرسام لو تطال إلى أن يمليه على طفل في مدرسة ابتدائية لضحك من قوله أي ضحك، وعده يهذي ويعبث ، وما نخاله إلا عابثا يهذي ويخرف هو وأمثاله من الفرعونيين المصريين الذين سقطت دعوتهم بعد ظهورها، وقالوا بالتجديد في كل شيء أو نزع كل مفيد، فدلوا على ضعف في معرفة طبائع الأمم، وتاريخ نهضتها فضلوا وأضلوا، وكذلك حالة المتفلسف اللبناني في دعواه المضحكة، وله أمثال يكتبون ليغربوا لا ليعربوا، وينقدون ليقال عنهم: إنهم نقاد ويأتون بالجديد، وهم لو حاسبوا أنفسهم وحكموا العقل لضحكوا مما يختلفون من البهت والمقت، وكلامهم مهما كان ظاهره معسولا مقبولا فهو هو الصاب والعلقم ولبئس ما يأفكون.
يقول الغمراوي:
23
إن التجديد في الأدب كالتجديد في العلم لا يمكن إلا على أساس تعاون الحاضر والماضي، يبني العقل في حاضره على ما أسس العقل في ماضيه، فإن الحق وحدة قائمة لا يقوم جزء منها إلا على جزء، فلن يقوم حق جديد، إلا على أساس من حق قديم، بل الحضور والمضي والحدوث والقدم إن هي إلا ألوان يبدو بها الحق - أو الباطل - لعين الإنسان، وما هي من لون الحق في شيء، وإنما هي من لون المنظار الذي ينظر منه الإنسان، وإلا فالحقائق في نفسها متكافئة في الثبوت، تكافؤ نقط سطح الكرة، غير أن حياة الفرد أخصر وحقائق الكون أعظم وأكثر من أن يستوعب الفرد منها إلا جزءا متضائلا، كما أن العين لا تحيط من الأرض في آن إلا بجزء من الأرض صغير، وقد يستطيع الجنس البشري إذا اتصلت به الحياة إلى الأبد، أن يحيط من الحقائق بمقدار يزداد إلى ما لا نهاية، من غير أن يستنفد الحقائق، أو يشرف على أقصاها، ومهما يكن من شروط تحقق هذا التقدم المطرد في استيعاب الحقائق، فإن شرطا أساسيا له أن تتجرد حركة العقل - عقل الفرد وعقل الجنس - تجردا تاما عن التذبذب فإن الذي يمحق الأعمار، أعمار الأفراد والشعوب، هو التذبذب بين غايتين، قرب المدى بينهما أم بعد، فلو ظل «البندول»
24
يضرب إلى سرمد الدهر ما قطع أكثر من تلك القوس المحدودة، ولو ظل الإنسان تتعارض جهوده وتتلاغى أعماله، ينقض اليوم من غير دليل ما أبرم بالأمس ، ويبرم غدا من غير دليل ما نقض اليوم، لظل «البندول» يتحرك ولا يتقدم، وليس أعدى للفرد ولا للمجموع من قوم يزينون له هذا التذبذب باسم التقدم، وهذا التعطيل باسم التجديد. ا.ه.
متعصبة الشعوبية وأرباب الإنصاف
نقض كلام المخالفين وكلام على العناصر
من خلق بعض الناس إذا حنقوا على إنسان أن يسلبوه كل صفاته، وقد يكون فيها الظاهر الباهر، ومن طبيعة بعضهم إذا غضبوا على فرد أو أفراد عم غضبهم كل من كان من قوم المغضوب عليه، ومنهم من يغتاط من رجل فيطعن في جميع أهل المصر بل القطر، ومن عادة بعضهم أن يصغروا من شأن ما لا يدخل في منهاج عملهم، أو ما لا تدرك سره قرائحهم، ولا توفق إلى حله معارفهم، ويعدون ما هم بسبيله شيئا، وما تعمل فيه عقول أخرى ليس بشيء، وقديما قالوا: من جهل شيئا عاداه، وحبك الشيء يعمي ويصم، وفي الواقع إن الناس يتشابهون في الطباع، مهما اختلفت الأصقاع والبقاع، ولعلهم في مستقبل الأيام أيضا لا يوفقون إلى التجرد من الأهواء، اللهم إلا إذا خلقوا خلقا آخر، وتغيرت تراكيب أجسامهم لتتغير أرواحهم ومنافذ إراداتهم، كما يقول أناتول فرانس.
كتب أحدهم في العهد الأخير كتابا في المفكرين في الإسلام،
1
عرض فيه لرجاله وعلومهم بحسب المادة القليلة التي وصلته، أو بقدر ما أراد استثماره من المواد وإغفال ما لا يروقه منها، وجعل معظم الفضل في مدنية المسلمين لغيرهم من الشعوب، أو لمن تظاهروا بالدخول في دينهم، أو كانوا من غير ملتهم، أو عرفوا بالإلحاد والخروج على الجماعة، وختم كتابه بعبارة أثبتت فيها أن للعرب خصائص ولكنها انبعثت من أرضهم، والإسلام لا حظ له من التأثير فيها، فقال: وعلى هذا يظهر أن بعض الخصائص منبعثة من البلاد نفسها لا من الدين كمسألة القضاء والقدر، والميل إلى التبصر وتذوق الشعر والفلسفة، ورقة الإحساس الفني، وبعض الرغبة في الراحة والسكون، والاستعداد لدراسة الفقه، والذكاء في فصل الأحكام، كل هذا ليس فيه ما هو خاص بالإسلام ، بل هو أثر استعدادات عامة في كثير من الشرقيين، ولعلها نشأت من الإقليم، قال: ومعظم هذه الاستعدادات تصادف اليوم قبولا في الغرب، فإن الآلة وما يتبعها من الدوي والحركة وما ينشأ عنهما من مزعجات الحياة ليست مما يرغب فيه كل الناس، وهكذا الحال في المذهب المادي، وفي الجشع المتناهي في كسب المال في شعوب بلادنا، فإن كثيرين منا قد سئموا ذلك، وقد ترغب الروح في صور من الحياة تكون إلى السذاجة، ليتيسر للمرء الاستمتاع بالطمأنينة والأمل والسلام، فليس الاضطراب والجلاد الدائم من موجبات السعادة، وإذا كان لنا من مضائنا وعلمنا العالي ما جعل لنا بعض الحق على الشرق، فعلينا أن لا نتعدى الحدود في المطالبة بما يخولنا هذا الحق، وعلينا أن لا نقضي على خصائص هذه الشعوب ومثلها الأعلى، ولندع لبلادهم جمالها وسكونها وقليلا من بهائها الممزوج بالسويداء، وإذا عرفنا أن نتغلب على الشرق بالقوة المادية وسلطان العلوم والفنون فما ضرنا لو زدنا على ذلك الحكمة وجمال العهد. ا.ه.
هذا كلام جميل، فيه ولا سيما في نهايته شيء من الإنصاف، ولكن المؤلف أخطأ في نسبة الخصائص التي امتاز بها العرب للإقليم وحده، وشق عليه أن ينسبها للإسلام، وأخطأ أيضا في قوله: إن معظم مدنية المسلمين قامت بعناصر غير عربية،
2
وفاته أن من دخلوا في الإسلام من الفرس والقبط والسريان والروم وغيرهم درسوا في مدرسة العرب وأخذوا لغتهم وثقافتهم ودينهم وعاداتهم، وإذا كان ابن سينا والغزالي والبيروني والرازي مثلا أعاجم بأصولهم، فهم عرب بتربيتهم وثقافتهم، وإذا كان الجاحظ وابن رشد وابن زهر وابن خلدون، عربا بأصولهم وثقافتهم، فهم لا يزيدون شيئا عمن تقدم ذكرهم في الغناء والمنزلة ولا ينقصون، وما كان لجزيرة العرب وهي القليلة بسكانها الذين قام منهم أعظم الفاتحين وحملة الشريعة، أن يخرج منها كل هؤلاء الرجال الذين فتحوا فتوحا تحتاج إدارتها فقط إلى عشرات الألوف من الناس، فما بالك بالعلوم اللازمة لها؛ ولذلك انصرف العرب وهم أهل الدولة إلى سياسة الملك، وعاونهم الأعاجم في نشر علمهم وثقافتهم .
وليس في أهل الغرب اليوم أمة خالصة بعنصرها؛ فعند الفرنسيس من هم من أصل بولوني وإيطالي وإنجليزي وألماني خلا ما هناك من عناصر أصلية والعكس بالعكس عند كل أمة، والإنسان ابن تربيته ومحيطه على الدوام، قال أحد المفكرين من الفرنسيس: نحن مدينون بجزء عظيم من تاريخنا وآدابنا وفنوننا لمن كانوا غرباء عنا، وليسوا في الأصل من عنصرنا، ألا تعرفون أن شينه الشاعر هو رومي الأصل، وأن رونسار الشاعر مجري، وأن بول فاليري الشاعر إيطالي مثل ميرابو وغاليني، وكذلك سائر رجال قرسقة من نابليون فنازلا. وكذلك الإسرائيليون أمثال برجسون الفيلسوف وتريستان برنار ليسوا في الأصل من الفرنسيس، وهنري هين الشاعر هو ألماني يهودي، وإذا توسعنا قليلا طالبنا بملك إيطاليا؛ لأنه من أسرة سافوا الفرنسية. ا.ه.
ويحمد صاحب كتاب المفكرين في الإسلام لتصوره، وإن بعد قليلا عن الجادة، لا كالذي عمم ولم يخصص، وتجرد عن كل منطق يوم قال:
3 «إن الإسلام لم يكن شعلة بل كان مطفأة نشأ من قلب بربري لشعب بربري، فكان ولا يزال عاجزا عن احتذاء التمدن، وأنه حال في كل مكان ارتفع فيه سلطانه دون السير نحو الارتقاء، وخنق نشوء المجتمع الإنساني.» وأي غباء ممزوج بسماجة، وأي رفاعة معمولة بقحة، أعظم من هذا الكلام، وما أدري كيف يستطيع هذا المتمدن أن ينكر أن عقل ذاك البربري قلب كيان العالم، فعد بعمله العظيم أعظم رجل عرفه التاريخ، وأن شعبه البربري قام بحضارة وفتوح حسدته عليها أمم كثيرة، وغبطه على ما صار إليه أوسع الباحثين عقلا وعلما.
كلام لعلماء إفرنسيين وإيطاليين وبريطانيين وروسيين
يقول لبون: «قد يكون من الأوروبيين مستعمرون
4
ماهرون، ولكن منذ عهد رومية كان المسلمون من الشعوب الوحيدة التي كانت حاملة علم التمدن حقيقة، وهم الذين فازوا وحدهم بنشر المواد الجوهرية من المدنية، وأعني بها الدين والمصانع والصنائع بين ظهري عناصر جديدة من غير عنصرهم.» وتساءل لبون أيضا قائلا: «هل من الواجب أن نذكر أن العرب، والعرب وحدهم، هم الذين هدونا إلى العالم اليوناني واللاتيني، وأن الجامعات الأوربية، ومنها جامعة باريز ، عاشت مدة ستمائة سنة من مترجمات كتبهم، وجرت على أساليبهم في البحث، وكانت المدنية العربية من أدهش ما عرف التاريخ؟» وقال لبون أيضا: «كلما تعمق المرء في دراسة المدنية العربية، تجلت له أمور جديدة، واتسعت الآفاق أمامه، وثبت له أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلا بواسطة العرب، وأن جامعات الغرب عاشت خمسمائة سنة بكتب العرب خاصة، وأن العرب هم الذين مدنوا أوروبا في المادة والعقل والخلق، ومتى درس المرء ما عمل العرب وما كشفوه في العلم يثبت له أنه ما من أمة أنتجت مثل ما أنتجوا، في هذه المدة القصيرة التي كتب لملكهم قضاؤها، وإذا نظر المرء في صنائعهم وفنونهم لا يسعه إلا الاعتراف بأنه كان لهم ميزة خاصة لم تبلغها أمة، ولئن كان تأثير العرب في الغرب عظيما فإن تأثيرهم في الشرق أعظم، وما من عنصر أثر مثل تأثيره قط، فإن الشعوب التي دانت الأرض لسلطانهم كالأشوريين والفرس والمصريين واليونان والرومان قد عفت القرون آثارهم، ولم يخلفوا سوى آثار ضئيلة، بحيث لم يبق سوى ذكريات أديانهم وألسنتهم وفنونهم، وقد اضمحل أمر العرب أيضا، ولكن أهم عناصر مدنيتهم وهي الدين واللسان والصنائع لا تزال حية.» وقال أيضا: «إن العرب أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.» وقال كارلايل في العرب: «قوم يضربون في الصحراء كانوا نكرة عدة قرون، فلما جاء النبي العربي أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والمعارف، وكثروا به وعزوا، ولم يأت عليهم قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم.»
هذا هو الإسلام الذي خنق المجتمع البشري، وفلج المدنية في كل مكان، وخلقه قلب متوحش لشعب متوحش، وهذا ما عمله، وقد نصح بوترولون
5
لفرنسا أن تصبغ التونسيين لتعيدهم سيرتهم الأولى قبل حكم العرب؛ لأن هؤلاء أتوهم بقانون سنه رعاة لرعيان، فصعب تطبيق هذه الشريعة على مجتمعات ممدنة كالمجتمع القرطاجني، قال: وإن بقايا التنظيم الذي بقيت آثاره إلى اليوم في تونس من مثل البلديات والصناعات والبناء والهندسة ليست من اختراع العرب كما يقال، بل هي بقايا من المدنية القديمة السابقة للإسلام فسدت على عهد الفاتحين وأعمالهم العقيمة، ا.ه، ومثل هذه السخافات من السخفاء كثيرة لا نطيل بها ولا نتكلف الرد على قائليها، وقد قال كلود فارير
6
من مؤرخي فرنسا وأدبائها: «إن هزيمة العرب في بواتيه قد أخرت المدنية الغربية ثمانية قرون إلى الوراء، فلو ظفرت العرب يوم بواتيه لحملوا مدنيتهم إلى الغرب، ولما طالت أيامه في الجهل المطبق.» وقال سمنوف:
7 «كان من الميسور تجنب الحروب الصليبية، ولكن الجهل والأوهام الدينية والسياسية ومصلحة الباباوية قد ساعدت على ظهورها.» وإذا قال «لافيس»: ليس من المحقق أن سعادتنا كانت في تغلب قيصر على «فرسنجتوريس»القائد الغالي، ألا نقدر أن نقول: كم من الأحزان والآلام والجنايات الجديدة كان يمكن إنقاذ الإنسانية منها، لو لم يوقف «شارل مارتل» العرب عن السير في فتوحهم سنة 110ه، فإن الثقافة العالية التي امتاز بها من كان يدعوهم الصليبيون في حالة الغضب بالحشاشين والكفار والوثنيين احتقارا لهم، كانت أثرت قبل الوقت في أوروبا الغربية، وفي المدنية الفرنجية والرومانية، ا.ه.
وقال لويجي رينالدي من علماء إيطاليا،
8
بعد أن أفاض في عمل المسلمين في إيطاليا وإسبانيا: «فأمة هذه مدنيتها، وتلك آثارها ومفاخرها، جدير بنا بل واجب علينا أن نحفظ لها تلك اليد التي قدمتها إلينا وأسلفتها لنا، ولست أدري لماذا لا نسمع كلمة إعجاب بالشعب العربي العظيم الذي ترك في طريق المدنية آثارا عديدة؟ والذي حمل معه أعظم المعاونات وأجل الخدم للنوع الإنساني ولا يبخل على العرب بإعطائهم المقام اللائق بهم، وبإنزالهم المنزلة التي استحقوها بجدارة إلا كل جاهل التاريخ، وقد خطت أيديهم صحائف بيضاء فاخرة يجب على كل إنسان أن يعجب بهم من أجلها، ويحزنني لعمر الحق كما يحزن غيري ممن ينصفون، أن يكون بيننا نحن الأوروبيين نفر يقودهم سوء الظن والجهل إلى احتقار العرب، وحسبانهم من أمة أدنى من أمتهم، وأن نرى كلمة عربي عندنا تدل على معنى غير معنى المتمدن، وهذا بلا شك افتراء ونكران للجميل ، فإن هذا الشعب وإن سقط من شاهق مجده، ونزل عن المنزلة العظيمة التي كان فيها، لا يزال يحفظ صفاته العجيبة وذكاءه النادر، مما يتحلى به كل متعلم راق، وإنا لا نزال نذكر للعرب حسن فراستهم، وقوة ملاحظتهم للطبيعة، وسرعة خاطرهم، وها نحن أولاء لم نصل إلى ما وصلنا إليه من المعرفة إلا بفضلهم؛ فلذلك نشعر بعطف عظيم على أبناء الصحراء، ولا نزال نذكر لهم بالشكر والامتنان أياديهم البيضاء علينا في الماضي، ولا يسعنا في الحاضر إلا أن نمد إليهم أيدينا كي ينهضوا ويتبوءوا المكان اللائق بهم تحت الشمس، حتى يشتركوا معنا في استثمار تلك المدنية التي كانوا لها يوما موجدين، وعلى إعلاء شأنها عاملين.» ثم نقل عن بريس دافن في كتابه الفن العربي قوله: «إنه بعد سقوط الدولة الرومانية لم يكن هناك شعب يستحق أن يعرف غير الشعب العربي، وذلك أولا: لكثرة فحول الرجال الذين أخرجهم هذا الشعب العظيم، وثانيا: لما أحدثته فنونه وعلومه من التقدم العجيب في العالم مدة قرون عديدة.» ا.ه.
كلام في المدنيات العربية
وكثيرا ما يكتب الكاتبون في الإسلام والعرب عبارات قد لا يفهم منها في الظاهر ما يمس الكرامة ويعبث بالحقيقة، مثل قول من قال من أدعياء التاريخ من الأميركان: «إن المتطرفين في الديار الإسلامية يميلون إلى حسبان كل ما سبق بعثة محمد كأنه مختص بعالم آخر غير عالمنا الحاضر لا يستحق أن يؤبه له كثيرا.» وهذا في الحقيقة رأي أناس تشبعوا بتاريخ العرب لثبوت قضاياه من طرق مختلفة لا نزاع فيها، وهم ممن أيقنوا أن الآثار لم تكشف تاريخ الأمم القديمة كلها على ما يجب حتى الآن، ولا يزال البحث اليوم يوصل إلى أشياء لم تعرف بالأمس، وإذا أولع العرب بتاريخهم فليس معنى ذلك أنهم يدعون أنهم كانوا أول من ورخ لهم من الأمم، أو أنهم كانوا البادئين بأسس المدنية، وما ادعى المسلمون قط أنهم نزلوا بحضارتهم من السماء، بل ادعوا وأثبتوا دعواهم أنهم أخذوا حضارات الأمم القديمة وزادوا عليها ما وسعتهم الزيادة ، فأوصلوها بأمانة إلى أهل المدنيات الحديثة.
ومثل هذه النعومة، وهي الخشونة بعينها، بدرت من غودفروا دمومبين
9
فخالف بها التاريخ الصحيح في قوله: «إن الغارة الإسلامية الكبرى التي بلغت إلى حد كان أقصى مما قدر لها، قد أسكرت العرب بما أحرزوا من المغانم، فاضطربوا في فتوحهم بعض الشيء، وأدرك الأمويون وهم تجار مكة، بما فطروا عليه من لطف المأتى في الأعمال المالية، أن الواجب عليهم أن يتركوا الشعوب تحكم نفسها بنفسها على أصول الأحكام البيزنطية والفارسية، وأن لا يشغلوا أنفسهم بغير المغانم والجباية.» يريد أن يقول: إن الأمويين تجار فتحوا البلاد لترويج تجارتهم، وقصارى التاجر جمع المال، فهو بطبيعته بعيد عن إدارة الممالك؛ ولذلك كان غرام الفاتحين من الأمويين بتجارتهم، فأطلقوا لأهل البلاد حريتهم في الحكم الذي يختارونه، وفات الكاتب أن هؤلاء التجار كانوا أمراء في الجاهلية، تسلسل فيهم المجد والحكم كابرا عن كابر، وأنهم في الإسلام رفعوا راية الدين في الصين شرقا، وفي الأندلس غربا، ونشروا مدنيتهم ولغتهم على صورة مهما قال القائلون فيها فهي أدهش حدث حدث في العالم، وفي الحديث: «الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.» وفي معلمة
10
الإسلام إن القيادة في قريش كانت لأمية بن عبد شمس في الجاهلية، وما خلا أخلاف الأمويين في كل زمن من المعرفة الواسعة بالتنظيم العسكري والتنظيم السياسي. ا.ه.
ولا يلام العرب لجعلهم البلاد التي نزلوها بادئ بدء أشبه بالماية ليتعرفوا أخلاق أهلها وما يصلحهم ثم يحيلونها ملكا صرفا، فهذا مما يسجل في باب اقتدارهم السياسي، وقد قال لبون: «إن العرب كانوا أكثر حكمة من كثير من رجال السياسة الحديثة، عرفوا حق المعرفة أن أوضاع شعب لا تتناسب مع أوضاع شعب آخر، فكان من قواعدهم أن يطلقوا للأمم.
قال لوثرب ستودارد
11
العالم الأميركي: «ما كان العرب قط أمة تحب إراقة الدماء وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك أمة موهوبة جليل الأخلاق والسجايا، تواقة إلى ارتشاف العلوم، محسنة في اعتبار نعم التهذيب، تلك النعم التي قد انتهت إليها من الحضارات السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد، كان اختلاط بعضهم ببعض سريعا، وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة - الحضارة العربية - وهي جماع متجدد التهذيب اليوناني والروماني والفارسي، وذلك المجموع هو الذي نفخ فيه العرب روحا جديدا فنضر وأزهر، وألفوا بين عناصره ومواده بالعبقرية العربية والروح الإسلامي، فاتحد وتماسك بعضه ببعض؛ فأشرق وعلا علوا كبيرا، وقد سارت الممالك الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها 650-1000م أحسن سير، فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارة ورقيا وتقدما وعمرانا، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة، والحواضر العامرة، والمساجد الفخمة، والجامعات العلمية المنظمة، وفيها مجموع حكمة القدماء ومختزن علومهم يشعان إشعاعا باهرا، وما انفك الشرق الإسلامي خلال هذه القرون الثلاثة يرسل على الغرب النصراني نورا، ثم غابت كواكبه وأفلت أنجمه، حتى أدركته لياليه السود وأجياله المظلمة.» ا.ه.
الإسلام في الأقطار والنظر بين الإسلام والنصرانية
هذه آراء بعض كبار العلماء من الغربيين في الحضارة العربية، وتلك سخافات متعصبي الشعوبية، ونحن أميل إلى حسن الظن ببعض المؤلفين من الإفرنج، وقد نلتمس لهم أعذارا في بعض أحكامهم على حضارتنا وحكمهم الظالم عليها، بمظاهر قليلة رأوها في بعض الشعوب الإسلامية، رأوهم متدنين في المدنية عن مستوى أرباب المدنيات الكبرى لعهدنا، فحكموا على الإسلام في أوله، والإسلام في آخره، والإسلام في الشرق، والإسلام في الغرب، حكما واحدا، ومعلوم أن الإسلام في أواسط إفريقية غيره في شمالها، وفي أكثر أصقاع أوروبا وآسيا، والإسلام في قرونه الأولى غيره في القرون الوسطى والقرون الحديثة، والإسلام في الحكومات العربية غيره في الحكومات الأعجمية، وأن الإسلام تختلف مظاهره من عنصر إلى عنصر ومن قطر إلى قطر، فإن بدا اليوم ضعف قد لا يحتمل في بعض منتحليه، فليس السبب فيه أنهم انتحلوا الإسلام، بل الذنب ذنب العنصر والبيئة، وقانون الرجعة والعوامل الاجتماعية العظيمة الطارئة على من دانوا به، وعلى هذا يكون المشاهد من النصرانية، فإنها في عهد الباباوات غيرها في عهد الإصلاح الديني، ورأيناها في أولها على غير ما ظهرت به في العصور الأخيرة ، ورأيناها في شرقي أوروبا غيرها في غربها، وفي شمالها غيرها في جنوبها، وفي أميركا الشمالية غيرها في أميركا الجنوبية؛ ذلك لأن كل ما في العالم عرضة للنشوء والارتقاء تفعل فيه الأرجاء والأجواء.
وبعد، فإذا كان ما صارت إليه بعض الشعوب الإسلامية من الانحطاط في القرون الأخيرة مما دعا بعض علماء الاجتماع من الغربيين إلى أن يسيئوا ظنهم بدين القوم ومدنيتهم وتاريخهم، فإن للانحطاط أسبابا وعوامل معروفة سنعرض لها في الفصول المقبلة، ومسائل الدين والمدنية محررة مدونة يمكن الناظر المنصف أن يضعها كل ساعة تحت منظار النقد وفي بوتقة الحل، وإنما الذي يؤلم أن بعض أولئك الباحثين قد يحترمون مدنية وثنية ويبالغون في عظمتها؛ لأنها قامت بأرضهم وعلى أيدي بعض أجدادهم بزعمهم، ثم بارت واضمحلت بعوالم كثيرة، وظل المتشبعون بحب الأجداد يتناغون بها، كأن الوثنية أنفع من التوحيد، وكأن عبادة الأصنام تبعث على الارتقاء أكثر من عبادة إله واحد، وكأن من أهانوا الإنسان أحسن ممن كرموه، وكأن من حسنوا الأخلاق أوقع أثرا ممن عبثوا بها بما لا يقبل به عقل سليم.
شق على بعض الشعوبية أن تنسب مزية للعرب، فسلبوهم كل فضائلهم المحسوسة الثابتة في الإسلام والجاهلية، وشق على آخرين وهم معترفون ضمنا بفضل العرب، أن يقوم العرب بقسطهم من خدمة الحضارة، ومنهم شارل ريشه، وهو من العلماء لكنه لم يتمحض لدراسة تاريخ العرب
12
فقال: «ثم ما لبثت ليالي القرون الوسطى الداجية أن غطت كل شيء بظلامها المشؤم، فاضطر العلم المسكين أن يلجأ إلى العرب.» واضطرار العلم إلى الالتجاء إلى العرب الذي قد يفهم منه الاستخفاف بهم، لا يفيد في معرض تقرير الحقائق، ما دام ما عمله العرب لم يبرح الدهر ماثلا للعيان كالشمس في رائعة النهار، وبعد أن درست مؤلفات ابن سينا والرازي في مدارس أوروبا قرونا، ولم يبطل تدريس قانون ابن سينا من جامعات الغرب إلا في القرن الثامن عشر، أي غضاضة على العلم إذا لجأ إلى حمى العرب، فآووه وأكرموا وفادته، وانتفعوا بفوائده ونفعوا به غيرهم.
ثم كيف يلام العربي في نقل هذه الحضارة وأوروبا قد قضت قرونا، كما قال توفنر، حتى بلغت الغاية التي وصل إليها مسلمو إسبانيا في قرن واحد. وإن
13
إسبانيا نفسها ما لبثت أن أدركت أن هؤلاء البرابرة كانوا أرقى في العلم من كثير من شعوب أوروبا النصرانية، وقد تمتعت إسبانيا على عهد المسلمين بنجاح لم تصل إليه بعد ذلك، واقتضى طوعا أو كرها أن يعترف الغربيون أن العرب يعرفون صناعات السلم كما يعرفون صناعة الحرب.
هذا، وإن دعوى من يدعي من الشعوبيين الغربيين أن الإسلام مانع من الترقي ما دانت به أمة إلا انحطت، مردود بشواهد التاريخ الصادق، وها هي أوروبا بقيت
14 «ملفوفة في حنادس الهمجية من بعد ما تنصرت بألف سنة، وبلغ من جهلها وانحطاطها أن مائة عربي افتتحوا قسما من إيطاليا وقسما من سويسرا في أوائل القرن العاشر،
15
واستولوا على أكثر الجبال والمضايق وبنوا القلاع والأبراج وجاذبوا الحبل جميع ملوك تلك الأطراف، ولبثوا مالكين هاتيك الحصون والقلاع، ضاربين على أهالي تلك البلاد الذلة والمسكنة نحو قرن تام، ولم يكن عددهم أنمى ما نموا، وأكثر ما كثروا ليزيد على ألف رجل ... فكما أن همجية أوروبا لذلك العهد لم يكن السبب فيها الدين المسيحي، فانحطاط الإسلام اليوم ليس السبب فيه الشرع المحمدي.»
المسلمون والمدنية ورأي علماء الغرب فيهم
وليت شعري ألا تشفع تلك الحسنات التي تمت بأيدي العرب في العالم بما بدا في المسلمين والعرب اليوم من هنات وضعف، خصوصا إذا أنصف متعصبة الشعوبية وقابلوا بين حال المسلمين اليوم وحالهم منذ مائة سنة مثلا، فالشرق الإسلامي أخذ في عهده الأخير ينهض من سباته الذي دام قرونا: «وهو الآن في طريقه
16
إلى المسامحة والفهم والنور والارتقاء والإخاء، يأخذ أيضا بأساليب الإنسانية العظمى.» وأمة هذه حالتها الحاضرة ومكانتها الغابرة، تستحق أن تنتصف ويعرف لها حقها في الحياة، نعم، أصبح كثير من أهل الإسلام يتمثلون مدنية الغرب الحديثة من غير حرج ولا نكير، ويأخذون من حضارته ما طاب لهم وقضت به بيئتهم، وهل هم إلا بقايا أمة أتت بمدنية باهرة، مهما قال خصومها فيها، لا يسعهم أن ينكروا أنها كانت الصلة بين مدنية الرومان القديمة وأهل المدنية الحديثة.
وفي الشرق اليوم حركة علمية طيبة وهبة نحو العلى، ولا ينقصه إلا التنظيم والوحدة، وهذا ما ذهب إليه موريس برنو،
17
قال وقد طاف معظم أقطار الشرق الإسلامي: «ظهر لي أن معظم الضعف في الشرق منبعث عن تخلفه في مضمار تنظيم نفسه وتوحيد كلمته، فقد لقيت في كل صقع نزلته إلا قليلا إلى جانب صفات طيبة من الذكاء وحسن الخلق، نقصا في الأساليب وضعفا في التوازن يقرب من الفوضى.» وهو كلام سديد ووصف مجيد، فقد رأينا العبر أهابت بأبناء هذه المدنية الممجدة، فأدركوا نقصهم وحاولوا اللحاق بمن تقدموهم، لا جرم أن العهد لا يطول حتى يكون المسلمون كالأوروبيين، فإن خمسين سنة تكفي لأمة منحطة حتى تأخذ ما عند أمة راقية، وما تعبت به أمم كثيرة قرونا يمكن استصفاء زبدته في سنين قليلة، ونهضة اليابان شاهدة على ذلك، أما المظاهر الأخرى فتحتاج إلى زمن طويل، فقد حدث مرات أن بعض أبناء الهنود أخذوا العلم عن الغرب فثبت أن بين أفكارهم وأفكار الغربيين ومنطقهم ومنطقهم وعواطفهم وعواطفهم فروقا بعيدة المدى، وليس معنى ذلك أنه يستحيل على الشرقي أن يصبح كالأوربي حذو القذة بالقذة، كلا، بل يكون الشرقي كالغربي بعد تعاقب الدهور والعصور، كما وقع لأجداد الغربيين أن ظلوا نحو ألف سنة يتخبطون في حالة تذبذب وتوحش حتى تأصل فيهم حب المدنية القديمة والأخذ منها.
هذا رأي لبون في المسلمين، وقد وقف حياته الطويلة على درس تاريخهم ومجتمعهم، وقال في كتابه نشوء العالم الحديث:
18 «إن المسلمين عامة وأهل تركيا خاصة هم أسرع إلى الترقي من الروس ومن معظم الشعوب البلقانية، وما برح بعض المؤلفين يرونهم على جانب من الجهل في السياسة والتاريخ، شأن الشعوب نصف المتوحشة التي عريت نفوسها من الثقافة. وهذا الرأي في المسلمين قد أوجزه القائلون به ببيان لهم أصدروه باسم بحث إفرنسي يوناني جاء فيه: «مهما قال القائلون فإن الإسلام كان ولا يزال أبدا مخربا عظيما؛ وذلك لأنه لا يقبل علما غير الذي تضمنه القرآن، فالإسلام وحشي متعصب وهو من أعظم البلايا التي ابتلي بها العالم».» قال لبون: «لا جرم أن كاتب مثل هذه المطاعن لم ير قط المصانع الإسلامية البديعة في إسبانيا ومصر والهند، وهو يجهل العمل العظيم الذي تم على أيدي الجامعات الإسلامية في بعث المدنية الأوربية، ومع هذا نرى الكتب التي هي أدلة رجال السياسة المحدثين تكتب بمثل هذه الجهالات، وربما لم يكن رئيس الحكومة البريطانية يحسن غيرها يوم تخيل طرد المسلمين من أوروبا.»
وقال أوجين يونغ:
19
العرب على ما يظهر جد محقوقين أن كانوا كلهم مسلمين فاضطهدوا بهذا السبب ظاهرا وباطنا، على حين كان لهم ماض يحق لهم أن يعجبوا به: ماض حربي ثم ماض في العلم العالي والصنائع والرفاهية، مما اتخذته أوروبا في القرون الوسطى أيام كانت نصف متوحشة دعامة لقيام النهضة الحديثة، ولعله يقال: إن الأوروبيين لا يقدرون أن يغفروا لأساتذتنا ما لقنوهم من المعارف، وقال: ليت شعري هل القوة الاجتماعية في الإسلام هي التي تقلق أوروبا أو دولها العظمى؟ ربما كان ذلك؛ لأن تعاليم الإسلام حرة فهو لا يقول بالطبقات ولا بالامتيازات ولا يدعو إلى التسلط على نحو ما تدعو الكنائس النصرانية، وليس في مطاويه شيء من الرياء السياسي الذي تنقاد إليه بعض الحكومات، إن شعار المسلمين الجميل هو تقريب القلوب والأرواح وهذه خطوة انتقال إلى السلام العام، وهذا ما يراد، ولا شك، القضاء عليه، وما مصير من يعمل ذلك إلا الخيبة.
أمهات المسائل التي يرددها الشعوبيون
صدق الرسول في دعوته
ترد المسائل التي ضرب فيها متعصبة الشعوبية الإسلام إلى بضع مسائل أمهات: صدق الرسول في دعوته، صحة الكتاب الذي حمله لأمته، الاعتقاد بالقضاء والقدر، تعدد الزوجات، الطلاق، الحجاب، الاسترقاق، المسكرات، الربا، التصوير. ونبدأ الآن بالكلام على رسالة صاحب الدعوة ثم نفيض في المسائل المتنازع فيها في فصول تلي، فنقول: تعسف المتعسفون في العبث بسيرة الرسول ، فقال قائلهم: إنه كان به صرع من إفراطه في الأكل، وقال آخر: إنه كان مصابا بالحمى الشديدة لطول صيامه، وزعم زاعم أنه كان مصابا بداء عصبي، وتابع كل من هؤلاء المشتطين هواه، وركب مركبا خشنا في حكمه على الرسول بما ارتآه، حتى جاء ماسينيون من علماء المشرقيات في فرنسا، فأثبت أن محمدا كان مالكا لعقله ممتعا بصحته،
1
ومن قبل أفحم كارلايل
2
من أرادوا الحط من قدر الرسول قائلا لهم: «لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد ممدن في هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب، وأن محمدا خداع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا، أكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا، فلو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم ذلك التصديق والقبول، فما الناس إلا بله ومجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة، كان الأولى بها أن لا تخلق.» وما نظن أكبر محب للرسول يقول فيه وفي دعوته عن طريق المنطق أحسن من هذا.
وقال تولستوي الحكيم الروسي: «ومما لا ريب فيه أن النبي محمدا كان من عظام الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخرا أنه هدى أمته برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام وتؤثر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام.»
وقال وليم موير في كتابه «سيرة محمد»: «امتاز محمد بوضوح كلامه ويسر دينه، وقد أتم من الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التاريخ مصلحا أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة، في زمن قصير كما فعل محمد.» ويؤخذ مما قاله لين بول: «أن محمدا كان يتصف بكثير من الصفات الحميدة كاللطف والشجاعة ومكارم الأخلاق، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر، ودون أن يكون هذا الحكم صادرا عن غير ميل أو هوى، كيف لا، وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته أعواما، فلم يهن له عزم، ولا ضعفت له قوة، وبلغ من نبله أنه لم يكن في حياته البادئ بسحب يده من يد مصافحه، حتى ولو كان المصافح طفلا، وأنه لم يمر بجماعة يوما، رجالا كانوا أو أطفالا، دون أن يقرئهم السلام، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة، وفي فيه نغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسحر سامعها، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذبا.» ومما قاله أيضا: «إن كثيرا من كتاب التراجم والسير من الأوروبيين الذين تناولوا الكلام على سيرة محمد لم يتعففوا عن أن يشوهوا هذه السيرة بما أدخلوه عليها من افتراءات وادعاءات، كاتهامهم إياه بالقسوة وارتكاب الموبقات والانهماك في الشهوات، وأنه كان دجالا دعيا وطاغية متعطشا لسفك الدماء.»
وعلل مونتيه
3
طعن بعض الغربيين على الرسول بقوله: «كثيرا ما حكمت عليه الأحكام القاسية، وما ذلك إلا لأنه ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثله، وإن ما قام به من إصلاح الأخلاق وتطهير المجتمع، يمكن أن يعد به من أعظم المحسنين للإنسانية.» وقال: «ولا مجال للشك في إخلاص الرسول وحماسته الدينية التي تشبعت بها نفسه وفكره، فدعا إلى إصلاحه بعواطفه.» وقالت كاتبة إيطالية:
4 «لقد عمد علماء المشرقيات مثل موير وسبرنجير قديما، وجولدصهير ونولدكه وكايتاني وغيرهم حديثا، إلى استعمال أساليب في النقد خالفوا فيها علماء المسلمين كل المخالفة، فتوصلوا إلى الاعتراف بأمانة محمد، وأثبتوا بصراحة تختلف درجتها أنه كان، ولا مراء، يصدر عن وحي، اختلفوا في تأويله لما حاولوا بيانه على صور شتى لا يتأتى قبولها حتى في رأي ناقد غير مسلم.»
وما أبدع ما قاله صديقنا خليل مطران في الرسول:
بدا وللشرك أشياع توطده
في كل مسرح باد كل توطيد
والجاهليون لا يرضون خالقهم
إلا كعبد لهم في شكل معبود
مؤلهون عليهم من نحائتهم
بعض المعادن أو بعض الجلاميد
مستكبرون أباة الضيم غر نهى
ثقال بطش لدان كالأماليد
لا ينزل الرأي منهم في تفرقهم
إلا منازل تشتيت وتبديد
ولا يضم دعاء من أوابدهم
إلا كما صيح في عفر عبابيد
ولا يطيقون حكما غير ما عقدوا
لذي لواء على الأهواء معقود
بأي حلم مبيد الجهل عن كثب
وأي عزم مذل القادة الصيد
أعاد ذاك الفتى الأمي أمته
شملا جميعا من الغر الأماجيد
لتلك تالية الفرقان في عجب
بل آية الحق إذ يبغى بتأكيد
صعبان راضهما توحيد معشرهم
وأخذهم بعد إشراك بتوحيد
وزاد في الأرض تمهيدا لدعوته
بعهده للمسيحيين والهود
وبدئه الحكم بالشورى يتم بها
ما شاءه الله عن عدل وعن جود
هذا هو الحق والإجماع أيده
فمن يفنده أولى بتفنيد
يقول ابن حزم:
5 «إن العرب كانت أقواما لقاحا لا يملكهم أحد كمضر وربيعة وإياد وقضاعة، أو ملوكا في بلادهم يتوارثون الملك كابرا عن كابر فانقادوا كلهم لظهور الحق وآمنوا برسول الله، وهم آلاف آلاف وصاروا أخوة كبني أب وأم، وانحل كل من أمكنه الانحلال عن ملكه منهم إلى رسله طوعا بلا خلاف غزو ولا إعطاء مال ولا مطمع في عز، بل كلهم أقوى جيشا من جيشه وأكثر مالا وسلاحا منه وأوسع بلدا من بلده، وهكذا كان إسلام جميع العرب أولهم كالأوس والخزرج ثم سائرهم قبيلة قبيلة، لما ثبت عندهم من آياته وبهرهم به من معجزاته، وما اتبعه الأوس والخزرج إلا وهو فريد طريد، قد نابذه قومه حسدا له؛ إذ كان فقيرا لا مال له، يتيما لا أب له ولا أخ ولا ابن أخ ولا ولد، أميا لا يقرأ ولا يكتب نشأ في بلاد الجهل، يرعى غنم قومه بأجرة يتقوت بها، فعلمه الله الحكمة دون معلم وعصمه من كل من أراد قتله.»
ويقول ماكس
6
مولر المستشرق الألماني: «سوف يعلم النصارى، والدهشة آخذة منهم ، أن محمدا من أنصار المسيح، وأن الديانة المحمدية هي من فروع النصرانية، وإذ ذاك يدهش المسلمون والنصارى على السواء بما جاء في تاريخهما من الخصام والشقاق والعداء بسبب الدين.» وقد وافق كثير من علماء المشرقيات في أوروبا على رأي هذا العالم وعضدهم في ذلك كثير من الروس العقلاء أرباب الأفكار السامية، أمثال فلاديمير سولوفيف وبيتروف وغيرهما، ويقول برنارد شو من كبار كتاب الإنجليز المعاصرين: «لا يمضي مائة عام حتى تكون أوروبا ولا سيما إنجلترا قد أيقنت بملاءمة الإسلام للحضارة الصحيحة.»
هذا، والأديان في جوهرها واحدة تأمر بالخير، وتدعو إلى مكارم الأخلاق، وتدفع الناس بعضهم عن بعض في هذه الحياة؛ ليقوم نظام اجتماعهم على ما ينزع من صدورهم الأحقاد والتعادي، وحب القتل وسلب المال وهتك العرض، وتشعر قلوبهم الرحمة والعطف على الأسير العاني والشيخ الفاني واليتيم والبائس، والابتعاد عن كل ظلم واعتداء، وتذكرهم بأن لهم معادا ثانيا يثاب فيه المؤمن المحسن ويعاقب فيه من يجترح شيئا من السيئات يكون فيها تقويض أركان المجتمعات.
القرآن والإسلام
اشتد متعصبة الشعوبية في الحط من القرآن الكريم، وقالوا وهم الأعاجم الذين يصعب على أكثرهم أن يتفهموه ويتدبروه: إنه غير منظم ولا مبوب وإنه محتذى ومنقول، وإنه زيف مدخول، وإنه غير بليغ ولا فصيح، وبلغت القحة ببعضهم أن قالوا: إن فيه أغلاطا نحوية، وركاكات بيانية. هذا والقرآن أبلغ كتاب للعرب، ولولاه لما كان لهم أدب ولا شريعة:
كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا ، عجز فصحاء العرب عن الإتيان بمثله مع أنهم خصوا بالتحدي،
7
وكان للفصاحة عندهم المقام الأرفع، فاعترفوا بعد جدال طويل: «أن
8
نظم القرآن على تصرف وجوهه، واختلاف مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه على أساليب الكلام المعتاد»، جعله
9
الله، كما قال علي بن أبي طالب، ريا لعطش العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، ومحاجا لطرق الصلحاء، وبرهانا لمن تكلم به، وشاهدا لمن خاصم به، وفلجا لمن حاج به، وعلما لمن وعى، وحديثا لمن روى، وحكما لمن قضى.
القرآن أكبر معجزة للرسول؛ هو المرجع
10
حين يجد الخلاف، وهو أيضا المعجزة الصريحة التي يعتز بها العقل، ويصح للمسلمين أن يواجهوا بها العالم غير مترددين، يحمل عدوه على الإيمان به والخشوع لديه، ولو صحت - لا صحت أراجيف الملحدين - من أن القرآن من إنشاء محمد بن عبد الله، لكان محمد هذا أعظم رجل شهد هذا الوجود:
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ،
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا * ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا * وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ،
11
وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون .
فالقرآن بإعجازه يضرب الأمثال للحاضرين بالغابرين، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويشتمل على أنواع من الأعمال كلف بها العباد،
12
ومشروعات لتأمين الدعوة وهي الجهاد، ومشروعات لتكوين البيوت والأسرة، وهي ما يتعلق بالزواج والطلاق والأنساب والمواريث، ومشروعات لطريق المعاملة بين الناس، ومشروعات لبيان العقوبات على الجرائم وهي القصاص والحدود. هذا هو الكتاب الذي أخرج للناس فيه هدى لهم وتطهير لنفوسهم، وقواعد لقيام مجتمعهم، وتذكير لهم أبدا بالمعاد، وليس القرآن كتابا علميا يبحث في الكيمياء والفلك والطبيعيات وتقويم البلدان وتاريخ الإنسان، وإذا جاء فيه عرضا بعض إلماع إلى ذلك فلا يصح دليلا على أنه حوى كل علم على ما زعم بعضهم، وما القرآن إلا القانون الذي يحضر الناس للحضارة، ويذكرهم بحياة ثانية إذا حسن التصرف في الأولى، تم ما وعد به المسلمون من الخير في الآخرة.
قال جان جاك روسو في القرن الثامن عشر: «من الناس من يتعلم قليلا من العربية ثم يقرأ القرآن ويضحك منه، ولو أنه سمع محمدا يمليه على الناس بتلك اللغة الفصحى الرقيقة، وذاك الصوت المقنع المطرب المؤثر في شغاف القلوب، ورآه يؤيد أحكامه بقوة البيان، لخر ساجدا على الأرض وناداه أيها النبي رسول الله خذ بأيدينا إلى مواقف الشرف والفخار، أو مواقع التهلكة والأخطار، فنحن من أجلك نود الموت أو الانتصار.»
وقال كارلايل في القرن التاسع عشر: «إن فرط إعجاب المسلمين بالقرآن وقولهم بإعجازه أكبر دليل على تباين الأذواق في الأمم المختلفة، والترجمة تذهب بأكثر جمال الصنعة وحسن الصياغة.» وجاهر كلود فارير في القرن العشرين بأن «آيات القرآن جميلة وتحسن تلاوتها، فيها نفحة طاهرة عجيبة؛ لأنها تأمر بالشجاعة والصدق والأمانة، وتدعو إلى حماية الضعيف وإلى عبادة إله واحد.»
نقتصر على رأي هؤلاء الثلاثة الحكماء في القرآن، وهناك كثيرون ذهبوا مذهبهم وقالوا بقولهم، وجاهروا غير مدلسين ولا موالسين، ويكفينا في بيان فضل الإسلام أن نعمد أيضا إلى نقل كلام بعض علماء الإفرنج فيه، فقد قال ولز المؤرخ الإنكليزي: «كان الإسلام في أول أمره خاليا من التعقيدات اللاهوتية التي طالما ارتبكت بها النصرانية، وأحدثت شقاقا قضى على الروح النصراني، وليس للإسلام كهنة بل له علماء ومعلمون ووعاظ، وهو حافل بروح الرأفة والسخاء والإخاء، كما أنه ينطوي على عاطفة النجدة التي تنبت في الصحراء؛ ولهذا جاز إلى قلوب عامة الناس دون أن يجد ما يصده في غرائزهم.» وقال مونتيه
13
السويسري: «لما كان الإسلام دينا من الأديان أصبح قوة أدبية عظيمة جدا جديرة بالاحترام من وراء الغاية، ولذا تقضي الحال بأن تقوم الصلات مع أهله على أساس الإخاء والحب، وأهم الشروط في هذه الروابط الحسنة احترام الإسلام احتراما مطلقا، وإن هذا الدين بفضل ما نشره بعض الباحثين من العلماء المجردين عن الأغراض، وما وقف عليه بعض أرباب الرحلات قد أصبح معروفا في أوروبا معرفة تامة، وغدا يقدر قدره أكثر من قبل.» ا.ه.
ورأينا عظماء من الغربيين لا يذكرون الإسلام إلا بالتعظيم، وعهدنا ببعض كبار رجال العقول من مؤلفيهم الذين اشتهروا بين العامة والخاصة كأناتول فرانس، أنهم لم يذكروا الإسلام بأقل تعريض في كتبهم الكثيرة، واستعملوا حريتهم في الكلام على دينهم الخاص؛ وهذا لأن العقل لا يجوز أن يخوض المرء عباب مسألة عظيمة، إن لم يكن استعد الاستعداد الكافي للنظر فيها بالدرس والتمحيص، ومن أعظم ما يعاب به العالم أن يقول جزافا، ويتكلم بلا وزن وروية، والعاقل من يحرص على أن لا تبدو مقاتله، ولا يستحي إن لم يكن عارفا من قول «لا أدري»، وقد قالوا: إن لا أدري نصف العلم.
وقال آرثر جلين ليونارد:
14 «يجب أن تكون حالة أوروبا مع الإسلام بعيدة من كل هذه الاعتبارات الثقيلة، وأن تكون حالة شكر أبدي بدلا من نكران الجميل الممقوت والازدراء المهين، فإن أوروبا لم تعترف إلى يومنا هذا بإخلاص طوية وقلب سليم بالدين العظيم، المدينة به للتربية الإسلامية والمدنية العربية، فقد اعترفت به بفتور وعدم اكتراث عندما كان أهلها غارقين في بحار الهمجية والجهل في العصور المظلمة فقط، ولقد وصلت المدنية الإسلامية عند العرب إلى أعلى مستوى من عظمة العمران والعلم، فأحيت جذوة المجتمع الأوربي وحفظته من الانحطاط، ولم نعترف، ونحن نرى أنفسنا في أعلى قمة من التهذيب والمدنية، بأنه لولا التهذيب الإسلامي، ومدنية العرب وعلمهم وعظمتهم في مسائل العمران، وحسن نظام مدارسهم، لكانت أوروبا إلى اليوم غارقة في ظلمات الجهل.»
قال: «هل نسينا أن التسامح الإسلامي كان يختلف اختلافا شديدا عن الحالة التي كانت عليها أوروبا إذ ذاك، هل نسينا أن الخلافة نشطت في أعظم أيام الانحطاط الروماني والفارسي، وأن السواد الأعظم من أوروبا كان في غشاوات الوحشية السوداء القاتمة، أتهمل أوروبا، حقدا منها وإنكارا للجميل، تلك الأعمال التي قام بها العرب وتركوها وراءهم في كتبهم، ألم نك ممن فقد نشاط العالم الإسلامي في عصره الذهبي العجيب، وذلك في عصوره الأولى ولا سيما في زمن العباسيين، وكيف ننسى الخسارة الفادحة التي جنيناها على آداب العرب، بل الجناية التي جنيناها على العالم أجمع، بتدميرنا عن جهل وغرور ألوفا من كتبهم ساقنا إلى إبادتها التعصب النصراني، ألا يقال: إن أوروبا النصرانية بذلت كل ما في وسعها منذ قرون لتخفي يد العرب فيها، وسوف لا يطول الأمر حتى يعترف بهذه الصنيعة، دع أوروبا بل القارة النصرانية تعترف بخطئها، دعها تعلن للعالم أجمع غباوتها الغزيرة؛ لقلة إسداء الشكر الواجب عليها، إنها ستضطر بعد إلى الاعتراف بالدين الأبدي المدينة به للإسلام.» وقال إدموند يورك: «القانون المحمدي قانون ضابط للجميع، من الملك إلى أقل رعاياه، وهو قانون نسج بأحكم نظام حقوقي، وأعظم قضاء علمي، وأعظم تشريع منور، لم يسبق قط للعالم إيجاد مثله.»
وقال جان مليا:
15 «من الواجب أن يطرح بعد الآن ما ادعاه في القرآن بعض المتفلسفين من الفرنسيس، فالقرآن تجب تلاوته بتؤدة وليس فيه ما يتهمه به الأعداء من أنه ملقن التعصب، والإسلام دين سماوي، وهو دين حب وعاطفة وشرف، وأكثر الأديان تساهلا.»
يقول لبون
16
خلال كلامه على أن وحدة الإسلام الخلقية واحدة من أساسها؛ لأن الإسلام قام على كتاب واحد وهو القرآن: «إن هذا الكتاب قانون ديني وسياسي واجتماعي، وأحكامه نافذة منذ عشرة قرون.» قال: «ولقد انحلت بالتدريج السلطات السياسية الإسلامية من عهد المملكة العربية إلى دولة الأتراك الحديثة، وبقدر ما كان يتراجع سلطانها على البلاد كانت تفتح أرواحا ونفوسا ... إن سذاجة الدين الإسلامي وإيمان المؤمنين به، قد أورثاه قوة، فهو يكتفي بقول لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قام بالدعوة إلى هذه الحقيقة، والمسلمون إخوة؛ لأنهم يعبدون إلها واحدا وشريعتهم واحدة، يبغضون ما يبغضون، ويحبون ما يحبون، ويجمع الحج كل سنة في مكة جماعات المؤمنين من كل صقع ولغة، وعلى ما عرف به الشرع الإسلامي من الصلابة، قد أخذ يسير على قاعدة النشوء والارتقاء، وبعبارة أخرى على الأسلوب الأوربي، وإذا كره العلماء فتح باب الاجتهاد، فإنهم يعدلون الأحكام القرآنية في المسائل المهمة، وقد تم الإصلاح بمصر في هذا المعنى.» ا.ه.
وقال أيضا: «إنه بفضل تجار من المسلمين يدخل في إفريقية ألوف من الوثنيين في الإسلام حتى ليكاد هذا الدين يمدنهم، وإن المسلم حيث يمر يترك أثرا من دينه، وإن من الممالك ما لم يطأه المسلمون فاتحين فوطئها أناس منهم متجرين، مثل بعض أنحاء الصين وإفريقية الوسطى وروسيا، والمسلمون في هذه الأقطار التي نزلها تجارهم أصبحوا يعدون بالملايين.» وقال نقلا عن دوفال: «إن الفتيشية
17
وعبادة الأصنام تزول من الأرض بفضل الإسلام، وكذلك الضحايا البشرية وأكل لحوم البشر، وبالإسلام تقدست حقوق النساء، وإن كان ذلك إلى حد أدنى بكثير من الحق المطلق، وزواج ثنتين قد هذب من حواشيه، وخفف من انتشاره، وتوطدت روابط الأسرة وأصبح العبد عضوا فيها، وأخذت الزكاة تطهر الأخلاق العامة وترقيها، والشعور بالعدل والإحسان يتخلل القلوب، وأنشأ سادة الشعوب يعرفون أن عليهم واجبات مثل ما على رعاياهم، واستقام المجتمع على أسس ثابتة، فإذا كان هناك كثير من سوء الاستعمال كما هو الحال عند غيرهم، فإن على العدل الإلهي عقابهم، والرجاء في حياة مستقبلة سعيدة هنيئة يرى منه تعزية كل من خانهم الدهر وظلمتهم الأيام، هذه بعض الحسنات التي تنتشر في كل مكان ينتشر فيه الإسلام في وسط المجتمعات المتمدنة.»
وقال: «إن قليلا من الأمم فاقوا العرب في المدنية، وما عهد شعب نجح مثله هذا النجاح الباهر، في مثل هذه الحقبة الصغيرة من الدهر، وقد أنشأوا في باب الأديان دينا من أعظم الأديان التي حكمت العالم، وكان تأثيره ولا يزال شديدا؛ وأقاموا في باب السياسة مملكة من أعظم الممالك التي عرفها التاريخ، ومن حيث التأثير العلمي والأخلاقي مدنت العرب أوروبا، وقد قل في العناصر من بلغ مبلغهم، كما قل في العناصر من نزل إلى درجتهم في السقوط.»
وقال فاليري: «فرضت الأديان على من يدينون بها معتقدات ثقيلة يصعب القيام بأعبائها؛ لبعدها عن مدى الأفهام، على حين كان الإسلام عجيبا في سهولته، صريحا في فروضه، وهذا كان سببا آخر في سرعة انتشاره بين الشعوب التي اضطربت أخلاقها كل الاضطراب، بما أصابها من الشك المضني بعقائدها الدينية، وهذا أيضا كان ولا يزال السبب في انتشاره المتوصل بين الأمم المتوحشة في آسيا وإفريقية لنفوذه إلى أرواحهم، دون الحاجة إلى التطويل في شرحه والتلطف في الدعاية له.» ا.ه.
وقال جيبون: «جاءت الشريعة المحمدية عامة في أحكامها يخضع لها أعظم ملك وأقل صعلوك، فهي شريعة حيكت بأحكم منوال شرعي وليس لها مثيل في العالمين.» وقال ليودوروش: «إن الإسلام دين إنساني طبيعي اقتصادي أدبي، ولم أذكر شيئا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته مشروعا فيه، بل إنني عدت إلى الشريعة التي يسميها جول سيمون «الشريعة الطبيعية»، فوجدتها كلها أخذت عن الإسلام، ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في نفوس المسلمين، فوجدته قد ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالا وكرما، بل وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به الفلاسفة من حب الخير والرحمة والمعروف، في عالم لا يعرف الشر واللهو والكذب، فالمسلم ساذج لا يظن بأحد سوءا، ولا يستحل محرما في طلب الرزق؛ ولذلك كان أقل مالا من اليهود ومن بعض النصارى.» قال: «ولقد وجدت فيه حل المسألتين الاجتماعيتين اللتين تشغلان العالم طرا: الأولى؛ في قول القرآن:
إنما المؤمنون إخوة
فهذا أجمل مبادئ الاشتراكية، والثانية: فرض الزكاة على كل ذي مال، وتخويل الفقراء حق أخذها غصبا، إن امتنع الأغنياء عن دفعها طوعا، وهذا دواء الفوضوية.» وقال ماسينيون:
18 «يمتاز الإسلام بأنه يمثل فكرة مساواة صحيحة بمساهمة كل فرد من أفراد الشعب بالعشر في موارد الجماعة، والإسلام يبذل التبادل غير المقيد، كما يناوئ بالعداء الأموال المصرفية (الربا)، والقروض الحكومية والضرائب غير المباشرة على ضروريات الحياة، في حين أنه شديد التمسك بحقوق الوالد والزوج والملكية ورءوس الأموال التجارية، فهو بذلك يقف موقفا وسطا بين البورجوازية الرأسمالية والشيوعية البلشفية، وللإسلام ماض بديع من تعاون الشعوب وتفاهمها، وليس من مجتمع آخر له مثل ما للإسلام ماض كله النجاح في جمع كلمة مثل هذه الشعوب الكثيرة المتباينة على بساط المساواة في الحقوق والواجبات، ولقد برهنت الطوائف الإسلامية الكبرى في إفريقية والهند والهند الشرقية، والجماعات الصغيرة منهم في الصين واليابان على أن الإسلام يستطيع أن يوفق بين العناصر التي لا سبيل إلى التوفيق بينها.» وقال أحدهم
19
في الزكاة: «وكانت هذه الضريبة فرضا دينيا يتحتم على الجميع أداؤه، وفضلا عن هذه الصفة الدينية، فالزكاة نظام اجتماعي عام، ومصدر تدخر به الدولة المحمدية ما تمد به الفقراء وتعينهم، وذلك على طريقة نظامية قويمة، لا استبدادية تحكمية ولا عرضية طارئة، وهذا النظام البديع كان الإسلام أول من وضع أساسه في تاريخ البشرية عامة»، «فضريبة الزكاة التي كانت تجبر طبقات الملاك والتجار والأغنياء على دفعها لتصرفها الدولة على المعوزين والعاجزين من أفرادها، هدمت السياج الذي كان يفصل بين جماعات الدولة الواحدة، ووحدت الأمة في دائرة اجتماعية عادلة، وبذلك برهن هذا النظام الإسلامي على أنه لا يقوم على أسس الأثرة البغيضة.»
هذا، وقد رأينا بعض السفسطائيين ممن لا شأن لهم إلا المغالطة يدعون أن الإسلام لم يأت بجديد في الأديان، وأنه اقتبس من النصرانية واليهودية، وكيف يأتي دين الفطرة بجديد وهو يبتعد عن التعقيد فيما يصلح الناس في معاشهم ومعادهم، فإذا أمر بالعدل والإحسان وأمرت بذلك الأديان الأخرى كيف يتأتى أن يقال: إنه اقتبس ذلك من غيره، وهل من سبيل إلى أن يحدث الدين الجديد شيئا يقال له: عدل أو إحسان، ويكون عدلا أو إحسانا لا عهد به للناس، وهل يؤول العدل على معنيين: فيكون فيه العدل القديم والعدل الجديد، بل إن بعض الشعوبيين من الغربيين يدعون أن الإسلام أخذ حتى فقهه عن قانون يوستنيانوس الروماني، ومعلوم أن الفقه الإسلامي مأخوذ من الكتاب والسنة والإجماع والقياس بما لا يقبل الرد، وممن قال بهذا الرأي جولدصهير المجري
20
قال: إن العرب أخذوا من الفقه الروماني، وبنى قوله على الحدس والتخمين؛ ذلك لأن العرب كانوا في الفتح، كما زعم، على حالة ابتدائية وكلهم أميون، فوجدوا في العراق والشام فقها ، وفي إدارتها الخاصة فقها فأخذوه وتمثلوه، هذا رأي جولدصهير ولم يأت عليه بدليل، بل دليله الاستنتاج العقلي الخاص، وقد قابل سعيد الخوري
21
الشرتوني الفقيه اللغوي اللبناني بين القانون الروماني والفقه الإسلامي، وبين الأصول التي استند إليها المسلمون في فقههم، فأسقط دعوى المدعين على الشرع المحمدي في مقالات له جودها، ورد بها كيد من كادوا للإسلام منذ أول ظهوره، وما زالوا على كيدهم إلى هذا القرن، وبعد أن وضح الحق في هذه المسألة لا ندري إن كان المتفيهقون يعودون بعد إلى إثارة هذه الدعوى الباطلة، شأنهم في كثير مثلها، يقولون ما يعتقدون وما لا يعتقدون بالرأي المجرد عن البرهان، ويثيرونها فتنة شعواء مجاراة لحظوظ النفس.
عقيدة القضاء والقدر
تعد عقيدة القضاء والقدر من أصول العقائد في الإسلام، وكان منها قوة المسلمين لأول أمرهم، علمتهم الجرأة والإقدام، وبعثتهم
22
على اقتحام الممالك ففتحوها: «هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات واحتمال المكاره ومقارعة الأهوال، ويحليها بحلى الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج من كل ما يعز عليها، بل يحملها على بذل الأرواح والتخلي عن نضرة الحياة»، و«الذي يعتقد بأن الأجل محدود، والرزق مكفول والأشياء بيد الله يصرفها، كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه وإعلاء كلمة أمته أو ملته، والقيام بما فرض الله عليه من ذلك، وكيف يخشى الفقر مما ينفق من ماله في تعزيز الحق وتشيد المجد»، «هذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام الأعداد القليلة منهم (أي العرب) أمام جيوش يغص بها الفضاء، ويضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن مواقفهم، وردوهم على أعقابهم، بهذا الاعتقاد لمعت سيوفهم بالمشرق وانقضت شهبها على الحيارى في هبوات
23
الحروب من أهل المغرب»، «وهو الذي حملهم على بذل أموالهم وجميع ما يملكون من رزق في سبيل إعلاء كلمتهم لا يخشون فقرا ولا يخافون فاقة، هذا الاعتقاد هو الذي سهل عليهم حمل أولادهم ونسائهم ومن يكون في حجورهم إلى ساحات القتال في أقصى العالم، يتولون سقاية جيوشهم وخدمتها فيما تحتاج إليه، لا يفترق النساء والأولاد عن الرجال والكهول إلا بحمل السلاح»، «وليس في الطوائف المسلمة من يعتقد مذهب الجبر المحض القائل بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله، مسلوب الاختيار عن نفسه بالمرة، وكلهم يعتقدون بأن لهم جزءا اختياريا في أعمالهم ويسمى بالكسب، وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم، وأنهم محاسبون بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري، ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية. وطائفة الجبرية التي انقرضت أواخر القرن الرابع من الهجرة كانت تذهب إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارا لا يشوبه اختيار، ولا يقول به أحد من أهل الإسلام اليوم، ويزعم الإفرنج أن هذه العقيدة ما تمكنت من نفوس قوم إلا سلبتهم الهمة والقوة، وحكمت فيهم الضعف والضعة، وأن المسلمين بسبب هذه العقيدة التي كان بها تجلدهم وإقدامهم لن يبرحوا عرضة للفاقة والفقر، والتأخر في القوى الحربية والسياسية، وقد فشا فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب والنفاق والخيانة والتحاقد والتباغض، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون، ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة.»
هذا غاية ما يقال في حقيقة هذا الاعتقاد، ولطالما حمل شعوبية الغرب على الإسلام بسببه، وهو اعتقاد كان من دواعي فلاح أهله في القرون الأولى وما فسدوا إلا يوم: «ابتلوا بمن فسد
24
من المتصوفة من عدة قرون، فبثوا فيهم أوهاما لا نسبة بينها وبين أصول دينهم، فلصقت بأذهانهم لا على أنها عقائد ولكنها وساوس، قد تملك الجاهل وتربك العاقل، فنشأ الكسل بين المسلمين، وعاونهم على الاسترسال فيه ملوكهم، وهذا الضرب من المتصوفة جاءهم من الآريين، أي من الفرس والهنود.»
وإنا لنرى الاعتقاد بالقضاء والقدر في مذاهب الغربيين أشد ظهورا في كتابهم منه في الإسلام، وآيات القدر في الكتاب المقدس تربو على ما ورد في القرآن الكريم من نوعها، وما نجح أهل النصرانية والإسلام في الحقيقة إلا يوم اعتدلوا في اعتقاد ما اعتقدوه، وأخذوا مختارين بالأسباب والمسببات. ومن الإنصاف أن لا نحكم على الغربيين بما نشاهد من سخافات عامتهم، وما انغمسوا فيه من اعتقاد الخرافات، ومقاومة البديهة في كل ما يرده العقل السليم، ومن حسن الذوق أن لا يحمل الغربيون علينا بعمل العوام منا، وما كان العامة يوما المعيار الذي يحكم به على أمة، ذلك أن الخاصة كانوا في كل عصر لا إلى إفراط ولا تفريط في هذه المسائل؛ لأنهم حكموا العقل وأولوا النصوص، وساروا في مسائل الدين والدنيا بروح عصورهم، ولم يخرجوا عن حدود المعقول في المنقول، وأنت ترى أن هذه العقيدة التي كانت من محسنات الإسلام، أصبحت للجهل الطارئ من مضعفاته؛ ذلك لأن أهل المجتمع الإسلامي لم يعملوا بهذه العقيدة قلبا وقالبا كما كان أجدادهم في الدهر الخالي، ولا نبذوها من أصلها فاتكلوا على عملهم فقط، والضعف يعرض لأرقى المجتمعات فيفسد الصالح، والعوارض تهجم على الأمم، ولا تزال تتوالى عليهم ما توالى الليل والنهار.
هذا، ومن تدبر الآيات الكثيرة الواردة في الكتاب العزيز في الحث على العمل، ومن ألم إلمامة خفيفة بسيرة الرسول والصحابة، يعرف أن عقيدة القضاء والقدر ما منعت المسلم يوما من تعاطي الأسباب، فقد قال تعالى:
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ،
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم ،
وسيرى الله عملكم ،
ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ،
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ،
والله معكم ولن يتركم أعمالكم ،
25
وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ،
26
نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ،
وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ،
وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ،
أني لا أضيع عمل عامل منكم ،
فنعم أجر العاملين ،
لمثل هذا فليعمل العاملون ،
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ،
وتوفى كل نفس ما عملت ،
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ،
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ،
ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ،
فأصابهم سيئات ما عملوا ،
ووجدوا ما عملوا حاضرا ،
ليذيقهم بعض الذي عملوا ،
إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ،
ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ،
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ،
سيجزون ما كانوا يعملون ،
جزاء بما كانوا يعملون ،
ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ،
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ،
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم .
تعدد الزوجات والطلاق
أصبحت بعض المشكلات التي نال بها شعوبية الغرب من الإسلام قرونا طويلة، مما لا يستنكر أمره عند الغربيين اليوم، ومن ذلك ما كان بعض مؤلفي الغرب يعدونه من جملة العوامل في انحطاط المسلمين، كالطلاق وتعدد الزوجات.
أخذ أهل المدنيات الحديثة بالطلاق في مجتمعاتهم على العهد الأخير، ولا يبعد أن يدخل عليهم بعد قليل بمقياس أوسع مما كان عند المسلمين، فإنه يتم في الولايات المتحدة الأميركية كل سنة أكثر من مائتي ألف طلاق، وفي أوروبا يبت في عشرات الألوف من هذه القضايا ولا سيما في فرنسا، وقد كان الطلاق مألوفا معروفا عند الأمم القديمة كالعبرانيين واليونان والرومان، وكان للروماني الحق أن يقتل زوجته، وكثر الطلاق في عهد الجمهورية الرومانية، ولو لم تعدل النصرانية من شرة الطلاق عند الأمم التي دانت بها؛ لظل الطلاق يقضي على المرأة إلى القرون الأخيرة.
ومن الغريب أن يصبح الطلاق اليوم عند المسلمين إلى جانب القلة، ويكثر عند من كانوا إلى أمس ينكرونه أشد الإنكار، وما فتئ يزيد مع الأيام انتشارا، أبيح الطلاق للضرورة وهو محظور في نفسه، وفي الحديث: «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات.» وفيه أيضا: «أبغض الحلال عند الله الطلاق.» وورد في آيات الطلاق ضروب من الرفق بالمرأة وأساليب في إقصاء الرجل عن الإقدام على الطلاق ما أمكن، قال تعالى:
فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ،
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ،
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ،
27
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ،
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا * فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم ،
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا .
أما تعدد الزوجات للضرورة التي أباحها الشرع بقيود، كما هو منطوق الذكر الحكيم فهو أيضا مما أخذ يخف بين المسلمين، ولا يلجأ إليه إلا للضرورة الحافزة في البوادي والقرى على الأكثر، أبيح تعدد الزوجات بشرط العدل بين الزوجات وإلا منع، قال تعالى:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة
والمراد بالعدل هنا: العدل في القسم، أي المبيت والنفقة لا العدل في ميل القلب، وهو المنفي في قوله:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل ، قال سريو وهو من المشهود لهم بحل الأحكام الإسلامية: «أجيز
28
الطلاق، ولكن وضعت له قواعد تفضل إلغاء طلاق مستعجل لم يترو فيه، ولكي يكون الطلاق مما لا يقبل الرجعة تلزم ثلاث طلقات يفصل بين كل منها قروء
29
معينة.» وقد رد لبون على الاقتصادي «لوروا
30
بوليو» يوم زعم هذا أن نظام تعدد الزوجات عند المسلمين كان من موجبات جمودهم، فقال: «إن تعدد الزوجات المشروع عند الشرقيين أحسن من تعدد الزوجات الريائي عند الأوروبيين، وما يتبعه من مواكب أولاد غير شرعيين.» وقال: «إن النساء المسلمات قد أخرجن في الدهر الغابر من المشهورات العالمات بقدر ما تخرج مدارس الإناث في الغرب اليوم.»
وما كان تعدد الزوجات في الإسلام من موجبات انحطاط أهله على ما صوره الشعوبيون، بل دعا لأول أمره إلى تكثير سواد المسلمين يوم كانوا في حاجة إليه، وكان الرجال أقل من النساء بتواتر الحروب والفتوح، وبه حفظ كيان المسلمين ، ولولاه لدثرت عدة بيوت لقلة النسل فيها، فلما رقي الزمن وكثرت مطالبه خف تعدد الزوجات بطبيعة الحال، وما كان الإسلام مبتدعا في هذا التعدد، فإن ذلك كان من المألوف عند الأمم، حتى إن موسى وداود أكثرا من الأزواج، قال لبون: «إن شيعة المورمون الأميركية القائلة بتعدد الزوجات لم يمنعها اعتقادها هذا من الارتقاء، ومن منتحليها من يتزوج عشر نساء، وقد كان البرتستانت هناك حاربوها إبان ظهورها حرب إبادة وتدمير، فهرب من دانوا بالمورمونية إلى ولايات أخرى، ونشأت لهم في خمسين سنة مدنية زاهرة، وأسسوا بكدهم في أرض كانت قفراء ممحلة ما يغبطون عليه من الصناعات الراقية، والزراعات المتقنة، والمعامل والمصانع، والمدن الزاهرة.» ولقد سئلت إحدى نساء المورمون عن رأيها في تعدد الزوجات، فقالت: «أفضل أن أكون المرأة العاشرة لرجل سام بمداركه على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل متوسط.»
وقال لبون
31
أيضا: «ما جاءت العرب في تعدد الزوجات بأمر بدع؛ فقد كان هذا الزواج شائعا قبل الإسلام عند العرب واليهود وغيرهم من أمم الشرق، دعت إليه ضرورة الحياة عندهم، وضرورة الهواء والعنصر، وأمور أخرى في حياة الشرقيين، فإن تركيب جسم المرأة، وضرورة الولادة والأمراض وغيرها تضطرها أحيانا أن تبتعد عن زوجها، وأصبح من المتعذر تحت سماء الشرق وفي هواء مثل هوائه، ولمزاج المشارقة الخاص، الصبر على هذا البعاد، فغدا زواج اثنتين ضربة لازب،
32
وفي الغرب يتطلب المناخ من أهله أقل من ذلك. والزواج من واحدة مذكور في قوانين الغرب فقط، وقل أن كان محتفظا به في الأخلاق، ولماذا كان الضر الشرعي عند الشرقيين دون الزواج بواحدة عند الأوروبيين، على ما فيه عند هؤلاء من النفاق والرياء؟ ونحن نعرف مكانة الزوجين وأهواءهما، ثم إن الشرقيين يرون الاستكثار من النسل ويحبون عيش الأسرة والبيوت، وما عرف عنهم من الشعور بالعدل لا يسمح لهم أن يتخلوا عن المرأة الشرعية التي لم ترقهم، كما هو الشأن في الغرب؛ ولذلك وافقت الشريعة على ما كان راسخا من هذا القبيل في الأخلاق، ولا يبعد أن تقر قوانين أوروبا الضر ذات يوم كما هو في الشرق لسرايته إلى الأخلاق. ثم إن من البيوت القائمة على الزرع والضرع في الشرق ما يضطر صاحبها إلى التزوج من ثنتين، وقد يكون ذلك بإلحاح من الزوجة الأولى لضعفها وحدها عن تعهد شئون البيت والزراعة، يضاف إلى هذا غرام الشرقيين بالإكثار من النسل، وعدهم من الشقاء أن لا يولد لهم أولاد، ومنهم من يتزوج لهذا الغرض.
إلى أن قال: إن المنافسة والحسد لا شأن لهما في هذا الزواج من ثنتين، فأكثر أوهامنا الأوربية تقنعنا، ولا شك، بأنه من المتعذر أن تكون الحال كذلك، ولا نستحسن هذا؛ لأننا نراه من المستحيل، وما ذلك إلا لأننا نعقل أبدا بعواطفنا، ولا نحاول أن نتمثل عواطف غيرنا، وفي بضعة أجيال تزول أو تقوم بعض الأوهام، فعلينا أن ندرك كم تغير رأينا في هذا الموضوع، عندما رجعنا إلى العصور الابتدائية للمجتمعات، وقد كانت فيها النساء مشتركات بين أفراد القبيلة الواحدة، أو إلى العصور الأقرب منها وإلى أيامنا، حيث نجد هذه الأخلاق محفوظة في بعض أنحاء الهند، يكون للمرأة الواحدة عدة أزواج من أسرة واحدة، قال: ولم يقتصر الإسلام على الاحتفاظ بالضر الذي كان شائعا عند العرب، بل أثر تأثيرا حسنا في حالة المرأة ورفع من شأنها، وحسن من حالتها الاجتماعية، فقد رأينا القرآن رفع مقام المرأة أكثر من كثير من قوانيننا الأوربية، وخير طريقة لنقدر قدر التأثير الذي أحدثه الإسلام في تحسين حالة المرأة في الشرق، أن نبحث عما كانت عليه حالها قبل القرآن.»
ثم أورد من الكتاب العزيز الآيات الآمرة بالتوصية بالمرأة وتوسع في بحث أخلاق المسلمين، وفي أن تعدد الزوجات والاعتقاد بالقضاء والقدر لم يكونا السبب في تأخرهم، فقال: إذا أريد البحث في أخلاق أمة لا يكتفى بالبحث في دينها فقط؛ لأن تعاليم الأديان كلها طيبة من حيث الأخلاق، ولو طبقت بحذافيرها لانبسط على الأرض ظل العصر الذهبي، والطريقة المتبعة في مبادئ الأديان تختلف بحسب المحيط والعصر والعنصر وبأسباب أخرى كثيرة؛ ولذلك كانت الشعوب المختلفة وهي تدين بدين واحد، ذات أخلاق متغايرة على الغالب، وهذا ما ينطبق على جميع الأديان المعروفة، ومنها دين المسلمين، فإن قواعد القرآن في الأخلاق تامة، ولكن تأثيرها مختلف بحسب العناصر والبيئات والأجيال. ولقد كانت أخلاق العرب في أوائل الإسلام أرقى من جميع الشعوب التي كانت تعيش لذاك العهد ولا سيما النصارى؛ وما ذلك إلا لأن عدلهم واعتدالهم ورفقهم وسماحتهم مع الأمم المغلوبة، وحرصهم على مراعاة عهودهم، وما امتازوا به من الأخلاق العالية، كل ذلك كان مما يتجلى في صورة مدهشة تناقض سيرة الأمم الأخرى، ولا سيما الأوروبيون على عهد الحروب الصليبية.
قال: وإذا أردنا أن ننسب إلى الدين التأثير الذي ينسبونه إليه في العادة، وجب علينا أن نقول: إن أدب القرآن كان أرقى من أدب الإنجيل؛ لأن من دانوا بالإسلام من الشعوب كانوا أعلى أدبا من النصارى، وأدب المسلمين مختلف اختلاف أدب النصارى بحسب العوامل الكثيرة التي عددناها: كان عاليا كثيرا في بعض العصور، ومنحطا للغاية في الأخرى، إن طول عهد الأتراك وما حملوه إلى الناس من أحكامهم السياسية قد حط من أخلاق الشرقيين الذين خضعوا لهم، وكانت أهواء الرؤساء والمرءوسين القانون الوحيد في كل بلد حلوه، والمرء عرضة لجور صغار الظالمين ممن لا يطمعون إلا بأن يغتنوا باستلاب الناس، لا عدل يرجى، ولا شيء ينال بغير الرشوة والمال، فالأخلاق الحاضرة في الشرقيين، ممن قدر لهم أن يخضعوا لحكم تركيا هي بالضرورة منحطة، والقرآن بعيد عن هذا الانحطاط، كما أن الإنجيل غير مسئول عن الانحطاط المماثل له الذي صارت إليه الشعوب النصرانية العائشة في ظل ذاك الحكم أيضا، ومما تقدم يتجلى فساد الرأي الشائع في أوروبا من أن دين محمد أدى ببعض الشعوب الشرقية إلى هذه الدرجة من الانحطاط في الأخلاق التي تحلوا بها، ومثل هذا الرأي هو نتيجة تلك السلسلة من الأوهام، ومنها أن القرآن قال بتعدد الزوجات، وأن الاعتقاد بالقضاء والقدر الذي هو من أحكامه يؤدي بالناس إلى الخمول، وأن محمدا لم يطلب ممن يدينون بدينه إلا القيام بفروض سهلة على الاستعمال، وهذا من الأغلاط التي تسقط بالبداهة، فقد رأينا تعدد الزوجات شائعا في جميع الشرق قبل بعثة محمد بقرون، وأن القرآن لا يدعو إلى الاعتقاد بالقضاء والقدر أكثر من الكتب الدينية الأخرى، واعتقاد العرب بهذا لم ينزع من نفوسهم حب العمل، فقد رأيناهم أنشأوا مملكة عظمى، وأحكام القرآن في الأخلاق هي في الذروة العليا كسائر الكتب الدينية.
قال: وإذا ثبت أن القرآن هو الذي أخر المسلمين في الشرق، فعلينا أن نثبت أنه كان على الشرقيين الذين لا يقولون بتعدد الزوجات، ولا بالقضاء والقدر كالنصارى في سورية مثلا أن ينجوا من هذا الانحطاط، على أنني لا أعرف مؤلفا درس الشرق قليلا، إلا وهو مضطر إلى الاعتراف بأن النصارى في الشام هم أحط أخلاقا من المسلمين. وبعد، فقد آن لنا أن نقول: إن أدب القرآن هو مثل أدب غيره من الأديان، وإن الشعوب الخاضعة لسلطانه قد اختلفت أخلاقهم كل الاختلاف، مثل الشعوب الخاضعة لشريعة المسيح، بحسب العصور والعناصر، وكانوا عرضة لعوامل ما كانت فيها قواعد الدين هي العامل الأكبر، وأهم ما يستنتج مما تقدم أن التأثير العظيم الذي أثره القرآن في الشعوب الخاضعة لأوامره، قلما أثره دين في نفوس منتحليه، وربما لم يكن لدين من تأثير دائم كما كان للقرآن، وما القرآن إلا القطب الحقيقي الذي تدور عليه الحياة في الشرق، ونرى تأثيره في عامة أعمال الحياة. ا.ه.
الحجاب
ربما كانت أهم مسألة يحمل بها اليوم على الإسلام شيوع الحجاب في المسلمات عند سكان بعض المدن الإسلامية، ويدعي الشعوبيون المحدثون أن الضعف المستولي على بعض الممالك أتى من تحجب المسلمات؛ لصده لهن عن مشاركة الرجال في مضمار الحياة العقلية والمادية، وأن الحجاب أهاب بهن إلى حياة الكسل، وحبب إليهن البهيمية، فانحطت البيوت، وفقدت العناية بتربية البنين والبنات، وهكذا تسلسل الانحطاط في أهل الإسلام بهذا السبب الذي جعل المرأة أداة عبث ولهو للرجل، على حين خولتها الطبيعة حقوقا حال الحجاب دون التمتع بها، وضيقت الشريعة خناقها فتعطل نصف الأمة عن الجهاد في المجتمع.
هذه خلاصة دعواهم ، وقد وضع القرآن قانونا للنساء في الآداب والحشمة والابتعاد عن التبذل والتبرج إلى غير ذلك مما فيه سعادة البيوت وهناؤها، والبعد بالمؤمنين والمؤمنات عن عادات الجاهلية الأولى، وسن لنساء الرسول خاصة سنة التستر حتى لا يؤذين، ولا يدخل عليهن وعلى الرسول بدون استئذان، على ما كانت عادة العرب بل الأعراب يأتون ذلك بخشونة يأباها العقل السليم، وتقضي بخلافها قواعد حسن العشرة في المجتمع الجديد:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم * ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ،
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما .
33
والآية الأولى ظاهرة المعنى، ومعنى الثانية: الحظر على المؤمنين أن يدخلوا بيوت النبي وعلى أزواجه للطعام والتحدث أو غير ذلك إلا إذا أذن لهم ودعاهم إلى طعام حاضر ناضج لئلا يطول مقامهم بحضرته، وأمروا إذا طعموا أن يخرجوا وإذا سألوا شيئا أن يسألوه من وراء الستر؛ لأن الرسول كان يتأذى بمن كان يطعم ولا يستأذن في الخروج، وأنه لا يجوز نكاح نساء الرسول من بعده؛ لأنهن أمهات المؤمنين.
كان نساء النبي يخرجن بالليل
34
لحاجتهن، وكان أناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين، فشكون أمرهن فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه الآية:
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما ، فأمرن أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمر المرأة وجهها إلا إحدى عينيها، وجاء في آية أخرى:
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ،
35
وفي هذه الآية إشارة إلى التستر وإلى من يسوغ له أن يرى المرأة بزينتها من أهلها، وفسر المفسرون وليضربن بخمرهن على جيوبهن أن يسترن الرءوس والأعناق والصدور بالمقانع،
36
وقالوا: إن الشريعة أباحت للمرأة أن تظهر وجهها وكفها بل وذراعيها وقدميها، وبكشف الوجه لا يجوز أن نقول: إن هناك حجابا بالمعنى الذي فهمه المتأخرون، ومعنى ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، أي لا يظهرن حركات من شأنها أن تشعر الرجل بأن هذه المرأة متحلية بحلي وخلاخيل وغيرها.
ومن آيات الحجاب:
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ،
37
والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم .
38
هذا هو الحجاب في الإسلام، أما في الأمم القديمة السالفة فقد كان شائعا منذ أقدم العصور في بابل وأشور وفي فارس والروم والهند، وعند بعض أهل الجاهلية من العرب، فاحتفظ الإسلام بالقسم المفيد منه، وقد شعر المسلمون بالحاجة إلى حجب النساء بعد أن استحكمت عوائد الحضارة والترف؛ وذلك خوف الفتنة وصيانة للمرأة ممن يؤذيها فيؤدي ذلك إلى خلل في نظام البيوت، فاشتدت مع الزمن وطأة الحجاب في الشام والعراق وفارس لتأصله فيها منذ القديم، ثم سرى إلى معظم الأقطار الإسلامية، وهذا في المدن خاصة، واختلف الحجاب باختلاف البلاد؛ فمنها ما كان فيه متأصلا قبل الإسلام، ومنها ما لا عهد لها به فكان خفيفا كما هو الحال في بلاد القوقاز، والبنت فيها لا تحجب إلى اليوم ما دامت عانسا غير متزوجة، وقد وصف ابن بطوطة في رحلته زيارته للسلطان محمد أوزيبك في مدينة استرخان، وذكر كيف كان النساء سافرات في قصره،
39
مما دل على أن التتر أقل من العرب أو الذين دخلوا في العرب المستعربة في الأخذ بمذاهب الحجاب، والسبب فيه أن التتر أو جنس الترك أقرب إلى البداوة منهم إلى عيش الحضارة، وتحجب التتر إلى اليوم لا يعد شيئا؛ ولذلك كان نساء الأتراك العثمانيين أقل نساء السلطنة تحجبا؛ لأن التركيات منذ الدهر الغابر لا يعرفن الحجاب، فكان استعدادهن ظاهرا منذ القديم لقبول الأتراك مبادئ الكماليين اليوم؛ القائلة برفع الحجاب بالمرة على صورة أشد مما هو عند الفرنج. «والواقع أن الحجاب هو وليد العادات أكثر مما هو محصول الدين، والحجاب
40
حادث في بدء تأخر الأمم الإسلامية، ثم تأكد وثبت منذ أصدر المتوكل والقادر بالله العباسي أوامرهما بمنع النساء من الصلاة في المسجد ومخالطة الرجال في الحفلات والاجتماعات.»
ولو كان الحجاب معروفا أوائل الإسلام على نحو ما صار إليه في العصر الأخير والذي قبله، لما تيسر للصحابيات والتابعيات وغيرهن من نساء العرب أن يصحبن أزواجهن في الحروب، وكان من نساء المسلمات الممرضات يسلمون إليهن الرثيث أو المرتث، ولطالما غزا الرسول بالنساء يداوين الجرحى ويحذين
41
من الغنيمة، ومنهن الداعيات المحمسات والمعاونات للمحاربين على تخفيف شظف العيش، ومنهن من كن يبرزن سافرات كسكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة وغيرهما على ما اشتهر من جمالهن، يجتمعن إلى الرجال من غير نكير،
42
وعائشة زوج الرسول هل كان يتأتى الأخذ عنها وعن غيرها من نساء الرسول وغيرهن لو كان النساء محجبات بغير الحجاب الشرعي، أي ظاهرات الوجه والكف وربما الذراعين والقدمين.
وفي تاريخ الإسلام عشرات من الأمثال والحجج يمت بها السفوريون المتعدلون وهم لم ينسوا أن من النساء من كن يحاربن بالفعل أو يجلسن وراء الجيش يحمسن الرجال، فإذا ولى أحدهم من الزحف ينهلن عليه بالضرب والتقريع، وما فات القائلين بالحجاب أن تستر المرأة في القديم كان على حالة يرضاها الشرع ولا يأباها المجتمع، فما منع نساء المسلمات من أخذ العلم والسعي للرزق والرحلة والتنقل والعمل على ما فيه السعادة الزوجية والبيتية بما لم يخرج المرأة عن طبيعتها إلى طبيعة أخرى لم تخلق لها وليس لها الاستعداد الكافي للقيام بها.
وبهذا عرفنا أنه كان للحجاب صورة أخرى مثل التي نراها اليوم في القرى والبوادي، وفي الحقيقة أن الشريعة حظرت الخلوة بالأجنبي والتبرج أمام غير المحارم، وأي عقل سليم لا يستحسن هذا منها، وهل أعظم في باب المغريات من تبذل المرأة في خلوتها بالغريب وظهورها بمظهر من الزينة ناب عن المعقول وقانون الحياء؟ ولو كان الحجاب غليظا كما يصوره بعضهم بحيث كان مانعا للمرأة عن العمل، هل كنا نرى هذا العدد الدثر في التاريخ من النساء المتعلمات والمحدثات والواعظات والأديبات وغيرهن منذ عهد الصحابيات إلى اليوم؟ وهل كنا نرى نساء كثيرات ساهمن الرجال في إدارة الممالك؟ أو ساعدن أزواجهن على أعمالهم العظيمة، فكان شطر من توفيق الرجال يحسب لأزواجهن المتعلمات.
روى الجاحظ قال: لم يزل الرجال يتحدثون مع النساء
43
في الجاهلية والإسلام حتى ضرب الحجاب على نساء النبي خاصة، وأن النساء إلى عهده من بنات الخلفاء وأمهاتهم فمن دونهم يطفن بالبيت مكشفات الوجوه، ونحو ذلك لا يكمل حج إلا به.
قال: ولا يكون محادثة إلا ومعها ما لا يحصى عدده من النظر، إلا أن يكون عني بالنظرة المحرمة النظر إلى الشعر والمجاسد
44
وما تخفيه الجلابيب مما يحل للزوج والولي ويحرم على غيرهما، ثم لم يزل للملوك والأشراف إماء يختلفن في الحوائج ويدخلن في الدواوين ونساء يجلسن للناس ، وذكر أسماء كثيرات منهن، وقال: كن يبرزن للناس أحسن ما كن وأشبه ما يتزين به، فما أنكر ذلك منكر ولا عابه عائب.
لا جرم أن عادة الحجاب قد نفعت وأضرت في بعض الأقطار في العهد الأخير لخروج الحجاب عن حقيقته؛ فارتكبت باسمه موبقات مؤلمة وأخر سير المرأة في مضمار الترقي فضاعت الحكمة منه أو كادت، وقد عالج هذه المسألة الاجتماعية الخطيرة بعض علماء الأمة في أوائل هذا القرن وفي مقدمتهم قاسم أمين فأخذته الألسن، ولغطت بما كتب وتعاورت الأقلام ما كتبه بالجرح والتعديل، ونجح الفريق الذي قال بقوله إلى حد لم يكن يتصوره؛ وذلك لإثبات قضيته بالحجج المستعارة من الشرع وتاريخ الملة، على أن تيار القائلين بكشف الحجاب قد فاض بفعل المدنية الحديثة، بل بفعل الطبيعة التي لا تبقي إلا على الأنسب، وقد أزال الأتراك حجاب نسائهم بقانون سنوه وعملوا به، وكاد الحجاب عن المصريات يزول، بدون أن تعمد مصر إلى تشريع جديد، أو تلجأ إلى الشدة والضغط، ونشأ ذلك من اختلاط الشرق بالغرب، وأهل مصر من أكثر الأقطار الإسلامية اختلاطا بأهل الغرب، وقد رأى المستنيرون منهم بقبس الحضارة الحديثة، أن مضار السفور أقل من مضار الحجاب، فاختاروا طوعا أو كرها أخف الشرين، وهكذا تعمل بلاد إيران اليوم فيغضي القائمون بالأمر فيها عن السافرات في المدن ولا يمضي زمن طويل حتى يزول الحجاب أو يدخله تعديل كثير في معظم البلاد الإسلامية، فيصبح النساء في تحجبهن إلى حالة وسط لا إفراط فيها ولا تفريط.
وقد رأى قاسم أمين نفسه، وحقا ما رأى، أن الغربيين
45
قد غلوا في إباحة التكشف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصون المرأة من التعرض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياء، وقد تغالينا نحن في طلب التحجب والتحرج من ظهور النساء لأعين الرجال حتى صيرنا المرأة أداة من الأدوات أو متاعا من المقتنيات، وحرمناها كل المزايا العقلية والأدبية التي أعدت لها بمقتضى الفطرة الإنسانية، وبين هذين الطرفين حجاب وسط وهو الحجاب الشرعي. ا.ه.
قال هملتن من علماء الإنجليز: «إن أحكام الإسلام في شأن المرأة صريحة في وفرة العناية بوقايتها من كل ما يؤذيها ويشين سمعتها، ولم يضيق الإسلام في الحجاب كما يزعم بعض الكتاب، بل إنه تمشى مع مقتضيات الغيرة والمروءة.»
وبعد، فليس من المعقول ما وصلت إليه أكثر نساء الغرب من التبذل في السفور، وحالتهن في المجتمعات والسمر والشوارع مما لا ينطبق كثيرا على المعقول ويخشى منه الفتنة، والرجل رجل مهما تهذب، والمرأة امرأة مهما ارتقت، بيد أن عادة ألفها الغرب قرونا وأدخلها في مجتمعه مختارا، ليس للشرق الإسلامي ما يوجب عليه السير فيها على أثره، فما يلائم الغرب قد لا يلائم الشرق، وما كان لأمة أن تتحدى أمة أخرى لها مميزاتها وعاداتها، لتحملها على قبول ما اصطلحت هي عليه، والحجاب نفسه قد كان مألوفا في الغرب إلى القرن الثالث عشر، ثم أخذ يرق حتى وصل إلى ما وصل إليه.
وما نخال عقلاء الغرب وعلماء الأخلاق في أوروبا وأميركا إلا مقبحين عادة التبذل التي صار إليها بعض النساء عندهم، لما ينبعث عنها من المفاسد الاجتماعية التي لا يسع مكابرا إنكارها، وأي عقل سليم تجرد من المؤثرات يقول مثلا بالرقص الغربي، وما يتبعه من مخاصرة وضم وشم، وإذا كان الرقص فنا من الفنون كما يقولون، ليس فيه ما يدعو إلى مواقف التهم، فلم لا يرقص الرجل مع الرجل والمرأة مع المرأة، على حين جعلوا من أمهات قواعده أن يرقص الرجل مع المرأة إلا ما ندر، ولولا ابتذال الحجاب والتفلت من التصون المحمود، هل كانت تبلغ الفتنة إلى هذا الحد؟ ومن أجل هذا رأينا بعض المدن الأوربية ثابت إلى رشدها فكبحت بعض الشيء من جماح الجامحات في هوى السفور، ومن الأمم من كثر فيها مذهب العري، وتناغى في فائدته الجنسان على صورة لا يجوزها عقل إنسان؛ لأنها تقرب الآدميين من جنس الأعجم من الحيوان.
وفي الغرب اليوم كثير من العلماء ينادون بالويل والثبور لترك النساء البيوت واختلاطهن بالرجال في المعامل والمصانع ، ولا سيما بعد الحرب العامة، فقد قال برتراند
46
رسل: إن الأسرة انحلت باستخدام المرأة في الأعمال العامة، وقد أخذ النساء في الحرب يكتسبن رزقهن فاستقللن استقلالا اقتصاديا، وأظهر الاختبار أن المرأة تتمرد على تقاليد الأخلاق المألوفة، وتأبى أن تظل أمينة لرجل واحد إذا تحررت اقتصاديا. وقال صموئيل
47
سميلز: إن البنات العاملات في المعامل حرمن التبصر وسلامة الرأي، فهن سريعات الشعور بالاستقلال، ينبذن ما لآبائهن من النفوذ عليهن، ثم يغادرن بيوتهن وينهمكن فيما ينهمك فيه إخوانهن من الرذائل، وتساعد البيئة التي يعشن فيها على تحريك شهواتهن البهيمية فيكن سببا في نشر الفساد والشر، وقال أحد علماء البلجيك:
48
ولقد شوهد في كل زمن أن النساء عندما تتهيأ لهن الأسباب للانتفاع بمواهبهن ولإحراز الشهرة، لا يلبثن أن يصبحن مستخفات - كالرجل نفسه - بمزية الطهارة والشرف القائلة بالعفة التي اختص بها النساء قديما وحديثا، وإن من الملكات والممثلات والمؤلفات وذوات الأعمال في القديم من عبثن بالعفاف.
الاسترقاق
لشد ما أنحى أرباب الأهواء على الإسلام لتجويزه الاسترقاق، مع أنه كان شائعا كل الشيوع عند الأمم الغربية
49
وعند جميع الأمم القديمة، بل إن الرق نشأ مع حياة الإنسان،
50
وكان معروفا في كل العصور وعند كل الأمم إلى يومنا هذا. قالت فاليري: وحاول أعداء الإسلام أن يحطوا من قدره لإقراره الرق، ولكن حالة الرقيق عند المسلمين باديهم وحاضرهم هي أكثر سماحة مما يظن في أوروبا، على ما أجمعت عليه كلمة السياح الغربيين، وليس من العدل أن يقابل بين الرق في الشرق وما هو عليه في أميركا، قالت: وإذا نظرنا إلى هذا الأمر نظرا تاريخيا نرى رسول الله قد تفوق أيضا في هذا الباب بصورة عجيبة، واستشهدت بحديث: «لا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي وغلامي.» قالت: وأي إنسانية أحسن من هذه.
كان الرق معروفا في شريعة موسى، وكان يسترق العبد سبع سنين، ثم يعتق ويعامل بالحسنى، وأعطى الرومان للمسترق حرية مطلقة على عبده، يميته ويحييه إن أحب، وربما بلغ عدد الرقيق في بعض أدوار الرومان ثلاثة أرباع الأحرار، ولا يسترق العربي وما المسترق إلا من كان غير عربي، أو أخذ بالشراء أو في الحرب، وقد حبب الإسلام العتق للمالك، أي فك رقبته، ووعده العفو إذا هو أطلق سراح عبده وأمته. وفي الكتاب والسنة آيات وأحاديث كثيرة في الاسترقاق والعطف على الرقيق وحسن معاملته، حتى كاد الرقيق يعد نفسه من الأحرار، وأهم جزء في البيت الذي استرقه، والمسلمون يعاملون الرقيق كما يعاملون أنفسهم، يوسعون عليه، ويعلمونه ويثقفونه، ويرفعون منزلته، ويزوجون الرجل، ويتزوجون الأمة، تعجيلا لإنقاذهما من الرق، وعد الكتاب العزيز من القربات العظمى تحرير رقبة، وما ملكت الأيمان؛ ذلك لأن البلية كانت قد عمت وطمت العالم بالرقيق، ففتح الإسلام مخرجا لمن قضى عليه سوء طالعه أن يقع في يد من يبيعه، وكان للنخاسة في الشرق والغرب ولا سيما في بلاد اليونان والرومان سوق وأي سوق، وكان النخاسون في رومية يصاحبون الجيش الروماني يسترقون أولاد المغلوبين لاستعبادهم، وتعريض نسائهم للجند يقضون أوطارهم منهن.
يقول وستر مارك: «إن المؤرخين في الغرب بالغوا كثيرا في زعمهم أن الكنيسة عاملت الرقيق برفق، فقد جاء القرن الثالث عشر وللسيد على عبده الحق المطلق في إحيائه وإهلاكه، وكان يباع في جميع بلاد النصارى، كما تباع السلع، قال: وكانوا يمنعونه من تعلم القراءة والكتابة ويعاقب من يخالف ذلك عقابا شديدا؛ لأن الناس يستفيدون من جهله؛ لأنه لا يعمل ما يراد به إذا تعلم.»
كثر الرقيق أوائل الإسلام بكثرة الفتوح، ومن الإماء من استولدهن كبار العرب فجاء منهن أولاد نجباء خدموا الإسلام وأدخلوا في العرب دما جديدا بتمازج عنصرين مختلفين،
51
وبعد، فإذا أعتق المالك عبده يبقى له الولاء عليه أو عليها، وهذا ما نفع المعتق والمعتق، حتى قال الرسول: «إن الولاء لحمة كلحمة النسب.» ويكون الرقيق غالبا من الروم والفرس والحبشة والسودان وغيرهم من الأمم المجاورة لجزيرة العرب والتي حاربت العرب، ومن هؤلاء الموالي من دان بالإسلام، أو من ضرب عليه الرق، ثم أصبح مولى، وكثير من أبناء الأسرى الذين رباهم المسلمون وعلموهم القرآن والسنة شاركوا الصحابة وكبار التابعين من العرب في العلم والتعليم، ولم يوجد مصر إلا وفيه من الموالي المتعلمين عدد وافر، ومن الأمصار ما كانت الغلبة فيه للموالي أكثر من فقهاء العرب.
كان المولى عند العرب في المنزلة دون الحر الصريح، وفوق العبد الرقيق، والمولى مولى عتاقة ومولى تباعة، فمولى العتاقة هو الذي يكون عبدا أو أسيرا فيعتقه صاحبه، فيصبح المعتق للمعتق مولى، ومولى التباعة هو من يصطنع ويحالف أي يستتبع، وفي كتب الفقه فصول ضافية قلما تقرأ اليوم إلا للاطلاع على أحكام الرقيق قبل أن تقوم إنجلترا في القرن الماضي فتنفق عشرين مليونا من الجنيهات لتعتق في مدة قصيرة سبعمائة وخمسين ألفا من هذا الصنف المظلوم من البشر، هذا غاية ما يقال في الرقيق في الإسلام، وهي مسألة كان لها شأن عظيم في كل مجتمع وحشي ومتمدين، وفي بعض البلاد في إفريقية وآسيا التي قضى عليها أن ينزلها الغرباء مستعمرين اليوم شيء يشبه هذا الرقيق ولكن بأسلوب آخر، كأن يتملك الأبيض الأسود أو الأحمر امتلاك السيد عبده، ليشغله في أرضه ومعمله، ويصرفه على هواه، ولكنهم يسمون هذا استعمارا لا استرقاقا.
ولا يسعنا ونحن في موقف المؤرخ إلا أن نشير إلى ما ينزله الجنس الأبيض من الإنجليز والألمان والفرنسيس والإيطاليين والبرتقاليين من أنواع العذاب في الجنس الأسود في إفريقية؛ فقد جرد الإنجليز جنسا من الرعاة اسمهم الماتبليون من قواهم المادية، بما أرادوهم عليه من التوقيع على معاهدات راغ فيها الذين أملوها كما تروغ الثعالب، أملوها على شعب فطر على السذاجة وسلامة القلوب، ومن هؤلاء البيض من يغالون في تدخلهم ببلاد شعوب لا تستطيع الدفاع عن نفسها؛ وذلك للرغبة في تملك الثروات الطبيعية والأخذ بكل حيلة للتسلط والتوسع، وتاريخ الكونغو البلجيكية والكونغو الفرنسية يذكر بأبشع ضروب الاستثمار وأفجع أساليب الاستعباد، فقد اعتاد الأوروبيون بعد أن يصادروا الوطنيين في أملاكهم أن يطالبوهم على صورة ضرائب بتسليم عصارة المطاط (الكاوتشوك)، وكان الوطنيون يقايضون عليه من قبل بالسلع الأوربية، فعمد الغربيون لأجل استخراج كمية أوفر من هذا العصير الثمين إلى أساليب من إرهاق الزنوج البائسين هي العذاب بعينه.
يستحلون ضربهم وتعذيبهم وحجر أموالهم واستباحة نسائهم وإجاعتهم، فنتج من ذلك أن ركن السكان إلى الهجرة، فخلت البلاد من أهلها - قاله أدمون دي موريل الإنجليزي في كتابه «ألم الجنس الأسود
The black man’s burden ».
ولقد قال أحد المبشرين الإنجيليين:
52 «إن الأوروبيين قد جنوا على السلالة السوداء جنايات كثيرة لا مندوحة لهم عن التكفير عنها، فانقرضت أكثر أمم المونغوي والفالوة والنكومي وغيرها بما أتاه من الحيف فيهم النخاسون البيض، وكانوا يصطادون أبناءهم ويستعبدونهم ويبيعونهم، وكان أكثر أرباح التجار البيض من تجارة السلاح والبارود والمسكرات، فانقرض سكان البلاد بذلك بما فشا فيهم بواسطة الأوروبيين من الفجور.» ا.ه.
وما أرحم الرقيق القديم بالقياس إلى هذا الرق الفظيع في القرن العشرين.
المسكرات
تدرج الشارع في النهي عن الخمر، وقد سئل عن الخمر والميسر، فأجاب بلسان القرآن:
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ، ثم نهى المؤمنين عن الصلاة وهم سكارى:
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ثم جاءت آية النهي المؤكد:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ، وعن أنس: لقد أنزل الله تحريم الخمر وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر.
وكان تعاطي الخمر من عادات الجاهلية التي لم يقرها الإسلام، وهناك عادات كانت مألوفة أبقاها بحالها، وحرم أشياء من المأكولات لثبوت ضررها، فقال تعالى:
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب ،
53
وفي الحق إن القول بصلاح المسكرات وعدمه لا يحتاج إلى مناقشة بعد أن ثبت لأمم الغرب أنها ضارة، وأخذت تقاومها بكل حيلة لما عرف من إضرارها بالعقول والأجسام والمجتمعات، حتى قال كليمانسو من كبار ساسة فرنسا: «إن الغول (الألكحول) بالكمية التي يتناولها كثير من معاصرينا هو سم زعاف يخرب النشاط البشري بل يقضي على كل مجتمع.» وقال هريو:
54 «إن معظم من في ملاجئ المجانين - بسبب الغول - يكلفون الحكومة نفقات باهظة كان الأولى بها أن تنفقها على المعوزين البائسين، والأمة التي تبقي على هذه السخافات تحكم على نفسها بالفناء.»
ومن غريب الآراء التي قال بها أحد علماء الأميركان قوله: «إن المسلمين
55
كانوا أيام تعاطيهم الخمور تزهر مدنيتهم، وتأتي بأعمال جليلة في الفتوح والأفكار، والمسلمون أبناء شعوب تشرب الخمور، وقد اشتهرت بالفاتحين منهم في إسبانيا خمور ملقة وشريش، ولما استبدل المسلمون القهوة بالخمور في القرن الخامس عشر، سقطت الحضارة الإسلامية من شاهق مجدها، بعد ثلاثة قرون مضت على إبدالهم الغول بالقهوة.»
ولا شك أن هذا الرأي صادر عن رجل أولع بحب الخمرة، وشق عليه أن يرى أمته تحظر في بلادها تعاطيها لما ثبت لها من إضرارها بالناس، وأي إيغال في الخيال، وتضليل للعقول، وإفساد للتاريخ، أعظم من أن يدعي هذا المؤلف أن كل حضارة قامت في الأرض تمت على أيدي شعوب تشرب الخمور ومنهم المسلمون، وأن يزعم أن هؤلاء كانوا أرقى كعبا في الحضارة لما كانوا يعاقرون الخمرة، مع أن الثابت في القرون الأولى للإسلام أن أهله كانوا أقل شربا للمسكرات، بل إن من أهل الجاهلية من صانوا أنفسهم عن تعاطيها حفظا لمروءتهم؛ ولذلك اشتد العرب يوم قيام دولتهم بالإسلام في إقامة الحدود على الشاربين، وما نتلوه من أخبار مجالس الشراب في قصور بعض الأمراء والخلفاء والعظماء مبالغ فيه، بل منه الموضوع بلا جدال، وقد لا يقصد منه إلا النادرة، أو الحط من قدر ملك أو خليفة أو أمير أو كبير؛ لأنه كان من أهم المطاعن في إنسان كونه يتعاطى شيئا من مذهبات العقول، والظاهر من مضامين التاريخ الإسلامي أن من ابتلوا من الأمراء والسلاطين بشرب الخمور، واسترسلوا في بلائهم، كان منها زوال دولتهم، وانقضاء أيام سلطانهم، بما نال أعداؤهم منهم لكونهم ما قدروا وهم شريبون خميرون أن يجعلوا لأعمالهم وأقوالهم وزنا، وشغلوا بأنفسهم أي بسكرهم، وألقوا الأعمال على عاتق من ائتمنوهم فخانوهم.
وإذا كان تعاطي أقداح الراح يؤدي كما قال المؤرخ الأميركي إلى تأصل الحضارة في الأمة، وقيام أمرها على أمتن الدعائم، فما بالنا لا ندعو إلى الخمور نشربها حتى نستعيد حضارتنا السالفة، ولا نأتي ما أتته أميركا اليوم من هذا الترتيب الجاف كما يدعونه، أي الذي يدعو إلى الامتناع عن الغول مهما كان نوعه، وننجو بذلك من العار في احتساء القهوة السوداء، مستعيضين عنها بالقهوة الحمراء والبيضاء والدكناء والصفراء!
هذا الأميركي يشتط هذا الشطط في التغني بتأثير الخمور في إنهاض الأمم من كبوتها، وهو من جلالة القدر على ما ظهر لنا من كتابه بحيث يستغرب بروز مثل هذه الآراء من مثله، وبنتام الإنجليزي
56
يقول في القرن الماضي: «النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الرجل كالأبله، وفي الأقاليم الجنوبية يصيره كالمجنون؛ ففي الأولى يكتفى بالمعاقبة على السكر على أنه عمل سيئ، وفي الثانية يجب منعه بطرق أشد؛ لأنه شبيه بالتشرد، ولقد حرمت ديانة محمد جميع المشروبات المسكرة، وهذا من محاسنها.»
وقال القس إسحق طيلر الإنجليزي خلال كلامه على انتشار الإسلام في إفريقية: «إن الإسلام حيث سار تسير معه الفضائل؛ فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة والإقدام من جنوده وأنصاره.» وقال: إنه يأسف لانتشار السكر والفحش والقمار بين السكان بانتشار دعوة المبشرين بينهم، ثم صرح بأنه يختار إسلاما لا سكر فيه على نصرانية فيها سكر. وقال مونتيه: «الواجب على المسلمين أن يحتفظوا بما حظرته الشريعة عليهم من تناول المسكرات، فإن في هذا المنع قوتهم وتماسكهم.»
الربا
بقيت مسألة الربا الذي ادعى بعض الغيورين على مصلحة المسلمين أن امتناع المسلمين من تعاطيه كان فيه ضعفهم وفقرهم، والحقيقة أن المسلمين لما غالطوا أنفسهم في مسائل الربا، وتحيلوا لأخذه، ونسوا الآيات الصريحة الواردة في كتابهم بتحريمه، أصيبت ثرواتهم بالنقص، بل حالفتهم الفاقة والمذلة، والثروة بالعمل لا بالنقد وحده، وما النقد إلا أداة من أدوات التعامل وتنقل النقد في الأيدي، لا بجمود النقدين الذهب والفضة .
وأشد ما حاربه الإسلام ربا الأضعاف المضاعفة:
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ،
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ،
57
يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ،
58
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون * وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة .
59
وهذه الآيات في التحريم صريحة لا تحتاج إلى شرح، وفسر المفسرون آية:
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، بأن الآخذين للربا لا يقومون إذا بعثوا من قبورهم إلا قياما كقيام المصروع فلا يقومون من المس، أي الجنون الذي بهم بسبب أكل الربا، ويكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين لاختلال عقولهم؛ لأن الله أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم،
60
أما نحن الدنياويين فقد رأينا في الربا بلاء عظيما غير ما عرفه منه الأخرويون؛ رأينا كثيرين من أكلة الربا يصابون وأولادهم بالجنون أو بشيء يقرب من الجنون، والأمثلة كثيرة في أيامنا، ونعلل هذا السر في جنون آكل الربا؛ أنه يكون غير مطرد في توازنه لا يملك اعتداله أبدا؛ فهو يفرح كثيرا ويكتئب كثيرا، ويحصر وكده ويكد ذهنه في دائرة معينة أقل ما يقال فيها: إنها حساب الأرقام على الدوام، والتخوف مما تخبؤه الأيام، ومن ضيق المجال على عقله ضعف تفكيره، ومن قل تفكيره كثرت هواجسه وكانت البلاهة فما بعدها أقرب إليه من فكه، ومن كان هذا حاله جاء منه الأبناء المغفلون يحاولون أن يعيشوا من بقايا ما ورثوه من ثراء، وقد يكون تبعثر في حياة جامعه، وهناك ضيعة الأمل، وخيبة العمل ، إلى انقضاء الأجل.
ولقد عد الشارع الربا من السبع الموبقات أي المهلكات وهي: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وقال: «لعن الله آكل الربا ومؤكله.» وأثبتت الأيام أن التوغل في الربا في الغرب أدى ولا يزال يؤدي إلى محو الثروات؛ وذلك لأن الربا الفاحش، وأكثره فاحش، يربح أكثر من ربح الصناعة والزراعة والتجارة، فاعتماد الناس عليه وحده غبن عظيم على المجتمع، وتعطيل للأعمال المثمرة؛ لأنه قد يزهد الناس في التجارة وعمران الأرض واستثمار موادها، فيعمدون إلى الانتفاع بأموالهم بطريقة الربا لما فيه من ربح لا تعب فيه، وريع مضمون مؤمن، قد تكون الخسارة فيه أقل من الخسائر في سائر ضروب المعاش، على أن الربا ينافي سنة الكون؛ لأن من يأتيه ربحه بدون عناء، يبسط يده في إنفاقه كثيرا، كالمقامر لا يرى إلا سمحا على الأغلب؛ لأن ماله أتاه هينا لينا وإذا خسر تكون خسارته من أصل رأس ماله، ولقد رأينا بيوتا عظيمة في مصر والشام كانت في هناء وسعادة، فلما تطوحت في الربا دائنة ومدينة، انقرضت على بكرة أبيها، سواء في ذلك أهل الأديان السماوية الثلاثة، وكان لهذه المصافق المالية (البورصات) وهي أشبه بالميسر دخل كبير في محق الثروات.
على أن الإسلام رخص في استثمار الأموال إذا لم يشترط في الأول ربح معين كأموال المقتصدين في صناديق التوفير، وحظر الاسترسال في الربا الفاحش؛ فالمحرم هو ربا النسيئة، أي إنساء
61
أجل الدين المستحق، وهو أخذ الزيادة في المال لأجل تأخير ما في الذمة منه، ويكون من شأنه أن يتضاعف، ويخرب البيوت ويفسد العمران، ويبطل فضائل التراحم والتعاون بين الناس،
62
أما ربا الفضل فلا ضرر فيه؛ ولذلك اضطر الفقهاء إلى القول بأن تحريمه تعبدي لا يعقل معناه، وقال الزجاج في تفسير قوله تعالى:
وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ، يعني به دفع الإنسان النسيء ليعوض أكثر منه فذلك في أكثر التفسير ليس بحرام، ولكن لا ثواب لمن زاد على ما أخذه. والربا ربوان: فالحرام؛ كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو تجر به منفعة، وما ليس بحرام: أن يهب ما يستدعي به أكثر منه أو يهدي ليهدى له أكثر منها، والربا محرم في الشرائع الثلاث؛ حرم في التوراة والإنجيل والقرآن، واليهود تحرمه تحريما قطعيا شبيها بتحريم الإسلام، إلا أن التحريم مقصور على معاملات اليهود بعضهم مع بعض، والإسلام جامع شامل عام، وحكم النصرانية قابل للتأويل،
63
وأجازت القوانين العقلية القرض بدون ربح ولا فائدة، وأجازت التعاقد على الربح والفائدة إلى حد معين، منعا للربا الفاحش، وحرمت ربا الربا إلا في معاملات تجارية مخصوصة ضيقت فيها بقدر الإمكان، وأجازت للدائن المطالبة بربح المال الذي يتأخر المدين في أدائه، ولو لم يتفق معه على ربح. «كان
64
القرض من جملة التبرعات التي تعد من أعمال البر والإحسان، كما كان حسن القضاء وإيفاء الدين من جملة المعاملات الحسنة؛ فكان المدين يمشي إلى صاحب الحق لأداء الدين بلا تقاض ولا مطالبة ويسلمه أجود مما عليه، ويزيد عليه زيادة فضل، لكنه غير مشروط ولا ملاحظ، فحث عليه الشارع وحبذه، وجعل ثوابه أعظم من ثواب الصدقة، فقال عليه الصلاة والسلام: «الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر»؛ لأن الصدقة تقع بيد المحتاج وغير المحتاج، والقرض لا يقع إلا بيد المحتاج، كما حبذ حسن القضاء وحث عليه، فقال: «خيركم أحسنكم قضاء»، فكان الأقدمون يتسابقون لذلك قرضا واستقراضا كما يتسابقون لأعمال البر والمعروف، فما لبثت زمنا حتى انقلب هذا الإحسان وعمل المعروف إلى متجر لتنمية المال بأسوأ الطرق، وأقبح السبل المؤدية إلى الإضرار بالناس وإتلاف مالهم وإخراجه من أيديهم مجانا بلا رعاية جانبه أصلا، وهو الربا الذي عرفه الشرع الأقدس أنه فضل مال خال عن عوض بالكيل والوزن مشروط لأحد المتعاقدين، فكان الدائن إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل فيستغرق بالشيء الطفيف مال المدين بلا مسامحة ولا حط، وهو الأضعاف المضاعفة التي حرمت بالنص ، قال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ، فلم يدرك الغرب مضرته، بل رآه سهل المأخذ، كثير المغنم، ينمو بسرعة فاتخذه وسيلة للثروة، وسببا للعمران، وندد على الإسلام بتحريمه، وجعل تركه سببا للانحطاط، ولم يدرك أن هذه الثروة التي بنيت على أساس الجور والعسف تضمحل بسرعة كما تحصلت بسرعة، وهذا النمو السريع يعقبه اضمحلال سريع ويدهمه المحق المشاهد:
يمحق الله الربا ويربي الصدقات .
ولما ظهرت الإفلاسات بكثرة وتتابعت ممن يتخذونه متجرا، وبحث الباحثون في الأسباب تبين لهم أن أغلبها من الربا، وبتجارب الأيام وتوالي الحوادث، ظهر سر الشرائع التي حرمت الربا، وحسبك حجة عليهم أنه جلب منفعة بخراب بيت أو بيوت فهو شبيه بالاحتيال والإغراء، ليتوصل به آخذه إلى اقتناص مال غيره بلا عوض كالميسر، وقد شاهدنا منه خراب بعض القرى واستملاكها ونزعها من أهلها؛ بسبب الربا لما وقعت في مخالبه، ولا يسعنا هذا المقام لنطيل بالأدلة العقلية والبراهين النظرية، على أنه لا يعد من أسباب العمران ولا من وسائط الثروة؛ إذ ليس من حسن النظر إغناء رجل بخراب آخر، ولا إثراء جماعة بسلب مال الآخرين، بل هو المعول في تخريب الثروة والفتك بالتاجر والزارع الذي ندر أن يفلس بسبب آخر غير الربا؛ فلذا حرمه الله تعالى، وشدد على تعاطيه، وأعلن بالحرب عليه، فقال:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون . ا. ه.»
وبعد، فهل مضرة محسوسة أكثر ظهورا في هذا العصر من تأثير الربا في مجموع الهيئة البشرية؟ وقد رأينا من أهم العلل في تقلقل الحالة الاقتصادية في العالم التطوح في الاستدانة والإدانة على طريقة توسعت حتى ظن بعض قصار النظر أن هذه الثروات هي حقيقة ملموسة، مع أن الأيام أثبتت أنها كانت ثروات موهومة أو سرابا بقيعة
65
حسبها الظمآن ماء، وما وقع بعد الحرب العالمية من ضروب الإفلاس في المصارف عند كبار الأمم المتمدنة يقوم أقوى دليل على تخريب العمران بهذه الذريعة الكاذبة.
التصوير والنقش
يقولون: إن حظر الشريعة الإسلامية استعمال الصور المجسمة كان من دواعي تقهقر المسلمين أيضا، ويعاب ذلك على الإسلام؛ لأن التصوير من أهم أدوات الثقافة، وهذه من المسائل الدقيقة في المدنية الإسلامية تحتاج إلى بسط طويل لا تتسع لها هذه الصفحات القليلة، ولعل نكتة النكات في هذه المغالطة كون بعضهم يكتفون من الأمور بظواهرها، دون التعمق في أسرارها وأصولها، فيرسلون أحكامهم عفو الساعة، ويستنتجون استنتاجات ضعيفة، ناسين أن الإسلام الداعي إلى التوحيد، والعمل على إقصاء العرب عن عبادة الأوثان قد منع التماثيل، وقضى على الأوثان لأول عهده؛ مخافة أن يساق المسلمون بالتقليد إلى عبادتها، على ما كان العرب في الجاهلية، فالسبب كان دينيا محضا لأول الأمر، وبولغ في الحظر سدا للذريعة، والدين غض، وعهد العرب بالأصنام قريب.
لم تهتم الشعوب السامية كثيرا بالتصوير والنقش؛ لبعد ذلك عن طبيعتها وطبيعة أديانها؛ وهذا دين موسى قد حرم التصوير ونحت التماثيل في التوراة، وفن التصوير
66
والنحت عند اليهود عبارة عن نحت الحجر وتطريق المعادن والنقش على الخشب، وقد جاء في سفر الخروج (الإصحاح العشرون) «لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض.» ما يقضي بالحيلولة دون كل ارتقاء في هذا الباب؛ ولذلك كان التصوير عند أبناء إسرائيل في حالة ابتدائية ساذجة.
وليس التصوير والنقش مما أولع به العرب كثيرا؛ لبعدهما عن طبيعة عنصرهم، اللهم إلا إذا صح ما نقل عن عرب اليمن على عهد ملوك حمير والتبابعة، وما كان من التماثيل في الكعبة، وما روي من أنه كان لهم في الحجاز أصنام جميلة كأجمل التماثيل،
67
وأفادنا التاريخ مع هذا أن التصوير ونحت التماثيل والنقش كانت معروفة في كل دور من أدوار الدول الإسلامية
68
السالفة، ولكن بقيود قليلة غير ثقيلة. وقد عهد التصوير والنقش عند الأمويين في الشرق، والأمويين في الغرب ، وعند العباسيين في العراق وفارس، والفاطميين في مصر، وفي كثير من الدول الخالفة من غير حرج ولا نكير، وكلما كانوا يأمنون غائلة السجود للأصنام، ويبتعدون عن عادات الجاهلية الأولى، كانوا يتسامحون بوضع الصور والتماثيل في القصور والدور والحدائق، بيد أن التصوير والنحت لم يكونا على حصة موفورة عندهم، كما هو الحال في الدول الغربية الحديثة.
وإن ما ظهر في العهد الأخير في الجدار الداخلي الغربي من الجامع الأموي بدمشق من الفسيفساء العربية التي صورت فيها الأشجار والأمصار مثالا من ولوع القوم منذ القرن الأول بهذه التزاويق، وعثروا
69
في «سر من رأى» وهي من بناء المعتصم العباسي على غرف وأبهاء زينت جدرانها بتصاوير شرقية بين بارزة وغائرة في الجص، وصور ملونة للآدميين وغيرهم، وصور المتوكل في قصره في سامرة بيعة فيها رهبان وأحسنها صورة شهار
70
البيعة، أما القصور المصورة في الأندلس فيطول ذكرها، ومنها الزهراء أو مدينة الزهراء التي بناها عبد الرحمن الناصر على اسم جاريته، ونقش صورتها على بابها، وكان في كل دور من المألوف تصوير جدران الحمامات في بغداد ودمشق، وعمل خمارويه في القرن الثالث مجلسا في القاهرة
71
برواقه سماه بيت الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب المجال باللازورد المعمول في أحسن نقش وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صورا في حيطانه بارزة من خشب معمولة على صورته وصورة حظاياه، والمغنيات اللاتي يغنينه، بأحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين، والكوادن
72
المرصعة بأصناف الجواهر، وفي آذانها الأجراس الثقال الوزن المحكمة الصنعة وهي مسمرة في الحيطان ولونت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة.
ثم إننا لو رجعنا إلى تاريخ التصوير والنقش عند الغربيين أنفسهم لما رأيناهما بلغا في عصر من عصور الغرب الدرجة التي وصلا إليها الآن بعد أن ارتقى كل فرع من فروع الحضارة، ويعذر العقل الغربي إذا تعذر عليه أن يقبل كيف تقوم مدنية بغير تماثيل وتصاوير وتهاويل، وقد قبلت النصرانية بعض ما كان في الوثنية من العادات والأوضاع على نحو ما فعل الإسلام؛ فأقر أمورا بل أحكاما كانت من مألوف الجاهلية، لم ير فيها كبير ضرر فسكت عنها،
73
ولكن شدد الإسلام في القضاء على الأصنام؛ لأن التوحيد أول شرط في الهداية الإسلامية، ولا توحيد مع أصنام وأوثان، خصوصا في الصدر الأول.
ومن الإنصاف أن يعتبر القائلون بقصور العرب في هذا الشأن بارتقاء أصناف العلوم والفنون مع الزمن، وأن العقل البشري يرقى الجيل بعد الجيل، ويكتب له في آخر الأمر الإبداع، وهل من العدل أن نتطلب من مدنية قامت قبل ثلاثة عشر قرنا ما نتطلبه من حضارة قامت منذ أربعة قرون، تحمل معها مدنيات الأمم الغابرة بأسرها؟ ولعمري هل يضر المدنية العربية أن لا يعهد فيها الكهرباء والبخار، ولا التمثيل والسينما؟ وهل يسقط قدرها قصورها بعض الشيء في إقامة التماثيل واصطناع التصاوير والتزاويق؟ وهذه أمم الغرب على كثرتها نجد بينها لعهدنا تفاوتا في الغرام بالنحت والنقش والتصوير، مع أن كل واحدة منها تسير على ما سارت عليه جارتها، ولا تفتأ تقتبس مما عندها كل جديد؛ لاتحادهما كثيرا في الدين والبيئة.
إن العلم كما يقول ريشه:
74
يسير إلى الأمام بسرعة تحير العقول، ومع هذا لم يبرح فتيا غض الإهاب، وعلى ما كتب لطاليس وأرخميدس من النبوغ لم يعرفا شيئا مما يعلم اليوم في المدرسة الابتدائية، وأجهل شاب حاز الشهادة الثانوية يحسن أمورا كثيرة كان جاليله يجهلها بالمرة، ولم يمض من عهد فرنكلين إلى إنشتين مائة وخمسون سنة كاملة، ولكم تقدم العلم في هذه الحقبة، ولكم تبدلت التصورات والأفكار، ولم يكن يعرف علم مطمورات الأرض من النبات وغيره (باليونتولوجيا)، ولا علم الجراثيم ولا الحاكي ولا الطيران ولا السكك الحديدية ولا الحل الطيفي؛ فعمر الإنسانية العلمي لا يقدر له أكثر من مائة وخمسين سنة، وهي أربعة أجيال، نرى وأنت ترى، أن هذا العمر غير طويل. ا.ه.
وقال سنيوبوس:
75
لم يأت زمن في تاريخ البشر تبدلت فيه الأسباب المادية في الحياة بسرعة تبدلها في القرن التاسع عشر في أوروبا، وهذا الانقلاب هو نتيجة الاختراعات التي قامت بالتجربة فقط، أو بتطبيق أساليب العلوم العملية، وكثير منها ينتهي إلى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، بيد أن نتائجها العملية لم يشعر بها في جمهور الشعوب في أوروبا قبل أواخر حرب الإمبراطورية الفرنسية، فتغير الحياة المادية لم يبدأ إلا بعد سنة 1814، فهو أعظم حادث عصري بل هو حادث دولي؛ لأن تلك الاختراعات أوجدتها عقول العلماء والمخترعين من جميع الأمم، فهي مشتركة بينهم بحيث يتعذر كل حين تمييز من له الحظ الأوفر من الأمم من هذه الخدمة؛ لانتقالها من أمة إلى أخرى مفيدة لها كلها على السواء. ا.ه.
وعلى هذا فليعذرنا الذين طالما أوجعوا رءوسنا، وحاولوا إذلال نفوسنا، لقصور أجدادنا في التصوير، وما القصور في الحقيقة إلا قصور الزمن، وربما كنا فقنا فيه، لو ظللنا على تعهد مدنيتنا المسكينة، ولقد ذكر سيديليو أن فني النقش والحفر كانا راقيين عند عرب الجاهلية، وقد صنعوا تصاوير البشر وتماثيل الأرباب، حتى جاء القرآن بمنعهما فوقفا عن التقدم، وجاء العباسيون فاشتغلوا بهما وتقدموا فيهما اشتغالهم بفني الموسيقى والبناء، وقال جوتيه: إن محصول المدنية العربية في العلم على اختلاف أنواعه يفوق محصول المدنية اليونانية كثيرا؛ ذلك لأن العلم العربي كانت له أصول قديمة، أما فيما يتعلق بالفنون والآداب فإن دائرة اليونان أوسع من دائرة العرب بكثير، فقد كان قدماء المصريين نقاشين مبدعين، وترك سكان بين النهرين صورا نصفية جميلة، أما خلفاؤهم فليس لهم تصاوير ولا تماثيل، ما خلا تزييناتهم الهندسية وهذا نقص غريب، فقد رأوا أمام أعينهم نحو ألف سنة النحت اليوناني والنقش والتصوير البيزنطي فتخلوا عن كل ذلك دفعة واحدة.
قال: وينبغي أن نقدر في التصوير والنحت اليوناني والبيزنطي أن تمثيل الصورة البشرية كانت تمثيل الصورة الإلهية، سواء كانت صورة المسيح أو أبولون أو غيرها من تماثيل الوثنيين، ولا يفوتنا ذكر من قاموا بإنكار تكريم الصور البيزنطية، وأن فكرة المولى لم تنشأ في مصر ولا في كلدة بل نشأت في اليهودية، ثم غرست في الإسلام أي غرس، وما فكر اليهود قط أن يصوروا يهوه، ولم يجوز المسلمون أيضا تصوير الله، وصور النصارى المولى فقط، ومثلوه في لحية بيضاء وأجلسوه في السحاب، والمظنون أن الهندسة العربية البديعة كانت غريبة عن الماضي لا صلة بينها وبين القبور والمعابد المصرية، ولا بين قصور الأخمانيين، ولا مع الهندسة البيزنطية التي نشأت منها بل هي إبداع جديد. ا.ه.
هذا، وقد ثبت أن الرسول
76
أقر نقود العرب في الجاهلية، وكانت ترد من الممالك الأخرى وهي مصورة، وضرب عمر الدراهم على نقش الكسروية وشكلها وبأعيانها، وضرب معاوية دنانير عليها تمثال متقلد سيفا، واستعمل زيد بن خالد الصحابي الستر الذي فيه صور ولم ينكر الناس عمله، وكانت تأتيهم من اليمن ثياب وستور وحجال فيها تصاوير، واستعمل يسار بن نمير مولى عمر بن الخطاب وخازنه الصور في داره، وصنعت الصور في دار مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وهما من التابعين، فلم يحرم الإسلام إذا صناعة نافعة في كثير من العلوم والأعمال، ويحتاج إليها في حفظ الأمن وفنون القتال، وكان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر والحيوان في المصنوعات، وقد أبقت الأيام في دور الكتب والآثار كتبا كثيرة مصورة من عهد العباسيين وبعدهم، ويقول محمد عبده: «ويغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل.» وفي التاريخ العام أن الإسلام حظر تمثيل الصور الآدمية، ولكن هذا الحظر لم يمنع الخلفاء من أن يكون في قصورهم صور وتماثيل، ومع هذا لم يخلف العرب في النقش ولا في التصوير آثارا خارقة للعادة. ا.ه.
العرب قبل الإسلام
طبيعة بلاد العرب
لا نحسن تصور حالة العرب في الإسلام إبان عهد حضارتهم إلا إذا ألقينا نظرة عجلى على الثابت من تاريخهم في الجاهلية، وعلى آثارهم وعلمهم وثروتهم؛ ولذلك يتقاضانا الوصول إلى هذه النتيجة أن ندرس حالتهم في معظم مظاهرها، لنتدرج بهم من جزيرتهم إلى حيث درجوا من البلاد التي حلوا فيها، وتمثلوا حضارة القدماء، وانقلب في الجزيرة بالإسلام طورهم الديني والأخلاقي، كما انقلب في البلاد المفتتحة طورهم المدني والاجتماعي.
من الثابت أن طبيعة بلاد العرب تختلف باختلاف بعدها وقربها من البحر وانخفاضها وارتفاعها عنه؛ فجبالها ليست كسهولها، وأواسطها تختلف عن أطرافها، فليست الجزيرة إذا نسقا واحدا بخصبها واعتدالها، وفي الجزيرة واحات فيها نخيل وأعناب وبقول وحبوب، وفي جنوبها وهي اليمن بلاد عالية ومنخفضة فيها الحرارة والبرودة، وفيها المياه وإن قل الجاري منها، وتكثر أمطارها وإمراعها، ويقل الخصب في الحجاز اللهم إلا في بعض أنحائه كالطائف. واليمن أعمر الأقاليم العربية ولذلك دعيت بالعربية السعيدة، وعهدت لها مدنية قديمة، وقامت فيها دول؛ لأن سهولها وجبالها ممرعة، وفيها من الحاصلات ما لا يوجد في غيرها كالطيب والورس والكندر والعصب والشب واللبان والعقيق وخشب البنك والمعرق من الجزع.
قال ابن الفقيه:
1
وباليمن من أنواع الخصب وغرائب الثمر وظرائف الشجر؛ ما يستصغر معه ما ينبت في بلاد الأكاسرة والقياصرة، وقد تفاخرت الروم وفارس بالبنيان وتنافست فيه، فعجزوا عن مثل غمدان ومأرب وحضرموت وقصر مسعود وسد لقمان وسلمين وصرواح ومرواح وبينون وهندة وهنيدة وفلثوم بريدة. ا.ه.
وفي جبال بلاد العرب التي لا تكاد تنقطع سلسلتها من شمالها في أرض الشام حتى الطائف وصنعاء وما وراءها من الاعتدال، ولطف الهواء وطيب الماء، ومثمر الشجر، ما يستغرب وجوده؛ لأن الطائف يعلو 1600 متر عن سطح البحر، وأبها في اليمن 2275، وصنعاء 2342، وكوكبان 2001؛ وفي اليمن والحجاز معادن كثيرة كالحديد والفضة والذهب، وهكذا يقال في عمان وحضرموت وهجر «البحرين» واليمامة «نجد» والشحر والأحساء.
دول العرب القديمة
قامت في الأعصار القديمة عدة دول في هذه الجزيرة أو شبه الجزيرة ضاعت معظم أخبارها، فمنها دولة العماليق نسبة لعمليق بن لاوذ بن سام، وكانت على حالة بداوة في الصحراء ممتدة من العراق إلى العقبة، ثم لما قويت عصبيتهم، تغلبوا على بابل وأنشأوا دولة قبل المسيح بخمسة وعشرين قرنا دعيت دولة الساموآبيين، ومنهم ظهر الملك حمورابي،
2
ويرى بعض الباحثين أنه عربي، فتغلب على مملكة أشور ، وكانت دولته دولة راقية بآدابها ومادياتها ، ويدل ما اكتشف من شريعته على أن هناك أمة راقية ومدنية لا بأس بها، ولما تغلب الأشوريون على تلك المملكة اضطهدوا العرب فهاجر قسم منهم إلى غرب الجزيرة وجنوبها.
ومن دولتهم دولة الرعاة أو عرب الشرق أي الهيكسوس دخلوا مصر من أرجاء البحر الأحمر قبل المسيح بثلاثة وعشرين قرنا، واستولوا على الوجه البحري من بلاد مصر، وجعلوا عاصمتهم «صان» حتى أجلاهم عنها تحوتمس ملك ثيبة في الوجه القبلي من صعيد مصر حوالي سنة 1700ق.م. وأسس العرب النازحون من أشور دولة عاد الأولى في جنوب الجزيرة قبل الميلاد بعشرين قرنا، وكانت منازلهم في الأحقاف بين اليمن وعمان، وكان للعرب دولة في شرق بلاد اليمن فوق حضرموت يقال لها: دولة المعنيين، قال الباحثون فيهم: إنهم كانوا يقومون على زراعة الأرض في سهول حضرموت وسفوح جبال اليمن، وقد أقاموا السدود وفتحوا الخلجان، وهناك دولتان أو مجموعتان من القبائل يرد ذكرهما في التواريخ العربية وهما: طسم وجديس، كانتا تنزلان اليمامة شرقي بلاد العرب التي يطلق اليوم على أكثرها اسم نجد، وكانت الحجر أو القرية عاصمة طسم، ونجد اليمن غير نجد الحجاز، غير أن جنوبي نجد الحجاز يتصل بشمالي نجد اليمن، وبين النجدين وعمان برية ممتنعة كما يسميها ابن حوقل، وهي الربع الخالي الذي اجتازه في العهد الأخير أحد أرباب الرحلات ووصفه أحسن وصف.
ومن دول العرب دولة ثمود، وأصلها من اليمن ونزلت مدائن صالح، وما تركته من العاديات والنواويس شاهد بمدنيتها، ومنها دولة قحطان كانت شمال جزيرة العرب وأهلها من جملة من نزح إلى اليمن بعد اضطهادهم في بابل، وأنشأوا دولة في اليمن سميت دولة سبأ الأولى، ودولة سبأ الثانية هي مملكة حمير، وهذه قامت على أنقاضها وكانت مقطعة الأوصال لم تجمع شمل اليمانيين كالدولة الأولى. وللعرب من الدول دولة كندة، وكندة بطن من كهلان، كانت نزحت من اليمامة وسكنت شمالي حضرموت؛ فجعل ملك حمير سيدهم حجر بن عمرو ملكا على العرب، فاتخذ عاصمته بطن عاقل،
3
وأنشأت العرب دولة تنوخ في العراق وخلفهم اللخميون ، ولما تغلب الرومان على الشام وما إليها اعتمدوا على بني غسان، وأصلهم يمانيون نزحوا بعد سيل العرم، فجعلوهم أقيالا يرابطون في سيف البادية؛
4
ليمنعوا عن المعمور اعتداء البوادي من الجنوب ويأمنوا غائلة ملوك الفرس من الشرق، وكان هؤلاء يستخدمون ملوك الحيرة للغرض نفسه، أي لاتقاء عادية الأعراب وعادية الرومان من غرب بلادهم.
هذا ما عرف من نشأة الدول العربية، وربما تداخل بعضها في بعض، وقد قسم علماء التاريخ سكان بلاد العرب إلى قحطانية وعدنانية، والقحطانية سكان بلاد اليمن، والعدنانية سكان الحجاز، وقسموا العرب إلى ثلاثة أقسام: بائدة؛ كعاد وثمود وجرهم الأولى، وعاربة: وهم عرب اليمن من ولد قحطان، ومستعربة: وهم أولاد إسماعيل سكان الحجاز، وقد سبق القحطانيون العدنانيين في الحضارة؛ لقرب بلادهم من بحرين بحر القلزم والبحر الهندي، ولأن بلادهم خصبة، وهم نقطة اتصال التجارة بين الشرق والغرب، وكان القحطانيون والعدنانيون يتكلمون قبيل الإسلام لغة واحدة ذات فروق طفيفة.
ويقول بعض المؤرخين: إن تلك الدول التي أنشأتها العرب خارج أرضها، كدولة الرعاة في مصر، ودولتهم في أشور، ودولة الأنباط في سلع هي دول عربية، ودولة أكسيوم «اليكسوم» التي أنشأها اليمانيون في الشط المقابل لبلادهم هي عربية، ودولة تدمر وأصل القائمين بها عرب، ودولة الإيتوريين التي استولت على اللبنانين الشرقي والغربي، وامتدت إلى فينيقية وجعلت عين جر (عنجر) في البقاع عاصمتها الأولى، ثم طرابلس عاصمتها الثانية، كان أصل القائمين بها عربا من الجيدور وحوران؛ إن تلك الدول التي أنشأتها العرب كانت بفضل تفاهمهم
5
بالعربية مع اليهود والحبش والكلدان والأشوريين والفينيقيين؛ إذ كان عهد هذه اللغات قريبا بالتشعب فلم يكونوا يحتاجون إلى لغة أخرى للتفاهم مع تلك الأمم، بل كانت العربية تكفيهم في التخاطب، وليس بينها وبين اللغات الأخرى كبير فرق، وإن كان فكالفرق بين اللغتين النروجية والسويدية، أو بين الصربية والبلغارية، أو بين البرتقالية والإسبانية، أو بين العربية الفصحى وإحدى اللهجات المتعارفة اليوم.
وأهم ما حفظ بلاد العرب من اكتساح غيرها لها من الأمم في غابر الدهر، كون العرب أهل شدة وبأس، وأباة ضيم لا ينامون على الثأر، ويصبرون على شظف العيش ويتبلغون بميسوره، وليست الرفاهية من شأن أكثر المعمور من أرضهم؛ ولذلك خاب الفرس والرومان والفراعنة والحبشة يوم حاولوا أن يستولوا على اليمن والحجاز وما إليهما، مقدرين أن جزيرة العرب لا تساوي اكتساحها، وأن من الصعب إجراء الأحكام على أهلها؛ لبعد المسافات في فلوات لا أول لها ولا آخر. قال جويدي:
6
إن الرومان فتحوا جميع العالم المعروف، وحاولوا على عهد الإمبراطور أغسطس أن يستولوا على بلاد العرب، ففتحوا مأرب عاصمة سبأ، ثم ردوا عنها خائبين، وقال: إن أدينة الذي كان معروفا عند الرومان باسم أداناتوس
Adenatus
ويعد من أمبراطرتهم هو عربي الأصل وكذلك وهبة اللات، وقد نشأ من بلاد أخرجت أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص من قواد الإسلام العظام الذين قضوا على مملكة الساسانيين، وعلى جزء من مملكة بيزنطية.
العرب والتجارة
وأهم عوامل المدنية في جزيرة العرب كون أهلها عرفوا في كل العصور معاناة التجارة؛ ينقلون حاصلات الشرق إلى الغرب، وحاصلات الغرب إلى الشرق، وحاصلات بلادهم من مكان إلى آخر، واشتهروا بذلك حتى قال الجغرافي استرابون وكان بعد المسيح بقليل: كل عربي سمسار أو تاجر، ومن أجل هذا كانت معرفة العرب بالأقطار المجاورة لا غبار عليها، وكثيرا ما كانوا يقتنون الأملاك والضياع وينزلون البلاد المجاورة، يساكنون أهلها كأن تلك البلاد أجزاء متممة لبلادهم، على اختلاف بينهم وبين ساكنيها في الطبائع والألسن، وكانت
7
للعرب عشرة أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم ويجتمع فيها سائر الناس، ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم؛ فمنها دومة الجندل والمشقر وهجر وصحار وريا والشحر وعدن وصنعاء والرابية بحضرموت وعكاظ بأعلى نجد، ينزلها قريش وسائر العرب وأكثر أهلها مضر، وبها كانت مفاخرة العرب وحمالاتهم
8
ومهادناتهم ثم سوق ذي المجاز، وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، فسموا المحلين، وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر، فيسمون الذادة المحرمين.
واستولت قريش على التجارة في الجاهلية ترحل فيها رحلتين : رحلة الشتاء؛ نحو العباهلة من ملوك اليمن ونحو اليكسوم من أرض الحبشة، وأخرى: نحو الشام وبلاد الروم في الصيف، وإلى ذلك الإشارة في القرآن:
لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، والإيلاف شيء كان يحمله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويجعل لهم متاعا مع متاعه، ويسوق إليهم إبلا مع إبله؛ ليكفيهم مؤنة الأسفار، ويكفي قريشا مؤنة الأعداء، فكان المقيم رابحا، والمسافر محظوظا، وهاشم هو الذي تنسب إليه غزة هاشم في الشام؛ لاتجاره فيها في الجاهلية وفيها مات، ثم جاء أبناؤه بعده ينسجون على منواله؛ فكان هاشم يؤلف إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، يؤلفون الجوار بعضهم بعضا، ويجيرون قريشا بميرهم وكانوا يسمون المجيرين، وكانت تجارة قريش قبل هؤلاء العظماء لا تعدو مكة،
9
إنما يقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترون منهم ويتبايعون فيما بينهم ويبيعون ممن حولهم من العرب، فجبر قريش بهؤلاء النفر الأربعة من بني عبد مناف، فنمت أموالهم واتسعت تجارتهم، فكان بنو عبد مناف يسمون لأجل ذلك المجيرين، والعرب تسميهم أقداح النضار؛ لطيب أحسابهم وكرم فعالهم، وبفضلهم أخذت قريش تضرب في البلاد إلى قيصر
10
بالروم والنجاشي بالحبشة والمقوقس بمصر وكسرى بالعراق تجعل من أرضهم متجرا لها؛ ذلك لأن قريشا زهدت منذ زمن بعيد في الغصوب فلم يبق لهم مكسبة سوى التجارة، وبالتجارة عرفوا ما جاورهم من البلاد والشعوب وصاروا بأجمعهم تجارا خلطاء.
أديان العرب
وكانت أديانهم متشعبة، بحسب البلاد التي يجاورونها والأرض التي ينتجعونها، وهم في أديانهم
11
على صنفين: الحمس
12
والحلة، فأما الحمس: فقريش كلها، وأما الحلة: فخزاعة لنزولها مكة ومجاورتها قريشا، وكانوا يشددون على أنفسهم في دينهم، فإذا نسكوا لم يسلئوا سمنا، ولا يجزون شعرا ولا ظفرا، ولا يمسون النساء ولا الطيب، ولا يأكلون لحما، أما الحلة فكانوا على العكس من ذلك، ينعمون بالطيبات كلها لا يبالون ما صنعوا، ثم دخل قوم في دين اليهود وفارقوا هذا الدين، ودخل آخرون في النصرانية، وتزندق منهم قوم فقالوا بالثنوية . وزعم اليعقوبي أن اليمن تهودت بأسرها، وتهود قوم من الأوس والخزرج، بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام، «وكان بنجران بقايا من أهل دين عيسى على الإنجيل أهل فضل واستقامة.» وكان من العرب من يميل إلى الصابئة ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجمين في السيارات، حتى لا يتحرك إلا بنوء من الأنواء، ويقول: مطرنا بنوء كذا، ومنهم من أنكر الخالق والبعث وقالوا: وما يهلكنا إلا الدهر، وهم الدهريون، وقال بعضهم: كانت المجوسية في تميم، والزندقة في قريش، أخذوها من الحيرة، ويقول ابن الأثير:
13
إن ديار تميم كانت تجاور بلاد الفرس وهم تحت أيديهم، والمجوسية في الفرس، على أن العرب قبل الإسلام كان كثير منهم قد تنصر، كتغلب وبعض شيبان وغسان، وكان منهم من صار مجوسيا وهم قليل، وأما اليهودية فكانت باليمن، وكان من العرب صنف اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث، وصنف عبدوا الأصنام، وأصنامهم مختصة بالقبائل، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الملائكة وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعون
14
ويقفون المواقف كلها ويرمون الحجارة. وللعرب أصنام؛
15
فكان سواع لهذيل، وود لكلب، ويغوث لمذحج وقبائل من اليمن، وكان بدومة الجندل، والنسر لذي كلاع بأرض حمير، ويعوق لهمدان، واللات لثقيف بالطائف، والعزى لقريش وجميع بني كنانة، ومناة للأوس والخزرج وغسان، وهبل كان في الكعبة وكان أعظم أصنامهم، وإساف ونائلة كانا على الصفا والمروة، وسعد لبني ملكان بن كنانة، وكان عدد الأصنام في الحرم لما فتح الرسول مكة بضع مئات كسرها وأصحابه. قال أبو عثمان النهدي:
16
كنا في الجاهلية نعبد صنما يقال له: يغوث، وكان صنما من رصاص لقضاعة تمثال امرأة، وعبدت ذا الخلصة، وكنا نعبد حجرا ونحمله معنا فإذا رأينا أحسن منه ألقيناه وعبدنا الثاني، وإذا سقط الحجر عن البعير قلنا: سقط إلهكم فالتمسوا حجرا.
ويؤخذ من هذا أنه كان للعرب في الجاهلية المصور والمثال؛ فصوروا جدران الكعبة وملأوها بتماثيل أربابهم، ومن جملة ما كان فيها صورة عيسى وأمه عليهما السلام بقيتا حتى رآهما من أسلم من نصارى غسان، وكان على أحد عمد الكعبة تمثال مريم وفي حجرها ابنها مزوقا،
17
وقال ابن الكلبي: إنه كان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يقال له: الأقيصر، كانوا يحجونه ويحلقون رءوسهم عنده، فكان كلما حلق رجل منهم رأسه ألقى مع كل شعرة قرة،
18
وكان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر قوما صالحين ماتوا في شهر فجزع عليهم ذوو قرابتهم، فعملوا لهم خمسة أصنام على صورهم، فمضت قرون ثلاثة وهم يعظمون، وفي القرن الثالث أخذوا يعبدونهم. وكان ود تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد زبر عليه حلتان متزرا بحلة مرتديا بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة.
19
المدنية اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب
أثرت المدنية النصرانية في الجاهلية بعض أثر - والجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة النبوية - وكانت مملكة الحيرة
20
ومملكة غسان نصرانيتين، والنصرانية شائعة في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، واليهودية
21
في حمير وبني كنانة وبني الحرث بن كعب بن كندة، ولم يكن لليهود الخارجين إلى خيبر ووادي القرى ويثرب من الحجاز مدنية مهمة، بل كانوا زراعا حملوا معهم - على الأرجح من فلسطين بعد قتل دولة الرومان لهم - أصول زراعتهم وأنواعا جديدة من الأشجار وأقاموا حصونا وآطاما؛ لاتقاء غارات البادية من الأعراب، وقالوا: إن اليهود أدخلوا إلى جزيرة العرب هذه الآطام وكان عددها نحو سبعين جاء النهي عن هدمها. ومن الحصون التي أقاموها حصن الأبلق للسموءل وحصن القمومي لبني أبي الحقيق وحصون السلالم والوطيح وناعم وسعد بن المعاذ.
وتعرب اليهود في الجزيرة وأخذوا يتكلمون العربية، وامتزجت عاداتهم بعادات العرب، وتخلقوا بأخلاقهم، ونزلوا عن كثير من مصطلحاتهم ومواضعاتهم، وأصبحوا يفاخرون كالعرب بالشجاعة وعلو الهمة وإكرام الضيف؛ يوقدون النار في الليل ليرشدوا السائرين، ويدعوهم إلى الضيافة على عادة العرب، وينظمون الشعر في هذه الأغراض الكثيرة، ومن شعرائهم السموءل بن عادياء وكعب بن الأشرف والربيع بن أبي الحقيق وشريح بن عمران وشعبة بن غريض، كما كان من شعراء النصارى أمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة وعدي بن زيد. عن مروان بن الحكم
22
عن معاوية بن أبي سفيان عن أبيه قال: خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجارا إلى الشام فكلما نزلنا منزلا أخذ أمية سفرا له يقرؤه علينا، فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى.
وراجت اليهودية في حمير في اليمن على أثر جلاء اليهود من فلسطين إلى الحجاز، وكان اليهود في جزيرة العرب تجارا، ويعانون صنع الأمتعة والصياغة والسيوف والدروع وسائر الآلات الحديدية، ويقول ولفنسون: إن اليهود كانوا أساتذة العرب في تعلم الكتابة العربية والفلاحة بالآلات، وقد بلغت عاد وثمود والعمالقة وحمير من بعدهم والتبابعة والأذواء الغاية من الحضارة، ورسخت فيهم الصنائع أيما رسوخ. ويقول بعض علماء الآثار: إن اليمن سبقت بتمدنها بابل ومصر، ومنها هاجر أجداد الفراعنة، ومنها كان أجداد البابليين والأشوريين، وإلى مصر وبابل وأشور حمل اليمانيون الصناعات والعلوم والتجارة. وقال آخر: إن اليمانيين أو الحميريين هم الذين مدنوا شواطئ آسيا وإفريقية وأوروبا، وكانوا في القديم أميل في مدنيتهم إلى التجارة، لا إلى الغزو والغارة؛ ولذلك كان معظم الأذواء يتجرون، فإذا كانت لرجل منهم مطامع في السيادة تغلب على البلاد.
ولقد كانت الأمية غالبة على العرب ما خلا حمير في اليمن وسكان الحيرة في العراق، وقد تعلموا الخط من إياد، وأصل إياد من تهامة، ونزلوا العراق فكانوا يشتون فيها ويصيفون في الجزيرة، وكان منهم لقيط بن معبد الإيادي كاتب كسرى بالعربية وترجمانه،
23
وهو صاحب القصيدة المشهورة التي حذر فيها قومه من غزوة كسرى لهم، يوم عرض رجلان من إياد لعروس اسمها شيرين من أشراف العجم ومعها جواريها فعبثا بهن، وكان عدي بن زيد من أهل الحيرة من تراجمة أبرويز ملك الفرس، وكان أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى، وكان أبوه شاعرا خطيبا وقارئا كتاب العرب والفرس،
24
وابنه زيد بن عدي كان يلي الكتابة عند كسرى إلى ملوك العرب في خاص أمور الملك ،
25
ومن إياد نقل أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة وقيل: حرب بن أمية، الكتابة إلى قريش بمكة، وتعلم بشر بن عبد الملك الكندي
26
الخط العربي وهو الجزم في الأنبار من مرامر وأسلم الطائيين، وخرج إلى مكة فعلم الخط سفيان بن حرب وتعلمه معاوية من عمه سفيان، وكثر من يكتب بمكة من قريش، وقيل: إن أول من كتب في جزيرة العرب بالعربية مرارة بن مرة من أهل الأنبار، وقالوا: إن ورقة بن نوفل كان يكتب وأجاد العربية وكتب بحروفها،
27
وكان سعد بن الربيع يكتب في الجاهلية،
28
قال الأصمعي: زعموا أن قريشا سئلوا من أين لكم الكتابة، فقالوا: من الحيرة، وقيل لأهل الحيرة: من أين لكم الكتابة، فقالوا: من الأنبار.
ويستدل من ذلك أن إيادا كانت على جانب من الحضارة، وأن العرب استفادت منهم وهم استفادوا من اختلاطهم بالفرس والروم، ودام ذلك لإياد حتى كانت وقعة سابور، وقد أوقع بإياد وعمهم القتل، وما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم وتنصروا ودانوا لغسان، ولما فتح المسلمون الأنبار رأوا أهلها يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسئلوا من هم، فقالوا: قوم من العرب نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا، وقيل: إن نفرا من أهل العرب من إياد القديمة هم وضعوا حروف ألف ب ت ث، وعنه أخذت العرب. وذكروا أن أهل
29
القرى ألطف نظرا من أهل البدو، وكانوا يكتبون لجوارهم أهل الكتاب.
ويرى صاحب فجر الإسلام
30
أن عرب الحيرة تسرب إليهم شيء من علوم اليونان وآدابهم، ذلك أن الحكومة الفارسية في عهد هرمز الأول أنشأت مستعمرات كونتها من أسرى الحرب الرومانيين، وكان من بين هؤلاء الأسرى من ثقف بالثقافة اليونانية، ومنهم من كان يفوق الفرس في الفن والهندسة والطب فاستخدموه في مهام شئونهم، ومن هؤلاء الأسرى من نزلوا الحيرة، ويظن بعضهم أنهم هم منبع النصرانية فيها، وعلى كل حال فقد كان في الحيرة مبشرون بالنصرانية داعون إليها، ولبى الدعوة منهم هند زوج النعمان الخامس، وقد أنشأت ديرا سمي بدير هند كان إلى عهد الطبري، وهند هذه هي التي خطبها في الإسلام المغيرة بن شعبة وهي مترهبة في ديرها فأبت، وسألها عن حال دولة أهلها فقالت: «أمسينا مساء وليس في الأرض عربي إلا وهو يرغب إلينا ويرهبنا، ثم أصبحنا وليس في الأرض عربي إلا ونحن نرغب إليه ونرهبه.»
31
قال: وقد كان لعرب الحيرة وأمرائهم وتاريخهم أثر كبير في الأدب العربي والحياة العقلية للعرب عامة؛ فأحاديث جذيمة الأبرش وأساطير الزباء (وهي من الحيرة قبل إنشاء الإمارة) والخورنق والسدير والتغني بهما وبعظمهما، والأقاصيص حول سنمار باني الخورنق، والأمثال التي ضربت فيه، ويوما النعمان يوم نعيمه ويوم بؤسه، كل هذه وأمثالها شغلت جزءا كبيرا من الأدب العربي، وكلها تتعلق بعرب الحيرة وحياتهم، أضف إلى ذلك ما ذكره ابن رسته في الأعلاق النفيسة من أن أهل الحيرة علموا قريشا الزندقة في الجاهلية والكتابة في صدر الإسلام، وكان أمراء الحيرة مقصدا لشعراء عرب الجزيرة ينفحونهم بالمال الكثير، ليبشروا بهم بين البدو في أنحاء الجزيرة، وديوان النابغة الذبياني مملوء بالقصائد التي قيلت في مدح النعمان والاعتذار إليه ونحو ذلك. ا.ه.
ويقول جويدي:
32
إن شمالي بلاد العرب تأثر بمدنية البلاد المجاورة، أي بالمدنية الفارسية والبيزنطية بمعنى أنهم أخذوا من الساسانيين في الشرق والبيزنطيين في الغرب، ثم تأثرت بعد ذلك اليمن، فاستفادت العرب إذا من المدنيات اليونانية والرومانية والفارسية، وكانوا مدينين لهؤلاء بكثير من ترقيهم الذي تقدم حوادث الإسلام العظيمة، وكانوا قبل الإسلام بقرنين أو ثلاثة أنشأوا ممالك وتمرنوا على فنون الحرب، وارتقوا في حياتهم المدنية، ونشأ شعرهم وأدبهم، وقد وردت في أشعار العرب العرباء ألفاظ آرامية مثل «دمية»، ولما كان العرب يحتقرون العمل في الزراعة اعتمدوا على الآراميين، فدخلت لغتهم ألفاظ آرامية كثيرة، منها الأكار والحرث والنير والناطور والفدان، وكثير من أسماء النبات والرياحين جاءتهم قبل الإسلام من لغات غير عربية، ومنها «الزيتون»، وأسماء المصابيح من مثل «قنديل»، «سراج»، «نبراس»، ومثل «أتون»، «تنور»، «فرن»، وكذلك «القميص»، «السربال»، «البرنس»، «المرجان»، «الجمان»، «الزبرجد»، «الدرة» انتهى قوله. وكما دخلت اللغة ألفاظ آرامية دخلت ألفاظ رومية وحبشية
33
فاستعاروا من اليونانية ألفاظ «أسطول» و «أنجر» و«نوتي»، ومن السريانية أو الآرامية «سفينة»، «قارب»، «قرقور»، «دقل»، «ربان»، «ملاح»، «سكان»، «قلع»، «مجذاف»، «صاري»، ومن الحبشية «بحر»، «شراع»، «مرسى».
ونحن إذا نظرنا مليا في لغة العرب نفسها قبل الإسلام نجدها تحوي كثيرا من الألفاظ التي تدل على أن هناك أسماء لم توضع لو لم يكن لها مسميات عندهم معروفة، مثل قولهم برد «مرجل» فيه صور الرجال، و«مطير» إذا كانت فيه صور الطير، و«مخيل» إذا كانت فيه صور الخيل، و«مهلل» إذا كانت فيه نقوش وصور كالأهلة، و«المعين» إذا كانت ترى في وشيه ترابيع صغار تشبه عيون الوحش، وهل للغة أن يكون فيها اسم بلا مسمى؟ وما كثرت الأسماء إلا بكثرة القبائل وهي تختلف بحضارتها ورفاهيتها، والحضارة كانت في معظم العصور، ولا سيما في جزيرة العرب أشبه بواحات وسط البوادي، ليس لها هذا التسلسل الذي عرفت به في الأمم المتحضرة في الغرب، لاختلاف الأهوية وطبائع تلك الأصقاع.
ومع غلبة الأمية على العرب فإن علومهم كانت ابتدائية وأكثرها تجارب وأشعار تحمل في الصدور، فمن علومهم علم النجوم وكان لهم يد فيه، وعلم الأنواء والرياح والكهانة والعرافة أو معرفة المستقبل والغيب، والأساطير والطب والنسب والتاريخ، ومن هذه العلوم ما كانوا يتوارثونه
34
آخر عن أول على قول ابن قتيبة كالنجوم ومناظرها وأنوائها والاهتداء بها والبروق والسحاب والرياح والعلم بالخيل والإبل والنبات، هذا إلى ما خصوا به من القيافة والطرق والزجر، وإنما يكون ذلك في الواحد منهم والاثنين في القبيلة وسائر من فيها لا يعرف من ذلك إلا النبذ اليسيرة، ودخل الإسلام وليس في قريش سوى سبعة عشر رجلا يكتبون، وكان منهم جلة الصحابة، وبضع نساء، وليس في جميع اليمن من يقرأ ويكتب، وأهم علومهم الشعر كانوا يقيمونه مقام الحكمة وكثير العلم،
35
فإذا كان في القبيلة الشاعر الماهر، المصيب المعاني، المخير الكلام، أحضروه في أسواقهم التي كانت تقوم لهم في السنة، ومواسمهم عند حج البيت، حتى تقف وتجتمع القبائل والعشائر فتسمع شعره ، ويجعلون ذلك فخرا من فخرهم، وشرفا من شرفهم، ولم يكن لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر، فيه كانوا يختصمون، وبه يتمثلون، وبه يتفاضلون، وبه يتقاسمون، وبه يتناضلون، وبه يمدحون ويعابون. قال ابن سلام: إن أشعر شعراء القرى العربية - وهي خمس: المدينة ومكة والطائف واليمامة والبحرين - شعراء قرية المدينة، وعرفت للعرب ذاكرة قوية في حفظ الشعر بحيث يروي العربي عشرات القصائد ومئات الأبيات على أيسر وجه، وذلك لاعتمادهم أبدا على حافظتهم، وقلما حفظوا شيئا من خطبهم؛ ولذلك كان المنقول عن الجاهلية من الشعر العربي أوفر كثيرا من المنقول من خطبهم.
قال الجاحظ: لم يكن العرب تجارا ولا صناعا ولا أطباء ولا حسابا، ولا أصحاب فلاحة فيكونوا مهنة، ولا أصحاب زرع لخوفهم من صغار الجزية، ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم وطلب ما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغناء الذي يورث البلادة، والثروة التي تحدث الغرة، ولم يحتملوا ذلا قط فيميت قلوبهم، أو تصغر عنده نفوسهم، وكانوا سكان فياف وتربية عراء لا يعرفون الغمق ولا اللثق،
36
ولا البخار ولا الغلظ ولا العفن ولا التخم: أذهان حداد، ونفوس مفكرة، فحين جلوا حدهم، ووجهوا قواهم إلى قول الشعر وبلاغة المنطق، وتثقيف اللغة وتصاريف الكلام، وقيافة البشر بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب والمثالب بلغوا في ذلك الغاية وحازوا كل أمنية، وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع، وهم من جميع الأمم أفخر، ولأيامهم أذكر. ا.ه.
الزواج عند العرب وبعض عاداتهم
جاء الإسلام وبعض العرب يئدون بناتهم، أي يقبرونها ويهيلون عليها التراب مخافة العار والحاجة، وفي التنزيل:
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ،
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا .
37
وكانوا يجمعون بين الأختين ويخلف الرجل على امرأة أبيه إذا مات، ويطلقون النساء حتى إذا قرب انقضاء عدتهن راجعوهن لا عن حاجة ولا لمحبة، ولكن تطويلا للعدة ولتوسيع مدة الانتظار ضرارا، وكان الرجل يطلق امرأته أو يتزوج أو يعتق ويقول: كنت لاعبا، ويمنعون النساء أن يتزوجن من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن حمية جاهلية، وإذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء أن يتزوجها بعضهم، وإن شاء زوجوها أو عضلوها فهم أحق بها من أهلها، وإذا مات الرجل قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نكاحها، فإن لم يكن له فيها حاجة تزوجها بعض إخوته بمهر جديد، وهذا نكاح المقت، فأنزل تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن ،
38
وكان الرجل يقول لزوجته إذا طهرت من طمثها:
39
أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه لتحمل ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها، يفعل ذلك رغبة في نجابة الأولاد، وهذا نكاح الاستبضاع، وكان يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبونها عن رضا منها، فإذا حملت ووضعت أرسلت إليهم وخاطبتهم فيما كان من أمرهم معها، وألحقت الولد بمن أحبت لا يمتنع من قبوله. وينصب البغايا على أبوابهن رايات ليعرف محلهن، ومنه نكاح الخدن وهو المشار إليه بقوله تعالى:
محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ، وكانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به وما ظهر فهو لوم. ومنه نكاح المتعة وهو التزوج إلى أجل، ومنه نكاح البدل وهو أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، ومنه نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته أو ابنة أخيه من رجل آخر على أن يزوجه هذا الرجل ابنته أو أخته ليس بينهما صداق.
ومنهم من كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به سبحانه، وإلى هؤلاء القوم يشير تعالى:
ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون .
40
وقد كانت للعرب أوابد أي؛ دواه تجافى الإسلام عنها وأبطلها، حرصا على حقوق المرأة وسلامة البيوت من العهر، على أن قريشا كانت أنكحتها قبل الإسلام مستقيمة إلا ما ندر، وقريش أصح العرب أخلاقا وأنسابا وعفة وأنفة، تجردت نفوس أكثرهم عن لوثات القبائل المجاورة، وكانوا لا يحجبون نساءهم لما يعرفون من أنفسهم من العفة والحشمة، وكان شعراؤهم يعشقون ويعفون، وربما هلكوا بعشقهم وما باحوا به، حتى لا يفتضحوا ويفضحوا غيرهم، وأكثر حبهم عذري لا ريبة فيه.
وكانوا يؤخرون شهر المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات، ويؤخرون الحج عن وقته تحريا منهم للسنة الشمسية وهو ما يسمونه بالنسيء، وفي التنزيل:
إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ،
41
وقد كانت قريش وأكثر العرب يطوفون بالبيت عراة، ويحرمون على أنفسهم اللحم والودك،
42
فنزل قوله تعالى:
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ،
43
ونهت السنة عن أربعة وهي: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر. والعدوى معروفة، والطيرة: التطير أو التشاؤم، والهامة: ما كانت العرب تعتقده من أن القتيل إذا طل دمه فلم يدرك بثأره صاحت هامته بالقبر اسقوني، وأما الصفر: فهو كالحبة يكون في الجوف يصيب الماشية والناس، وهو أعدى عندهم من الجرب، وقيل: شهر صفر وكان العرب يعدونه شؤما. «كان العرب يأكلون
44
الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ويلبسون ما غزلوا من أوبار الإبل وأشعار الغنم»، «وكان الناس طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة
45
من الشام من الدرمك ابتاع منها فخص بها نفسه، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير.» بل كانوا قبل الإسلام يأكلون ما دب ودرج
46
إلا أم حبين وهي أشبه بالحرباء، ولم يكن إلا لبعض قبائلهم القريبة من الحيرة والشام «شيء طريف، ولقمة كريمة، ومضغة شهية»، وقلما يعرفون «رفاغة العيش والناعم من الطعام»، والإبل عندهم أفضل الذبائح، ولأهل البدو اللباء والسلاء والجراد والكمأة والخبزة في الرائب والتمر بالزبد والخلاصة والحيس والوطيئة.
47
والفالوزق أو الفالوذج أشرف ما عرفوا من طعام، ولم يطعم الناس أحد منهم ذلك الطعام إلا عبد الله بن جدعان من أجواد قريش، ذهب مرة إلى كسرى فأطعمه إياه فاستطابه، وسأل كيف يصنع فقيل له: إنه لباب البريلبك بالعسل، فابتاع غلاما يصنعه له، ورجع إلى مكة وصنع الفالوذج، ودعا إليه أصحابه، وكان له مناد ينادي «هلم إلى الفالوذ»، وكانت له جفنة يطعم فيها في الجاهلية، ويأكل منها القائم والراكب لعظمها، وربما حضر النبي طعامه قبل النبوة، وكان يسمى بحاسي الذهب؛ لأنه كان يشرب في إناء من ذهب، وقالوا في المثل: «أقرى من حاسى الذهب.» وزعموا أن ابن جدعان هذا كان في بدء أمره فقيرا مملقا وكان شريرا يكثر من الجنايات حتى أبغضه قومه وعشيرته وأهله وقبيلته، فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائرا بائرا فرأى في غار قبور الرجال من ملوك جرهم، ووجد عند رءوسهم لوحا من ذهب فيه تاريخ وفاتهم وعدد ولايتهم، وإذا عندهم من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة شيء كثير، فأخذ منه حاجته وانصرف إلى قومه فأعطاهم وحباهم وسادهم، وكلما قل ما في يده ذهب إلى ذلك الغار فأخذ حاجته، روى ذلك ابن كثير.
48
وإذا عرفنا أن من شعراء الجاهلية كالنابغة الذبياني وحسان بن ثابت من كانوا مرفهين في معاشهم بل فوق المرفهين، صح لنا أن نستأنس بحسن حالة العرب قبل الإسلام بعض الشيء؛ فقد ذكر صاحب الآغاني أن النابغة كان يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجده، ولا يستعمل غير ذلك، وعلى الجملة فقد كانت مضر
49
من قريش وكنانة وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة أهل شظف ومواطن غير ذات زرع ولا ضرع، بعيدين من أرياف الشام والعراق، ومعادن الأدم والحبوب، أما العرب الذين كانوا بالتلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش، فهم حمير وكهلان من مثل لخم وجذام وغسان وطي وقضاعة وإياد. قال ابن خلدون: ولم تكن أمة من الأمم أسغب عيشا من مضر لما كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع، وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن، فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها، ولقد كانوا كثيرا ما يأكلون العقارب والخنافس ويفخرون بأكل العلهز، وهو وبر الإبل، يمهونه بالحجارة في الدم ويطبخونه، وقريبا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم.
وكانت للعرب قبيل الإسلام مجالس أدب وطرب فيها شيء من حياة المدن ورفاهية البشر؛ ولا سيما في مدنهم الكبرى كمكة ويثرب، وكان الحكم بن العاص أبو مروان بن الحكم، وقيس الفهري أبو الضحاك بن قيس، ومعمر بن عثمان جد عمر بن عبيد الله بن معمر يضربون بالعود، وكان النضر بن الحرث بن كلدة يضرب بالعود، وتعلم العلوم القديمة واطلع على علوم الفلسفة والطب وهو ابن خالة النبي، وكان والده الحرث بن كلدة يضرب بالعود، تعلم ذلك بفارس واليمن،
50
قال المسعودي: إنه تعلم الغناء من الحيرة وكذلك ضرب العود، فقدم مكة وعلم أهلها فاتخذوا القينات، وتعلم الطب بفارس في الجاهلية وقبل الإسلام. وكان النبي يأمر من كانت به علة أن يأتيه فيسأله عن علته، وكيف يضرب هؤلاء بالعود إن لم تكن لقومهم رفاهية أو شبهها، والموسيقى لا تكون إلا في أمة استكملت الحاجيات فتطلعت إلى الكماليات، وكان عبد الله بن سعيد بن العاص يكتب في الجاهلية وأمره الرسول أن يعلم الكتاب بالمدينة، وروى ابن أبي الدنيا أنه كان يعلم الحكمة بالمدينة، واشتهرت العرب بسيوفها المشرفية ورماحها السمهرية، وسهامها التي تصيب فتصمي، وعرفوا كثيرا من آلة القتال كالدبابات والضبور
51
ونحوها، وعرفوا البرود اليمانية المشهورة وتطريق المعادن وصنع الحديد وما إلى ذلك من الصنائع، وكانت اليمن في هذا المعنى أعلى كعبا من الحجاز، وأسباب المدنية في الأولى موفورة أكثر من الثانية، فكانت الطبقة الممتازة من الحجازيين تجارا ومثلها من اليمانيين تجارا وصناعا.
حكومات العرب في الجاهلية
كان من دأب العرب «أن يقتل
52
بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض»، ويرجعون مع هذا في حكومتهم إلى رؤساء قبائلهم وعشائرهم في كثير من تراتيبهم، وكلهم يحكمون في أمورهم ومنافراتهم ومواشيهم ومياههم أهل الشرف والصدق والأمانة والرياسة والسن والمجد والتجربة منهم، وكان عمرو بن لحي ذا سلطان على عرب الجاهلية وكان قوله وفعله
53
فيهم كالشرع المتبع؛ لشرفه فيهم ومحلته عندهم وكرمه عليهم، وإذ كانت قريش ترى أن من مصلحة بلادها أن ينصفوا الناس؛ لأنهم في حاجة إلى جلبهم لزيارة البيت وترويج التجارة، كانوا يعنون برفع الظلم عن الغريب عنهم و«حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت الرياسات وشاهدوا من التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عنه سلطان قاهر، عقدوا بينهم حلفا على رد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم.» واجتمعت بطون قريش في بيت عبد الله بن جدعان على رد المظالم بمكة، وكان الرسول معهم وهو ابن خمس وعشرين سنة فعقدوا حلف الفضول، فقال الرسول ذاكرا للحال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول، أما لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت، وما أحب أن لي به حمر النعم وأني نقضته، وما يزيده الإسلام إلا شدة.»
وكان الداعي إلى عقد حلف الفضول أن هاشما
54
وزهرة وتيما دخلوا على عبد الله بن جدعان فتحالفوا بينهم على دفع الظلم وأخذ الحق من الظالم، سمي بذلك؛ لأنهم تحالفوا أن لا يتركوا عند أحد فضلا يظلمه أحد إلا أخذوه له منه. وقيل: سمي به تشبيها بحلف كان قديما بمكة أيام جرهم على التناصف والأخذ للضعيف من القوي والغريب من القاطن، وسمي حلف الفضول؛ لأنه قام به رجال من جرهم كلهم يسمى الفضل: الفضل بن الحرث والفضل بن وداعة والفضل بن فضالة، فقيل: حلف الفضول جمعا لأسماء هؤلاء، كما يقال: سعد وسعود، وقيل: إنه سمي بذلك؛
55
لأنه لما تداعت له قبائل قريش كره ذلك سائر المطيبين والأحلاف بأسرهم وسموه حلف الفضول عيبا له وقالوا: هذا من فضول القوم على اختلاف في أصل الاسم. وهذا الحلف كان عقده المطيبون وهم خمس قبائل، وقيل ست قبائل، وهم: عبد الدار وكعب وجمح وسهم ومخزوم وعدي سموا الأحلاف؛ لأنهم لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي بني عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية وأبت بنو عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا فأخرجت عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعتها لأحلافهم وهم: أسد وزهرة وتيم في المسجد عند الكعبة، فغمسوا أيديهم فيها وتعاقدوا ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا فسموا المطيبين، وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤهم حلفا آخر مؤكدا على أن لا يتخاذلوا فسموا الأحلاف.
ولم تكن العرب تملك عليها في الجاهلية أحدا، فإن كان حرب اقترعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه صغيرا كان أو كبيرا، فلما كان يوم الفجار
56
اقترعوا بين بني هاشم، فخرج سهم العباس وهو صغير فأجلسوه على المجن ويسمى ذلك حلوان النفر، ولم يكونوا يسودون عليهم في الجاهلية
57
أحدا لشجاعة ولا سخاء، وإنما يسودون من إذا شتم حلم، وإذا سئل حاجة قضاها أو قام معهم فيها، ولسان حالهم:
وقد يبغض الحيات أولاد آدم
وأبغض ما فيها إليهم رءوسها
وما ابتليت يوما بشر قبيلة
أضر عليها من سفيه يسوسها
وانتهى الشرف في قريش أيام الجاهلية إلى عشرة رهط من عشرة أبطن وهم: هاشم وأمية ونوفل وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجمح وسهم، وتسلسل هذا الشرف فيهم في الإسلام، فكانت هاشم تسقي الحجيج، وبقي لها ذلك في الإسلام، ومثلها أمية كانت عندها الراية واسمها العقاب، وكانت لنوفل الرفادة وهي أن تخرج مالا ترفد به منقطع الحاج، وكان لبني عبد الدار اللواء والسدانة والحجابة والندوة، ولأسد المشورة، ولتيم الأشناق وهي الديات والمغرم، ولبني مخزوم القبة والأعنة، ولعدي السفارة، ولجمح الأيسار وهي الأزلام، ولسهم الحكومة والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم.
قال أبو عثمان الجاحظ:
58
وأنشدت سهل بن هارون قول سلمة بن خرشب وشعره الذي أرسل به إلى سبيع التغلبي في شأن الرهن التي وضعت بين يديه في قتال عبس وذبيان، فقال سهل بن هارون: والله لكأنه سمع رسالة عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، إلى أبي موسى الأشعري في سياسة القضاء وتدبير الحكم. والقصيدة قوله:
أبلغ سبيعا وأنت سيدنا
قدما وأوفى رجالنا ذمما
أن بغيضا وأن إخوتها
ذبيان قد ضرموا الذي اضطرما
نبئت أن حكموك بينهم
فلا يقولن بئس ما حكما
إن كنت ذا خبرة
59
بشأنهم
تعرف ذا حقهم ومن ظلما
وتنزل الأمر في منازله
حكما
60
وعلما وتحضر الفهما
ولا تبالي من المحق ولا ال
مبطل لا إلة ولا ذمما
فاحكم وأنت الحكيم بينهم
لن تعدموا الحكم ثابتا صما
61
واصدع أديم السواء بينهم
على رضا من رضي ومن رغما
إن كان مالا ففض عدته
مالا بمال وإن دما فدما
حتى ترى ظاهر الحكومة مث
ل الصبح جلي نهاره ظلما
هذا وإن لم تطق حكومتهم
فانبذ إليهم أمورهم سلما
وقد خصت قريش من بين العرب بمزايا جليلة وصفها الجاحظ بقوله: قد علم الناس كيف كرم قريش وسخاؤها، وكيف عقولها ودهاؤها، وكيف رأيها وذكاؤها، وكيف سياستها وتدبيرها، وكيف إيجازها وتحبيرها،
62
وكيف رجاحة أحلامها إذا خف الحليم، وحدة أذهانها إذا كل الحديد، وكيف صبرها عند اللقاء، وثباتها في اللأواء، وكيف وفاؤها إذا استحسن الغدر، وكيف جودها إذا حب المال، وكيف ذكرها لأحاديث نجد، وقلة صدودها عن جهة القصد، وكيف إقرارها بالحق وصبرها عليه، وكيف وصفها له ودعاؤها إليه، وكيف سماحة أخلاقها، وصونها لأعراقها، وكيف وصلوا قديمهم بحديثهم، وطريفهم بتليدهم، وكيف أشبه علانيتهم سرهم، وقولهم فعلهم، وهل سلامة صدر أحدهم إلا على قدر بعد غديره، وهل غفلته إلا في وزن صدق ظنه، وهل ظنه إلا كيقين غيره.
العرب في الإسلام
حالة العالم في الإسلام وحال الأولين من المسلمين
كان أهل الأرض يوم قام الرسول يهدي من الضلالة وينقذ بمكانه من الجهالة - كما قال علي بن أبي طالب: مللا متفرقة، وأهواء منتشرة، وطوائف مشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره، ضلالا في حيرة، وخابطين في فتنة ، قد استهوتهم الأهواء، واستزلتهم الكبرياء، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل، وأرسل الرسول «على
1
حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعتزام من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من مائها، قد درست منار الهدى، وظهرت أعلام الردى، فهي متجهمة
2
لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف.»
جمع الإسلام من شمل العرب بعد تشتتهم، وآخى بينهم مؤاخاة ما عهدوها، وهذب نفوسهم حتى سلس قيادهم بعد شماسه، وثقفهم ثقافة أفادوا بها ففادوا بالأهل والولد والنفس والمال في نصرة دينهم، فامتن تعالى عليهم بقوله:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون . وأناس أصبح هذا حالهم لا يستعظم عليهم أن يفتحوا في سنين قليلة - الشام والعراق وفارس ومصر والجزيرة والروم والسند وبخارى والمغرب والأندلس وجزر البحر المتوسط، وأن يضعوا الجزية على ملك الصين، والتوفيق حليف رايتهم أينما حلت، يفتحون بالعدل قلوب من يغلبونهم على أمرهم، عقبى فتحهم بلادهم عنوة أو صلحا، يتحامون ما أمكن إهراق الدماء، ويرفقون بالمستضعفين من الأولاد والنساء والرهبان والراهبات، وينشرون كلمة التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة، ويعلمون الأمم المغلوبة لسانهم ومنازعهم، مؤثرين في كل حالة من حالاتهم الآخرة على الدنيا، وكذلك كانوا في أقوالهم وأفعالهم.
وعجيب، وأيم الحق، أن تصدر مثل هذه الفعال من أمة كانت بالأمس ضالة بأخلاقها، ضعيفة بكيانها، فاسدة معظم تراكيبها، وعجيب أن يصوغ محمد في بوتقته أصحابا كانوا مثال الحق والصدق في العالمين، يخرجهم بحرارة الإيمان ذهبا إبريزا، ومن قبل كان أكثرهم لا عيار له ولا وزن، وهذه أعظم معجزة بعد قرآنه الذي حمله لأمته، فأشرب نفوسها حب الطاعة ، وما كان أعصاها على كل نظام، ولا غرو والأمر على ما ذكر أن يغلب الألف منهم الألفين والثلاثة، فقيمة الأمم بعددها لا بعددها، ومن هان عليه الموت في سبيل نشر دينه، وتأييد سلطانه، جاء بما يتعذر على غيره أن يقوم بمثله ممن كانت عقيدته إلى ضعف وأمره إلى تقلقل. وكان بعض من آمنوا بالرسول في مبدأ الإسلام في مكة
3
ممن لا عشائر لهم، وليست لهم منعة ولا قوة، تعذبهم قريش في الرمضاء بأنصاف النهار، ليرجعوا عن دينهم أو يحمون الحديد ويضعونهم عليه، وما صبأ
4
منهم أحد، وما زادتهم خشونة قومهم إلا ثباتا، وكانوا يسمون المستضعفين، وهم راضون بما ينالهم، وسواء عندهم احلولى عيشهم أو املولح، إذا كان في ذلك نصرة الدين، فالإسلام هو الذي جعل في العرب خاصية في أخلاقها ساقتها إلى العمل الصالح، فوحد بين مقاصدها ووجهها إلى هدف واحد، ومن حرص على الموت وهبت له الحياة، والقرآن استهواهم بأسلوبه الجذاب، وخلب ألبابهم بفصاحته وبلاغته، فاسترقهم فآمنوا به وبمن جاءهم به، وما هي إلا أيام معدودات حتى هذبت مدرسة محمد بن عبد الله من نفوسهم، وأنشأت منهم رجالا أصبحوا في عقلهم وعدلهم موضع الاستغراب، على توالي القرون والأحقاب، وليس في وسع مؤمن أو جاحد ينظر في تاريخ العرب النظر المجرد عن الهوى، إلا وتأخذه الدهشة من صنيعهم وحسن بلائهم في عهدهم الجديد.
مثال من سرعة تبدل الأخلاق بالدين: أكثرت الخنساء الشاعرة في الجاهلية من رثاء صخر أخيها لأبيها وشقيقها معاوية، وكان صخر أحبهما إليها، وكان حليما جوادا
5
محبوبا في العشيرة، فلما جاء الإسلام وأسلمت شهدت وقعة القادسية مع أربعة بنين لها فخطبتهم مبينة لهم ما أعد الله من الثواب في حرب الكافرين، وأن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فخرجوا قابلين لنصحها واستشهدوا كلهم، فلما بلغها الخبر قالت: الحمد لله شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته، ولم تجزع على أفلاذ كبدها جزعها من قبل على أخيها لأبيها أيام الجاهلية.
بماذا امتاز العرب المسلمون؟
حملت العرب إلى ما وراء جزيرتهم كتابا مختصرا فيه ما يصلحهم ويصلح غيرهم، وأهم سر في غناء قانونهم المبتكر أنهم كانوا يعملون بأحكامه، لا يخرمون منه حرفا ويحفظون معه أمورا تنفعهم في تمثل الحياة الفاضلة الساذجة، ومنها قواعد القتال، ومعرفة طبائع من يحتلون أرضهم، ومن أهم ما عرفوا به اعتصامهم بالصبر، وتحليهم بالشجاعة والكرم والنجدة والوفاء، ونفوس شفافة سليمة من مثل هذه لا يستكثر منها سرعة انطباعها بطابع محدث من الحضارة، وهي بفطرتها مستعدة لقبول الخيرات، بعيدة في كل أحوالها عن اللغو والعبث، ما عاقتها حرارة أرضها عن بلوغ أقصى مدى العمل المعجب، وأكذبت بما فعلت دعوى من قالوا: إن الحضارة وليدة البلاد الباردة.
كان من الغارات التي تغيرها العرب على الأقطار المجاورة في القرون السالفة سواء احتلوها زمنا أو أنشأوا فيها دولة أو شبه دولة، ومن غارات الغريب الذي حاول استعبادهم يوما فردوه على أعقابه، ومن تمرن فريق منهم كالغسانيين والتنوخيين والتغلبيين واللخميين والإياديين عند الروم والفرس على معاناة الإدارة والعسكرية؛ كان من ذلك ما أورثهم علما عمليا أصابوا به حظا من إدارة الممالك، والحاجة تفتح باب المعرفة على ما جاء في أمثالهم، ومما ساعدهم على توسعهم أنهم كانوا يعرفون عدوهم أكثر مما يعرفهم، وهو يحتقرهم في الجملة، أما هم فيعتدون به، يحتقرهم لأنهم كانوا ينتجعون بلاده
6
ولا سيما إذا أقحطوا وضنت عليهم سماؤهم. نعم، كانوا لا يستهينون بخصومهم بل ينصفونهم ويعترفون لهم بفضلهم. عن المستورد
7
القرشي قال: سمعت رسول الله يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس» - يعنون بالروم من نعني اليوم بهم أهل الغرب - فقال عمرو بن العاص: أبصر ما تقول، قال: أقول: سمعت من رسول الله قال: «إن قلت ذلك فإن فيهم لخصالا أربعة: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة عند مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وأجبرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.» أليس هذا القول المتناهي في إنصاف العدو هو كلام من يعرف خصمه، وما انطوى عليه من مزايا وصفات؟
مجموعة الأمة العربية وأخلاق خلفائها وقوادها
ثم إذا تشابهت جزيرة العرب باللغة، واعتمدت في الإسلام على أفصح لهجاتها، وهي لغة قريش، فلا تتشابه كثيرا في درجة ارتقائها في المدنية، ويغلط من يدعي أن العرب كانوا نصف متمدنين أو نصف متوحشين لما خرجوا من جزيرتهم، وكما كان منهم أهل الوبر القائمون على الزرع والضرع، كان منهم أهل المدر، وهؤلاء يعانون التجارة والصناعة، والمدن التجارية الصناعية بطبيعتها تكون على استعداد دائم للامتزاج بمن تعامله ويعاملها، وعلى معرفة بمداخل الحياة ومخارجها. هذا، واليماني يمتاز بصفات ليست للحجازي، والنجدي غير الحضرمي، والعماني غير الأحسائي، وابن الساحل غير ابن الداخل، والجبلي غير السهلي، ومن مجموعهم كانت هذه الأمة العربية الفاتحة.
وإن خليفة يوصي قائده وهو يوجهه لقتال الروم في الشام بقوله: «إنك ستجد قوما حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حسبوا أنفسهم له - يريد بهم الرهبان - ويقول له: لا تغدر ولا تمثل ولا تقتل هرما ولا امرأة ولا وليدا ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا ما أكلتم، ولا تحرقن نخلا ولا تخربن عامرا ولا تغل.»
8
إن خليفة يقول لقائده هذا مضمون له التوفيق؛ لأنه يملي عليه أجمل عظة في العدل والإحسان، يقول روبنسون: إن شيعة محمد هم وحدهم الذين جمعوا بين محاسنة الأجانب ومحبة انتشار دينهم، هذه العاطفة هي التي دفعتهم في سبيل الفتح وهو سبب لا حرج فيه، فنشر القرآن جناحيه خلف جيوشه الظافرة إذ آغاروا على الشام، وانقضوا انقضاض الصواعق على إفريقية الشمالية من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلانطي، ولم يتركوا أثرا للعسف في طريقهم إلا ما كان لا بد منه في كل حرب، فلم يبيدوا قط أمة أبت الإسلام. ا.ه.
هذه سياسة العرب في فتحها لم يحيدوا عنها قيد أنملة، أما الرومان الذين بهت أنصارهم بعظمتهم، ولم ينظروا إلى الصورة التي دوخوا بها الأرض واستتبعوا الشعوب، فكانوا يبيدون كل عامر ويقتلون الأولاد والنساء والشيوخ، ثم يسترقون بقايا السيوف استرقاقا ممقوتا مجردا من كل عاطفة ومروءة.
كان الرومان إذا أطاعهم بلد قبلوا ما سقطوا عليه فيه من معبودات وأرباب، يضيفونها إلى ما عندهم منها، كأن المعبودات بعض الأعلاق والطرائف، كلما كثرت مجموعتها كان لغواتها ما يفاخرون به ويباهون، أما العرب فكانوا ينادون علنا بدينهم، موحدين الله، مصلين على رسوله، يفيضون العدل بين الرعية، ولا كبير أمام شريعتهم؛ لأنها ساوت بين العظيم والصعلوك، لا يكرهون أحدا على دينهم مهما عظم سلطانهم، يكتفون بخراج أو جزية لا يعد مقدارها شيئا بالقياس إلى ما كان على الناس أن يؤدوه من قبل، فلا عجب إذا دخل المغلوبون في دين الغالبين أفواجا، ولا بدع أن تشبه المغلوب بغالبه، فتلقف لسانه وهان عليه قبول أوضاع جديدة ما كان له بها عهد، وعد ما أتاه به نعمة، وأي نعمة، لانطوائه على السلام والطمأنينة والعدل المطلق.
وإن خليفة كعمر بن الخطاب تدركه الصلاة في كنيسة القيامة
9
في القدس، ويقول لبطركها صفرونيوس: أريد أن أصلي، فيقول له: صل يا أمير المؤمنين موضعك فيأبى، ثم يخرجه إلى كنيسة قسطنطين فيأبى، ويصلي وحده على بابها، ويقول للبطرك: إن سبب امتناعه من الصلاة في الكنيسة لئلا تخرج من يده ويأخذها المسلمون منه، ويقولون: هاهنا صلى عمر، ويكتب له سجلا على أن لا يصلي أحد من المسلمين على الدرجة إلا فرادى، ولا تجمع فيها صلاة ولا يؤذن عليها - إن خليفة يعمل هذا، وهو في قمة عز الإسلام، جدير بإعجاب العدو والصديق؛ لبعد نظره، وكثرة تسامحه، ولمعرفته الواسعة بإقامة الممالك واستمالة القلوب.
وإن قائدا كخالد بن الوليد يكتب إلى ملوك فارس قبل وقعة القادسية، يريدهم على الدخول في أمره ليدعهم وأرضهم ويجوزهم على غيرهم: «وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على غلب على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.» ويكتب إلى مرازبة
10
فارس: «أما بعد، فأسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر.» إن قائدا يقول هذا معبرا بلسان قومه عن استهانته بالموت في سبيل هدفه الأعلى، لا يستعظم منهم أن يغلبوا يوم الزحف، وهم أقل من ربع أعدائهم بعددهم، بيد أن العرب كانوا يحاربون وهم يعرفون السبب الذي من أجله يحاربون، فإذا ما سمعتهم كبروا التكبيرة ثم التكبيرتين والثلاث وهم زاحفون على أعدائهم أيقنت أنهم لا يرجعون أو ينتصرون، ولا يبقون ولا يذرون، وكانوا مع هذا كما قال فيهم
11
أعداؤهم: «فرسانا في النهار، رهبانا في الليل، يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دوي النحل، وهم آساد الناس لا يشبههم الأسود.» قوم كانوا بالأمس لإفراطهم في الحرية لا يخضعون لنظام، فلما دخلوا في الإسلام رأيتهم لا يخالفون أمرا لكبيرهم، يبايعونه على الطاعة والموت في سبيل الجماعة.
وإن خليفة كابن الخطاب يقول: «إني حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك عنا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم، ولست معلمكم إلا بالعمل، إني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عرضت علي الأمانة فإن أبيتها ورددتها عليكم واتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتي شقيت، ففرحت قليلا وحزنت طويلا، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب.» إن خليفة كهذا يقول عام الرمادة، وهو عام مجاعة وجدب وقحط: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم، ويقسم أن لا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيي الناس، وجعل يثرد بالزيت حتى تغير لون بشرته، ثم ينحر جزورا يطعمها الناس فيغرفون له طيبها فيؤتى بقدر من سنام ومن كبد فيقول: أنى هذا؟ فيقال له: يا أمير المؤمنين من الجزور التي نحرنا اليوم، فقال: بخ بخ بئس الوالي أنا أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها،
12
ارفع هذه الصفحة هات لنا غير هذا الطعام، فيؤتى بخبز وزيت فيكسر ويثرد في ذلك الزيت ويرسل الجفنة إلى أناس مقفرين. إن خليفة يعمل هذا في أيام الشدة، وفي أيام الرخاء، يقول لجماعة يطعمهم أكسار بعير وخبزا: إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب،
13
ولكني رأيت الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم، فقال:
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ، إن خليفة يفعل هذا غير متصنع ولا متعتع
14
حري بأن يحبه قومه ويطيعوه في كل ما يأمرهم به.
لما فتح عتبة
15
بن فرقد أذربيجان صنع سفطين من خبيص وألبسهما الجلود واللبود ثم بعث بهما إلى عمر، فلما أتاه الرسول بهما كشف عنهما فذاق الخبيص، فقال: إن هذا لطيب أثر، أكل المهاجرين أكل منه ما شبعه؟ قال: لا، إنما هو شيء خصك به، فكتب إليه من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عتبة بن فرقد، أما بعد، فليس من كدك ولا كد أمك ولا كد أبيك، لا تأكل إلا ما يشبع منه المسلمون في رحالهم.
حمل بعض الفرس إلى أبي عبيدة بن مسعود آنية فيها أنواع أطعمة فارس والألوان والأخبصة وغيرها فقالوا: «هذه كرامة أكرمناك بها وقرى لك.» قال: أأكرمتم الجند وقريتموهم مثله؟ قالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون. فرده وقال: «لا حاجة لنا فيه، بئس المرء أبو عبيدة أن صحب قوما من بلادهم أهرقوا دماءهم دونه أو لم يهريقوا، فاستأثر عليهم بشيء يصيب، لا والله لا نأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم.»
هكذا كانت سيرة من نهضوا بهذه الفتوح من خليفتهم إلى قائدهم، وكيف لا يفتحون المشرق والمغرب ومثل سيرتهم الذكية تأخذ بمجامع القلوب وما عهدت قط عند من نزلوا عليهم.
رأي لبون ودوزي في الفتوح العربية
يقول لبون: «إن اعتياد العرب الحروب والغارات في الجاهلية
16
كان منه قيام أمرهم في الإسلام، فبعد أن كان بأسهم بينهم، وجهوا غاراتهم نحو الأجانب فكان في ذلك قوتهم، ولما لم يبق أمامهم أعداء يقاتلونهم، عادوا يتقاتلون فأدى ذلك إلى انحطاطهم، وأهم العوامل في امتداد حكمهم اجتماع كلمة قبائلهم المختلفة تحت علم واحد، وهو علم الإسلام، فوجه هذا وجهتهم إلى هدف سام أورثهم حماسة، فكانوا أبدا على استعداد للمفاداة بأنفسهم في سبيله، وكان هذا الهدف دينيا صرفا، ودولة العرب قامت على هذا الأساس، وكانت الدولة الوحيدة الكبرى القائمة باسم الدين، ومنه انبعثت سياستها وحالتها الاجتماعية، وساعد العرب على فتوحهم كون العالم القديم كان يهوي إلى السقوط. فكان حريا بأمة متوحدة المقاصد والمنازع أن تفتح البلاد وتستبقيها، وما ضعف نشاطهم في هذه السبيل بل تعلموا في مدرسة مغلوبيهم، ولما ساووهم في الجندية كان نجاحهم مضمونا، وكنت ترى كل جندي من الجيش العربي على استعداد لبذل روحه لإنجاح المقصد الذي يقاتل لأجله، على حين كان كل إخلاص وحماسة وعقيدة قد اضمحلت من نفوس اليونان منذ زمن بعيد.» «وما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول أمرهم، وتحملهم على الإفراط المألوف عند الفاتحين في العادة، ولا اشتدوا في إرهاق المغلوبين على أمرهم، ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يريدون بثه في أقطار العالم، ولو عملوا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع لهم، فاتقوا حق التقاة هذه التهلكة التي لم ينج منها الصليبيون الذين دخلوا الشام في القرون اللاحقة، ولقد أدرك الخلفاء الأول بعبقريتهم السياسية النادرة في اتباع معتقد جديد، أن الأوضاع والأديان لا تفرض على الناس بالقوة، بل رأيناهم حيث دخلوا في الشام ومصر وإسبانيا يعاملون الشعوب بمنتهى الرفق، تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم غير ضاربين عليهم في مقابلة السلام الذي ضمنوه لهم إلا جزية ضئيلة، كانت على الأغلب أقل من الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل. وما عرفت الشعوب فاتحا بلغ هذا القدر من المسامحة، ولا دينا حوى في مطاويه هذه الرقة واللطف، وكانت هذه السماحة وهذا اللطف اللذان تجاهلهما المؤرخون، من بعض العوامل التي هيأت بسرعة انتشار فتوح العرب، وأهم سبب دعا إلى قبول دينهم وأوضاعهم ولسانهم، ونحن ندرك كيف تأصلت هذه العوامل الثلاثة بين ظهراني الشعوب التي رحبت بمقدمهم، وأنها قاومت بعد جميع الغارات، ووقت العرب من بوائق الاضمحلال، وما تم من هذا القبيل في مصر من أعظم ما يسترعي النظر، فقد حكم الفرس واليونان والرومان وادي النيل، ولم يوفقوا إلى أن يقلبوا المدنية الفرعونية القديمة، وأن يستعيضوا عنها بحضارتهم ، أما العرب فكان شأنهم في مصر غير هذا، عربوها وأسلموها.» وهناك عوامل أخرى غير سماحة العرب ولطف حكمهم، ضمنت لهم النجاح في بث دينهم وما تفرع من أوضاعه، وكانت هذه الأوضاع على غاية السذاجة بحيث امتزجت على أيسر سبيل مع الحاجات الساذجة في أهل الطبقات المتوسطة من الشعوب المغلوبة، وإذا حدث أن هذه الأوضاع لم تلتئم مع تلك الحاجات، كان العرب يعمدون إلى تعديلها بحسب الحال، وهكذا كانت الأوضاع الإسلامية في الهند وفارس وبلاد العرب وإفريقية البربرية ومصر تختلف كل الاختلاف، وكتابها واحد وهو القرآن. «ومن العوامل الفعالة في أصول المدنية التي وضعت العرب أساسها، ذاك المحيط الجديد الذي صاروا إليه، وشدة ما كانوا عليه من الذكاء، فإنهم ما كادوا يخرجون من صحاري بلادهم، حتى اتصلوا بالمدنية اليونانية اللاتينية، مستغربين شأنها، عارفين تفوقها الأدبي، كما أدركوا من قبل تفوقها الحربي، فحاولوا في الحال أن يساموها، فتمثلوا مدنية قديمة يقتضي لتمثلها فكر مهذب، وإن ما بذله البربر من الجهود خلال قرون كثيرة للأخذ ببقايا المدنية اللاتينية، ليدل على مبلغ الصعوبة في هذا الباب، ولحسن الحظ لم يكن العرب متوحشين، ونحن نجهل ما بلغوه من الحضارة في العهد الذي سبق الرسول، وكانوا على اتصال بالتجارة مع العالم، وكانت لهم ثقافة أدبية عالية لما ظهر صاحب الرسالة، وبديهي أن أديبا إذا قضي عليه أن يجهل أمورا كثيرة يكون له من استعداده العقلي ما يؤهله سريعا لإدراك أمور لم يكن يعرفها، فتحمس العرب في دراسة العالم الجديد الذي خرجوا إليه، كان كتحمسهم في فتحه واستصفائه، ولم يحمل العرب في دراسة هذه المدنية التي فاجأتهم شيئا من تأثيرات الأوضاع التي كانت ترهق البيزنطيين منذ زمن طويل، وهذه الحرية في الأفكار كانت إحدى العوامل في انبعاثهم السريع، وقد يفعل ماضي الشعوب في حياتها ما يكون منه نفعها، ثم يستعبدها لسلطان المواضعات العتيقة ويحول دون ارتقائها، وما عتم الاستقلال الطبيعي في أفكار العرب، وقوتهم في الإبداع والتصور أن تجليا فيما أحدثوه من أنفسهم، ولم يمض زمن قصير حتى طبعوا الهندسة والفنون والعلوم بطابعهم الشخصي الذي نعرف به آثارهم لأول وهلة، وإذ كانت فلسفة اليونان النظرية غير موائمة كثيرا لطبيعة أفكار العرب، لم يعنوا بها كل العناية، فخصوا الصنائع والعلوم والآداب بعنايتهم وأولعوا بها فدخلت شغاف قلوبهم.»
ومن قبله جاء دوزي
17
فقال: إن العرب لم يحكموا بتعاليم فلسفية فقط، بل بالفطرة والغريزة، حتى حققوا بادئ بدء مقالة الثورة الفرنسية الشريفة وهي الحرية والمساواة والإخاء. ولقد كان البدوي يستمتع بحرية ليس أوسع منها على الأرض، ويقول: لا أعرف مولى غير مولى العالم، وبلغ الحد الأعظم من الحرية التي يتمتع بها، بحيث لو قرنت معها أصولنا في الحرية الراقية إلى أبعد الغايات، تسجل أنها تشبه قواعد الاستبداد، وعندنا أن الحكومة شر لازم لا يتقى، والشرط فيه الخير. أما البدو فإنهم مستغنون عن كل حكومة، حقا إن لكل قبيلة أميرها تنتخبه بنفسها، ولكن نفوذه قليل وإن كان مبجلا عندهم، مسموع الكلمة بينهم، لا سيما إذا كان مفوها لسنا، وليس من حق شيخ القبيلة البتة أن يصدر الأوامر والنواهي، ويطلب إليه أن لا يقبض راتبا، بل يكره - إرضاء للرأي العام - على أن يقوم بإطعام الفقراء، ويوزع بين أحبائه الهدايا التي تهدى إليه، ويقري الغرباء قري لا يتأتى لأي كان من رجال القبيلة أن يقوم بمثله حسنا ورونقا، ويقضى عليه في كل حال أن يأخذ رأي مجلس شورى القبيلة المؤلف من أمراء أسرات مختلفة، وبدون رضى هذا المجلس لا يستطيع إشهار حرب، ولا عقد صلح، ولا تقويض مضارب الجيش، وإذا منحت إحدى القبائل لقب أمير لأحد أفرادها، فلا يكون ذلك على الأغلب إلا من قبيل الحرمة لا تعود عليه بشيء، بل هي بمثابة شهادة عامة منها تمنحه إياها دليل إجلالها له، واعترافا بعظمة الرجل الممتاز باقتداره وجرأته وسماحته وإخلاصه في قضاء شئون قبيله، قال أحد الأحرار الأقدمين: إننا لا نعطي هذه المرتبة لأحد ما لم يهبنا كل ما يملكه، ويسمح لنا أن نطأ بأرجلنا كل عزيز لديه، وينزل عن كل ما يحب أن يراه مبجلا مشرفا، ويخدمنا خدمة الموالي والعبيد .
وبعد أن توسع المؤلف الهولاندي في شرح معنى الحرية والمساواة والإخاء عند العرب، وأتى بالشواهد التاريخية والأمثال الكثيرة، وقارن بين هذه الأسماء عند العرب وفي أوروبا، رأى أنها أفضل عند العرب؛ لأنها أدعى إلى الراحة ينجو أصحابها من الأطماع التي لا حد لها، والآمال البعيدة غالبا، كما هو الحال عند الأوروبيين، ممن دأبهم أبدا التفكر في نيل حالة أحسن من حالتهم، وهذا مما يهدم أركان المجتمع الإنساني وقلما يأتي بالسعادة، بيد أنه امتدح من التوسع في الفكر عند الإفرنج، ذاك التوسع الذي آل بهم إلى مواطن الارتقاء الحاضر، ورزقهم هذا النجاح الماثل للعيان، وختم بقوله: إن العرب لما نزلوا في الولايات الجسيمة التي افتتحوها بحد السيف اشتغلوا مع هذا بالعلوم، إلا أنهم لم يظهروا في غير مظهرهم الأول في عدم الخنوع لحكم الخلائق، وترجموا كثيرا من كتب الأقدمين وعلقوا عليها شروحا فاغتنت بأعمالهم بعض فروعها، واتسع نطاقها بملاحظاتهم الدائمة البالغة غاية الدقة والوضوح، لكنهم لم يخترعوا شيئا ولا ندين لهم بأدنى فكر عال أو واسع، وهكذا فإن بيننا وبينهم اختلافات أساسية، وربما كانت أخلاقهم أسمى من أخلاقنا، ونفوسهم أكبر من نفوسنا، وهم أكثر ميلا إلى العظمة الإنسانية، ولكنهم لا يحملون بذور النهضة والنجاح، ومع ما هم عليه من الولوع بالاستقلال الشخصي، وعلى قلة ما انطووا عليه من الأفكار السياسية، يظهر أنهم غير قادرين على الخضوع لقوانين المجتمعات. ا.ه.
هذا ما قاله دوزي وأكثر كلامه حقيقة لا مرية فيها، إلا قوله: إن العرب لم يأتوا بجديد، ولا تدين أوروبا لهم بأدنى فكر عال أو واسع؛ ذلك لأن ما تم على أيديهم في باب العلم والمخترعات كان كثيرا بالنسبة إلى القرون التي فاقوا خلالها بسياستهم سائر أمم الحضارة، على ما فصلنا ذلك في الباب الذي عقدناه لعلوم العرب وما وفقوا إلى كشفه، واستندنا فيه إلى بعض علماء الغرب في هذا الشأن، أمثال لبون ودرابر وجوتيه وسيدليو وجبون.
مبدأ تمثل العرب للحضارة
تمثل العرب الحضارة كأهل كل دولة، فكانوا مقلدين في طور المدنية وأحوالها للدولة السابقة قبلهم، ولما ملك العرب فارس والروم واستخدموا بناتهم وأبناءهم لم يكونوا على رأي ابن خلدون في شيء من الحضارة؛ فقد زعم
18
أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعا، وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحا، وأمثال ذلك، فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم، واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم، واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليه، أفادوهم علاج ذلك، والقيام على عمله والتفنن فيه، مع ما حصل لهم من اتساع العيش، والتفنن في أحواله، فبلغوا الغاية في ذلك وتطوروا بطور الحضارة والترف في الأحوال، واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثي،
19
وكذلك أحوالهم في أيام المباهاة والولائم وليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية.
ولم ينتصف القرن الأول حتى جمع العرب في المدن التي نزلوها أصنافا من الرفاهية، ومنهم من تجافت نفوسهم عن الانغماس فيها، ومنهم من انغمسوا فيها إلى رءوسهم، وكان الصحابة إلى الخشونة، فلما جاء بنو أمية جمعوا بين الرفاهية وشيء من أخلاق العرب في الخشونة إلى آخر القرن الأول؛ فكان من خلفائهم من لا ينزل المدن في الشام إلا قليلا، ويتخذون لهم قصورا في الأرياف والبوادي؛
20
لئلا يغلب الترف على نفوسهم ونفوس بنيهم فيفسدها، ويضيع بذلك مضاء العرب ومتانتهم، وأخذ الحجاز وأعطى من هذه الحضارة الجديدة، حتى يخيل للباحث أنه كان في مكة ويثرب مدارس لتعليم الغناء والموسيقى، وكانت الجارية التي تتعلم في مدرسة الحجاز تصيب حظا عاليا من السعادة؛ ذلك لأنه لم تكن أمة من الأمم بعد فارس والروم أولع بالملاهي والطرب من العرب. وفي النصف الأول من القرن الأول اتخذ عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي
21
بيتا في مكة وجعل فيه شطرنجات ونردات وقرقات
22
ودفاتر فيها من كل علم، وجعل في الجدار أوتادا فمن جاء علق ثيابه على وتد منها، ثم جر دفترا فقرأ وبعض ما يلعب به فلعب به مع بعضهم، أي إن ذاك الجمحي أنشأ في مكة ناديا فيه جد ولعب، فيه قراءة صحائف وكتب، وفيه لعب بالشطرنج والنرد وغيره، وفيه مشجب يضع الداخل عليه ثيابه لئلا يتبرم به جلاسه.
هذا ما كان من حال العرب أوائل الإسلام، وبذلك رأينا كيف أخذت المدنية تتسرب إليهم من كل وجه، فصح فيهم ما قاله عبد الله بن مخمر وهو على المنبر، وقد رأى الناس تلبسوا: واحسناه واجمالاه! بعد العدم والسدم من الأدم والحوتكية
23
والبرود، أصبحتم زهرا، وأصبح الناس غبرا، وأصبح الناس يعطون وأنتم تأخذون، وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون، وأصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون، وأصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون.
وأجمل من هذا ما وصف به العرب في الجاهلية والإسلام أحد تابعي البصرة قتادة بن دعامة السدوسي (118ه) عند تفسير قوله تعالى:
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، معكومين على رأس حجر
24
بين الأسدين فارس والروم، ألا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردى في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا وأدق شأنا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام فورثكم به الكتاب وأحل لكم به دار الحباء، ووضع لكم به من الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمه فإنه ربكم منعم يحب الشاكرين.
ثروة العرب وعلومهم
غنى بعض الصحابة في الجاهلية والإسلام
لم يكن العرب كلهم بادية لا يذوقون طعم الحياة، ولا يحسنون شيئا من مقوماتها، بل كان بعضهم على شيء من الثروة، والثروة أم الرفاهية والنعيم؛ كان عمرو بن لحي ذا مال جزيل جدا، يقال: إنه فقأ
1
أعين عشرين بعيرا إشارة إلى أنه ملك عشرين ألف بعير، وكان من عادة العرب أن من ملك ألف بعير فقأ عين واحد منها؛ لأنه يدفع بذلك العين عنها، وذكر السهيلي أن عمرو بن لحي ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة، وكسى عشرة آلاف حلة في كل سنة يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ويلت لهم السويق.
وكان المخضرمون من العرب، أي الذين مضى نصف أعمارهم في الجاهلية ونصفها في الإسلام، ولا سيما غطاريفهم وأهل البيوتات منهم، على جانب من السعة في الرزق، ينعمون به ويفضلون من حر مالهم على الناس بهذا السخاء الذي لم يعهد لأمة أن دانتهم فيه، ومنهم من صرف ماله في الإسلام طائعا مختارا كأبي بكر الصديق،
2
ولما بعث النبي كان عنده أربعون ألف درهم، فكان ينفق منها ويقوي المسلمين، وقد أنفق في تجهيز جيش العسرة سنة تسع من الهجرة مالا كثيرا، قالوا: إنه عشرة آلاف دينار، وفي هذه الغزوة أنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة، وكان يعد في الجاهلية من الأغنياء، فجهز الجيش بتسعمائة وخمسين بعيرا بأقتابها، وأتمها ألفا بخمسين فرسا، وأعطى ألف دينار، وفي أيام خلافته كثرت الأموال بالمدينة، وكثر مال عثمان حتى كان له ألف مملوك، ولم يخلط من أموال المسلمين وأخماس الغنائم في ماله شيئا قط، واستغنى عمر بن الخطاب في الجاهلية في مدينة غزة هاشم، وكان متجرا لأهل الحجاز. وكانت خديجة زوجة الرسول الأولى، ذات مال كثير وتجارة، تبعث إلى الشام فيكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربة، وكان أبو سفيان بن حرب شيخ تجار مكة معدودا في الموسرين قبل الإسلام؛ يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانا بنفسه، وله صلات مع بلاد الروم والعجم وله تجارات وأموال، وكانت له في البلقاء من أرض الشام قرية اسمها نقنس، وكان يوم بدر مقبلا من الشام
3
في عير لقريش عظيمة، فيها أموالهم وتجارة من تجاراتهم، وأبلى ذلك اليوم بلاء حسنا ليحفظ أموال المكيين، وكان لأمية من هذه الأموال أربعة أخماس، وقدرت الأموال كلها بخمسين ألف دينار.
وكان عثمان بن مظعون من أغنى قريش، دخلت امرأته على نساء النبي فرأينها سيئة الهيئة فقلن لها : ما لك؟ فما في قريش أغنى من بعلك، قالت: ما لنا منه شيء أما ليله فقائم، وأما نهاره فصائم، فدخل النبي
4
فذكرن ذلك فلقيه، فقال: يا عثمان بن مظعون أما لك بي أسوة؟ فقال: يا بأبي وأمي، وما ذاك؟ قال: تصوم النهار وتقوم الليل، قال: إني لأفعل، قال: لا تفعل، إن لعينيك عليك حقا، وإن لجسدك حقا، وإن لأهلك حقا، فصل ونم وصم وأفطر، قال: فأتتهن بعد ذلك عطرة كأنها عروس، فقلن لها: مه، قالت: أصابنا ما أصاب الناس. «واتسعت الدنيا على الصحابة
5
حتى كان الفرس يشترى بمائة ألف، وحتى كان البستان يباع بالمدينة بأربعمائة ألف، وكانت المدينة عامرة كثيرة الخيرات والأموال والناس، يجبى إليها خراج الممالك، وهي دار الإمارة، وقبة الملك، فبطر الناس بكثرة الأموال والخيل والنعم.» وكان حكيم بن حزام باع دارا له من معاوية بستين ألف دينار، فقيل له: غبنك معاوية، فقال: والله ما أخذتها في الجاهلية إلا بزق خمر، أشهدكم أنها في سبيل الله، انظروا أينا المغبون. وقيل: إن الزبير قال له: بعت مكرمة قريش، فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى، وتصدق بها، وحكيم بن حزام ابن أخي خديجة بنت خويلد وابن عم الزبير بن العوام من أشراف قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وقد حج حكيم ومعه مائة بدنة
6
قد جللها بالحبرة ووقف بمائة وصيف بعرفة في أعناقهم الفضة منقوش فيها «عتقاء الله عن حكيم بن حزام»، وأهدى ألف شاة، وكان جوادا تاجرا يخرج إلى اليمن، ويأتي الشام في الرحلتين رحلة الشتاء والصيف، وربح أرباحا كثيرة.
ولما أراد عمر أن يفرض العطاء شاور المهاجرين والأنصار فأشاروا عليه به، ثم شاور مسلمة الفتح فأشاروا عليه بفرض العطاء إلا حكيما فإنه قال له: يا أمير المؤمنين إن قريشا أهل تجارة ومتى فرضت لهم عطاء تركوا تجارتهم فيأتى بعدك من يحبس عنهم العطاء فتكون التجارة قد خرجت من أيديهم. وكان رأي حكيم، رأي حكيم؛ لأن معنى إطلاق العطاء تعويد الفئة الراقية من العرب الكسل، بعد أن كانوا أهل جد وعمل، فأصاب جزيرة العرب ولا سيما الحجاز ما أصاب إسبانيا في العصر الذي فتحت فيه أميركا الجنوبية، أيام كانت ترسل من البلاد الجديدة إلى إسبانيا ألوف من سبائك الذهب والمعادن الغريبة، حتى كثرت فيها الأموال، وفشت للناس ثروة ورفاهية، فمالوا إلى الدعة والترف، وآضت البلاد بعد مدة غير طويلة أفقر الممالك الغربية، وهكذا كان من أمر هذا العطاء وسع على المهاجرين والأنصار ومسلمة الفتح بعض الشيء أعواما قليلة، فكثر بهم سواد من يعيش من خزانة الأمة، بكثرة ما انهال على الحجاز من أموال الأنفال والغنائم والخراج والعشور والصدقات والجزى، ولما تمت الفتوح كانت التجارة خرجت من أيدي قريش، وعادت الحجاز إلى فاقتها الطبيعية.
كان سعد بن أبي وقاص أكثر أهل المدينة مالا، وأرسل إلى مروان بن الحكم بزكاة عين ماله خمسة آلاف درهم، وترك يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم، وكانت عبيد الله بن العباس ذا مال وهو جواد سخي، وكان العباس بن عبد المطلب أكثر بني هاشم مالا في الجاهلية. وكان أكثر الأسارى
7
فداء يوم بدر العباس؛ وذلك لأنه كان رجلا موسرا فافتدى نفسه بمائة أوقية من الذهب، وكان يعلى بن منية أكثر الناس غنى، وكان عبد الله بن أبي ربيعة والد عمر بن أبي ربيعة الشاعر غنيا، استقرض منه الرسول أربعين ألفا فجاءه مال فدفعه إليه، وقال: «بارك الله في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الأداء والحمد.» وكانت قريش
8
تلقب عبد الله هذا «العدل»؛ لأن قريشا كانت تكسو الكعبة في الجاهلية بأجمعها من أموالها سنة، ويكسوها هو من ماله سنة، فأرادوا بذلك أنه وحده عدل لهم جميعا في ذلك، وكان تاجرا موسرا ومتجره إلى اليمن. وأقرض حويطب بن عبد العزى النبي أربعين ألف درهم، وباع دارا من معاوية بخمسة وأربعين ألف دينار.
وكان عبد الرحمن بن عوف، أحد الثمانية الذين سبقوا الخلق إلى الإسلام، تاجرا كثير الأموال، وكان محظوظا
9
في التجارة، قيل: إنه دخل على أم سلمة فقال: يا أمة خفت أن يهلكني كثرة مالي، قالت: يا بني أنفق. باع مرة أرضا له بأربعين ألف دينار فتصدق بها كلها، وتصدق مرة بسبعمائة جمل بأحمالها قدمت من الشام، وأعتق ثلاثين ألف رقيق، وأوصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعمائة ألف، وأوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأوصى لمن بقي ممن شهد بدرا لكل رجل بأربعمائة دينار، وكانوا مائة فأخذوها، قالوا: وكان فيما ترك ذهب قد قطع بالفئوس حتى مجلت
10
أيدي الرجال منه، وكان على مربطه ألف فرس وله ألف بعير، وعشرة آلاف من الغنم، وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفا، وتصدق على عهد الرسول بشطر من ماله أربعة آلاف ثم تصدق بأربعين ألفا، ثم تصدق بأربعين ألف ألف درهم، ثم حمل على خمسمائة راحلة في سبيل الله، وباع ضيعة له بخمسة عشر ألف درهم فقسمها في الأطباق،
11
قال سعد بن الربيع الأنصاري وهو أكثر الأنصار مالا، لعبد الرحمن بن عوف لما آخى بينهما الرسول: أنا أكثر أهل المدينة مالا فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، حتى إذا عمل عبد الرحمن في التجارة أتى عليه زمن فباع أرضا من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك في فقراء بني زهرة.
وكان طلحة بن عبيد الله أحد العشرة من الأغنياء الأجواد، وقيل له: طلحة الفياض وطلحة الجود وطلحة الخير وطلحة الطلحات، ويقال: إنه فرق في يوم سبعمائة ألف، باع أرضا له من عثمان بن عفان بسبعمائة ألف فحملها إليه فبات ورسله تختلف بها في سكك المدينة حتى أسحر وما عنده منها درهم، ويروى أن طلحة وصل أعرابيا من أقاربه بثمانمائة ألف درهم، ويقال:
12
إنه خلف من المال ألفي ألف درهم ومائتي ألف دينار، وقومت أصول طلحة وعقاره بثلاثين ألف ألف درهم وكانت غلته ألفا وافيا،
13
وفي رواية أخرى
14
أن قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال شيء عظيم؛ ترك من الناض ثلاثين ألف ألف درهم، وترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف دينار والباقي عروض،
15
وكان يغل بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويغل بالشراة عشرة آلاف دينار أو أكثر، وكان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا إلا كفاه مؤونته ومؤونة عياله، وزوج أياماهم وأخدم عائلهم، وقضى دين غارمهم، ويرسل إلى عائشة إذا جاءت غلته كل سنة بعشرة آلاف، وأعان يعلى بن منية الزبير بأربعمائة ألف وحمل سبعين رجلا من قريش، وحمل عائشة على الجمل الذي شهدت القتال عليه، وكان جوادا معروفا بالكرم.
وكان خباب بن الأرت من الأغنياء، قال: لقد رأيتني مع رسول الله ما أملك دينارا، وإن في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف، ولقد خشيت أن تكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، وذكروا أن زيد بن ثابت
16
خلف من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفئوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار، وخلف يعلى بن منية خمسين ألف دينار وعقارا وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم.
وأعظم من ثروة طلحة وحكيم بن حزام ثروة أحد حواري الرسول وابن عمته الزبير بن العوام وأحد العشرة المبشرة، كان كثير المتاجر والأموال، قيل: إنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فربما تصدق بذلك في مجلسه،
17
وخلف ألف فرس وألف أمة،
18
ولم يدع يوم قتل دينارا ولا درهما إلا أرضين فيها الغابة قرب المدينة، وإحدى عشرة دارا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ودارا بمصر، وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال ليستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكن هو سلف، إني أخشى عليه الضيعة، وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا خراجا ولا شيئا إلا أن يكون في غزو مع رسول الله ومع أبي بكر وعمر وعثمان، وكان دينه ألفي ألف ومائتي ألف، فلقي حكيم بن حزام عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن أخي، كم على أخي من الدين، قال: فكتمه، وقال: مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تتسع لهذه، فقال له عبد الله: أفرأيتك أن كانت ألفي ألف ومائتي ألف قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي.
وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بن الزبير بألف ألف وستمائة ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة، قال: فأتاه عبد الله بن جعفر وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله بن الزبير: إن شئتم تركتها لكم، وإن شئتم فأخروها فيما تؤخرون إن أخرتم شيئا، وقال عبد الله بن الزبير: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، فقال له عبد الله: من هاهنا إلى هاهنا، قال: فباعه منه بقضاء دينه فأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف، قال: فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن زمعة، قال: وقال له معاوية: كم قومت الغابة، قال: كل سهم مائة ألف، قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف، قال: فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهما بمائة ألف، فقال معاوية: فكم بقي؟ قال: سهم ونصف، قال: أخذته بخمسين ومائة ألف، قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف، فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا، قال: لا والله لا أقسم بينكم حتى أنادي في الموسم أربع سنين، ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، قال: فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضت أربع سنين قسم بينهم، قال: وكان للزبير أربع نسوة، قال: وربع الثمن، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائة ألف،
19
قال: فجميع ماله خمسة وثلاثون ألف ألف ومائتا ألف، وقيل: إن قيمة
20
ما ترك خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
ومن أغنياء الصحابة المقداد بن الأسود كان عنده غرائر من المال، ومنهم عروة بن الجعد وأنس بن مالك وعمرو بن حريث القرشي المخزومي، ومن تجار الصحابة سعيد بن عائد وأبو معلق الأنصاري وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب وحاطب بن بلتعة وسويد بن قيس العبدي.
صناعات بعض الصحابة وزهد الرسول وأصحابه
ومن هذه الأمثلة القليلة يتمثل للنظر ما وصل إليه القوم من الثروة، مع الأمانة والإيثار وحب الخير والزهد بما في أيديهم، فقد رأينا عبد الله بن الزبير لم يشأ أن يقسم تركة أبيه حتى نادى في الحج أربع سنين ليوفي دينه، وليس يغلو من يدعي أن تركة الزبير بن العوام تعد ثروة غني من أغنياء الغرب اليوم، وما ندري ما تعادل لو حسبناها بسكة زماننا، وما هي أقل من بضعة ملايين من الجنيهات، وبعض هذه الثروات كانت لأكثرهم قبل الإسلام أو كان لهم أكثرها فزادت في العهد الجديد، ولا شك أنهم جهزوا منها جيوشهم وغزاتهم، واستعان الرسول بها على الفتوح الأولى، وكلهم سواء في الإنفاق منها على مصالح المسلمين وفقرائهم، واجتمعت لهم معظم هذه الأموال من التجارة، وقليل منها من الزراعة والصناعة؛ فقد كان أبو طالب
21
يبيع العطر والبز، وأبو بكر وعمر وطلحة وعبد الرحمن بن عوف كانوا بزازين،
22
وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل (وفي رواية يعذق النخل)، وكان أخوه عتبة نجارا، والعوام أبو الزبير خياطا، والزبير جزارا، وعمرو بن العاص جزارا ثم يبيع الأدم والطيب، وأبو سفيان بن حرب يبيع الزيت (الزبيب؟) والأدم، وعبد الله بن جدعان نخاسا، وعثمان بن طلحة خياطا، ولبعضهم موارد يعيشون منها وتزيد عن حاجته.
وغلب التقشف على أكثر هؤلاء العظماء عملا بسيرة الرسول، فقد ذكروا أنه كان عند رسول الله لما مرض مرضته التي مات فيها سبعة أو تسعة دنانير فقسمها في الأنصار، وقال: «ما ظن محمد لو لقي الله وهذه عنده؟» ولم يخلف عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا تركها صدقة، وترك درعه رهنا عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير، وكان يأخذ من الأنفال خمسها ويردها على المسلمين عملا بقوله تعالى:
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ، ثم بين توزيعها بقوله:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . وكانت العرب
23
في الجاهلية تغنم وتوزع الغنيمة على المحاربين وتجعل للرئيس قسطا كبيرا منها، أشار إليه أحد شعرائهم، فقال:
لك المرباع منها والصفايا
وحكمك والنشيطة والفضول
24
وقال الصديق لعائشة وهو يحتضر: «إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير، إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة،
25
فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وابرئي منهن ففعلت.» وسيرة ابن الخطاب في الزهد مشهورة مأثورة حتى إنه لما قدم الشام لقيته الجنود وعليه إزار في وسطه وعمامة، وقد خلع نعليه وهو يخوض الماء آخذا بزمام راحلته، وخفاه تحت إبطه، فقالوا: يا أمير المؤمنين الآن يلقاك الأمراء بطارقة الروم وأنت هكذا، فقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نلتمس العز بغيره، وهكذا كانت خلافة الأربعة الراشدين أشبه بالرتب الدينية من الرتب الدنيوية
26
في جميع الأشياء؛ كان أحدهم يلبس الثوب من الكرباس
27
الغليظ، وفي رجله نعلان من ليف وحمائل سيف ليف، ويمشي في الأسواق كبعض الرعية، وإذا كلم أدنى الرعية أسمعه أغلظ من كلامه، وكانوا يعدون هذا من الدين الذي بعث به النبي.
مبدأ الحضارة والتوسع في الإنفاق وثروة الأمويين
على أن الخليفة الثالث بدأ بإخراج البلاد من خشونة البداوة إلى حظيرة الحضارة، وبنى سبع دور فخمة لبناته وزوجاته في المدينة، وغير عمارة مسجد الرسول وكان سقفه
28
على عهد صاحب الرسالة من الجريد، وعمده من خشب النخل، وأرضه مفروشة بالحصا، فبناه عثمان بالحجارة المنقوشة والفضة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه ساجا وزاد فيه، وكان ذلك في المحرم سنة ثلاثين. أما الخليفة الثاني فإنه بكى لما قدم عليه خمس الأسلاب من فارس وقد نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره، فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين، فوالله إن هذا لموطن شكر؟ فقال عمر: والله ما ذلك يبكيني، وبالله ما أعطى هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم.
ولقد كثر الخراج على عهد عثمان وأتاه المال من النواحي، فاتخذ له الخزائن العظيمة في المدينة، وكان يقسم بين الناس فيأمر للرجل بمائة ألف درهم، وقالوا: إنه كان لعثمان بن عفان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار، وترك ألف بعير بالربدة، وترك صدقات كان تصدق بها قيمة مائتي ألف دينار.
هذه صورة من ثروة العرب قبيل الإسلام وبعيده، إلى العهد الذي أخذوا فيه يتذوقون مباهج الحياة، وكان من معاوية رأس الأمويين منذ فتحت له خزائن الأرض أن أنفق كثيرا في مصالح المسلمين، ووصل الناشزين على الملك وغيرهم، وأدر كثيرا على أعمال العمران، وجرى أخلافه على طريقته، ومن أهمهم الوليد بن عبد الملك؛ فقد توسع في إقامة المصانع والجوامع فزين مسجد الرسول، وكاتب ملك القسطنطينية، فبعث إليه أربعين رجلا من الروم وأربعين من القبط، ووجه إليه أربعين ألف مثقال ذهبا، وأحمالا من الفسيفساء، وحلى المسجد بالفضة والذهب وفرشه بالمرمر وفرغ منه لانسلاخ سنة تسع وثمانين،
29
وكذلك فعل الوليد في الحرم المكي والجامع الأموي؛ فقد أنفق على جامع دمشق خمسة ملايين وستمائة ألف دينار، وجلب له مائتي عامل من الروم، ولما قيل له: إنه محق بيوت الأموال في نقش الخشب وتزويق الحيطان، خطب فقال: قد بلغتني مقالتكم وليس الأمر على ما ظننتم، ألا وإني أمرت بإحصاء ما في بيوت أموالكم فأصبت فيه عطاءكم ست عشرة سنة. وكان سبق الوليد أبوه عبد الملك بن مروان؛ فأنشأ المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ورصد لذلك خراج مصر سبع سنين، وفرغ منه سنة ثنتين وسبعين. هكذا توسع الأمويون في البناء بعد أن كثرت أسباب الثروة، وكان من خلفائهم في الأندلس في باب العمران ما هو عجيبة الأيام والدهور، أما الثروة في عهد العباسيين فما كان الإنسان يعتقد صحة ما روي عنها لولا أنه ورد على لسان ثقات المدونين لها، ولولا أنها أتت أخبارها من عدة طرق جلها موثقة.
خروج العرب من الأمية وعناية بني أمية بالعلم
بعث الرسول «وليس أحد من العرب يقرأ كتابا»، ولم يجد الرسول لإفشاء العلم في الناس إلا أن يكثر فيهم سواد من يقرأ ويكتب، وأن يحملهم على تعلم الكتابة، فكان إذا أسر جماعة من العرب وصادف فيهم أناسا يقرءون ويكتبون، ولم يكن لأحدهم مال يفتدي به نفسه يأمره أن يعلم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة، وبهذه الطريقة فشت الكتابة في قريش وغيرها، وكان يقول: قيدوا العلم بالكتابة، وفي رواية بالكتاب. هذا وهو النبي الأمي، والأمية فيه فضيلة؛ «لأنها أدل على صدق ما جاء به أنه من عند الله لا من عنده، وكيف يكون من عنده وهو لا يكتب ولا يقرأ ولا يقول الشعر ولا ينشده.»
30
وأمر الرسول زيد بن ثابت أن يتعلم لسان اليهود، وتعلم
31
زيد هذا بالفارسية من رسول كسرى، وبالرومية من حاجب النبي، وبالحبشية من خادم النبي، وبالقبطية من خادمه، وهذا كان مبدأ تعلم العرب لغات غير لغتهم، ويروى، وهي رواية غريبة، أنه كان لعبد الله بن الزبير
32
مائة غلام يتكلم كل واحد منهم بلغة غير لغة الآخر فكان يكلم كل واحد منهم بلغته، وكانوا يسمون القراء
33
من يقرءون الكتاب وليسوا أميين؛ لأن الأمية صفة عامة في الصحابة، فقيل لحملة القرآن يومئذ: قراء إشارة إلى هذا، فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن رسوله، وهؤلاء بدءوا عقبى الفتوح ينتشرون في الأمصار.
كانت أول بعثة علمية أرسلت من الحجاز إلى الشام في إمارة يزيد بن أبي سفيان، كتب هذا إلى عمر بن الخطاب أن أهل الشام قد كثروا وربلوا
34
وملئوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم، فأرسل إليه معاذا
35
وعبادة وأبا الدرداء، فصار الأول والثاني إلى فلسطين، وصار الثالث إلى دمشق، وكان الفضل الأول في اقتراح إنفاذ هذا المشروع العظيم لأحد أبناء أبي سفيان النجباء، كما كان الفضل الأعظم لعثمان بنسخ صحف القرآن في المصاحف، فأرسلت المصاحف التي كتبت منه إلى الكوفة والبصرة ودمشق ومكة والمدينة، وضعت في جوامع الأمصار يقرأ فيها القراء ويرجع إليها الحفاظ، وأبقى عثمان لنفسه مصحفا عرف بالمصحف الإمام، وغبر الناس يقرءون في مصحف عثمان نيفا وأربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف في العراق ففزع الحجاج ابن يوسف إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات فوضعوا النقط أفرادا وأزواجا، وخالفوا بين أماكنها فأصبح الناس لا يكتبون إلا منقوطا ثم أحدثوا الإعجام، وكان عثمان كسائر بني أمية وبني عبد شمس في الغاية من الغيرة على بث الفضائل في الناس، يكرم صاحبها أيا كان، وذكروا وهو من البراهين على حبه للعلم، أن حرملة بن المنذر
36
الطائي كان شاعرا نصرانيا أدرك الجاهلية والإسلام، وكان من وزراء الملوك ولملوك العجم خاصة، وكان عالما بسيرهم، فكان عثمان يقربه على ذلك ويدني مجلسه.
وتوسع معاوية في طلب العلم فقال يوما: وددت أن عندنا من يحدثنا عما مضى من الزمن، هل يشبه ما نحن فيه اليوم، فقيل له: إن بحضرموت رجلا معمرا اسمه أمد بن أبد الحضرمي فأتى به، وورد عليه من اليمن عبيد بن شرية من المعمرين، وكان آية باهرة في معرفة تاريخ اليمن وملوك العرب والعجم، يرويها مشفوعة بالقصائد الرنانة، فأمر معاوية كتابه
37
أن يدونوا ما يتحدث به عبيد بن شرية في كل مجلس سمر فيه معاوية، وكان يعجب بما يلقيه عليه عبيد، ويستزيده من إيراد الشعر؛ لأن الشعر كما قال معاوية: ديوان العرب والدليل على أحاديثها وأفعالها والحاكم بينهم في الجاهلية، فكان بدء تدوين التاريخ على يد معاوية، واستصفى معاوية أيضا كعب الأحبار وهو من حمير من آل ذي رعين، أسلم وجاء الشام مع عمر بن الخطاب في فتح القدس، فجعله معاوية من مستشاريه لكثرة علمه، وكان يروي أشياء عن الجاهلية والإسلام، وبعض ما نسب إليه معدود في الإسرائيليات. وكان سعيد بن عريض بن عادياء ابن أخي السموءل
38
بن عادياء من يهود الحجاز شاعرا يفد على معاوية فيدخل عليه وهو على طنفسة ونعلاه في رجله، وهو متوشح بملحفة،
39
فيكثر معاوية الترحيب به ويدني مجلسه ويأخذ بيده. وإذا كان هذا النبوغ يظهر من معاوية ويزيد من أبناء أبي سفيان، فإن أباهما أبا سفيان وجدهما حربا نقلا الخط العربي إلى الحجاز، وهذا من أعظم مآثر بني أمية على العرب، بل إن السنة، أي أحاديث الرسول لم تدون آخر المائة الأولى إلا بأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الأموي؛ فقد كتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنته فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.
دخول العلوم المادية
وعمر بن عبد العزيز هو الذي أمر بنقل كتاب أهرن بن أعين في الطب إلى اللغة العربية، وهو الذي أمر عاصم
40
بن عمر الأنصاري وكان ثقة كثير الحديث عالما، أن يجلس في دمشق فيحدث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة، وقال: إن بني مروان كانوا يكرهون هذا وينهون عنه، فاجلس فحدث الناس بذلك، وسبق حكيم آل مروان وعالم قريش، خالد
41
بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، المتوفى سنة 85 إلى ترجمة كتب الفلاسفة والنجوم والكيمياء والطب والحروب والآلات والصناعات من اللسان اليوناني والقبطي والسرياني، «وكانت الترجمة - أحيانا - من لغة يونان إلى العبرانية، ومن العبرانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية.» وخالد بن يزيد هذا أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة في الإسلام، والأرجح أنها كانت في دمشق.
وبعد، فالشام، بل بلاد الإسلام، مدينة لأمية بأمور كثيرة لإخراجها من غضاضة البداوة إلى غضارة الحضارة. والعلوم تسربت إلى العرب من بقايا علوم القبط واليونان والسريان، بعد أن توطد أمر الخلافة، وأخذت الجيوش تتقدم في إفريقية إلى الأندلس وفي الشرق إلى ما وراء السند وسمرقند، وكانت في أنطاكية والرها ونصيبين وحران أول الفتح مدارس
42
عامرة تشبع أساتذتها بالثقافة اليونانية وفلسفة أرسطو والعلوم والطب المعروفة عند القدماء. قال دييل: وراجع خلفاء الأمويين هؤلاء الأساتيذ لينقلوا إلى السريانية وإلى العربية أهم كتب العلم والأدب عند اليونان وبيزنطية. وجاء العباسيون بعد الأمويين فكان همهم أن يجمعوا المخطوطات اليونانية وأن ينقلوا إلى العربية أشهر كتب العلم والطب والفلسفة اليونانية، ومضى القرن التاسع برمته وبغداد تترجم أقليدس وأرخميدس وبطلميوس وديسقوريدس وأبقراط وجالينوس وأرسطو وتاوفرسطس، قال وبحق ما قيل: إن العرب لولا بيزنطية والتقاليد البيزنطية التي نقلتها إليها مدارس الشام لظلوا على الرغم من استعدادهم الباهر، على ما كانوا عليه في عهد محمد، شعبا نصف متوحش، فبواسطة تراجمة شاميين عرف العرب العلم والفلسفة اليونانية، وبفضلهم نشأت في الإسلام من إسبانيا إلى الهند حركة عقلية عظيمة أتت بأينع الثمرات، وبفضل المدارس العربية في قرطبة عرف الغرب النصراني نفسه فلسفة أرسطو. ا.ه.
وقال لبون: إن حماسة المسلمين في دراسة المدنية اليونانية واللاتينية مدهشة حقيقة، وقد ضاهت العرب شعوب كثيرة، وربما لم يقم من الشعوب من تقدمهم في هذه السبيل. وقال لكرك: كان كل ما في أيدي العرب من العلوم في آخر القرن الثامن للميلاد ترجمة مؤلف في الطب وبضعة كتب في علم الكيمياء، وما كاد القرن التاسع يوشك أن ينصرم حتى كان العرب قد امتلكوا ناصية جميع علوم اليونان وثقافة الأقدمين، ونبغ فيهم عدد عظيم من المؤلفين، وقال نوبرجر: فاقت المدنية العربية في أوج إمبراطورية الإسلام مدنية رومية القديمة في حيويتها وتنوعها، على حين كان لحضارة الإسلام في الأندلس مركز يشابه من عدة وجوه حضارة اليونان القديمة، وقال دوسن: إن المدنية الأوربية، بل المدنية الغربية كلها، مدينة للمسلمين بميراث حكمة الأقدمين، وإن فتوحات العرب في إمبراطورية الإسلام من القرن السابع إلى الخامس عشر، لتعد إحدى عجائب التاريخ، ومن المدهش أن يصبح العرب - وكانوا أول أمرهم على الفطرة - عنصرا فاتحا، ويغدوا سادة نصف العالم في مائة عام، ومن أشد العجب حماستهم العظيمة، وسرعتهم البالغة في تحصيل العلوم، وتكوين الثقافة اللازمة لعظمتهم، حتى وصلوا إلى مستوى عال في مائة سنة، بينا نرى الجرمانيين لما فتحوا الإمبراطورية الرومانية قضوا ألف عام، قبل أن يقضوا على التوحش وينهضوا لإحياء العلوم. ا.ه.
وفي الواقع أن العرب في صدر الإسلام لم تعن كما قال صاعد
43
بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها، حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم، غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرا إليها، وتولى النقل إلى العربية اليعاقبة والسريان والفرس وغيرهم، وكان المسلمون يصلحون المترجمات على الأكثر ويضعون المسميات للمصطلحات العلمية كالطب ونحوه، فينحتون ويشتقون ويضعون،
44
حتى صار منهم التراجمة الحاذقون الذين ينقلون مباشرة إلى العربية، وساعدهم دخول كثير من الفرس والروم في الإسلام، والمسلمون يعنون بعلوم الدين واللغة، وما يخدم الدين من علوم اللسان. وأي فضل أعظم من فضل العرب على العلوم التي لم يعرفوها أن يقدم مثل خالد بن يزيد الأموي وينفق النفقات العظيمة على ترجمة كتب العلم، ثم يجيء بعده عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، ويأتي بعدهم عدة خلفاء من العباسيين ينفقون عن سعة على ترجمة الكتب، ولا سيما المنصور والرشيد والمأمون، بل إن أفرادا منهم مثل أولاد موسى بن شاكر
45
كانوا ينفقون من مالهم الخاص على ترجمة الكتب، ما لا تكاد دولة من دول الغرب اليوم تنفقه على جميع فروع معارفها.
عناية العرب بالشعر والنثر
هذا ما كان من أمر النقل في العلوم، أما الآداب فكان العرب فيها سادة البلاغة في الجاهلية والإسلام، وشعرهم الجاهلي والإسلامي سواء في بلاغته وفصاحته، لا ينظم إلا بالمناسبات ويكفي في بيان تأثير الشعر في العقول أن الرسول كان «ينصب لحسان بن ثابت منبرا في المسجد يقوم عليه ينافح عن الرسول.» ومئات من الصحابة كانوا شعراء مجيدين، وكان لهم في الجاهلية من الدقة في الموضوعات التي خاضوا عبابها ما كان، وزاد شعرهم في الإسلام رقة خصوصا بعد تمام الفتوح، وغشيان شعراء العرب الأمراء والخلفاء في مصر والشام والعراق وغيرها، وكان الأمويون يفضلون كثيرا على الشعراء، ومنهم النصارى أمثال الأخطل ونابغة بني شيبان، قال عمر بن الخطاب:
46 «كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه»، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد، وغزوا فارس والروم ولهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر فلم يئلوا
47
إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم منه أكثره، وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه. ا.ه.
هذا ما كان من الشعر، أما النثر فأخذ يرتقي في الإسلام، ونبغ في العرب خطباء عظماء أمثال زياد والحجاج وعتبة بن أبي سفيان وتلك الطبقة العالية من خطباء الخوارج،
48
والمظنون أنه لم يأت بعد علي بن أبي طالب أفصح ولا أخطب من زياد والحجاج، وعد الجاحظ
49
من الخطباء في خلفاء بني أمية معاوية ويزيد وعبد الملك ومعاوية بن يزيد ومروان وسليمان ويزيد بن الوليد والوليد بن يزيد والوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز.
وكثر التدوين منذ أوائل عهد الصحابة، وقوي في أيام التابعين، وألف زيد بن ثابت كتابا في علم الفرائض، وعبد الله بن عمر كتب الحديث، وألف كتاب في قضاء علي على عهد ابن عباس، وعن هشام بن عروة قال: حرق أبي يوم الحرة كتب فقه كانت له، قال: فكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي، ووقعة الحرة كانت سنة ثلاث وستين فأكد ذلك أن التدوين وقع من قبل حتى كانت لعروة هذه الكتب في الفقه، وتقدم معنا أن عبد الحكم الجمحي فتح ناديا في مكة جعل فيه دفاتر من كل علم في النصف الأول من القرن الأول، وهذا من البراهين الساطعة أيضا على أن التدوين وكتابة الصحف والكتب بدأت في الإسلام على عهد الراشدين على الأكثر، فلم يكن الاعتماد من ثم على الحفظ فقط كما كانت الحال في الجاهلية، بل كان يعمد إلى الصحف، وبقدر ما كان يسهل تناول القراطيس أي الطوامير المعمولة بمصر من لب البردي، كانت كتب العلم تزيد انتشارا وكانوا أوائل الإسلام يكتبون على الأدم كعهد الخيبريين
50
وككتاب النبي إلى كسرى، وكتبت المصاحف في جلود الظباء إلى أن استعمل الورق، وكلما زادت أدوات التدوين كثر عدد القراء والحفاظ والأدباء والرواة واللغويين، وهكذا تنافست المدن في سبيل العلم وتلقف الثقافة العربية.
مواطن العربية وأثرها في اللغات الشرقية والغربية
انتشار اللغة العربية وأسبابه
كثر المسلمون بمواليهم وبمن دان بالإسلام في كل بلد نزلوه وحكموه، وهاجرت من بلاد العرب قبائل كثيرة نزلت الشام
1
والعراق ومصر وشمالي إفريقية والأندلس والجزيرة، فكانوا الدمنة
2
التي قام عليها أساس تعريب هذه الأقطار العظيمة، وأنشأ أهل الذمة يتعلمون اللغة العربية بحكم الطبيعة، وربما كان من أجمل السياسة في تعريب العناصر فتح العرب للمجوس واليهود والصابئة والنصارى وغيرهم باب الخدمة في الدولة، فلم يكن العرب يأبون استعمال القبطي والفارسي والرومي والإسباني والكاتالاني والبروفنسالي والبرتقالي والإيطالي، فاتحدت مصلحة الموافق والمخالف تحت علم الحرية العربية، وأخلص أهل الذمة القصد للمسلمين فعاشوا في ظل دولتهم الجديدة مغتبطين، وتعاون الكافة فكانت هذه المدنية الباهرة.
بذت العربية في الإسلام
3
اللغة الفارسية والسريانية في العراق وفارس، والرومية والسريانية في الشام، والقبطية والرومية في مصر، واللاتينية في شمالي إفريقية، ولم يمض سبعون سنة حتى أصبحت العربية اللغة العامة في هذه الأقطار، وكان العرب من الغسانيين والتنوخيين والنبطيين والسبأيين واللخميين والتغلبيين مثل الضجاعمة وعاملة وقضاعة ينزلون البلاد المجاورة للجزيرة العربية ويتمازجون بأهلها، حتى إن من قرى الشام ما كان اسمه عربيا صرفا قبل الإسلام، وقد علل ابن خلدون
4
انتشار اللغة العربية بقوله: «لما هجر الدين اللغات الأعجمية، وكان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربيا، هجرت كلها في جميع ممالكها؛ لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب، وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك، وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم، وصارت الألسنة الأعجمية دخيلة فيها وغريبة.»
القبائل العربية في بلاد الأعاجم وتعريبهم
لا يعرف على التحقيق عدد القبائل النازحة من جزيرة العرب إلى البلاد المفتتحة في آسيا وإفريقية وأوروبا، وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك، آخر غزوات صاحب الرسالة، مائة ألف وعشرة آلاف من مضر وقحطان ما بين فارس وراجل، إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة، ثم كثر المسلمون وتفرقوا في الأقطار، وليست كثرتهم مما يقضي أن يكونوا السواد الأعظم في البلاد التي نزلوها، بل كانوا في كل صقع حفنة صغيرة أشبه بفصوص الفسيفساء في الرقعة العظيمة؛ ذلك لأن القبائل العربية التي هاجرت إلى البلاد المغلوبة لا يزيد عددها عن نصف مليون نسمة في الخمسين السنة الأولى، فقد قدر بعضهم من نزلوا الشام بمائتين وخمسين ألفا، والشام أقرب الأقطار إلى الاختلاط بجزيرة العرب، ومع هذا كان عدد المسلمين في الشام إلى قلة حتى أواخر القرن الأول من الهجرة.
ومما ساعد على انتشار العربية كون الصلاة بها فرضا على كل أعجمي انتحل الإسلام، فالأعجمي يسلم ويتعرب، وإذا لم يسلم تضطره الحال إلى تعلم لغة الدولة القائمة، فيقرب من العواطف العربية، ثم إن هذا اللسان على سعته وسلاسته لم يقف ولم يجمد، فنقل ألفاظا من الفارسية والرومية والسريانية والعبرانية والحبشية والقبطية والهندية، وترك ألفاظا عربية كانت مألوفة له في عصر الجاهلية، واصطلح على كلمات عربية كانت تؤدي معاني أخرى قبل الإسلام، وسعى العرب منذ كانت البلاد في طاعتهم، أن يجعلوا العربية لغة علم كما هي لغة دين وأدب وسياسة، ولم يحارب العرب لغات البلاد الأصلية على رسوخها فيها، بل ساروا في نشر لغتهم بتعقل، وراعى دعاتهم سنن الطبيعة والنشوء، وعملت قاعدة الانتخاب الطبيعي عملها في اللغة كما عملت في العناصر، فبقي ما هو مفيد للناس في مصالحهم على اختلاف نحلهم ومللهم.
كمال العربية وطرق بثها
وقد عجب رنان
5
من كمال اللغة العربية وسعة انتشارها، فقال: من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية؛ فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدت فجأة على غاية الكمال، سلسة أية سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، ولا أدري هل وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض، قبل أن تدخل في أطوار أو أدوار مختلفة؟ قال: ما عهدت قط فتوح أعظم من الفتوح العربية، ولا أشد سرعة منها؛ فإن العربية ولا جدال، قد عمت أجزاء كبرى من العالم، ولم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة، أو لسان فكر ديني أو سياسي، أسمى من اختلاف العناصر إلا لغتان: اللاتينية واليونانية، وأين مجال هاتين اللغتين في السعة، من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها؟ ا.ه.
ظهرت العربية كاملة بالقرآن، وكانت سرعة انتشارها على نسبة سرعة فتوح أهلها، وهل أشد شكيمة من أمة اجتمع لها الغرام بالدين والغرام بالدنيا، يخافها ويحترمها عدوها وصديقها في القاصية والدانية، وما عهد في أدوار اللغة العربية، أيام قوة الدولة العربية وضعفها، بل أيام الأعاجم الذين استولوا على البلاد العربية، ما خلا دولة الترك العثمانيين، أن صدرت عنهم عهود وعقود بغير العربية، تترا كانوا أو فرسا أو شركسا أو كردا أو بربرا، والغالب أنهم كانوا يضطرون الدول المجاورة لهم إلى أن يتخذوا لهم منشئين حاذقين بالعربية؛ ليجيبوا الدولة الإسلامية على المكاتبات الرسمية بلغة العرب، هكذا يستدل من تواريخ الأندلس وتواريخ القرون الوسطى وتواريخ الشام ومصر وبغداد والجزيرة وفارس والسند وسائر بلاد المشرق، ولم تشبه العربية في هذا الشأن إلا اللغة اللاتينية في الغرب قديما، واللغة الفرنسية إلى عهد قريب، ثم اللغة الإنكليزية في الأيام الأخيرة، فقد أصبحت هذه الألسن الثلاث كالعربية لغات السياسة والتجارة، بل لغات دولية عامة في المعاملات، وكتب الشرف للعربية أن كانت لغة الدول ذوات العلاقة بالشرق الإسلامي قرابة ألف سنة. «وأصبحت
6
العربية في النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد لغة العلم عند الخواص في العالم المتمدن، وصارت حاملة علم التقدم الصحيح، وحافظت على تفوقها وتصدرها في المرتبة الأولى بين جميع الألسن الأخرى إلى آخر القرن الحادي عشر على أقل تعديل، وبعد ذلك أخذ التمدن الإسلامي واللغة العربية بفقدان منزلتهما تدريجيا ، وقد نقلت في القرن الثاني عشر والقرن الذي بعده أكثر التآليف إلى اللغة اللاتينية واللغة العبرانية، وكان كل من يريد أن يطلع في القرن الحادي عشر على آراء عصره مضطرا أن يتعلم أولا اللغة العربية، وزال هذا الاضطرار قبل آخر القرن الثالث عشر؛ فأصبحت اللغة اللاتينية لازمة في الغرب أكثر من اللغة العربية»؛ ولذلك اتهم المجددون في النهضة الأوربية أمثال روجر باكون بالإسلام؛ لأنهم كانوا يعرفون العربية، وكيف لا تكون الأفضلية للعرب في تلك العصور، وإرادة دولتهم هي التي تملي على الأمم، ولا تملي عليهم دولة، وما اتجهت قط هممهم إلى قطر إلا فتحوه وأخضعوه ومدنوه. يقول ابن حزم في كتاب الإحكام: إن اللغة يسقط أكثرها وتبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في أماكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يفيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها، وأما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واستقلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخاطر، وربما كان ذلك لشتات لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبيور علومهم، هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة. ا.ه.
ثم إن المغلوب قد يعتقد في غالبه الكمال فيقلده في شعاره وزيه ولغته وسائر مناحيه، فيرتضخ
7
لسان غالبه بالعادة والإلف والمصلحة، هكذا كان الناس منذ عرف تاريخهم، وما خرجوا عن كونهم أبدا بين غالب ومغلوب، يلذهم أن يزينوا أنفسهم بالتخاطب مع من نزل عليهم أو نزلوا عليه، وهذا هو المشاهد اليوم في لغات الأمم الكبرى، فإنها تنتشر في البلاد التي اتصلت بإحدى الصلات مع أمة غالبة أو دخيلة، رأينا ذلك في شمالي إفريقية مع اللغة الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وفي الهند ومصر مع اللغة الإنكليزية، وفي جزائر جاوه وما إليها مع اللغة الهولاندية، فإذا لم تكن لأمة حاجة تجارية أو سياسية تدعوها إلى تعلم لسان من نزلوا عليها، فإنها تحاول تعلمه كأنه أداة من أدوات الظرف والزينة.
انتشار العربية في أقطار وتراجعها في أخرى
كانت العربية تتأصل على أيسر سبيل في البلاد، بحسب قربها وبعدها من جزيرة العرب، وكان من أول الأقطار التي دخلت فيها الشام فالعراق ثم فارس ومصر، انتشرت فيها بعد تصرم جيلين من الناس، إلا فارس فإنها على ما يظهر قد أظهرت الخضوع وأضمرت غيره؛ فمنهم من دخلوا في الإسلام رغبة وطوعا كأهل خراسان، ولكن المجوسية بقيت غالبة عليهم إلى القرن الرابع، فلم تكن ناحية ولا مدينة تخلو من بيوت النيران، وظل المجوس أكثر الأمم بها،
8
وإن غدت عواصم فارس كأصفهان ومرو ونيسابور والري وطبرستان وهمذان من المغرمات بالعربية، ونشأت فيها طبقات مهمة من الأدباء والعلماء من القرن الثالث إلى السابع، ولكن فارس وإن لم تعص العرب والعربية ظاهرا فقد عصتها باطنا، وكأن عمر بن الخطاب شعر بهذا في أيامه فقال: «اللهم لا تدركني أبناء الهمذانيات والاصطخريات، وعدد قرى من قرى فارس، الذين معهم قلوب العجم وألسنة العرب.» وفي الحق أن أهل فارس لما أتى الإسلام كانوا كما قيل: كنار أخمدت، وكرماد اشتدت به الريح فمزقوا كل ممزق.
وعلى كثرة ما كان في بلاد الفرس أيام الدولة العباسية من مراكز العلم، كانت اللغة العربية لا تعرف إلا في أندية الخاصة، وهي اللغة الرسمية واللغة العلمية، أما البادية فكانت بمعزل عنها على ما يظهر؛ ولذلك حفظت فيها الفارسية كما حفظت الكردية، وكانت أحياء الأكراد
9
في القرن الرابع في فارس تزيد على خمسمائة ألف بيت شعر، ولسان أهل أذربيجان وإرمينية الفارسية والعربية وقل من يتكلم بهما، فمن يتكلم بالفارسية لا يفهم العربية، ويفصح بها من التجار وأرباب الضياع، وهناك لغات لا تزال إلى اليوم كما كانت منذ تسعمائة سنة ونيف.
وأصبحت دولة العرب مدة ثلاثمائة سنة الدولة الحية الوحيدة دون سائر الدول المعاصرة لها في العالم، وكادت لغتها القومية تكون لغة دولية أيضا، وانتشرت العربية في جنوبي أوروبا وجزرها المشهورة، انبعثت جذوتها في تلك الأرجاء بعد استيلاء العرب على الأندلس؛ فانتشرت في شبه جزيرة إسبانيا، وفي جزر ميورقة ومنورقة ويابسة المعروفة اليوم بجزائر الباليار، ولم يكتب أن كانت للعربية سوق في جزيرة سردانية، وإن استولى عليها العرب سنة 92 على نحو ما كان في جارتها صقلية؛ لأنه لم ينزلها العرب للاستيطان، ولا قامت بها دولة لهم كصقلية، وقد دامت العربية معروفة بل رسمية فيها إلى ما بعد خروج العرب منها، ولم يبق للعربية في الأندلس من أثر بعد جلاء العرب الأخير في سنة 1016ه، وفي خلال ذلك منع العرب من تكلم العربية، وأصبح من آثروا التنصر على الخروج من أرضهم يكتبون الإسبانية بحروف عربية سموها الخميادو، أي الأعجمي.
ولم تتأصل العربية على الأغلب في جزائر البحر المتوسط؛ لأن قبائل العرب لم ترحل إليها كما رحلت إلى مصر وشمالي إفريقية والأندلس، فمنها ما فتحه المسلمون ليجعلوه مركزا حربيا، ومنها ما رسخت أقدامهم فيه مدة معلومة، ولم تتأصل العربية إلا في جزيرة أرواد على خطوات من أنطرطوس، على حين كانت قبرص بعيدة عنها، أما بقية جزائر البحر المتوسط كأقريطش فكان منزل العربية فيها منزل قلعة، وكذلك الحال في جزيرة مالطة، اختلطت العربية فيها بالإيطالية وبغيرها من الألسن، وجاء منها هذا اللسان الغريب إلى اليوم، وأصل أهل هذه الجزيرة أو بعضهم
10
من بلاد ساحل القدس، ولما جلا الفرنج من الساحل مع طوائف النصارى إلى بلاد الفرنج عين لهم ملك النصارى جزيرة مالطة فقطنوا فيها؛ ولذلك كان لسانهم
11
قريبا من اللهجة الشامية، وفي لغتهم ألوف من
12
الألفاظ العربية وأصلها عربية، سطت عليها اللغات المجاورة فأفسدتها، يقول مليه:
13 «إن اللغة العربية لم تتراجع من أرض دخلتها؛ لتأثيرها الناشئ من كونها لغة دين ولغة مدنية، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها المبشرون، ولمكانة الحضارة التي جاءت بها الشعوب النصرانية، لم يخرج أحد من الإسلام إلى النصرانية.» وقوله هذا لا يصدق إلا على آسيا وإفريقية، فقد عرفت العربية في جنوبي فرنسا مدة مائتي سنة، وفي جزائر صقلية وقرسقة وإقريطش وأصبح القسم المناوح لشمالي إفريقية عربيا أو يكاد، وصح أن يقال في الجملة: إن حوض البحر المتوسط غدا بحرا للعرب كما كان البحر الأحمر وبحر فارس وقسم من المحيط الهندي وبحر الظلمات من البحور العربية، ولو وفق معاوية بن أبي سفيان إلى فتح القسطنطينية لكانت العربية تناولت أوروبا من جنوبها الشرقي، كما تناولتها من جنوبها الغربي، وربما كانت مملكة القسطنطينية وما وراءها أقرب إلى أن يحتفظ بها العرب من شبه جزيرة أيبريا؛ إذ لا فاصل من البر يفصل بين بلاد المسلمين وبلاد الروم.
لم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم
14
بالعربية ليفهمها النصارى؛ لأن هؤلاء زهدوا في اللغة اللاتينية ونشأ لهم غرام بالعربية، فأخذوا يتقنون آدابها، ويتغنون بأشعارها، ويكتبون بها كأبنائها، ويعجبون ببلاغتها إعجاب أهلها بها، وأصبح أهل البلاد يتكلمون بالإسبانية والبرتقالية والعربية على السواء، ثم أخذوا لا يتعاقدون بينهم إلا باللغة العربية، وقد وجد من عقودهم نحو ألفي صك كتبها المستعربة من الوطنيين الأصليين باللغة العربية، وكان كثير من أذكياء الجلالقة والقشتاليين والليونيين والنافاريين، دع من كانوا في البلاد من النصارى، يتكلمون العربية ويقصدون الخليفة الأندلسي أو أحد رجاله يستخدمون في أرضه، وفي مكتبة الإسكوريال في إسبانيا لعهدنا معاجم يونانية عربية، ولاتينية عربية، وعربية إسبانية، لمؤلفين من المسلمين.
سراية العربية إلى اللغات اللاتينية
وبعد هذا الاختلاط لا نستغرب أن نرى اليوم في الإسبانية كثيرا من الألفاظ العربية كأسماء البلاد والأنهار والنواحي وبعض المرافق والمصطلحات، وكل كلمة تبدأ عندهم بأل التعريف العربية هي عربية لا محالة، ومن الأسماء ما يبدأ ببني، ومنها ما يبدأ بوادي، فدخلت مئات من الألفاظ في اللغة الإسبانية وتأصلت فيها، كما دخلت العربية في البرتقالية والإيطالية والفرنسية لغات الأمم اللاتينية، والعربية ظاهرة كل الظهور في اللغتين الإسبانية
15
والبرتقالية، بل ليس
16
في الأرض لغة تقرب بتعابيرها ومترادفاتها وجمالها وأمثالها من اللغة العربية كاللسان الذي يتحدثون به اليوم في البرازيل والبرتقال، والبرتقاليون أجداد البرازيليين، ودخلت اللغة البرتقالية ثلاثة آلاف كلمة عربية ومعظمها يبتدئ بأل التعريف، ولا يزال على حاله باللفظ الإفرنجي، وقالوا: إن ربع الإسبانية مأخوذ من العربية.
وسراية العربية لم تقف عند حد اللغات اللاتينية، بل تعدتها إلى اللغات الجرمانية والسكسونية ؛ فتجد ألفاظا عربية في الإنجليزية
17
والغالية القديمة والألمانية، واللغات الجرمانية الأصل كالهولاندية والإسكندنافية في شمالي أوروبا، وفي الروسية والبولندية واللغات الصقلبية الأخرى.
ومعلوم أن العرب استولوا على إقليم سبتمانيا في الجنوب الغربي من فرنسا على ساحل البحر المتوسط، وعلى مدينة ناربون وجعلوها قاعدة أعمالهم البحرية، واستولوا أيضا على مدينة قرقشونة ونيم وأتون وبون وسانس وأفينيون وبوردو، ثم استولوا على مرسيليا وأرل وعلى إقليم بروفنسيا ووصلوا إلى بواتيه على 332 كيلو مترا من جنوبي غربي باريز، ووقف العرب في إقليم سبتمانيا حيث أقاموا مراكز دائمة، وعقدوا عهودا مع أهل البلاد، وأدخلوا كثيرا من ألفاظهم في الاصطلاحات اليومية.
قالوا: وبينا كان التوحش ضاربا أطنابه
18
على غاليا، أي فرنسا، وعلى جرمانيا، كان العرب قابضين على زمام الأحكام في جنوبي فرنسا من جبال البرينات إلى جبال الألب، يحملون من مستعمراتهم إلى برغونيا وسويسرا في الشمال، وإلى التيرول ولمبارديا في الجنوب، ما تعلموه من العلوم في مدارسهم، وفي ذاك العهد انتقلت إلى الغرب عادة استعمال الأرقام العربية والكسور العشرية، وبقيت أسماؤها مع ما لحقها من التعديل عربية صرفة، وجاءت التعابير النادرة إلى اللغة الفرنسية من اللغة العربية أكثر من اللاتينية، وإن كان في الفرنسية على عهد أول نهضتها لفظة واحدة يونانية مقابل خمسمائة لفظة لاتينية، فمن العدل أن يقال: إنه كان مثل ذلك من اللغة العربية، فأخذ الفرنسيس
19
نحو تسعمائة كلمة من العربية وأدخلوها في معاجمهم واستعمالهم، ومنها ما دخل لغتهم في الحروب الصليبية.
وقد حدث للغة الفرنسية وآدابها
20
في عهد الصليبيين ما يحدث في مثل هذه الأحوال على قاعدة مطردة، وهو أن لغة الأمة التي استفاضت مدنيتها يؤثر أهلها في غيرهم، وكان الشرقيون ولا سيما العرب واليونان أكثر الأمم تمدنا بلا مراء على ذاك العهد، وقد تعلم قليل من العرب والترك والكرد لغة الفرنج، وهذا عدا بعض التراجمة الرسميين، وتعلم على العكس كثير من الصليبيين لغة الوطنيين عقبى وصولهم إلى فلسطين، ولا ريب أن مجاورة المدنية الإسلامية قد ساعدت على زيادة النفوذ الذي كانت العلوم العربية والفنون العربية تؤثرها في الإفرنج منذ زمن طويل ، وجاء في تاريخ اللغة الفرنسية وآدابها بعد إيراد ما تقدم: ومعلوم ما تدين به لهذا التأثير علوم الفلسفة والرياضيات والفلك والملاحة وتركيب النيران الصناعية والطب والكيمياء حتى فن الطبخ، فقد أخذنا عن العرب أشياء كثيرة من مثل طريقة الأرقام وشروح أرسطو حتى حمام الزاجل والرنوك وأدوات الموسيقى والأزياء والألبسة والأزهار والبقول، وإذا حدث أن ما نقل لم يسم باسم المدينة الشرقية المأخوذ عنها، مثل ثوم عسقلان وكساء دمشق، فإن غيرها قد احتفظت بأسمائها العربية مع بعض التحريف، وهي كثيرة ويتألف منها في الفرنسية مجموع كبير في الجملة. ا.ه.
وقال يهودا من جامعة مجريط:
21
أخذ الناس يدركون الآن أن أوروبا في القرون الوسطى مدينة للحضارة العربية التي اغترف من مناهلها المسلمون واليهود والنصارى على السواء، أخذ الناس الآن يفهمون أن العلوم الطبيعية والقوانين الأساسية في الفلسفة والرياضيات وعلوم العمران كانت تستمد روحها في زمن النهضة والإصلاح من ذلك المنهل العذب ألا وهو الحضارة العربية، وصار علماء العصر كلما تعمقوا في دراسة هذه الحضارة أدركوا أثرها البليغ في حضارة اليوم، وكشفوا مئات الكلمات الداخلة في اللغات الأوربية من أيام تلك الحضارة إلخ.
تأثر اللغات الشرقية بالعربية
هذا ما تأثرت به اللغات الأوربية المجاورة للعربية أيام بهائها، وذلك بقوى دولها والروح الساري من حضارتها، بقي الكلام على تأثر اللغات الشرقية بها؛ فمن أهم اللغات التي تأثرت بها اللغة الفارسية،
22
مع أنها كانت لغة حضارة راقية، وربما كان نحو نصف ألفاظها اليوم عربيا، ومثل ذلك يقال في اللغة العثمانية أو التركية على اختلاف لهجاتها كالقرقز وايغر وقفجاق وبشغرت وجغطاي. وتأثرت بالعربية اللغة الأوردية ولغة الملايو، أي الجاوية، واللهجة الأفغانية ولغات السودان المصري واللغات البربرية في إفريقية.
واللغة العربية اليوم في السنيغال هي لغة المسلمين، وتعتمد بقية اللغات الوطنية على الحروف العربية في كتابة لغتها،
23
وهي شائعة في السودان الفرنسي وفي شاطئ العاج، ويعتمدون في النيجر على الحروف العربية، وذلك في التجارة وكتابة اللغات المحلية ، ويعتمد غير المسلمين في ليبريا على الحروف العربية في تدوين لغاتهم، وهكذا في نيجيريا الشمالية تدرس العربية في المدارس الابتدائية، واللغات الوطنية تكتب بحروف عربية، والعربية منتشرة في أقاليم الشاد وجيبوتي والحبشة، وأهل هذه الديار من المسلمين يتكلمون في العادة لغتين، ويعتمد معلمو يوجوسلافيا على الحروف العربية في كتابة اللغة الصربية والتركية، وجميع علماء قازان والقريم يتكلمون العربية، وكذلك علماء كرجستان وطاغستان وشركسستان، واللهجات المحلية في أفغانستان تكتب بحروف عربية، وتستعمل العربية في سيام قليلا، ويستخدم مسلمو الفيليبين العربية لتدوين لغتهم. والعربية تدرس في جميع مدارس المسلمين في الهند، ولها سوق رائجة في جامعة عليكرة في شمالي الهند، وفي مملكة حيدر آباد الدكن، وكذلك الحال في بلاد إيران.
وفي كتاب لغات العالم أن العربية كانت لغة الكتابة عند الشعوب القليلة التمدن، كما كانت لغة شعوب إسلامية كتبوا بها لغتهم، وقد حملت العربية من الألفاظ الدينية والعلمية ما لا يحصى عدده، دخلت في التركية والفارسية وغيرهما، وإذا أراد الزنوج المسلمون في إفريقية ممن خرجوا عن الأمية أن يدونوا شيئا فيكتبونه بالعربية، وهم لا يتكلمونها في كل مكان، ولكنهم اتخذوا من العربية المكتوبة لغة علمية ولغة تراسل، يقول داربر: من الخطأ والخطل أن ينسب تقدم الإسلام إلى السيف وحده، وقد يستطيع السيف أن يغير عقيدة قوم، ولكنه لا يملك التأثير في ضمائر الأفراد وأفئدتهم، وإن عاملا أقوى من السيف، وسببا أشد تأثيرا من الخوف، صحبا الإسلام فأخذ يتغلب على الحياة الخاصة والعامة في آسيا وإفريقية، وساعد ذلك على انتشار اللغة العربية في أمم شتى تكاد لا تحصى. ا.ه.
الشعوب التي تتكلم العربية
ويتكلم اليوم باللغة العربية،
24
أو بها وبلغة أخرى، في جزيرة العرب والعراق والشام إلى تخوم آسيا الصغرى وفي إفريقية الشمالية «طرابلس وبرقة وتونس والجزائر والغرب الأقصى» إلى حدود الصحراء ومالطة ومصر إلى أقصى الجنوب، حيث الأنهار التي تتألف منها منابع النيل الغربية، وانتشرت في كردوفان ودارفور وواداي وبورنو وفي النيجر والسنيغال والصحراء الغربية الواقعة بين السنيغال والغرب الأقصى، ولم يستعمر سكان بلاد العرب الجنوبية جزيرة زنجبار فقط، بل استعمروا الأرض الإفريقية المناوحة لها، وبعثوا المستعمرين إلى أرخبيل ماليزيا، وقديما كانوا يتكلمون بالعربية، وتكلموا العربية حتى القرن الثامن عشر في جزيرة قوصرة «بنتيلاريا» بين تونس وصقلية.
وفي كلام أهل هذه الجزيرة وأهل جزائر الباليار كثير من المفردات العربية، ويتكلم العربية بعض أهل مدغسكر، ولا يعرف بالتحقيق إذا كانت العربية لسان شعب الموبال في الجنوب الغربي من الهند، وقد نشر الحضارمة من سكان اليمن اللغة العربية حيث حلوا من بلاد الهند الإنجليزية والمستعمرات الهولاندية، وصدروا بها جرائد وأنشأوا لتعليمها مدارس ابتدائية، ولا يقل عدد من يتكلمون العربية اليوم في البلاد العربية عن ستين مليونا على أقل تعديل، هذا عدا من يتكلمها ويكتبها من المسلمين في الصين والهند وجاوة وتركستان وإيران وأفغانستان والسودان، ولئن أصاب هذه اللغة في القرون الأخيرة بعض وهن لانقطاعها عن أن تكون لغة علم، وبقي حكمها باقيا في الدين والخطب والشعر، وضعفت آدابها، والآداب تبع لتقدم الأمة في سلم الحضارة، وهي صورتها الناطقة وأثر قوتها وانبعاثها، لئن أصاب اللغة ذلك فليس معناه أنها بليت ولم تعد تصلح لشيء كما يدعي بعض شعوبية الغرب، ويتابعهم بعض البلهاء أو المتفاصحين في الشرق.
العربية في عهدها الأخير واللهجات العامية
كانت اللغة الفصحى هي واسطة التفاهم بين عامة الشعوب الإسلامية في القارات الثلاث، منذ قيام دولة الراشدين إلى اليوم، وهيهات أن يكون حظها حظ اللغة اللاتينية من أكثر الأمم الغربية، فإن العربية رسخت قواعدها لمكان الدين منها، ثم لجعلها لغة مدنية راقية، ومن قارن بين حالتها اليوم وحالتها منذ مائة سنة، وما أصابته من الترقي بإدخال المدنية الجديدة على أهلها، لا يلبث أن يعرف بالبداهة أن العربية وسع صدرها لقبول جميع الأفكار الجديدة قديما وحديثا، وما عاق هذه اللغة كون لغة التخاطب في أكثر الأقطار العربية غير لغة التكاتب؛ لأن شروط البقاء فيها متوفرة بوفرة مادتها الأصلية، ولأن نفس كل مسلم تهوى إلى الاحتفاظ بها، وما أضر باللغة إلا انتشار الأمية زمنا طويلا بين أهلها، ولما أخذ أهل كل قطر بأساليب التعليم الجديدة في العهد الأخير، قربت لغة العوام بالضرورة من لغة الخواص، وكان ذلك بفضل المدارس والصحف والكتب والخطب والمحاضرات، وكم من لفظ فصيح شاع بالاستعمال اليوم بين الجمهور، بواسطة هذه العوامل في بث الفصيح، وكلما خفت الأمية بين الشعوب العربية، وربي الأولاد على الفصيح، يسمعونه في الجامع والمعبد والبيت والمدرسة والسوق، يتقارب عامي اللغة من فصيحها، وتمشي لغة الكتابة مع الطبع، مثل الكلام الدارج على الاستعمال.
وبأدنى نظرة في اللغة العامية اليوم، واللغة العامية في مصر والشام مثلا، قبل ثمانين سنة، يتجلى لنا ما كان يبدو على لسان المدرسين والخطباء والمعلمين والتلاميذ من اللفظ المبتذل، وما سرى إلى أقلامهم وكلامهم اليوم بل إلى العامة والأميين من الفصيح الجميل، وهناك ندرك الدرجات التي صعدتها اللغة في هذه الحقبة من الزمن، وسيكون الترقي بهذا النظر على مقياس أوسع في مستقبل الأيام، ومبادئ الترقي تبطئ سيرها لأول انبعاثها، ثم تتسع خطاها بعد حين فتعدوا عدوا، ودور التأسيس أصعب من دور الاستثمار، وليس من السهل إعادة الحياة إلى لغة كادت تفقد نضرة ملكتها، بفعل قرون الجهالة وطول أيام الأعاجم الذين دانت لهم بلاد العرب قرونا، فقد رأينا من هذه الدول من كانوا ولا يزالون يسرون إذا رأوا العربية تهوي إلى الحضيض، مع أنها لسان دينهم، وهم جماعات أخذوا بحب قوميتهم إلى الغاية، فظنوا تلقف ما عاداها مما يقدح في وطنيتهم، وحاولوا بزعمهم «تطهير» لغتهم من العربية، وما ندري إذا تم تطهيرهم المزعوم، ماذا يبقى لهم من لغتهم الضئيلة بمفرداتها.
يريد بعض الغربيين الذين يخوضون في شئون المسلمين، أن يقلب العرب أوضاعهم ومشخصاتهم، كأن الأمم ترتجل ارتجالا، ومنهم من يزعم أن اللغة العربية لم تعد تصلح لغة علم ومدنية، وأن العرب يجب أن يغيروا كل شيء في أساليبهم، وأن يكتفي أهل كل قطر باللغة العامية التي اصطلحوا على التخاطب بها، يقولون هذا وهم يعرفون أن لكل أمة مصطلحا، وأن الأمة تعيش بماضيها، وما هي إلا تتمه، وقولهم: إن لغة العرب لا تتسع للمصطلحات الفنية ، هو من الدعاوي الساقطة بالبداهة، يكذبه ما يصدر اليوم من التآليف العلمية بالعربية في مصر والشام والعراق وتونس وغيرها، وفي كتاب لغات العالم أن اللغة العربية الفصحى، أي العربية القديمة والأدبية والعلمية لغة القرآن هي من أهم اللغات التي عرفها التاريخ، وكان مؤلفوها لا يحصون كثرة، قالوا الشعر قبل الإسلام وبعده، وخلفوا من تفاسير القرآن وكتب الحديث والعبادات، وألفوا في كل موضوع من التاريخ والمعاجم والكتب العلمية الصرفة والقصص والرحلات وكتب المغامرات، وفي كل جنس من أجناس التأليف ما لا يقع عليه الإحصاء. ا.ه.
وقد نشأ تكاثر اللهجات العربية من تنائي أقطارها، وانقصام عرى وحدتها، «وأهل الأمصار
25
إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب»؛ ولذلك كان هذا الاختلاف في ألفاظ أهل الأمصار، وليست كثرة اللهجات بضارة كثيرا ما دام المعول على الفصحى، والعامية تقرب كل يوم خطوة منها، والضار شيوع الأمية في الأمة العربية، واللغة كما قال ابن حزم: تتبدل بتبدل مساكن أهلها؛ فإنه بمجاورة أهل البلدة الأخرى تتبدل لغتها تبدلا لا يخفى على من تأمله، فتتبدل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم، وإن كانوا يتكلمون في الأصل لغة واحدة. ومثل هذا رأي الثعالبي
26
في أن شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام، والسبب في تبريز الشاميين قديما وحديثا على من سواهم في الشعر، قربهم من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز؛ وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم، قال: إن شعراء الشام جمعوا بين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة.
ونحن اليوم لا نعلم الزمن الذي اضمحلت فيه اللغة الفصحى من الأفواه، ولكننا على يقين من أن هذا اللسان بقي محروسا
27
لم يتداخله الخلل إلى أن فتحت الأمصار وخالط العرب غير جنسهم والفرس والحبش والنبط وغيرهم من الأمم، فاختلطت الفرق وامتزجت الألسن وتداخلت اللغات، وما انقضى عصر التابعين إلا واللسان العربي قد استحال أعجميا أو كاد، وقد قال عمارة اليمني
28
من أهل المائة السادسة: إن الزراب، وهي الناحية الشرقية من المخلاف السليماني في اليمن، ما زال أهلها إلى عصره باقين على اللغة العربية من الجاهلية لم تتغير لغتهم؛ وذلك لأنهم لم يختلطوا قط بأحد من أهل الحاضرة في مناكحة ولا مساكنة، وهم أهل قرار لا يظعنون منه. وقال ياقوت: إن جبلي عكاد فوق مدينة الزرائب باليمن كان سكانه إلى القرن السابع باقين على اللغة العربية من الجاهلية لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة. ويقول الرحالة بروكهارت: إن في اللغة العربية المحكية عدة لهجات مختلفة كل الاختلاف، وربما كان هذا الاختلاف مما يوجد من نوعه في لغات أخرى، وعلى الرغم من سعة البلاد التي يتخاطبون بها، أي من موغادور إلى مسقط، فإن كل من حذق لهجة واحدة يتيسر له أن يفهم جميع اللهجات، وقد يمكن أن يكون عرا التلفظ شيء من التأثير نشأ من طبيعة البلاد المختلفة، واحتفظت العربية بعذوبتها في أودية مصر والعراق، وغدت قاسية في البلاد الباردة من أرض البربر والشام، قال: وبقدر ما يصل إليه علمي، فإن الاختلاف شديد بين اللهجة المغربية في مراكش والبدوية في الحجاز على مقربة من مكة ولكن لهجاتهم الخاصة لا تخالف بينها، إلا كما تتخالف الألمانية التي يتكلمها فلاح من بلاد سواب وآخر من سكسونيا.
حال الغرب في شباب الإسلام
همجية البلاد الإنجليزية والفرنسية
في القرون التي كانت فيها العرب تنعم بلذائذ العقل والعمل، وتأخذ من مسرات الحياة الفاضلة بأوفر نصيب، ويهاب سطوتها البادي والحاضر في كل قطر استصفته أو لم تستصفه، وتؤلف أمة منطوية على علم كثير، وأدب غزير، وتعرف لها وثبات ظاهرة، وحكومات ناهضة - في هذه القرون كان الغربيون متوحشين جاهلين، لا يعرفون طعم الراحة، ولا يتذوقون عيش الرفاهية، لا أمن ولا إدارة، ولا ملوك يعرفون واجبهم في إقامة العدل وتوطيد الأمن، وهم في كل أحوالهم إلى حالة البوادي أقرب منهم إلى حياة المدن والحضارة.
كانت إنجلترا
1
الأنجلوسكسونية في القرن السابع الميلادي إلى ما بعد العاشر فقيرة في أرضها، منقطعة الصلات بغير بلادها، سمجة وحشية، تبني البيوت بحجر غير نحيت، وتشيدها من تراب مدقوق، وتجعلها في وطأ من الأرض: مساكن ضيقة المنافذ، غير محكمة الإغلاق، واصطبلات وحظائر لا نوافذ لها، تقرض الأمراض والأوبئة المتكررة المواشي والسائمة، وهي المورد الوحيد في البلاد، ولم يكن الناس أحسن مسكنا وأمنا من الحيوانات. يعيش رئيس القبيل في كوخه مع أسرته وخدمه ومن اتصل به، يجتمعون في قاعة كبرى في وسطها كانون ينبعث دخانه من ثقب فتح في السقف فتحا غليظا، ويأكلون كلهم على خوان واحد، يجلس السيد وقرينته في أحد أطراف المائدة، ولم تكن الشوكات معروفة، وللأقداح حروف من أسفلها، فكان على كل مدعو أن يمسك بيده قدحه، أو يفرغه في فيه دفعة واحدة، وينتقل السيد إلى غرفته في المساء، بعد أن يتناولوا الطعام ويعربدوا على الشراب، ثم ترفع المنضدة والصقالات، وينام جميع المجتمعين في تلك القاعة على الأرض أو على دكات، واضعا كل فرد سلاحه فوق رأسه؛ لأن اللصوص كانوا من الجرأة بحيث يقتضي على الناس أن يقفوا لهم بالمرصاد كل حين، لئلا يؤخذوا على غرة.
وكانت أوروبا في ذلك العهد غاصة بالغابات الكثيفة، متأخرة في زراعتها، وتنبعث من المستنقعات الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة، تجتاح الناس وتحصدهم. وكانت البيوت في باريز ولندرا تبنى من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب، ولم يكن فيها منافذ ولا غرف مدففة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش، ينشرونه على الأرض، ولم يكونوا يعرفون النظافة، ويلقون بأحشاء الحيوانات وأقذار المطابخ أمام بيوتهم، فتتصاعد منها روائح مزعجة، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال، وكثيرا ما كانوا يؤون معهم الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من القش، فوقه كيس من الصوف، يجعل مخدة أو وسادة، ولم يكن للشوارع مجار ولا بلاط ولا مصابيح. قال درابر: وكان من أثر ذلك أن عمت الجهالة أوروبا، وساورتها الأوهام ، فانحصر التداوي في زيارة الأماكن المقدسة، ومات الطب وحييت أحابيل الدجالين، وكلما دهم البلاد وباء فزع رجال الدين إلى الصلاة، وأغفلوا أمر النظافة، فكانت الأوبئة تفتك بهم فتكا ذريعا، وقد زارت أوروبا مرارا فاجتاحت الملايين من أهلها في أيام قليلة.
كان العالم القديم يقتسمه في القرن الحادي عشر مدنيتان:
2
في الغرب؛ مدن حقيرة صغيرة، وأكواخ فلاحين، وقلاع لا هندسة لها، وبلاد مضطربة على الدوام بالحرب، لا يتأتى أن يسير فيها السائر عشرة فراسخ دون أن يسلب وينهب. وفي الشرق: مدن القسطنطينية والقاهرة ودمشق وبغداد وجميع مدن ألف ليلة وليلة، بما فيها من قصور المرمر والمعامل والمدارس والأسواق والحدائق الممتدة على بضعة فراسخ، وبرية تروى أحسن إرواء غاصة بالقرى والضياع، وحركة التجار لا تنقطع، يذهبون بسلام من إسبانيا إلى فارس. قال سنيوبوس: ولا شك أن العالم الإسلامي والعالم البيزنطي كانا أغنى وأحسن نظاما ونورا من العالم الغربي، فكان النصارى يشعرون بنقصهم في التهذيب، ويعجبون باهتين بما يبدو لهم من غرائب الشرق، ومن يحب أن يتعلم يقصد إلى مدارس العرب، وبدأ العالمان الشرقي والغربي في القرن الحادي عشر يتعارفان، ودخل النصارى المتوحشون إلى حمى المسلمين الممدنين من طريقين: الحرب والتجارة. ا.ه. ولقد دهش
3
الصليبيون في القرن الخامس من الهجرة لما بلغوا الشرق ووقعت أعينهم على مدن حافلة منظمة في بيزنطية والشام وغيرها من بلاد الإسلام؛ إذ ما كان لهم عهد بغير قرى حقيرة ودساكر لا شأن لها في بلادهم.
الأمية في الغرب والتوحش في عامة أقطاره
وبينا كان شارلمان أعظم ملوك أوروبا، وهو معاصر للرشيد العباسي، وصاحب فرنسا وجرمانيا وشمالي إيطاليا، أقرب إلى الأمية منه إلى النور، كانت كتب الفلسفة والعلوم المادية والأدبية يتنافس فيها علماء العرب في بغداد وقرطبة، وتترجم للمنصور العباسي الكتب من اللغة العجمية
4
إلى العربية، منها كتاب كليلة ودمنة وكتاب السند هند، وتترجم له كتب أرسطاطاليس من منطقيات وغيرها، وكتاب أقليدس وكتاب الأرتماطيقي، وسائر الكتب القديمة من اليونانية والفهلوية والفارسية والسريانية، وتخرج إلى الناس فينظرون فيها ويتعلقون إلى علمها، ومعظم الخلفاء الأول من بني العباس يشرفون على علوم الناس وآرائهم من تقدم وتأخر من الفلاسفة وغيرهم من الشريعيين، وتجرى في مجالسهم مباحث في أنواع العلوم من العقليات والسمعيات في جميع الفروع والأصول.
وبينا يقوم في العرب أعلم خلفائهم المأمون العباسي الذي قلما جاء حتى في ملوك الغرب من يدانيه بعلمه وعقله، يطلب إلى ملك الروم لما غلبه كتب العلم التي عنده، وهو عمل مدهش لم يعهد لملك ولا لحكومة أن طلبت مثله من عدوها في قديم الدهر وحديثه، وبه يعرف قدر المأمون وتفانيه في خدمة الإنسانية، كما قال فران
5
ويستمتع الناس في أيامه بنعمة الحرية العلمية والوجدانية، حتى عد عصره عند العرب كعصر بركليس في آثينة وعصر أغسطس في رومية - بينا كانت الحال عند العرب على ما ذكر - كان شارلمان يحاول أن يتعلم ويتحبب إلى الآداب
6
تحببا ساذجا، كما يحب غير المتعلمين أن يروا أحيانا السطور المكتوبة، وتشبه آداب عصره أدب صبيان المدارس وتمارينهم اليوم، ولم يكن في غاليا شيء يشبه الأدب، وما دون أهلها قط كتابا ولا أخبارا، وكانت الكتابات الرسمية التي لا يستغنى عنها كالمواثيق والهبات والوصايا تكتب باللغة اللاتينية البربرية، وهي من سقم الخط بحيث يصعب حلها، ولا يمتاز شرفاء القرون الوسطى بتعلمهم وتهذيبهم عن الفلاحين، وكان معظم الزعماء يجهلون القراءة، ولا هم لهم غير الشراب والطعام والصيد والحرب، وهم في العادة جفاة غلاظ شداد؛ فقد قتل ريشاردس قلب الأسد مثل الفروسية 2500 أسير من العرب، وفقأ عيون خمسة عشر فارسا كان لهم يد في حرب أثارها على فيليب أغسطس، وكثيرا ما كانوا يفقأون عيون النساء ويجدعون أنوفهن، ولم يزل هذا الإغراق في الشدة والقسوة البربرية مألوفا إلى القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر، وقست بحياة التشرد على هذا النحو قلوب الفرسان، وغلظت طباعهم، وغدوا يتقاتلون لأقل سبب، ولا قصد لهم من تقاتلهم غير السلب والنهب، ومن الفرسان من كان يقف على قارعة الطريق، يستوقف التجار ويسلبهم ويسجنهم ويعذبهم؛ ليكرههم على أن يفتدوا بالمال أنفسهم ، وليس عندهم أمن ولا أمان.
بلى، فقد من غاليا على عهد شارلمان، وبعده بزمن طويل كل اهتمام بشيء يقال له: الثقافة العامة،
7
وأصبحت اللغة اللاتينية، وهي اللغة المكتوبة الوحيدة على غاية من الفساد، وأصبح الكتاب أندر من الكبريت الأحمر، ولا يطمع الأفراد الذين كانوا يرغبون في التعلم إلا أن يقرءوا التوراة، ويكتبوا صكا رسميا بالرجوع إلى دساتيرهم، أما صنائعهم السائرة فهي من العبث والفساد بالمحل العالي، وذكر روبرتسون
8
أنهم عثروا على عدة قوانين ووثائق صادرة عن أهل الطبقة الأولى من الأعيان، يستدل منها أنهم كانوا أميين؛ ولذلك كانوا يعمدون إلى وضع صورة الصليب على الوثائق الصادرة عنهم، بل كان هريون أعظم قضاة الدولة أميا، وكان دجسلين رئيس الجيوش الفرنسية في القرن الرابع عشر وأعظم رجال عصره أميا، وكان كل من يتطلب منصبا يسأل إن كان يقرأ الإنجيل ورسائل الرسل، ويفسر معناها ولو كلمة كلمة، من غير نظر إلى تفسير الجملة؛ ذلك لأنه كانت الكتب نادرة الوجود لا تتعدى أسوار البيع، وما خرج الغربيون من الجهل إلا باختراع الطباعة في القرن الخامس عشر. وذكر القزويني
9
أن تجارا من العرب ذهبوا إلى شلشويق - من بلاد الدانيمرك اليوم - لاستحضار العنبر فوصفوا أهلها بأنهم وحوش عراة يسترون عوراتهم بقطع من الجلود.
هكذا كان أوروبا الغربية وما إليها، أما حال أوروبا الشرقية فكانت إلى الهمجية المطلقة، بل إن تاريخ روسيا لم يكن بدأ في القرن التاسع للمسيح، وكانت تلك البلاد الواسعة مسرحا لبعض قبائل الصقالبة، يتسلط التتر عليها ويسومونها سوء العذاب، بل دامت أيام الجهالة في روسيا إلى ما بعد ذاك العهد بقرون، ولقد شبت فيها نار حرب
10
أهلية لخلاف وقع في معرفة عدد الأصابع التي يجب استعمالها في عمل إشارة الصليب، ولم تخلص روسيا في الحقيقة من كابوس الجهل المطبق إلا في القرن الثامن عشر على عهد مصلحها بطرس الأكبر، ومثل ذلك يقال في سائر بلاد الغرب حاشا إيطاليا؛ فإن برابرة الشمال قضوا على مدنية الرومان فيها، وسلمت لهم بعض عادياتها ومصانعها، فكانت للأخلاف بمثابة حافز لهم على الترقي، فانبعثت النهضة بعد قرون من بين أظهر القوم، وسرى قبس نورها في القرن الرابع عشر إلى معظم الأصقاع الأوربية.
المقابلة بين بلاد العرب وبلاد الإفرنج
كانت أوروبا تحت سلطة الباباوات، يتصرفون فيها على هواهم، ويتحكمون في الأرواح والأشباح، والناس تائهون كما قال «دوزي»
11
في ظلام الجهالة، لا يرون النور إلا من سم الخياط، والنور لا يسطع إلا من جانب الأمة الإسلامية، من علوم وأدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك، وبغداد والبصرة وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وفارس وغرناطة وقرطبة هي المراكز العظيمة للعلم، وعواصم أوروبا التي ندهش بها اليوم أشبه بقرى، لا علم فيها ولا عمران، وهي متأخرة في كل شئونها المادية والأدبية، وما كانت في بلاد الإسلام مدرسة ولا جامع ولا بلد ولا دار كبرى تخلو من خزائن كتب مسبلة على المطالعين، هذا مع عزة المخطوطات في ذاك العهد، يجتمع في تلك الدور العالمون، يقرءون ويتباحثون ويتدارسون، تساوى في ذلك الرجال والنساء، وكانت المدارس في المدن والقرى وفي الأندلس خاصة مبذولة لكل طالب، حتى قال أحد مؤرخي الإفرنج: إن معظم سكان إسبانيا الإسلامية كانوا يقرءون ويكتبون، في زمن كان أهل الطبقة العليا في أوروبا النصرانية أميين لا يقرءون عدا أفرادا قلائل من الشمامسة، جعلوا الكتابة صناعة لهم. وقال روبرتسون: كان في إسبانيا في ابتداء القرن الخامس عشر مدن كثيرة أعمر من باقي مدن أوروبا حاشا مملكتي إيطاليا وبلاد القاع، وكان العرب أنشأوا في مدنهم معامل ومصانع أيام كانوا حاكمين فيها.
وغصت بلاد المسلمين بالمجامع العلمية مؤلفة من علماء لا ينظر في اختيارهم إلى الدين الذي يدينون به، بل يراعى فيهم علمهم واختصاصهم، وكان الخلفاء والملوك والعظماء يجمعون المشتغلين في قصورهم، يتذاكرون أصناف العلوم، وما كان مجلس لهم يخلو من عالم أو علماء، ينصب الحضور له ويأخذون عنه، ومنهم من كان يستصحب العلماء في غزواته، أو يصحب أحمالا من الكتب في رحلاته؛ لأن نفسه تفطم عن كل شيء إلا عن الأبحاث العلمية وغيرها، وكان المنصور بن أبي عامر الأندلسي، وأمير المؤمنين المأمون في بغداد ، في جملة عشرات من رجال الإسلام كان هذا شأنهم.
وذكر جبون خلال كلامه على حماية المسلمين للعلم في الشرق والغرب، أن ولاة الأقاليم والوزراء، كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على بيوت العلم، ومساعدة الفقراء على طلبه، فانتشر من ذلك ذوق العلم، ووجدت اللذة في تحصيله بين الناس، من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة، قال: وقد أنفق وزير واحد لأحد السلاطين (نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة بغداد «النظامية»، وجعل لها من الريع خمسة عشر ألف دينار في السنة تصرف عليها، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص للمدرسة، وابن الغني يكتفى بمال أبيه، والمعلمون ينقدون رواتب وافرة.
بينا كان في الأندلس عبد الرحمن الثالث الأموي
12 (300-350) عالم الملوك وحامي الآداب والعلوم والصنائع والتجارة، ورب السيف والقلم الذي أصبحت إسبانيا بأعماله وأعمال أخلافه أحسن الممالك حضارة وحسن إدارة في القرون الوسطى، كنت ترى في رعيته بل في أعماله من يقرعه؛ لأنه بنى قصر الزهراء، واستفرغ جهده
13
في تنجيدها، وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع، يقوم قاضي الجماعة بقرطبة منذر بن سعيد البلوطي، ويعظه على المنبر مبتدئا خطبته بقوله تعالى:
أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ،
14
ثم يفضي إلى ذم المشيد والاستغراق في زخرفته والسرف في الإنفاق عليه، ويتلو فيه قوله تعالى:
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ،
15
ويأتي بما شاكل ذلك من التخويف والوعظ، فيبكي الناس والخليفة، ويشكو هذا إلى ولده الحكم تقريع منذر بن سعيد له مقسما أن لا يصلي خلفه الجمعة أبدا، ويقول له الحكم: «وما الذي يمنعك عن عزل منذر بن سعيد والاستبدال به؟» فيزجره وينتهره ويقول: أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعلمه وحلمه، لا أم لك، يعزل إرضاء لنفس ناكبة عن الرشد؟ هذا ما لا يكون، وإني لأستحي من الله تعالى ألا أجعل بيني وبينه شفيعا في صلاة الجمعة مثل منذر بن سعيد، ولكنه قد وقذ
16
نفسي وكاد يذهبها، والله لوددت أن أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي، بلى يصلي بالناس حياته وحياتنا، فما أظننا نعتاض منه أبدا.
وبينا أهل أوروبا كلهم عبيد ملوكهم وباباواتهم وزعمائهم، لا يجسر إنسان أن ينقد عملا أو يعترض على سياسة، كان رجال الإسلام يقدمون على وعظ الخلفاء، ولا يهابون سطوتهم ولا بطشهم، كمقام رجل من العباد عند المنصور العباسي يوم قال له: «وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر، وأبوابا من الحديد، وحراسا مع السلاح، ثم سجنت نفسك عنهم فيها، وبعثت عمالك في جبايات الأموال وجمعها، وأمرت أن لا يدخل عليك أحد من الرجال إلا فلان وفلان نفرا سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع العاري إليك، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا دونك، تجبي الأموال وتجمعها، قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه، فأتمروا أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل إلا خونوه عندك ونفوه، حتى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والثروة من رعيتك، لينالوا ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وبغيا وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينك وبينه، إلى أن قال: فإن قلت: إنما تجمع المال لشديد السلطان، فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت: إنما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة ما تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه.»
هكذا كان المسلمون في العالم حكاما ومحكومين، السلطان يعمل والواعظ يعظ، والناس آمنون والحرية مشاعة شاملة، وبهذه الحرية التي تمتع بها العرب في دولهم، قبل أن تعرف معناها أمة من الأمم قبلهم، نشأ رجال في السياسة والحرب والإدارة والعلم والفن والصنائع والتجارة كانوا غرة في جبين الدهر، ولو جئنا نعدهم ونشير إلى ما رزقوا من ثقوب أذهان، ووفرة علم، وسمو أخلاق، ولطف حيلة، لاقتضى الخروج عن حد الإيجاز، وبأدنى نظر في سيرهم، يثبت لنا أن دينهم لم يحل دون مدنيتهم، من الظهور بهذا المظهر الخلاب الذي استهوى كل من عرفه، ولا ريب أن قليلا في رجال الغرب قبل عصر النهضة من بلغوا في الفضل والكمال مبلغ رجال الأمويين في الشرق والأندلس وبعض رجال العباسيين، بل مبلغ رجال ملوك الطوائف، وقليل جدا في الغرب من كانوا متصفين بصفات الخير أمثال الصاحب بن عباد وابن العميد وركن الدولة ابن بويه ومنصور بن نوح الساماني وأبي الفداء ومحمود بن سبكتكين وصلاح الدين ونور الدين وطغتكين والمنصور بن أبي عامر، وعشرات بل مئات بيضوا وجه الإنسانية بأعمالهم الصالحة، وبنبوغهم في معاناة أحوال الناس وحملهم على الجادة، لينعموا بالسعادتين الدنيوية والأخروية.
وكان الغربيون خلال القرون الطويلة التي كان فيها العرب أنجب أمة من أمم الخليقة يترامى إليهم من طريق الأندلس وصقلية وإيطاليا أولا، ثم من طريق الصليبيين، ما تم في بلاد العرب والمسلمين من الرقي، فتصبو نفوسهم إلى تحقيق مثله أو بعضه في ربوعهم، وأنى لهم ذلك وسلطة رجال الدين عندهم تناولت كل فروع الحياة، وفرسانهم وملوكهم كانوا أدوات للتدمير لا للتعمير، تغلب الفظاعة على أعمالهم، والسماجة تقرأ في تضاعيف مجتمعهم، وحضارتهم على حالة ابتدائية، كلما حفزها حافز عادت أدراجها بعوامل التقهقر المغروسة فيها.
رأي لبون في تأثير العرب في الغرب
ولقد أجمل لبون دور الانتقال في الغرب وتأثير العرب فيه في صفحة واحدة، فقال: «كان
17
تأثير العرب في الغرب عظيما، وإليهم يرجع الفضل في حضارة أوروبا، ولم يكن نفوذهم في الغرب أقل مما كان في الشرق، ولكنه كان يختلف عنه، أثروا في بلاد المشرق بالدين واللغة والصنائع، أما في الغرب فلم يؤثروا في الدين، وكان تأثيرهم في الفنون واللغة ضعيفا، وتأثيرهم بتعاليمهم العلمية والأدبية والأخلاقية عظيما، ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير العظيم الذي أثره العرب في الغرب، إلا إذا تصور حالة أوروبا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة، وإذا رجعنا إلى القرنين التاسع والعاشر للميلاد، يوم كانت المدنية الإسلامية في إسبانيا زاهرة باهرة، نرى أن المراكز العلمية الوحيدة في عامة بلاد الغرب كانت عبارة عن مجموعة أبراج يسكنها سادة نصف متوحشين، يفاخرون بأنهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وكانت الطبقة العالية المستنيرة في النصرانية عبارة عن رهبان فقراء جهلة، يقضون الوقت بالتكسب في ديرهم بنسخ كتب القدماء، وليبتاعوا ورق البردي اللازم لنسخ كتب العبادة.» «وطال عهد الجهالة في أوروبا، وعم تأثيره بحيث لم تعد تشعر بتوحشها، ولم يبد فيها بعض الميل للعلم إلا في القرن الحادي عشر، وبعبارة أصح في القرن الثاني عشر. ولما شعرت بعض العقول المستنيرة قليلا بالحاجة إلى نفض كفن الجهل الثقيل الذي كان الناس ينوءون تحته، طرقوا أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إليه؛ لأنهم كانوا وحدهم سادة العلم في ذاك العهد، ولم يدخل العلم أوروبا في الحروب الصليبية كما هو الرأي الشائع، بل دخل بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا. وفي سنة 1130 أنشئت مدرسة للترجمة في طليطلة بعناية ريموند رئيس الأساقفة ، وأخذت تترجم إلى اللاتينية أشهر مؤلفي العرب، وعظم نجاح هذه الترجمات، وعرف الغرب عالما جديدا، ولم تفتر الحركة في هذه السبيل خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، ولم تنقل إلى اللاتينية كتب الرازي وأبي القاسم وابن سينا وابن رشد وغيرهم، بل نقلت إليها كتب اليونان أمثال جالينوس وأبقراط وأفلاطون وأرسطو وأقليدس وأرخميدس وبطلميوس، وهي الكتب التي كان المسلمون نقلوها إلى لسانهم.»
18
وقد عد لكلرك في تاريخ الطب العربي ثلاثمائة كتاب نقلها الغرب من العربية إلى اللاتينية، وما عرفت القرون الوسطى المدنية إلا بعد أن مرت من لسان أشياع محمد، وبعض هذه المترجمات لكتب القدماء التي فقد أصلها، حفظت هذه الأسفار من الضياع فوصلت إلى الغرب، فإلى العرب وإلى العرب وحدهم، لا إلى رهبان القرون الوسطى ممن كانوا يجهلون حتى وجود اللغة اليونانية، يرجع الفضل في معرفة الأقدمين، والعالم مدين لهم على وجه الدهر لإنقاذهم هذا الكنز الثمين. يقول ليتري: «لو حذف العرب من التاريخ لتأخرت نهضة الآداب عدة قرون في الغرب.»
وقال لبون في مكان آخر: تمتعت إسبانيا بمدنية سامية بفضل العرب، بينا كانت بقية أوروبا غارقة في التوحش العظيم، ولو مشى الغرب تحت راية العرب، لتسامت منزلته، ولو رقت أخلاق أهله ما وقعوا في الحروب الدينية ومذبحة سان بارتلمي، وديوان التحقيق وكل ما شاكل ذلك من المصائب التي أغرقت أوروبا بالدماء عدة قرون، وما عرف المسلمون ما يشبهها في أرضهم. وقال أيضا: كان تأثير العرب في عامة الأقطار التي احتلوها عظيما جدا في الحضارة، ولعل فرنسا كانت أقل حظا في ذلك، فقد رأينا البلاد تتبدل صورتها حيثما خفق علم الرسول الذي أظلها بأسرع ما يمكن، وأزهرت فيها العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أي إزهار.
تأثير العرب في البلاد المغلوبة
سوء حال بلاد الأكاسرة والقياصرة
أصبحت البلاد الخاضعة لسلطان الفرس وسلطان الروم قبيل الإسلام منهوكة القوى بالحروب والمجاعات والأوبئة، ضرب هرقل صاحب الروم مملكة فارس ضربة شديدة، فكان من ذلك ضعفه وضعف خصمه، وغزا الفرس الشام ومصر وخربوا في مملكة قيصر، فمقت الناس كسرى في فارس وهرقل في الروم، وكلاهما قاست أمته الأمرين من جائر أحكامه وفاحش مغارمه؛ حاصر كسرى مدينة القسطنطينية ست سنين، حتى مات أكثر أهلها جوعا، وقتل هرقل في فارس الرجال والنساء والصبيان وسبى سبيا كثيرا، وكان ذلك في السنة السابعة من الهجرة.
وكان يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس وهو ابن حفيد كسرى، قد ملكه الفرس عليهم لما كانوا فيه من الانتشار، ملكوه وهو ابن خمس عشرة سنة، كما ملكوا طفلا آخر، وقد ملكت عليهم بوران بنت كسرى؛ وبلغ النبي خبرها، فقال: «لن يفرح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة.» وكأن الفرس أدركوا قوة العرب فقالوا فيما بينهم: إنما أتينا من تملك النساء علينا، فاجتمعوا على يزدجرد، فكان الملك في فارس قبيل الإسلام ألعوبة بأيدي النساء والأطفال، والرعية متشعبة إلى أديان وفيهم المجوس، والمجوسية دين الدولة، وفي البلاد اليهود والنسطوريون وهم ممن لا يستهان بهم.
وبلغ هرقل سن الشيخوخة وأغواه رهبان إيليا، فقتل اليهود حول بيت المقدس وجبل الجليل قتلا ذريعا بدعوى أن اليهود لما وافى الفرس فلسطين أعانوا هؤلاء على قتل النصارى، وأخربوا الكنائس وأحرقوها بالنار، وقتلوا النصارى في صور وخربوا بيعهم، فقتل كما قتل ابن بطريق من اليهود ما لا يحصى عدده ممن قدر عليه، وأرضاه الرهبان بأن صاموا له غفرانا لنقضه العهد الذي كان أعطاه لليهود، ولإفحاشه في قتلهم. وكان الخلاف الديني على أشده بين النصارى في مملكة الروم؛ اختلفوا في المسيح، وقال قوم: إن للمسيح طبيعتين
1
بمشيئة واحدة وفعل واحد وأقنوم واحد. وقال آخر: إن للمسيح مشيئتين وفعلين كما أن له طبيعتين؛ لأنه يستحيل أن تكون مشيئة واحدة لذات طبيعتين، ولو كان ذا مشيئة واحدة لكان ذا طبيعة واحدة، فلما كان ذا طبيعتين فهو ذو مشيئتين.
وليتصور المرء بلادا منقسمة على نفسها، خارجة من حروب أضعفت في أهلها مادة الحياة، لا مال لديها ينشلها من شقائها، ولا شيء مما يقال له: رخاء وهناء بات يعهد فيها، الفقر يخرب في كيانها، والمجاعات والجوائح من الأمور العادية في ربوعها، وكل واحد من الفرس والروم يتطلب الفرج من أي سبيل جاءه؛ لأن النفوس امتلأت غيظا على الأيام وعلى الحكام، وبينا الناس على ذلك جاء الفاتحون من العرب ففرح بمقدمهم أهل البلاد، ومنهم من عاونوهم بالفعل، وإن اضطر بعض الفرس والروم أن يحاربوا العرب مع كسرى وقيصر دفاعا عن الحوزة، فالناس كانوا إذا في بلاد الأكاسرة والقياصرة زاهدين في المظاهر القومية، ضعفت في نفوسهم معاني الاستقلال، وهم بما صاروا إليه من سوء الحال يحاولون أن يضعوا أيديهم في يد كل من ينتشلهم من سقطتهم وفاقتهم، ويدفع عنهم عوادي الفوضى ولو إلى أجل معلوم.
ولا عجب إذا وجد سكان البلاد في الفاتحين أعظم منقذ لهم مما هم فيه من الشدائد، وهان عليهم أن ينزلوا عن دينهم ولغتهم ويدينوا بالإسلام، وكيف لا يتركون مشخصاتهم، وقد رأوا فيما عرض عليهم نموذجا يصلح لهم، وأن الاختلاف يسير بين ما عرفوا من التعاليم وما سيعرفون، هذا إلى ما في الجديد من روعة، يزيد تأثيرها إذا كانت إلى السذاجة لا تعقيد فيها ولا التباس، والناس من طبيعتهم أن يصفقوا لمن رفرف طير سعده، فيدهنون له ويلتفون حوله، ويعلقون على مماشاته آمالا طويلة.
كانت مصر والشام من جملة الأقطار
2
التي تحاول الانفصال عن المملكة البيزنطية، وكان هرقل وشعبه مشغولين بالمسائل الدينية والخلافات المذهبية، والناس قد نزعت من نفوسهم الثقة به، فهو إذا شفى أنفس الرهبان بالانتقام من اليهود، وخان العهد الذي أعطاه لهم، فشعبه يدرك باطنا أنه أسرع ما يكون إلى خيانتهم أيضا، متى تعارضت مصلحته الخاصة بمصالحهم، أو توقفوا حينا عن أداء الجبايات مثلا ليصرفها في حروبه، وكلهم مستاءون من المظالم والمغارم، سئموا الغارات والغزوات، وأصبحوا يتطلعون إلى دولة تنقذهم مما هم فيه من البلاء، وكانت هذه الدولة المنقذة دولة العرب الفتية القائمة وراء حدودهم تمد يدها القوية إليهم لتنشلهم.
بيد أن كل هذا الضعف المستحوذ على العالمين الفارسي والرومي كان في الإمكان أن يبقي الفرس والروم معه أصحاب الكلمة النافذة في العالم قرونا؛ لأنهم كانوا على فساد حكمهم، واختلال التوازن بين الوازعين الديني والمدني في ممالكهم، أصلح للبقاء من غيرهم؛ لأن أهل فارس والروم في معنى الخلل كانوا سواء وغيرهم ممن جاورهم من الحكومات والقبائل، لولا قيام العرب بذهنية جديدة، وقوة خارقة وقرت في نفوس الكبير والصغير منهم.
تساهل ملوك العرب وانتشار الإسلام
كان النصارى والمجوس في الفتح وبعده كلما رأوا تساهل العرب ومحاسنتهم زادوا ثقة بهم، وإقبالا على دعوتهم، ورجوا لأيامهم طول البقاء. رأوهم بعد استقرار حكومتهم لا يعارضونهم في إقامة شعائر دينهم،
3
وأن سلطانهم عليهم ناعم الملمس كثير المحاسنة؛ يوفون بعهودهم فلا يجورون، ولا يخونون ولا يغدرون، رأوا أبا عبيدة بن الجراح وهو أمير على الشام يقول: أيها الناس إني امرؤ من قريش، وما منكم أحد من أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه،
4
رأوهم يحافظون على النصارى واليهود، ويرعون لهم عهدهم، ويحافظون على بيعهم وكنائسهم، فلئن
5
أمر يزيد بن عبد الملك في سنة 104ه بكسر الأصنام كلها ومحو التماثيل في مصر، فقد أذن موسى بن عيسى العباسي والي مصر من قبل الرشيد في بنيان الكنائس التي هدمها علي بن سليمان، فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة من أحبار الأمة، وقالا: هو من عمارة البلاد، واحتجا أن عامة الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام، في زمن الصحابة والتابعين.
وما كان ملوك المسلمين في القرون التالية يحاذرون إلا أن تنبعث من الديرة والكنائس في بلادهم أمور تفسد عليهم سياستهم؛ ولذلك كانوا يراقبونها في الجملة، ولشدة اعتمادهم على البطاركة كانوا يكلون إليهم أمور طوائفهم، ويسألونهم عن كل ما يأتيه جماعتهم مما يخل بأمن البلاد، وكان لرئيس اليهود التحدث في كنائس اليهود المستمرة في أيديهم من حين عقد الذمة، وكان على بطريرك النصارى الملكانية النظر في الكنائس والبيع، وعليه أن يتفقدها في كل وقت ويرفع ما فيها من الشبهات، ويحذر رهبان الديارات من جعلها مصيدة للمال، وأن يتجنبوا فيها الخلوة بالنساء، ولا يؤوي إليها أحدا من الغرباء القادمين عليهم يكون فيه ريبة ، ولا يكتم ما اطلع عليه من ذلك عن المسامع السلطانية، ولا يخفي كتابا يرد عليه من أحد الملوك، أو يكتب له جوابا، ويتجنب البحر وما يرد منه من مظان الريب، وكان يشترط على بطريرك اليعاقبة أن يتوقى ما يأتيه سرا من تلقاء الحبشة. وأمور الديرة والكنائس مردودة إلى البطريرك ينيب عنه فيها من يأتمنه السلطان لا غيره، إذا وقع ما يخالف فيها، ومنح ملوك العرب للكنيسة الرومانية حريتها في مفاوضة الأساقفة في البلاد الإسلامية، وهم في أعظم أيام قدرتهم، مع أن هذه الكنيسة كانت ترعى الدولة المنقطعة أكثر من رعايتها الدولة الخالفة، واستحكم الوئام بين المسلمين والنصارى حين آثر هؤلاء أن يتحاكموا في اختلافاتهم الطائفية في المحاكم الإسلامية، وقد لام البابا غريغوريوس السابع أهل ملته على تقاضيهم مع أسقفهم في محكمة المسلمين.
وكان العرب لأول أمرهم في الأندلس إذا شجر خلاف بين مسلم ونصراني من الجند يعطى الحق غالبا للنصراني،
6
فنشأت وحدة وطنية بين الغالب والمغلوب، وكان عبد الرحمن الثاني عزم أن يجمع مجمعا مقدسا من النصارى برياسة رئيس أساقفة إشبيلية لقمع عادية التعصب الإسباني؛ لأن دعاة الدين من أهل النصرانية أخذوا يتناولون الإسلام بالإهانة علنا حتى يقتلوا في سبيل دعوتهم، وتكتب لهم الشهادة بزعمهم.
بهذه المسالمة العظيمة
7
البادية في أعمال الغالب مع المغلوب دخل المجوس أفواجا في الإسلام، وضعفت النصرانية جدا ثم زالت من شمالي إفريقية، ولم يكن للإسلام دعاة يدعون إليه وينشرون أحكامه على ما هو الحال في النصرانية، ولو قام أناس بهذا العمل لانحل الإشكال في معرفة السبب في تقدمه الغريب، فقد رأينا شارلمان يستصحب أبدا معه في حروبه ركبا من القسيسين والرهبان يباشرون فتح القلوب، بعد أن يكون هو بدأ بفتح المدائن والأقاليم، بجيوش يصلي بها الأمم حربا عوانا، وتجعل الولدان شيبا، بيد أننا لا نعلم للإسلام مجمعا دينيا ولا رسلا ولا أحبارا يسيرون وراء الجيوش، ولا رهبنة بعد الفتح، فلم يكره أحدا عليه بالسيف ولا باللسان، بل دخل القلوب عن رضا واختيار، وهذه نتيجة لازمة لتأثيرات القرآن وأخذه بالألباب، وإذا حدث أن دان دين الإسلام قوم مشوا وراء منافعهم، فهم قلائل إلى جانب من أسلموا عن عقيدة صادقة وميل صحيح، قاله دي كاستري:
نعم، كان الملوك
8
من غير المسلمين إذا فتحوا مملكة أتبعوا جيشها الظافر بجيش من الدعاة إلى دينها، يلجون على الناس بيوتهم، ويغشون مجالسهم، ليحملوهم على دين الظافر، وبرهانهم الغلبة وحجتهم القوة، ولم يقع ذلك لفاتح من المسلمين، ولم يعهد في تاريخ فتوح الإسلام أن كان له دعاة معروفون لهم وظيفة ممتازة، يأخذون على أنفسهم العمل في نشره، ويقفون مسعاهم على بث عقائده بين غير المسلمين، بل كان المسلمون يكتفون بمخالطة من عداهم، ومحاسنتهم في المعاملة، وشهد العالم بأسره أن الإسلام كان يعد مجاملة المغلوبين فضلا وإحسانا، عندما كان يعدها الأوروبيون ضعة وضعفا.
رفع الإسلام ما ثقل من الإتاوات، ورد الأموال المسلوبة إلى أربابها، وانتزع الحقوق من مغتصبيها، ووضع المساواة في الحق عند التقاضي بين المسلم وغير المسلم. بلغ أمر المسلمين فيما بعد أن لا يقبل إسلام من داخل فيه إلا بين يدي قاض شرعي بإقرار من المسلم الجديد أنه أسلم بلا إكراه ولا رغبة في دنيا ... عرف خلفاء المسلمين وملوكهم في كل زمان ما لبعض أهل الكتاب بل وغيرهم من المهارة في كثير من الأعمال، فاستخدموهم وصعدوا بهم إلى أعلى المناصب، حتى كان منهم من تولى قيادة الجيش في إسبانيا، اشتهرت حرية الأديان حتى هجر اليهود أوروبا فرارا منها بدينهم إلى بلاد الأندلس وغيرها.
هذا ما كان من أمر المسلمين في معاملتهم لمن أظلوهم بسيوفهم، لم يفعلوا شيئا سوى أنهم حملوا إلى أولئك الأقوام كتاب الله وشريعته، وألقوا ذلك بين أيديهم وتركوا الخيار لهم في القبول وعدمه، ولم يقوموا بينهم
9
بدعوة، ولم يستعملوا لإكراههم عليه شيئا من القوة، وما كان من الجزية لم يكن مما يثقل أداؤه على من ضربت عليه، فما الذي أقبل بأهل الأديان المختلفة على الإسلام وأقنعهم أنه الحق دون ما كان لديهم، حتى دخلوا فيه أفواجا، وبذلوا في خدمته ما لم يبذل له العرب أنفسهم. ا.ه.
معاملة اليهود والنصارى والعناية بالنصارى خاصة
مثال آخر من هذه المسامحة، كان بين المغانم التي غنمها المسلمون في وقعة خيبر صحائف متعددة من التوراة، فلما جاء اليهود يطلبونها أمر النبي بتسليمها لهم، فأخذ اليهود
10
يشيرون إلى الرسول بالبنان ويحفظون له هذه اليد؛ «لأنه لم يتعرض لصحفهم المقدسة، ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70ق.م؛ إذ حرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، وما فعله المتعصبون من النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس، وقد أحرقوا أيضا صحف التوراة، هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام.»
ولو لم يشتط اليهود في الحجاز بالنيل من المسلمين، لما طالت إليهم يد مسلم بأذى، ولكان حظهم من ذمة العرب حظ سكان نجران من نصارى اليمن؛ فقد صالحهم الرسول سنة عشر صلحا على الفيء وعلى أن يتقاسموا العشر ونصف العشر، وجاء في كتاب الصلح «ولا يفتن أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته.» واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا فعاشوا بسلام ما حافظوا على العهد، فلما استخلف عمر بن الخطاب أصابوا الربا فأجلاهم، واشترى منهم أرضهم ووصى بهم أهل الشام والعراق، ليوسعوهم من حرث الأرض، وما اعتملوا من شيء فهو لهم مكان أرضهم باليمن، ويقول المؤرخون: إن أهل نجران كانوا قد بلغوا أربعين ألفا فتحاسدوا بينهم، فأتوا عمر بن الخطاب فقالوا: أجلنا فاغتنمها، فأجلاهم فندموا بعد ذلك. نعم، إن عمر
11
لم يرهب فارس والروم بفرش الديباج، وبسط الحرير، وكئوس الجواهر، والخيول المسومة، والبيوت الشاهقة، والأقواس المذهبة، إنما أرهبهم بالعدل المحض، وأفخم شوس رجالهم بالحكمة البالغة، ألا وهي شريعة سيد الحكماء، ويقول أبو عبيد في كتاب الأموال: إن الرسول قال: لأخرجن اليهود والنصارى عن جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما، بيد أن نصارى نجران رأوا كل رعاية؛ لأنهم راعوا العهد في الجملة ولم يعبثوا بأمر الأمة القائمة، وكانوا أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب، وفي التنزيل
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون .
جزاء ثقة ثقة مثلها، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وأعظم بثقة صاحب الشريعة بأناس كانوا بالأمس يقاتلونه كأبي سفيان وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد حتى إذا أسلموا جب الإسلام ما قبله، ونسيت الأحقاد والطوائل، ولم يلبثوا أن غدوا أصحاب الشأن في السلطان، يرجع إلى آرائهم في المهمات، وتوسد إليهم الأعمال العظام، وكيف لا يجيء من مثل هؤلاء الرجال خيرة الخلفاء والقواد والأمراء، وقد أولى الخلفاء ثقتهم لمن دخلوا من غير العرب في طاعة خليفة العرب، وإن ظلوا على تمسكهم بدينهم القديم، وبدأ معاوية بن أبي سفيان فعهد إلى بعض نصارى الشام بإدارة أمواله وديوانه، وكان لعمر بن الخطاب عبد نصراني اسمه آسك فاقترح عليه أن يسلم حتى يستعين به على بعض أمور المسلمين، قائلا: إنه لا ينبغي أن نستعين على أمورهم من ليس منهم، فلما أبى أعتقه وقال له: اذهب حيث شئت.
ولطالما اعتمد الخلفاء والأمراء منذ القرن الثاني على عمال لهم من الصابئة والنصارى واليهود، وتولى كثير من النصارى قيادة جيوش المسلمين في بغداد والأندلس. قال علي بن عيسى
12
من وزراء العباسيين لأبي الحسن بن الفرات الوزير: ما اتقيت الله في تقليدك جيوش المسلمين رجلا نصرانيا، وجعلت أنصار الدين وحماة البيضة يقبلون يده ويمتثلون أمره، فقال له: ما هذا شيء ابتدأته ولا ابتدعته، وقد كان الناصر لدين الله
13
قلد الجيش إسرائيل النصراني كاتبه، وقلد المعتضد بالله مالك بن الوليد النصراني كاتب بدر ذلك، فقال علي بن عيسى: ما فعلا صوابا، فقال: حسبي الأسوة بهما وإن أخطأا، على زعمك. هذا، وقد رسم ابن الفرات في وزارته الثانية أن يدعى كل يوم جماعة من فضلاء القوم إلى طعامه، ويقعدوا جانبه وبين يديه، بينهم أبو بشر عبد الله بن الفرخان النصراني، وأبو منصور عبد الله بن جبير النصراني، وأبو عمرو سعيد بن الفرخان النصراني، قال : ويأت
14
من علماء المشرقيات. ولقد أصدر الخليفة أمره عام 975 / 365ه بوجوب المساواة بين النصارى والمسلمين، وهي ظاهرة من ظواهر التسامح لم تستطع أوروبا أن تعمل بها إلا بعد عدة قرون.
و«السيد» المشهور في تاريخ إسبانيا كان نصرانيا خدم الخوالف في الأندلس، وكان هذا شأن مئات مثله في حكومات الأندلسيين والعباسيين يستخدمون فيخلصون، ولا من ينكر عليهم، ولا على من يقربهم، ومثل هذه الثقة يدرك العاقلون مقدارها فيبادلونها بثقة مثلها.
أليس هذا غريبا في دولة كان للدين فيها المحل الأول، أليس من الغريب أن يجعل العرب من أبناء ذمتهم أصحاب الأديان السماوية موضع ثقتهم، ثم إنهم ما ارتكبوا مع الهندوس وغيرهم من وثني الهند وعبدة النيران فيها عسفا ولا خسفا، ولما فتحوا بنارس مدينة الهنود المقدسة، وكان سواد أهلها من البراهمة، أحسنوا معاملتهم وراعوا شعائرهم، ولا بدع أن يمتد سلطان المسلمين بسياستهم الرشيدة من نهر التاج في إسبانيا والبرتقال إلى نهر الكنج نهر الهند الأعظم، ولا عجب أن رأينا الوفاق على أتم حالاته بين الحاكم والمحكوم، وبين الأديان المختلفة، وبين الأقلية والأكثرية. وعجيب أن هذه الأقلية ما احتاجت إلى من يحميها ويرعى مصالحها، بل كان راعيها وراعي غيرها سلطان العرب العادل، وما شوهد مع هذا أن غدا وطن الغالب وطنا للمغلوب؛ لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وما كان للفرس في الشرق ولا للروم في الغرب دولة قادرة كالعرب يفزعون إليها لتحميهم، ويكونون في ظلها أسعد مما هم في دولة العرب.
أثر علوم العرب في الغرب
المنصفون والشعوبيون في تقدير الحضارة العربية
في كتاب الغربيين أناس يحاولون إلى اليوم أن يقللوا من خدمة العرب للحضارة؛ فمنهم من يزعم أن العرب نقلوا عن القدماء وحرفوا ما نقلوا، ومنهم من يدعي بصورة مجملة أن هذه المدنية التي أبدعها العرب لا تستحق هذه العناية، وأن اليونان والرومان هم أساتذة الغربيين وحدهم، والعرب لا فضل لهم عليهم في شيء. ومنهم من يحاول أن يصغر ما وسعته المماحكة من تأثيرات مدنية العرب، فيقول: إنهم أتقنوا أصنافا
1
من العلم لا تحتاج إلى تفكير كالتاريخ والجغرافيا، وأنهم سقطوا في الكتب السريانية على مواد وافرة فاقتبسوها، دون أن يكون لهم في باب النقد كبير أمر، مدعين أن العربي عاجز عن استخراج شيء من عنده، وأنه نقل واحتذى وقلد وغير الصور، وأنه لم يعرف الشعر القصصي ولا الشعر التمثيلي؛ لأنهما يتطلبان اختراعا لا وجود له عند العرب، وأن الإسلام الذي هو عصارة العقل العربي قد فلج الأفكار.
هذه بعض منازع الشعوبيين خصوم العرب من الإفرنج، الجاهلين أقدارهم، العاملين على الحط من مدنيتهم، فاستمعوا لما يقوله المنصفون، فقد قال درابر:
2 «من موجب الأسف أن الأدب الأوربي حاول أن ينسينا واجباتنا العلمية نحو المسلمين؛ فقد حان الوقت الذي ينبغي لنا أن نعرفهم. إن قلة الإنصاف المبنية على الأحقاد الدينية، وعلى العنجهية القومية، لا تدوم أبد الدهر.» وفي التاريخ العام:
3 «إذا وجب أن يذكر لكل واحد قسطه من العمل، لا يسع المنصف أن ينكر أن قسط العرب منه كان أعظم من قسط غيرهم، فلم يكونوا واسطة نقلت إلى الشعوب الجاهلة في إفريقية وآسيا وأوروبا اللاتينية معارف الشرق الأدنى والأقصى وصنائعه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة التي كانوا يلتقطونها من كل مكان، ومن مجموع هذه المواد المختلفة التي صبت فتمازجت تمازجا متجانسا، أبدعوا مدنية حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم، وهي ذات وحدة خاصة وصفات فائقة.»
هذا مثال من أقوال بعض المنصفين في المدنية العربية، وهناك فئات غير قليلة تتابعهم على آرائهم، أما ذاك الشعوبي فيحاول أن لا يجعل للعرب مزية لاشتغالهم بالتاريخ والجغرافيا؛ لأنهما علمان لا يحتاجان إلى تفكير بزعمه السخيف، وقبله أعجب كثير من علماء المشرقيات الذين تفهموا هذه الحضارة من كتبها، وأكبروا عمل المقدسي وابن حوقل وياقوت والمسعودي والطبري وابن الأثير والإدريسي وابن خرداذبة والبلاذري واليعقوبي والخوارزمي وابن الفقيه وابن رسته وابن فضلان وقدامة والبلخي والبيروني والبكري وشيخ الربوة وأبي الفداء وابن جبير وابن سعيد وابن سعد وابن فضل الله وابن أبي أصيبعة وابن القفطي وابن خلكان والصفدي وابن الخطيب وابن بسام وابن عساكر وابن طباطبا وابن بشكوال إلى عشرات غيرهم كتبوا في هذين العلمين وكتبهم موجودة مطبوعة لا تحتاج إلا لمن يقرؤها، واستفاد منها الغربيون فوائد جلى ونوهوا بها في كل فرصة،
4
وما نظن أمم أوروبا كلها أخرجت في فن التاريخ حتى اليوم كثيرا من عيار ابن خلدون واضع فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
يقول جوتيه: إن الشريف الإدريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافيا الذي علم أوروبا هذا العلم لا بطلميوس، ودام معلما لها مدة ثلاثة قرون، ولم يكن لأوروبا مصور للعالم إلا ما رسمه الإدريسي، وهو خلاصة علوم العرب في هذا الفن، ولم يقع الإدريسي في الأغلاط التي وقع فيها بطلميوس في هذا الباب، قال: من دار حول إفريقية؟ فاسكودي جاما، ومن كشف أميركا؟ خريستوف كولمبس، ومن السهل أن يدرك أن هذين الكشفين اللذين فاقا جميع ما تقدمهما قد تما على أيدي بحارة من العرب، وكان تحقيقهما متعذرا بدون ارتقاء علم الجغرافيا عند العرب، وتم هذان الكشفان العظيمان بعقول العرب وموادهم وأشخاصهم تحت إمرة النصارى، إلى آخر ما قال.
الفنون التي اهتمت العرب بها
أما الشعر القصصي والتمثيلي فلم يزاولهما العرب؛ لأنهم أصحاب بديهة وارتجال،
5
وقد شغلوا بأنفسهم عن النظر فيما عداهم، وهم أشد الناس اختصارا للقول، والشعر القصصي يحتاج إلى التطويل والتحليل، وحرمتهم طبيعة أرضهم وبساطة دينهم وضيق خيالهم واعتقادهم بوحدانية إلههم كثرة الأساطير، وهي من أغزر مواد الشعر القصصي، فزخرت بحور الشعر العربي بالفخر والحماسة والمدح والهجاء والرثاء والعتاب والغزل والوصف والاعتذار والحكمة، وخلا مع اتساعه وتشعب أغراضه من الملاحم
6
المطولة التي تعلن المفاخر القومية، وتشيد بذكر الأبطال والفروسية كالإلياذة لليونان، والإنبياد للرومان، ومهابهاراتة للهنود، والشاهنامة للفرس.
وإذا عير العرب بفقر خيالهم، فقد اشتغلوا بعلوم أنفع لهم ولمجتمعهم من الشعر القصصي والتمثيلي، اشتغلوا بعلم الفلك حتى قال دلامبر في تاريخ هذا العلم: إننا إذا أحصينا راصدين أو ثلاثة من الروم رحنا نعد كثيرين من العرب في هذا الفن، مما دل على بعد غورهم في علم الأفلاك. وقال بيكوردين: نشأت مكانة علم الفلك عند العرب من توسع الرياضيين منهم في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض، بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القطب ودور كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدره بطلميوس ب 12 درجة، فأرجعوه إلى 54 أولا ثم إلى 42 أي إلى الصحيح من مقداره تقريبا، وجمع المأمون بعض حكماء عصره على صنعة الصورة التي نسبت إليه، ودعيت الصورة المأمونية، صوروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي أحسن مما تقدمها من جغرافية بطلميوس وجغرافية مارينوس، وضع له علماء رسم الأرض - وكانوا سبعين رجلا من فلاسفة العراق - كتابا في الجغرافية أعان عمال الدولة على معرفة البلاد والأمم التي أظلتها الراية العباسية، هذا إلى عنايته بالفلك، وفلكيه الفزاري أول من استعمل الأسطرلاب من العرب. وأقاموا المراصد الفلكية في بغداد والرقة ودمشق والقاهرة وسمرقند وقرطبة وفاس، ونظروا في المجسطي لبطلميوس في الفلك وعملوا جداول فلكية مدققة.
اكتشف العرب منابع النيل قبل أن يتصدى الإفرنج لها،
7
وقام في أذهانهم أن في الأرض أقطارا لم تعرف، حتى قال أحد عارفيهم قبل كولمبس بقرن ونصف: «لا أمنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الأرض من جهتنا منكشفا من الجهة الأخرى، وإذا لم أمنع أن يكون منكشفا من تلك الجهة لا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما عندنا أو من أنواع وأجناس أخرى.» وسبقت العرب
8
إلى اختراع طريقة الكتابة بالحروف البارزة الخاصة بالعميان، اخترعها علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر المشهور بزين الدين الآمدي 712ه/1312م، وكان قد فقد بصره في أول عمره، فكان كلما اشترى كتابا لخزانة كتبه لف ورقة على شكل حرف من الحروف، ولصقها في الكتاب، وكانت هذه الحروف هي التي يستعين بها على معرفة ثمن الكتاب، وكان العميان يؤلفون، ومنهم ابن سيده المرسي صاحب المخصص والمحكم، ومثله عشرات في الأمة على ما ذكر ذلك الصفدي،
9
ومنهم من كان يطب على القارورة فيصفون له داء المريض فيصف له الدواء، مثل ابن الحناط الكفيف الأندلسي.
10
وسبقت العرب الأوروبيين إلى الطيران، وقد حاوله عباس بن فرناس حكيم الأندلس، وهو أول من استنبط صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك الموسيقى ووضع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف بها الأوقات على غير مثال، ومثل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها تمثيلا يخيل للناظر أنه حقيقة، وكادوا يعرفون في الأندلس الجراثيم، وكانت وقايتهم من الأمراض تكاد تشبه وقاية أهل العصور الحديثة، على ما ذكر ذلك ابن خاتمة في رسالته في الوباء،
11
وسبقوا إلى معرفة مرض النوم وسموه النوام وشرحوا أعراضه، وسبق العرب إلى معرفة الطباعة، فألف أبو بكر القدسي الأندلسي كتابا في الخواص وصنعة الأمدة وآلة الطبع غريب في معناه،
12
وكان عبد الرحمن بن بدر من وزراء الناصر ومن أهل المائة الرابعة «ينفرد بالولايات فتكتب السجلات في داره ثم يبعثها للطبع فتطبع وتخرج إليه فتبعث في العمال وينفذون على يديه.» أي إن الأندلسيين عرفوا الطبع لا بالحروف قبل مخترعه المشهور جوتنبرغ الألماني بأربعمائة سنة، ولو اطرد سير العرب في الطباعة لأتقنوها، ولكان فضل هذه المدنية على العالم أضعافا مضاعفة، ولما فقدت على الأقل معظم الأسفار التي خطتها أيدي العرب في العلوم المختلفة التي كانت تضمها خزائن الأندلس ودور الحكمة في بغداد.
قال جوتيه: «وللعرب في باب الاختراعات شيء لا بأس به بالنسبة لعصورهم، وقد وجد في كتاب عربي قديم لم ينقل إلى اللغات الأوربية، أن العرب عرفوا طريقة عمل الجليد الصناعي ولم تعرف أوروبا سر هذه الصناعة إلا في النصف الأول من القرن السادس عشر، وأدخلوا على أوروبا الورق المعمول من القطن والورق الرخيص الثمن، وكان الناس من قبل يكتبون على البردي وهو غال جدا، وكانت معامل شاطبة في إسبانيا تصدر بضاعة الورق إلى أوروبا الغربية، بينا كانت أوروبا الشرقية تبتاع ورقها من بلاد الشرق الأدنى مباشرة، على ما يشهد لذلك اسم الورق الدمشقي «شارتا داما سينا». وصنع الورق
13
من الحرير في سنة 650م في سمرقند وبخارى، ثم استبدل يوسف بن عمرو سنة 706م الحرير بالقطن ومنه الورق الدمشقي الذي ذكره مؤرخو اليونان.»
وقال جوتيه أيضا: إن العرب علمونا صنع الكتاب وصنع البارود وعمل إبرة السفينة، فعلينا أن نفكر ماذا كانت نهضتنا لو لم يكن من ورائها هذه المخلفات التي وصلتنا من المدنية العربية، عرفت العرب آلة الظل والمرايا المحرقة بالدوائر والمرايا المحرقة بالمقطوع، وقطعوا شوطا كبيرا في الميكانيكيات، ولما بعث الرشيد العباسي إلى شارلمان الساعة الدقاقة الكبيرة تعجب منها أهل ديوانه ولم يستطيعوا أن يعرفوا كيفية تركيب آلاتها على ما حقق ذلك سيديليو، ومع ذلك لم يكن في عصر العباسيين أهم من مهنة الفلاحة، أظهر العرب بمهارتهم مزايا فواكه الفرس وأزهار إقليم مازندران؛ وقد أغنوا
14
العلم ولا سيما علم النبات بمسائل جديدة كثيرة، ومعظم المستحضرات والأدوية المستعملة كالأشربة والدهون والمراهم والغول (الألكحول) واللعوق والسنامكي والراوند والخيار شنبر وجوز القيء هم الذين كشفوها، واستلزمت أصول تداويهم أن يعمدوا إلى استعمال الفتائل وإلى الحجامة في أمراض الصرع، واستعمال الماء البارد في الحمى الدائمة، واتخذ جراحوهم تفتيت حصاة المثانة وقدح العين واستخرجوا منها الجريم العدسي الشفاف ويظهر أنهم عرفوا البنج.
وفي التاريخ العام، وكل هذا المجد في الطب العربي إن لم يبد لنا بأنهم كانوا فيه أرباب نظريات دقيقة، فهم على الأقل أرباب ملاحظة عاقلة، وأرباب تجارب حاذقة، وأطباء عمل على غاية من المهارة. وكان الرازي وابن جابر أول من وضع أساس الكيمياء الحديثة، وحاولا كشف الإكسير الذي يهب الحياة ويعيد الشباب، وكانا يذهبان إلى معرفة حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن إلى الذهب، ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية سدى؛ لأنهم عرفوا بها التقطير والتصعيد والتجميد والحل، وكشفوا الغول من المواد السكرية والنشوية الخاثرة.
ومضى دهر طويل كان فيه شعوب المملكة العربية أول العارفين بالزراعة، وأحسن العمال وأجرأ التجار في العالم القديم، وأصبحت الزراعة التي أخذوها عن أساليب بابل والشام ومصر علما حقيقيا للعرب ، أخذوا نظرياتها من الكتب، ثم وسعوها بتدقيقاتهم وتجاربهم، وكانوا يطبقونها بمهارة ليس بعدها مهارة، وكان رجال الطبقة الأولى منهم لا يستنكفون عن العمل بأيديهم في زراعة الأرض، بينا كان غيرهم يحتقرها ويعدها عملا مهينا.
ونهض العرب في فارس والأندلس وصقلية وإفريقية لاستثمار المعادن يستخرجونها من مناجمها، ويحسنون تطريقها والانتفاع بها، واستخرج الأندلسيون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، واستثمر العرب المناجم التي صارت ملكا لهم في بلادهم في الشرق والغرب، واستخرجوا الحديد في خراسان والرصاص في كرمان والقار والنفط وطينة الأواني الصينية ورخام طوريس والملح الأندراني والكبريت.
ما كشفه العرب واخترعوه وأقوال أساطين علماء الغرب
قال درابر: ومن عادة العرب أن يراقبوا ويمتحنوا، وقد حسبوا الهندسة والعلوم الرياضية وسائط للقياس، ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا فيما كتبوه في الميكانيكيات والسائلات والبصريات على مجرد النظر، بل اعتمدوا على المراقبة والامتحان، بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء، وقادهم لاختراع أدوات التصفية والتبخير ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استعمال الربع والاصطرلاب في علم الهيئة، واستخدام الموازنة في الكيمياء، مما خصوا به دون سواهم، وهيأ لهم صنع جداول للجاذبية النوعية وعلم الهيئة كالتي اصطنعت في بغداد والأندلس وسمرقند، مما فتح لهم باب تحسين عظيم في قضايا الهندسة وحساب المثلثات واختراع الجبر واستعمال الأرقام في الحساب، وكان هذا كله من نتائج استعمالهم طريقة الاستدلال والامتحان، ولم يقرروا في علم الهيئة لوائح فقط، بل رسموا خرائط النجوم المنظورة في فلكهم أيضا، مطلقين على ذوات القدر الأعظم أسماء عربية لا تزال تتردد على كراتنا الفلكية، وقد عرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة وقرروا طول السنة، وأدركوا الاعتدالين، ولاحظوا أمورا بعثت نورا باهرا على نظام العالم، واختص علماء الفلك منهم باختراع الآلات الفلكية لقياس الوقت بالساعات المتنوعة، وكانوا السابقين إلى استعمال الساعة الرقاصة لذلك، وهم الذين أنشأوا في العلوم العملية علم الكيمياء، وكشفوا بعض أجزائها المهمة كالحامض الكبريتيك وحامض الفضة (النتريك) والغول ، وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبية، فكانوا أول من نشر تركيب الأدوية والمستحضرات المعدنية .
وهم قرروا في الميكانيكيات نواميس سقوط الأجسام، وكان لهم رأي جلي من جهة طبيعة الجاذبية، ورأي سديد في القوات الميكانيكية، واصطنعوا في نقل الموائع وموازنتها الجداول الأولى للجاذبية النوعية، وكتبوا مقالات في عوم الأجسام وغرقها في الماء، وأصلحوا في علم البصريات خطأ اليونان بكون الشعاع يصدر من العين ويمس المرئي فيظهره، فقالوا: إن الشعاع يمر من المرئي للعين. وفهموا مساس انعكاس النور أو انكساره، وكشفوا عن طريق الشعاع المنحني في الهواء، وبرهنوا على أنا نرى الشمس والقمر قبل الشروق وبعد الغروب. قال: والذي يدهش كثيرا أن نتصور أشياء نفاخر بأنها من مواليد وقتنا، ثم لا نلبث أن نراهم سبقونا إليها، فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم، وحقا إنهم وصلوا به إلى الأشياء الآلية وغير الآلية، فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية. ا.ه.
وقال سنيوبوس:
15
جرى أمراء العرب على قاعدة إسقاء الأرضين بفتح الترع، فحفروا الآبار، وجازوا بالمال الكثير من عثروا على ينابيع جديدة، ووضعوا المصطلحات لتوزيع المياه بين الجيران، ونقلوا إلى إسبانيا أسلوب النواعير لتمتح المياه، والسواقي التي توزعها، وإن سهل بلنسية الذي جاء كأنه حديقة واحدة، هو من بقايا عمل العرب وعنايتهم بالسقيا، ونظم العرب ديوان المياه الذي كان يرجع إليه في مسائل الري. ا.ه. وقال ويليام ويلكوكس الذي كان من أعاظم مهندسي الري في هذا العصر: إن عمل الحلفاء في ري العراق في الأيام الماضية يشبه أعمال الري في مصر والولايات المتحدة الأميركية وأوستراليا في هذا العصر. ووصف المقدسي ميناء عكا التي بناها جده أبو بكر البناء المهندس لابن طولون والطرق التي استعملها في هندستها حتى تدخل إليها المراكب آمنة، فعدت هذه الميناء من العجائب. وذكر سنيوبوس أيضا أن العرب استعملوا جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم وحملوا كثيرا من النباتات إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوروبا فأحسنوا تربيتها، حتى لتظنها متوطنة متبلدة، وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمشمس والبرتقال والكباد والنخل والهليون والبطيخ الأصفر والعنب والعطر والورد الأزرق والأصفر والياسمين، بل والقطن والقصب.
وظفر العرب في الشام وفارس بصناعات قديمة نقلت إلى جميع البلاد الإسلامية فتكملت، ومنها نشأت صناعة أوروبا الحديثة. ذكر سنيوبوس أنواع هذه الصنائع التي نقلوها من الشرق إلى الغرب ولا سيما إلى الأندلس، قال: عاشت الشعوب في بلاد العرب الواسعة كما كانت الحال على عهد الرومان من أقصى المملكة إلى أقصاها بسلام وراحة، يتقايضون حاصلات أرضهم ومصنوعات معاملهم، ويرحلون إلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها إلى الشعوب البربرية في أوروبا، ينقلونها في البر والبحر. وذكر ريسون
16
أن العرب أحرزوا فضل السبق دون غيرهم في مضمار التجارة، ورقوا الصناعة البحرية، ووضعوا قوانين حقوق الملاحة، واقتبسوا استعمال إبرة السفينة من الصينيين، وضبطوا التجارة بفن مسك الدفاتر أي ضبط، وشرحوا الكفالة وأنشأوا المصارف للفقراء، ووضعوا السفاتج (الكمبيالات) المألوفة وردود التمسك (البروتستو)، وبعثوا الحركة في مصارف الغرب الحديثة. قال: وكنت تراهم حين نزلوا يمهدون السبل، ويعمرون المرافئ والفرض، ويصلحون الفنادق والرباطات، ويرتبون سير القوافل، وكانت المدن الإسلامية أوساطا تجارية كبرى، وبعد أن ذكر ارتباط المدن الإسلامية وعدد نفوس العواصم منها وعظم حركتها، قال: وإن تعجب فاعجب للعرب كيف نبغ بينهم لأسفارهم المترامية أساتذة جغرافيون هذبوا في وقت قصير كتاب بطلميوس، وكشفوا بلادا أخرى بغير أقدامهم لم توطأ؛ ووسعوا المصورات للغربيين، وحببوا إليهم التنقل والترحال.
وقال سنيوبوس: وكتب علماء العرب أول كتاب في الجبر، ووصف علماء الجغرافيا منهم البلاد البعيدة التي كانت تختلف إليها القوافل، واستخرجوا من كتب الطب اليوناني الطب التجربي، وهو طب العقاقير والحبوب، وأهم ما غلب على العرب من العلوم علم الكيمياء. وقال ريسون: إن استبحار عمران العرب مع سرعة انتشار سلطتهم في المعمور هيأ لنا إدراك مكانة المدنية العربية، فكانت هذه الحضارة الباهرة في القرون الوسطى مزيجا من المدنية البيزنطية والفارسية، وقد تم هذا المزيج المدني بأمرين: عشق العرب للتجارة وغرامهم بالاستعمار، وأصبحوا لذكائهم الوقاد، ولما غرس فيهم من حب الاطلاع على كل شيء، يخوضون غمار العلوم الطبيعية والرياضية، فابتدعوا الكيمياء وبرعوا بها ، وطبقوا تلك العلوم على الزراعة والصناعة، ولهم المنة على جميع الأمم بأرقامهم العربية وباستنباطهم فن الجبر والمقابلة، وتهذيبهم الهندسة، وأعمالهم الجميلة الفلكية في أبحاث سمت الشمس، ومعادلة الليل والنهار، والبقع الشمسية، ولقد اصطنعوا الآلات العجيبة الفلكية كالاصطرلاب ونحوه، وكشف كيماويوهم وأطباؤهم عن خواص الغول والنشادر وحامض الأزوت والكبريت والمياه المعدنية، وأدخلوا في كثير من أدويتهم مواد من نبات بلادهم كالكافور والراوند والسنامكي، وهم أسرع الناس لتدوين أنسابهم وملاحمهم وأبطالهم ورواية أشعارهم، والكتابة في فلسفة التاريخ وعلوم الاجتماع، وتوصل العرب إلى إثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، ووضعوا هذه القاعدة أساسا للطريقة التي سموها الشكل المغني في حل المثلثات الكروية، وعرفوا حامض الكبريت استخرجوه من الزاج بواسطة التقطير، وعرفوا ماء الفضة والقلى، وطرق إذابة الذهب وملح النشادر وحجر الكي والسليماني، وكانوا يطبقون ما كشفوه على الطب والصناعة والحرب،
17
ويعرفون صنع الصواريخ أخذوا سرها من الروم، وعملوا البارود للمدافع، وربما كان ذلك قبل الصينيين، ولكن كان قبل الأوروبيين على التحقيق، فكانت جيوشهم تستعملها منذ القرن الثالث عشر، وقالوا بكروية الأرض منذ ابتداء نهضتهم. وعني العرب بصنع القاشاني وغيروا طرق صنعه وأشكاله، واشتهرت في القرون الوسطى الأواني الزجاجية والمصابيح العربية الملونة التي انتقلت من الشام إلى معامل البندقية ونسجت هذه على منوالها، وكذلك تعلم البنادقة صنع المرايا وكانت تصنع في الصور، ومن البندقية انتقلت إلى أوروبا، ونقل من الشام والعراق إلى الأندلس صنع السيوف الدمشقية والأقمشة، ومنها «الدمقس» نسبة إلى دمشق، «والموسلين» نسبة إلى الموصل وهو الشفوف، ثم عرفت هذه الأصناف في بلاد الغرب.
كان الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية تقرأ في أوروبا في كتب العرب، ولما كان العرب سادة البحر المتوسط في القرن السابع وما بعده أعطوا الطليان والفرنسيس الألفاظ البحرية، وكان الطب العربي أساس علم الطب عند الفرنسيس أخذوه مع كثير من الألفاظ العربية، والعرب هم الذين أدخلوا إلى مونبيليه منذ سبعمائة سنة، وإلى كثير من مدن فرنسا وإيطاليا، بضائع العلوم المختلفة، جاؤا بها من الأندلس ، ودرس بعض الغربيين العلوم المختلفة على علماء العرب. ومن كتب العرب العلمية في العلم الطبيعي والرياضي والفلك والكيمياء ما فقد أصله العربي وبقيت ترجمته اللاتينية، وجميع المادة الطبية التي أخذها الغربيون من العرب بقيت إلى القرن السابع عشر هي المعول عليها وحدها. قال سنيوبوس: ويتعذر الحكم في تحديد الطرق التي دخل منها إلى أوروبا اختراع من اختراعات الشرق، وفيما إذا كان انتهى إلينا من طريق الصليبيين في فلسطين، أو من طريق التجار الإيطاليين، أو جاءنا من عرب صقلية أو من المغاربة في إسبانيا، بيد أن الحساب يمكن تقديره بما نحن مدينون به للعرب، وإن كان هذا الحساب مما يطول شرحه، فقد أتتنا من العرب: أولا الحنطة والهليون والقنب والكتان والتوت والزعفران والأرز والنخيل والليمون والبرتقال والبن والقطن وقصب السكر. ثانيا معظم صناعاتنا في التزين كالأقمشة الدمشقية القطنية والسختيان وأقمشة الحرير المزركشة بالفضة والذهب والشاش الموصلي والشفوف والحبر والمخمل والورق والسكر وعمل الحلويات والمشروبات. ثالثا مبادئ كثير من علومنا كالجبر وحساب المثلثات والكيمياء والأرقام العربية التي اقتبسها العرب من الهنود فسهل بها الحساب مهما كان صعبا، ولقد جمعت العرب وقربت جميع الاختراعات والمعارف المأثورة عن العالم القديم في الشرق (كيونان وفارس والهند والصين)، وهم الذين نقلوها إلينا ودخل كثير من الألفاظ في لغاتنا، وهي شاهدة مما نقلناه عنهم، وبواسطة العرب دخل العالم الغربي الذي كان بربريا في غمار المدنية، فإذا كان لأفكارنا وصناعاتنا ارتباط بالقديم، فإن جماع الاختراعات التي تجعل الحياة سهلة لطيفة، قد جاءتنا من العرب، وأخذ الأوروبيون من العرب صنع الجوخ في جملة ما أخذوا من الصنائع.
وكان أهل بيزا الإيطاليون ينزلون مدينة بجاية في الجزائر، فتعلموا منها صنع الشمع، ومنها نقلوه إلا بلادهم وإلى أوروبا. وقال سنيوبوس أيضا: وكان عبد الرحمن الثالث الأموي على اتصال دائم بأمراء إسبانيا وفرنسا وألمانيا وممالك الصقالبة، وكان القصر الملوكي في تولوزة من بلاد فرنسا صورة من صور قصور الخلافة في قرطبة، يتبارى فيه الشعراء وتقوم فيه للآداب سوق، ولما انتقل أحد أمرائهم ليتولى عرش فرنسا سنة 999 أدخل ما أخذ عن العرب تبدلا حقيقيا في باريز من حيث الأخلاق واللغة، وكان ملوك فرنسا من أهل السلالة الثالثة يقلدون العرب في كل شيء، وتعلم الفرنسيس أشياء كثيرة في حملة سان لوي الصليبية التي بقيت عدة سنين في الشرق، وفي الحروب الصليبية تعلم الفرنسيس صنع الورق من دمشق بواسطة أسيرين منهم قضيا زمنا في هذه المدينة، فلما عادا إلى بلادهما نشرا فيها هذه الصناعة المفيدة، وكان لكثير من ملوك أوروبا حرس من العرب إلى عهد قريب، ولا سيما إيطاليا وفرنسا. وذكر سيديليو أن بعض الإفرنج زعموا أن العرب لم يعملوا في تقدم الصنائع شيئا مع أنهم برعوا في جميع الفنون الصناعية واشتهروا عند سائر الأمم بأنهم دباغون سباكون جلاءون للأسلحة نساجون أصناف الأقمشة، ماهرون في الأشغال التي تصنع بالمنقاش والمقراض، ويؤيد علو كعبهم في هذه الفنون سيوفهم الباترة، ودروعهم الخفيفة الصلبة، وبسطهم ذات الوبر، ومنسوجاتهم من الصوف والحرير والكتان، وما كشمير هذه الأيام إلا نموذجات دالة على تلك الصناعة. ويقول رينو في كتابه الغارة على فرنسا: إن العرب لما آغاروا من الأندلس على جنوبي فرنسا وافتتحوا بقيادة السمح الخولاني وعنبسة الكلبي والحر الثقفي مدائن أربونة وقرقشونة وأفنيون وليون كانوا مجهزين بأسلحة لم يكن للإفرنج مثلها.
وذكر لبون: «أن خزائن الكتب والمخابر والآلات هي مواد للتعليم والبحث اللازم، ولكنها ليست إلا أدوات، وقيمتها مناط الطريقة التي تستعمل لها، وقد يتلقف المرء علم غيره وهو عاجز عن أن يفكر بنفسه ويوجد شيئا، ويكون تلميذا دون أن يوفق إلى أن يصبح أستاذا، أما العرب فبعد أن كانوا تلاميذ عاديين، أساتذتهم تآليف اليونان، أدركوا للحال أن التجربة والملاحظة تساويان أكثر من أحسن الكتب، هذه الحقيقة اليوم معروفة لا يعد العمل بها بدعا، ولم تكن كذلك في الدهر السالف، فقد ظل علماء القرون الوسطى يشتغلون ألف سنة قبل أن يدركوها، ينسب الناس إلى باكون قاعدة التجربة والملاحظة، وهما الأصل في أساس البحث العلمي الحديث، بيد أن الواجب أن يعترف اليوم أن هذه الطريقة كلها هي من مبتدعات العرب.» وقال بهذا الرأي جميع العلماء الذين درسوا كتبهم ولا سيما هومبولد، قال: إن العرب بلغوا في العلم العملي درجة لم يكن يعرفها أحد من القدماء. وقال سيديليو: وقد اشتهرت مدرسة بغداد في أول أمرها بفكرتها العلمية حقيقة، وكان لها السلطان الأكبر على أعمال العرب، فساروا من المعلوم إلى المجهول، واستنبطوا أسرار المحسوسات ليرجعوا الأسباب إلى مسبباتها، ولا يقبلوا إلا ما أثبتته التجربة، وهذه هي الأصول التي لقنها العلماء، ولقد كان العرب في القرن التاسع متمكنين من هذه الطريقة الخصيبة التي صارت بعد عند المحدثين أداة استعملوها للوصول إلى أجمل ما كشفوه، فكانت التجربة والملاحظة من أسلوب العرب، ودرس الكتب والاكتفاء بترديد رأي المعلم كانت طريقة أوروبا في القرون الوسطى، والفرق ظاهر بين الطريقتين، ولا تقدر طريقة العرب في العلم حق قدرها إلا بالبحث فيها.
ولقد اعتمد العرب على التجارب وسبقوا العالم، وظلوا على سبقهم دهرا طويلا، وعرفوا مكانة هذه الطريقة، وليس لليونان في الكيمياء ولا مجرب واحد، ويعد المجربون بالمئات عند العرب، وقد أورثت عادة التجربة أعمالهم العلمية هذا الوضوح والإبداع الذي لا ينتظر أبدا أنه يسقط عليها عند من لم يدرس الظاهرات إلا في الكتب، ولم يفتهم الإبداع إلا في علم استحال عليهم فيه الرجوع إلى التجارب وهو علم الفلسفة، والأساليب التجريبية التي كتب لهم فضل السبق فيها قادتهم بالضرورة إلى كشف أمور مهمة وفقوا إليها في ثلاثة أو أربعة قرون، لم يكتب مثله لليونان في زمن أطول من زمنهم بكثير، وهذه الذخيرة في العلم الماضي التي انتقلت إلى اليونان قبلهم ولم يستخرجوا منها كبير أمر منذ دهر طويل نقلها العرب برمتها مبدلة إلى أخلافهم. ولم يقف عمل العرب عند تثمير العلم بما أوجدوه بل نشروه بواسطة جامعاتهم وكتبهم، فالتأثير الذي أثروه من هذا النظر في أوروبا كان عظيما في الحقيقة، وكانوا خلال عدة قرون أساتيذ منفردين، عرفتهم الأمم النصرانية، وإليهم يرجع الفضل في معرفتنا المدنيتين اليونانية واللاتينية، وفي العهد الحديث فقط تجرد تعليم جامعاتنا من الاعتماد على تراجم كتب العرب، وكف عن الأخذ بواسطتهم.
تفنن العرب في الهندسة والتصوير
وللعرب في باب الهندسة الإبداع الذي أقرهم عليه كل عارف، ولم ينازعهم فيه منازع، ولم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف، واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين وجعل تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار، لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم هي قماش من أقمشة الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها كما قال أحد العارفين من الإفرنج. وعقد لبون فصلا في تأثير العرب في الصنائع ولا سيما في الهندسة في الغرب وقال: ربما ادعى بعضهم أن الهندسة الغوتية مأخوذة عن العرب، وهذا وهم فإننا إذا قابلنا بين كاتدرائية غوتية من القرن الثالث عشر والرابع عشر وبين مسجد من ذينك القرنين نجد اختلافا بينا بين الهندستين، ولما كانت الفنون تعبر عن حاجات عصر وعواطف أهله، اختلفت هندسة الغرب عن الهندسة العربية في الشرق، وقد أخذت أوروبا من العرب تفاصيل في الزينة ووجدت على بعض البيع في فرنسا صور حروف عربية منحوتة في الحجر وأكاليل على بعض الحصون تشبه الطراز العربي، وكثير من كنائس فرنسا تأثرت بالهندسة العربية ولا سيما في المدن التي كان لها علائق كثيرة مع الشرق. وقد جلب الصليبيون من الشرق أصول هندسة بيت المؤذن في المنارات والمشربيات والمعرقات والمراصد في الأبراج والزغاليل والأبراج الناتئة والأفاريز ذات الدرابزين، واستخدمت فرنسا كثيرا من مهندسي الأجانب، وكان فيهم العرب، حتى إن كنيسة «نوتردام دي باري» المشهورة في عاصمة فرنسا عمل فيها مهندسون من العرب. أما تأثير العرب في هندسة إسبانيا فظاهر ظهور الشمس والقمر، إلى أن قال: قد ينقرض شعب وتحرق كتبه، وتهدم مصانعه، ولكن التأثير الذي أثره يقاوم أكثر مما يقاوم القلز، وليس في طاقة القوة البشرية أن تأتي عليه، والقرون قد تفعل في القضاء عليه أكثر من ذلك.
وقال أيضا: إن من ألقى نظرة على المساجد والقصور وعلى غيرها من الآثار العربية من منقولها وغير منقولها يشهد أنها نسجت على غير مثال، وأن الإبداع فيها ظاهر محسوس، وإذا رجعنا إلى أوائل عهد المدنية العربية أيام كانت في أوجها نجد تقليد الصنائع الفارسية والرومية ظاهرا فيها، وكل شعب يقتبس عمن سبقه صنائعه، وهذا يصدق على كل الأمم، وكان الناس إلى عهد قريب يعتقدون أن الفنون اليونانية قامت على غير مثال، ثم أدى البحث إلى أن هذه الفنون أخذت عمن سلفها من الأشوريين والمصريين، فالعرب واليونان والرومان والفينيقيون واليهود وغيرهم أو جميع الأمم قد انتفعت من الماضي، وكل شعب أخذ عن غيره وزاد من عنده ما وسعته الزيادة؛ ولذا لا ينبغي أن يزعم الناس أن العرب لم يكن لهم فن فيه إبداع؛ لأنهم اقتبسوا الأصول الأولى من أعمالهم من الأمم التي تقدمتهم، ويعرف الإبداع الحقيقي في أمة من السرعة التي بها تحول المواد التي بين يديها فتجعلها وفق حاجاتها وتنشئ فنا جديدا، وما من شعب فاق العرب في هذا الباب فإن فكر الإيجاد عندهم قد تجلى في مصانعهم الأولى مثل مسجد قرطبة، ولم يلبثوا أن ألقوا في روع الفنانين الأجانب أنهم كانوا يعمدون إلى طرق جديدة فيها الحذق والمهارة بأكملهما، فقد كانت سواري المعابد القديمة التي بين أيدي العرب من القصر بحيث لا تتناسب مع عظمة الأبنية واتساعها، فقاموا هم ينشئون في أسفلها قواعد وغطوها بقناطر وضعت على غاية من الحذق، ولو كان الترك مكان العرب ما خطر لعقولهم الغليظة مثل هذا الفكر، وكان من أمر الشعوب التي خلفت العرب في البلاد التي خضعت لسلطانهم أن رأوا مصانع قديمة سبقت العرب، فما استطاعوا أن يدبروها تدبيرا جديدا، فظل التقليد باديا في أصولها وفروعها، أما في المصانع العربية كقصور إسبانيا وجوامع القاهرة، فإن المواد الأصلية قد استحالت إلى ترتيبات بلغ من جدتها أن يتعذر أن يقال : من أين جاءت.
قال: ومن ألقى نظرة على الأعمال الأدبية والفنية التي تمت على أيدي العرب ، يتجلى له أنهم حاولوا أبدا أن يزينوا الطبيعة، وطابعهم الذي يبدو في الفن العربي هو التخيل والبهاء والضياء والتزيد في الزينة والدقة، فالعرب عنصر شعر، وأي شاعر لا ينطوي على فنان، اغتنموا بحيث تم لهم تحقيق جميع هذه الأحلام فأولدوا هذه القصور البديعة التي تبدو للعيان كأنها تضاريس من الرخام المرصع بالذهب والأحجار الثمينة، وما من شعب حاز مثل هذه العجائب، وما من شعب سيدانيهم في حيازتها، ومن العبث أن تتطلب مضاهاتها من الدور الذي دخلت فيه الإنسانية اليوم، فأصبحت لا تعرف من الصنائع إلا المبتذلة والمقصود منها النفع فقط وهي شاحبة باردة.
وقال في مناسبة أخرى:
18
إن العرب لما أنشأوا في القرن السابع هذه المملكة الضخمة بفتحهم معظم بلاد العالم القديم اليوناني والروماني لم يلبث سلطانهم أن امتد من إسبانيا إلى أواسط آسيا مشاطئا أرض شمالي إفريقية بأسرها، رأوا أنفسهم أمام هندسة مقررة ثابتة وهي الهندسة اليونانية فاقتبسوها لأول أمرهم على علاتها لإقامة جوامعهم في إسبانيا ومصر والشام، ويدل المسجد الأقصى في القدس وجامع عمرو بن العاص في مصر وغير ذلك من المصانع على هذا الاحتذاء، ولم يطل هذا العهد كثيرا حتى شوهدت المصانع تختلف باختلاف القطر والعصر، وبلغ من عظم هذه التبدلات أنك لا ترى أدنى أثر للتشابه بين بناء قام أوائل الفتح مثل جامع عمرو في القاهرة 742م، وجامع قايتباي 1468م من آخر الدور العربي التركي.
وقال ميجون:
19
لا ننكر على العرب بأن لهم الحظ الأوفر من هذه المدنية وهم واضعو أسسها، وقد أفرغوا هذه العناصر المختلفة في قالب متجانس متناسب فأوجدوا منها مدنية مطبوعة بطابع عظمتهم وسلامة ذوقهم. ولم يمض قرن على فتوح العرب وبسط سلطانهم على الشرق وإفريقية الشمالية وإسبانيا، حتى تبدل النظام الاجتماعي في البلاد المغلوبة، وحل موضعها دين وإدارة وعادات وأخلاق جديدة، وهكذا يقال في صناعاتهم وفنونهم وكثير من احتياجاتهم، وإن توحيد تلك البلاد من بحر الظلمات إلى المحيط الهندي، وإخضاعها لسلطان واحد، ونظام شامل، والعناية بالجندية، وإقبال المسلمين على أداء فريضة الحج، كل ذلك سهل سبل التعارف بين المؤمنين، وجعل كل واحد منهم يحمل إلى بلاده ما استحسنه في البلدان الأخرى؛ ولذلك رأينا التأثيرات الشرقية في أقدم بناء إسلامي في الغرب كالجامع الكبير في قرطبة وجامع سيدي عقبة في القيروان، مغربية بطرز بنائها، مشرقية بزخارفها.
وعلى الجملة فإن خاصة الإفرنج استفادوا، بملابستهم العرب في صقلية والأندلس، الاطلاع على علوم العرب ومدنيتهم، واختلاط الإفرنج في الحروب الصليبية استفاد منه خاصتهم وعامتهم على السواء، وكان من جملة فوائد الحروب الصليبية
20
أن اقتبس الإفرنج عادات الشرقيين فاستعملوا الحمامات والألبسة المسترسلة الفضفاضة، ونظموا خيالة مسلحين على الطريقة الإسلامية، قال لبون: إن النضال الذي ناضله الصليبيون في حملاتهم الأولى كان نضال عالم لم يزل على توحشه مع مدنية من أرقى المدنيات التي حفظ التاريخ ذكراها.
قال لركيه في كتابه الفن والتاريخ: ورث العرب فيما ورثوا عن الأمم التي دخلت في حوزتهم الفنون والصنائع، وأخذوا يحذقونها ويبرعون فيها في مدارس المورثين؛ إذ لم يكن في استطاعتهم أن يرتجلوا فنا كما ارتجلوا لهم ملكا، ومع ذلك لم يمض زمن طويل حتى نبغ فيهم البناءون والحفارون والمصورون والنقاشون، دون أن يروا في شيء من ذلك مخالفة لنصوص كتابهم، أو معارضة لشريعة نبيهم، ولم يقفوا عند حد الحذق والبراعة بل تعدوه إلى التفنن والإبداع فنقحوا وصححوا وحذفوا وأضافوا، ثم اخترعوا وابتكروا، حتى طبعوا تلك الفنون بالطابع العربي، وصبغوها بالصبغة الإسلامية، حرصا على شخصيتهم أن تفنى، وعلى نبوغهم وعبقريتهم أن يذهبا، فأصبح الروح العربي بارزا واضحا يندمج فيه غيره، ولا يندمج في شيء، ولهذا خلقت العرب لها فنا يوافق ذوقها، ويسير مع طبعها، وسرعان ما انتشر في أرجاء تلك المملكة الواسعة انتشار الكهرباء. ا.ه.
قالوا: وقد خضعت الفنون الإسلامية لنواميس الطبيعة الإقليمية فاصطبغت في كل قطر بصبغته الخاصة، وكانت في عامة أحوالها من أندلسي ومغربي وصقلي ومصري وشامي وعراقي وفارسي وهندي ومغولي إسلامية أصلية كريمة نبيلة، تنطق بما للإسلام من إباء ونجدة وشهامة ونخوة إلخ.
هذا ما لقفه العرب وثقفوه، بل هذا مجمل ما اخترعوه وكشفوه، استفادوا منه وأفادوا أهل المدنية الحديثة، عملوا فيه وحدهم بعقولهم وتجاربهم، وتواضعوا على ما لم تشاركهم فيه أمة لا كما كان شأن العلم في عصره الحديث، كثرت فيه الأيدي العاملة حتى استحال في بعض ما اخترع وكشف أن يعزى إلى أمة بعينها، أبرزت العرب علمها العملي في زمن قصير، فظهر وبهر، وعم البدو والحضر، كل ذلك من دون دعوة ولا إعلان ولا تبجح ولا منة، نقلوه إلى الغرب حلالا طيبا، وما منوا على أهله، ولا سألوهم ثمن ما أعطوهم، واليوم طويت صحفهم العلمية، وأصبحت مغانيهم كأن لم تغن بالأمس، وقام الشعوبيون أعداؤهم يصغرون من شأنهم، ويبخسونهم أشياءهم، ويتناولونهم بالنقد والتنقيص، وما حقهم لو أنصفوا إلا الحمد والثناء.
أثر الشعر العربي والفنون الجميلة في الغرب
الموشحات الأندلسية وكلام شاعر الإسبان في أدب الأندلس
فعلت البيئة فعلها في عقول العرب لما نزلوا الشام والعراق وفارس، فلما انتقلوا إلى الأندلس جاء شعرهم خلابا بمعانيه وتصويره وتأثيره، كأنه نمط آخر من شعر المشارقة، احتفظ بجميع ضوابط الشعر وأصوله، وجاء شعرا صادرا من أعماق القلوب لا من أطراف الشفاه، والذي ساعد عرب الأندلس
1
على بلوغ شأو العظمة اتساع نطاق العلوم والفنون والفلاحة والصنائع عندهم، وقد ذاقوا كلهم لذة المعارف، وتنافسوا في ابتكار ما يمتازون به، والشعر يرفع أقدار نفوسهم، وكان على القضاة أن يتقنوا صنوفا من العلم حتى يحلوا من الناس محل التجلة والكرامة، وقد بلغوا درجة عليا في فنون البناء والموسيقى والقريض، وارتقى الأدب في أهل الأندلس حتى في النساء لشيوع التعليم في العامة والخاصة، وغلب الشعر على أصقاع بعينها مثل شلب ووادي آش
2
حتى قل من أهل شلب من لا يقول شعرا ولا يعاني أدبا رائعا، ولو مررت بالفلاح خلف فدانه وسألته عن الشعر قرض من ساعته ما اقترحت عليه، وأي معنى طلبته منه.
وللأندلسيين فضل السبق في اختراع الموشحات التي تهيج النفوس الخاملة، وتتشربها القلوب لسلاستها، كأن سماء الأندلس أوحت إلى قرائحهم ما لم توحه سماء الشرق. وتجارى غواة القريض في نظم هذه الموشحات وترديدها
3
إلى الغاية، واستظرفها الناس جملة، لسهولة تناولها وقرب طريقتها، وقد كثرت اختراعاتهم في المعاني، وألبسوا الشعر ديباجة مستملحة كسرت قليلا من قيوده، وألبسته حلة مدنية كالحلل العراقية والشامية أيام رواج الشعر في بعض أدوارهما الراقية.
من جملة ما حمله العرب إلى الغرب روحهم الشعري فأولع به من حذقوا اللغة العربية، ولم يكن الشعر قد ارتقى في بعض أمم الغرب، وكانت بعض الأمم إلى عهد قيام العرب لا تعرف لها شاعرا يرفع رأسها بشعره، اللهم إلا بعض آغان أشبه بشعر العامة منه بشعر الخاصة، فكان من اختلاط العرب بالإفرنج في الأندلس وصقلية وجزائر الباليار ما لقن تلك الأمم ولا سيما الأمم اللاتينية معنى الشعر، فنقلوا عن العرب ما أولعت به نفوسهم ولاءم طباعهم، وعالج العرب ما خلا الشعر جميع ضروب الأدب
4
كالملاحم والحب والفروسية، وأحرزت الوقائع العجيبة التي كانت تتخلل قصصهم موقعا عظيما في النفوس، فكانوا، وهم الفنانون المنقطع نظراؤهم، يزينون كل ما يمسونه بتصوراتهم الباهرة. واخترعوا في إسبانيا
5
قصص الفروسية، ومن عادة العرب أن يجتمعوا كل مساء تحت خيامهم، يستمعون إلى من يدهشهم بقصصه، وكانت هذه القصص في غرناطة يتبعها رقص وغناء.
كانت القصائد التاريخية والمواليا الإسبانية محتذاة أو مترجمة عن العربية تذكر فيها أعياد الأيام، وألعاب الخاتم، وصراع الثيران، ورقص الفرسان، ولم يبتكر الإسبانيون شيئا في هذا المعنى قبل القرن الخامس عشر، وهذا الظرف هو الذي جعل لعرب إسبانيا شهرة في كل أوروبا. وقد قال فرنسيسكو فيلاسباسا شاعر الإسبان لهذا العهد: لم يصب شعب
6
من موهبة الشعر الإلهية بقدر ما أصاب الشعب العربي منها، فكان من ولوعه بالشعر ومن ثقافته التواقة إلى الحرية والبطولة ما وسم شعره بطابع خاص كان شعاره منذ ظهوره، وما انتصار الإسلام الباهر إلا انتصار للشعر العربي أيضا. وسيطر العرب إبان انتصاراتهم على أرقى شعوب الأرض وامتزجوا بهم، فأخذ عنهم المصريون والبيزنطيون والرومانيون مناحي جديدة، بدأت منذ ذلك الحين تسود خشونة شعرهم القديم، ولم يتعد هذا التأثير الخلابة في التركيب والتلاعب بالألفاظ، وظلت القصائد العربية القديمة سليمة لم يطرأ عليها فساد القلوب، ولا تصرفت بها الألسن على هوى الرواة، فكانت كالإرث الثمين يتناقلها الناس جيلا بعد جيل، وظل بدو الصحراء رعاة النجوم أو في الشعوب خبرة في تخير الأخيلة، وأوفرها غنى بالمادة الشعرية، ولم تتهيأ للشعر العربي في عامة الأقطار التي اكتسحتها العرب تربة أصلح من تربة الأندلس، ولا زها في بلد من البلدان زهوته في هذا البلد.
قال: وكان قواد العرب أولا ومن بعدهم الخلفاء والأمراء مثالا للشعب في بث الفكرة الأدبية في الأندلس العربية، تكاد لا تستثني منهم واحدا لم يخلد اسمه بقصيدة غرام أو حماسة منذ أنشأ عبد الرحمن الأول تحيته الوطنية الممتعة التي خاطب بها النخلة الأولى التي غرسها بيده على ضفة النهر الكبير، إلى أن أنشد أبو عبد الله على ضريح مريم موشحته المشجية راصفا قوافيها بفلذات قلبه المنفطر الدامي، وإن أنس لا أنس المعتمد آخر ملوك إشبيلية، وفي رأيي أن شعره أجلى مثال للشعر العربي، إن لم يكن بجماله، فبالتشاؤم الذي فيه، وبالشؤم الذي رافق حياة صاحبه، وكان حلقة من سلسلة الأبطال الذين ناوأهم القدر في مختلف أدوار التاريخ.
ونسج الأشراف على منوال سلاطينهم، فنمت رياض الأدب الغنائي، وأزهرت في ظلال السيوف فتفشت عدوى الاشتغال بالأدب العربي بين أساقفة النصارى ممن استعربوا في ذاك العهد، فراحوا يقرضون الشعر بلغة عربية عالية، وهو لعمري حدث وحيد من نوعه في التاريخ، وفاضت أرض الأندلس الممرعة بعلوم الإسلام وآدابه التي عمت العالم، وقامت النفوس التواقة إلى العرفان في أقاصي البلدان، تبرد شفاهها الظمأى بترشف ينابيع الحب والسلام المتفجرة من الشعر العربي في قرطبة وطليطلة أولا، وإشبيلية وغرناطة آخرا، ونظم سلفستر الثاني بابا رومية قصائد عربية لها أوزانها وقوافيها.
وظلت اللغة العربية لغة التقاليد في الحب والعلم والشعر في كل من صقلية وبروفنسا وإيطاليا وبيزنطية بل في قلب بلاد ألمانيا، ورافق الشعر جيوش العرب الفاتحين وسفنهم الظافرة، وواكبت قوافيه قوادهم، فكانوا يولجونها في الصدور على سنان الحراب ، ناشطين لإذاعتها نشاطهم لإذاعة سور القرآن الكريم، ولم يكن جل أناشيد طبقاته القديمة وكثير من آغاني شعراء الولايات الجوالين غير قصائد عربية لشعراء الأندلس، أدخل عليها بعض التطور، وبقيت محتفظة بأثر الروح الشرقي. وبالعربية نظم الإمبراطور فريدريك الثاني ملك صقلية مقاطيع ممتعة، وجمع في بلاطه رهطا من علماء الإسلام وشعرائه ليتخذهم ذريعة يبعث بها في ملكه ما كان للأدب العربي من بهاء في دمشق وبغداد وقرطبة وإشبيلية، وهي المدائن الأربع التي كانت في ذلك العهد قبلة أنظار النهضة الأدبية في العالم أجمع، وقد اتضح للباحثين من المعاصرين أن في شعر دانتي الذي هو فخر أمة بأسرها، مآخذ صريحة مردودة إلى الأدب العربي.
قال: وإن روح الفروسية التي سادت القرون الوسطى، وأحالت همجية الحروب إلى مداعبات على ظهور الخيل في ميادين الألعاب وأنتجت من الحب أدبا عاليا، ومن المرأة صنما معبودا، لهي روح خلقها الشعر العربي، وحملها إلى العالم على أجنحة موشحاته، فعم العالم «الأدب المنمق» الذي سبق «الرومانطيقية»
7
ببضعة أجيال، ولئن كان للشعر العربي هذا التأثير في العالم، فأحر به أن يكون في إسبانيا أشد بلوغا منه في غيرها، كيف لا وقد عاش العرب سادة فيها مدة ثمانية قرون، شادوا في خلالها أفخم صروحهم الهندسية والعلمية والأدبية، لا جرم أن ملوك الكثلكة الظافرين أجلوا العرب منذ قرون عن شبه الجزيرة الإسبانية، ولكن اللغة العربية ما برحت تمد معجمنا بما ينيف عن ربع مفرداته، كما أن أنوار آدابها ما فتئت تلهب مخيلاتنا بأشعتها، وتسعر دماءنا بحرارتها، دافعة بنا إلى مجازفات تنطوي على جنة، تراها ماثلة أي مثول في حكايات دون كيشوت وأضرابه من الفرسان، وقد تأثر جل أدبنا الروائي وشعرنا بما اندمج فيه من الأسلوب العربي المحض، حتى إن أوزان التفاعيل الثمان، هي في الأصل بحر اتخذه شعراؤنا، ونظموا به على قافية واحدة، تتكرر في جملة الأبيات على نحو ما هو مألوف في الشعر العربي.
ثم قال: «ويتعذر علينا، نحن الإسبانيين، إتمام أبحاث تاريخنا، والنظر في آداب لغتنا، إن لم يستعن مؤرخونا ونقادنا في مباحثهم بلغة المعتمد وأبي البقاء، أو يستمدوا من المخطوطات العربية المبعثرة في أنحاء العالم، وإنك لتجد في جميع الآثار التي خلفها كتابنا الأقدمون مسحة انتقادية هي أثر المعارف العربية الباسطة نورها على اللغات الحديثة منذ أنشأ «الدون خوان مانويل» كتابه المسمى «كونده لوكانور»، إلى أن ألف «روخاس» كتابه «كالستينا»، ولا نغفل عن التنويه بمؤلفي «اللمح» وسواهم من كبار الكتاب والمنشئين، وليست جميع القصائد المجموعة في كتب الآغاني الإسبانية لمختلف الشعراء سوى انتحال ما في الدواوين الشرقية من شعر، فإنك ترى ناظميها يرافقون في أناشيدهم الإيقاع المتكرر في ألحان الرباب.
ليس في طاقتنا، معاشر الأندلسيين المؤمنين بالنصرانية، أن نجحد دين أسلافنا المسلمين، فلئن كان الأول دين سرائرنا، فالثاني ما برح نتاج خيالنا القومي المزدان ببدائع التصور، وإننا على رغم لباسنا الحديث، وإهمالنا لغة أسلافنا العرب، ما نزال أحفاد أولئك البدو الذين تعودوا في وحشة الصحراء أن يخاطبوا الله وهم قعود أمام مضاربهم المنسوجة بوبر الإبل، ولو نزعنا بعض الكلس عن جدران جل كنائسنا، لألفينا تحته لمعا مذهبة لاسم الله الأقدس محفورة بحروف كوفية، ولو خدشنا بالأظافر بشرتنا الأوربية الصفراء لبرز لنا من تحتها لون بشرة العرب السمراء. إن قوميتنا الغربية هي العرض الظاهر، أما القومية الشرقية فهي حقيقتنا الخالدة، وما كانت عامة ثوراتنا الأدبية القديمة والحديثة في الغالب غير أثر الروح العربي الذي يطفر من سويداء قلوبنا محتجا ناقما؛ لأن ابن الصحراء المتمرد الحر الذي تعود الهواء الطلق تحت نور الشمس لا يقوى على الحياة خلف القضبان المتراصة في الأقفاص المظلمة المثقل جوها بكثافة القواعد المنطقية والمناهج اللغوية.
إن «غونغورا» أصفى شعرائنا روحا يشبه كبار الشعراء في بلاط الأمويين في قرطبة، أولئك الذين جمع لهم الحكم الثاني في قصر مروان أغنى مكاتب العالم، جاعلا لهم من حدائقها ميدانا لفنهم وخيالهم، وقد عرف «غونغورا» بالتباس في تأدية المعنى، وما ذاك إلا لتملك الطريقة العربية من نفسه، إلى حد لم يجد معه في مفردات لغته ما يستطيع أن يعكس بها ألوان معانيه الشرقية، لذلك تراه ينقل إليك بدمدمة غامضة، الآيات العظيمة التي رفعت نفسه إلى درجة الذهول.»
هذا ما قاله شاعر إسبانيا، ثم عدد تأثيرات النفوذ العربي في الشعر الإسباني والإيطالي والألماني، وقال: إن الأدب العربي أثر في أعظم من رفع للرومانطيقية لواءها، وبعد أن أورد أسماء كثير من الشعراء تأثروا بمؤثرات العرب، قال: إن التأثر بالأدب العربي البادي في آداب اللغة الإسبانية ظاهر في أناشيدهم الشعبية التي تمثل نفس أمته الشاعرة تستشف من خلالها إخاء الأمتين وإن النشيد الغرناطي لشديد الشبه بالنشيد البغدادي.
الموسيقى الأندلسية والرقص الأندلسي
هذا ما كان من الشعر وتأثيره في الغرب، أما الموسيقى فكان العرب في عامة أدوارهم مولعين بها منذ ذهبت عنهم وحشة البداوة، ومنهم الخلفاء والأمراء والقضاة والعلماء والفلاسفة
8
والأدباء، أعظموا قدرها في التهذيب
9
وأعطوها صدر المقام فيه، حتى تخوف بعض علماء الدين منها وبدءوا يفكرون هل الموسيقى جائزة شرعا، وما هو القدر الذي يباح منها، وهنالك تآليف كثيرة تعنى بالبحث في العلاقة بين الموسيقى وحسن الأخلاق وسلامة الدين، وقد خصص الغزالي قسما كبيرا من كتابه إحياء علوم الدين لهذا الموضوع، وألف كبار رجال الإسلام في فن الموسيقى فأبدعوا، وبدأت الموسيقى العربية تسري من الحجاز، نقلها إليه جماعة الموالي عن الفرس والروم، وكانت الجارية التي تحسنها يبالغ في قيمتها، ويتنافس فيها الملوك والعظماء والأغنياء، هكذا كان الحال في فارس والعراق والشام ومصر والأندلس، والمنكرون قلائل، والمسمعون والمستمعون كثار.
وكان المسمعات والموسيقاريات يتعلمن صنوفا من الأدب فيأخذن بمجامع القلوب، بل كان منهن من يجتمع له من أصناف العلوم ما لا يجتمع مثله إلا للأفراد مثل جارية ابن عبد الله المتطبب الأندلسي
10
في النصف الأول من المائة الخامسة، فإنها كما قال ابن حيان: لم ير في زمانها أخف منها روحا، ولا أسرع حركة، ولا ألين أعطافا، ولا أطيب صوتا، ولا أحسن غناء، ولا أجود كتابة، ولا أجود خطا، ولا أبدع أدبا، ولا أحضر شاهدا، مع السلامة من اللحن في كتبها وغنائها، لمعرفتها بالنحو واللغة والعروض ، إلى المعرفة بالطب وعلم الطبائع ومعرفة التشريح، وغير ذلك مما يقصر عنه علماء الزمان، وكانت محسنة في صناعة الثقاف والمجاولة بالتراس، واللعب بالرماح والسيوف والخناجر المرهفة، لم يسمع لها في ذلك بنظير ولا مثيل ولا عديل، ثم إن الأمير هذيلا اشترى كثيرا من الجواري الحسنات المشهورات بالتجريد، طلبهن في كل جهة، فكانت ستارته أحسن ستائر
11
ملوك الأندلس، واشترى تلك الجارية البديعة بثلاثة آلاف دينار. وروي أن بعض خلفاء العباسيين ابتاعوا بعض الجواري من هذا الطراز البديع بمائة ألف دينار.
وكان في مدينة آبدة في الأندلس من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة ما تظنهن فيه أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدكر وإخراج القزى والمرابط والفتوخة، ولأهل الأندلس كما لأهل الشرق آلات من الطرب وألوان من الملاهي كادوا يتفردون بها، فمنها خيال الظل أو الخيال الراقص والكرج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة والقيثار والزلامي والشقرة والنورة والبوق،
12
ودام الغناء واللهو والأوتار والرقص في الأندلس إلى عهد خروج العرب منها، على حصة موفورة، فكان من الطبيعي أن يأخذ الإفرنج عنهم ولا يزال إلى اليوم غناء الإسبانيين يشبه غناء العرب وموسيقاهم كأنها موسيقاهم، وكذلك رقصهم وكثير من أدوات لهوهم.
هكذا الحال في إسبانيا والبرتقال اليوم، بل في جمهوريات أميركا الجنوبية، ولا سيما أهل الأرجنتين
13
والبرازيل، وما زالت موسيقاهم وأنواع رقصهم عربية إلى اليوم أو تشبه العربية كثيرا؛ ذلك لأنها منذ كان العرب سادة إسبانيا كانت موسيقاهم قائمة على علم مقرر محرر بفضل زرياب الذي رحل من الشرق، فأدخل الموسيقى في المغرب، وعنه أخذ الأندلسيون وجيرانهم، وما فتئت الموسيقى كالرقص إلى يومنا هذا في إسبانيا أو في البلاد التي تغلبت عليها إسبانيا في سالف الدهر عربية لم يدخلها غير تعديل طفيف بحكم الزمن وطول العهد.
مدنية العرب في الأندلس
كلام على الأندلس وفتحها
أطلقت
1
العرب على الأندلس اسم الجزيرة من باب التغليب، كما أطلقت اسم الجزيرة على شبه جزيرة العرب؛ وذلك لأن الأندلس متصلة من أقصى الشمال بجبال البرينات أو الثنايا ، وحدها عندهم مسيرة ثلاثين يوما طولا، وزهاء عشرين يوما عرضا، يطوقها البحران الظلمات والمتوسط من أطرافها الثلاثة إلا من شمالها الشرقي، ولا تعرف مساحة الأندلس على التحقيق أيام الحكم العربي، وغاية ما يقال: إن بلاد البرتقال داخلة في الأندلس وكذلك برشلونة في الشرق، ولم يبق من شبه جزيرة إيبريا أو إسبانيا والبرتقال اليوم أرض لم يصل إليها حكم العرب سوى بلاد ضئيلة وعرة من الشمال، كانت تطلق عليها العرب اسم بلاد الجلالقة وآشتوريا، أو جبال قرقشونة وجبال بنبلونة وصخرة جليقية.
فالعرب ملكوا إذا معظم شبه جزيرة إيبريا سنة 92ه على يد موسى بن نصير وطارق بن زياد، وتقدم طارق بن زياد البربري من بر العدوة
2
في اثني عشر ألف فارس من البربر وبعض العرب صيرها عسكرين قاد أحدهما بنفسه ونزل به جبل الفتح
3
فسمي جبل طارق به إلى اليوم، وقاد الآخر طريف بن مالك النخعي ونزل بمكان مدينة طريف فسمي به إلى اليوم، وقيل: إن طارقا أحرق السفن التي حملت جيشه في هذا الزقاق بين العدوتين، وخطب جيشه لما أطل عليه جيش صاحب طليطلة، فمما قال: أيها الناس
4
أين المفر، والبحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر
5
لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب برعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة هذا الطاغية، إلى أن قال: واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان ... وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا ...
وافتتحت برشلونة من جهة المشرق وحصون قشتالة وبسائطها من جهة الجوف، وانقرضت أمم القوط وأوى الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب فتحصنوا بها، وأجازت عسكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلوا البسائط وراءها وتوغلوا في بلاد الفرنجة حتى سكن المسلمون بعد حين أربونة
Nar bonne
وصار رباطهم على نهر ردونة، وانقلب موسى إلى الخليفة الأموي بدمشق يحمل خبر الفتح، ومن الغنائم ما تحار له العقول، وعرض عليه الأسرى وكانوا من أبناء ملوك البربر وملوك الروم وملوك الإسبان وملوك إفرنجة،
6
وكان عهد الصلح مع الإسبان أن تحفظ على أهل البلاد دماؤهم، فلا يسبون ولا يفرق بينهم وبين أولادهم ونسائهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا تحرق كنائسهم، وجعلوا على كل رجل حر بالغ دينارا في السنة، وأربعة أمداد قمح وأربعة أمداد شعير ومقدارا من الطلا والخل والعسل والزيت، وعلى العبد نصف ذلك.
جيوش العرب وقبائلهم وحكومتهم في الأندلس
كانت جمهرة الجيش الذي فتح الأندلس مؤلفة من البربر، وليس فيه من العرب إلا القليل، وأول من دخل الأندلس
7
مع طارق بن زياد نحو ثلاثمائة من العرب وزهاء عشرة آلاف من البربر، فلما تم الفتح أرسل الأمويون قبائل من الشام أنزلوها في كور مخصوصة من بلاد الأندلس، وجعلوا لهم ثلث أموال أهل الذمة طعمة، فنزل في البيرة جند دمشق من مضر وجلهم قيس وأفناء
8
قبائل العرب، ونزل رية جند الأردن وهم يمن كلهم، ونزل شذونة جند حمص وأكثرهم يمن، ونزل مدينة «الجزيرة» البربر وأخلاط من العرب قليل، ونزل في جيان جند قنسرين والعواصم وهم أخلاط من العرب من معد واليمن، ونزل قبائل البربر بلنسية وأكشونبة، وفي باجة وتدمير جند مصر. وتمازج العرب بسكان البلاد، واغتبط هؤلاء بمقدم العرب، مؤملين السعادة في أيامهم، وكانت البلاد قبل موافاة الفاتحين أصيبت منذ سنة ثمان وثمانين إلى سنة تسعين بمجاعة شديدة، ثم وبئت حتى مات نصف أهلها أو أكثر، قال لسان الدين بن الخطيب: فلما استقر الفتح وبلغ حيث بلغ من التخوم، سكنت العرب الأقطار وتبوأت الديار ، ثم دخلت بعد ذلك العرب الشاميون مع الأمير بلج بن بشر القشيري في عشرة آلاف فارس من أعلام أهل الشام، وتسمى الطالعة البلجية، فالداخلون مع موسى وطارق يسمون بالأندلس في الرسوم والخطوط والإقطاعات بالبلديين، والداخلون مع بلج بن بشر يسمون بالشاميين.
وما لبث الإسبانيون أن أحسوا بالفرق بين حكم العرب وحكم والغوط «الويزغوت» ورأوا من تسامح الفاتحين وتفانيهم في نشر العدل بين الناس ما يثلج له الفؤاد، وأبقت العرب سكان البلاد على قضائهم وإدارتهم، وقلدوهم بعض الوظائف، ثم وسدوا إليهم الجليل منها، فأحب الإسبانيون العرب محبة خالصة، ورأوا البون الشاسع بين المدنية التي يحملها المسلمون، وما كان للغوط من الثقافة المتأخرة، وكانت أقرب إلى الهمجية، ولم يمض قرن حتى أخصبت القرى
9
وكثرت المزارع، واتصل العمران اتصال الشؤبوب،
10
وتزاحم الناس بالمناكب في المدن، وأمست قرطبة عاصمة الخلافة الأندلسية كعواصم أوروبا اليوم؛ تنار بالمصابيح ليلا، ويستضيء الماشي بسرجها ثلاثة فراسخ لا ينقطع عنه الضوء، وأصبحت مبلطة أزقتها، مرفوعة قماماتها، وهي أول مدينة كان لها ذلك في العالم، وغدت قرطبة عاصمة علم وصناعة وفن وتجارة، ولا تزال هذه المدينة قائمة، وهي اليوم عبارة عن مقبرة كئيبة، وكانت في الدهر الغابر تضم مليون نسمة، ويتنزه المرء ساعات إذا أحب الوصول إليها، وقد تعد الاستعاضة عن الهلال بالصليب في مدينة قرطبة انتصارا عظيما للنصارى كما قال لبون، ولكن الهلال كان يحكم أغنى المدن وأجملها وأكثرها سكانا، والصليب اليوم لا يخفق إلا على بقايا كامدة من تلك المدينة الزاهرة.
وناهيك ببلدة بلغ عدد مساجدها ألفا وستمائة مسجد، وحماماتها ستمائة، وفيها مائتا ألف دار، وثمانون ألف قصر، ومنها قصر دمشق شيده بنو أمية بالصفاح والعمد، حاكوا به قصرهم في المشرق، وأبدعوا بناءه، ونمقوا ساحته وفناءه،
11
ودور قرطبة ثلاثون ألف ذراع، وفي ضاحيتها ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه، وكان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا في ناحية من نواحيها، فكيف بجميع جهاتها؟! وكان في مسجدها الذي بني على طراز مسجد دمشق 1418 سارية تشبه غابة ملتفة، ولما زرناه في سنة 1921م كان فيه 860 سارية.
مدن الأندلس وعمرانها العربي
ومن أهم مدن الأندلس على عهد العرب: الجزيرة الخضراء، المرية، بطليوس، برشلونة، بسطة، باجة، قادس، شنترة، شلب، قلمرية، صلمنقة، وهاتان المدينتان اليوم من مدن العلم في إسبانيا والبرتقال، ومن مدنها: جيان، غرناطة، وادي آش، وادي الحجارة، شاطبة، شريش، لشبونة، لوشة، لورقة، مجريط، مالقة، ماردة، لاردة، مرسية، رندة، رية، شنترين، إشبيلية، شذونة، طرطوشة، طركونة، طليطلة، أبدة، ولنسية، بلنسية، أرجذونة، أرجونة، فحص البلوط، الزهراء، لبلة، ألب، أخشنبة، قصر أبي دانس، يابرة، جليانة، طلبيرة، قلعة رباح، مدينة سالم، مدينة غالب، دانية، شقورة، قلعة حماد، تدمير، إستجة، قبرة، غافق، المدور، بياسة، قسطلة، المنكب، باغة، أندراس، أودربولة، جزيرة شقر، تطيلة، قرقشونة، أكشونبة، قسطيلية.
ومن المتعذر استقصاء أعمال الأندلسيين في العمران، ووصف أبنيتهم وهندستهم وإبداعهم في بناء مدينة الزهراء مثلا، وكانت على أربعة أميال وثلثي ميل من قرطبة، والزهراء من بناء الملك الناصر، وكان يقسم جباية البلاد أثلاثا؛ فثلث للجند، وثلث مدخر، وثلث ينفقه على عمارة الزهراء، وكانت جباية الأندلس يومئذ خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن الستوق
12
والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار، وهي من أجمل بناء الأندلس وأجله خطرا وأعظمه شأنا كما قال مؤرخو تلك الديار، وما فتئت إلى اليوم بقايا قصور طليطلة وغرناطة وإشبيلية وغيرها موضع دهشة القادمين لزيارتها من الأمم الراقية. أما صناعاتهم وجميع أدوات ترقيهم فقد أدخلت في الغرب أمورا لم يكن لأهلها عهد بمثلها، ونشروا العلوم والآداب وطبقوا العلم على الزراعة والصناعة، ولا تزال إلى اليوم السدود التي أقاموها في ولاية بلنسية شاهدة بتفوقهم، يعيش الإسبانيون بفضل هندسة العرب العجيبة بعد جلائهم عنها منذ أكثر من أربعة قرون، وبفضل هندستهم كانت المياه تجري إلى كل مكان في بسائط الجزيرة فتحمل الخصب والإمراع، وقد عم الذوق باللذائذ العقلية جميع طبقات المجتمع في الأندلس، وغدت المنافسة الشريفة على أتمها، فكانوا يكتبون على جميع المصانع اسم من أمر ببنائها واسم بانيها، والأمة تمدح المحسن بها والمحسن لبنائها، ولم يبرح الغرب إلى اليوم يدرس أصول بناء العرب، ويعجب بما نقشوه فيها من النقوش، وما عمدوا إليه من الزينة المشفوعة بالمتانة والعظمة، وقصر الحمراء وجنة العريف في غرناطة، من آخر ما خلفه العرب من ذاك المجد المؤثل، وذكر بعض علماء الفرنجة أنه كان في الأندلس على عهد الحضارة العربية أربعون مليون نسمة من أرباب الصنائع والعمل (وسكان إسبانيا اليوم نحو اثنين وعشرين مليونا وسكان البرتقال ستة ملايين).
عمل العرب في الأندلس
غير عرب إسبانيا شكل الأندلس
13
في بضعة قرون من حيث المادة والعلم، وجعلوها في منزلة دونها جميع الممالك، قال لبون: ولكن هذا التبدل لم يتناول الماديات والعقليات، بل تعداها إلى الأخلاقيات؛ فقد علموا وحاولوا أن يعلموا الشعوب النصرانية أثمن الصفات الإنسانية، وأعني بها «التسامح»، ولقد كان من لطفهم مع الشعب الذي افتتحوا بلاده أن يعقد أساقفتهم مجامعهم الدينية في إشبيلية سنة 782م وفي قرطبة سنة 852م وهذا من الأمثلة على حسن مأتاهم، ومنها تلك الكنائس والبيع الكثيرة التي شادها نصارى الإسبان في العهد العربي في إسبانيا، وكل ذلك دليل على الحرمة التي كان العرب يعاملون بها المعتقدات التي جعلت تحت حماية قانونهم. وقد انتحل الإسلام كثير من النصارى على حين لم يكن لهم في ذلك غير مصلحة ضئيلة؛ لأن النصارى الذين كانوا في الحكم العربي، ويطلق عليهم اسم المستعربين، كانوا يعاملون كاليهود أيضا على نصاب واحد من المساواة مع المسلمين، ويمكنهم مثلهم أن يتولوا جميع أعمال المملكة، وكانت إسبانيا العربية البلد الوحيد في أوروبا الذي كانت فيه حقوق اليهود مصونة حتى كثر فيها سوادهم، وكما كان يطلق اسم المستعربين على أبناء النصرانية الخاضعين لأحكام المسلمين في الأندلس، كان يطلق اسم المدجنين على المسلمين الخاضعين لحكومة إسبانيا. وقال سيديليو ولبون وغيرهما: كان العرب في إسبانيا من حيث الأخلاق والعلم والصناعة أرقى من النصارى، وكان في أخلاقهم وصفاتهم شيء من الكرم والإحسان، مما لم يكن له أثر عند غيرهم، وفيهم الشمم الذي امتازوا به، وكان الإفراط في حبه مولدا لجنون البراز المشئوم.
ونشر العرب في بلاد إسبانيا بما خصوا به من حسن المعرفة بالفلاحة وطرائقها المبنية على التجربة والمشاهدة، ما هو العجب العجاب؛ فزرعوا فلواتها، وعمروا مدائنها، وربطوا علائق تجارية مع الأمم المجاورة، فظهرت بها الرفاهية، وصفا العيش، وكانت أساطيلهم التجارية تقلع من مالقة وبجاية والمرية ولشبونة وبرشلونة، تحمل إلى الشرق والغرب حاصلات الأندلس، وتأتي من البلاد التي أرست فيها ما يلزمها، وأهم ما كان الأندلسيون يهتمون له، خصوصا بعد أن قطعوا صلاتهم بالعباسيين، أن لا تقصر بلادهم عن العراق وفارس والشام ومصر في سلوك سبيل الارتقاء؛ ولذلك كان كثير من خلفائهم يجعلون لهم عمالا في عواصم الشرق ينسخون لهم الكتب التي تؤلف حديثا، ليطلعوا على سير العلم في العهد العباسي الأول والثاني، ويبتاعوا كل ما تطول إليه أيديهم من الأسفار والطرائف؛ لئلا يفوتهم شيء من علم علماء المشرق. على أن الرحلة في طلب الحديث ما انقطعت بين الأندلس والمشرق، وكذلك المشارقة لم يغفلوا عن الرحلة إلى تلك الجزيرة والأخذ عن رجالها، ونقل ما فاتهم من علوم المغاربة.
ومن أجمل ما وصف به عرب الأندلس قول صاحب فرحة الأنفس: «أهل الأندلس عرب في الأنساب، والعزة والأنفة، وعلو الهمم، وفصاحة الألسن، وطيب النفوس، وإباء الضيم، وقلة احتمال الذل، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية، وهنديون في إفراط عنايتهم بالعلوم، وحبهم فيها وضبطهم لها ورواياتهم، بغداديون في نظافتهم وظرفهم ورقة أخلاقهم، ونباهتهم وذكائهم، وحسن نظرهم، وجودة قرائحهم، ولطافة أذهانهم، وحدة أفكارهم، ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباطهم للمياه، ومعاناتهم لضروب الغراسات، واختيارهم لأجناس الفواكه، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال وتحسين الصنائع، وأحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب.»
العلم في الأندلس
أنشأ الأندلسيون في كل ناحية المدارس وخزائن الكتب، وأقاموا في العواصم الجامعات التي كانت وحدها مواطن العلم في أوروبا زمنا طويلا، ومما أعان على الاستكثار من الكتب ما كانت تصدره معامل شاطبة من الورق، وبهذه الطرق الجديدة فاض النور على الرجال والنساء، وعلى الموافقين والمخالفين، حتى أصبحت قرطبة مدة ثلاثة قرون أكثر مدن العالم القديم نورا، وكانت حضرة ملوكها وقصور خلفائها، لكثرة عنايتهم بالعلم، وحرصهم على استجلاب العلماء إليها من كل فج وصوب، أشبه بمجامع علمية، وقاعات خزائن كتبهم كأنها دور حكمة، فيها معامل كبيرة خصت بالنساخين والمجلدين والمذهبين والنقاشين، ومن خزائنهم ما كانت جرائد أسمائها تستغرق عشرات من المجلدات.
ولقد كان الحكم الثاني من أعظم المفضلين على الآداب، نشر العلم في أمته حتى قل فيها الأميون وأنشأ في عاصمته خزانة كتب فيها من عامة العلوم نحو أربعمائة ألف مجلد، وربما كان أعلم أمير جاء في الإسلام،
14
وكانت جامعة قرطبة في أيامه أعظم جامعات الأرض تقرأ فيها العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية والكيماوية، وكان عبد الرحمن الثاني عالما أديبا شاعرا يعرف علوم الفلاسفة.
ولما ملك الأندلس أمير المسلمين يوسف بن تاشفين من المرابطين انقطع إليه «من الجزيرة من أهل كل علم فحوله، حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم، واجتمع له ولابنه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار.» وكان الفيلسوف ابن طفيل من رجاله هو الذي جلب إليه العلماء من جميع الأقطار، ونبهه على فضل ابن رشد الفيلسوف.
وكان لملوك الأندلس غرام باصطفاء كبار العلماء للوزارة، يشتملون على الدولة ويدبرون أمرها، ومنهم من برزوا في السياسة والإدارة وقيادة الجيوش تبريزهم في العلم والأدب، كابن زيدون وابن عبدون وابن أبي الخصال وابن خلدون وابن الخطيب وابن زهر وابن سعيد وابن عمار وابن الجد وابن أيمن وابن هود وابن سوار وأبي عبد الله الطاهر وابن فرج وابن لبون وابن رزين وابن أرقم وابن القلاس وابن غيطون وابن القاسم وابن زمرك وابن حزم وابن جبير وابن عبد البر وابن السيد والبكري وعشرات غيرهم، بيضوا وجه الأندلس، وجرى على هذه السنة الأمويون ثم المرابطون والموحدون ثم بنو الأحمر، ومن تخلل هذه الدول الكبرى من ملوك الطوائف، ونسجوا على أساليب الدولة العباسية والفاطمية والإخشيدية والطولونية والحمدانية والبويهية والسامانية والغزنوية وغيرها من دول المشرق.
كان عبد الرحمن الداخل بعد أن قطع صلاته بالعباسيين يريد الأندلسيين على أن يعتبروا إسبانيا وطنهم الحقيقي، ينفق دخل مملكته في الأعمال النافعة؛ لعدم احتياجها إلى الجيوش الكثيرة والأساطيل البحرية، وكان خلفاؤه يرون أبدا أن ينسجوا على منواله، وصح أنه كان لبعض ملوكهم الخالفين جيوش دائمة تحت السلاح مستعدة للوثبة عند أقل بادرة، مما لم يكن يعهد في الغرب، ولم يعرف إلا في بعض الأدوار عند ملوك الشرق، وبلغ من عز الإسلام في عهد هشام الأموي، وكانوا يشبهونه بتقواه بعمر بن عبد العزيز، أن رجلا في أيامه، كان أوصى أن يفك أسير من المسلمين من تركته، فطلب ذلك فلم يوجد أسير يشترى ويفك؛ لضعف العدو وقوة المسلمين.
ترجم عرب الأندلس كتب اليونان واللاتين فكان لهم من ذلك حظ لا يقل كثيرا عن حظ خلفاء العباسيين في الشرق، ونجح العرب هناك من وراء الغاية في دراسة الرياضيات والفلك والطبيعيات والكيمياء والطب، وكانت لهم المخابر والمصانع، ولم يقل نجاحهم في الصناعة والتجارة عن دولة راقية من دول اليوم، فكانوا يبعثون بحاصلات المعادن ومعامل السلاح والحرير والجوخ والجلد والسكر والورق إلى إفريقية وسائر المشرق، على أيدي تجار من اليهود والبربر، وأهم ما لإسبانيا اليوم من أعمال الري هو من صنع العرب، فإنهم أدخلوا إلى سهول الأندلس الخصيبة زراعات منوعة، فأصبحت الأندلس جنة كبرى بفضل ثقافتهم العالية، وتناولت هممهم عامة فروع العلوم والصناعة والفنون، وكانت مشاريعهم العمومية على مثال مشاريع الرومان بعظمتها وفضل غنائها، وقد أنشأوا الطرق والجسور والفنادق للسياح، والمستشفيات والجوامع والرباطات في كل صقع وناد، وكان الأمويون في الغرب كالعباسيين في الشرق يجددون عهد بركليس على ما قال رينالدي، وكان الحكم الثاني أكثر ملوك الأندلس اشتغالا بالعلم ونشره وعناية به، وأجودهم في سبيله، فقد أسس في قرطبة وحدها 27 مدرسة كان يتعلم فيها أبناء الفقراء مجانا ، وروى دوزي
15
أنه كان كل فرد من الأندلس يعرف القراءة والكتابة، بينا كان في أوروبا جميع النصارى حتى النبلاء والأشراف منهم، لا يفكرون في التعليم، وأنشأ الوزير رضوان النصري (760ه) المدرسة بغرناطة ولم تكن بها. قال ابن الخطيب وهو الرجل الذي قل في الدول أمثاله ذكاء لم يكتسب من غير التجر والفلاحة مالا، وقد أقام من أعمال العمران ما يحسده عليه أعظم طواغيت الزمان.
يقول لوبس من علماء المشرقيات في البرتقال:
16
إن المنورين من مواطنيه البرتقاليين اليوم يقدرون الأمة العربية المجيدة حق قدرها ويدرسون مآتيها فيما أبقته من آثارها الخالدة، ولا سيما هندستها في المباني التي أصبحت خاصة بها، تفتخر بها الشعوب المتمدنة لعهدنا وتعجب منها، قال: وتاريخ العرب حافل بذكائهم وتقدمهم وسيادتهم في كل العلوم والفنون حتى في الزراعة فقد كانوا بعد غزوهم إحدى المقاطعات واضطرارهم إلى خرابها، يجعلون منها بعد سنين جنات حقيقية، وذلك بفضل مساعيهم وتفوقهم وتدابيرهم العجيبة.
ميزات الحكومات الأندلسية
ويطول بنا مجال القول إذا حاولنا أن نعرض هنا، لما خدم به الأندلسيون العلم على فروعه، والأدب في عامة ضروبه، فقد أشرنا إلى بعض ذلك في فصول سابقة كمواطن العربية وأثرها في اللغات الشرقية والغربية، وحال الغرب في شباب الإسلام، وأثر علوم العرب في الغرب، وأثر شعر العرب وفنونهم في الأمم الغربية، وتأثير العرب في البلاد المغلوبة، ويهمنا هنا أن نرسم صورة من صور الأندلس وعمرانها على عهد العرب؛ لأن من هذه الجزيرة انبعث نور العرب في غربي أوروبا، كما انبعث من جزيرة صقلية إلى أواسط أوروبا، وبذلك يثبت أن العرب إذا فتحوا جنوبي أوروبا بجيوشهم، فقد حملوا إليها جيوش علمهم وفنهم وصنائعهم، يحيون موات تلك الأقطار البعيدة من دار أعرابيتهم، ويلقنون أهلها معنى الحياة الراقية، ويذيقونها طعم السعادة، والعرب وإن كانوا إلى قلة في تلك البلاد، فقد أصلوا فيها حضارتهم ثمانية قرون، ولولا تخالف نشأ بين رجال الأمر فيهم، لظلوا يحكمون تلك البلاد، وينتجون ما ينفع الأرض وسكانها، وإن حاربتهم كثير من أمم أوروبا بتحمس الباباوات لها، حتى تعاون الجميع على إخراجهم، بعد أن قاموا بعملهم الشريف، ونقلوا إلى البلاد اللاتينية والجرمانية والإنجليزية وغيرها بضاعة علمهم الزاخر وخلقهم الباهر.
قال بعض الباحثين من الفرنسيس: «لما استولى العرب على ناربون وبروفنسيا وغيرهما عمروهما فأحسنوا عمارتهما، وكان شانجه أمير ليون يستشير بنفسه أطباءهم. وممن تعلموا في مدارس قرطبة لفنراربل ولابيه دي كلوني، وأخذت فرنسا من العرب أساليبهم في الزراعة، وحفر الترع والخلجان ونظام الري، وبلدوا في الأندلس النباتات والأشجار التي لم تكن تعرفها، فانتقلت إلى أوروبا. وأتونا بصناعة السجاد وإنشاء السفن، وفي كنيسة سان تروفيم بأرل وسانت سيزر وسانت آن نموذجات من منسوجاتهم الثمينة للغاية، وفي كنيسة سان بير بأرل نقوش عربية على غاية الجمال، وقد أدخلت العرب إلى بلادنا في القرن العاشر النقوش الرومانية.»
ضعف السياسة العربية
وأصاب الأندلس إدبار بعد ذلك الإقبال، كان من نتيجة اختلاف أمرائها، فسقطت سياستهم وإن لم تسقط مدنيتهم، تفرقت كلمتهم حتى أمسى بعض عمال الولايات وقضاتها يحاولون أن ينعتوا بالملك أو الأمير لاستبدادهم بالأمر دون من ولاهم، بل كثر في بعض أدوارهم الطامعون من أدعياء الخلافة، والراغبون في التلقب بأمير المؤمنين ومن أمرائهم من كان «منكمشة ولايته، قليلة جبايته، فإن نظره لم يزد على امتداد ناظر.» وجاء زمن كما قال ابن حزم وطرطوشة وسرقسطة وأفراغة ولاردة وقلعة أيوب في يد بني هود، وبلنسية في يد عبد الملك بن عبد العزيز، والثغر أي ما فوق طليطلة من جهة الشمال في يد بني رزين وطليطلة في يد بني ذي النون، وقرطبة في أيدي أبناء جهور، وإشبيلية في يد بني العباد، ومالقة والجزيرة الخضراء في يد بني برزال من البربر، والمرية في يد زهير العامري ثم ابن صمادح، ودانية وأعمالها والجزائر الشرقية «الباليار» في يد مجاهد العامري، وبطليوس ويابرة وشنترين ولشبونة في يد بني الأفطس، وقسمت الأندلس بعد سقوط الأمويين إلى تسع عشرة مملكة، منها قرطبة وإشبيلية وجيان وقرمونة والغرب والجزيرة الخضراء ومرسية وبلنسية ودانية وطرطوشة ولاردة وسرقسطة وطليطلة ولشبونة وغيرها، وكان ذلك بعد ذهاب الحكم من بني أمية سنة 407 ولو لم يتداركها ملك الغرب الأقصى ابن تاشفين أواخر المائة الخامسة لما بقيت في أيدي المسلمين إلى سنة 897ه، ولو لم يقم في سنة 635 رأس ملوك بني الأحمر ويستولي على غرناطة، ويضم إليها بلدانا أخرى مهمة من أمهات مدن الأندلس فيجمع الشمل، لكان المتحتم انحلالها قبل الأوان.
وكان من اختلاف كلمة المتغلبين ووجودهم وسط أعداء أشداء يسعون كل يوم إلى تأييد سلطانهم، والأخذ بالقديم من ثاراتهم، ما قبح أثره، وساء خبره ومخبره، كل هذا وأمراء الطوائف ساهون لاهون «همة أحدهم كأس يشربها، وقينة تسمعه، ولهو يقطع به أيامه.» وبلغ من تخاذلهم أن كان ملوك النصارى يأخذون الإتاوة من ملوكها قاطبة مدة سنين طويلة، وأن يلتجئ أحدهم إلى عدوه الإفرنجي ليعينه على أبيه وأخيه؛ ولذلك رأينا عرب الأندلس يهلكون لانقسامهم على أنفسهم، أكثر من هجمات الأجانب عليهم، والمرض الداخلي أشق من المرض الخارجي.
هذا ما كان من فساد سياسة الأندلس وهناك عوامل اجتماعية كان منها ضعف الأندلسيين، وقد أشار إلى بعضها ابن خلدون في المائة الثامنة، فقال: إنه ذهب من أهل الأندلس رسم التعليم وقلت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمرانهم بها منذ مئين من السنين، ولم يبق من رسم العلم فيهم إلا فن العربية والأدب، وأصبح الفقه رسما خلوا وأثرا بعد عين، والعقليات لا أثر لها ولا عين، فانقطع سند التعليم بتغلب العدو على عامتها، وشغل الناس بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها، وأخذ القوم يتشبهون بالجلالقة في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، قال حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء.
الانحطاط وتعصب الإسبان
أظننا الآن رسمنا صورة صغيرة من الأندلس في حكم العرب، وما أنتجته من خير للمدنية في تلك البلاد وما وراءها، بقي أن نصف ما آلت إليه حالة تلك الأمة مع خصيمتها لما ضعف أمرها، عمل العرب منذ فتحوا أرض الأندلس ما ينفع سكان البلاد الأصليين، وكانوا في أيامهم الطويلة التي دامت ما يقرب من عمر مملكة الرومان مثال المسامحة واللطف والحرية، ولما عاد النصارى فافتتحوا غرناطة آخر معقل للإسلام في أوروبا
17
لم يروا الاقتداء بالتسامح الذي أظهره العرب نحوهم خلال عدة قرون، بل كان منهم على الرغم من المعاهدات المعقودة مع المسلمين، أن اضطهدوا هؤلاء اضطهادا قاسيا، ولم تصح عزيمتهم على طرد العرب طردا نهائيا إلا بعد قرن، فكان التفوق الفكري في العرب من موجبات بقائهم على رأس جميع الصنائع، رغم ما نالهم من الاضطهاد، والحق مع الإسبان في اتهامهم العرب بالاستيلاء على الأعمال جميعها؛ ولذلك طالب الشعب الإسباني بطرد العرب فقط، وأفرط رجال الدين فكانوا يقضون بتقتيلهم على بكرة أبيهم، يحاولون أن لا يبقوا منهم ديارا، وأن لا يعفى من هذا البلاء النساء والشيوخ والأطفال، واتخذ فيليب الثاني طريقا بين بين، مقتصرا في سنة 1610 على إعلان طرد العرب، ومصدرا أمره سرا، بأن يذبح معظمهم قبل أن يتمكنوا من مغادرة أرض إسبانيا، فأهلك نحو ثلاثة أرباعهم.
ولما انتهى الطرد والمذابح عمت الأفراح البلاد، وظهر أن إسبانيا ستدخل في طور جديد، وكان هذا التطور الجديد، فنشأت نتائج عظيمة من هذه الإبادة العامة التي لم يقع لها مثيل في التاريخ، ترك فرديناند للعرب حريتهم الدينية وحرية لغتهم في المعاهدة التي عقدها معهم، ومنذ سنة 1499 بدأ عهد الاضطهادات، فأخذوا يعمدون أبناء العرب بالقوة، مدعين أن العرب كانوا نصارى، وسيقوا إلى ديوان التحقيق الديني فأحرق منهم من استطاع أن يحرقه، وسار هذا العمل ببطء للصعوبة في إحراق عدة ملايين من الأنفس، فاقترح الكردينال رئيس الأساقفة لتطهير أرض إسبانيا من العنصر العربي - وكان هذا الكردينال الحاكم المتحكم في ديوان التحقيق في المملكة ومن كبار أهل الصلاح والتقوى - أن يقتل بالسيف جميع العرب الذين لم يدينوا بالنصرانية وفي جملتهم النساء والأطفال، وكان الدومنيكي «بليدا» أشد قسوة، فقضى أن يقتل العرب بدون استثناء؛ لأنه رأى أنه لا يتأتى أن يعلم إذا كان جميع المهتدين هم نصارى في قلوبهم، ولاحظ، وهو على حق فيما لاحظ ، أنه من السهل على المولى أن يميز في الدار الآخرة بين من يستحقون عذابه ومن لا يستحقونه. يقول فولتير: لما فتحت العرب إسبانيا لم يرغموا قط النصارى الوطنيين على انتحال الإسلام، ولما استولى الإسبان على غرناطة أراد الكردينال كسيمنس أن ينصر كل العرب، دفعته إلى ذلك غيرة دينية، أو طموح إلى إنشاء شعب جديد يخضع لصولته، وأرغم خمسين ألف عربي على أن يحملوا رمز دين لا يؤمنون به.
يقول بليدا الدومنيكي: إنه قتل ثلاثة أرباع من جلوا من العرب في طريقهم إلى دار هجرتهم، قتل مائة ألف من حملة واحدة كانت مؤلفة من 140 ألفا وذلك في الطريق إلى إفريقية، وفقدت إسبانيا في بضعة أشهر مليونا من رعاياها. ويقول سيديليو ومعظم المؤرخين: إن عدد من فقدتهم إسبانيا بلغ ثلاثة ملايين، وذلك من فتوح فرديناند إلى طرد العرب الطرد الأخير، وذكر فاريتي
18
وهو من أعظم مؤرخي إسبانيا أنه نفي من إسبانيا في مختلف العصور مليونان من اليهود، وثلاثة ملايين من العرب والعرب المتنصرين «الموريسك»، وبلغ من هلك من المتنصرة أو استرق منهم أثناء هذه الفاجعة زهاء مائة ألف. قال لبون: إذا قيست مذبحة سان بارتلمي بمثل هذه المجازر عدت مناوشة لا شأن لها، ولم يحدث من أشد الفاتحين توحشا وأقساهم قلبا، حادث مثل هذا نسب إليه ما نسب لهذه المذابح الثلاث، ومن سوء حظ إسبانيا أن هذه الثلاثة ملايين من الرعايا التي حرمتهم إسبانيا باختيارها كانوا يؤلفون الطبقة العالية في العلم والصنائع.
ومع أنه كان في معاهدة تسليم غرناطة
19
شروط كثيرة لحماية أنفس المسلمين وأموالهم وإطلاق الحرية الدينية لهم ليقوموا بشعائر دينهم على ما يحبون لم تنفذ هذه الشروط زمنا طويلا، وبدأ التنصير في غرناطة بتحريض الكردينال سيزمروس ورئيس الأساقفة فيها منذ سنة 1499، وأخذ هذا الكردينال يدعو المسلمين إلى انتحال النصرانية بالمواعظ والخطب، ثم حاول أن يرفع ما أمكن الكتب العربية في مختلف فروع العلوم الإسلامية فأمر بإحراقها فثار المسلمون في البيازين والبشرات والمرية وباجة وقادس ورندة، ورأت إسبانيا في سنة 1501 أن تخير المسلمين بين الهجرة أو التنصر، والظاهر أن هذا الأمر لم يطبق بحذافيره وظل المسلمون في الجبال في حالة أشبه بنصف استقلال أكثر من نصف قرن، ثم نصر جميع المسلمين في قشتالة وترك مسلمو أرجون ثم تنصر كثير من المسلمين في شنت مارية الشرق على الوادي الكبير في السنين الأولى من القرن السادس عشر. وفي سنة 1566 صدرت أوامر مجريط تحظر على من بقي من المسلمين في إسبانيا استعمال اللغة العربية وكان ضعف أمرها حتى بين المسلمين، وأمروا بأن يتركوا شعائرهم وينزعوا لباسهم ويبدلوا طراز معيشتهم، فثار المسلمون في غرناطة والبشرات ودامت الحرب سنين حتى صدر الأمر الأخير بطرد العرب سنة 1604، فرحل في سنتين عن إسبانيا نحو نصف مليون مسلم وطويت صحيفة الإسلام في شبه جزيرة الأندلس.
أما بلاد البرتقال، أو القسم المعروف بالأندلس أيضا من ديار البرتقال؛ فقد استولى عليها العرب عدة سنين وتخلوا عنها ثم عادوا إليها، ولما جلا العرب من لشبونة قبل جلائهم عن غرناطة بزمان طويل عاملهم البرتقاليون بمعاونة
20
قرصان من الفرنسيس والإنجليز والنورميين والألمان والبلجيكيين معاملة قاسية: قتلوا الأطفال والرجال، وسبوا الأعراض ودنسوا كل شيء وأحرقوا أقوات المدينة، فهلك نيف وعشرون ألف نسمة. ذكر ذلك المؤرخ البرتقالي هركولانو مستشهدا بمؤرخي البرتقال، ولما أراد الإفرنج القضاء على دولة الموحدين بالأندلس (605ه) نادى البابا بالحرب المقدسة فخفت جيوش النصرانية من إيطاليا وفرنسا وألمانيا واتحدت قواتها بإسبانيا وتم للإسبان ما أرادوا.
أباد الإسبانيون في الأندلس كل أثر للعرب، فخربوا بيوتهم بأيديهم، ومن أهم ما قضوا عليه كتب العرب؛ فقد أمر
21
الكردينال كسيمنس - أعدى عدو للإسلام والمدنية - في سنة 1511 بعد أن أحرق في ساحات غرناطة كمية من كتب العرب، ولا سيما المصاحف المخطوطة، أن تباد كتب العرب من بلاد إسبانيا عامة، فتم ذلك بغيرة عمياء مدة نصف قرن، ولولا تلك المترجمات إلى العربية واللاتينية لقضي على الحضارة العربية بجملتها، وكاد ديوان التحقيق الديني الذي أخذ على نفسه إبادة كل أثر للعرب أن يجعل طعاما للنار تلك المخطوطات العربية التي حفظت في خزائن كتب الأسكوريال، لولا أن تلطف المركيز فيلادا وحال دون إحراقها.
قام العرب بصنيعهم من تمدين إسبانيا قرونا طويلة، ونقلوا المدنية إلى الممالك الأخرى ، فكان جزاؤهم يوم ضعفت سياستهم، أن يقتلوا شر قتلة، وتباد آثارهم أي إبادة، ولم يستفد قطر من أقطار الغرب ما استفادته إسبانيا من العرب، ولما جلوا عنها نعق فيها غراب الدمار وفقدت صنائعها وزراعاتها وعلومها، وأصبحت إسبانيا بعد مدة من خروج العرب أحط بلاد الغرب. قال ستانلي لانبول: «إن فضل مسلمي الأندلس يتجلى في همجية الإسبان وتراجعهم في مراقي النجاح، بعد أن خلت أرضهم من الإسلام.» وقال لبون: «ظن الكاردينال كسيمنس لما أحرق في غرناطة كل ما طالت يده إليه من مخطوطات العرب وكانت ثمانين ألفا - عدا ما أحرق في المدن الأخرى - أنه يحذف إلى الأبد من كتاب التاريخ ذكرى أعداء دينه، ولكن الأعمال التي قامت على أيديهم في تلك الأرض تكفي لتخليد ذكرهم على الدهر، وإن نفدت آثارهم المكتوبة.»
مدنية العرب في جزيرة صقلية
العرب في حوض البحر المتوسط وغزو صقلية
قلنا: إن البحر المتوسط غدا لغزوات العرب بحرا عربيا منذ أوائل الفتح كبحر فارس وبحر الظلمات والمحيط الهندي، وغلب المسلمون كما قال ابن خلدون على هذا البحر (يعني بحر الروم أو البحر المتوسط) من جميع جوانبه: «وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم، فكانت لهم المقامات المعلومات من الفتح والغنائم، وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وإقريطش وقبرص وسائر ممالك الروم والإفرنج.» قال: «والمسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على الأكثر من لجة هذا البحر، وسارت أساطيلهم فيه جائية ذاهبة، والعساكر الإسلامية تجيز البحر في أساطيلهم من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية، فتوقع بملوك الإفرنج وتثخن في ممالكهم، كما وقع في أيام بني أبي الحسين ملوك صقلية القائمين بدعوة العبيديين، وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي من سواحل الإفرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها، وأساطيل المسلمين قد ضريت عليهم ضراء الأسد بفريسته، وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة وعددا، واختلفت في طرقه سلما وحربا، فلم تسبح فيه للنصرانية ألواح.»
وهذا أجمل وصف لحال البحر المتوسط وما آل إليه في الإسلام، وقد غزا العرب جزيرة صقلية أكبر جزائر هذا البحر في خلافة عثمان يوم قضى أسطول معاوية بن أبي سفيان على الأسطول الرومي في لجة الإسكندرية (654م) وهي غزوة الصواري (34ه)، وكان قسطنطين بن هرقل في ألف مركب ويقال في سبعمائة والمسلمون في مائتي مركب ونحوها فانهزم الروم، وغزاها عبد الله بن قيس الفزاري
1
من قبل معاوية بن حديج الكندي ففتح وسبى وغنم وذهب إليها عبد الله بن قيس لكشف حالها سنة 45 للهجرة (665-666م)، ثم وافاها لهذا الغرض غير واحد من القواد في أوقات مختلفة، وكان مما غنم عبد الله بن قيس من صقلية أصنام من ذهب وفضة مكللة بالجواهر، فحملها معاوية بن أبي سفيان من دمشق، وأنفذها إلى البصرة ومنها إلى الهند لتباع فيها؛ لأنه رأى بيعها قائمة أكثر لثمنها، ولم يبال انتقاد المنتقدين له من المسلمين،
2
وأخرج معاوية الخمس من الغنائم ووجهه إلى عثمان وكتب إليه بسلامة المسلمين، وبما كان من أمر صقلية، ففرح الخليفة بذلك، ولم تزل صقلية تغزي في أوقات مختلفة، ويكون المتعهد لغزوها صاحب تونس، غزاها عياش بن أخيل من جماعة موسى بن نصير أواخر المائة الأولى، ومحمد بن يزيد الأنصاري أوائل المائة الثانية، وغزاها وسردانية بعد الثلاثين ومائة عبد الرحمن بن حبيب الفهري، وغزاها ابن الأغلب إلى أن استقر فيها المسلمون سنة 212ه على يد أسد بن الفرات، أرسله إليها زيادة الله بن الأغلب من تونس في عشرة آلاف مقاتل ومائة سفينة ثم عززها بعشرين ألف مقاتل وأسطول ضخم مؤلف من ثلاثمائة سفينة، ولما تم الفتح كتب زيادة الله إلى المأمون العباسي في بغداد يبشره به، ودام حصار بلرم عاصمة الجزيرة خمس سنين (215-222ه) وغزاها ابن الأغلب في سنة 244، وغزاها الواثق العباسي وافتتح مدينة مسينة سنة 229 وعبد الله المهدي سنة 304؛ لأن أهلها خالفوه فهدم سورها، وفتحها المعز سنة 345، وافتتح بعض مدنها علي بن يوسف بن تاشفين بعد سنة 515.
يقول المؤرخ الإنكليزي سنجر:
3
إن صقلية دانت للعرب بعد أن كانت تحت حكم الإمبراطورية البيزنطية، وسقطت بلرم عام 831، وكان النصر حليف الهلال الذي امتد سلطانه عام 846 إلى رومية نفسها، كما سقطت من قبلها طارانت عام 840 وتم امتلاك العرب ولايات جنوبي إيطاليا، كما استسلمت نابل وسالرن، أما مونت كاسينو المشهور بدير الرهبان البندكتيين العظيم الواقع في موقع حصين على بعد 25 ميلا إلى الداخل و70 ميلا من سالرن فوقع في قبضة العرب سنة 884، وبهذا تم فتح العرب هناك.
العرب في جنوبي إيطاليا
ويطيب لنا أن نقف هنا وقفة قصيرة بعد أن عرفنا استصفاء العرب جزيرة صقلية، ورسوخ أقدامهم فيها أكثر من قرنين، لنعرف إذا كان هممهم في البحر الرومي وقفت عند حد ما فتحوه من الجزر والبلدان والحصون، أم إنهم تعدوها إلى ما وراء ذلك، فالتاريخ يحدثنا أنهم استولوا على عدة ولايات من جنوبي إيطاليا وكانوا يطلقون على أرض إيطاليا البر الطويل أو الأرض الكبيرة، وقد أخذوا قلورية واستولوا على طارنت وبارة وريو وغيرها من بلاد إنكبردة وبوليه وفتحوا جنوة ووصلوا إلى رومية.
يطلق اسم لنكبردة
Longbardia
أو
Langobardia ،
4
أو لمبارديا
Lombardia
عند الإيطاليين على عدة مدن: (1) مملكة لنكبردة الإيطالية، أي الدولة التي أنشأها الغزاة من اللنكبرديين التي دامت من سنة 568-774م، وكانت في أيام عظمتها عبارة عن إيطاليا الشمالية (ما عدا البندقية وإيستريا ونيابة رافنا اليونانية، وهي جزء عظيم جدا من إيطاليا الوسطى وإيطاليا الجنوبية ما عدا إقليم نابل وقلورية)، (2) مجموع الدوقات اللنكبردية التي بقيت بعد سقوط مملكة لنكبردة أي دوقيات بنفنتو
Benevento
وكابوا
Capua
وسلرن
Salerne
في إيطاليا الجنوبية، (3) ما يعرف عند اليونان باسم لابوكليا (بوليه أو أبوليه) وقد عادوا إلى استخلاصها أواخر القرن العاشر، وتبدل اسم لنكبردة في العهد الحديث باسم لمبارديا وهي تتناول الإقليم الذي كان منه نواة مملكة لنكبردة القديمة، وهذا الاسم اليوم يطلق على مجموع ولايات ميلانو وبركامو وبرشيا وكومو وكريمونا ومانتوفا وبافيا وسوندريو وفاريسي، ويطلق الشريف الإدريسي على هذه الولايات اسم «أنبرضية».
وقد كانت جميع إيطاليا الجنوبية في القرن التاسع من الميلاد داخلة في الإمارة اللنكبردية المعروفة بإمارة بنفنتو الملاصقة من الشمال دوقيتي رومية وسبولتو
Spolto ، بمعنى أن الحد الشمالي من الإمارة يبتدئ من مصب نهر ترنيو في بحر الأدرياتيك (جون البندقية) واصلا إلى تراسينا في بحر ترانو أو تيرين تاركا للإمارة الأرض الشمالية من إيزرينا وكاسينو وسورا، وتتصل الإمارة من الجنوب بمعظم بلاد أبوليه أو بوليه
أو
، ويدخل فيها أرض طارنت وبرندزي وبارة
Bari
وجميع بلاد قلورية
5
الشمالية إلى جنوب أرض كوزنزا، وكانت الأجزاء الجنوبية من أرض أبوليه وقلورية تعد من مملكة بيزنطية، واحتفظت الثلاث دوقيات الواقعة على بحر تيرانو وهي غايتا ونابل وأمالفي باستقلالها، فلم يكن لإمارة بنفنتو سلطان عليها، وهي مرتبطة بالاسم بمملكة الروم البيزنطية، واضطرت دوقية نابل دفاعا عن نفسها من مطامع أمراء بنفنتو إلى أن تحالف العرب في صقلية سنة 835، وقد دامت هذه المحالفة إلى سنة 900م.
وحدثت مذابح عظيمة بين أميرين من أمراء تلك الأرجاء سنة 839 فاضطر كلاهما أن يفزع إلى حماية الجيوش العربية، ثم تصافيا في سنة 849 على تقسيم الإمارة إلى قسمين: أطلق على القسم الشرقي منها إمارة بنفنتو، وعلى القسم الثاني الشرقي إمارة سالرن. وتولى المسلمون في بلرم عاصمة جزيرة صقلية غزو البحر من ناحية إيطاليا الشرقية وفي سنة 838 احتلوا برندزي، فحاول أمير تلك الجهة أن يدفعهم عنها فما استطاع إلى ذلك سبيلا، ثم بلغ المسلمين أنه يعد حملة عظيمة فأحرقوا برندزي وعادوا إلى صقلية على مراكبهم، واحتل عرب صقلية طارانت سنة 840م وهي قاعدة بحرية مهمة في بحر الأدرياتيك، ثم خلفهم فيها بعد حين عرب جزيرة أقريطش (كريت 842 أو 843م).
وخاف البنادقة على تجارتهم ودفعهم إمبراطور الروم تيوفيل إلى حرب العرب؛ فجهزوا أسطولا مؤلفا من ستين مركبا فأقلع إلى صقلية والتقى بالأسطول الإسلامي أمام طارانت فهلك معظم البنادقة وأسر من ظل حيا، وتقدم المسلمون بأسطولهم نحو الجزء الشمالي من بحر الأدرياتيك من نحو دلماسيا فنهبوا وأحرقوا (840م) مدينة أوسرو في جزيرة كرسو، واجتازوا البحر في العرض نفسه فأسروا أناسا من أنكونا، ولما عادوا إلى مستقرهم غنموا عدة سفن للبنادقة، وهذه الغزوات هي التي أشار إليها ابن الأثير في حوادث سنة خمس وعشرين ومائتين فقال: إن أسطول المسلمين سار إلى قلورية وفتحها، ولقوا أسطول صاحب القسطنطينية فهزموه بعد قتال فعاد الأسطول إلى القسطنطينية مهزوما فكان فتحا عظيما. ويقصد بقلورية الجزء الذي يسمى اليوم شبه جزيرة سالانتينا، وهو الجزء الجنوبي من أبوليه، وفيه طارنت وبرندزي.
ودخل العرب في سنة 841 خليج كارنار وهزموا أسطول البنادقة شر هزيمة بالقرب من جزيرة سانسغو، والظاهر أن قوات العرب في صقلية انضمت هذه المرة إلى قوات عرب أقريطش فاستولوا على بارة وأحرقوا مدينة كابوا، ثم قويت المنافسة بين الأميرين الحاكمين على تلك الأرجاء من الطليان، فلجأ أحدهما إلى العسكر الإسلامي من الإفريقيين، واعتصم الآخر بالمسلمين من أهل أقريطش، وعاد المسلمون فاحتلوا طارنت مرة ثانية في تلك السنة، وتبدلت الحال في سنة 849م بين المتنازعين على الإمارة ثم تصالحا واقتسما إمارة بنفنتو مشترطين أن لا يلجأ أحدهما إلى المسلمين، وقتل القائد المسلم وجنده في معسكر ملك فرنسا لويز الثاني سنة 851، ثم عاد العرب فحاصروا طارنت بأمر العباس بن الفضل الذي أسكن المسلمين في أرض قلورية (225ه).
وظلت بارة إمارة إسلامية تواتر غزواتها على الأصقاع المتاخمة، وفي تلك الحقبة في الغالب سار المفرج بن سلام وفتح أربعة وعشرين حصنا استولى عليها، كما قال البلاذري، وكتب إلى صاحب البريد بمصر يعلمه خبره وأنه لا يرى لنفسه ومن معه من المسلمين صلاة إلا بأن يعقد له الإمام على ناحيته ويوليه إياها ليخرج من حد المتغلبين، وبنى مسجدا جامعا، ولعل هذا الفاتح كان من أهل أقريطش لا صلة له مع الآغالبة في إفريقية فعمد إلى الخلافة العباسية في بغداد يراجعها مباشرة لتصح ولايته، والغالب أن سلطة المفرج بن سلام امتدت إلى سائر بلاد أبوليه، ثم قام الأمير سعران وأخرب إيطاليا الجنوبية ووصلت غاراته إلى جنوبي نابل وسالرن، واشتهر بالإثخان في أهلها إلى أن جاء لويز الثاني ملك فرنسا فنزل إيطاليا وفتح بها سنة 871 مدينة بارة، وقتل كثيرا من المسلمين وبذلك انتهت مدة حكم العرب في بارة بعد أن دام تسعا وعشرين سنة (842-871م)، ولم يخلف المسلمون شيئا في تلك الأرجاء من آثار علمهم وصنائعهم كما كان منهم في جزيرة صقلية؛ لأن مقامهم فيها لم يطل.
فالعرب أنشأوا والحالة هذه إمارة في بارة، وكان العراك بينهم وبين النصارى من أهل جنوبي إيطاليا على أشده من سنة 875 إلى 902م، وأنشأوا إمارة صغرى في سنة 883م في البلاد الواقعة في مصب نهر كاريكليانو
Garigliano
في بحر تيرين (شرقي غايتا أو بحر طسقانة قديما)، ودامت هذه الدولة إلى سنة 915م، واستولت العرب على جنوة سنة 323ه، ثم رحلوا عنها بعد أن نهبوها، واحتلال المسلمين إقليم قلورية كان متقطعا، انتقلت عدة أماكن ومقاطعات منها من أيدي العرب إلى أيدي النصارى وبالعكس، ولم يحتل العرب رومية ولا نهبوها بل بلغوا ربضها في سنة 846م، ونهبوا بيعتي القديس بطرس والقديس بولس، وكانتا إذ ذاك خارج أسوار المدينة، وانهال عليهم أهل القرى فاضطروا إلى الرجوع عنها، وبنى الحسن بن علي في ريو
Reggio
مسجدا كبيرا وجعل في أحد أركانه مأذنة وشرط على الروم أن لا يمنعوا المسلمين من عمارته وإقامة الصلاة فيه والآذان وأن لا يدخله نصراني، ومن دخله من الأسارى المسلمين فهو آمن سواء كان مرتدا أو مقيما على دينه، وإن خربوا حجرا منه هدمت كنائسهم كلها بصقلية وإفريقية وأن الروم وفوا بهذه الشروط كلها، بيد أن مسجد ريو لم يدم عامرا غير أربع سنين.
تقويم جزيرة صقلية وعمل العرب فيها
طول هذه الجزيرة بحسب تعريف القدماء سبعة أيام في أربعة أيام، تدار في خمسة عشر يوما، ومساحتها السطحية 25740 كيلو مترا مربعا على اصطلاح المحدثين، وكانت في كل أدوارها مطمح أنظار الفاتحين من الدول البحرية؛ لأنها من أهم منازل الاتصال بين إفريقية وأوروبا وآسيا، وقالوا: إنه كان فيها آخر أيام العرب مائة بلد وثلاثون بلدا بين مدينة وقلعة غير ما بها من الضياع والمنازل والبقاع، ومن مدنها الخالصة، أطرابنش، مازر، جرجنت، بثيرة، سرقوسة، قطانية، بطرنوا، ميقس، مسينة، رمطة دمنس، قلعة القوارب، قلعة الصراط، قلعة البلوط، قلعة أبي ثور، بطرلية، ثرمة، قرليون ، برطفيف، برطنة.
ولما استولى الفاتحون من العرب على صقلية تركوا لأهلها عاداتهم وقوانينهم وحريتهم الدينية المطلقة،
6
واكتفوا منها بجباية قليلة، وكان مقدارها أقل مما كانت عليه على عهد اليونان، وأعفوا منها الرهبان والنساء والأولاد، وحافظوا على جميع الكنائس التي وجدوها لكنهم لم يسمحوا بإنشاء غيرها، على خلاف ما جروا عليه في الأندلس، وعمدوا إلى الزراعة والصنائع فأحيوها، وأدخلوا في الجزيرة أصنافا من الزراعة لم تكن تعرفها، ومنها البردي والمران، وأقاموا المجاري التي لم تبرح ماثلة للعيان، وعلموا الناس عمل القنى ذات الأنابيب العقف «السيفونات»، وكانت قبلهم غير معروفة، وأنشأوا في الجزيرة مصانع لصنع الورق، ومنها انتشرت صناعة الورق في إيطاليا، وعدنوا مناجم الجزيرة وفيها الذهب والفضة والشب والكحل والزاج والحديد والرصاص والنوشادر، وعلموا أهلها صنع الحرير. وفي مدينة نورمبرج اليوم رداء حرير كان لملوك صقلية، وفيه كتابة بحروف كوفية تاريخها سنة 520 مما يدعو إلى الاعتقاد بأن صناعة صبغ الأقمشة انتشرت في أوروبا من صقلية، ومن مصانعهم كانت تصدر الأقمشة
7
المحلاة بالجواهر والطنافس المصورة أنواع الصور، والجلد المدبوغ، والحلي البديع الذي كان يعمل في مصانع بلرم ومازر، وكان مما يتنافس فيه، وله الصيت الذائع في قصور الملوك في الشرق والغرب، وكانت التجارة قبل العرب ضئيلة جدا في هذه الجزيرة، فأصبحت على عهدهم متشعبة النواحي غزيرة المواد، والعرب يصنعون سفنهم في دور الصناعة في تونس وبعض مواني الجزيرة.
ويقول دييل: إن العرب حملوا معهم إلى جزيرة صقلية مظاهر غريبة من فنهم، وقناطرهم العالية الجميلة، ونقوشهم من المقرنصات، وجمال قاشانيهم ذي الميناء، وفسيفساءهم المعمولة من الرخام الملون، وصورهم الجميلة، وبهيج صناعاتهم الصادرة عن علمهم، وهي من الأعمال الخاصة بالمترفين وأرباب النعيم، وكل ذلك لم يضمحل كل الاضمحلال، لما استولى على الجزيرة سادة جدد بعد أمراء المسلمين، فإن مصانع الدور العربي كانت مثالا ينسج عليه في إقامة مصانع العهد النورماني، وكان المهندسون والبناءون من العرب الذين عملوا للأمراء وحملوا إلى ملوك النورمانيين علومهم وإرث تقاليدهم، ولكنهم كانوا أسعد ممن سلفهم؛ ذلك لأن الحظ حظهم ، فكانت أعمالهم أكثر خلودا وبقاء، وقال أيضا لما سقطت بلرم في أيدي العرب سنة 831م، لم يكن فيها سوى ثلاثة آلاف نسمة، فلما غدت عاصمة أمراء المسلمين دخلت حالا في مضمار الفنون، وكانت خلال عدة قرون في درجة عالية من الحضارة لم يسمع بمثلها.
وقال: إن العرب في صقلية خلفوا اليونان، وفي خلال قرنين كانت لهم حكومة ذات مجد ورقي، وأدخلوا إلى صقلية العنصر الإسلامي الذي زاد كثيرا في الغرب وفي وسط الجزيرة، فأصبحت نصف صقلية أواخر القرن الحادي عشر من العرب وباقيها من اليونان، قال: ثم سار النورمان في صقلية على سياسة لم يجعلوا بها فارقا بين الكاثوليك واليونان والمسلمين، على نحو ما فعل النورمان في الشام بعد قليل، عرفوا كيف يقتبسون العادات ويتخلقون بأخلاق رعاياهم، مراعين كلا منهم، موزعين فيهم عطاياهم على السواء، وهكذا ظلوا نورمانيين بأصولهم وغدوا بيزنطيين وعربا بمدنيتهم، وكانوا في وسط القرن الحادي عشر مثالا جميلا نادرا في باب التسامح السياسي وعدم التحزب الديني.
ويقال على الجملة: إن العرب استولوا على صقلية في زمن كانت تتلألأ فيه مدنيتهم في الشرق والغرب، فنقلوا إليها كل علومهم وصنائعهم وعوائدهم وآدابهم، وكان الرعايا المغلوبون على أمرهم يعيشون كما قال آماري في كتابه «المسلمون في صقلية» في راحة وسرور على عهد حكامها من أمراء المسلمين، وحالتهم أحسن بكثير من حالة إخوانهم الإيطاليين الذين كانوا يرزحون تحت نير اللنجورمانيين، والفرنجة. وقال توفنر:
8
منذ الفتح الإسلامي إلى القرن التاسع عشر لم يبرح الشعب النصراني في صقلية ينتقل من يد غريبة إلى يد مثلها غريبة، وما استطاع أن يحكم نفسه بنفسه، وقد بلغ أعلى درجات حضارته بعد القرن الرابع على عهد حكومة المسلمين غير النصارى وعلى عهد النورمانيين الذين دانوا بالنصرانية حديثا.
عمران صقلية
ولقد استكثر المسلمون في جميع بلاد صقلية من الجوامع، ومنها ما كان من الطراز الجميل وقد وصف الإدريسي والقزويني وابن حوقل وياقوت ما كان في هذه البلاد، فقالوا: كانت صفة الجامع الأعظم في بلرم «تغرب عن الأذهان لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المفتعلة والمنتخبة والمخترعة، ومن أصناف التصاوير وأجناس التزاويق والكتابات.» وكان في بلرم نيف وثلاثمائة مسجد، وقد كثرت الجوامع في أكثر المدن مثل قطانية، وكان في قرية البيضاء مائتا مسجد، قال ابن حوقل: «ولم أر مثل هذه العدة في بلد من البلدان الكبار على ضعف مساحتها ولا سمعت به.» ووصف الإدريسي مدينة بلرم، فقال: «إن بها أحسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها، في بنائها ودقائق صناعاتها، وبدائع مخترعاتها، وهي على قسمين قصر وربض، فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم، وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة: فالسماط الأول يشتمل على قصور منيفة ومنازل شامخة شريفة، وكثير من المساجد والفنادق والحمامات، وحوانيت التجار الكبار؛ والسماطان الباقيات فيهما أيضا قصور سامية ومبان فاخرة عالية.» وكان للمسلمين في القرن الحادي عشر في كل مدينة من مدن صقلية أحياء خاصة ينزلونها، ولهم أسواقهم وحكامهم وحرياتهم، والجوامع مفتحة، والحرية الدينية شاملة، والكنائس تناوح الجوامع.
رجال صقلية
أخرجت صقلية جملة من العلماء والمحدثين والفقهاء والأدباء والأطباء والفلاسفة، وكان في طليعتهم أسد بن الفرات وهو من أصحاب مالك، وأسد بن الحرث صاحب الأسديات في الفقه وكان من أعيان الكتاب، والقاضي ميمون بن عمر، وابن حمديس الصقلي الشاعر المبدع صاحب الديوان، وهو القائل عند الجلاء يذكر صقلية:
ذكرت صقلية والأسى
يهيج للنفس تذكارها
فإن كنت أخرجت من جنة
فإني أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكا
ء حسبت دموعي أنهارها
ضحكت ابن عشرين من صبوة
بكيت ابن ستين أوزارها
ومن رجال صقلية أبو عرب الصقلي وابن بشرون وابن الفحام والشريف الإدريسي وابن ظفر وابن القطاع صاحب الدرة الخطيرة والمختار من شعراء الجزيرة جزيرة صقلية، أورد فيه مائة وسبعين شاعرا، والحسن بن يحيى يعرف بابن الخزاز وهو صاحب تاريخ صقلية، وللجغرافي ابن حوقل كتاب في محاسن أهل صقلية وكان زارها في سنة 362ه، ومنهم ابن سابق وعيسى بن عبد المنعم وابنه محمد، وهذا من أهل العلم بالهندسة والنجوم والحكمة، والطبيب أبو سعيد بن إبراهيم صاحب المنجح في التداوي، وابن القوني الكاتب، وأبو عبد الله الصقلي الفيلسوف، وعبد العزيز الأغلبي الكاتب، والمهري والقضاعي والصباغ ومنهم السرقوسي والمازري صاحب التآليف المشهورة والبثيري والكركنتي والشافي والطرابنشي والبلنوبي والسمنطاوي، نسبة إلى مدن في الجزيرة معروفة، هذا إلى عشرات غيرهم كان لهم الفضل على الأمة العربية بتصانيفهم وتحقيقاتهم وصناعاتهم، وما فيهم إلا العالم والأديب والحكيم والمنجم والطبيب والمهندس، وكان لهم يد على الجزيرة بإنهاضها في مادياتها ومعنوياتها.
خروج المسلمين من صقلية واستيلاء النورمانيين عليها
دان معظم أهل صقلية بالإسلام وكثر سكانها حتى قيل: إن
9
أهل واد واحد من أوديتها، وهو وادي مازر بلغ سكانه ألفي ألف ساكن، ولما أخضع النورمانيون صقلية سنة 1090م كان فيها أربعة عناصر: الروم والعرب واللنكبرديون (النورمانيون والبروتونيون) واليهود، يتكلم كل عنصر لغته ويخضع لشرائع بلاده، وحاسن الأمراء الذين تولوها من في جوارهم من الحكومات النصرانية، وكان من أمرائها بنو أبي الحسين المشهورين بالكلبيين
10
اتصلت أيام إمارتهم بها زمنا طويلا، وإليهم أشار ابن خلدون وقال: إنهم ملوكها، وكان واليها في أواخر عهد حكم العرب فيها يدعى البعباع بعث إليه صاحب مصر في بعض الروايات يطلب منه المال، وكان عاجزا عما طلب منه، فبعث إلى الفرنج ففتح لهم البلد فدخلوه وملكوا الجزيرة، ويعني بالفرنج ملك إيطاليا ولنكبردة وقلورية، وفي رواية أن الاختلاف كان بين عمال الجزيرة، وانفرد كل إنسان ببلد، فاستنصر ابن التمنة
11
المتغلب على سرقوسة وقطانية بالفرنج في مدينة مالطة، وكان ملكها روجر وهون عليه أمر المسلمين فسار الفرنج وابن التمنة إلى البلاد التي بأيدي المسلمين في سنة أربع وأربعين وأربعمائة واستولوا على مواضع كثيرة من الجزيرة، ففارقها حينئذ خلق كثير من أهلها من العلماء والصلحاء، وسار جماعة إلى المعز بن باديس في إفريقية، ولم يثبت بين أيديهما غير قصريانة وجرجنت وحصرهما الفرنج وطال الحصار عليهما حتى فتحهما روجر سنة 484ه؛ لانقطاع أمداد المسلمين ولاشتغال كل جهة بما يخصها من الفتن، وساق ابن التمنة إلى هذه الخيانة خلاف وقع بينه وبين أمير قصريانة، فدعا إلى معاونته جيرانه روبير كيسكار وروجر من أبناء تنكريت دي هوتفيل ودوكات يولية وقلورية فجاءوا وعملوا لما فيه مصلحتهم لا مصلحة من دعاهم، وكان من ذلك فتح الجزيرة.
وعقد ملوك صنهاجة، ولا سيما ابن باديس، هدنة مع ملوك النصارى في صقلية وأخذوا يتبادلون الهدايا والأعلاق وكان ذلك في سنة 529ه. وقال الإدريسي: إن روجر افتتح غربي بلاد الجزيرة في سنة 453ه وما زال يشن الغارات على الباقي حتى أكمل فتحها في ثلاثين عاما، فنشر في أهلها سيرة العدل وأقرهم على أديانهم وشرائعهم، وأمنهم في أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم، وكانت المدينة قد بلغت أوجها
12
في الفتح النورماني، ونجا العرب من الحروب فانصرفوا إلى العلم والآداب، ورأوا من الفاتح الجديد حاميا لهم ونصيرا، فأصبحوا في عهده بمأمن ودعة، أما روجر النورماني فقد اتهم بأنه دان بالإسلام؛ لأنه حاسن المسلمين، ولم يجعل سبيلا لرؤساء الدين من قومه إلى التسلط عليهم، فأبقى الحكام والقواد منهم في مناصبهم على ما كانوا عليه في عهد العرب، واستولى المسلمون على أزمة التجارة، وكان كبار رجال المال منهم، ورأى روجر بثقوب ذهنه أن يسير في سياسته مع السواد الأعظم من أهل الجزيرة وهم العرب، وجعل في بلاطه الأطباء والمنجمين وأرباب القرائح من المسلمين، واحتفظ بأصول العرب في الجباية، وكان يحسن العربية ويحبها، والنورمانيون جاءوا لأول أمرهم من بلاد سكاندافيا في شمالي أوروبا وظلوا مجوسا إلى القرن العاشر للميلاد وفيه انتحلوا النصرانية.
وروجر
13
هذا هو الذي استقدم الشريف الإدريسي صاحب كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» من بر العدوة ليضع له شيئا في شكل صورة العالم وبالغ في تعظيمه من وراء الغاية، وصنع له هذا الشكل فأعجب به، وأراده على أن يبقى في بلاده قائلا له: «أنت من بيت الخلافة ومتى كنت بين المسلمين عمل ملوكهم على قتلك، ومتى كنت عندي أمنت على نفسك.» فأجابه إلى ذلك، فرتب له كفاية لا تكون إلا للملوك، وطلب إليه أن يحقق أخبار البلاد بالمعاينة، لا بما ينقل من الكتب، فوقع اختيارهما على أناس ألباء فطناء أذكياء، وجهزهم روجر إلى أقاليم الشرق والغرب جنوبا وشمالا، وسفر معهم قوما مصورين ليصوروا ما يشاهدونه عيانا، وأمرهم بالتقصي والاستيعاب لما لا بد من معرفته، فكان إذا حضر أحد منهم بشكل أثبته الشريف الإدريسي حتى تكامل له ما أراد، وجعله مصنفا، وهو كتاب نزهة المشتاق.
هكذا كان روجر في معاملته علماء العرب والانتفاع بعلمهم، وقد غادر كثير من العرب الجزيرة في الفتح النورماني قاصدين إلى بر العدوة من إفريقية على السفن الكثيرة التي كانت لهم، ومنهم وهم السواد الأعظم من اختاروا المقام في الجزيرة فطاب لهم بما رأوا من الرعاية والأمنة، حتى إن ابن جبير الرحالة لما مر بالجزيرة سنة 580 أي بعد ست وتسعين سنة من خروجها عن حكم العرب، أثنى على غليام صاحبها، وقال: إنه عجيب
14
في حسن السيرة واستعمال المسلمين، وإنه كثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله، وله الأطباء والمنجمون وهو شديد الحرص عليهم، وقال: إن زي النصرانيات في مدينة صقلية مثل زي نساء المسلمين يخرجن ملتحفات متنقبات.
وحرص روجر الثاني وابنه وغليام على استعمال المسلمين جريا على خطة روجر الأول؛ فتركوا لهم حريتهم، ينعمون بضياعهم وأموالهم ومتاجرهم ومصانعهم، وكان هؤلاء الملوك يحسنون العربية ويطربون لشعرها وأدبها، وكان فريدريك الثاني كثير العناية بالعربية وآدابها، وقد ضرب فيها بسهم وافر، وظلت اللغة العربية في الجزيرة اللغة الرسمية، وكان من العرب معلمون وأساتذة وعمال مهرة،
15
ولا تزال براءات ملوك النورمانيين مكتوبة بالعربية واللاتينية واليونانية، وكانت العربية إحدى اللغات التي تضرب بها نقودهم، وعليها شارتا الإسلام والنصرانية، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل كان يوضع عليها أيضا «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، واستمر الأمراء الذين خلفوا النورمانيين على ضرب نقودهم بالعربية زمنا.
وما برح النورمانيون جارين على سنن روجر الأول صاحب صقلية في الاعتماد على العرب، ورعايتهم ظاهرا وباطنا، وكذلك كان العرب في إخلاصهم حتى إن القاضي جمال الدين بن واصل قاضي القضاة بحماة الفيلسوف المؤرخ، كان أرسله الظاهر بيبرس سفيرا إلى الإمبراطور صاحب صقلية في سنة 659ه، فقال فيه: إنه كان مصافيا للمسلمين ويحب العلماء، وإنه بالقرب من البلد الذي كان فيه مدينة تسمى لوجارة، أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية، تقام فيها الجمعة ويعلن بشعار الإسلام، وكان أكثر أصحاب الإمبراطور مسلمين ويعلن بالآذان والصلاة في معسكره. وقال: إنه عند توجهه من عند الإمبراطور اتفق البابا خليفة الفرنج وريدا فرنس على قصد الإمبراطور وقتاله، بسبب ميله إلى المسلمين؛ ولذلك كان البابا قد حرمه، وقد غلبه الفرنج وذبحوه، وملكوا أخا ريدافرنس في سنة 663.
تنصير بقايا الصقليين
وعلى رواية ابن واصل تكون صقلية قد ظلت في حكم النورمانيين السعيد 179 سنة كان فيها المسلمون في راحة. ويقول رينالدي: إن التعصب الديني لم يتأخر لحظة واحدة عن الظهور بعد زوال ملك المسلمين من صقلية، فاضطر المسلمون أن ينتحلوا النصرانية فاختلطوا بطبقة الشعب، وهذا ما وقع أيضا لمدينة لوشيرا «الغالب هي لوجارة»، فقد سمح لهم شارل الثاني بالبقاء في ملكه على أن يتنصروا وعرف أولادهم بعدهم باسم مرانه
Marrani
وهي كلمة عربية أخذها الطليان عن الإسبان، وكانوا يلقبون بها المسلمين الذين دانوا بالنصرانية في الأندلس، وكذلك كانت مدينة لوشيرا مدينة إسلامية محضة حتى إن كلمة «سكان لوشيرا
Lucerini » كانت تؤدي معنى الشرقيين أو المسلمين. ولما استولى ملك سواب على الجزيرة (1194) بدأ اضطهاد المسلمين اضطهادا شديدا يذكر بما لقوه في إسبانيا، فهاجر ألوف إلى إفريقية ولا سيما إلى سواحلها، ومن تخلف منهم كان مستعبدا استعبادا حقيقيا: يزرع الأرض، ويرعى الماشية، ويعمل الأعمال الشاقة في أملاك الملك.
وعلى هذا، فقد تنصر بقايا المسلمين في الجزيرة، ولم يجلوا عنها على كل حال بفاجعة كفاجعة الأندلس التي مثلها القسس والأساقفة والكرادلة وديوان التحقيق الديني والملك والملكة والشعب، اتفقوا كلهم باطنا وظاهرا على إبادة المسلمين، والملك شارل هو الذي خلع الصقليون طاعته، وقتلوا الفرنسيس على بكرة أبيهم يوم 21 آذار سنة 1282م/682ه.
أثر العرب والعربية في اللغة الإيطالية
أبقى العرب في الجزيرة كثيرا من عاداتهم، وهي باقية إلى اليوم، وتركوا ألفاظا كثيرة من لغتهم في اللغة الصقلية والإيطالية، ولا تزال عدة أماكن بصقلية تحمل أسماء عربية، ولا سيما أسماء القلاع والمراسي والشوارع، وتبدأ أسماء القلاع بلفظ «قلتا» أي قلعة، ومنها ما أصبح اليوم مدنا، مثل: قلعة النساء وقلعة فيمي وقلعة الحسن وقلعة البلوط، وكذلك كلمة مرسى، ومرسى علي، مرسى المينا، منزل الأمير، منزل يوسف، رمل الموز، رمل السلطانة، القنطرة، وادي الطين، رأس القلب، رأس الخنزير، رأس القرن، والقصر من أعظم شوارع بلرم، وفي بلرم الآن قصران جليلان من مباني العرب: اسم أحدهما القبة واسم الآخر قلعة العزيزة، وكان تأثير العرب بعلمهم في هذه الجزيرة أكثر من تأثيرهم بمبانيهم. يقول رينالدي: إن الجزء الأعظم من الكلمات العربية الباقية في الإيطالية التي تفوق الحصر دخلت الإيطالية لا بطريق الاستعمار العربي بل بطريق المدنية التي كثيرا ما تؤلف بين مظاهر الحياة المختلفة، وقد عدد من هذه الكلمات جانبا ولا سيما في لغة العلم، ثم قال: إن جنوة اضطرت أن تؤسس سنة 1207م مدرسة لتعليم العربية، ويدل على ذلك وجود كلمات عربية في لغة هذه المدينة، وفي اللغات العامية في جميع المدن الإيطالية التي كانت تتجر مع الشرق وصقلية كلمات كثيرة من أصل عربي، دخلت إليها مع التجارة العربية، ولا تزال معاجم لغتهم تحفظ كثيرا منها. قال وما الهندسة الغوطية إذا أنعمنا النظر إلا الهندسة العربية تقريبا، ثم أورد أسماء الموازين والمكاييل والألفاظ البحرية التي سرت إلى الطليانية من العربية، وقال: إن آماري «المستشرق الصقلي» أثبت أن صقلية مدينة للعرب، وكذلك إيطاليا مدينة لصقلية، بابتكار الشعر الوطني، بمعنى أنه مذ قلد البلاط الصقلي البلاط الملكي الإسلامي، بدأت العناية بقرض الشعر، تلك العناية التي كانت السبب في نهوض الشعر الإيطالي، قال رينالدي: لم يساعد العرب فقط على إنهاض الشعر الصقلي والإيطالي بل إنهم أمدوا قصصنا بشكلها ومادتها، قلنا: وهذا يؤيد ما ذهب إليه وأثبته بالأدلة المعقولة آسين من رجال المشرقيات في إسبانيا من أن دانتي شاعر الطليان اقتبس موضوع روايته المهزلة الإلهية من رسالة الغفران للمعري.
وفي بلرم أنشأ العرب أول مدرسة للطب، وما عهد مثلها في جميع أوروبا، بل إن مدارس الطب في الغرب أنشئت بعد مدرسة صقلية العربية بأعوام، ومنها انتشر الطب في بلاد إيطاليا، وساعد أن الباباوات كانوا رحلوا إلى أفينيون من أرض فرنسا فخلا الجو للعلم العربي، وأخذ يسري إلى كل من استعد للأخذ بمذاهبه من الطليان، هذا مع أن المدنية التي أدخلها العرب إلى جزيرة صقلية كانت أضعف من مدنيتهم في مصر والأندلس، ودلت الآثار أن العرب لما خرجوا من هذه الجزيرة كانت أرقى من اليوم التي دخلوا فيها، فعظم تأثيرهم النافع في صقلية، والتحسين الذي يدخله شعب على شعب هو معيار نفوذ الحضارة التي يحملها الأول إلى الثاني على ما قال لبون.
وتقول آماري: إنه لا يوجد اليوم في صقلية كلها بناء واحد يرد عهده إلى الحكم العربي. ويقول حسن حسني عبد الوهاب:
16
إن جزيرة صقلية تفاخر، وحق لها الفخر، بأن فيها العزيزة والقبة والفوارة وفي بلرم ومدائنها الباسمة «البيضاء» ومعاملها الغنية ومارر وقلاعها التي كانت مما يذكر بالفخر خلال ثلاثة قرون على لسان الشعراء، كان لهم من الشهرة وسلاسة الشعر ورقته ما كان مثله لمن خلدوا قديما اسم قرطبة وإشبيلية وغرناطة.
المقارنة بين صقلية والأندلس
كانت صقلية أزهر الممالك الأوربية في الزمن الذي كان فيه العربي والرومي مرعيا جانبهما، مأخوذا بأيديهما، وكان أثر الرجال الذين ظهروا في جزيرة صقلية أقل بالطبيعة من أمثالهم ممن أنبغتهم الأندلس، والسبب في ذلك ضيق مضطرب هذه الجزيرة، وقصر الزمن الذي دام فيه حكم العرب عليها؛ وهذا لأنها كانت تبعا لإفريقية يتولى أمرها الآغالبة والعبيديون وغيرهم، وحكم الأندلس أعاظم رجال بني أمية ممن طالت أيامهم، وكانوا وطدوا النفوس على اتخاذها وطنا أبديا لهم لا يلتفتون إلى ما وراءهم إلا بقدر ما ترتبط أمة بأمة بعيدة، متفقة معها في النزعة الدينية والعواطف، وكانوا نقلوا كل ما رأوه وسمعوا به في بلادهم الأصلية من أسباب القوة والعلم والصناعة إلى الأندلس نقلا صحيحا وزادوا عليه بثقوب أذهانهم وبما تقتضيه طبائع الأقاليم التي نزلوها.
وإذا جسرنا على الاستنتاج من النتف القليلة التي اتصلت بنا من تاريخ صقلية العربية ندرك أن رجالها في العلم كانوا أقل عددا أو تأثيرا من رجال الأندلس، وإنا إذا عددنا في هذه مئات من النابغين، لا نستطيع أن نعد في صقلية عشرات من عيارهم، ومعظمهم من حملة الشريعة والآداب، ويقال: إن فيها ترجمت كتب أرسطو وأفلاطون، وليس في صقلية من الملوك والأمراء الذين تولوا أمرها من كانوا بشهرتهم أمثال عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الثالث والحكم ممن أظهروا نبوغا في حكم الأندلس.
وليس في العلماء الذين قادوا الأفكار فيها أمثال ابن رشد وابن زهر وابن باجة وابن الخطيب وأضرابهم، وهناك دواع أخرى في هذا التفوق في الأندلس، وهذه على بعدها من مواطن العروبة، هاجر إليها ألوف من صميم العرب وسكنوها وعمروها، وأثر في أنسالهم هواؤها، فجاء منهم غربيون شرقيون على أجمل مثال في الشعوب العاملة الذكية. أما صقلية فكان اعتمادها على أناس من العرب وكثير من البربر، وكانت الجزيرة مهاجرا للاتين الذين جلوا من إفريقية يوم فتح العرب لها، ثم جاءها العرب فاتحين في صقلية، فامتزجوا بأهلها، فلم يكونوا في الحقيقة أمة صقلية كما تكونت أمة أندلسية، وإن كان المسلمون في صقلية كثرة غامرة في أيام حكمهم وبعد زوال سلطانهم عنها.
آثار العرب في صقلية بعد قرون من رحيلهم
وتفيدنا الآثار التي وجدت في المقابر وغيرها
17
أن اللغة العربية بقيت شائعة في الجزيرة إلى أواخر القرن التاسع للهجرة، يؤيد ذلك شواهد القبور التي عثر عليها حديثا علماء العاديات، فقد وجدت قبرية باسم القائد الأجل أبي النصر بن القائد أبي المسرور الجالخيري من سنة 873ه، وشاهدة لآخر اسمه القسنطيني القاضي من سنة 894ه، وثالثة من سنة 859، وشواهد كثيرة من القرن السابع والسادس من الهجرة، وأغربها قبرية نصرانية كتبت بالعربية بعد خروج العرب من الجزيرة بستين سنة استعمل فيها التاريخ الهجري، وهي «توفيت أنة أم القسيس أكريزنت قسيس الحضرة المالكة الملكية العالية العلية المعظمة السنية القديسية البهية المعتزة بالله الملزوزة بقدرته المنصورة بقوته مالكة ينطالية ولنكبردة وقلورية وصقلية وإفريقية معزة إمام رومية الناصرة للملة النصرانية صرمد الله مملكتها يوم الجمعة والعشر العشرين من أوسة سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ودفنت بالجامع الأعظم، ثم نقلها ولدها بالمستجد إلى هذه الكنيسة صنت مخايله يوم الجمعة أول ساعة العشاء: العشرين مائة سنة - أربع وأربعين وخمسمائة وبنى على قبرها هذه الكنيسة وسماها صنت أنة على اسم أمه (مر) يم ... ودعا لها بالرحمة آمين آمين آمين.»
وهذا يدل على أن العربية استحكمت ملكتها في السكان حتى إن نصاراهم استخدموها لغة التخاطب والكتابة بعد خروج العرب بمدة طويلة، وأرخوا بالتاريخ الهجري، ولا عجب أن حاسن روجر النورماني فاتح الجزيرة وخلفاؤه جمهور المسلمين فلقوا منهم كل رعاية، ولقي الفاتحون من المسلمين كل نصح في الخدمة؛ فقد روى مؤرخونا أن رجار مات قبل التسعين والأربعمائة وملك بعده ولده رجار فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك، وخالف عادة الفرنج فإنهم لا يعرفون شيئا منه وجعل له ديوان المظالم يرفع إليه شكوى المظلومين فينصفهم ولو من ولده، وأكرم المسلمين وقربهم ومنع عنهم الفرنج فأحبوه.
المسلمون والغربيون في الحروب الصليبية
اختلاق الصليبيين الأسباب لقتال المسلمين
ظن الغربيون بعد انقراض الدولة الأموية من الأندلس في 407ه أن العرب هناك يتراجع أمرهم في الحال ويصبحون لقمة سائغة؛ لما دب فيهم من الفساد السياسي المؤدي إلى الانحلال الطبيعي، ولكن عاد يوسف بن تاشفين ملك المرابطين من بر العدوة فجمع الشمل المنصدع، وضرب المرابطون ملك الإسبان ضربة شديدة في سنة 480ه في وقعة الزلاقة فأعادوا إلى الأندلس حياتها فوقرت في نفوس الإفرنج، وكان أمراء المسلمين ذلوا أمام أعدائهم وأخذوا يدفعون الإتاوات لملوك إسبانيا، وخرجت جزيرة صقلية من أحكام المسلمين في تلك الحقبة.
بيد أن رجال الدين ورجال السياسة في أوروبا ما برحوا منذ طلعت طلائع العرب في البحر المتوسط، وقوي سلطانهم في جزرها، يفكرون في مخرج يؤدي بالغرب إلى ساحل السلامة؛ لأن الإفرنج أيقنوا أن العرب أعلى منهم كعبا في الحرب، وأرقى منهم مدنية، وهم لا يخلون في كل زمان من رجل فذ ينهض بهم، كما كان من المنصور بن أبي عامر (392ه) الذي غزا الإفرنج سبعا وخمسين غزوة موفقة، ورفع من شأن الأندلس بنبوغه فوقاها من السقوط.
واتفق أن اشتد إرهاق السلجوقيين لصاحب القسطنطينية، حتى اضطروه إلى دفع جزية سنوية لهم، فاستنجد بملوك أوروبا على المسلمين، وأثار العرق الحساس في البابا، واعدا إياه أن يدخل في طاعة كنيسته، ويتخلى عن أرثوذكسيته، إذا هو ساعده على دفع صائل المسلمين، وصادف أن بعض زوار القبر المقدس من الإفرنج رأوا ما لا يروقهم من إلزام الحكومة الفاطمية حجاجهم بأداء ضريبة زعموا أنها فاحشة، فأعظم الأمر بعض رؤساء الدين عندهم، وأهاج أمثال بطرس الناسك الخواطر في الغرب على المسلمين، وبالغوا وأكثروا فيما يلقاه النصارى من العنت في حجهم، على أنه لم يحدث من الاعتداء
1
على حجاج القبر المقدس سوى حوادث فردية قليلة لا تخلو منها البلاد، وذلك قبل الحروب الصليبية. وقد قال برناردي فيس في مذكراته: إن السلام سائد فوق تلك الربوع بين النصارى والمسلمين، حتى إنني لو كنت مسافرا ونفق بعيري أو حماري الذي ينقل أمتعتي على الطريق، وتركتها كلها دون حارس ولا رقيب، وسرت إلى أقرب مدينة لأجلب لي بعيرا أو حمارا آخر لوجدت عند عودتي أنها باقية على ما هي لم يمسها أحد. ولغايات في النفس جسم بعض رجال الدين في الغرب حوادث الاعتداء على حجاجهم في الأرض المقدسة، فأثاروا ضغائن النصارى على المسلمين عند بدء ظهور الحركة الصليبية. قال منرو: كانت هذه الفظائع المنسوبة إلى المسلمين ممزوجة بكثير من الأفاويه،
2
لتوافق روح ذلك العصر الذي كان أشد توحشا من عصرنا هذا ، وكان النصارى يأخذون قصص هذه الفظائع على علاتها، فعظم تأثيرها في حماسة الكثير منهم، ولجأ الغربيون إلى أنواع أخرى من الدعوة وإهاجة الأفكار على المسلمين، فاتهموهم بعبادة الأصنام وأنهم يعتقدون بألوهية محمد، واغتنم البابا فرصة عقد المجمع الديني في كلرمون فعرض عليه ما يلقاه النصارى من الإرهاق، وحرض أبناء النصارى على حمل الصليب ليفتحوا القبر المقدس، ومنحهم غفرانا عن كل خطاياهم، وأحل لهم ما تجترحه أيديهم وجوارحهم، حاميا بسيادته الروحية عيالهم وأموالهم مدة غيابهم، واعدا إياهم بمغانم دنيوية كثيرة، يسقطون عليها لا محالة إذا فتحوا الأرض المقدسة، فسار بعضهم مدفوعا بسائق الدين، ومنهم الطامع بالمغانم والأرباح، وكان الغربيون في تلك الفترة قد عضهم الفقر بنابه، وأصيبوا بأوبئة حصدتهم، ومجاعات زادت في عوزهم، فأوهمهم رؤساؤهم بأن الشرق الإسلامي بلاد الذهب، لا يلبث نزيله أن يغتني وينعم.
وفي أواخر سنة 490ه/1096م اجتمعت في القسطنطينية جيوش الصليبيين وبعد مصاعب شديدة لقوها في آسيا الصغرى، تقدموا ففتحوا الساحل الشامي، واستولوا على بيت المقدس ظاهرين في مظهر من التوحش والقسوة لا يغبطون عليه، ظانين أن المسلمين لا تهمهم كثيرا قبلتهم الأولى، ولا يحسبون ألف حساب لاحتلال جزء مهم من صميم بلادهم، وأنهم متى رئموا للمذلة مرغمين في حاضرهم نسوا كل عاقبة وخيمة على مستقبلهم، وما أدركوا أن المسلمين كانوا أسودا لا مستأسدين إذا ما وثبوا وثبوا.
جهل الصليبيين والتنظير بين أعمالهم وأعمال المسلمين
أبان الصليبيون في مبدأ غزواتهم عن جهل مطبق في فنون القتال، وما كتب لهم الفوز في حملتهم الأولى إلا بكثرة جيوشهم، وكانوا في فوضى منذ غادروا ربوعهم حتى دخلوا القسطنطينية واتجهوا إلى الشرق، ونسوا أو تناسوا أن صاحب الروم حليفهم المعنوي، وما تلكئوا مع هذا عن إهانة قومه، وإطالة أيديهم بالأذى على بلاده، فخربوا مصانعها، وسلبوها نعمتها، وعبثوا ببيعها وكنائسها، وجعلوها طعاما للنار، وارتكبوا كل كبيرة أورثتهم العار، وأثبتوا أنهم من الجهل بحيث لم يهتدوا إلى طريقهم، فضلوا في بلاد الروم وتخطف عسكر السلجوقيين رجالهم ونساءهم، وغلوا في القسوة على أهل كل بلد نزلوه، مثل الرها وأنطاكية والمعرة وطرابلس والقدس، فقاتلوا المحاربين والمسالمين على السواء، وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ لم تأخذهم بهم رحمة.
وليس القصد هنا ذكر تاريخ الحروب الصليبية وما جرته على بلاد المسلمين من الويلات، بل القصد بيان أثر هذه الحروب في الغرب والشرق، وقد اغتبط الصليبيون بأنهم أوقفوا المسلمين بحملاتهم على الشرق دون التوغل في أوروبا، والغربيون ما فتئوا يحذرون بطش المسلمين، ويقدرون أنه ربما بلغت بهم الجرأة ذات يوم أن يغيروا عليهم غارة رجل واحد، فيكون في ذلك ذهاب بلادهم، وحق لهم هذا التخوف؛ لأن لهم من إذلال ابن تاشفين ملك المرابطين لملك إسبانيا، وضغط السلطان ملكشاه السلجوقي على صاحب القسطنطينية، براهين لا تقبل الرد في إساءة الظن بالمستقبل، وكان يظن أن العنف الذي شاهده المسلمون في الشام من الصليبيين المتحمسين، يدعوهم إلى أن يسيئوا معاملة المستأمنين منهم، أو يعاملوهم على الأقل بالمثل، ولكن المسلمين في جميع أدوار الحروب الصليبية ملكوا اعتدالهم وما خرجوا، وبعض ما نالهم من أعدائهم مما يحرج الصدور، عن حدود شريعتهم، وما أمرت به من الرفق بالناس في دار الحرب ودار السلم، وقد أقر بذلك أكثر مؤرخي الصليبيين، وأعجب بهذه المسامحة كل صليبي، أو كل من لا غرض له من الناظرين في سير تلك الحروب العجيبة.
مجازر الصليبيين
أما الصليبيون فقد عاهدوا ملك الروم على أن يسلموا إليه أول بلد يفتحونه، ففتحوا مدينة نيقية ولم يسلموها
3
إليه وكانت بأيدي السلاجقة الأتراك فخانوا بذلك العهد الذي قطعوه على أنفسهم، ولما جاءوا المعرة معرة النعمان قتلوا على رواية ميشو
4
جميع من كان فيها من المسلمين، ممن لجئوا إلى الجوامع واختبأوا في السراديب، وأهلكوا صبرا
5
ما يزيد على مائة ألف إنسان في أكثر الروايات، وكانت المعرة من أعظم مدن الشام، وافاها سكان الأطراف بعد سقوط أنطاكية يعتصمون فيها، وفتح الصليبيون القدس، بعد أن أفحشوا القتل في المسلمين، حتى هلك منهم عشرات الألوف، فيهم جماعة من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد، وارتكب الصليبيون كل محرم في دينهم مع المسلمين واليهود. قال ميشو: تعصب الصليبيون في القدس أنواع التعصب الأعمى الذي لم يسبق له نظير، حتى شكا من ذلك المنصفون من مؤرخيهم، فكانوا يكرهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويجعلونهم طعاما للنار، ويخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ويجرونهم في الساحات، ويقتلونهم فوق جثث الآدميين، ودام الذبح في المسلمين أسبوعا حتى قتلوا منهم على ما اتفق على روايته مؤرخو الشرق والغرب سبعين ألف نسمة. ولم ينج اليهود كالعرب من الذبح؛ فوضع الصليبيون النار في المذبح الذي لجئوا إليه، وأهلكوهم كلهم بالنار. ا.ه.
وكان من عادة الصليبيين أن يقتلوا أهل كل بلد يدخلونه في الشام ويخربوا عمرانه ويحرقوا كتبه ومتاعه وآثاره، وفي إحراقهم دار الحكمة في طرابلس، وكان فيها نحو مائة ألف مجلد، أكبر دليل على رعونتهم وخشونتهم، فأوقدوا بما صنعوا نيران التعصب بين المسلمين والنصارى من الشاميين، ومع هذا أمسك المسلمون عن مخاشنة أبناء ذمتهم، وظلوا على ما قضى به الإسلام من حسن معاملتهم، ومن نصارى لبنان من تطوعوا في خدمة الصليبيين، وحاربوا في صفوفهم، وكانوا أدلاء لهم وعيونا على جيرانهم الذين كانوا عاشوا وإياهم خمسة قرون على غاية الوئام، خالف الصليبيون تعاليم المسيح في الشفقة والإحسان، وامتثل المسلمون أوامر شريعتهم قائلين: «ولا تزر وازرة وزر أخرى.» وما خرج ملوك الإسلام في كل دور عن مراعاة أهل ذمتهم، عملا بوصية الشارع، وتفاديا من وعيده من أذاهم، وكانت سياسة الساسة منهم كما كتب الإخشيد صاحب الديار المصرية والشامية والحجازية إلى أرمانوس صاحب الروم على «ما يؤلف من قلوب سائر الطبقات من الأولياء والرعية، ويجمعها على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدعة في المعيشة، ويكسبها المودة والمحبة.» وإذا وقع من أحد ملوكهم حيف على غير المسلمين كما فعل الحاكم بأمر الله الفاطمي فخرب كنائس النصارى في مملكته، ثم بدا له فأمر بإعادتها إلى سالف عمارتها، فهذا شاذ في الملوك والشاذ لا تبنى عليه القاعدة المطردة.
حسن معاملة صلاح الدين للصليبيين
كان في القدس لما استرجعها صلاح الدين (583ه ) من الصليبيين مائة ألف صليبي، منهم ستون ألف راجل وفارس، سوى من تبعهم من النساء والأطفال، فأبقى صلاح الدين على حياتهم، واستوصى بهم خيرا، ونابذ فقهاءه فيما ارتأوه من معاملتهم بمثل ما عامل به أجداد الصليبيين جمهور المسلمين يوم فتحهم القدس، واكتفى بأن ضرب على كل رجل منهم عشرة دنانير، وعلى كل امرأة خمسة، وعلى كل طفل دينارين، وعجز بعضهم عن دفع هذه الفدية، فأدى الملك العادل أخو صلاح الدين فدية عن ألفي صليبي، واقتدى به صلاح الدين نفسه فأعفى كثيرين من هذه الغرامة، وأغضى عن جواهر الصليبيين وناضهم من الذهب والفضة، وعامل نساء الإفرنج معاملة لطف وظرف، وسهل سبيل الخروج لملكتين عظيمتين بما معهما من جواهر وأموال وخدم، ورخص للبطريرك الأكبر أن يسير آمنا بأموال البيع وذخائر الجوامع التي كان غنمها الصليبيون في فتوحهم، ولما قال المسلمون لصلاح الدين: إن هذا البطريرك يقوى بما أخذ على حرب المسلمين ثانية، قال: لا أغدر به، ولم يأخذ منه إلا عشرة دنانير فقط، فألقى صلاح الدين على الصليبيين درسا في مكارم الأخلاق وسماحة الإسلام.
ونسي الإفرنج بعد حين هذه اليد لصلاح الدين عندهم، وذلك أنهم لما استبطأوا دفع الغرامة التي فرضها ريشاردس قلب الأسد ملك الإنجليز على صلاح الدين، ولم يرد إليه هذا صليب الصلبوت، أخذ ألفين وسبعمائة من أسرى المسلمين،
6
وقتلهم على رأس تل في عكا، بمرأى من عساكر صلاح الدين، وبقر عسكره بطون المقتولين ليروا إن كان فيها شيء من الجواهر والذهب، ظنا منهم بأنهم ابتلعوا شيئا منها، وحبا بالانتفاع بمرائرهم يتخذونها دواء يستشفون به، ذاك ما عاملت به السياسة الإسلامية غزاة الصليبيين، يوم ضعفهم وقوة المسلمين، وهذا ما عاملتهم به السياسة الصليبية.
بيد أن المسلمين قابلوا بعد حين هذه المذابح بمثلها، فقتل منهم الملك الظاهر في الساحل ألوفا وقتل منهم قلاوون مائة ألف في القدس؛ لأن قومه ما نسوا أن الصليبيين في فتحهم الأول لها، سفكوا الدماء حتى في المسجد الأقصى، بحيث كان الفارس منهم وهو راكب تصل إلى
7
رجليه دماء المسلمين التي قتلت في ذاك الحرم المقدس، وسارت في الحقيقة كالسيل المنهمر.
ما أورثته الحروب الصليبية في أخلاق المسلمين والصليبيين
كان المسلمون مع الصليبيين أيام المهادنات والسلم على غاية اللطف والمياسرة، يضيفونهم ويكرمونهم ويعاملونهم أحسن معاملة يعامل بها الضيف والغريب،
8
مع أن الصليبيين بإقرار مؤرخيهم كانوا مثال الخشونة في الطباع، والجهل في الأوضاع، وأفضت معاملة المسلمين لأعدائهم بالحسنى، إلى أن علق هؤلاء يقلدونهم في لباسهم وعاداتهم، ومنهم من تعلموا العربية فأتقنوها، وجروا على مصطلح المسلمين في كثير من شئون حياتهم.
قال منرو: إن اتهام المسلمين بالجبن قد زال من أذهان الصليبيين، لما التحموا معهم في القتال، ولم يقف تأثير احتكاك الصليبيين بالمسلمين عند حد الإعجاب بشجاعتهم، بل تجاوزه إلى إزالة تحاملات أخرى عليهم، فقد امتزج الصليبيون في سورية وفلسطين امتزاجا دائما متصلا بأهل البلاد، نصاراهم ومسلميهم، ولما كان عدد الصليبيين ضئيلا، اعتمدوا على أهل البلاد في أعمال الزراعة وبناء الكنائس والقلاع، بل وفي التجنيد أيضا، وقلما كانوا يميزون بين المسلمين وملاحدة النصارى، وإذ كانوا يعيشون بالقرب من أشراف المسلمين، كانوا يتبادلون وإياهم فروض المجاملات، ويبرمون معهم عهود الصيد، وأسر المسلمون كثيرا من الإفرنج وظلوا أمدا طويلا في أسرهم، فكانوا في العادة يعاملونهم معاملة حسنة، ويمنحونهم قسطا وافرا من الحرية، فعرف الصليبيون المسلمين عن كثب، وهكذا كان حظ بعض المسلمين في أسرهم عند الصليبيين. وقد نشأت بين الأسر في الأحايين علاقات ود بين الفريقين، وكان اتجار كل فريق في أرض الفريق الآخر من عوامل التعارف مع المسلمين، وتزوج الصليبيون من غير جنسهم من السوريات والأرمنيات أو من العربيات اللواتي قبلن المعمودية، ونشأت صداقات بين أفراد الفريقين، عقبى المعاهدات التي عقدت بين المسلمين والصليبيين؛ بسبب استعانة فريق بآخر ليقاوم منافسا له أو منازعا من أبناء دينه. ا.ه.
ومن أهم ما نفع الصليبيين من احتكاكهم بالمسلمين، أن القابضين على زمام الأمر في الغرب لم يعودوا كما كانوا في الثمانين السنة الأخيرة التي مضت قبل سقوط القدس بأيدي المسلمين يأتمرون في الحال بأوامر الكنيسة الباباوية، يحمسون الناس ليسيروا بهم على العمياء، يقتلون ويقتلون على غير فائدة محسوسة. وكان الصليبيون يتجرون في غضون المهادنات في بلاد المسلمين أحرارا، لا يؤدون سوى رسم خفيف، وكذلك كان المسلمون في البلاد التي احتلها الصليبيون، وأهم الأمم التي انتفعت من ماديات الحرب الشعوب النازلة على شواطئ البحر المتوسط، ولا سيما البنادقة والبيزيون والجنويون من أهل إيطاليا، وكانوا أصحاب السفن التجارية والمواني البحرية، وكان من وراءهم من سكان أوروبا مضطرا إلى أن يقصد بلادهم في ذهابه إلى الأرض المقدسة وفي عودته منها؛ لأن القوم استطالوا طريق البر وهي غير أمينة، وصاحب الروم يعارض في مقدمهم عليه، لغدرهم ببلاده، وعيثهم فيها، وعبثهم بمقدساتها، وربما خادن المسلمين وعاهدهم، وابتعد عن مخادنة الصليبيين؛ لأنهم يغدرون ويخونون.
أما متعصبة الشعوبيين من الغربيين فما برحوا بعد أن تجلى تاريخ الحملات الصليبية، وعرف معرفة لا مجال للشك فيها، يمتدحون من نظام الصليبيين وحسن إدارتهم وسياستهم، ويحاولون أن يبرئوهم من كل وصمة ألصقت بهم بشهادة مؤرخيهم أنفسهم، وأن يظهروهم بمظهر العطف واللطف، ويظهروا المسلمين في صورة القسوة والخشونة، منكرين أنه كان بين أمم الشرق القريب، وذاك الغرب البعيد، بون شاسع في الحضارة والثقافة على ما أجمع عليه عقلاء الفريقين، إلا من أعمى الغرض قلوبهم وعيونهم.
من عاون المتحاربين ومن عاندهم
وبعد، فإذا أحب الشرق أن يحاسب الغرب فيما عادت عليهما هذه الحروب من ربح وخسارة، تكون الصوافي للفريقين على هذه الصورة إجمالا، علمت الحرب المسلمين أنه لا حياة لهم بغير التضامن، ولقنتهم معنى الجامعة الدينية والمدنية، وكانت ضعفت في بلاد الشام العصبية العربية، فحلت العصبية الدينية محلها، رأى المسلمون جيوش الصليبيين مؤلفة من نورمانيين وإيطاليين وإفرنسيين وألمانيين ونروجيين وسويسريين وغيرهم من أمم أوروبا، فاجتمع عربهم وتركمانهم وأكرادهم على قتال عدوهم المشترك، وتفانى في تحقيق هذا المقصد أولئك الذين كان الاختلاف بينهم على أشد حالاته من الملوك والأمراء، تساوى في التماسك لبلوغ هذا الغرض الفاطميون والأتابكيون ثم الدولتان النورية والصلاحية ثم المماليك من بعد، وكذلك كان شأن غيرهم من صغار الأمراء، واتحدت كلمة أرباب المذاهب المختلفة من المسلمين، ولم يخرج على الجماعة غير شيعة الساحل فإنهم اضطروا على ما يظهر إلى بذل الطاعة للصليبيين، لمكان بلادهم من الأصقاع المحتلة، وكان الدروز إلى جانب أهل السنة، والمعنيون والتنوخيون على رأسهم، وكذلك فريق من النصيرية، أما الإسماعيليون فقد كان غرامهم في الاستيلاء على بعض الحصون لينشئوا لهم دولة بأنقاض البلاد وسكانها، ولطالما اغتالوا كل من يعتقدون عداءه لهم من الأمراء والعلماء، بل بلغت بهم القحة أن يطيلوا أيدي أذاهم على مثل السلطان صلاح الدين، ووثبوا بكثيرين ومنهم صاحب دمشق تاج الدين بوري، ونظام الملك، واعترف الصليبيون في إحدى هزائمهم وحملاتهم أنه كان من نصارى البلاد من خدموا الدولة الإسلامية وقلبوا لهم ظهر المجن، أي إن طائفة من نصارى الشام ناصرت أصحاب البلاد؛ لأنهم رأوا منهم عطفا وعدلا في الدول المختلفة التي تقلبت عليهم منذ كان الإسلام، وقاتل الأرمن في صفوف الصليبيين وشكرهم على ذلك البابا غريغوار الثالث عشر في كتاب سنة 1383م.
ولم تأخذ الناس ولا قادتهم هوادة فيمن كان يفتون في عضد المسلمين، ويتهمون بأن هواهم مع الصليبيين، فقد دبرت الخاتون صفوة الملك على ابنها شمس الملوك صاحب دمشق من يقتله، لما أيقنت أنه استدعى الإفرنج من بلادهم ليسلم إليهم الملك؛ ذلك لأن دمشق والمدن الداخلية عصت على الصليبيين، وحاول هؤلاء غير مرة الاستيلاء عليها، بجيوش جيشوها، ومكايد دبروها؛ فضربوا ضربة قاسية كانت لطخة في تاريخهم الحربي، ولطالما أتوا بجيوش جرارة إلى حوران، بل إلى داريا، بل إلى المرج الأخضر من ربض مدينة دمشق، ورجعوا مدحورين مخذولين، ولما شعر صاحب دمشق سنة 523 أن الباطنية فاوضوا الصليبيين ليسلموهم دمشق قتل المزدقاني وزيره الخائن، وأمر الناس فثاروا بالإسماعيلية فقتلوا منهم ستة آلاف في يوم واحد، وقيل: أكثر من ذلك، فطفئت فتنتهم، وكانوا يحاولون تسليم دمشق إلى الصليبيين، وتواعدوا وإياهم إلى يوم مخصوص يهجمون فيه عليها، وأحرق الإسماعيلية أسواق حلب في غضون ذلك فافتقر أهلها، وكثيرا ما استنجد بعض أمراء الصليبيين بالمسلمين فأنجدهم ملوكهم، واستفادوا من تفرق كلمة أعدائهم، ولم يخرج أمراء المسلمين عن القوانين الحربية، ولم يعطوا عهدا اليوم فينقضوه من الغد.
الفوائد التي عادت على المسلمين من حروب الصليبيين
وعني المسلمون عناية فائقة بفنون الحرب التي طالت أيامها، واستكثروا من السلاح والعدة والخيل والمنجنيقات والدبابات، واخترعوا أشياء في هذا الباب أدهشت الصليبيين يوم حصار عكا، وحارب المسلمون بكل ما يحسنونه من ضروب الكر والفر، وصنوف الدهاء والخديعة، وقاتلوا كما قال شاهد العيان من المؤرخين: «مرة بالأبراج، وأخرى بالمنجنيقات، ورادفة بالدبابات، وتابعة بالكباش، وآونة باللوالب، ويوما بالنقب، وليلا بالسرابات، وطورا بطم الخنادق، وآنا بنصب السلالم، ودفعة بالزحوف في الليل والنهار، وحالة في البحر في المراكب.» وصارت الحرب للمسلمين عادة وصناعة، فكان منهم من يقاتل ساعة كذا من الليل أو النهار، أو في الشهر الفلاني والموسم الفلاني؛ وذلك لئلا يتبرموا بالقتال، ويبتعدوا كثيرا عن عيالهم وأشغالهم، وقد عرض
9
صلاح الدين العساكر لما تجهز لحصار عكا، فكانت مائة وثمانية وأربعين طلبا حاضرة، ذكروا أن منها عشرين طلبا غائبة، ورأس كل طلب أمير مقدم بالطبول والأعلام والكوسات واللبوس والزردخانات، وأقل عبرة
10
الأطلاب من المائتي فارس إلى الخمسمائة غير الأتباع.
ولقد كان من هذه النازلة الصليبية أن ظهر نبوغ ولاة المسلمين في فن الحرب والسياسة، وقدر أن ينشأ ملكان نابغتان نور الدين محمود بن زنكي وصلاح الدين يوسف بن أيوب، ولولا هذه الغائلة ما ظهرت فضائلهما الكثيرة، ولا اشتهرت مزاياهما النادرة، فذكر المسلمون بسيرتهما سيرة العمرين، وأرجعت قوة نفسيهما إلى الإسلام بهاءه، ولولا الحروب الصليبية ما ظهر طغتكين نابغة السياسة والإدارة ولا نوابغ الحرب الكامل والظاهر وقلاوون والأشرف وعشرات من القواد والزعماء، ومن حسن التوفيق أن أمراء المسلمين في العهد الصليبي قدروا كلهم حرج الموقف الإسلامي فتضامنوا ولم يختلفوا، وربما لم تتألف قلوبهم في عصر من العصور السابقة واللاحقة تألفهم في تلك الأيام العصيبة، على حين كان أمراء الصليبيين يتنازعون بينهم، وربما تقاتلوا وسفكوا دماء بعضهم بعضا، ولجئوا إلى المسلمين ليستعينوا بهم على منافسيهم.
وأجمع المسلمون في مصر والشام والعراق والجزيرة (ديار بكر وديار ربيعة) وما وراءها أنهم إذا لم يشد بعضهم أزر بعض يضمحل الإسلام، ويزول سلطانه في الأنام؛ لأن من ملوك الصليبيين من كانوا يحاولون فتح الحجاز، وهو أرنولد صاحب الكرك، فأنشأ لذلك أسطولا في بحر القلزم (الأحمر) على أيلة مما يلي الشام، وسار في البحر فرقتان: فرقة أقامت على حصن أيلة تحصره ، وأخرى سارت نحو عيذاب تفني المسلمين في تلك الأرجاء، وأهان صاحب الكرك الرسول مرة بكلام روي عنه، فحلف صلاح الدين أن يقتله بيده إذا ظفر به، فتمت لصلاح الدين أمنيته في وقعة حطين، لما أخذه أسيرا مع غيره من أمرائهم وملوكهم، فأبقى عليهم كلهم وضرب عنق هذا بسيفه. وكانت وقعة حطين، وبعدها فتح الساحل والقدس، أول وقعة فاصلة بين العدوين المتقاتلين، ظهر فيها جيش الإسلام بمظهر من مظاهره العظيمة في الفتوح العربية الأولى.
ويلات الحروب الصليبية ومعالجة المسلمين ما كان لهم من نقص
ويعد في باب الخسائر أن من مدن الساحل الشامي ما خرب برمته؛ خربه أحد الفريقين عمدا لمقصد حربي، وخرب المسلمون كثيرا من الحصون والأسوار، مخافة أن تقع ثانية في أيدي العدو ويتحصن بها، فتطول مدة الحرب ويهلك الناس على غير طائل، وكانت أكثر أيام الحرب في ضيق شديد من العيش؛ لارتفاع أسعار الحاجيات خمسة أو ستة أضعاف، فظهر البؤس في البلاد لانقطاع الناس عن استثمار زراعتها كما كانت من قبل؛ ولأن غلاتها لا تكاد تسد حاجة جيوش المسلمين الجرارة، ولأن من الأرضين الصالحة للزراعة ما تعطل بحكم الطبيعة، فكانت حمى يحجز بين المتقاتلين، وربما ابتعد الزراع عن هذا الحمى فراسخ وأميالا؛ لأن العدو يتقدم ويتأخر في أرض عدوه تبعا للأحوال العسكرية، وهلك عشرات الألوف من المسلمين فأحدث فقدهم نقصا في الصفوف، وقلة في اليد العاملة، أما الغربيون فكانوا يقاتلون، فإذا نقص عددهم أتتهم النجدات من أوروبا، وجملة حملاتهم الكبيرة سبع حملات، منها ما جاوز عدده النصف المليون، وقلت في بعض الأحايين نجدات المسلمين، وعددها أقل من عدد نجدات الصليبيين.
قدر المسلمون قوة أعدائهم حق قدرها، وعرفوا كثرة سوادهم في بلادهم، واعترفوا لهم بالشجاعة، وإن عدوا أحيانا شجاعتهم خرقاء، بالقياس إلى من يقدرون المسائل بقدرها، لا يجبنون عند اللقاء، ولا يغامرون حين لا تنفع المغامرة، وكان التهور يبدو في صفوف الصليبيين، فيكثر قتلاهم على غير طائل. ومن النقص في المسلمين أنهم قلت معرفتهم بالغربيين، وقلما عنوا باستطلاع طلع أحوالهم، ولو كانوا على اتصال بهم بادئ بدء، ملمين بأحوال الغرب حق الإلمام، ربما استطاعوا أن يثنوا عزم الغربيين عن إشهار هذه الحرب الزبون، فيعقدون معهم معاهدات ومحالفات ويمنحونهم امتيازات ومسامحات، ويزيلون أسباب الشكوى. وأيقن المسلمون أن الصليبيين كانوا أشد منهم عناية بأخذ أخبار بلاد الإسلام في أوقاتها؛ ولذلك كتب لهم النصر أحيانا، وما لبث المسلمون أن أتقنوا أيضا فن استقاء الأخبار، بحيث لا تفوتهم صغيرة ولا كبيرة من أحوال أعدائهم، «وكان الرسم في أيام الديلم ومن قبلهم ومن بعدهم من الملوك أنهم لم يخلوا جانبا من صاحب خبر وبريد، فلم تخف عندهم أخبار الأقاصي والأداني.» واحتال الصليبيون لاستمالة جيرانهم من المسلمين، فما عدوهم إلا غاصبي أرضهم، دخلاء على الملك الإسلامي، لا يهدأ لهم بال إلا إذا طردوا آخر صليبي عن وطنهم.
استعمل أمراء المسلمين أنواع الخدع الحربية مع أعدائهم، فتوصلوا بدهائهم إلى أن يرشي صاحب دمشق جماعة الصليبيين في القدس بمائتين وخمسين ألف دينار، وأرسلها زيوفا طليت بالذهب كما قيل، وكان أمراء المسلمين في هذه الديار يعترفون لخلفاء العباسيين بالخلافة، ويستخدمون نفوذهم المعنوي في تقوية أمرهم وسوق الناس إلى الحرب، ولكن كان نفوذ بني العباس إلى ضعف، وتقل الماديات التي تصل إلى الجيش الإسلامي من طريقهم وبواسطتهم.
سياسة المسلمين مع ملوك الصليبيين
لقي أمراء المسلمين عجبا من شطط ملوك الصليبيين أيام انتصارهم وأيام انكسارهم، وما عاملوهم إلا بالسياسة الرشيدة، وحاسنوهم ما ساعدتهم الحال بما لا ينتظر أكثر منه من خصم شريف، هكذا كان طغتكين ثم نور الدين ثم صلاح الدين في الحملات الأولى، أما في الحملات الأخيرة فقلب أمراء المسلمين للصليبيين ظهر المجن؛ لإيقانهم أن لين الجانب ما نجع فيهم، ثم عرفوا أن الحال تبدلت في الغرب ففترت حماسة المتحمسين لنجدة الصليبيين في الشرق، فكان من الحزم في ملوك الإسلام أن يستأصلوا الفرنج من أرضهم.
كان نور الدين رجل الإسلام العظيم أسس ملكا ضخما ما كلفه فتحه مالا ولا رجالا، فلما توطد أمره أكثر من الغارات على حصون الصليبيين ففتح أكثرها بقوة نفسه وشدة إخلاصه وإجماع الناس على محبته، فتح أكثر من خمسين حصنا وبلدا، وكان إذا كسر الصليبيين لا يشتط في الطلب، ولا يتسامح كل التسامح بحقوق أمته، يسير بحسب الحال سير رجل عملي، كسر الصليبيين على حارم وكانت عدتهم ثلاثين ألفا من الروم والأرمن والفرنج،
11
ووقع بيمند أحد ملوكهم أسيرا في قبضته فباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد، وافتدى أحد ملوكهم نفسه أيضا بمال جسيم فأخذه وبنى به مستشفى عظيما، واشترط عليه أن لا يحارب المسلمين سنين عينها، فما إن وصل الصليبي إلى أهله حتى قضى نحبه، وكان أمراء الدولة لا يرون إطلاقه بحال لإيقانهم بأنه ينكث عهده.
أما صلاح الدين فكانت علائقه بالصليبيين أشد ظهورا، وعلى يده كانت الوقائع المهمة الحاسمة، وفي أيامه جاء أعظم ملوك أوروبا إلى الشام في حملة عظيمة، وهو ريشاردس قلب الأسد ملك الإنجليز (الإنكتار)، وحاول أن يفض الحرب ونوع لذلك الأساليب، فصادق جماعة من مماليك صلاح الدين، ودخل معهم دخولا عظيما بحيث كانوا يجتمعون به في أوقات متعددة، وكان في كل هذا يخلط الجد بالهزل؛ حتى يتوصل إلى مأربه من استرجاع الأرض المقدسة، وصلاح الدين يعرف ذلك ويغضي عن هذا التلاعب.
كتب ريشاردس إلى صلاح الدين: إن المسلمين والفرنج قد هلكوا وخربت البلاد، وتلفت الأموال والأرواح، وقد بلغ الأمر حقه، وليس هناك حديث سوى القدس والصليب والبلاد، والقدس متعبدنا ما ننزل عنه ولو لم يبق منا أحد، وأما البلاد فيعاد إلينا ما هو قاطع الأردن، وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له وهو عندنا عظيم، فيمن به السلطان علينا ونستريح من هذا العناء الدائم، فأرسل السلطان في جوابه: القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم؛ فإنه مسرى نبينا ومجتمع الملائكة، فلا يتصور أن ننزل عنه ولا نقدر على التلفظ بذلك بين المسلمين، وأما البلاد فهي أيضا لنا في الأصل، واستيلاؤكم كان طارئا عليها لضعف من كان بها من المسلمين، وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة ، لا يجوز أن نفرط فيه إلا لمصلحة راجعة على الإسلام هي أوفى منها.
وبعث ريشاردس أيضا إلى صلاح الدين يقول له: لا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم ولا يجوز لي أن أهلك الفرنج كلهم. قال ابن شداد
12
بعد أن ذكر ما عرضه ملكهم من شروط الصلح العجيبة: فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة وبالخشونة أخرى، وكان مضطرا إلى الرواح، وهذا عمله مع اضطراره، والله المسئول في أن يكفي المسلمين مكره، فما بلوا بأعظم حيلة ولا أشد إقداما منه. ا.ه. ووقعت هدنة في سنة 588ه، بين المسلمين والفرنج، وحلف ملوك الفرنج وعظماؤهم، أما ملك الإنجليز فأعطى يده واعتذر عن الحلف مدعيا أن الملوك لا يحلفون.
بعض ما استفاده الصليبيون من حربهم
أخذ الصليبيون عن المسلمين حياة الرفاهية، وفارقوا عيش البداوة، واشتد ولوعهم بالزراعة والتجارة، وعرفوا أن في بلاد الشرق الإسلامي صنائع أرقى من صناعاتهم، وزراعة ناجحة، وتجارات رابحة، ورقة معاملة، وتسامحا غريبا، وحبب إليهم الترحال فربطوا صلات تجارية مع الشرق، وأيقنوا أن المسلمين إذا سكتوا زمنا عن طلب الثأر لا يقعدون عنه طويلا، متى أعدوا أسباب الغلبة، وجاء فيهم أعاظم القواد والزعماء، وهؤلاء يخلقون عند الحوادث في العادة، وهم لا يخلقون الحوادث، ولا يرتجلون زعامتهم ارتجالا.
وعرف الصليبيون
13
أن قد دعا عدم التجانس في جيوشهم، وقلة الوحدة في قيادتهم، إلى أن ركب أعداؤهم أكتافهم في بلاد الروم وبلاد الإسلام، وقربت هذه الحرب بين شعوب أوروبا، وجمعتهم تحت لواء واحد، وأشعرت قلوبهم حب الوحدة الأدبية، وساعدت على إيجاد فكرة أوربية، وعلمتهم كيف يحترمون خصومهم ، وعلمت خصومهم كيف يحترمونهم، وعقدت بينهم المعاهدات والصلات، خلال المهادنات وأيام السلام، وقد جهز ريشاردس قلب الأسد فئة من العرب جعلهم فرسانا، وعقدت عقود أنكحة بين الطائفتين، ودخل التسامح المتبادل في الأخلاق. قال منرو: كان النصارى يؤثرون استشارة أطباء المسلمين؛ لتفوقهم على أطباء النصرانية في علاج الأمراض، ولتجافيهم عن استعمال السكين والمبضع في الجراحة، وبعث بورشارد من قبل الإمبراطور فريدريك بربروسا إلى صلاح الدين ، فوصف معتقدات الإسلام وصفا حسنا، وأطرى روح التسامح عند المسلمين، وذكر الحرية التي أطلقوا عنانها لأتباع كل دين، وقال: إن أكثر المسلمين يكتفون بزوج واحدة. قال منرو: وكان صلاح الدين محبوبا في الغرب؛ لرأفته وكرمه بعد استيلائه على أورشليم، ولسلوكه سلوكا آخر غير سلوك الصليبيين سنة 1099، فأثار دهشة الغربيين وعجبهم، وكان كما هي العادة عند المسلمين، شديد التسامح مشهورا بتأدبه، وبهذا الاختلاط ارتفع من أذهان الغربيين ما دسه بعض رؤساء دينهم عمدا أو عن غير عمد على الإسلام، حتى عاد بعضهم يشرح معتقدات الإسلام بضبط ودقة، وقال: إن المسلمين مولعون بإقراء الضيوف، ومتفوقون في الأدب واللطف. وكتب ريكولدوس حوالي سنة 1294 في مدح المسلمين قائلا: ومن لا يعجب بحماستهم وبخشوعهم في صلاتهم وبرحمتهم الفقير وبتقديسهم اسم الله والأنبياء والأماكن المقدسة، وبحسن عشرتهم ولطفهم مع الغريب، وباتفاقهم وتحاببهم؟ قال منرو: وعلى الرغم من مثل هذه الشهادة بقيت نظرية أكثر الكهنة على ما كانت عليه دون تغيير، فهم ما فتئوا يشعرون أنه من المستحيل استمالة المسلمين إلى النصرانية، ولطالما تخوفوا من كثرة من دانوا بالإسلام من النصارى. ا.ه.
وأبقى الصليبيون في الشام، أي في الساحل والأرض المقدسة منه، بعض الحصون والكنائس من الآثار، ولما ضربوا الضربة الأخيرة بيد الملك خليل (690ه) سكن بعض الإفرنج في جبل لبنان، وآب قسم آخر إلى بلاده على مراكبهم، وعادت الحروب الصليبية على الغرب بخيرات لا تستقصى، ولو لم يكن منها غير تحطيم قيود التعصب الكنسي لكفى؛ وذلك لما رأى الصليبيون من تسامح المسلمين، وتساهل مشاهير أمرائهم كنور الدين وصلاح الدين، فانتشرت التجارة بعد الحروب الصليبية، أكثر من انتشارها أيام المملكة الرومانية، وأخذت أوروبا عن العرب عادات الفضيلة والمدنية، وكل ما يهون الحياة ويحليها للأنفس. قال سنيويوس بعد إيراد هذا: بدأت الصلات بين الغربيين والشرق بحرب بين المؤمنين، وانتهت بمسائل قامت بين المتجرين، وتحضر الغربيون باحتكاكهم بالشرقيين، وأثر هذا الاختلاط في أفكار النصارى الدينية، فتحمسوا أولا للنزال والطعان، ولما شاهدوا المسلمين عن أمم، ورأوا فيهم رجالا أشداء منورين كرماء أمثال صلاح الدين - الذي أخلى سبيل أسرى النصارى بدون فدية، وبعث بطبيبه إلى أحد زعماء الصليبيين ليداويه من مرضه - بدءوا باحترام المسلمين.
رأي لبون في مضار الحروب الصليبية ومنافعها
وأفاض لبون في نتائج العراك الذي حدث بين الغرب والشرق في الحروب الصليبية، فقال: إنها كانت عقيمة من حيث غايتها الأولى، وهي الاستيلاء على فلسطين، فإن الصليبيين على ما أهرقوا من الدماء، وبذلوا من الأموال، رجعوا بعد قرنين، بخفي حنين. أما من حيث النتائج غير المباشرة في هذه الحروب، فيمكن أن يقال: إن منافعها عظيمة؛ وذلك أنه كان الاختلاط بالشرق مائتي سنة من العوامل القوية في انتشار المدنية في أوروبا، وحدث أن الغاية من الحروب الصليبية جاءت على غير ما أريد منها، ولهذا التناقض بين الغاية المتوخاة، والغاية التي وصلوا إليها ما يماثله في التاريخ؛ وليتمثل لذهنه من شاء أن يقدر التأثير المشترك من احتكاك الشرق بالغرب حالة تمدن كل الشعوب التي اختلطت بالأمم الأخرى، ونحن نعرف أن الشرق بفضل العرب كان ينعم إذ ذاك بمدنية زاهرة، على حين كان الغرب غارقا في التوحش، وقد استدللنا من مجموع أعمال الصليبيين أنهم كانوا في كل مكان متوحشين حقيقة ينهبون ويذبحون، لا فرق عندهم بين عدوهم وصديقهم؛ خربوا القسطنطينية أثمن كنوز العاديات اليونانية واللاتينية، ولم يربح الشرق باحتكاكه بهؤلاء البرابرة من الصليبيين، بل خسر ونتجت له كراهة الغربيين كراهية دامت قرونا، وهذا من النتائج المضرة.
أساء الشرقيون الظن بالشعوب النصرانية في أوروبا، وتظننوا الظنون بدينهم، لما رأوا من جهل الصليبيين وخشونتهم وقسوتهم الحمقاء، وقلة دينهم، فانفرجت مسافة الخلف بين الشرق والغرب، بحيث يتعذر تلافي ما فرط، وكان من ذلك زيادة نفوذ الباباوات وفساد رجال الكهنوت، فأنتج ذلك الدعوة إلى الإصلاح الديني، وما أعقب ذلك من المجالدات الدامية، ومن أشأم نتائج تلك الحروب، أن تأصل التعصب وعدم التسامح في العالم عدة قرون، وبدأ الدين في مظهر من القسوة والوحشية، لم يكن لنحلة عهد بها ما خلا اليهودية، وبلغ التعصب بعد تلك الحروب درجة الجنون، وما زالت آثاره متجلية إلى اليوم؛ فقد اعتاد رجال الدين أن يهرقوا الدماء، فأنشأوا يطبقون على قومهم طرق الإبادة التي طبقوها على أعدائهم من قبل، بدعوى نشر الإيمان وإبادة الإلحاد، وكل من بدرت منه بادرة خفيفة من الخلاف، كان حريا أن يلقى أشد العذاب، وما مذابح اليهود والإلبيجاويين وطبقات كثيرة من الملحدين، وما ديوان التحقيق الديني والحروب الدينية، وجميع المعارك الوحشية التي سالت فيها الدماء في أوروبا زمنا طويلا، إلا نتائج مشئومة نشأت عن التعصب الذي أوقد الصليبيون ناره. ا.ه.
وفي الحقيقة إن الصليبيين كان يشعر ظاهرهم بأنهم يقصدون خدمة دينهم بالاستيلاء على القبر المقدس، مهوى أفئدة الأمم النصرانية، ولكن الواقع أنهم كانوا منحلين من جوهر الدين، وأقرب إلى نزع شعاره متى رأوا مغنما لهم، أو فاحشة يأتونها، أو حيلة يحتالونها، أو جناية يجنونها، ولا يدركون عواقبها عليهم وعلى قومهم وأممهم؛ فقد ذكر العماد الكاتب
14
كيف أرسل الصليبيون في الغرب إلى إخوانهم الصليبيين في فلسطين بضع مئات من النساء يبذلن أنفسهن للمتحاربين من إخوانهم، مما تأباه الشرائع السماوية كل الإباء، وهذا معنى قول لبون: إن الصليبيين كانوا متوحشين جهلة قليلا دينهم ويقينهم، خلافا لمن يحاول أن يلبسهم ثوبا براقا شفافا من المدنية، وما دثارهم إلا الجهل والحماقة، وما شعارهم إلا التعصب والاستهتار.
سياسة صلاح الدين واستفادة الصليبيين
قبل الحروب الصليبية كان لا يعرف الشرق من الغربيين غير أفراد أذكياء رحلوا في التجارة، أو جاءوا فلسطين للزيارة، أو نزلوا الأندلس وصقلية في طلب علم لا يعرفونه، أما في هذه الحروب فقد عرفوا الشرق الإسلامي ، وكان الواغلون عليه من مختلف الطبقات، فرأوا المسلمين في عقر دارهم، وحققوا أنهم ممتازون بصفات حربية وأدبية وعلمية واجتماعية، رأوا أمة تحررت من قيود الدينيين بعض التحرر، وأنها أمة من طراز غير ما يعرفونه من أجيال الناس، نقول: تحررت من قيود الدينيين؛ لأنا رأينا صلاح الدين لم يرض أن يشرك رأيه مع رأي الفقهاء في هذه النازلة، فكان اعتماده على رأيه ورأي قواده وأهل الحنكة من رجاله، لعلمه بأن نظر رجال الدين يختلف في مثل هذه الأحوال عن نظر رجال السياسة، ولو عمل يوم فتح القدس برأي الفقهاء وعامل الصليبيين بالقسوة التي عاملوا بها المسلمين غداة فتحهم تلك المدينة؛ لأقام في كل دار في الغرب مأتما، ولما انحلت العقدة المهمة من الحروب الصليبية، فكان نظره أرقى من نظر من أشاروا عليه بقتلهم عن بكرة أبيهم، ومعاملتهم بمثل ما عملوه.
أما الصليبيون فكانوا تحت سلطان رجال الدين مباشرة؛ إذا أحب رجال السياسة المسامحة مع المسلمين دعوهم إلى المشاكسة، وإذا رأوا من الحكمة الوفاء بالعقود والعهود، أباحوا لهم التفلت من كل الأيمانات والقيود، أراد ملك إنجلترا أن يزوج أخته من الملك العادل أخي صلاح الدين، وأن تكون لهما البلاد الساحلية الإسلامية والإفرنجية؛ فللإفرنجية من جانب أخيها، وللمسلم من جانب السلطان، فأنكر رجال الدين على ملك الإنجليز وضع أخته تحت مسلم بدون مشاورة البابا، وبالطبع لم يشر هذا إلا بأن يدين الملك العادل بالنصرانية، فلم يتم شيء من هذا التدبير. ورأى بعضهم
15
أن الحروب الصليبية التي بدأت في القرن الحادي عشر وانتهت في القرن الثالث عشر تعد بالنسبة للغرب نهضة انبعثت من الطبقات النازلة بدعاية بطرس الناسك الذي جند تحت علم الصليب جمهورا من الفلاحين وأبناء الشعب، وهذه الثلاثة القرون التي استغرقت بالحروب الصليبية وانتهت بالقرن الثالث عشر ودعيت بعصور الإيمان كانت الدور الذي خلا في أوروبا النصرانية من عقد ديوان التحقيق الديني بأمر الكنيسة أو بأمر الحكومات.
وفي التاريخ العام أن من الفوائد التي عادت على الغربيين من الحروب الصليبية: تحرير أصحاب الأرضين من رقهم، وتقوية السلطة الملكية، وإدخال تعديل على نظام الإقطاعات، وانتشار الشعر الغنائي واغتناء إيطاليا، وضعف قوة التدين، ووهن سلطة الباباوات إلخ. وربما كان من أهم ما استفادت أوروبا انتقال الثروات من أيدي الأمراء والزعماء إلى أرباب الطبقات الوسطى والدنيا من أهلها، فباع من باع من الكبراء، وابتاع من عمل بأرضه ومتجره فاغتنى واقتنى الرباع والضياع.
وذكر ميشو أن الفرنسيس والنورمانيين وسائر شعوب شمالي أوروبا المتوحشة في القرن الثاني عشر للميلاد، كانوا في حالة البداوة، وهذا ما ساعدهم على إعلان الحروب الصليبية في الشرق، فلما نشأت المدنية الحديثة في القرن السادس عشر وتسربت أولا إلى الملوك، أصبحوا لا يرون الاغتراب عن أوطانهم، ولا الشعوب أن تفارق مساقط رءوسها، وعمت الصناعات، وحسنت الزراعة، وانتشر العلم، وغدا ذكرى كل مدينة، وكل أسرة، ومصطلح كل شعب وقطر، والألقاب والامتيازات، والحقوق المستحصلة والأمل في تنميتها، كل ذلك قد غير من أخلاق الفرنج، وبدل من ميلهم لحياة التنقل والارتحال، وجعلها صلات تربطهم بالوطن. وكتب التوفيق للملاحة في القرن التالي بالكشف عن أميركا، واجتاز الملاحون رأس الرجاء الصالح، فنشأ من هذه المكتشفات تبدل كثير في التجارة، وأخذت الأفكار تتجه وجهة جديدة، وأنشأت المضاربات الصناعية التي كانت قائمة بالحروب الصليبية تسير نحو أميركا والهند الشرقية، ففتحت أمام الغربيين ممالك كبرى وأقطار غنية، تسد مطامعهم، وتشبع نهمة التائقين إلى المجد والثروة والمطوحات، فأنست حوادث العالم الجديد ما في الشرق من عجائب إلخ.
هذا ما استفاده الصليبيون من حرب المسلمين في الشام، وهذا ما استفاده المسلمون من مهاجميهم في ديارهم، وبذلك رأيتم أن الصليبيين كانوا ظالمين لأنفسهم ولغيرهم في إثارة تلك الحرب المشئومة، وجنوا بإغراء رجال الدين منهم، فألقوا بهم إلى التهلكة، وأضاعوا من صيت فرسانهم، وفقدوا من شممهم وعزة أنفسهم، لما حلوا غير أرضهم يقتلون كل بريء، ويخالفون القوانين المرعية بين البشر. ومهما كان من النتائج التي نشأت للفريقين من هذه الحروب الطويلة، فإن الخسائر المادية يصعب تقديرها، وتعلم الصليبيون أمورا كثيرة من مدنية العرب، ولكن كانوا يستطيعون أن يدرسوا حضارة هذه الأمة في الأندلس وصقلية، من دون تقتيل مئات الألوف منهم ومن غيرهم، «رجع الآلاف
16
من الغزاة الصليبيين إلى بلادهم وحملوا إلى الناس أخبارا تناقض ما كان ينشره دعاة الحرب من رؤساء الكنيسة من أن المسلمين جماعة من الوثنيين غلبوا على الأرض المقدسة وأجلوا عنها دين التوحيد، ونفوا منها كل فضيلة وإخلاص، وهم وحوش ضارية وحيوانات مفترسة، فلما قفل الغزاة إلى ديارهم قصوا على قومهم أن أعداءهم كانوا أهل دين وتوحيد ومروءة وذوي ود ووفاء وفضل محبة.»
اعتصم المسلمون في هذه الكارثة العظمى بحبل الله، ورضوا بما قدره وقضاه، وخلعوا عنهم ثوب الخمول، وابتعدوا عن كل هزل وفضول، التحفوا شعار الجد والاجتهاد، لخوض غارات المغول والأتراك على الحضارة العربية غمرة هذا الجهاد، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا.
غارات المغول والأتراك على الحضارة العربية
حضارة المدن الإسلامية
لئن كان من استقلال بعض أمراء القاصية عن الخلافة العباسية ما دعا إلى فصم عرى الجماعة، فإن هذا الانفصال مهما كان نوعه نشأت منه أيضا فوائد عظيمة في عمران البلاد ورسوخ الحضارة العربية فيها، فبنو الأغلب في إفريقية، وبنو طولون وبنو عبيد في مصر، وبنو سامان في بخارى، وبنو بويه في شيراز، وبنو سبكتكين في غزنة، كل هؤلاء نسجوا على منوال بني العباس في بغداد، فصارت كل عاصمة من هذه العواصم بتراتيبها وعلمها مثل دار السلام مصغرة.
وكأي من قاعدة كقرطبة والقيروان والفسطاط ودمشق وبخارى وسمرقند وبلخ وهراة وأصبهان والري ومرو ونيسابور وشيراز ومراغة وهمذان وخوارزم بل سجستان وجرجان وطبرستان وقزوين وجوين وبست وسرخس وبيهق وأشر وسنة وفرغانة والصغد والشاش وطوس وغيرها من بلاد الشرق كانت آية في حركتها العلمية، وضع الأمويون أساسها، وترسم خطاهم فيها بنو العباس فألبست ثوب القطر الذي انتشرت فيه، ودخلت معظم هذه المدن في طور مدنية أصبحت معها كل واحدة منها دار علم وحكمة، تدرس فيها العلوم على اختلاف صنوفها باللغة العربية، والناس في أرض الترك والفرس والخزر يتقدمون كل يوم خطوة من التعرب، أما البربر في الغرب فإنهم أنشأوا بسيوفهم ممالك في تاهرت وسلجماسة وتلمسان والريف وفاس ومكناس، واستولوا على الأندلس لكن المدنية أضرت بهم لما
1
احتكوا بأهلها في البلاد الأندلسية فقضت عليهم كما قضوا عليها، فكان شأنهم شأن المغول في فك عرى المدنية الإسلامية وقلة الاستعداد للأخذ بمذاهبها؛ فإن مذاهب الترف استولت على صنهاجة ومنهم المرابطون فهلكوا فيها كما هلك قبل ثمانية قرون أسلافهم الفانداليون في شمالي إفريقية. وصف المقدسي الري في القرن الرابع، فقال: «إن فيه مجالس ومدارس وقرائح وصنائع ومطارح ومكارم وخصائص، لا يخلو المذكر من فقه، ولا الرئيس من علم، ولا المحتسب من صيت، ولا الخطيب من أدب، هو أحد مفاخر الإسلام وأمهات البلدان، به مشايخ وأجلة، وقراء وأئمة، وزهاد وغزاة وهمة.» ووصف قصر عضد الدولة في شيراز، وكان فيه ثلاثمائة وستون غرفة يجلس كل يوم في واحدة، فقال في خزانة كتبه: إن عليها وكيلا وخازنا ومشرفا من عدول البلد، ولم يبق كتاب صنف إلى وقته من أنواع العلوم كلها إلا وحصله فيها، وهي أزج
2
طويل في صفة كبيرة فيه خزائن من كل وجه، وقد ألصق إلى جميع حيطان الأزج والخزائن بيوتا طولها قامة في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوق، عليها أبواب تنحدر من فوق، والدفاتر منضدة على الرفوف. لكل نوع بيوت وفهرستات فيها أسامي الكتب. وكان عضد الدولة
3
محبا للعلوم وأهلها فقصده العلماء من كل بلد وصنفوا له الكتب، ولا تظن أن عضد الدولة كان كأكثر الملوك يخرب أقاليم ليعمر له قصرا، بل كان عاقلا فاضلا حسن السياسة شديد الهيبة، أما أبوه ركن الدولة، وكانت إمارته أربعا وأربعين سنة، «فقد أصيب به الدين والدنيا جميعا لاستكمال خلال الخير فيه.»
ولقد كانت بخارى وسمرقند عاصمتي العلم على عهد السامانيين حتى كادت حضرتهم تماثل حضرة بني العباس، «وكانت بخارى في الدولة السامانية مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر.» وكان في مراغة
4
إلى القرن السابع آثار وعمائر ومدارس وخانكاهات حسنة، وكان فيها أدباء وشعراء ومحدثون وفقهاء وكذلك كانت همذان، وما زالت إلى تخريبها بجند تيمورلنك «محلا للملوك ومعدنا لأهل الدين والفضل»، وأنشأ محمود بن سبكتكين في عاصمته غزنة من المصانع الجميلة ما يعد دهشة الأمصار، وكان قصره مجمع الشعراء والعلماء، ومنهم البيروني
5
سيد علماء العالم في القديم، وأعظم رياضي نبغ في الإسلام، ومنهم الفردوسي
6
الشاعر، والعتبي الكاتب، إلى عشرات أمثالهم من المغنين والشعراء.
وما لنا ووصف تلك العواصم، واستقصاء أخبار كل واحدة منها، وما أبدع فيها رجالها من علم وعمل يحتاج إلى مجلدة، وكذلك تاريخ المدن
7
التي أنشأتها العرب أو جددتها كالبصرة والكوفة وبغداد وسامرة وواسط ومراغة وشيراز وقصر ابن هبيرة وعسكر مكرم وأردبيل وسرخس وسمرقند وبيكند وبوزجان وسامان وشهرستان ودهسيان وأذنة والمصيصة وسلمية والفسطاط والقطائع والقاهرة والقيروان والمهدية وبونة وبجاية ووهران ورباط الفتح وتامدلت ومراكش وفاس والمسيلة وبطليوس وتطيلة والمرية والزهراء إلى غيرها من المدن العربية.
والغاية هنا أن نمثل تمثيلا خفيفا لتلك الحضارة الرائعة في قواعد البلاد، وحسبك في تصويرها أنه كان في مدينة مرو فقط - وكانت مرو ونيسابور وبخارى مستقر ولاة خراسان من أول ما ملكها العرب - عشر خزائن للوقف. قال ياقوت: إنه لم ير في الدنيا مثل كتبها كثرة وجودة، وما خلت كل مدينة من مدارس وخزائن كتب وعلم وعلماء، وكثيرا ما كانت بعض القرى تشبه المدن في هذا المعنى على صورة صغيرة، دام ذلك إلى أوائل المائة السابعة، وقد طغى المغول على بلاد الإسلام تحت راية جنكيز، أعظم فاتح عرفه التاريخ، وأعظم مخرب قام في الأرض، خرب أقطارا وأمصارا، وما عرف له من غرض في ذلك إلا حب التخريب؛ ولذلك قالوا: ما دهي الإسلام بمثله، امتدت مملكته من بحر الصين إلى البحر الأسود،
8
واستولى على ما وراء النهر وخوارزم وخراسان وهرات وقندهار وملتان وأفنى أهلها، وقتل كل من كان فيها من كبير وصغير،
9
ثم خربها حتى ألحقها بالأرض، وتركها بلقعا ينعق الغراب في ربوعها، وأتى على ما تعب العرب بإيجاده ستة قرون في غزنة ونيسابور وشيراز وبخارا وسمرقند وغيرها من البلدان، وكانت من أعظم عواصم العلم وحواضر الإسلام، وبمن قام فيها من العلماء والفضلاء تمت آيات باهرة من الحضارة العربية ممزوجة بالحضارة الفارسية، فقضى المغول على كل ذلك حتى إن بعض المدن الكبرى هلك سكانها كلهم وخربت برمتها، وكم من خزائن
10
كتب أحرقت، ومن مدارس علم قوضت، ومن مراصد فلكية دمرت، وكان أهم سبب في فقدان أكثر ما ألفه علماء المسلمين وحكماؤهم من التصانيف ما أتاه جنكيز وأولاده وأحفاده، ثم جاء هولاكو المغولي فدك أعظم ركن للإسلام، وخرب مدينة دار السلام، وناهيك بها من فاجعة قضت على آخر معقل من معاقل الحضارة. وما أفاد تلك الأقطار استرجاع حكومات الإسلام لها فيما بعد، فإن جنكيز في أول القرن السابع، وهولاكو في منتصفه وتميور أواخر الثامن وأول التاسع، إلى غيرهم من أمراء المغول الأشرار كانوا إذا سلم بلد أو إقليم من عبث الأول جاء الثاني فأتم ما أغفل الأول، وإذا فرض أن نجا صقع من الثاني فالثالث يأتي عليه لا محالة، وعلى الجملة فإن المغول من الشرق والبربر من الغرب قضوا على المدنية الإسلامية.
11
استعداد المغول للحضارة
التتر والترك والتركمان أجيال كثيرة، يرجعون بأصولهم إلى الجنس المغولي، ومنهم بادية رحالة ومنهم حضر ينزلون القرى والمدن. وكان الترك من أول من دان بالإسلام من هذه الشعوب، وبقي المغول والتتر إلى القرون الأخيرة على أديانهم القديمة، ونزل السلجوقيون الأتراك بلاد فارس والعراق والروم وكرمان والشام، وكان ملكشاه وألب أرسلان من أول ملوكهم الذين كانوا على شيء من العدل وحسن التدين، وكان أكثر هؤلاء السلجوقيين
12
يحبون العلم والآداب، ولا سيما ملكشاه ومحمد وسنجر، ويعطفون على العلماء، وقد ارتقت البلاد الإسلامية في أيامهم ارتقاء محسوسا، وانتشرت العلوم والآداب ونبغ العلماء والأدباء، وهذب الإسلام من نفوسهم، وألقى الرحمة والشفقة في قلوب جيوشهم، فما ارتكبت ما ارتكبه جنكيز وهولاكو وقومهم وكان هؤلاء ما زالوا على وثنيتهم ووحشيتهم. يقول هوتسما:
13
إن المغول والترك كانوا في كل زمان لا يحفلون كثيرا بالأديان المختلفة وليسوا من طبيعتهم متعصبين لها.
خرب جنكيز عواصم العلم في فارس مثل طوس ونيسابور وقزوين وأصفهان وشيراز ومراغة وغيرها،
14
وأكمل من أتى بعده تدميرها وكان سلاطين السلاجقة ووزراؤهم يتبارون في إقامة المصانع كالجوامع والمدارس والجسور والفنادق،
15
واهتم ملكشاه بالعلوم وإن لم يكن عالما، فكان ورجاله يقدرون قدر ما حرموه من نعمة المعرفة، وتركوا إدارة البلاد لوزرائهم مثل نظام الملك الذي كان مطلق اليد في الحكم، فكان السلجوقيون بما لقفوا من الثقافة العربية الفارسية يدافعون قومهم عن العبث بالمدنية ويحمونها من غاراتهم، ويسوقونهم إلى الأخذ بحظ منها، وللسلجوقيين أياد بيضاء على الإسلام يوم جدت غارة الصليبيين عليه، وكفاهم أنه كان من أمرائهم أمثال آل زنكي ومنهم نور الدين محمود مثال العادلين في السلاطين، ومن وزرائهم أمثال نظام الملك نصير العلم والعلماء.
وبينا كانت في هذا الشرق القريب تتألف كتلة صغيرة تدفع الصليبيين عن سرة بلاد الإسلام مصر والشام، فتخرب مدن وحصون، وتندك معالم وجوامع، كان جنكيز يخرب في أواسط آسيا بلاد المسلمين، ولم تكد تدفع الشام عنها عادية الحروب الصليبية حتى جاء هولاكو بغداد يخربها ويقتل الخليفة المستعصم ويقضي على جلة الفقهاء ورجال الدولة، يضع السيف في دار السلام
16
أربعين يوما، ويستخرج الأموال والتحف بأنواع العذاب، ويحرق معظم تلك المدينة الساحرة، وزادت عدة القتلى عن ثمانمائة ألف، عدا الأطفال ومن هلكوا في السراديب والقنى والآبار، وأحرق قبور الخلفاء ونبش عظامهم، وبنى بكتب العلماء إصطبلات الخيول وطوالات المعالف عوضا عن اللبن. وقيل: إن ماء دجلة تغير لونه لكثرة ما ألقى فيه التتر من الكتب والأوراق. وقيل: إنه أقام بكتب العلم ثلاثة جسور على دجلة، هذا عدا ما نهب من البلاد التي احتلها، فملأ في مراغة خزانة عظيمة من الأسفار، نهبها من بغداد والشام والجزيرة، حتى تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد.
17
ومن أعظم البلاء في القضاء على الخلافة العباسية بدار السلام أن الرافضة عاونوا
18
هولاكو على المسلمين، لما جاء إلى خراسان والعراق والشام، كما كانوا عاونوا جده جنكيز قال ابن تيمية: وكان العلقمي وزير الخليفة منهم فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى العامة عن قتالهم، ويكيد أنواعا من الكيد حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان أو أكثر أو أقل، ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر. ا.ه.
وجاء في آخر القرن السابع (699) غازان التتري يفتح الشام ، وكان أسلم قبيل توليه ملك الإيلخانية في تبريز، فخرب وأحرق وقتل وصادر وعذب على استخراج المال وأحرق قسما مهما من دمشق، منها بعض أمهات مدارسها وجوامعها، وأخذ من دمشق ثلاثة آلاف ألف دينار وستمائة ألف دينار سوى التراسيم والبراطيل والاستخراج لغيره من الأمراء والوزراء، وحجته في حرب أمراء مصر والشام أنهم خارجون من طريق الدين ليس لهم وفاء ولا زمام، يجورون على الرعية ويمدون أيديهم العادية إلى حريمهم وأموالهم.
وآغار تيمورلنك التتري أوائل القرن التاسع، يصفي حسابات التخريب في ممالك الإسلام؛ فأخرب مدنا في طريقه إلى الشام، ومن أهم ما أخرب مدينة بغداد (803)؛ فذبح أهلها ودك معالمها، وخربت بيوت الناس والدور العامة. وخرب أيضا ثلث دمشق وبعض حلب، وقضى فيهما على المدارس والجوامع وخزائن الكتب، وكانت دمشق أغنى مدينة في العالم فضرب عليها غرامة عظيمة أفقرتها، وكان قبل أن يلقي النار يستصفي لنفسه وقواده وجنده ما راقهم من العروض والأموال، ثم ارتحل عن دمشق يحمل منها أصحاب الحرف والصنائع
19
وأرباب الفضائل، وقد أخذ وجماعته من نفائس الأموال فوق طاقتهم، فجعلوا يطرحون ذلك في الدروب والمنازل؛ وذلك لكثرة الحمل وقلة الحوامل، وأصبحت القفار والبراري والجبال من الأمتعة والأقمشة كأنها سوق الدهشة،
20
وكأن الأرض فتحت خزائنها، وأظهرت من المعادن والفلزات
21
كامنها، وأخذ تيمور من دمشق كل ماهر في فن من الفنون، وجملة من العلماء، وربما أخذ أناسا من الأعيان والسادة والنبلاء، وكذلك كل أمير من أمرائه أخذ الفقهاء والعلماء وحفاظ القرآن وأهل الحرف والصناعات والعبيد والنساء والصبيان والبنات بما لا يسعه الضبط، هذا ما عمله في عاصمة واحدة وكذلك شأنه في معظم عواصم الإسلام.
على أن تخريب تيمورلنك لا يقاس إلى تدمير جنكيز وهولاكو؛ لأنه كان مسلما خرب قسما وأبقى آخر، ونقل - شأن كثير من الفاتحين - كنوز البلاد التي وطئها إلى أرض أخرى، ومع أنه استحل إهراق الدماء
22
على غير طائل فقد كان محبا للمعارف والعلماء، وجعل ما جمعه من آثار المدن المخربة في عاصمته سمرقند، زينها بها وعمرها، وأنشأ عدة مدارس وخزائن كتب وغير ذلك من أساليب نشر العلم.
وبينا كانت بلاد الإسلام بعد الغوائل التي انتابتها بالصليبيين الآتين من الغرب، والمغول الواغلين من الشرق، تكفكف العبرات التي سفحتها في القرن الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع، قام من فروق في القرن العاشر سلطان تركي، يعد من أعظم السلاطين العثمانيين، ففتح قسما من بلاد فارس واستولى على الشام ومصر وسائر بلاد الجزيرة على أيسر سبب، ولم يقصد مباشرة إلى تخريب ما احتمل من المدن العامرة، بل أراد تعريتها من ذخائر العلم والصناعات، فعمل على انتزاع بقايا المدنية العربية من القسم العامر من بلاد العرب في آسيا وإفريقية، محاولا أن يعيش بالتراث العظيم الذي صار إليه من هذه الحضارة، ساكتا عن أصلها وسندها وعن أبي عذرتها؛
23
فبدأ ينقل معظم أدوات المدنية إلى القسطنطينية ليعمرها على الصورة الإسلامية في الجملة، ويخرجها من الرومية المتأصلة فيها، لتكون محط الأنظار بين الأقطار، ويجعل مدنية الترك الإسلامية نعمت الخالفة، لمدنية اليونان الوثنية النصرانية السالفة، فحمل هذا الفاتح من مصر إلى فروق كتب العلم ورجاله، وآلات الصناعة وصناعها، وأجمل الأعلاق وأثمن الجواهر، فسلب مصر مدنيتها، وكانت الأيام سالمتها قليلا فأصبحت عاصمة مهمة على عهد المماليك البرجية والبحرية، وقويت صلاتها التجارية بالغرب، وأنشأوا لهم مدنية لا بأس بها، وراجت في أيامهم التجارة، وخرج السلطان سليم من مصر
24
ومعه ألف حمل من الذهب والفضة، دع التحف والسلاح وأعمدة الرخام والصيني والنحاس، وأخذ من كل شيء أحسنه، وبطل من مصر نحو خمسين صنعة، وعمرت خزائن الآستانة وقصورها من كتب بلاد العرب التي نجت في القرنين السالفين من هولاكو وتيمور، وحبس الأتراك كتب العرب في قصورهم وجوامعهم ومدارسهم، على قلة الراغبين فيها من بني قومهم، وبذلك محيت من الأذهان أول المظاهر العربية في أرض العرب، وغض الأتراك الطرف عن معاهد العلم ومصانع البلاد فخربت خرابا مبكيا، ولم تعد لها قائمة، كأن هذا الجنس التتري حلمة طفيلية لا يعيش إلا بامتصاص دم غيره، وكأن السلطان سليما بعثته الأقدار للقضاء الأخير على الحضارة العربية في فارس والشام ومصر، وهي من الأقطار التي كانت على غابر الدهر موطن الحضارة العربية وكهفها الأمين.
تخريب الأتراك ما بنته الدول قبلهم
ومن أهم ما قضى على مدنية العرب في عهد الترك إهمال المدارس وامتداد أطماع الطامعين في استصفائها، ونزع وقوفها وأحباسها، وفي الخطط التوفيقية أن النظار في مدارس القاهرة تصرفوا خلال ثلاثة قرون من العهد التركي على غير شروط وقفها، وامتنع الصرف على المدرسة والطلبة والخدمة، وانقطع التدريس بالكلية لكثرة الاضطرابات، وبيعت كتب المدارس وانتهبت، حتى آلت الحال ببعض المدارس الفخمة والمباني الجليلة أن أصبحت زوايا صغيرة، وزال بعضها جملة أو صار زريبة أو حوشا أو غير ذلك.
ومثل هذا وقع في عاصمة الشام فقد دخل الأتراك دمشق وفيها أكثر من 150 مدرسة للقرآن والحديث والفقه على المذاهب الأربعة ومدارس الطب ومدرسة الهندسة، عدا الربط والخوانق والمستشفيات، وخرجوا منها بعد زهاء أربعة قرون وليس فيها سوى بضع مدارس عامرة بعض الشيء ولا تدريس فيها، هذا عدا ما كان من المدارس الجليلة في مدن الأقاليم كالقدس وحماة وحمص وحلب وطرابلس وغيرها، وكلها أصيبت بما أصيبت به مدارس دمشق،
25
وجميع هذه المدارس كان فيها خزائن كتب، وعامة المرافق وأسباب الراحة والتشويق والاستفادة تامة، ومثل ذلك قل في مدارس العراق، ولا سيما الموصل والبصرة وبغداد، وناهيك بالمدرسة النظامية (459ه) والمدرسة المستنصرية (631ه) في بغداد، ولم يقتصر نظام الملك على إنشاء المدرسة البغدادية أو الجامعة البغدادية، بل بنى دور العلم للفقهاء وأنشأ المدارس للعلماء، وأسس الرباطات للعباد والزهاد، ثم رتب لهم الجرايات والكساوي والنفقات، وأجرى الخير والرزق لمن كان من أهل الطلب للعلم مضافا إلى أرزاقهم وعم
26
بذلك سائر أقطار مملكته، فلم يكن من أوائل الشام وهي بيت المقدس إلى سائر الشام الأعلى وديار بكر والعراقين وخراسان بأقطارها إلى سمرقند من وراء نهر جيحون مسيرة زهاء مائة يوم، حامل علم أو طالبة أو متعبد أو زاهد في زاويته إلا وكرامته شاملة له وسابغة عليه. وكان الذي يخرج من بيوت أمواله في هذه الأبواب ستمائة ألف دينار في كل سنة، وكانت غلة المدرسة المستنصرية نحو سبعين ألف دينار، وقيل: إن قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار جعلت على المذاهب الأربعة، وأقيم فيها مستشفى وأطباء يدرسون الطب كما يدرس فيها علم الحيوان والنبات والفلك والرياضيات على اختلاف ضروبها، والآداب بأنواعها والتاريخ وعلوم القرآن والحديث،
27
وهكذا الحال في عامة مدارس بلاد العرب.
ولقد تفنن ملوك المسلمين وأهل الخير من رعاياهم في أعمال البر والإحسان، وأقاموا من المصانع ما يشبه من أكثر وجوهه أعمال الغربيين اليوم، فقد كان كوكبوري صاحب إربل من أهل القرن السابع من بعض أولئك المحسنين، ومما بنى أربع خانقات
28
للزمنى والعميان وقرر لهم ما يحتاجون إليه، وبنى دارا للنساء الأرامل ودارا للضعفاء ودارا للأيتام ودارا للملاقيط، ورتب بها جماعة من المراضع وأجرى على أهل كل دار ما يحتاجون إليه في كل يوم، ولا تزال إلى اليوم بقايا من هذه الخيرات العجيبة في بلاد الإسلام، فقد ذكر الأخوان تارو أن في مدينة مراكش ملجأ لا مثيل له في الدنيا بأسرها، وهو بناء يكاد يكون بلدة يضم ستة آلاف أعمى يأكلون فيه ويقرءون، ولهم قوانين يجرون عليها وتراتيب تنظم من شئونهم.
كانت العربية ماثلة في الشام يوم دخلها العثمانيون في سنة 922ه في معظم مظاهر الحياة، فأطفأوا شعلتها وأضعفوا قوتها، ولو نجا الشام وحده من حكمهم لنشر - لتوسطه بين الولايات العربية - أنوار الحضارة، ولو كتب له الانضمام إلى مصر منذ استقلت بها الأسرة العلوية، لتساند القطران الشقيقان في مهمة التمدين، ولما آضت هذه الولايات وكانت مستنبت العربية، أشبه بالقرى منها بالمدن، يوم دعا الترك داعي الرحيل. لا جرم أن صنعاء ومكة والمدينة والبصرة وبغداد والموصل وحلب ودمشق كانت إلى عهد قريب من الانحطاط في عمرانها، والجهل المتأصل في سكانها، على ما تذرف له الدموع حزنا، ومن أين يرجى لها مدنية وقد اصطلحت على جسمها جميع أمراض الانحلال، وهل المدنية غير ابنة الراحة والسكون، والعمل المتصل، والتفكير الطويل، وهذا ما كان مفقودا فيها.
فكروا في المدارس القديمة التي دثرت بدخول الدخلاء والأعاجم، وكيف كان لها عمل عظيم في القضاء على الأمية بين الناس؟ كانت معاهد هي غاية ما وصل إليه العقل البشري ظرفا ومظروفا في العصور الغابرة، وبها أثبت أجدادنا في القرون الوسطى أنهم كانوا شيئا في إتقان الهندسة والبناء، وأنهم على جانب من سلامة الذوق، وأنهم حراص على المجد، هذه المدارس تنطق بلسان حالها أن الأعمال العظيمة لم تقم لو لم تفكر بها عقول كبيرة، وأن تلك المدارس والمصانع ما كانت تعمر لو لم يدرس فيها رجال الدين والعلم والأدب، وما كانت تسير سيرا ضمن لها الخلود قرونا، لو لم تجهز بقوانين معقولة وتراتيب متسلسلة، وما قام في الأرض شيء من العظمة إلا كان إلى جانبه عظماء يتعهدونه، ويفيضون عليه من معين قرائحهم.
قامت معظم معاهدنا في القرون الوسطى بتأثيرات دينية، وكانت المسائل المدنية تابعة لها وعالة عليها، ولعمري هل كانت أوروبا على غير تلك الحال أيضا في تلك العصور؟ وهل البيع والديرة في الغرب إلا وليدة الدين ومن صنع رجاله؟ أو من أحبوا التقرب من قلوب المتدينين، أو قامت بأيدي المتظاهرين بالدين من الحكام والملوك، فلما جاء دور النهضة والإصلاح، ونجا الغرب من تأثيرات تلك القرون بالثورة على النظم القديمة، انتهى عمل تلك المصانع، فانقلبت على التدريج من معاهد دين إلى دور علم، وأصبحت الدينيات تقرأ في بعضها على أساليب جديدة من البحث والنظر، بل إن الأموال الطائلة التي كان يجمعها ملوك الغرب بإرهاق رعاياهم، ليبنوا بها قصورا لهم ولأتباعهم وحظاياهم، جعلت عندهم في عصور الارتقاء متاحف ومحاكم ومدارس، ولو تركت مدارس الإسلام وشأنها في هذه الأقطار العربية لاستحالت مع الزمن معاهد علم وفن.
المقابلة بين الفرس والترك
هذا ما كان من موجبات تراجع الحضارة العربية، أو ضعف العلم والعمل في أبناء العربية، أما الحضارة في البلاد الإسلامية الأخرى كفارس والأفغان والهند وتركستان والقوقاز التي تأثرت قرونا طويلة بالمدنية العربية، فشأنها غير شأن البلاد العربية منذ نفضت أيديها من دولة العرب، وكانت تعلو وتسفل بحسب روح المتغلبين عليها، وما برح أثر العرب ماثلا في أهلها لمكان الدين فيهم إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم، مهما حاول المفرطون في حب قومياتهم من بنيها أن يعيدوها سيرتها الأولى قبل الإسلام، على ما نرى الفرس البهلويين والترك الكماليين لعهدنا، يحاولون أن يصطنعوا لهم مدنيتين جديدتين، طلاؤهما مدنية الغرب، وروحهما المدنيتان الفارسية والطورانية، قبل أن يتعاورهما الإسلام بالمحو والإثبات، والزمان كفيل بالحكم على تينك الأمتين بهذا النظام الجديد، ولقد طردت فارس وتركيا الجهلة من رجال الدين، واكتفى منهم بالدارسين والعالمين، فكان هذا الصنيع أعظم بشارة خير لمستقبل الأمتين. وبالقضاء على الجهال الذين كانوا يضعون العثرات في كل سبيل إلى النهوض، ودعت فارس وتركيا ماضيا منحطا، وباتتا على رجاء استقبال عهد جديد.
أثبت الفرس بالإسلام في القرون الخالية أنهم على استعداد لقبول العلوم والآداب وتمثلها، فأخرجوا نوابغ اختلطوا بأصحاب السلطان، وأفادوا المجتمع العربي، ولم يثبت الترك منذ تشرفوا بالإسلام أنهم مستعدون لمثل ما عرف عن الفرس من كفاءة علمية وصناعية، وإن شهد لهم العارفون منذ الأعصر المتطاولة أنهم جد كفاة في الجندية، ولا بأس بهم في السياسة الدولية،
29
فقد هيأ بعض الملوك العثمانيين عامة الوسائط لنشل أبناء جنسهم من عثرات الجهالة، وحاول سيد ملوكهم محمد الفاتح أن يجعل من دار ملكه في فروق موطنا علميا يضاهي به على الأقل دولة المماليك في مصر والشام، وبذل لذلك أنواع البذل والمعاونة، واستدعى العلماء من الأقطار يغدق عليهم الجرايات والمشاهرات وأنواع التكرمة والتجلة، ومن جملتهم عالم عصره في بلاد ما وراء النهر علاء الدين بن محمد القوشجي،
30
أراده السلطان على استيطان بلاده هو وتلاميذه وأعطاه مدرسة أيا صوفيا، فلما هلك الفاتح اضمحل كل ما أسسه القوشجي؛ لأن من العادة هنا أن يزول كل عمل بزوال عامله الأول، وكل ملك يغير طريقة حكمه بحسب معرفته، وقد يحسد سلفه على ما صنع من جميل ولو كان أباه، فيقضي عليه أو يتراخى في إنجازه، وما كانت المدارس الدينية في الآستانة، بل في الأناضول والروم إيلي في الأدوار السالفة إلا صورة من انحطاط التعليم، لا نور فيها إلا بقدر ما تخرج تلاميذ وسطا لتولي الوظائف الدينية، وقل أن جاء فيهم عالم كبير يذكر، وعالمهم من كان يحسن النقل والاختصار والجمع، مع ركاكة أعجمية بادية، وإبهام في كتبهم لا تحل رموزه ومعمياته، خلافا لما ألفه الفرس وعلموه باللغة العربية. على أن العثمانيين يشكرون على أن لم يغفلوا في معظم أدوارهم العناية بالدروس الدينية باللغة العربية على رسوم دول الإسلام.
هذا في العلوم الدينية، أما في العلوم المادية فقد قال مؤرخو الترك والإفرنج: إن الأتراك طاردوا
31
علماء بيزنطية فكانوا سبب نهضة إيطاليا ونشر المدنية الحديثة، ولا ينكر أحد أن الأتراك أرسلوا من الآستانة مواد بناء المدنية، فإن أوروبا على ما قيل مدينة بمعارفها الحاضرة إلى بضعة من فضلاء بيزنطية هاجروا منها إلى إيطاليا بدخول العثمانيين، أمثال يناديس وساريون ويوركي الطربزوني وكسطى وسكارديس وفرانجس وميخال دوكا.
بيد أن كل تدبير للنهوض يضعف تأثيره إذا لم تكن الأمة متأهبة لقبوله، ويعترف علماء الترك أنه لم يظهر فيهم رجل
32
من عيار ابن رشد الفيلسوف، فكر بحرية ثم كتب ما فكر فيه بجرأة، ولم ينبغ فيهم ولا مؤلف واحد يشبه من خرج من العرب في أدوار ارتقائهم، والأتراك بعد ستمائة سنة في الحكم لم يفارقوا الأخلاق التي عرفوا بها يوم جاءوا من بلادهم الأصلية - كما قال جناب شهاب الدين - ونزلوا بلاد صاحب قرمان شراذم
33
يرعون أغنامهم ومواشيهم، ولما استصفوا تلك البلاد وأنشأوا لهم حكومة، وتوسعوا في السلطان وتبسطوا في رحاب المدنية القديمة، وأسسوا على أنقاضها تلك الإمبراطورية العظيمة، لم يتجردوا من صفاتهم، وظلوا بعد كل هذا على أخلاق الرعاة؛ يظنون كل الناس غنما لهم وسائمة، يقودونها كما يشاءون، ويتصرفون بأوبارها وألبانها، بل بلحمها وعظمها، ولكن رعية الغنم غير رعية الأناسي، وهيهات أن تقوم بهذه الذهنية مدنية تذكر، يريد أن يقول، وهو تركي الجنس: إن قانون الرجعة قضى على الترك أن يظل دمهم كما كان، وإن قضوا أجيالا في بيزنطية الجديدة.
رأي لبون في الترك والتتر
رأينا البلاد التي خضعت للترك قرونا متقهقرة متراجعة، خرجوا منها كما دخلوا إليها على مركبات البقر، على ما وقع لهم في الروم إيلي، وكانوا إذا فتحوا بلدا عمروا فيه ثكنة أولا وجامعا ثانيا، أما المدرسة فلا تعمر إلا بعد سنين طويلة وبدواع كثيرة، يعمرها بعض نبهاء عمالهم على الأكثر بالسخرة وأموال المظالم والمغارم؛ وذلك فرارا بأموالهم من المصادرات، أو بأنقاض الجوامع والمدارس القديمة، وما أكثر ولوعهم بالبناء على الأنقاض! وهذه المدارس إذا قيست بما كان من نوعها في مصر لا تعد شيئا، وقد نظر لبون إلى عمل الترك في التمدين نظرة قدر معها الأشياء بقيمتها في الجملة، فقال: جاء الأتراك بعد العرب فاستولوا على جزء عظيم من بلاد الشرق ومنها مصر، والأتراك إذا نظر إليهم من الوجهة السياسية كان لهم عصر عظمة، فإن سلاطينهم الذين خلفوا إمبراطرة القسطنطينية، ورفعوا علم الهلال على كنيسة أيا صوفيا بدلا من الصليب اليوناني، قد أدخلوا الرعب زمنا طويلا على قلوب أشد ملوك أوروبا شكيمة، وتوسعوا في نشر كلمة الإسلام، بيد أن سلطانهم كان أبدا عسكريا محضا، أثبتوا كفاءتهم لتأسيس مملكة ضخمة، وكانوا إلى العجز في كل أيامهم عن إحداث مدنية لهم، وما كان أقصى همهم إلا أن ينتفعوا بما كان تحت أيديهم، فأخذوا عن العرب العلم والفنون والصناعة والتجارة وما إلى ذلك، وفي جميع المعارف التي برز فيها العرب لم يؤثر للترك أدنى ارتقاء. وكما أن الشعوب التي لا ترتقي تتراجع بحكم الطبيعة، ما عتمت ساعة انحطاط الترك أن حانت. وترجع نهاية تاريخ مدنية العرب في الشرق إلى اليوم الذي انتقلت فيه القوة الحربية في بلادهم إلى أيدي غيرهم، وظل التاريخ يذكر العرب لما لهم من التأثير الديني، ولكن مستوى المدنية التي بلغوها لم توفق العناصر التي خلفتها إلى الاحتفاظ به، وكانت مصر أعظم البلاد التي ابتليت بهذا الانحطاط العظيم، فبدأ تدنيها من العصر الذي انتصر فيه السلطان سليم، وجعل مصر ولاية من ولايات السلطنة العثمانية، فضعفت فيها الفنون والعلوم والصناعة بالتدريج . وكانت مصر كسائر الولايات التي ربطت بالآستانة، يديرها ولاة يتوالى تبديلهم، ولا يفكرون إلا بأن يغتنوا سريعا، فمسخ رونق البلاد القديم، ولم يقم أقل مصنع جديد، وأهملت المصانع التالدة، وخلت من يد تتعهدها، ولم يبق منها إلا ما غفلت عنه الأيام. قال: وإن من الرعايا من هم أرقى أخلاقا من حكامهم، وإن الشعب التركي خلق جنديا لا مثيل له، وإن بلادهم بأسرها خراب، وهي مزيج من عناصر أذلها الأتراك وما تمثلوها. قال: إن المغول خلفوا العرب في الهند فأخذوا عن المدنية العربية، وإذا عجزوا عن أن يرقوا بها فقد أحسنوا الانتفاع منها فرقيت الهند على عهدهم.
وقال أيضا:
34
كانت الشام على عهد الأمويين وأوائل عهد العباسيين من البلاد التي رأت حضارة بلغت أقصى حدود رقيها، وأصبح العرب أساتيذ بعد أن كانوا تلاميذ، واستفاضت العلوم والشعر والفنون الجميلة أي استفاضة، ودام نجاح الشام إلى عهد التقسيم الذي مزق مملكة الخلفاء، وعندها أخذت بالضعف، ولكنها لم تنطفئ شعلتها كل الانطفاء إلا عندما سقطت في حكم الأتراك، ولم يكن الخراب مطلقا، فإن معظم عجائب البذخ والفنون والصناعة التي جمعتها العرب قد زال أثره، ولم تلبث بعض العواصم مثل صور وصيدا أن أصبحتا في حكم قريتين كبيرتين، وعريت الجبال من أشجارها كل التعرية، وأقفرت القرى من سكانها، وكانت من أغنى الأرضين، وفي هذه الأماكن التي طالما أمرعت في غابر الدهر، أصبح العشب لا ينبت، منذ ضغطت عليها أيدي الترك. ا.ه.
هذا رأي لبون في حكمه على الأتراك واستعدادهم للحضارة، وما أثروه في بلاد العرب، ومن العدل أن لا يفوتنا أن انحطاط العرب بدأ بذهاب الدولة العباسية، وبأمثال هولاكو وجنكيز وغازان وتيمور من المغول. وكان العلم يعيش في البلاد الإسلامية بقوة التسلسل المنبعثة من أصله المتين، فلما جاء الأتراك العثمانيون لم يزيدوا أوضاعا من شأنها تقوية العلم، بل سكتوا على ما كان، فزاد بهم التأخر؛ لأنهم لم يسعهم أن يأخذوا بأيدي الناس إلى مضمار التقدم في العلوم والآداب، ولو بصرف العناية في إخراجهم من الأمية.
جهل الترك وتجهيل العرب
ومن أدهش ما يدون في عهدهم أن أحد وزراء المعارف المتأخرين كان يضع مناصب التدريس في المدارس الثانوية في المزاد، ويتولى المنصب أجرأ المدرسين على تنقيص المشاهرة، يوسد إلى من اقتنع بالقليل في هذه التولية، مهما بلغ من جهله في الفن الذي أخذ على نفسه تدريسه بهذا الراتب الضئيل. وحدث أنهم وسدوا دروس الدين إلى غير المسلمين في المدارس الثانوية، وكان من العادة في المدارس الوسطى بالبلاد العربية أن يعهد إلى أبناء العرب الذين لا يحسنون التكلم والكتابة بالتركية بتدريس الآداب التركية، وإلى الأتراك الذين لا يجيدون تأليف جملة واحدة بالعربية أن يدرسوا الصرف والنحو والمنطق والبيان العربي. أما المدارس الابتدائية فمعلموها خرجوا على الأكثر من غمار الجهلاء، وليس غير بعض المدارس العالية في العاصمة كالمدارس الملكية والحربية والطب والهندسة، في أواخر أيام الدولة، يتولى التدريس فيها علماء أجلاء من الترك والعرب والأرمن والروم والفرنسيس والألمان وغيرهم.
ولو عني العثمانيون بالتعليم عنايتهم بالجيش منذ القديم، لما وصلت بلادهم إلى ما وصلت من الجهل، ولما صار المسلمون في أيامهم إلى الانحطاط المبكي، ودولتهم جعلت التعليم صوريا لا حقيقيا. وبينا لا نجد في كل مائة قرية في بلاد العرب مدرسة ابتدائية واحدة، نرى الدولة من جهة أخرى قد بلغت بها الغيرة على نشر لغتها أن تكتب العقود وأسناد الضرائب والمواثيق والأحكام باللغة التركية، وأعظم من هذا أن حظرت استعمال اللغة العربية في المحاكم النظامية في التقاضي والكتابة، فحاربت بذلك العرب والعربية جهارا، حربا ليس فيها شيء من المنطق، وأتى زمن ولا من يحسن القراءة العادية في عدة قرى كبيرة، بل حدث أن بعض النابهين في بليدة إسلامية أراد أن يعلم ابنه القرآن فلم يجد له فيها شيخا يستطيع إقراءه إياه، فعمد إلى راهب يقرئه لابنه ففعل. وكان المسلمون أيام كان لهم بقايا من العلم يقرئ علماؤهم أهل الذمة كتبهم الدينية، فقد وقع لكمال الدين بن يونس
35
في الموصل وعز الدين الإربلي في دمشق من أهل القرن السابع أن قرأ عليهما أهل الذمة التوراة والإنجيل، وكانا يشرحانهما لهم ويعلمانهم الكتابين على طريقة حسنة ليست في استطاعة الحاخامين والقسيسين أن يقرءوهما لهم في ذاك العهد، يدرسان ذلك على نحو ما كانا يقرئان المسلمين والفلاسفة.
36
هذه صورة من غزوات المغول والترك على الحضارة العربية، وإلمامة بالعوامل العظيمة التي تحيفتها في القرون الأربعة الأخيرة بقيام دولة حربية أعجمية خربت في أيامها المدارس، وضاعت الأوقاف، وتراجعت المصانع والصنائع، وفقدت الكتب وأدوات الصناعة، ووسائل إخراج الثروة، فكان هذا المرض الذي استحكم في البلاد زمنا طويلا بفعل الدولة وعمالها الخائنين أشد عليها من جميع أمراضها السالفة، يشبه ما حل بساحتها من مصائب المغول المرة بعد المرة، وعابر سبيل إذا حاول التدمير قد يكون ما جنته يده الأثيمة أقرب إلى الإصلاح، من مقيم يخرب كل يوم في المعنويات والماديات، على غير اطراد ولا نهج معقول، ويطول عهد تخريبه وتخريفه.
غارات المستعمرين من الغربيين على بلاد المسلمين وغيرهم
تاريخ الاستعمار واستعمار البرتقاليين
بين الاستعمار والاستثمار تقلب البشر في أرجاء الأرض ولا يزال يتقلب: يستأثر العامل بالخامل، ويتحكم العالم بالجاهل، يغزو القوي الضعيف، ويستهوي الأعز الأذل، والجهاد في ذلك على أشكال تختلف طريقتها، وتتفق أبدا نتيجتها، والغاية المنشودة تحصيل الرزق من كل وجه وبكل حيلة، والأخذ بحظ من النعمة، تعين على الاستمتاع بمباهج الحياة ومناعمها. والطبيعة ما حادت عما رسمته من قانون: يأكل المستبسل المستسلم، والأرض على الدوام بين غالب ومغلوب، وصائد ومصيد، والدنيا ما انفكت طعمة لمن غلب.
الاستعمار ضرب من الهجرة ينزل المهاجر بلدا يسكنه سكنى دائمة على غير أمل العودة إلى موطنه الأصلي فيعمر الأرض بكده، ويستخرج خيراتها ببذل أوفى نصيب من سعيه، يزيد في إمراعها، للاستكثار من ريعها، على أتم منوال، وأجمل مثال، وإذا سألت
1
المدركين من المستعمرين قالوا لك: إن استعمارنا تقاضانا كثيرا من الشجاعة والبطولة والمفاداة والعبقرية، وإننا استصفينا كل مدرة من أرض مستعمراتنا بنقطة هريقت من دم أولادنا، ونحن نقصد من جهودنا أن يؤسس لنا أبناؤنا في كل مكان ملكا يضاهي بعظمته بلادنا، يفلحون بما ينتجون، وينتشرون ويتكاثرون، ويحتفظون بلغتهم وأخلاقهم ونبوغهم، فتنمو ثروتنا، ويخلد مجدنا، وتستفيض شهرتنا.
ينشأ الاستعمار في العادة من حركة
2
رجال تختلف درجات حضارتهم وأساليب انتفاعهم في أصقاع مختلفة الأوضاع، تتباين صور السير فيها، ويتم هذا الاستعمار بوسائل سلمية، ولا يستلزم منه أن يكون أبدا استعمارا مدنيا، فما كل حين يقوم الاستعمار على الزراعة والتجارة، بل كثيرا ما كانت تهاجم البلاد المستعمرة فتؤخذ حربا. والاستعمار عريق في القدم، ومن أقدم الأمم التي عانته الفينيقيون والرومان واليونان، واستعمار الفينيقيين تجاري، كانوا يجتزئون فيه بإنشاء مكاتب لمتاجرهم في البلاد التي ينزلونها، وما سكن قط أبناؤهم فيما استعمروه من البلاد سكنى دائمة، وطريقة الرومان واليونان في استعمارهم أن يسكنوا بنيهم فيما يحتلون من الأرض، ولذا أزاحوا الفينيقيين عن متاجرهم، وكان العرب أرباب خبرة واسعة في الاستعمار شهد لهم الإفرنج بذلك، وذكروا أنهم ظلوا معروفين بهذه الصفة في كل أدوار تاريخهم،
3
وما استطاع الجنويون والبيزيون والبنادقة وهم أجداد الطليان، أن يتعدوا حد الاستثمار في مستعمراتهم، فأشبه استعمارهم الاستعمار الفينيقي والقرطاجني.
كان البرتقاليون في بدء العصور الحديثة أول الأمم الغربية التي نهضت للاستعمار، فبدءوا باحتلال سواحل الغرب الأقصى حتى لم يبق بيد المسلمين من ثغوره غير سلا
4
ورباط الفتح واستولوا على بلاد الهبط وضايقوهم بها، حتى انحازوا إلى الأمصار المنزوية عن الأطراف، ثم أخذوا يتقدمون في بحر الظلمات حتى كشفوا شواطئ إفريقية الغربية والشرقية، متقدمين إلى الشرق للاتصال بجزائر الأبازير «البهارات» كشفوا هذه الطريق على عهد الأمير هنري
5
ابن الملك جوان الأول البرتقالي المتوفى سنة 1460م، وكان عالما باحثا انقطع إليه بعض اليهود وعلماء من الفاسيين والمراكشيين المغاربة كانوا يعدون لذاك العهد علماء العالم، فأخذوا ينقبون في جغرافيات العرب وغيرها، حتى عرفوا إمكان الدوران حول إفريقية، فكان لهذا الأمير الفضل على أوروبا كلها، وما تم ذلك على يده إلا بأبحاث علماء العرب وكتبهم.
ووصل البرتقاليون بعد حين إلى جزائر الأبازير فأصبحت ميدانا لتجارتهم أمدا طويلا، انتهوا إلى مليبار في الهند في سنة أربع وتسعمائة من الهجرة
6 (1498م)، ودخلوا إلى كاليكوت واشتغلوا بالتجارة وقالوا لعمال السامري: ينبغي منع المسلمين من تجاراتهم، ومن السفر إلى بر العرب، والفوائد الحاصلة منهم يحصل منا أضعافها. وقال كبيرهم لراعي كش: أخرج المسلمين عن كش يحصل لك منا من الفوائد أضعاف ما يحصل منهم، فأجاب بأنهم رعيتنا من قديم الأزمان، وبهم عمارة بلدنا فلا يمكننا إخراجهم. وكان البرتقاليون يطلقون على المسلمين اسم «الكفار».
وكان من أول مقاصد فاسكودي جاما الملاح البرتقالي من طوافه بحر الهند محاربة السفن
7
العربية، بل كان الغرض من تطوافه في هذا البحر أن يحارب الصليب الهلال في أقصى بقاع المعمور، أو أن تحارب رومية مكة في مكان يبعد أكثر من ألف وخمسمائة فرسخ عن الميادين المألوفة لاقتتالهما، ترسل البرتقال جنودها وبحارتها إلى ما وراء القارة الإفريقية؛ لتحيط بالإسلام وتجعله بين نارين لتجفف ينابيع ثروته، وتقضي على صروح عظمته وشوكته، حتى إن البوكرك الملاح البرتقالي لما هاجم عدن عزم على إغراء الحبشة بتحويل النيل عن مجراه إلى البحر الأحمر، كما خطر بباله أن يهاجم مكة بجيش من الفرسان، وأهم ما كان الغرب يهتم له في الواقع أنه كان للهند طريقان في منتصف القرن الخامس عشر: أحدهما من البر والآخر طريق مصر والشام في البحر، وكان كلاهما في أيدي المسلمين. فالبرتقال تولت فتح هذا الطريق لأبناء الغرب؛ ذلك لأن البرتقاليين كانوا يعرفون العرب منذ استولوا على بلاد البرتقال أواخر القرن الأول من الهجرة، ويعرفون بأسهم وشدة مراسهم، ويقدرون غناءهم في أعمال الحياة قدره، ولا ينسون أنهم ذاقوا الأمرين مدة قرنين حتى أخرجوهم من ديارهم، ثم عادوا بعد سنين واستولوا على بلادهم دهرا؛ ولذلك كانت عداوة البرتقاليين للمسلمين في جنوبي الهند بالغة حدا كبيرا على ما قال زين الدين: يهزءون بهم، ويظلمونهم، ويعطلون حجهم، ويحرقون مساجدهم، ومنها ما اتخذوه بيعا لهم، ويأخذون مراكبهم وأموالهم، ويطأون مصاحفهم وكتبهم بأرجلهم، ويحرقونها بالنار، ويهتكون حرمة المساجد، ويحرضون على قبول قول الردة والسجود لصليبهم، وإذا سقط أسرى المسلمين، رجالا كانوا أم نساء ، في أيدي البرتقاليين ينصرونهم قسرا، إلى غير ذلك مما كانوا ينزلونه فيهم خاصة من العذاب ليخلو لهم الجو في تلك الأصقاع، ويقبضوا على زمام تجارة الهند، ويطردوا عن أسواقها وموانيها المنافسين لهم. ورجع البرتقاليون لأول مرة من مليبار إلى البرتقال يحملون في سفنهم الأبازير، وتتابع في كل سنة وصول مراكبهم العديدة تقل من البرتقال الرجال والأموال، وتوالت أسفار مراكبهم الكثيرة بهذه الحاصلات الثمينة كالفلفل والزنجبيل والقرفة والقرنفل والبسباس مما تكثر فائدته، ولم يبق للمسلمين غير تجارة القوقل والنارجيل ونحوهما.
أما أمراء المسلمين وغيرهم في تلك البلاد فما استناموا للضيم الذي أصابهم ممن جاءوهم متجرين ثم مستعمرين، وكانوا كثيرا ما يحاربون البرتقاليين وينال بعضهم من بعض «ولم تتوطد سلطة البرتقاليين في الساحل دون غارات ومصاعب، فإن العرب كانوا يطرقون كل باب لإثارة خواطر الأهلين على مزاحميهم البرتقاليين وطردهم عن المراكز التجارية التي كانوا هم أصحاب التصرف المطلق فيها.» وخاف الغوري صاحب مصر فأرسل في بحر القلزم أسطولا لقتالهم، يصدهم عن بلاده وينقذ تجارة مصر منهم؛ لأن معظم تجارة الشرق كانت تصدر إليها، وقد عاونته البندقية على عمله، وأرسلت إليه الخشب لعمل السفن في البحر الأحمر؛ لأنها كانت تخشى أيضا على تجارتها، ولما سقطت دولته أرسلت الدولة العثمانية بإمرة أحد قوادها أسطولا مؤلفا من مائة مركب، فقتل سلطان عدن وبعض كبرائها من العرب حتى جعلها في قبضته، ثم وصل إلى جزرات وشرع في حرب ديو (1538م)، وكسر أكثر القلعة بالمدافع العظام التي كانت معه، ثم تهيب الإفرنج فرجع أدراجه من غير فتح إلى مصر فبلاد الروم، وعاد الأتراك يحاربون البرتقاليين في تلك الأصقاع النائية، وشغلوا قسما من قواتهم فيها، توقفوا معها عن تحقيق أمانيهم من فتوحهم في أوروبا؛ لأن الترك كانوا بلغوا أسوار فينا وألقوا الهلع في قلوب أهل الغرب.
ومكن للبرتقاليين في كثير من البنادر كبنادر مليبار وجزرات وكنكن وغيرها واستولوا «بحكمتهم وإجماع رأيهم» على كثير من البلدان فبنوا القلاع في هرموز ومسكت وديومحل وسمطرة وملاقة وملوكو وميلابور وناك فتن، والأخيران من بنادر شولمندل. واستولوا على بنادر كثيرة من جزيرة سيلان، كما استولوا على زنجبار وممبسة وموسامبيق وملندة، ووصلوا إلى الصين وصارت لهم التجارة في هذه البنادر وغيرها، وذل تجار المسلمين وصاروا لهم كالخدمة لا يمكنونهم من التجارة إلا فيما قلت رغبتهم فيه. وأما ما أهمهم اقتناؤه من البضائع وكثرت فائدته فيستأثرون به لا يمكنون غيرهم من الإتجار به، وقطعوا على المسلمين طريق السفر إلى بر العرب وملاقة وأشى ودناصري وغيرها، وانقادت لهم رعاة البنادر حتى صار الحكم فيها حكمهم، وانقطعت أسفار البحر إلا بأمانهم وجوازاتهم، وكثرت تجاراتهم ومراكبهم ومنازلهم وقلاعهم، وقلت تجارات المسلمين إلا على السفن البرتقالية. وفي سنة تسعين أو إحدى وتسعين وتسعمائة اشتدوا في المرابطة على متعلق السامري، فتعطل سفر المراكب وانقطع جلب الأرز إلى بلاده فوقع فيها قحط عظيم.
استندنا في أكثر هذا إلى ما رواه زين الدين، وقد وصف البرتقاليين بأنهم «أهل مكر وخديعة، عافون بمصالح أمورهم، يتذللون لأعدائهم وقت الحاجة غاية التذلل، وإذا انقطعت حاجتهم سطوا عليهم بكل ممكن. وكلهم كلمة واحدة لا يخالفون أمر كبرائهم، ولا يختلفون بينهم مع بعد المسافة عن رعاتهم، ولم يسمع أن أحدا منهم قتل كبيرهم لأجل الولاية، ولذا دانت لهم مع قلتهم رعاة مليبار وغيرها؛ بخلاف ما عليه عساكر المسلمين وأمراؤهم من الاختلاف وطلب الاعتزال عن الغير ولو بقتله.»
ولقد استعمر البرتقاليون سواحل إفريقية على بحر الظلمات، وأسكنوا قومهم بلاد البرازيل وعمروها برجالهم كما احتلوا بعض سواحل أميركا، ثم نزعت أيديهم عن أكثرها، وداموا
8
نحو مائتي سنة أصحاب شأن في الاستعمار، واغتنوا من تجارة الأبازير والأحجار الكريمة والعبيد أي غنى. واغتنى ملوكهم بما جبي إليهم من أموال الخراج والمكوس والاحتكارات والأرض من بلدان إفريقية الشرقية وغيرها، وكان عمالهم يرتكبون ضروب المظالم والإرهاق في جمعها، فكثرت أموال البرتقال بهذه الفتوحات العظيمة، وأصيب البرتقاليون في أقل من نصف قرن بزهو وغرور وما يتبعهما من فساد الطباع والأخلاق، مما تولدت منه أحقاد في صدور من نزلوا عليهم وحكموهم بالجبرية والعنف، ولا سيما العرب الذين حاربوهم نحو قرن ونصف للقضاء على سلطانهم، حتى جمع العرب شملهم تحت راية صاحب عمان من أمراء المسلمين، وانتزع الحكم في سنة 1658م من يد البرتقاليين، وذلك من رأس دلجادو إلى جردفون، وذل البرتقاليون وقتل ألوف منهم، ولطالما قتلوا المسلمين وأحرقوا مساكنهم، وكم من مدينة دمروا، ومن أصقاع تركوها بلاقع على ما روى ذلك «جيان» الملاح الفرنسي؟ واستعمر الإسبان بفضل خريستوف كولمبس البلاد التي احتلوها في القرن السادس عشر، وهي تتناول معظم سواحل القارة الأميركية من جنوبها، ثم خرجت كلها عن حكمهم أوائل القرن التاسع عشر لسوء إدارة رجالهم، وكان من قواعدهم في استعمارهم أن لا يذهب إلى أميركا إلا من كان من أسرة إسبانية كاثوليكية لم يحكم ديوان التحقيق الديني على أحد من أفرادها منذ جيلين، وذلك لمدة سنتين فقط، وتاريخ استعمار الإسبان في جنوبي أمريكا وما فيه من أنواع الفظائع التي ارتكبوها من غير نكير، لاستلاب الذهب والأحجار الكريمة من العبيد سكان البلاد الأصليين، وإفحاشهم في ظلم من امتنعوا من التنصر، يشبه ما أتاه البرتقاليون من الظلم، للاستئثار بتجارة الأبازير والجواهر في الهند وما إليها.
الاستعمار الهولاندي والإنجليزي والفرنسي وغيره
واغتنم الهولانديون فرصة استيلاء إسبانيا على البرتقال
9
فأنشأوا لهم في الشرق الأقصى مستعمرة عظيمة، بقي لهم منها إلى اليوم جزائر ماليزيا «الملايو» العظيمة «جاوة وسمطرة»، استثمروها على طرائق هدتهم تجار بهم إليها، فكانوا يبدلون الحسن بالأحسن إذا أيقنوا أنه أنجع لهم، فأبانوا في ذلك عن ذكاء عظيم ومرونة غريبة، وكانت بحريتهم التجارية في القرن السابع عشر أكبر بحرية لدولة أوربية، ومستعمراتهم تجارية يتجر فيها من يحب، وشركة الهند الهولاندية أو شركة البلاد البعيدة التي أنشئت سنة 1599 هي التي استولت على هذه المستعمرات وأخذتها من البرتقال،
10
وساعد الهولانديين على رسوخ أقدامهم
11
في بحر الهند أثر الكراهة الذي بقي في نفوس أهل الهند والصين من البرتقاليين، ولم تلبث هذه الكراهة أن تناولت الهولانديين؛ لأنهم لما قويت سواعدهم مالت نفوسهم إلى الظلم والقسوة، وأصبح ما كانوا يظهرونه من اللطف واللين والدعة في خبر كان، بعد أن استعانوا بهذه الصفات والمحامد على الحلول محل خصومهم البرتقاليين.
وكان من الاضطهاد الديني في إنجلترا أن هاجر كثير من أبنائها أوائل القرن الثامن عشر إلى أميركا الشمالية، ونزلوا شواطئ الأطلنطي ينشئون مستعمرات مهمة تألفت بأخرة من مجموع ولاياتها جمهورية الولايات المتحدة، مستقلة عن الحكم الإنجليزي، وأصبحت في القرون التالية من أعظم دول الأرض علما وغنى؛ وذلك لأنها فتحت صدرها للمهاجرين من كل أمة، وقرضت الزنوج سكان البلاد؛ فلم يبق منهم إلا ما يشبه بقايا الوشم في ظاهر اليد، فزاد إحصاء سكانها في مائة سنة على مائة مليون من البشر، وهذا من أنجع ضروب الاستعمار المدني مملوء بكثير من الحساب للعواقب، والنظر البعيد في تمثل الأجناس المختلفة، لا يكاد يسمع بمثله فيما سلف من الأعصار. دخلت عناصر كثيرة في البوتقة الأميركية «فتأمركوا»، ثم بدا لأميركا أن تحدد عدد المهاجرين إليها، وكان من جملة الأسباب التي حملتها على ذلك أن الصقالبة (السلافيين) والبلقانيين من أعصى الأمم على التمثل والتمثيل.
واعتبر الإنجليز بما جرى لهم في أميركا من نفض أيدي أبناء جلدتهم من أيديهم، فما فرطوا بعد ذلك ولا أفرطوا، وكانوا أرسلوا إلى الهند شركة تجارية سموها شركة الهند الشرقية، فاستولت بعد مدة بلطيف حيلتها على الهند، أغنى مستعمرة في الأرض، وعرف الإنجليز من أين تؤكل الكتف، فجروا في استعمار الهند وأوستراليا وجنوبي إفريقية على أساليب فيها المرونة كلها والدهاء الجملي والتفصيلي، فكانوا لا يتلكئون في عامة مستعمراتهم عن تغيير طرائقهم السياسية والإدارية والتجارية، بما توحي إليهم تجاربهم. وبعد ثورة السباهي سنة 1857 وهي التي كادت تخرج إنجلترا من الهند، وضعت صورة إدارة كانت أساسا للإمبراطورية الهندية، وهو عمل إداري لم توفق إليه أمة، ولم يخطر
12
في خاطر حاكم.
وأرادت فرنسا أن تجري على هذه الطريقة في الاستعمار فلم توفق في ذلك كثيرا، وفقدت أجمل مستعمراتها، مثل كندا والهند، إلى أن قدر لها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أن تستولي على بعض الأقطار، ومنها الجزائر وتونس والغرب الأقصى وبعض بلاد السودان والجابون والكونجو وغينية وكليدونيا الجديدة ومدجسكر والسنيغال والهند الصينية، وبلغت مساحة مستعمراتها عشرين ضعفا من مساحة فرنسا نفسها أو نحو عشرة ملايين كيلومتر مربع، وأربى سكان المستعمرات على الخمسين مليونا.
13
وبينا كان الهولانديون والإنجليز والفرنسيس يتنازعون الاستيلاء على البلاد الحارة، كان الروس في هدوء وسكون، يستعمرون البلاد الواقعة بين جبال الأورال ومضيق بهرنغ، ويقيمون في تلك السهول الفسيحة أعمالا مهمة في العمران لا تنهض بها إلا دولة تنفق عن سعة، ثم توسعوا وراء حدودهم التي رسموها لأنفسهم حتى جاروا في القرن التاسع عشر أملاك الإنجليز في جنوبي آسيا. أما الدول الأوربية الأخرى فقد دفعتها أيضا الحاجة إلى التوسع في الاستعمار؛ فاستولت إيطاليا على الأريترة ثم على ليبيا (طرابلس وبرقة)، وأعمرت ليبيا وأنزلت فيها عشرات الألوف من أبنائها، أسكنتهم فيها حتى زاد عددهم في سنين قليلة على نصف أهل البلاد الأصليين من المسلمين. واستولت ألمانيا على الكمرون والتوجو ثم نزعتا منها بعد الحرب العامة، على ما قضت بذلك معاهدة فرساي، وراحت البلجيك تستعمر الكونجو في إفريقية، استعمرها ملكها أولا لحسابه الخاص ثم تنازل عنها لأمته، وللدانيمرك والسويد مستعمرات من الجزر تشكو قلة نفوسها.
ونشبت بين الدول المستعمرة حروب حتى استقرت الحال في تقسيم العالم على هذا الوجه، وخرجت البرتقال وإسبانيا عن مستعمراتهما، وبقيت لهما بعض الجزر والبلاد، وتمتعت إسبانيا بامتلاك الريف في الغرب الأقصى، بعد نكبات عظيمة حلت بجيشها، ولو لم تساعدها فرنسا على حرب الريف ما استطاعت نزع تلك المستعمرة الصغيرة من الريفيين، ولكانت ردت عنها كما كانت ردت إيطاليا عن بلاد الحبشة بخسائر فادحة، ولعل ما أنقذ الحبشان من الاستعمار الأوربي كونهم نصارى، وربما لم يجد سكان الريف لهم نصيرا في الغرب؛ لأنهم عرب مسلمون.
وأصبحت بريطانيا العظمى، بما خص به الإنجليز من التؤدة والمعرفة الواسعة بحكم البشر، ومنها إبداع إدارات خاصة لكل إقليم وجنس انضوى إلى علمهم، أعظم مملكة في العالم لا تغيب الشمس عنها، ولا تقل مساحتها عن ثلاثين مليون كيلو متر مربع، وسكانها عن نحو أربعمائة مليون من البشر، مملكة بل ممالك، واسعة السلطان، مستفيضة العمران، ما طمع الرومان، بأعظم منها ولا أغنى، وهي مأمونة الطرق محفوظة المسالك، مستأثرة بأهم المضايق والخلجان والفرض، ومن ورائها أسطول عظيم كان منذ قرنين أول أسطول بين أساطيل الدول العظمى.
ولم يبق أوائل القرن العشرين أرض في العالم يصح أن تتقاسمها الدول الغربية: تقاسمت إفريقية وآسيا الجنوبية،
14
ونجت الصين من القسمة لتنافس الدول الأوربية عليها، وما فتئت اليابان تطمح إلى امتلاك بعض أقطار الصين المتاخمة لبلادها، تستعمرها لإنقاذها من الغربيين وإبعادهم عن أرضها وأرض الصين معا، وكان الغربيون حاولوا غير مرة أن يلجوا بلاد الشرق الأقصى، فاصطدموا في الصين واليابان بمدنية أقدم من مدنيتهم.
15
وفي القرن الماضي والذي قبله كانت البرتقال وإسبانيا وهولاندة وإنجلترا وفرنسا تتنافس في الاستئثار بالذهب والأحجار الكريمة، والنادر من حاصلات الأرض الثمينة، فأصبحت الدول الأوربية في هذا القرن تتنازع على كل ميل من اليابسة والبحر والجو، ولولا الحرب العالمية التي أفقرت الدول كلها، حتى كاد يقضى على المدنية بتأثيراتها المنهكة، لاتسع نطاق الاستعمار أكثر مما اتسع، ولزاد عدد الشعوب الداخلة في غماره.
ولكل دولة مستعمرة اليوم سياسة استعمارية خاصة، كما أن لكل أمة خصائصها وميزاتها. وليس من شك في أن الاستعمار علامة نشاط أمة تريد أو تحاول أن يكون لها مقام لائق في العالم، وصفقة المستعمرين تعود بأعظم الأرباح المادية، مقابل خسائر في الأرواح تتحملها الدولة المستعمرة، ولا تعدها شيئا يؤسف له إذا نجحت التجارة، واغتنى أفراد وشركات، وارتاش بعض الموظفين والمقربين من أعيان الدولة المستعمرة. ويقول من كتبوا في استحسان الاستعمار من الإفرنج: إنه نفع الإنسانية والمدنية، كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل.
البلاد المستعمرة وطرق الاستعمار الحديث
لا جدال في أن معظم البلاد المستعمرة اليوم آخذ بالنهوض من حيث تراتيبه وعمرانه، أما دوام حياة المستعمرات والاحتفاظ بكيانها فتبع لقوة أهل المستعمرة الأقدمين؛ فإن كانوا من جنس ضعيف التراكيب، كالجنس الأحمر والأسود، ضعفت مقاومتهم لهذا الجنس الآري الأبيض الذي جاءهم بكل ضروب القوة ، ففني الضعيف في القوي، على نحو ما حدث في كثير من أصقاع إفريقية وأميركا. وإذا كان أهل البلاد المحتلة أو المستعمرة من عنصر راق ذي مدنية معروفة كالهندي، فهناك المشادة بين الدخيل والأصيل؛ لأن سكان البلاد لا تفوتهم فائتة من نيات من نزلوا عليهم، ولا يرجى بحال من صاحب السلطة القاهرة أن يربي من يستتبع إلا على ما يوافقه؛ ليتسنى له الانتفاع به أطول مدة ممكنة، أو تكون بلاده للمحتل ولأعقابه ملكا مؤبدا على وجه الدهر؛ ولذلك نرى هذا المحتل يحاول أن يلقن من يستعمره أو يحميه، جماع منازعه ومآتيه، ولا يفتأ يعمل على إدماجه في جملته، وتجنيسه بجنسيته، وإلحاقه بقوميته. يلقنه عظمته وعظمة قومه، ويحاول أن ينسيه ماضيه ويخرجه عن مميزاته، يتصرف بقلبه وروحه على ما يهوى، والغالب ألا يترك له من موارد الحياة إلا سدادا من عوز وما يمسك عليه الرمق. وفي النادر أن ترحم أمة ذات سلطان أمة لا حول لها ولا طول، وما عهد ذلك لغير الأمة العربية، على ما أكد ذلك العارفون من الغربيين اليوم. ولا يستغربن أحد ما يشاهد من غارات الدول المستعمرة ما دمنا موقنين أن المدنية الحديثة هي ابنة «المادة»، والإنصاف يقل في أهل المادة، وهم يحتقرون في سبيلها المثل العليا والأخلاق الفاضلة، وتقبل أذهانهم كل وسيلة ما دامت الغاية جمع المال، كما قال أحد كتاب الأميركان. وساغ بعد هذا أن يقال: إنه ليس من العدل في قليل ولا كثير ما أوردته الشعوب اللاتينية من المبررات للاستيلاء على شمالي إفريقية مثلا.
يقول تولستوي:
16 «إن عاطفة الوطنية في زماننا هذا هي عاطفة غير طبيعية، خارجة عن الصواب ومضرة، وهي علة أكثر أمراضنا الاجتماعية التي يئن منها النوع البشري، ومن المدهش أن تكون الوطنية هي سبب التسليح العام والحروب المهلكة للإنسان، وكان من قانون التجنيد العام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوروبا أن خضعت هذه لرق أخبث من الرق القديم. ولم تقف قحة الحكومات وقسوتها وجنونها عند هذا الحد، بل تنازعت لاغتصاب ممالك آسيا وإفريقية وأميركا مسوقة بعوامل الهوى والصلف والجشع، وأعقب ذلك تفاقم سوء الظن والعداوة بينها، وصاروا يعتبرون ما ينال الأمم المقهورة من الخراب والدمار أمرا عاديا، ويهتمون بالبحث عن شيء واحد فقط، وهو لأي الحكومات الحق في أن تستولي على أرض غيرها وتبيد سكانها. إن جميع الحكومات لا تسيء إلى الأمم المقهورة وتظلمها، بل يعتدي بعضها على بعض، وترتكب جرائم الغش والغدر والرشوة والخداع والتجسس والسرقة والقتل، ومع هذا ترى الأهالي يشجعونها على ذلك كله ويبتهجون إذا كانت حكومتهم لا غيرها هي المرتكبة لأمثال هاتيك الجرائم. وقد بلغت العداوة بين مختلفي الشعوب والحكومات في الأيام الأخيرة مبلغا عظيما جدا، حتى علم كل إنسان أن الحكومات طرا تقف بلا سبب معقول ناشبة أظفارها مكشرة عن أنيابها، رجاء أن تخور قوى إحداهن فتفترسها الأخرى وتمزقها شر ممزق، بلا كبير عناء ومخاطرة. وقد انحطت الأمم النصرانية بالوطنية إلى أسفل دركات الوحشية فأصبح سكان أوروبا وأميركا حتى غير المجبرين على الحرب يودون المذابح ويسرون للقتل، ومع أنهم مقيمون في ديارهم آمنون في أوطانهم بعيدون عن كل خطر، وكان شأنهم عند نشوب كل حرب شأن الرومانيين النظارة في المصارعة، يبتهجون بالذبح ويصيحون صيحة الظمآن لسفك الدماء، مشيرين بالإجهاز على المهزوم ...»
استراحت الأقطار التي سقطت في أيدي الدول المستعمرة من فوضى الأحكام، ودخلت على الجملة في طور تنظيم ونظام، وتلقف أهلها ما طاب لهم تلقفه من الحضارة العصرية، ولكن أتبقى لهم خيرات بلادهم، وتبقى عليهم الدول الفاتحة مشخصاتهم وخصائصهم؟ هذه هي المسألة المهمة في المستعمرات؛ ذلك لأن الغربي مجهز بالصفات التي تؤهله للكفاح في سبيل الرزق، وهو معتز بعز الحكم في قومه. والوطني قد ضعفت فيه هذه الأجهزة إلى حد غير قليل، وفترت فيه بعض الفتور الحرارة الضرورية لمحاكاة غيره في جهاده، بما هجم عليه من مغريات الحضارة الحديثة، ومن الفتنة بمذاهب غيره في الحياة، فكان بين أمرين لا ثالث لهما؛ إما قبول مدنية الغرب بما فيها من منافع ومضار، أو المجاهرة بالعصيان عليها ، وفي كليهما الانقراض والفناء.
نحن نعلم أن من أهم الأسباب التي تدعو الدول الصناعية إلى ركوب مراكب الأخطار في الاستعمار هو جلب الغذاء لبلادها، والاستئثار بالمواد الأولية لمصانعها، وإيجاد مصارف لصناعاتها، ومخارج لبضائعها، وأن أرض الأوروبيين ضاقت بهم، ولا سيما بعد منتصف القرن التاسع عشر؛ وعلمتهم حضارتهم أن لا يقنعوا في طلب الربح، وأن يتوسعوا كل التوسع في مطامعهم. ونعلم أن الشرق مهمل متسع الرحاب، يعول أهله ويعول أضعاف أهله، إذا حسن استثماره، ونعلم أن هذه المدنية الحديثة حملت في مطاويها من الجشع والأثرة ما لا نسبة بينه وبين دعوى نعومتها ونعمها، وأنها مزجت أحيانا بكثير من العنف والخسف، وقست قلوب دعاتها فما رجعوا في عملهم إلى عاطفة، ولا حفلوا تعاليم المسيح في الحب والسلام. ولو ظل الغرب نصرانيا بالمعنى الذي نفهمه من هذا الدين لما تعدى سلطانه ما وراء حدوده، ثم لما كانت هذه الحضارة الغنية بجميع مظاهرها، وكيف نطلب الرحمة ممن لا يرحم نفسه، ولا يتراحم وأقرب الناس إليه؟ تكثر روابط الأمم الغربية بعضها مع الآخر، فهم أبناء عناصر متشاكلة متقاربة، وأصحاب مذاهب ترجع في جوهرها إلى أصل واحد، ومع هذا رأيناهم كيف عامل بعضهم بعضا في الحرب العالمية الأخيرة؛ تعاملوا - شهد الله - بقسوة ما شهدها الإنسان في قرون الهمجية الأولى.
وبعد، فمن العبث أحيانا مطالبة من يعتز بقوته بأداء الحق كله، لا سيما إذا كان بذل مالا ورجالا حتى تمت له الغلبة على ما طمح إليه، وتوطد سلطانه في أرض استنفضها واستقراها واستنبتها، والفتح الحديث لا يراد منه أولا وبالذات غير فائدة القوي قبل الضعيف. وهذه سنة الكون منذ دحيت الأرض وسار البشر على سطحها. ثم إن الأمم الكبرى هي أيضا تحت وصاية طبقتين متغلبتين فيها: طبقة رجال الجندية وطبقة الممولين، أو طبقة أرباب الصولة في الدولة، وأصحاب الأموال في الأمة، ولا يلذ لهاتين الطبقتين إلا أن ينعما الحين بعد الآخر بانتصارات جديدة، وأن يستنزف الأفراد ثروة الجماعات، يهنئون بما جمعوا من القريب والبعيد. قالوا: إن بعض المستعمرات لا يفي دخلها بخرجها، أو لا توازي كل هذا العناء للاحتفاظ بها، ومع هذا نشاهد الدول متماسكة فيها، ومتمسكة بحقوقها عليها؛ لئلا تستهدف لغضب أصحاب السيطرتين الماديتين الجندية والمالية، وإن أغضبت أهل المذاهب الاشتراكية والشيوعية وغيرها من أصحاب النزعات السياسية الهدامة الدائبة على تمزيق نظم حكم الجمهور (الديمقراطية)، وهو يرجع في جوهره إلى الاستبداد يوما بعد يوم؛ ولذلك قالوا: إن هذا الضرب من الحكم أفلس وخابت الآمال فيه، وإن كانت مظاهره مجالس نيابية وأنظمة دستورية ووزارات مسؤلة عن أعمالها.
ولقد ادعى بعض الدول لتبرير مقامها في بلدان الشرق أن غايتها هي حماية الأقلية من ظلم الأكثرية، وهي دعوى اخترعوها في العهد الذي قويت فيه نغمة الاستعمار، ولإثباتها قد يثيرون ثائرة التعصب المذهبي في الناس؛ ليتخذوا من فريق على فريق نصيرا، يلقون العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن المشترك، بواسطة غلاة دعاتهم ومبشريهم؛ ليحصل التوازن بزعمهم بين أهل التعاليم المختلفة، وما رأينا بلادا قط حكمت بغير رأي سوادها الأعظم، وما كان لنا أن نقول اليوم مثلا لرومانيا ويوجوسلافيا، وفيهما مئات الألوف من عنصر واحد ودين واحد، أن تعاملا المسلمين في بلادهما، وهم عشرات الألوف، بما يريدون لا بما يريد السواد الأعظم من مواطنيهم.
فرق الاستعمار بين أجزاء القلوب في الشعب الواحد؛ فرق بين البربر والعرب وهم متحدون في دينهم ولسانهم، وفرق بين المسلم والنصراني في كل مكان، وفرق بين المسلم والوثني والبرهمي، وضرب الأخ بأخيه والابن بأبيه، وباعد بين الأحمر والأسود، والأسود والأبيض، على حين رأينا البلاد التي نجت من تأثيرات الاستعمار كجمهورية ليبريا المؤلفة من مليون ومائتي ألف مسلم وثلاثمائة ألف نصراني وخمسمائة أوربي عاش أهلها كأبناء بيت واحد، ما فرق الدين ولا الجنس بينهم في المسائل الوطنية.
رأينا من هذه الدول من إذا كان لها مأرب في أمر لا تعدم حيلة مؤلفة من ألف برهان لبلوغ غرضها، ونحن نضرب لذلك مثلا بدولتين، وهما من أكثر الدول اتصالا بالشرق والإسلام، ومن أعرقها في الحضارة، عنينا بهما فرنسا وإنجلترا؛ فقد رأينا فرنسا لما بدا لها أن تضرب جارتها إنجلترا في هندها عملت لمصر في القرن الماضي كل ما يستقيم به أمرها، ولم تعمل لأهل شمالي إفريقية شيئا منه، وفكرت فقط في مصلحتها، وأبقت سكان البلاد في دائرة معينة لا تريدهم أن يتعدوها. ورأينا إنجلترا تأخذ أوائل هذا القرن بيد مصر أيضا فتصلح إدارتها، وتنمي زراعتها، وتنظم ماليتها، حتى إذا تمت لأبناء النيل أدوات التفوق، قالت بريطانيا: إنها تخاف على الأجانب إذا هي ألقت حبل مصر على غاربها، وقالت غير ذلك من الحجج. والحقيقة أن مصر طريق الهند، وتخاف أن تجعل باب الوصول إليها يشرف عليه غيرها.
كان لفرنسا وإنجلترا في باب سياسة الاستعمار والتعليم في البلاد التي احتلتاها طريقتان متشابهتان، لم تعودا عليهما بعد تجارب طويلة بفوائد تستحق ما بذل فيها من العناء، ورأينا عدولا من الفرنسيس والإنجليز ممن لا يتأثرون بمؤثرات الأحزاب ولا المذاهب، ينقدون في الأسفار والصحف هاتين الطريقتين في الاستعمار؛ فقد دارت سياسة فرنسا في الجزائر مثلا على محورين: نزع الأرضين من مالكيها الأصليين وإعطاؤها للمستعمرين؛
17
حتى يضطر أبناء البلاد إلى التشرد في الصحراء، وتلقين العرب تعليما إفرنسيا ليمسوا فرنسيسا قلبا وقالبا، فلم تنجع الطريقة الأولى ولا الثانية؛ ذلك لأن ما أعطي من الأرض للمستعمرين امتلكه أناس من الأفاقين والمتشردين ممن لا يعرفون من الزراعة إلا بقدر ما نعرف من اللغة السنسكريتية، وضعفت آمال أهل البلاد في إبقاء أملاكهم لهم، فتراخوا في تعهدها فخسرت الدولة والبلاد من وجهتين؛ من غباوة الآخذ ومن إهمال المعطي، وانبعثت العداوة تأجج بين المستعمر والمستعمر، وحدثت حوادث تندى لها الجباه لخلوها من روح العدل.
وبنزع الأملاك من أصحابها نتج بؤس عظيم كان باعثا على القلق؛
18
ذلك لأن سكان البلاد، وهم ستة أضعاف الأوروبيين النازلين عليهم من الفرنسيس والطليان والإسبان وغيرهم، لم يبق لهم غير نصف مجموع الأرض في البلاد والنصف الآخر وهو الأعمر والأمرع أصبح ملك المستعمرين (الأوروبيون في الجزائر 925 ألفا، والمسلمون زهاء ستة ملايين، والأوروبيون في تونس نحو 180 ألفا، والمسلمون زهاء مليونين ). ويقول ثلاثة من المؤرخين المشهورين (جسل ومارسيه وإيفر) في كتابهم «تاريخ الجزائر»: إن مجموع الأرض المستعمرة التي انتقلت إلى أيدي المستعمرين في الجزائر يبلغ 1600000 هكتار، أي اثنين من خمسة من الأرض القابلة للفلاحة، ومن فساد الرأي بل من قلة الإنسانية تقليل مساحة الأرض التي يملكها الوطنيون لتجعل ملكا للمستعمرين. ا.ه.
أما «الفرنسة» من طريق المدرسة وغيرها فلم تأت أيضا بثمرة جنية؛ لأن من تعلموا على الأساليب الفرنسية البحتة من الوطنيين تلقوا تربية لا تتفق وعقليتهم؛ فلم ينفعوا أنفسهم ولا غيرهم، وغاية ما كان ممن أخذوا بهذه التربية أن خرجوا من عاداتهم وأهملوا مقدساتهم، وأصبحوا كالعقعق حاول تقليد الحجل في مشيته فنسي مشيته الطبيعية، وأكد الباحثون في شئون الجزائريين من علماء الغرب أن هذه الثقافة لم تورث من أخذوا بمذاهبها إلا نفاقا وشعوذة واستهزاء بكل قديم، وأنها أقبستهم أبشع ما في المدنية الحديثة من النقائص كالسكر ونحوه. ومن الصعب أن يغير شعب تركيبه العقلي ليختار تركيبا آخر، ومن الثابت أن حضارتين مختلفتين إذا وضعت إحداهما بجانب الأخرى تعارضتا ولم تلتئما، والشعوب الفاتحة التي أثرت في غيرها من الأمم نجحت بمعالجة شعوب كان لها من العواطف والأفكار والأوضاع والمعتقدات مثل ما للداخلين عليهم؛ فالشرقيون يؤثرون في الشرقيين أمثالهم، وما أثر الغربيون قط فيهم مثل هذا التأثير، وهذا سر النفوذ العظيم الذي بسطه العرب في الشرق، ولا يزال لهم حظ منه في إفريقية والصين؛ فقد نجحوا في كل مكان ببث أهم عناصر مدنيتهم، وهي الدين واللسان والأوضاع، بدون كبير عناء . والإسلام ينتشر كل يوم في إفريقية من دون أن تبذل همة في سبيل نشره، ويخفق المبشرون من الأوروبيين في سبيل دعوتهم إلى دين إخفاقا شقيا، هذا رأي لبون، ثم يعود فيقول: إن السياسة التي اتبعت لفرنسة المسلمين واستتباعهم استتباعا أدبيا كانت في شدتها قريبة الشبه بالطرق التي اتبعتها أميركا مع الزنوج في بلادهم؛ فقد كانت تسلبهم أرضهم التي كانوا يصيدون فيها تاركة لهم حريتهم المطلقة أن يموتوا جوعا.
وأفرطت فرنسا في تلقين لغتها وفي حرصها على حمل من نزلت عليهم أن يهجروا لغتهم وعاداتهم؛ فخرج من تخرجوا بأساتذة مدارسها بتربية مخلطة خلاسية ليسوا عربا ولا إفرنجا، ولا يعقل أن ترقى أمة بغير لغتها، ومن أراد الخير لشعب كان جديرا بأن ينهضه داخل حدود عقليته، لا أن يفرض عليه تربية تخالف عاداته ومزاجه، ومتى حمله على تناسي ما يلائمه، وأعطاه ما لا يوائمة، كان في عمله الغبن الذي لا ينكر محله. يقول المؤرخ إيفر:
19
إن الرأي القائل منذ سنة 1830 بتمثيل الجزائريين قد أخفق، وإذا كان من اللائق العدول عن فكرة تبديل العقلية الأهلية في الجزائر تبديلا من أساسها، فليس من الوهم في شيء البحث عن تنشئة المسلمين في حجر مدنيتهم الخاصة، ولكن هذا عمل يحتاج إلى صبر، ولا تظهر نتائجه إلا بعد مدد طويلة. ا.ه. وجمهور العقلاء من الفرنسيس والعرب على أن الواجب تلقين لغتين العربية والفرنسية بدرجة واحدة في شمال إفريقية.
وجرت إنجلترا في الهند على مثل الطريقة الفرنسية في سياسة التعليم وكان حكامها من قبل يتحامون تعليم الهنود الألسن الأوربية والأفكار الغربية؛ لما وقر في نفوسهم من احترام المدنية القديمة،
20
ومنذ سنة 1836م فتحت إنجلترا المدارس والجامعات وأسست الأندية والجمعيات، تبذل فيها أموال الهند لتعليم أبنائها لغة الإنجليز وتاريخهم وطرائق تفكيرهم، وتلقينهم أساليب من التربية الغربية يصعب تطبيقها، وأنست إنجلترا من اغترفوا من مناهل تلك المدارس كثيرا من مقدساتهم وعاداتهم، وغاية ما ربحت ممن علمت أن أخذت منهم إلى دواوين الحكومة وأعمال السكك الحديدية ودور البريد والبرق وغيرها ألوفا من المستخدمين، يكلفها الواحد منهم أقل من عشرين ضعفا مما يكلفها الإنجليزي الذي كان عليها أن تأتي به من الجزائر البريطانية. وتلقفت تلك الطبقة من الهنود تربية خرجت بها عما غرس في دمائها من معتقدات، وما عتم مواطنوها أن أضمروا لها الكراهة لانطواء الفئة المتعلمة على الرياء والمكر والخديعة؛ ولأنها تدأب على رفع القضايا المزورة والاعتداء على أبناء جلدتها، وما عرفت بغير القحة والبخل والانحلال من الأخلاق، ثم هي لا تحسب لغير أرباب الصولة من رؤسائها حسابا، لكن إذا آنست منهم ضعفا انقلبت عليهم كل الانقلاب.
ومع كل هذه العناية التي بذلتها إنجلترا في مائة سنة لنشر ثقافتها في الهند لا يتجاوز من يتكلمون الإنجليزية من الهنود مليوني إنسان من أصل ثلاثمائة وخمسة وخمسين مليونا، وكلما حاولت إنجلترا أن تطبعهم بطابعها زادوا لها جفاء، وحاولوا نزع أيديهم من يدها. يقول
21
كبلنغ شاعر الاستعمار الإنجليزي: الشرق شرق، والغرب غرب، ولا شيء يجمع بينهما، فهما ضدان لا يأتلفان، ومن المتعذر أن تنشأ بين ابن الشرق وبين ابن الغرب ألفة حقيقية ومودة ثابتة أو ثقة تامة؛ فإنهما يتكلمان لغتين متباينتين كل التباين، ولا يستطيعان أبدا أن يتفاهما، وعدم الألفة وقلة الوئام هما الأصل في ارتخاء علائق الشرقيين والغربيين على مدى الأيام. ا.ه.
وقال أحد المفكرين من ساسة الإنجليز: سيبقى الشعب الهندي على الدوام شاهدا ناطقا بالماضي غير ممسوس بيد الغرب إلا مسا خفيفا. وقال أحد الباحثين من الفرنسيس: إن قوة الحكومة البريطانية في الهند نشأت من كونها تحكم عناصر مختلفة من السيخيين والمسلمين والماهراتيين والهندوسيين والبرمانيين، وكلهم يتحاسدون ويتخالفون في الجنس والعادات والديانات.
وفي الثورات العديدة التي قام بها الهنود في أزمان مختلفة، وفي العصيان المدني الذي قاموا به في هذه السنين الأخيرة، وما لاقته إنجلترا من الخسائر المادية، بحيث كان نشوزهم من العوامل الكبرى في إفقار إنجلترا الغنية، دليل محسوس على فساد تلك الطريقة في تنشئة الهنود واستثمارهم. وأدركت إنجلترا، وقد حسبت الهند مزرعتها ودكانها وبيتها، أنها لم تستطع أن تنفذ إلى قلوب أهلها، وتلقنهم حبها وجميل صداقتها؛ وذلك لأن الهنود موقنون أن كل عناية إنجلترا مصروفة لإغناء الأفراد وإفقار الجماعات، وأن الهندي مهما بلغ من ثقافته ومقامه، محتقر في نظر الإنجليزي: لا يؤاكله، ولا يجالسه، ولا يزامله، ولا يعاشره، ولا يكاد يضمه وإياه ناد، ولا قطار، ولا فندق، ولا مطعم.
هذه سياسة إنجلترا في الهند بلاد المتناقضات في غناها وفقرها، وعلمها وجهلها، وتنوع طبقاتها ودياناتها ولغاتها. أما سياسة هولاندة فقد زعم بعضهم أن فيها بعض الرفق بالمستعمرين من الجاويين، ومنه الابتعاد عن هذه الفوارق المنفرة
22
على ما هو حال الإنجليز مع الهنود؛ فالهولانديون يختلطون بالوطنيين ويمتزجون بهم «وارتضوا أن يزوجوهم ويتزوجوا منهم، وهذا في الحق صنع جميل، وعمل يدل على الرأفة التي تشبعت بها عقول المستعمرين الهولانديين دون سواهم. وليست مسألة الاختلاط الجنسي كل ما أخذ الهولانديون أنفسهم به من التقرب إلى سكان الجزيرة، بل إن هناك مسألة قل أن أخذ بها الإنجليز والأميركيون، وقل أن آمنوا بأنها دليل واضح على حسن الطوية وسلامة الضمير، تلك هي أنك ترى الجاويين يخالطون الهولانديين في النوادي والمجتمعات، وترى أنهم في هذا الاختلاط لا يبدون أقل شأنا ولا أيسر احتراما فيها من أفرادهم من الأجانب، فجميعهم في هذه الحلبة إخوان وعلى قدم المساواة.»
فالاستعمار الهولاندي لطيف الملمس من هذه الجهة، ولكن «مهما قال القائلون في ارتقاء زراعة جاوة وسمطرة وكثرة سكانهما والعناية بصحتهم وراحتهم، فإن هذه البلاد تديرها في كل مظاهرها الأيدي الهولاندية، والوطنيون عملة بأجور قليلة، وموارد الثروة فيها تنتهي إلى خزائن الهولانديين وجيوبهم، والهولانديون ينظرون إلى جاوة كما ينظر الإنجليزي إلى الهند يغتني من خيراتها أغنياؤهم، وقد جعلوا منها ذلك المصدر الذي لا ينتهي خيره، ولن تخبو شعلة حياته.» وعاملت هولاندة المسلمين، وهم كثرتها الغامرة، معاملة لا تحرجهم لئلا تخرجهم، تقربهم من مناحيها في أناة ورفق، ولا تقطع عنهم التعليم ولا تفيضه فيهم.
أما سياسة سائر الدول المستعمرة، كألمانيا وروسيا أمس والبلجيك وإيطاليا اليوم فمتشابهة، كانت روسيا في معاملة المسلمين قاسية على نحو ما كان المغول في معاملة الروس أيام استيلائهم عليهم في القرون الوسطى. كتب كاستلنو في تاريخه الذي قدمه للقيصر إسكندر الأول بشأن وقائع الروس في القريم لما أخذوها من العثمانيين: «إن الحملة لم تول روسيا شرفا، فإن بلاد القريم أحرقت ودمرت، وربما كان مثل هذا العمل يغتفر على عهد البربر لما فطروا عليه من الجهل، ولكن إحراق المدن في القرن الثامن عشر، وتخريب أهم المصانع والآثار، وتدمير المعابد وإبادة المدارس العامة، وإدخال الظلام على العقول بإحراق كتب الأمة التي تريد الانتفاع بها في إنارة أفكارها، وإلقاء الشيوخ والنساء والأولاد طعاما للنار، لا يقصد منه الحرب بل إهلاك شعب عن بكرة أبيه.» هذا وحكومة البلاشفة اليوم تريد المسلمين على أن يبدلوا أوضاعهم وعاداتهم ليحاكوا سائر مواطنيهم.
وأساءت ألمانيا بسياستها العسكرية؛ فأبادت قبائل الهروروس برمتها ليحل محلهم البيض؛ لأن من قواعد المدنية الغربية قرض الزنوج، وبلغ عدد من يموت من العملة السود في الترنسفال 28 في المائة، يموت نصفهم بأمراض الكبد والنوام. أما البلجيك فاستعمارهم ثقيل الوطأة موفور الظلم للإنسان. واستعمار الأميركان كاستعمارهم جزائر الفيليبين فإنهم يراعون فيه مصلحة السكان، وقد عاونوا مسلمي تلك الجزائر على النهوض، وهم فيما قيل: نحو مليونين من الأنفس، فأخرجوهم من الوحشية إلى ساحة المدنية. ولطالما كانت إسبانيا مدة حكمها
23
الطويل على تلك الجزائر ترهقهم وتذلهم وتحملهم على انتحال الكثلكة، فلما عصوها دمرت مساجدهم ومصانعهم، وتعلم نحو ثلثهم في عهد الأميركان فأنشأوا المدارس والمساجد وتمتعوا بحرياتهم كلها، والأميركان سكان الولايات المتحدة الشمالية هم الشعب الوحيد الذي لا ينفق على المبشرين في بلاد المتوحشين، وينفقون عليهم في بلاد المتمدنين، أما الأمم المستعمرة الأخرى فتجعل التبشير بالدين مقدمة لاستعمار ما تريد من البلاد، وقد تقول بدين العقل وحده، وتتخذ من المبشرين أداة لبلوغ أغراضها، حتى قالوا: إن بضاعة التبشير لا تروج في أرضها وإنما صنعت لتصدر إلى بلاد أخرى.
رأي لبون في استعمار الغرب للشرق والاستعمار العربي
أفاض علماء الاجتماع والسياسة والتربية من الغربيين في نتائج هذا التعليم الذي حاول الغرب أن يلقنه ابن الشرق، وممن عني به عناية خاصة، ورحل إلى الشرق غير مرة لدرس أسبابه ونتائجه؛ وقابل بين عمل الغربيين وعمل العرب جستاف لبون، فمما قال:
24
إن الأسباب التي حملت غير الأوروبيين على النفرة من الحضارة الأوربية ترجع إلى كون هذه المدنية هي نتيجة نشوء ماض طويل لم يصل إليه الأوروبيون إلا بالتدريج، وذلك باجتيازهم مراحل لا بد من قطعها، وكل من يحاول أن يكره شعبا على أن يخترق هذه الدرجات فجأة كان عبد أوهامه وأحلامه، وما حاله إلا حال من يؤمل أن يبلغ بولده سن الكمال، قبل أن يقضي دور الشباب، ولئن كان في مدنية العرب أمور سهل على الشرقيين التماسها واقتباسها، فقد كان السبب في ذلك أن الشرقيين ليس لهم شيء من حاجيات الغربيين الكثيرة، يتبلغون بالقليل ويلبسون الساذج. وفي المدنية الغربية حاجات مصنعة قادت أوروبا الحديثة إلى اضطراب شديد وعمل لا ينتهي، وهذا مما يكرهه الشرقيون. ولطالما فاق العامل الصيني العامل الغربي لقلة مطالبه في الحياة، وقد غرست الصناعات في فطرته حتى اضطرت أميركا وأوستراليا إلى منع الصينيين من دخول بلادهما. وكما كان الاختلاف بين حاجيات الشرقيين والأوروبيين عظيما انفرج الاختلاف في طرق حسهم، وبعدت المساوف بين تفكيرهم وتفكيرنا، فالآسيويون لا يحسدون الغربيين على مدنيتهم، ولا سيما من زار منهم أوروبا، ويرون في تسرب مدنية الغرب إلى الشرق مصيبة عظيمة، وهم مجمعون على أن الشرقيين أسعد حالا وأكثر حشمة وأدبا من الغربيين ما داموا لم يختلطوا بأهل الغرب.
قال: وما نفرة الشرقيين من حسنات المدنية الغربية اليوم إلا لروغان الشعوب الممدنة، ولفظائع أتتها مع من كانوا من عيار أحط في موازين المدنية، وكان من حال الممدنين مع المتوحشين، أن الأولين أبادوا الآخرين، وقرضوا نسلهم وجنسهم، أباد المتمدنين غير المتمدنين في أميركا وأوقيانوسيا، وهلك التاسمانيون برمتهم كما هلك هنود أميركا في أوقيانوسيا، وإذا عزت الرحمة في الطرق التي سار عليها الأوروبيون مع المتوحشين، فإن عمل الأوروبيين مع الشرقيين الممدنين، كالصينيين والهنود مثلا، ليس أحسن من ذلك على ما يظهر. وإذا صرفنا النظر عن حروبنا التي تجردت من العدل، فإن معاملتنا كل يوم للشرقيين تكفي لأن نربي منهم أعداء أشداء على الدهر، ويرى كل من دخل الشرق أن أضعف أوربي يعتقد نفسه في حل من كل ما يجريه، وإذا لم يستثمر الشرقي مباشرة، كما هو الحال في الهند، بضرائب تسلبه آخر قطعة من خبزه، تنصب له خدائع في التجارة يفقد فيها كل حياء، وتنم على أن طلاء الرجال الممدنين عرض ينصل لونه، وأن الأوربي في الشرق يفقد صفاته الحسنة، وينزل عن أخلاقه إلى ما تحت مستوى الشعوب التي يستثمرها، ولو عومل التجار الأوروبيون من حيث صلاتهم بالشرق بمقتضى قوانين بلادهم، لا ينجو من العقوبات الفاضحة منهم غير أفراد.
25
هذا ما علل به لبون نفرة الشرقيين من الغربيين، وما أدى المشارقة إلى سوء ظنهم بالحضارة الحديثة، وقد أورد على ذلك أمثلة، فقال: إن حوادث صلات الغرب بالشرق في القرن التاسع عشر كانت من أشوه صفحات التمدن. قال: وماذا يقول الناس في مستقبل الأيام في هذه الحرب الطاحنة التي شهرها الإنجليز على الصين ليحملوها بالقوة على استعمال الأفيون، فيهلك من الصينيين كل سنة ستمائة ألف إنسان؛ لتربح إنجلترا من هذه التجارة الممقوتة مائة وخمسين مليونا، ومن جهة ثانية يرسل البريطانيون إلى الصينيين دعاة التبشير ليهدوا بنيها إلى الفضائل، فيقول الصينيون للمبشرين: إنكم تسموننا وتهلكوننا وتأتون بعد ذلك لتعلمونا الفضيلة؟! قال: فالشرقيون يتجافون عن قبول حضارة لا تلتئم مع أفكارهم وشعورهم وحاجاتهم، وأي داع يكرههم على قبول مدنية تقل سعادتها، وفيها من الشقاء ألوان، ومن العوامل المضعفة ضروب، إلى أن قال: لما فتحت العرب الشرق لم تحمل هذه الشرور، فإن العرب كانوا مشارقة مثلهم تتشابه عواطفهم وحاجاتهم، غلبت العرب على الهند وفارس ومصر ثم غلبت المغول والأتراك على هذه البلاد، فما كان على أهلها أن يعدلوا حالاتهم كلها بقبول حضارة جديدة، وعلى العكس اضطرت هذه الشعوب باحتكاكها بالأوروبيين أن تغير جميع أوضاعها. وإذا كانت تلك الأمم ضعيفة جدا كالهندي مثلا فيكون نصيبها الشقاء الأسود والثورات التي يولدها اليأس، تلك حال القوي مع الضعيف، وللأمم الحديثة هموم أعظم من اهتمامها بتمدين الشعوب الأخرى، ثم إذا كان ثمت ما يقال له العلائق بين الأمم تفقد كلمات العدل والإنصاف معناها وما فيها من قيمة، فتكون ألفاظا جوفاء خداعة لا تجوز على إنسان، والشعراء يحدثوننا بعهد سعادة يسمونه العصر الذهبي تجمع بين العالم أواصر الإخاء العام، ومثل هذا العصر ما كان ولن يكون، دخلت الإنسانية في العصر الحديدي الذي يهلك فيه كل ضعيف بحكم الطبيعة.
وقال: إن الشرق خضع لأمم كثيرة كالفرس واليونان وغيرهم، ولئن كان نفوذهم السياسي فيه عظيما أبدا فإن عملهم في التمدن كان ضعيفا جدا، فهم لم يفلحوا في نشر أديانهم ولغاتهم وصنائعهم في غير المدن التي احتلوها مباشرة، وامتنعت مصر عن قبول هذه المدنيات فلم تبدل أوضاعها على عهد البطالسة ولا في أيام حكم اليونان، واحتفظت بماضيها، وكان من الغالبين أن أخذوا عن المغلوبين دينهم ولسانهم وفنهم، وبقيت المصانع التي شادها البطالسة ورمتها القياصرة على الطراز الفرعوني، وما تعذر على اليونان والفرس والرومان تحقيقه في الشرق سهل على العرب الوصول إليه من دون ما قسوة ولا إعنات، وكان يتراءى أن مصر هي القطر الذي يأبى الخضوع للتأثير الأجنبي، ومع هذا لم يمض أقل من قرن على فتح عمرو بن العاص لها حتى نسيت سالف مدنيتها التي أنشأتها في ستة آلاف أو سبعة آلاف سنة، وأخذت تدين بالدين الجديد وتتكلم لغة جديدة، وكان لها فن طريف بلغ من رسوخه أن خلفه الشعب الذي قبله إلى الشعب الذي قام بعده، ولم يغير المصريون قبل العرب دينهم إلا مرة واحدة، وذلك على عهد إمبراطرة القسطنطينية عندما نهبوا البلاد، وانهالوا على مصانعها القديمة يدمرونها، ويشتدون في الضغط على أهلها ويحظرون انتحال الأديان القديمة مهددين كل من يجرأ على ذلك بالقتل، فانتحل المصريون الدين الجديد بالإكراه لا بالرضا. وكان من تسارعهم إلى ترك النصرانية وانتحال الإسلام برهان على ضعف الإيمان في نفوسهم ، أما التأثير الذي أثرته العرب في مصر فقد ظهر في جميع البلاد؛ ظهر في إفريقية والشام ومصر وغيرها من الأصقاع التي رفعوا علمهم عليها، وأثرهم ظاهر في الهند وإن كانوا قد مروا بها مرورا، بل وصل تأثيرهم إلى الصين وما عرج عليها غير تجار منهم، وما عهد التاريخ مثالا محسوسا لشعب عمل عمل العرب، فقد تقبلت مدنيتهم عامة الشعوب التي مازجتهم ولو مدة وجيزة، ولما تراجع أمرهم في التاريخ كان ممن غلبوهم عليه كالترك والمغول وغيرهم أن اقتبسوا منازعهم وقاموا يدعون بدعوتهم في العالم. قضت المدنية العربية منذ قرون، وليس اليوم في العالم من المحيط الأطلانطي إلى نهر السند، ومن بحر الروم إلى البادية، غير دين واحد، ولسان واحد: هو دين أشياع محمد ولسانهم، ولم يتجل نفوذ العرب في الشرق في دينهم ولسانهم وصناعاتهم فقط، بل امتد إلى الثقافة العلمية؛ فإن المسلمين كانوا على اتصال مستديم مع الهند والصين، فنقلوا إلى تلك الأصقاع جزءا عظيما من المعارف العلمية، فظنها الأوروبيون بعد ذلك من أصل صيني أو هندي، واقتبست الهند من العرب أكثر مما اقتبس هؤلاء من الهنود، وكذلك أدخل العرب إلى الصين في العهد المغولي الفلك والطب. وتأثير العرب في الفرس ما زال بحاله إلى يومنا هذا، يقرءون العلوم في كتب العرب، ومقام اللغة العربية في فارس يشبه ما كان للغة اللاتينية في الغرب خلال القرون الوسطى، وبظهور العرب خاصة في إسبانيا في القرن العاشر احتفظت ناحية من الغرب بحب الآداب والعلوم، وكان مزهودا فيها في كل مكان حتى في القسطنطينية.
وفي القرن الثالث عشر أيام تراجع العرب وسقط سلطانهم كما قال رنان في أيدي عناصر ثقيلة الوطأة، متوحشة المظاهر، ضعيفة المدارك، كالترك والبربر وغيرهم، بدأت تباشير الضعف عند المسلمين، وقد لا تكون التعاليم متعصبة بل يكون الناس متعصبين، وكان العرب عنصرا رقيق الحاشية، كثير التسامح، لا يخرجون قيد شبر عن هذه المياسرة، وبرهنوا بأعمالهم على أنهم كانوا متشبعين بها منذ ابتداء فتوحهم، لا ريب أن التساهل الديني كان مطلقا خلال العهد الذي أزهرت فيه المدنية العربية. ولقد عظم تأثير العرب في أجزاء من أرض أوروبا ما استطاعوا التسلط عليها إلا بعلمهم وعملهم، وكان هذا التأثير أشد قوة في البلاد التي خضعت مباشرة لسلطانهم أي في أسبانيا، وأحسن ذريعة إلى تقدير هذا التأثير حق قدره أن تلقى نظرة على ما كانت عليه إسبانيا قبل العرب، وما صارت إليه أيام حكمهم، وما انتهت إليه حالها بعد ذهابهم؛ فقد دب فيها الهرم بعد جلائهم عن أرضها ولما تنتفض من عوارضه حتى اليوم، مثال من تأثير شعب في شعب، والتاريخ لا يذكر مثله ناصعا جليا. ا.ه.
وبعد، فلا علينا أن ندعي بعد ما تقدم أن الحضارة العربية كان منها خير كثير للبشر، وأن الحضارة الحديثة بالنسبة للشرق قد خلطت عملا صالحا وآخر سيئا، وفيها من فاحش التعقيد ما يصعب على كل الناس تمثلها، عبث الاستعمار الغربي عمدا أو عن غير عمد بمشخصات المستعمرين؛ فلقنهم تهذيبا فجا بالقياس إلى عقولهم، فنقلوا إلى غمرة الأمة المستعمرة نقلا غير مفيد ولا سديد. وكان من البلاد التي حددت سلطة الغرب فيها كمصر والشام والعراق أن أظهرت استعدادا ونبوغا أكثر من غيرها من الأمصار التي اشتد ضغط الغريب عليها، وما منع احتفاظ هذه الأقطار الثلاثة بالمدنية العربية القديمة من قبول المدنية الغربية الحديثة، ولا يبعد إذا تمتعت البلاد العربية بوحدتها يوما أن تظهر في مظهر دولة راقية تتساند مع غيرها من الدول في خدمة التمدين في العالم، ولا تقل مكانتها عن أرقى دول الأرض بعد سنين قليلة. ونقول بعد هذا لأرباب المنازع الغريبة في حكمهم على العرب ومدنيتهم: إن أحكامهم هي الجور حق الجور، ولكن «إذا أقبلت الدنيا على قوم أعارتهم محاسن غيرهم، وإذا أدبرت عنهم سلبتهم محاسن أنفسهم.»
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
حالة البلاد في القرن الماضي
طلع القرن الثالث عشر من الهجرة، وقد قل في البلاد العربية من يفكر في شيء اسمه حضارة، وغاية ما فيها آثار بالية من مدنية قديمة، يظنها أهل البلاد كل شيء وما هي به: انقطع سند العلوم، وبطل إعمال الفكر، وهجعت القرائح، حتى لتظنها ميتة، وأصبح ما يقال له علم صبابة من فروع علم الدين واللسان، والناس في غفلة عن الغرب، قلما يعرفون ما أتاه في نهضته خلال أربعة قرون، ضعف في الأرض العربية أو كاد كل مظهر من مظاهر القوة في الأمم، وأصبح العرب من الجهل بمقومات الحياة في حالة مبكية، وكأن نسبة الترقي عند أهل الغرب في تلك الأحقاب ، كانت على مقدار التدلي في كل شأن في البلاد العربية. ومن أهم العوامل في هذا الاستخذاء، أن الدولة الباسطة ظل جناحها على العرب، حاولت في بعض العصور والأدوار أن تفل من غربهم، فقد جدا في البلاد المفكرون والعارفون، وتراجعت المدنية فيها تراجعا لم يعهد له مثيل في تاريخها منذ مئات من السنين، وأمست هذه الأقطار الواسعة، بلا علم ولا مال ولا زراعة ولا صناعة، وفقد فيها معظم ما يبقي على الأمم حياتها، ويدل على مجدها وعظمتها، ويشعر بجميل حاضرها ومستقبلها، فكان دور التتر دور الفتور المطلق، والفقر المدقع، والعبث بالكرامة:
وإنما الناس بالملوك وما
يفلح عرب ملوكها عجم
يكاد لم يبق في القرنين السابقين على قرن النهضة العربية، وهو القرن الماضي، رجل يذكر في باب الهندسة والتصوير والنقش والشعر والإنشاء والخطابة والفلك والكيمياء والطب، ومعظم من يذكرهم المؤرخون ضعاف في فنهم أي ضعف: استحكمت حلقات الجمود في العقول، وشغل الناس عن الجد بالهزل والفضول، وراح من يكتب ويؤلف، وينسخ ويمسخ ويسلخ، ويعد ذلك علما وفنا، وفسد الذوق وضعف الخيال.
علماء فرنسا في مصر
وبينا كانت البلاد متدهورة في أعماق هذا الانحطاط، جاء نابوليون بونابرت في سنة 1798م يفتح مصر ويحمل في جملة ما يحمله من العدد والعدد، طائفة من
1
علماء فرنسا ونوابغها في الرياضة والهندسة والطب والجغرافيا والفلك والأدب والكيمياء والاقتصاد السياسي والآثار والمعادن وطبقات الأرض والحيوان والنبات وفن المعمار وهندسة الري والقناطر والجسور والميكانيكا، وزمرة من رجال الفنون من المصورين والرسامين والموسيقيين والنقاشين والمثالين وعددهم 146 عالما وفنانا. وأنشأ في مدينة القاهرة مجمعا للعلوم والفنون، يرمي إلى تقدم العلوم والمعارف في مصر، ودراسة المسائل والأبحاث الطبيعية والصناعية والتاريخية، وقسم المجمع إلى أربعة أقسام: قسم الرياضيات، وقسم الطبيعيات، وقسم الاقتصاد السياسي، وقسم الآداب والفنون، ويتألف كل قسم من اثني عشر عضوا.
ولم يدخر أعضاء هذا المجمع وبعثة العلوم والفنون وسعا في متابعة جهودهم العلمية في مختلف الفروع والفنون؛ فأنشأوا مكتبة تحوي أنفس الكتب التي أحضروها من فرنسا، أو جمعوها من خزائن الكتب في مصر، وأسسوا معملا للطبيعة والكيمياء، جهزوه بالآلات والأدوات الخاصة بدراسة العلوم الطبيعية والرياضية، وأخذوا يجوبون البلاد فاكتشفوا الآثار، وأزاحوا الستار عن عظمة مصر القديمة، ورسموا خرائط مفصلة للبلاد ونيلها وترعها وسواحلها، وبحثوا في طبائع الحيوانات والنباتات والمعادن، ودرسوا مياه النيل وطميه وطبقات الأرض، وجابوا الواحات والبحيرات، وأقاموا في القاهرة مطبعة أخذت تطبع منشورات نابوليون العربية، وجريدة الكوريه ديجبت والديكاد، وبعض المطبوعات العربية والفرنسية.
وحل الأثري شامبوليون الحجر الذي عثروا عليه في رشيد فحل بذلك الخط الهيروجليفي، فأولى باكتشافه مصر خاصة، والعلم عامة، يدا تشكر، ولئن رحل جيش الاحتلال الفرنسي عن مصر فما رحلت ثقافة فرنسا عنها، ولئن فشلت حملة نابوليون
2
فإن «العمل العلمي الذي قام به رجال البعثة العلمية من بحث وفحص وتأليف وتصوير ... أبقى إلى اليوم أثرا علميا فاخرا باهرا ... تطأطئ أمامه الرءوس إجلالا وإكبارا.»
مبدأ النهضة المصرية
كان احتكاك المصريين بالفرنسيس أول احتكاك علمي مع الفرنج، وممن كانوا في طليعة المستفيدين مؤرخ مصر في تلك الحقبة عبد الرحمن الجبرتي، وعالم آخر اسمه حسن العطار، وهو الذي تولى مشيخة الأزهر بعد حين، وألف في الفلك والطبيعيات والرياضيات، فإن هذين الشيخين وأمثالهما علموا بعض علماء حملة نابوليون اللغة العربية وغيرها، وتعلموا منهم ما لم يكن لهم به عهد من العلوم المادية، واختلط رجال الإدارة والسياسة من أهل مصر برجال الحملة، ونشأ بين الفريقين تعارف كان انقطع منذ عهد سان لوي أحد ملوك فرنسا في القرون الوسطى الذي جاء مصر فأخذ أسيرا في دمياط، وهكذا عرفت المدنية الفرنسية في هذا الشرق القريب، وظلت وارفة الظلال في بلاد الفراعنة، حتى لقد مضى على الاحتلال الإنجليزي أكثر من خمسين سنة، والأولية للغة الفرنسية، هذا مع حرص البريطانيين على نشر لغتهم.
وتولى مصر محمد علي واليها منذ سنة 1805م، فأوحى إليه ذكاؤه النادر أن يقتبس النظم الإدارية الحديثة، وكان شغوفا بتمدين
3
مصر فأحضر من مختلف بلاد أوروبا أساتذة وأطباء وصيادلة ومعلمين، شيدوا في أماكن اختيرت أحسن اختيار، تلك المدارس والمستشفيات في القطر المصري، و «شعر رغم أميته بأن الملك لا يشيد إلا على أمتن أساس من العلم، وأن العلم الذي تدعم به الممالك ليس هو الذي يسمونه علما في الشرق، إنما هو الذي قامت به المدنية الغربية، وشيدت عليه صرح عليائها وقوتها، فأقرت لها الأمم بالغلبة، ووقفت أمامها صاغرة ذليلة.»
بدأ والي مصر منذ سنة 1813م يرسل الطلبة المصريين إلى أوروبا؛ فأوفد إلى إيطاليا طائفة لدرس الفنون العسكرية وبناء السفن وتعلم الهندسة وغيرها، ثم اتجه نظره إلى فرنسا فأرسل إليها زمرة صالحة، وبعث إلى إنجلترا بعض التلاميذ لتلقي فن الملاحة ومناسيب الماء وصرفه والميكانيكا، ثم جعل جل اعتماده على مدارس فرنسا في تخريج الطلبة، وصرف عليهم من سنة 1826 إلى 1847 «303360» جنيها، وغدا معظم الطلبة الذين تخرجوا بأساتذة الغرب من دعائم النهضة التي تم على يدها إنشاء مصر الحديثة، وأسس أول مدرسة للهندسة في سنة 1231ه/1816م ثم أسس مدرسة الطب إجابة لاقتراح الطبيب كلوت الفرنسي (1242ه/1827م)، وكان القائم مقام سيف الفرنسي الذي دان بعد بالإسلام وسمي سليمان (1819م) هو الذي نظم الجيش المصري، ونظم أمير البحر بيسون البحرية المصرية ثم خلفه هوسار في هذا العمل. وبعد مدة أنشأ ماريت متحف بولاق، واستدعى غير هؤلاء من رجال الغرب ومنهم البولونيون، ودام علم الفرنسيس يفيض على مصر مدة حكم محمد علي وأسرته الكريمة، ولو أحصي ما كتبه علماؤهم في مصر من الأسفار، وما رسموا لها من الآثار والمصورات والتصميمات لبلغ خزانة كبرى، ولا تزال هذه التحفة العظيمة إلى اليوم مرجع الباحثين والدارسين.
قال لنا صديقنا
4
عثمان غالب من علماء مصر الذين شاهدوا تلك الحركة العلمية في إبانها، ثم شاهدوها في انحطاطها، وحضروها في تجددها: إن أكثر أساتذة المدارس التي أنشئت في مصر على عهد نهضتها الأولى كانوا من الفرنسيس المستعربين، يكتب الأستاذ درسه بالفرنسية، والمترجم معه ينقله إلى العربية، فيلقى على الطلبة بلغتهم، دام ذلك من سنة 1830 إلى سنة 1874، وقد كتب فيها بروجر رئيس مدرسة الطب والولادة والصيدلة والمستشفيات المصرية إلى خديوي مصر في عهده يقول له في تقريره السنوي: إن الوقت قد حان لأن تكون وظائف التدريس كلها بيد المصريين؛ إذ قد أصبح فيهم الكفاءة الآن، وإن عمل فرنسا في تربية أبناء مصر في هذه الفروع العلمية قد انتهى أو كاد.
وقال أحد كتاب الإنجليز:
5
إن المدنية المصرية الحديثة هي مدنية إفرنسية صرفة، ويكفي لتصديق هذا القول أن نلقي نظرة واحدة على أعمال فرنسا في هذه البلاد، فمن من العالمين لم يسمع باسم شامبوليون الذي سهل لنا باجتهاده وثباته قراءة تاريخ مصر القديم باللسان الهيروجليفي، وأضاف إلى مصر باكتشافه حل تلك الرموز شهرة فوق شهرتها السابقة، وجعلها ملتقى الأنظار ومحط الرجال؟ ومن ينكر أن إصلاح الري في عهد محمد علي وبناء القناطر الخيرية، وعمل الخزانات لخزن ماء النيل، وأن كل ما نراه اليوم في مصر مما يتعلق بالانتفاع بهذا النهر ليس إلا من عمل المهندسين الفرنسيين الذين كانوا عضد محمد علي ويده اليمنى. ومن ينكر أن المهندسين الفرنسيين قاموا بالأعمال الهندسية عندما كان المستخدمون الفرنسيون قائمين بالأعمال الإدارية، بل من ينكر علينا أن ترعة السويس، وهي أكبر عمل فني تم في القرن التاسع عشر، هو من صنع الفرنسيس فكرا وعملا؟ إن الإصلاح الذي جلب لمصر أكثر من نصف ثروتها الحاضرة ليس إلا من غرس الفرنسيس وما جاء الإنجليز إلا منفذين ومكملين.
لولا عمل محمد علي في تمدينه مصر، لأشرفت اللغة العربية على التلف، على الرغم من وجود جامع الأزهر فيها منذ قرون؛ لأن الأزهر ما كان يعنى بغير المسائل الدينية ، واللغة تنقرض إذا لم تكن لغة علم، وهذا ما حاول محمد علي أن يعمله فظهرت تباشير إصلاحه بعد عشر سنين من البداءة به، على أيدي من خرجهم من المصريين في مدارس الغرب، فألفوا وعلموا وهذبوا. ومن حسن توفيقه أنه وجد من المصريين مشايعين له على عمله خلافا لما كان من تصلب رجال الدين الأتراك، وعصيانهم على الإصلاح الذي كان بعض سلاطين بني عثمان يحاولونه، مما جاء برهانا آخر على أن حب الحرية مغروس في فطرة العرب، مهما انحطوا وانحط أمرهم، وأنهم من أكثر العناصر الإسلامية تسامحا، وما اشتهروا منذ قاموا إلا بفتح صدورهم للمدنية، وكانوا دعاة الدين والأمناء عليه في كل عصر.
وكان من محمد علي وطريقته المبتكرة في التمدين الذي أقبسه نبهاء أولاد مصر، كل ما قرب الأمة المصرية من المدنية الغربية، وكان وادي النيل بجميل صنعه المثال الحي الذي دل به العربي بصورة محسوسة، على أن ليس في دينه ما يحول بينه وبين الحضارة، وأنه حفيد أولئك الفاتحين إن نامت فيه زمنا جراثيم النهوض تدب فيها الحياة عند أقل محرك لها. وفي مصر أنشئت أول مدرسة لتعليم البنات سنة 1873م على عهد إسماعيل الذي أخذ من مدنية الغرب بالكبير والصغير، وفاخر بأن بلاده أصبحت قطعة من أوروبا بتمدنها، وكان الخديوي إسماعيل يشبه محمد علي كثيرا ويعنى بالتعليم عناية خاصة، وقد أنشأ
6
في أيامه مدارس ثانوية وغيرها ومنها دار العلوم التي خدمت اللغة أعظم خدمة.
كانت الحركة الأدبية المصرية مبدأ كل نور في الشرق العربي، استفادت منه البلاد المجارة بحكم الطبيعة، ولا سيما أبناء الشام، فإن منهم من درسوا في مدارس مصر، وتمصروا فخدموا البلاد التي هذبتهم، ومنهم من نقلوا قليلا من النور إلى بلادهم. ولما استولى محمد علي على بلاد الشام سنة (1247ه) ودام حكمه فيها تسع سنين، أثر بابنه إبراهيم ورجاله في إدارتها وتمدينها، ورأى الشاميون الفرق المحسوس بين حكم الترك وحكم أحد ولاتهم محمد علي، فمصر إذا هي التي بدأت تقتبس من نور العلم الصحيح، ومصر أدخلها من تخرجوا بعلم الغرب في دور ارتقاء لم يسبق له مثيل في بلاد العربية، ومصر هي التي ظهرت فيها آثار المعارف قبل أمها الدولة العثمانية، ومصر أثبتت استعدادها للأخذ بأساليب الارتقاء، وأنها كل ساعة مستعدة لقبول الخبر، لا تسأل عن مصدره ومصدره.
عمل الرهبان والقسيسين في الشرق العربي
وكان للغرب في هذا الشرق منذ زمن بعيد رهبان ومبشرون، ولا سيما في الأرض المقدسة من فلسطين وفي جبل لبنان من الساحل الشامي، يعلمون أبناء طوائفهم مبادئ العلوم باللغة القومية، مع إحدى اللغات الغربية ، وفيهم الإيطالي والفرنسي والأميركي والرومي والبروسي والإسباني والنمساوي والاسكتلندي وغيرهم. وزادت صلات الطوائف الباباوية في الشام مع رومية، وكانت منذ القرن السادس عشر مستحكمة، وفيه أسست للموارنة في عاصمة النصرانية مدرسة يتخرج فيها خدمة الدين في اللاهوت وغيره من العلوم، وكثر توافد الإنجيليين منذ سنة 1838م للدعوة إلى البرتستانتية، وأسسوا مطبعة عربية كانت لهم في مالطة أولا، يطبعون عليها الأناجيل بلغات مختلفة لنشرها في المشرق، ثم تبعهم اليسوعيون من الطوائف الكاثوليكية ينشئون مطبعة لهم، وجعل دعاة البرتستانتية والكثلكة من ثغر بيروت وما في ضواحيه من القرى مثل عبيه وعين طورا، أس حركاتهم الدينية والعلمية في الشرق القريب، يتنافسون بينهم، ويبثون في عقول الناشئة من غير أبناء المسلمين على الأكثر المبادئ التي رأوا فيها مصالح أممهم الدينية وغيرها، بما أقاموه من المدارس العالية والثانوية والابتدائية للذكور والإناث، وبعد أن كانت بيروت أشبه بقرية، سكانها بضعة آلاف فقط، أصبحت مدينة علم كبيرة يقصدها المتعلمون من القاصية، على نحو ما كانت اشتهرت أواخر عهد الرومان بمدرسة الفقه، تخرج قضاة للمملكة الرومانية.
هذا، والمسلمون قانعون بأن من أبنائهم من يتعلم في مدارس الدولة التي أنشأتها قرابة ذلك الزمن، لتخرج من أبناء البلاد ضباطا وموظفين لمعسكراتها وإداراتها، وبقدر ما كانت نفوس غير المسلمين تنصرف إلى التجارة والصنائع، كانت وجهة المسلمين تتجه نحو الآستانة تعلم أبناءهم شيئا من التركية، وبعض العلوم النظرية، فيكون منهم قادة وضباط وعمال ونواب، وكانت غاية التعليم العثماني تلقين الأفراد الاعتماد على الحكومة في كل شيء، والفناء في خدمة الوطن التركي، وكان تتريك العناصر على اختلاف أجناسهم ومدنياتهم من أهم ما تعمل له الدولة التركية ولا سيما في أواخر أيامها. وغاية التعليم المصري أو التبشيري تثقيف الناس بالعربية، والإلمام بإحدى اللغات الأوربية، أو العناية باللغة الأجنبية والأخذ بحظ قليل من العربية، مشفوعة بمبادئ علمية تنفع من يتلقنها في حياته ومعاشه، وكان الاحتلال الفرنسي في شمالي إفريقية، الجزائر وتونس ومراكش، والاحتلال الإنجليزي في مصر والسودان، ثم الاحتلال الإيطالي في طرابلس وبرقة، فزاد امتزاج العرب بالغربيين، وأخذ الناس يدركون نقصهم، ويسعون جهدهم ليقلدوا في منازعهم من تقدموهم في سلم الحضارة.
ما أخذناه عن الغرب
من الغرب تعلمنا معنى الوطن والوطنية، وحب الجنس والقومية، وهذا شيء جديد لم يعهد للعرب مثله، بعد أن ذاق الناس الأمرين من ظلم الولاة، ومن داناهم ووالاهم قرونا طويلة، ولم يقدروا أن يغيروا أوضاعهم، بل ما وسعهم التفكير، في مثل هذا التغيير، أو في شيء يماثله لقيام أمر الجماعة، واسترجاع الحقوق المضاعة، ونقلنا عن الغرب بعض أوضاعه الاجتماعية والمدنية والسياسية كالمجالس النيابية والحكومات الدستورية، وأصبح الناس يوقنون أن بقاءهم مناط تضامنهم وتكاتفهم، وأن الشعب يقوى على إملاء إرادته، إذا كانت مادياته سليمة موفورة، وبقدر حظ الأمم من الماديات، تصح لها معنوياتها. وكان القوم من قبل يعجبون بكل ما هم فيه من علم وعمل، ولا يتوقفون اليوم مع هذا، عن نقد كل شيء بمنطق جيد أحيانا، فكثر النقادون، والنقد حياة المجتمعات.
تعلمنا من الغرب أصول الصحافة، وأنشأنا ننشئ صحفا تعنى بالأمور المالية والسياسية، وأخبار الدول والممالك، واقتبسنا إنشاء المجلات الدورية، ننقل أكثرها عن مجلات الغرب الفرنسية والإنجليزية، وننسج على منوالها، ونجود فيها النقل، ونلخص آراء الغرب ومذاهبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، ونترجم من الكتب العلمية والأدبية ما لم نكد نعرف اسم فنه من قبل، وكانت مصر المجلية في هذا المضمار، نشرت منها مئات بمعاونة حكومتها، وعناية أبنائها الذين اغترفوا من الينابيع الصافية في العلم الحديث، وكل بلد سبق في هذه السبيل وعلم أبناءه كمصر، كتب له التقدم على غيره من الأقطار، ولا عجب أن أصبحت مصر بعد جهاد جيلين من الناس، تشبه بعمرانها بعض الممالك الغربية الحديثة.
أثرت الصحافة في عقول من أدمنوا تلاوتها، ودخلت الأفكار الجديدة أوساطا ما كان يظن أنها تهتم بها وتستفيد منها، وبدلت من طرق التفكير، وأصول المعايش ونظام المجتمعات، وعلمت الناس ما لم يكونوا يعلمون، علمتهم بسائط في التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والزراعة، وحال الأمم وسياسة السياسيين، ومجادلات المشرعين، واستعمار المستعمرين، وتدليس المدلسين، حتى غدا بعض من أطالوا تلاوتها وتفهمها، أرقى عقلا من كثير ممن كانوا يسمونهم بالخاصة منذ مائة أو مئتين من السنين. علمتهم أن لا قيام لأمرهم إلا بالقومية العربية، وأن الدين وحده لا ينجيهم مما هم فيه، وأن التساهل بأمور الدنيا يذهب بالدين والدنيا معا، فأقبلوا على المدارس والكتاتيب شاعرين بما هم عليه من النقص، والشعور بالعيوب أول مراتب الكمال.
كان الناس قبل سبعين أو ثمانين سنة يساق أولادهم إلى الكتاتيب في الديار الشامية بقوة الجند والدرك، وكان التعليم على عهد محمد علي في الديار المصرية
7
مكروها عند المصريين كرها شديدا، حتى إن الأمهات كن يفقأن عيون أولادهن حتى لا يدخلوا المدارس، بل اضطرت الحكومة المصرية في بعض أدوارها الأولى أن تتخطف تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى كما يتخطفون عساكر الجيش،
8
فزاد إقبال المتعلمين على المدارس زيادة مستغربة وغدا أهل كل قرية، بل أهل كل قبيل من البوادي، يتطالون إلى تعليم أبنائهم بكل حيلة، دع سكان المدن، فإنهم من ذلك على حصة موفورة.
التمازج بالغربيين والانتفاع بما اخترعوه وكشفوه
لما اخترعت أوروبا البخار حوالي سنة 1830 وسهل السفر على الناس في قطارات البر وسفن البحر، زاد اختلاط الفرنج بالعرب، فزاد هؤلاء ثقافة، يحملها إليهم طلاب العلم وأرباب الرحلات والتجار، وسياح الغربيين وحجاجهم القاصدون إلى بلادنا، يزورون آثارها المدنية والدينية، ومنها ما تقدسه أمم الغرب النصرانية؛ لأنها موطن المسيح ومظهر عجائبه، ومنها ما يدهش له الغربيون كآثار الفراعنة أم المدنيات القديمة المعروفة في مصر، وكمصانع تدمر وبعلبك وجرش والبتراء في الشام، وآثار قرطاجنة وغيرها في إفريقية، وزاد هذا الاختلاط شدة لما صحت عزائم سكان جبال الشام على نزول أميركا طلبا للرزق (1876م)، وكان أهل أوروبا سبقوهم إلى نزولها منذ أكثر من ثلاثة قرون، أي استعمروا الأميركتين منذ فتحهما كريستوف كولمبس وفاسكودي جاما. ومن نصف قرن كان من لا يعود إلى بلاده بمال، يرجع إلى أهله بما اقتبس من بسائط المدنية؛ لأنه رأى في ذهابه وإيابه بلادا أرقى بعمرانها من بلاده، واختلط بجماعات أعلى كعبا في المدنية من جماعته.
إذا عرفنا هذا، فلا نكون إلى الغلو إذا ادعينا أن الفرق عظيم اليوم بين مصر والشام وتونس مثلا، وفيها تمازجت الحضارة الحديثة بالقديمة، وتوفر أهلها على الأخذ عن الغرب علمه وصناعته، وبين الحجاز ونجد واليمن، وسر ذلك كون أهل الجزيرة انقطعوا عن العالم المدني طوعا أو كرها، وقل اختلاطهم بالغربي، إلا في بعض سواحل البحر الأحمر والبحر المحيط الهندي وخليج فارس، وتجافت نفوسهم عن اقتباس ما جد عند الأمم من أساليب العلم والصنائع.
كان الوباء إذا انتشر في بلدة لا يبقي من سكانها ولا يذر، وفي الغالب أن يعقب الأوبئة قحط؛ لقلة العاملين في الحقول، فيهلك الناس بمئات الألوف، وكانت هذه الأمراض الوافدة، تحصد الأرواح في كل عقدين أو ثلاثة من السنين؛ فقد انتشر وباء في الشام أوائل النصف الثاني من القرن الخامس، وأعقبه قحط وإضاقة في العيش، مع ما هنالك من مظالم ومغارم لا يكاد يتصورها ابن هذا العصر؛ فأكل الناس الكلاب والسنانير والفيران، ثم أكل بعضهم بعضا، ونزل سكان دمشق إلى ثلاثة آلاف إنسان، وكانوا من قبل خمسمائة ألف. ومثل ذلك كان في مصر سنة 462ه أفنى القحط العظيم الناس، وأكل الإنسان الإنسان، وبلغ أردب القمح مائة دينار، وخرجت امرأة في القاهرة وبيدها مد جوهر، فقالت: من يأخذ هذا بمد قمح، فلم يلتفت إليها أحد، فألقته في الطريق وقالت: ما نفعتني وقت الحاجة فلا أحملك. قالوا والعجب أنه ما كان له من ملتقط. هكذا كانت حال الناس قبل أن يكشف الغرب الجراثيم، ويفيد بني الإنسان والعرب منهم، بهذا المكتشف العظيم.
كانت الأوبئة والطواعين والحميات والوبالة «الملاريا»، بل وجميع الأمراض الوافدة والأمراض العضالة كالكلب ونحوه، تهلك عشرات الألوف من الخلائق، ولا من يعرف دواءها، ولا من يفكر في تخفيف ويلاتها، ومنهم من يعزو ذلك إلى أسباب سماوية، يغضب الديان على الإنسان، فيرسل عليه هذه المهلكات، أو يقوى سلطان الجن على الإنس، فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، أو يحل بهم نكد الطالع، فتساورهم النقم، وتتخطاهم النعم، ولكم أفضل الغرب علينا بمطعوم الجدري، وكان يهلك به كل سنة جزء عظيم من الأطفال، وكم من عيون دعجاء به قلعت، ومن خدود جميلة ببثوره تشوهت.
عرف الغربيون
9
حقيقة البول السكري والصرع والتشنج وغيرها من الأمراض، فوصفوا لها الأدوية وأقاموا لها حواجز تحول دون آلامها وأخطارها فخفت وطأتها، ولطفوا بما اخترعوا ويلات الأمراض الزهرية والكزاز «تيتانوس» والخناق والنقرس الحاد، ووفقوا إلى إتقان فن الجراحة؛ فأفادوا الإنسانية وقللوا من أوجاعها، ورقوا الطب والصيدلة على اختلاف ضروبهما، ولو لم يكن لهم غير «الكينا وصبغة اليود» لكفى في خدمتهم الإنسانية. وانتفعوا ونفعوا بالكيمياء حتى تم لهم من التفنن فيها ما هو غريبة الأيام والليالي، وإذا نقلت أوروبا إلى آسيا وأميركا وجزء من إفريقية الحمى التيفوئيدية وبعض الأمراض الزهرية، فقد نقلت آسيا إلى أوروبا الكوليرا أو الهواء الأصفر، ومع هذا قاتلته أوروبا بعلمها وبحثها حتى قتلته وأخاه الطاعون.
تعلمنا طب الحيوان والدواجن، ومكافحة الحشرات، وكانت تعبث بالأشجار والنبات والزروع، واستفدنا أصنافا من البقول والأزهار والثمار لم يكن لنا بها عهد، وعرفنا طيورا ودجاجا وأسماكا جديدة، واستطعنا بالأخذ بالوسائط الجديدة القضاء على الجراد، ولطالما أقفر أقطارا وأفقر أمصارا، وتعلمنا استعمال الأسمدة الكيماوية والتفنن في تطعيم الغرسات، والاستكثار من المعرشات المبهجات، ومعالجة الآلات الحراثة والبذارة والحصادة والرجادة والدراسة والذراية بل والخياطة، وكل ما يقلل من عمل الأيدي، ويوفر على الخلائق راحتهم، ويقتصر لهم طرق الانتفاع بما تنبت الأرض وتجود السماء.
وتعلمنا تمديد الخطوط الحديدية، وفتح الأنفاق وبناء الجسور والطرق والمرافئ، والخزانات والمنائر وحفر الآبار الارتوازية، وإقامة الدور ذات الطبقات الكثيرة، وتوليد الكهرباء ومد أسلاكها وإنارة المدن والقرى بها، وتسيير عجلاتها في الحواضر والضواحي، ووضع البريد الجديد والبرق والهاتف واللاسلكي والسلك البحري ثم الراديو، وتنظيم المدن والبلديات، وفتح الشوارع والساحات، ورصف الطرق وتذليل العقبات، وجر المياه النقية في قساطل ومناهل، وتجفيف الأصقاع المستنقعة، وتخفيف ويلات أمراض العين، وكان يعمى بها طوائف من الناس.
واقتبسنا أصول الجندية، وتنظيم المراكب البخارية، وتدوين الدواوين، وأسلوب الجباية، وإدارة المصارف والجمارك، وأبدلنا أساليب التجارة بأساليب الغرب القريبة المأخذ، المضمونة النتيجة، وما عرفنا من قبل المصارف ولا المصافق، ولا السفاتج والحوالات المالية، ولا الشركات المساهمة والمضاربة والمغفلة، ولا كل ما يسهل على التاجر عمله، وعلى الصانع صناعته، ويوفر للناس أموالهم وكأن الأدوات والآلات هي خاصية من خاصيات المدنية الحديثة، لتفرد الغرب بالفحم الحجري وضروب المعادن، ومن أهمها الحديد؛ ولأن الأخصاء في العلوم جرى تطبيقه على الصناعات عندهم.
ومن الغربيين أخذنا أساليب الدعوة والإعلان، وطرق المفكرات والجزازات والإحصاءات، بله تأليف المؤتمرات والمؤامرات، واستخدام المعاصر والمحالج والمغازل والمناسج والمطافئ والمدافئ والمضخات، ونسجنا على أساليبهم في إنشاء الجمعيات الخيرية، والأحزاب السياسية، والشركات الصناعية، وإقامة حدائق لتربية الحيوانات، ومغارس لتربية النباتات والأزهار والأشجار، واستفدنا مسائل أخرى كثيرة نجهد لوضع أسماء تقابلها بالعربية، ولم تعرف من قبل إقامة المستشفيات والمصاح والملاجئ لليتامى والزمنى والصم والبكم والمسلولين والمعتوهين، على هذا الطراز من العناية والطهارة.
أبطل الغرب القرصنة
10
من البحار والأنهار، وقضى على الغزوات حتى من البراري والقفار، فأمن الغادون والرائحون والمبحرون والمقفرون
11
على أرواحهم وأموالهم، وحرر الرقيق فكان ذلك من موجبات فخره، وأزال بذلك وصمة عار عن الإنسانية، وأبطل النخاسة، وكانت أفظع تجارة وأحط عمل شائن في استعباد البشر. علم الغرب السود حتى ألحقوا بالبيض، ودرب الحيوان حتى قام بكثير من أعمال الإنسان؛ فاستفاد من كل قوة ادخرتها الطبيعة، وانتفع من كفاءة كل كفء، وفضل كل قريحة في هذا المجتمع العظيم.
أثر الغربيون في أرواح الشرقيين وعقولهم من حيث يدرون ولا يدرون؛ وذلك بفضل ما يبثونه كل يوم من معارف جامعاتهم ومدارسهم وأنديتهم ومعاملهم ومخابرهم، وبفضل ما كشفوه واخترعوه وحققوه وصححوه من العلوم، وبثوه من الأفكار الجديدة وخاضوا عبابه من الموضوعات، فقلبوا بأوضاعهم أوضاعنا، وبدلوا بتصوراتهم أشكال تصوراتنا، وبدلوا من أساليب الفكر في رجالنا الدارسين وغير الدارسين؛ فتغيرت مادة أحاديثنا ودوافع أهوائنا، ولطفت أذواقنا، ولم يكن لذلك كبير أثر قبل اختلاطنا بهم، وتسهيل المواصلات بيننا وبينهم، وسنظل على الأخذ عنهم في معظم مطالب الحياة، حتى نستوي أمة ناهضة من كل وجه، على ما استوت اليابان الشرقية في القرن الماضي.
كانت الأمية غالبة على الكبير والصغير؛ يربى الأطفال في أماكن مظلمة نتنة لا شمس فيها ولا هواء يسمونها الكتاتيب أو المدارس، ثم هم يضربون بالعصي على رءوسهم ووجوههم وظهورهم وأرجلهم بدون شفقة، وبذلك يتعلمون للخلاص من هذا العذاب الاحتيال والحلف الكاذب، فأصبح الولد بتنظيم التعليم اليوم، يعرف من المواد ما لا يكاد يعرفه العالم أمس، واختصرت مراحل التهذيب، حتى لنرى في شبابنا اليوم من هم مفخرة بمعارفهم، ما رأى أجدادنا أمثالهم في عصورهم، وما كنا نسمع بمثل هذه المعارف تجتمع لفتى في الخامسة عشرة من عمره، ولا بالأطفال من البنين والبنات يربون في رياض الأطفال هذه التربية العملية الصحية، ولا بربات الحجال، ينافسن في التعليم العالي الرجال.
بفضل المدارس والصحف السيارة ودور التمثيل وبيوت الغناء وأسطوانات الحاكي، وإذاعات «الراديو» أصبحت الفصح من الألفاظ العربية في ألسن الناس، وعلى أقلامهم ومكتوباتهم، كأنها من المتعارف، وظهر فينا رجال نقرأ أعمالهم في كتبهم ورسائلهم وخطبهم وأعمالهم فنعجب بها، وكثر في أبنائنا رجال القانون والإدارة والجندية والطب والهندسة والزراعة والكيمياء والطبيعة والفلك والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والشعر والكتابة والأدب والتصوير والموسيقى والنحت والنقش والطيران، ومنهم من لا يقل عن أرقى الطبقات أمثالهم في الغربيين، ولا يفرقون عن النابهين من الرجال عند الأمم الممدنة، إلا بفروق مرجعها إلى المحيط، الذي يعلو كل حين مستواه.
يعترف
12
الشرق العربي بصنيع علماء الغرب لمعاونتهم له على إحياء مدنيته، فقد أنشأوا منذ القرن الرابع عشر للميلاد مدارس لتعليم العربية في جامعاتهم، وكلما كان بعض أبنائه يتلقفونها، كانوا يفكرون في اقتناء كتب العرب، ويتنافسون في ذلك تنافسهم في الاحتفاظ بالآثار التي هي محصول القرائح العربية. ولما اخترعت الطباعة كانت المخطوطات العربية أول ما طبع في بلاد الغرب، وأول مطبعة أنشئت في مدينة فانو في جون البنادقة (بحر الأدرياتيك) سنة 1514م طبع فيها القرآن وكتب الطب والحكمة والطبيعة باللغة العربية، وفي مدينة البندقية طبع الإيطاليون تآليف يوحنا بن ماسويه في الطب والفلسفة، ومثلوا بالطبع قانون ابن سينا في الطب مع كتاب النجاة في رومية، وذلك سنة 1593. وفي سنة 1615م بدأ الهولنديون في مدينة ليدن بطبع كتب العرب، وما زالوا إلى اليوم يطبعون من أمهاتها كل مفيد. وقد أنشأت معظم الأمم الأوربية والأميركية مطابع عربية طبعت عليها عشرات من كتب العرب النفيسة، ودلوا قومهم وغير قومهم على فضل العرب، ونوهوا بحضارتهم ونبوغ أفرادهم، كانوا يأتون ذلك والعرب يغطون في سباتهم غطيطا غريبا، تحت ظل خلفاء العثمانيين ودولتهم المباركة! وبينا كانت العربية توشك أن تدخل في دور الانقراض في مصر والشام والعراق، دع سائر الأقطار العربية الأخرى، كانت أوروبا لا تخلو جامعة من جامعاتها منذ القرن السادس عشر من إلقاء دروس عربية، وأبحاث في مدنية الإسلام.
جمع الإفرنج في كل دولة صغيرة كانت أم كبيرة، خزائن عامة أو خاصة فيها نفائس الكتب العربية المخطوطة، عنوا بها أشد عناية ورتبوها ونشروا فهارسها، ولا تقل كتبنا التي احتفظوا بها في خزائنهم عن مائتين وخمسين ألف مجلد، نشروا منها بالطبع جزءا من الأسفار الدينية والفلسفية والتاريخية والجغرافية والعلمية والأدبية واللغوية وغيرها مما لا يقل عن خمسمائة مجلد، ونحن لم نعرف بعد الطبع بالحروف، مجتزئين بطبع الحجر السقيم. وفي خزائن الكتب العمومية والخصوصية في الآستانة ومصر من المخطوطات العربية ما لا يقل بعدده عما عند أهل أوروبا منها، ولم يطبع منها غير مصنفات قليلة، ومنها التافه الذي قصدوا به التجارة لا خدمة العلم، كما كان منزع علماء المشرقيات من الغربيين، وجاء القرن التاسع عشر ولم يطبع منها غير بضعة كتب نافعة. فبفضل الغرب عرفنا الطبع، وعرفنا فضل أجدادنا، وتعرفنا إلى الطرق الموصلة إلى إحياء كتبنا، ولكن طالت مدة تعليمنا أكثر من مائتي سنة.
وعن علماء الغرب اقتبسنا أساليب الاستفادة مما أملته قرائح الأسلاف، وأبقته الأيام من تراثهم الثمين، على نحو ما كان لهم الفضل في البحث عن دفائن بلادنا، ونبش عادياتها ومصانعها القديمة، فاهتدينا إلى معرفة آثار أرضنا وتاريخها وعظمتها السالفة، وعرفنا لغات الأقدمين ممن سكنوا ديارنا قبلنا، وتعلمنا كيف نحتفظ بآثارنا الثابتة والمنقولة ، ونعنى بتركة أجدادنا ونحترمها ونقدسها ونولع بها.
وكان من تعليم رجالنا أن سمت بهم الهمم إلى إدخال الأنظمة الجديدة على مدارسنا الدينية الكبرى، والتي تقدمت غيرها في قبوله كانت لها الشهرة الطائرة، وعموم النفع للإسلام والعرب، تخرج علماء حقيقيين منورين، وكانت من قبل تخرج علماء نظريين جامدين، وكلما ارتقى أسلوب التعليم وثقف الخاصة لغات الغرب زادت اللغة العربية رشاقة، حتى كاد كتاب مصر وما إليها من الأقطار العربية يرجعون إلى العربية نضرتها القديمة.
أخذ الغربيون عن العرب كل ما نفعهم يوم نهضتهم من ضروب المعارف البشرية، وها هم اليوم يعيدون إلينا شيئا مما تعلموه من أجدادنا، وزادوه بعلمهم وبارتقاء الزمن وتداول الأيام، وهذه سنة المدنيات التي درجت عليها أجناس البشر، والعالم فريسة العامل، ومن كدح ربح: تقلبت على الحضارة أيد كثيرة منذ دون تاريخها، واليوم وصلت إلى هذا المظهر الباهر، ولا غضاضة على المتأخر إذا أخذ عن المتقدم.
سيئات الغرب في البلاد العربية
ولا يفوتنا النظر، وقد بلغ بنا نفس الكلام إلى هذا الحد، أن نعرض لما حوته المدنية الغربية من المساوئ، بعد أن ألممنا بما حملت من عظيم المحاسن، ولكل مدنية سيئات تندمج في مطاوي الحسنات، وقد لا يكون الخير تاما والشر تاما، وكان علينا أن نقتصر على اقتباس النافع ونتحامى الضار، والظاهر أن المدنية وحدة لا تتجزأ من أخذ بخيراتها، لا بد أن يستهدف لشرورها طوعا أو كرها، وما هذه السيئات بالذي أقره عقلاء الغرب، دعاة الحضارة الحديثة.
يقول قاسم أمين:
13 «إن أهل أوروبا يقسمون إلى ثلاث طبقات كسائر الأمم: عليا ووسطى ودنيا، فالدنيا؛ أكبر حظها من التربية معرفة القراءة والكتابة وقليل من مبادئ العلوم، وهم في أخلاقهم الشخصية أشد فسادا من عامتنا في أخلاقهم. وأما الطبقة العليا: فتصيب حظا عظيما من التربية الفعلية، ولكن يغلب عليها ما يغري به الغنى والبطالة، وتستولي عليها الشهوات؛ فهم يتفننون في اللذائذ، تفنن أهل الجد في الاختراعات والصنائع، قال: وهذا الفساد مما تتحمله المدنية الغربية وتصبر عليه؛ لأنها لا تستطيع محوه ، فإن هذه المدنية مؤسسة على الحرية الشخصية، مضطرة لأن تقبل ما يتبع هذه الحرية من الضرر، فإنها تعلم أن منافعها أكثر من مضارها، ووجود الفساد في الغرب إنما هو لاحق طبيعي من لواحق الحرية الشخصية، ونتيجة من نتائجها، في الطور الأدبي الحالي الذي توجد فيه تلك البلاد الآن، قال: وهذا الفساد في الأمم الغربية لم يضعف فيهم الفضائل من بذل الأنفس والأموال في سبيل تعزيز الوطن أو الدفاع عنه، فأدنى رجل في الغرب كأعلى رجل فيه، إذا دعا داع إلى هجوم، أو قيام لدفاع أو إلى عمل نافع؛ يترك جميع لذائذه وينساها، وينهض لإجابة الداعي، ويخاطر بنفسه، ويبذل ماله إلى أن يتم للأمة ما تريد. وأما الطبقة الوسطى: فلا ريب أنها أرقى من التي تقابلها عندنا.» ا.ه. قلنا: وهذه الأخلاق الأخيرة هي التي يدعو إليها رجال الإصلاح الاجتماعي في بلادنا.
ولقد هجمت علينا المدنية الغربية بأصناف من المسكرات والمخدرات، كان أجدادنا لا يعرفونها، وعاشوا بدونها قرونا في هناء وراحة، وكان يقتصر من يعاقرون الراح سرا، وهم قلائل جدا، على ما تنتج البلاد من خمور، وضررها على الجملة أخف من مضار الغول الجديد. وهكذا الحال في عامة المخدرات كالمورفين والكوكايين والهرويين التي جاءت مع القرن الماضي، فأضعفت العقول وقتلت الأنفس، وفتح التوسع في الحرية أبواب العهر والفجور والإسراف على النفس، فأنشأ الفحش يمارس تحت سمع القانون وبصره، وزادت الأمراض السرية، وتعطل التناسل في بعض الرجال والنساء. ثم انتشر القمار على اختلاف صوره، ومنه المضاربات وألعاب النصيب، وكان الناس في غابر الأيام يقنعون بالرزق المحلل، يأتيهم من أعمالهم الصناعية والزراعية والتجارية، لا يغامرون هذه المغامرات التي يردها العقل.
وأدت الحرية الشخصية بالسلطة الأبوية في بعض البيوت إلى الارتخاء، فكان في الماضي الإفراط في هذا المعنى وصار اليوم التفريط، وضعفت سلطة الأب على ابنه وابنته بالنسبة، وضعفت معها الشفقة والرحمة والكرامة، وأصبح كل أمر يقاس بمقياس الماديات، ولا يسأل الرجل من أين اكتسب ماله، إذا اجتمع له مال؛ لأن المعنويات قلما تكون ذات شأن في نظرهم، وإنما الشأن كل الشأن للماديات، وقضت الحضارة على من قبلوها أن يجدوا ويسرعوا، إن أمكن بقوة البخار والكهرباء والأثير، وكان الناس منذ قرن على تؤدة وتأن وصبر لا تشاهده في أهل هذا الجيل؛ ولذا رأينا التشاؤم أكثر من التفاؤل في كل بلد، والقناعة والرضى أقل من الشراهة والطمع، وأمسى كل صعلوك يحاول أن يغتني بين عشية وضحاها، بأي الطرق التي تفتح أمامه، وكثر حب الظهور بل الجنون فيه، وتبع ذلك البذخ والتفخل والإسراف، بحيث يتعذر التوازن بين الدخل والخرج، فكان في ذلك خراب بيوت كانت عامرة لولا التقليد المصطنع، والعادات المستحدثة، وكثرت بذلك السويداء والماليخوليا والخبل وضعف الأعصاب وفقر الدم والسل. كانت الرفاهية في الأيام الماضية مقصورة على قصور الملوك والأمراء، فشارك فيها اليوم أهل الطبقات الثانية والثالثة، وكان للمجتمع في الشرق عادات مستحسنة من جمال الألفة، وحسن العشرة، وصحة العهد والوفاء، وقوة الإيمان ومعرفة الجميل، فعرا هذه الصفات بعض الفتور خصوصا في البيئات التي اقتبست مدنية الغرب بعجرها وبجرها، وبعبارة ثانية إن الناس انغمسوا في الأثرة، وكانوا من قبل أميل إلى الإيثار.
هذه جريدة بما لقفناه عن الغرب، ذكرنا فيها الحسنات وأتبعناها بالسيئات، وربما كان فيها بعض النقص غفلنا عنه بخيانة الذاكرة، أوردنا منها ما أوردناه على سبيل الذكرى لننصف غيرنا وننتصف منهم.
العلوم والمذاهب في الإسلام
أصول الشريعة وتأسيس المذاهب
كان خاصة الصحابة علماء بالشريعة، أخذوا علمهم عن الشارع الأعظم، فتعلموا القرآن، وتلقنوا السنة بطول الاختلاط بصاحبها، أو بالرواية الصحيحة عن ثقات الناقلين عنه، والقرآن معدن الأحكام، وهو المرجع الوحيد الذي لا يختلف فيه اثنان من أهل القبلة، والسنة مفسرة له، وهي مجموع ما صدر عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
من قول، أو عمل، أو تقرير، والعبادات تعلم بالعمل يعرفها الخاص والعام، وإذا أشكل فيها أو في المعاملات شيء رجع إلى العارفين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والقضاة الذين يوليهم الخليفة، وكانوا يدعون القضاء حكومة.
كانوا إذا عرض لهم حادث يضطرون إلى القضاء فيه، يحكمون العقل واللغة لتفهم الشرع واستنباط ما لا يجدون فيه نصا صريحا، ولا معول لهم إذا اختلفوا في شيء على غير هذين الأصلين الكتاب والسنة، وكان الممتازون من الصحابة وغيرهم في هذا الضرب من العلم يعرفون أنفسهم ويعرفهم الناس، وهم المرجع في القضاء والفتيا بين المؤمنين، في مصالحهم الدينية والدنيوية، يبعث الرسول ثم الخلفاء من بعده بأقضى القراء إلى الأمصار، يحكمون بين الناس ويعلمونهم دينهم. ولم تخل بلدة من البلاد التي دخلها الإسلام من نزول بعض الصحابة المدركين فيها، كانوا لأهلها منارا، وعلى الشريعة أمناء، وفي الدعوة إلى الدين مؤمنين صادقين، يقرءون القرآن، ويعلمون الشرائع والأحكام، وإذا لم يجدوا نصا صريحا في القرآن، ولا نصا معتمدا من السنة، يعمدون إلى القياس أو الرأي.
يقول ابن تيمية:
1
ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال، فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة، والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه؛ إذ هم أصل الإجماع فلا إجماع قبلهم. ثم ذكر كيف كان التابعون يقضون بالكتاب والسنة وبما قضى به الصالحون، قال: وهذا هو القضاء وهذا هو الصواب. ولما بعث الرسول معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: «بم تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: أقضي بما قضى به الرسول. قال: فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله.»
وكان الشيخان يسألان أصحابهما إذا أرادا أن يبتا برأيهما في أمر أشكل عليهما، وكتب عمر إلى قاضيه شريح: «أما بعد إذا جاءك شيء في كتاب الله فاقض به، ولا يلفتنك عنه الرجال، فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله، فانظر سنة رسول الله فاقض بها، فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة من رسول الله، فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أي الأمرين شئت، إن شئت أن تجتهد رأيك وتقدم فتقدم، وإن شئت أن تأخر فتأخر، ولا أرى التأخير إلا خيرا.» ا.ه. وأراد عمر قاضيه أن يترك أمدا للخصوم علهم يتصالحون، ومما أثر عنه قوله: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن بين الناس.»
ولعمر كتب كثيرة صدرت عنه في القضاء وغيره، ومما أبقته الأيام كتابه إلى أبي موسى الأشعري (عبد الله بن قيس) وإليكه بنصه المعجب الذي لم تبل الأيام جدته: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك، أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا، ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك، وهديت لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك، مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل للمدعي أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى، المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والأيمان. وإياك والغلق
2
والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام.»
وكتب إلى أبي عبيدة: «أما بعد فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك ونفسي فيه خيرا، الزم خمس خلال يسلم لك دينك، وتحظ بأفضل حظك: إذا حضرك الخصمان فعليك بالبينات العدول، والأيمان القاطعة، ثم أدن الضعيف حتى ينبسط لسانه، ويجترئ قلبه، وتعاهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته، وانصرف إلى أهله، وإذا الذي أبطل حقه من لم يرفع به رأسا، واحرص على الصلح ما لم يتبين لك القضاء والسلام عليك.» وكتب إلى معاوية وغيره بهذا المعنى.
فعمر هو الذي وضع أساس النظم الإسلامية في القضاء ونهج طريقه، وبقدر ما يحدث للناس من حوادث كانت تتفرع المسائل، ولكنه «لم يوضع
3
للتشريع أسلوب مقرر لا يجوز تعديه، فترك لكل ناظر الخيار في انتخاب أسلوبه، فلذلك تخالفت أساليبهم إلى حد بعيد، وأشد ما تكون تخالفا بين أصحاب الرأي والقياس، وكانوا يرون أن القياس أولى بالاتباع من الأحاديث التي رواتها الآحاد، ولم يصح عندهم من الأحاديث التي رواتها جماعة، أي المتواترة التي لا عذر لأحد في الشك فيها، إلا بضعة عشر حديثا.» وذم علي بن أبي طالب اختلاف العلماء
4
في الفتيا بقوله: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد، ونبيهم واحد وكتابهم واحد.» وقال في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل: «وإن أظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج المواريث»، «وانتشرت
5
أحكام علي وفتاويه، ولكن الشيعة أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه؛ ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتاواه إلا ما كان من طريق أهل بيته، وأصحاب عبد الله بن مسعود كعبيدة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم.»
والواقع أن الصحابة كانوا يعملون «بمقتضى
6
ما يغلب على ظنونهم من المصلحة، ولم يقفوا مع موارد النصوص حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد، فرجح كثير منهم القياس على النصوص حتى استحالت الشريعة وصار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة.» (كذا) وقد كان رسول الله يخالف فلا ينكر، ولا يرى بأسا فيما كان به مصلحة لله والملة؛ فقد خالفه عمر في أخذ الفداء من أسارى بدر فرجع إلى تصويب رأيه، وأراد الرسول أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة فيرجعوا عنه فأتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فخالفاه فرجع إلى قولهما، وقال لأبي هريرة: اخرج فناد في الناس: من قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة، فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك، فدفعه في صدره حتى وقع على الأرض، فقال: لا تقلها فإنك إن تقلها يتكلوا عليها ويدعوا العمل، فأخبر أبو هريرة الرسول بذلك، فقال: لا تقلها ودعهم يعملون، وأسقط الصحابة سهم ذوي القربى وسهم المؤلفة قلوبهم، وعملوا حد الخمر اجتهادا ولم يحد الرسول شاربي الممر، وقد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم.
يقول السرخسي: إن «مرجع
7
الناس في أمر دينهم ودنياهم كتاب الله وسنة رسوله، فإذا اشتبه عليهم أمر من الأمور رجعوا إلى الخلفاء وفقهاء الصحابة واستخاروا الله فيه، واستظهروا باجتهادهم رأيا عملوا به، وقد كانوا لا يكتبون أقوال النبي وفتاوي الصحابة خشية أن يجرهم ذلك إلى الاعتماد على الكتب، وإهمال حفظ القرآن الكريم والسنة، ولأن الكتاب عرضة للضياع وللتصحيف والتحريف.» ولما «تعددت المذاهب وكثرت الأقوال والفتاوى، والرجوع فيها إلى الرجال والرؤساء، ومات أكثر الصحابة، فخافوا أن يعتمد الناس على رؤسائهم ويتركوا سنة رسول الله فدونوا الحديث.»
وحفظت الفتوى
8
من أصحاب الرسول عن مائة ونيف وثلاثين نفسا ما بين رجل وامرأة والمكثرون منهم سبعة؛ عمر وعلي وابن مسعود وعائشة وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر . وكان الناس في عصر التابعين يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون عنها بدا، وكان أكبر همهم رواية الحديث، واختلفت مذاهب الأصحاب وأخذ عنهم التابعون كذلك كل واحد ما تيسر له، فحفظ ما سمع من الحديث ومذاهب الصحابة وعقلها وجمع المختلف على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، واضمحل في نظرهم بعض الأقوال، فعند ذلك صار لكل عالم من علماء التابعين مذهب على حياله، والقول بمذهب الواحد من الناس، واتخاذ قوله والحكاية له والتفقه على مذهبه، لم يكن معهودا للناس في القرنين الأول وصدر الثاني، ثم حدث فيهم شيء من التخريج ولم يكن أهل المائة الرابعة مجتمعين على التقليد الخالص على مذهب واحد والتفقه له والحكاية لقوله، وكان لا يتولى القضاء ولا الإفتاء إلا مجتهد ولا يسمى الفقيه إلا مجتهدا.
وكان الخلفاء الراشدون أئمة مهديين فقهاء في الأحكام،
9
مستقلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا إليها، وكانوا يتدافعون الفتاوى، وما تعلق بأمور الخلق في الدنيا، فلما أفضت الخلافة إلى أقوام تولوها بغير استحقاق، ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، لاستفتائهم في أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، مواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا ، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولي القضاء والحكومات، وكانوا يستقضون أنفذ الناس وأعلمهم وأحلمهم، والذين كانوا يتدافعون الفتاوى، ويتحرجون من تولي الأحكام الشرعية، كان مرماهم أن يربأوا بدينهم عن أن يتورطوا في حكم لا ترضى عنه أنفسهم، ويخافون مغبته على الإسلام والمسلمين؛ لما ورد عن الشارع الأعظم من الوعيد لمن جعل قاضيا، وحكم بغير العدل. وكان القضاة لا يستغنون أن يجلس إليهم بعض العلماء يقومونهم إذا أخطأوا.
لما قدم مروان
10
مصر سأل عن القاضي فقيل: هو عابس بن سعيد فدعاه، فقال: «أجمعت القرآن؟ قال: لا. قال: فتفرض الفرائض؟ قال: لا. قال: فتكتب بيدك؟ قال: لا. قال: فبم تقضي؟ قال: أقضي بما علمت، وأسأل عما جهلت. قال: أنت القاضي.» و«كانت
11
القراءة والفقه والتفسير والحديث في أول الإسلام علما واحدا، فجعلت تتميز على توالي الأيام، إلى أن أصبح كل علم مستقلا عن أخيه، فلما استقل الفقه سمي أصحابه الفقهاء، وكانوا قبلا يسمون بالقراء، تعظيما لشأن القراءة التي كان يجهلها العرب في أول أمرهم.» ولما تم تأثير الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين في البلدان التي نزلوها «أتى بعد
12
التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة ومالك وغيرهما، فاتبع أهل كل مصر مذهب فقيهه في الأكثر، ثم قضت أسباب بانتشار بعض هذه المذاهب في غير أمصارها، وبانقراض بعضها، فلم يطل العمل بمذهب الثوري والبصري لقلة أتباعهما، وبطل العمل بمذهب الأوزاعي بعد القرن الثاني، وبمذهب أبي ثور بعد الثالث وابن جرير بعد الرابع، كما انقرض غيرها من المذاهب، إلا الظاهري فقد طالت أيامه وزاحم الأربعة، بل جعله المقدسي في أحسن التقاسيم رابع المذاهب في زمنه، أي في القرن الرابع بعد الحنبلي، وذكر الحنبلية في أصحاب الحديث، وعده ابن فرحون في الديباج الخامس من المذاهب المعمول بها في زمنه، أي في القرن الثامن، ثم درس بعد ذلك ولم يبق إلا الأربعة، ومذاهب أخرى خاصة بطوائف من المسلمين لا يعدها جمهورهم من مذاهب أهل السنة.» وتأصل مذهب مالك والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة بسلطان تلاميذهم وأنصارهم، وراح كل ملك يحرص على نشر مذهبه، إذا مكن له في الأرض، بادر الناس إلى الأخذ بمذهبه، وحرصوا على اتباع ملكهم أو أميرهم حرصهم على اتباع إمامهم. يقول ابن حزم: إن مذهبين انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: الحنفي بالمشرق، والمالكي بالمغرب.
والاختلاف بين أهل هذه المذاهب لا يتعدى الفروع، أما الأصول فكل أهل القبلة متفقون عليها. ويقول ابن القيم: إن الصحابة تنازعوا في كثير من الأحكام ولكن لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، أي المسائل التي تتعلق بالإيمان، وصرح الذهبي
13
أن بعض الصحابة كفر بعضهم بتأويل ما، والله يرضى عن الكل ويغفر لهم فما هم بمعصومين، وإن الصحابة بساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات، فما كاد يسلم أحد من الغلط، لكنه غلط نادر لا يضر أبدا؛ إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل، وأما التابعون فيكاد يعدم فيهم من يكذب ولكن لهم غلط وأوهام، وكان المسلمون كلمة واحدة في أبواب العدل
14
والتوحيد والوعد والوعيد وفي سائر أصول الدين، وإنما كانوا يختلفون في فروع الفقه كميراث الجد مع الإخوة، والأخوات مع الأب، والأم مع الأب، وكمسائل العدل والكلالة والرد وتعصيب الأخوات من الأب والأم، أو من الأب مع البنت أو بنت الابن، وكاختلافهم في جر الولاء وفي مسألة الحرام ونحوها، وأهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم ومحدثوهم، ومتكلمو أهل الحديث منهم، كلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الصانع، وفي النبوة والإمامة، وفي أحكام العقبى، وفي سائر أصول الدين، وإنما يختلفون في الحلال والحرام من فروع الأحكام.
ولقد خالف ابن عباس عمر وعليا وزيد بن ثابت وكان أخذ عنهم، وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة وإنما أخذوا العلم عنهم، وخالف مالك كثيرا من أشياخه، وخالف الشافعي وابن القاسم وأشهب مالكا في كثير من المسائل. قال ابن الأزرق وكان مالك أكبر أساتيذ الشافعي وقال: لا أحد أمن علي من مالك كاد كل من أخذ العلم عنه يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل، وما عد ذلك من سوء أدب التلميذ مع شيخه ولا من الخروج عن مراجعة الحق الذي توزعته عقول الناس، ونال كل منهم قسطا منه.
والغالب أن العارفين كانوا حتى في القرن الثاني غير راضين عن هذا الاختلاف، ويرون وضع كتاب جامع يرجع إليه رجال القضاء وغيرهم، تخفيفا على القضاة، وتيسيرا للمتقاضين، وقد كتب ابن المقفع إلى الخليفة المنصور على الأرجح يقول له
15
من كتاب: «ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين (البصرة والكوفة) وغيرهما من الأمصار والنواحي، اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال، فيستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة، فيستحل في ناحية منها، ويحرم في ناحية أخرى، غير أنه على كثرة ألوانه نافذ في المسلمين في دمائهم وحرمهم، يقضي به قضاة جائز أمرهم وحكمهم، مع أنه ليس مما ينظر في ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلا قد لج بهم العجب بما في أيديهم، والاستخفاف ممن سواهم، فأقحمهم ذلك في الأمور التي يشنع بها من سمع من ذوي الألباب.» «أما من يدعي لزوم السنة منهم، فيجعل ما ليس له سنة سنة، حتى يبلغ ذلك منه إلى أن يسفك الدم بغير بينة، ولا حجة على الأمر الذي يزعم أنه سنة، وإذا سئل عن ذلك لم يستطع أن يقول: هريق فيه دم على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أو أئمة الهدى من بعده، وإذا قيل له: أي دم سفك على هذه السنة التي تزعمون، قالوا: فعل ذلك عبد الملك بن مروان أو أمير من بعض أولئك الأمراء، وأما من يأخذ بالرأي فيبلغ به الاعتزام على رأيه أن يقول في الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولا لا يوافقه عليه أحد من المسلمين، ثم لا يستوحش لانفراده بذلك وإمضائه الحكم عليه، وهو مقر أنه رأى منه لا يحتج بكتاب ولا سنة، فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه القضية والسير المختلفة، فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله، ويعزم له عليه، وينهي عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابا جامعا، لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحدا صوابا، ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر، آخر الدهر إن شاء الله.» «فأما اختلاف الأحكام فإما شيء مأثور عن السلف غير مجمع عليه، يدبره قوم على وجه، ويدبره آخرون على وجه آخر، فينظر فيه إلى أحق الفريقين بالتصديق، وأشبه الأمرين بالعدل، وإما رأي أجراه أهله على القياس فاختلف وانتشر ما يغلط في أصل المقايسة، وابتداء أمر على غير مثاله، وإما لطول ملازمته القياس، فإن من أراد أن يلزم القياس ولا يفارقه أبدا في أمر الدين والحكم وقع في الورطات، ومضى على الشبهات، وغمض على القبيح الذي يعرفه ويبصره، فأبى أن يتركه كراهة ترك القياس، وإنما القياس دليل يستدل به على المحاسن، فإذا كان ما يقود إليه حسنا معروفا أخذ به، وإذا قاد إلى القبيح المستنكر ترك؛ لأن المبتغي ليس غير القياس يبغي، ولكن محاسن الأمور ومعروفها، وما ألحق الحق بأهله.»
والأرجح أن هذه الرسالة أثرت في المنصور فكانت له يد طولى في سبيل التدوين، فحمل الفقهاء والمحدثين على تدوين ما وصل إليهم، فأصبح للناس مراجع معتمدة يرجعون إليها، وقلت الفوضى بعض الشيء، ودخلت الأحكام في نظام. روى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس قال: لما حج المنصور قال لي: قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم. ا.ه.
وعلى هذا لم توحد مذاهب البلاد، ولو تم ذلك لاستراح الناس، وحصروا الجهد في جهة معينة، وقل الأخذ والرد، وبطل انتصار كل واحد لمذهبه وإمامه، مما أدى إلى فتن سنلم بها عما قريب، وآخر من وقعت إلينا سيرته من أصحاب السلطان الذين عرفوا مضار هذه الاختلافات، والشرع واحد والأصل واحد، الوزير ابن هبيرة من علماء الحنابلة، رأى هذا الاختلاف بين الفقهاء وقدر الضرر تقدير الإداري الحازم والحاكم العادل، فصنف في وزارته كتابا في مسائل الفقه المتفق عليها والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين، وجمع عليه أئمة المذاهب وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، وحدث به، وجمع الخلق العظيم لسماعه، وكتب به نسخة لخزانة المستنجد وبعث ملوك الأطراف ووزراؤها وعلماؤها فاستنسخوه ليقضوا به على فوضى المسائل الفقهية في بلادهم. وقيل: إن الوزير ابن هبيرة أنفق على هذا مائة ألف واثني عشر ألف دينار، وما أمكن التوحيد بين أهل التوحيد.
ولقد ثبتت مذاهب وانتشرت، وتداعت أخرى وانقرضت، وما كان ثبات الثابتة لشيء لم يكن في غيرها، ولا انقراض المنقرضة لأنها غير صالحة للبقاء، فالمصدر واحد، والاجتهاد مختلف في بعض المسائل، وما كان يروع المسلمين «الخلاف بين المجتهدين مهما كان بعيد المدى وجعلوا ذلك علما خاصا، سموه علم الخلاف، يتدارسونه كما يتدارسون أصول الفقه، وقالوا: إن اختلاف الأئمة رحمة.» قال الغزالي في المستصفى: أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد، الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتشديد، ومن الأسباب في انقراض مذاهب الأوزاعي والحسن البصري والثوري وابن جرير وغيرهم عدم التوسع في الفروع، وإطالة المسائل، كما كان عليه الإمام محمد وأبو يوسف وأمثالهما من أصحاب أبي حنيفة، فإنهما دونا من الكتب ككتب ظاهر الرواية وغيرها ما بقي إلى اليوم متداولا في الأيدي، ومسائل الأصول تسمى ظاهر الرواية، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذاهب، وسميت بظاهر الرواية لأنها رويت عن الأئمة بروايات الثقات، فهي ثابتة عنهم، إما متواترة أو مشهورة عنهم، وكذلك دون مالك والشافعي وابن حنبل أو من أخذ عنهم، وجمع ما تفرق، وفسر ما أبهم.
وما زال الأمر يتسع حتى نضج الفقه في القرن الرابع، وظل على نضجه مدة ثم أخذ في الضعف لانحطاط العلماء، بحيث أصبحوا غير قادرين على استخراج الأحكام بأنفسهم، فقال بعض الفقهاء ومنهم ابن الهمام بإغلاق باب الاجتهاد - «والاجتهاد»
16
بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي مما اعتبره الشارع دليلا، وهو كتاب الله وسنة نبيه - وبالأخذ «بالتقليد» وهو تلقي الأحكام من إمام معين واعتبار أقواله كأنها من الشارع نصوص يلزم المقلد اتباعها، ولما أوصدوا باب الاجتهاد حتى على من تمت أدوات العلم فيه حجروا على العقل «وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق.» كما قال ابن قيم الجوزية وتكلم على الاجتهاد والتقليد وما أدخله المتأخرون من الحيل التي يتعالى أئمة المذاهب عن القول بها، وهي مدسوسة لا محالة، وذكر فصلا ممتعا في تغير الفتوى واختلافها بحيث تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعادات مما وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه.
ونسوا أن من المسائل ما هو «سياسة جزئية بحسب المصلحة تختلف باختلاف الأزمنة»، «وأن الكتب العظيمة التي أبقاها عظماء الفقهاء صارت أثرا بعد عين، وقصر الفقهاء همهم على الكتب التي كتبها أصحابها في عصر التقهقر، وقد ضعفت سليقتهم العربية فتحول كلامهم إلى ما يشبه الألغاز، فكأن المؤلف لم يكتب ليفهم بل ليجمع.» ثم «إن كثرة
17
الاختلاف بين المخرجين والمرجحين، حتى على المسألة الواحدة، جعل علم الحقوق أشبه برموز لا يتيسر لأحد من الناس أن يتناول منه حكما جازما إلا بواسطة الفقهاء والمفتين، وقليل من الناس المعصوم عن الخطأ أو الغرض، فيحلل أحدهم من طريق أحد المرجحين ما يحرمه الآخر من طريق غيره، هذا بين علماء المذهب الواحد، فما بالك بتعدد المذاهب أيضا» وربما قصدوا بهذه الرموز إبعاد الدخلاء في العلم حتى لا يكون العلم فوضى، ولأجل هذا أنشأ الأمويون في قرطبة في القرن الثالث دار شورى القضاء تبت بين العلماء في تقرير الأحكام، وقد خالفت الإمام مالكا في عدة أحكام أخذت فيها بقول أبي قاسم.
وإن اقتصار الفقهاء المتأخرين على فقه من نقلوا عن إمامهم وحده، دون إتقان الآداب العربية والتاريخ وتقويم البلدان والحديث والأصول والفلسفة، زاد في ضعف ملكاتهم وأورثهم جمودا، وما كان في العهد الماضي يحرز الرجل لقب فقيه «إلا بالرحلة والتلقي من علماء الأمصار سوى علماء بلده يرحلون في تلقي الحديث والفقه، وكانت مكة تجمعهم في الموسم فيستفيد كل من الآخر ما عنده من علم وحديث وفكر.» وأصبح العلم الديني في القرن التاسع ظاهر الضعف في بعض مظاهره، ليس فيه إلا شرح كتاب للمتقدمين، أو ذيل على شرح لأحد المشهورين، أو جمع متفرق، أو تلفيق مجتمع، أو اختصار مطول، قلما تجد فيه أثرا للبحث أو للعقل، وأصبح المبرزون من العلماء يعدون في كل قرن على أصابع اليد في بلاد الإسلام، وحال رجال كل قرن أضعف ممن تقدموهم، وفشت البدع والضلالات ولا من ينكر، بل جاء من المتفقهين والمحدثين من شاركوا المتصوفين والمخرفين، وقصارى رجال الدين تولي المناصب الدينية ينشدونها من أصحاب السلطان، وكانوا في القرون الخالية لا يتطلب الخلفاء غير رضاهم. «ولضيق عقول أكثر هذه الطبقة من المتفقهة على الناس قرروا
18
أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول به المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة، حتى يقف الفكر وتجمد العقول، ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة، بأنهم لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو من أمر الجماعة والدولة هو مما فرض النظر فيه على الحكام دون من عداهم، ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم، فهو متعرض لما لا يعنيه، وإن ما يظهر من فساد الأعمال، واختلال الأحوال، ليس من صنع الحكام، وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه، ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك، وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام.» «هذا الجمود في أحكام الشريعة جر إلى عسر حمل الناس على إهمالها: كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام إسلاما، سمحة تسع العالم بأسره، وهي اليوم تضيق عن أهلها حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها، وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقى إليها، وأصبح الأتقياء من حماتها يتخاصمون إلى سواها، صعب تناول الشريعة على الناس حتى رضوا بجهلها عجزا عن الوصول إلى علمها، أفلا ترى العارف بها من الناس إلا قليلا لا يعد شيئا إلى من لا يعرفها، وهل يتصور من جاهل بشريعة أن يعمل بأحكامها، فوقع أغلب العامة في مخالفة شريعتهم، بل أسقط احترامهم من أنفسهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطبقوا أعمالهم بمقتضى نصوصها، وأول مانع لهم ضيق الطاقة عن فهمها لصعوبة العبارات وكثرة الاختلاف.»
وكانت البدع إذا ظهرت يحاربها قادة الإسلام بسلاح القرآن «يدحضون
19
الحجة بالحجة، ويقرعون البدعة بالسنة، إلى أن تمكن حب التقليد من النفوس، وقل الاشتغال بالتفسير والحديث، وأهمل التاريخ فاختلط الحابل بالنابل، بل راجت سوق الأحاديث الموضوعة، وانتفخت بها بطون التآليف، ولا سيما ما يتعلق منها بالزهد والرغائب، والحث على القناعة باليسير، والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية، كحب المجد والرياسة والإقدام على عظائم الأمور، ودب إلى الأمة داء التوكل، واسترسلت وراء الأوهام، وعلق بالقلوب كثير من أدران الشرك»، «وأسدلوا بين الأمة وكتابها سترا من الأوهام، وحرموها لذة النظر والتدبر، فأصبح لا يتلى إلا في المآتم وعلى المقابر (تبركا) يتأكل به أناس من الكسالى، يتغنون به على قارعة الطرق وأبواب المساجد.» «واقتسم هذا الدين فريقان: فريق اطمأنت نفسه إلى القديم فهو يريد أن يرجع بالناس القهقرى، يحمل أهل القرن الرابع عشر على أن يتخلقوا بأخلاق أهل القرون الوسطى، ويحذوا حذوهم في أحكامهم وآرائهم ومدنيتهم، فلا يتخطوها قيد شبر، يكابرك في المحسوسات، ويجادلك في الحق، وينكر سنة الله في خلقه أن لكل عصر طورا من أطوار الحياة يأخذ قسطه من النمو والارتقاء، بحسب استعداد أهل ذلك العصر. وفريق رأى من وعورة المسلك، وصعوبة الفهم في كتب القوم ما يقطع نياط القلب، دون الوصول إلى الغاية، وإن كثيرا منها على تشتته وتشويشه، لا ينطبق على مقتضيات العصر الحاضر، ولا يأتلف ومدنيته، ففرطوا في أمر الدين، وأهملوا مجد آبائهم، وذهبوا يتلمسون الإصلاح من غيرها.»
ومن أعظم الطامات على العلم الديني أن يقضي أحد مشايخ الإسلام في الدولة العثمانية بأن لا توجه الوظائف الدينية إلا على أبناء أربابها، بمعنى أن يحصر خبز الأب في الابن، ولو لم يكن لهذا نصيب من العلم، أو لو كان في القماط، كأن العلم يورثه صاحبه كالسكة والفدان، والدار والزريبة والدكان. قال البيري من فقهائهم: «يبقى أبناء الميت ولو كانوا صغارا في وظائف آبائهم مطلقا من إمامة وخطابة وغير ذلك؛ لأن فيه إحياء خلف العلماء ومساعدتهم على بذل الجهد في الاشتغال بالعلم، وقد أفتى بجواز ذلك طائفة من أكابر الفضلاء الذين يعول على إفتائهم.» فقلت بذلك الرغبات في الدرس لأن الطالب لا أمل له مهما استعد أن يعيش من علمه، وما هلك جيل أو جيلان حتى انحصرت الوظائف الدينية في أيدي الجهلة إلا قليلا، ودخلت في حظيرة العلم الديني عناصر جاهلة، عبثت بالدين، وكانت عارا على قومها في الدنيا، بل أصبحت المناصب الدينية خاصة في كثير من المدن ببعض الأسر لا تتعداها، احتكروها دون سائر الناس، ومن تعلم من صنف العامة أو التجار أو الزراع يكون نصيبه الحرمان. وكم من أمثال هذه الفتوى المميتة للعلم من الطامات على الإسلام خلت من العقل، وجمدت بهؤلاء الأغمار هذه الشريعة المرنة، وكلما تقدم الزمن عصت على الارتقاء وكانت سمحة.
طلب قوم من الروس إلى الدولة العثمانية أن يدينوا بالإسلام على أن يسمح لهم بتناول قليل من الخمر واستعمال لحم الخنزير، فأفتى أحد مشايخ الإسلام ممن اشتهروا بعلمهم وورعهم، بأن لا يسمح لهم بالإسلام مطلقا على هذا الشرط، فأضاع بهذا الجمود مئات الألوف من البشر كان الإسلام يقوى بهم، ولو أدخلهم في الإسلام لما كانت روسيا بعد قرن أو قرنين تجد في بلادها من يقاتل جيوش الدولة العثمانية لمكان الدين الإسلامي من قومها، ولو ذهب المفتي إلى أمر الحكام بأن لا يتعرضوا لشارب الخمر بحد أو غيره كان أهون عليه من بقائهم على غير الإسلام وعدم الانتفاع بهم.
ظهرت قهوة البن فأفتى الفقهاء بتحريمها، فانفسح المجال لأرباب الجهالة من الحكام يقتلون من تعاطاها، وظهر الدخان فأفتى الفقهاء أيضا بتحريمه، وقطعت بسببه رءوس ألوف من الناس في الأرض العثمانية، وأرادت الدولة العثمانية أن تستعيض عن لبس «القاووق» على الرءوس بلباس للرأس اختارت له «الطربوش» فحرم الفقهاء لبسه وقالوا: إنه شعار الروم، وأحب الناس أن يلبسوا المعاطف والسراويلات الغربية، فقال الفقهاء: إن هذا لباس الكفار، وحرجوا على الناس في لباسه، وصحت عزيمة الدولة العثمانية على أن تقتبس الطباعة فمنع الفقهاء بالطبع من طبع القرآن تكريما له، وجرت في هذا المعنى أمور مضحكة حتى استطاعت الدولة أن تطبع القرآن والحديث وكتب الشريعة.
يحرمون كل ذلك بشدة لأنه مدرجة إلى التمدين، والمدنية عندهم مدرجة إلى الانحلال، إلى ما شاكل ذلك من الجهل الناشئ من الجمود على فرع واحد. هكذا كان فقهاء الترك في العهد الأخير، وفقهاء العرب تبع لهم؛ لأن الزعامة العلمية الدينية كانت للترك ودعوى الخلافة فيهم، حتى لقد أفتوا بحل دم الملك الذي تصدى للإصلاح على الطريقة الغربية، وبالفعل أهلكوا غير واحد ممن قالوا بهذا القول المنكر. ومثل هذه العقول لا يليق بها الاجتهاد ولا التقليد، وهي في الواقع ما استطاعت أن تطبق من الشريعة إلا ما جرى قبلها بقرون تنفيذه، وتم بحكم العادة في الناس، وما زالت الشريعةفي هبوط وضعف، تنفذ بنفاذ بصيرة القائمين عليها في الجملة، وبجهل معظم رجال القضاء وفساد تربيتهم ولتلطخهم بحمأة الرشاوي، ارتفعت ثقة أوروبا من المحاكم الشرعية، واقترحت على الدولة العثمانية والمصرية أن تنشئا محاكم نظامية منقولة قوانينها عن قوانين الغرب (1255ه/1839م)، وحصرت أعمال المحاكم الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية ومسائل قليلة غيرها، ثم ألفت الدولة لجنة عهدت إليها تأليف كتاب جامع لأحكام الفقه سمته مجلة الأحكام العدلية، فسهل على المتقاضين وعلى القضاة الرجوع إلى ما دون من مذهب أبي حنيفة، وليتهم توسعوا في هذا العمل، ونادوا بإبطال كثير من كتب الفقه، وفتاوى المتأخرين وأقضيتهم، وتوسعوا في الأخذ من مذاهب معتمدة وأغفلوا ما عداها مما لا يوافق روح العصر. وحاول خديو مصر إسماعيل أن يحمل علماء الأزهر في عصره على تأليف كتاب في الحقوق والعقوبات موافق للعصر سهل العبارة، فرفضوا ذلك ظنا منهم أن هذه بدعة، فاضطر إسماعيل إلى إنشاء المحاكم الأهلية واعتمد على قوانين فرنسا، جاريا على مثال ما كان من ذلك في البلاد العثمانية.
وهكذا قضي على الشرع بأيدي أهله؛ لإيغالهم في تعسفهم، ورضاهم بجهلهم، وجمودهم جمودا جمدت معه العقول، وخمدت جذوة الإيمان واليقين، وكان أهم باعث عليه إسناد المناصب الدينية إلى غير أهلها من حكام السوء، ولو صحت عزائم الحكام على أن يختاروا الأطايب من القضاة لما آضت الحال إلى ما آضت إليه، وما خلا قرن من رجال كانوا جد كفاة في معرفة الشرع، والبصر بما يصلح لكل زمان ومكان، وكان من أثر الجهلاء أن انتقل الناس إلى عالم آخر في تقاضيهم، وضرب القانون الجديد الشريعة القديمة ضربة كادت تقضي عليها، لولا أنها بقيت موقرة في النفوس، على رغم عبث العابثين وجهل الجاهلين.
علم الكلام وعلم الحديث
دخل في الإسلام من أهل الأديان المعروفة قبله أناس لم تنزع من صدورهم تعاليمهم ومعتقداتهم، ولا صفت نفوسهم من لوثات جاهلية وثنية، ومنهم المانوية والديصانية والصابئة واليهود واليعاقبة والنساطرة فكان من الطبيعي أن يوردوا شبها على الإسلام في الخالق والمعاد وحشر الأرواح والقدر وغير ذلك من المعضلات المعقدة التي كثر في كل عصر التفكير فيها، فانبرى لهم أناس من العلماء يردون ما أوردوه على الدين من الشبهات، ويتعرفون إلى معتقداتهم فيقاتلون أهواءهم بسلاح اتخذوه من نوع سلاحهم، ويستعملون عقولهم في إدحاض كل بدعة، جامعين في حجاجهم بين المعقول والمنقول؛ فكان من ذلك علم جديد أواخر المائة الأولى سموه علم الكلام، وهو من العلوم التي تعلم وتعلم بالكلام، فأطلق عليه هذا الاسم ثم خص به ولم يطلق على غيره، ومداره على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها؛ وموضوعه ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته عند المتقدمين، وقيل: موضوعه الموجود من حيث هو موجود، وعند المتأخرين موضوعه المعلوم من حيث ما يتعلق به من إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا.
يقول الغزالي:
20 «إن علم الكلام ينظر في ذات الله وصفاته وأحوال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأئمة بعدهم والموت والحياة والقيامة والبعث والحساب ورؤية الله، وأهل هذا العلم متمسكون أولا بالأخبار والآيات ثم بالدلائل العقلية.» وقالوا: إن الأصول
21
معرفة الباري تعالى بوحدانيته وصفاته ومعرفة الرسل بآياتهم وبيناتهم وكل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول، ولما كان الدين منقسما إلى معرفة وطاعة، والمعرفة أصل، والطاعة فرع، كان أصوليا من تكلم في المعرفة والتوحيد، وكان فروعيا من تكلم في الطاعة والشريعة، والأصول هي موضوع علم الكلام، والفروع هي موضوع علم الفقه، وقالوا: إن كل ما هو معقول ويتوصل إليه بالنظر والاستدلال فهو من الأصول، وكل ما هو مظنون ويتوصل إليه بالقياس والاجتهاد فهو من الفروع.
نشأ الكلام مع غيلان بن مروان الدمشقي ومعبد الجهني من قدماء أئمة المعتزلة، وإذا أطلق اسم علماء الكلام فالمراد بهم المعتزلة، فأخذوا يدرءون عن الدين شبه الملحدين، ممن كانت لهم عقائد مقررة وأساليب خاصة في الجدل، ولما لم ترق طريقة علماء الكلام رجال الحديث والفقه، وناهضوا من أخذوا أنفسهم بدفع الشبهات على الإسلام من المتكلمين، أصبح هؤلاء بين فريقين فريق أهل دينهم ممن لم يحمدوا الطريقة المتبعة في رد حجج الخصوم، ودفع ما عساه يعلق بالأذهان من كتب اليونان وغيرهم التي شرع في نقلها إلى العربية، والفريق المعادي الذي يتربص الدوائر بالإسلام ويحاول نقضه من أساسه ليمزق بذلك الشمل، ويجتث
22
الفرع والأصل. وجمهور
23
المؤمنين مقرون بحدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه وصفاته وعدله وحكمته ونفي التشبيه عنه، وبنبوة محمد ورسالته إلى البشر كافة وبتأييد شريعته، وبأن كل ما جاء به حق، وبأن القرآن منبع أحكام الشريعة.
سار المتكلمون في خطتهم التي رأوا بها الإبقاء على الإسلام، وتابعهم على مذهبهم أناس من شأنهم أن يولعوا بالعلم مطلقا ، وألفوا في هذا العلم تآليف كثيرة لم يصلنا منها غير نتف نقلها عنهم خصومهم، أما ما كتبوه بأيديهم في عصر الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل فلم يكتب له البقاء والنشر؛ لأن الحرية التي أطلقت لهم على عهد هؤلاء الخلفاء الخمسة سلبوها بعد، ولا سيما على عهد ملوك الديالمة، وكان الفقهاء ورجال الحديث استأسدوا فقلبوا لعلماء الكلام ظهر المجن
24
وانتقل الحوار من اللسان إلى السيف والسنان، واتفقت
25
كلمة أهل الحديث على الوقوف أمام هذه الحركة الكلامية والجمهور منهم فنالوا منهم ما أرادوا. وتنازعت الأمة عوامل مختلفة من المتفقهة والمتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة، وراجت أسواق التبديع والتكفير والتفسيق، وكتبوا الكتب وشحنوها بالمطاعن والتقول بعضهم على بعض، حتى أفتوا بمنع الصلاة
26
خلف من يخوض في علم الكلام وإن تكلم بحق.
قال الشافعي: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا
27
بالجريد، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام. وروي عنه أن رجلا إذا أوصى بكتب العلم لشخص لا تدخل كتب الكلام في الوصية؛ لأن الكلام ليس بعلم. وقال مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء. وقال أصحابه: إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا. وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل،
28
وبالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه؛ بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة، وقال له: ويحك! ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟ وروي عنه أنه قال: علماء الكلام زنادقة. وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق. وسواء صح أم لم يصح ما روي عن أئمة المذاهب في تقبيح رأي المتكلمين، فالثابت أن رجال الحديث كانوا غير راضين عنهم، ووسع مدى الخلاف بين الفقهاء والمحدثين وبين المتكلمين من جاءوا بعد من التلاميذ والأنصار فزادوا في إضرام نار الخلاف «وكثرت النحل وتقطعت العصم
29
وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضا.»
هذا إجمال ما يقال في نشأة الكلام والقضاء عليه وعلى أهله بأيدي أهل الإسلام. أما الحديث فهو علم بأصول يعرف بها أحوال حديث الرسول من صحة النقل عنه وضعفه، وطرق التحمل والأداء، وفي اصطلاح المحدثين قول النبي وفعله وتقريره وصفته حتى الحركات والسكنات في اليقظة والمنام ويرادفه السنة عند الأكثر، ولقد كثرت الأحاديث المروية والمتكررات منه، ودخلها الشوب
30
من وجوه ثلاثة،
31
منها الزنادقة واجتيالهم
32
على الإسلام وتهجينه، بدس الأحاديث المستشنعة والمستحيلة، ومنها القصاص على قديم الزمان، فإنهم ما كانوا يميلون وجوه العوام إليهم، ويستدرون ما عندهم إلا بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث، ومنها أخبار متقادمة كان الناس في الجاهلية يرونها تشبه أحاديث خرافة، وغلا الوضاعون في الحديث، فمنهم من وضع أحاديث لتقوية المنازع السياسية تلمح فيها لأول نظرة أثر الوضع والكذب، ومنها أحاديث في فضائل بعض الصحابة، «وإن أصل
33
الكذب في حديث الفضائل كان من جهة الشيعة؛ فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم» اضطرته في حياته إلى أن ضرب على أيدي من جاهر منهم بالغلو فيه، ووضعوا أحاديث في فضائل بعض البلدان وفي تفضيل بعض القبائل على بعض، بل بلغت بهم السخافة أن وضعوا أحاديث في الطعام، ووضع عبد الكريم بن أبي العوجاء
34
الذي ضربت عنقه على الوضع أربعة آلاف حديث يحرم فيها ويحلل، ومنها ما هو في التشبيه والتعطيل ، وفي بعضها تغيير أحكام الشريعة.
ووضع الوضاعون أحاديث في المرجئة
35
والجهمية والقدرية والأشعرية ووصف ما يكون بعد الثلاثين ومائة، والستين ومائة وظهور الآيات بعد المائتين، وفي مدح بعض قبائل العرب وفضائل أبي بكر وعلي ووضعت الرافضة في فضله ثلاثمائة ألف حديث، إلى غير ذلك مما رده نقاد الحديث.
ومنهم من وضع أحاديث في الترغيب والترهيب لا يقبلها العقل، ولا خطرت ببال الرسول وأصحابه وكبار التابعين؛ ذلك لأن ما كان من أصل
36
هندي أو يوناني أو فارسي أو من شروح التوراة أو الإنجيل لا يؤبه له، فصبغها أصحابها بصبغة دينية ليقبل عليها الناس، وما وجد أولئك الوضاعون إلا الحديث فدخلوا منه على الناس، وكان من ذلك أن ترى في الحديث الحكم الفقهي المصنوع والحكمة الهندية والفلسفة الزرداشتية والموعظة الإسرائيلية أو النصرانية. ا.ه.
والذي زاد في تبلبل الأحاديث كونها لم تدون إلا أواخر المائة الأولى؛ ذلك لأن الرسول كان ينهى عن تدوينها لئلا تختلط بالقرآن، وكذلك كان من أصحابه بعده. وفي صحيح مسلم أن النبي قال: «لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه.» وفي كتب السير أن الرسول دعا اليهود فحدثوه حتى كذبوا على عيسى فصعد النبي المنبر فخطب الناس، وقال: «إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس مني.» ثم قال العلماء
37
بإباحة كتابة الحديث لمن خشي عليه النسيان، ونهى عن الكتابة عنه من وثق بحفظه، مخافة الاتكال على الكتاب، أو نهى عن كتابة ذلك حين خاف عليهم اختلاط ذلك بصحف القرآن، وأذن في كتابته حين أمن ذلك، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة. ويقول ابن تيمية:
38
إن الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار الحديث في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله، فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها، بل إن الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير؛ لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول أو بإسناد منقطع أو لا يبلغنا بالكلية، فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين. ا.ه.
ونقلت أحاديث بالمعنى لا باللفظ، وما كان الناقلون نمطا واحدا في إحكام ملكة البيان؛ ذلك لأن منهم الموالي والأعاجم البعيدين عن السليقة العربية فجاء في بعضها ما يستحيل أن يصدر من لسان أفصح الناطقين بالضاد. ولقد قال ابن قتيبة:
39 «إن من المحدثين من يرون كل سخافة تبعث على الإسلام الطاعنين، وتضحك منه الملحدين، وتزهد من الدخول فيه المرتادين، وتزيد في شكوك المرتابين.» قال: ولا أعلم أحدا من أهل العلم والأدب إلا وقد أسقط
40
في علمه كالأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة وسيبويه والأخفش والكسائي والفراء وأبي عمرو الشيباني، وكالأئمة من قراء القرآن والأئمة من المفسرين. وقد أخذ الناس على الشعراء في الجاهلية والإسلام الخطأ في المعاني وفي الإعراب، وهم أهل اللغة وبهم يقع الاحتجاج، فهل أصحاب الحديث في سقطهم إلا كصنف من الناس، على أنا لا نخلي أكثرهم من العذل في كتبنا في تركهم الاشتغال بعلم ما قد كتبوا والتفقه بما جمعوا، وتهافتهم على طلب الحديث من عشرة أوجه وعشرين وجها، وقد كان في الوجه الواحد الصحيح والوجهين مقنع. ا.ه. وذكروا أن صحيح البخاري وهو من أصح كتبهم المحررة اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين منها ثلاثة آلاف متكررة والأسانيد عليها مختلفة في كل باب، على أن مسألة تدوين الحديث لم تقف عند عبث العابثين من الزنادقة وغيرهم بل قيض الله لها رجالا كيحيى بن معين وأمثاله، محصوا الرجال العدول من غيرهم، وأسسوا علم الحديث المبني على معرفة الصحيح منه والحسن والمتواتر، وبينوا الضعيف والموضوع، وألفوا في طبقات الرجال ما عرف به الثقات، وعندها ميزوا الصحاح من الضعاف وغيرها.
وليس من الغلو أن يدعى أن علماء الملة لم يعانوا علما من العلوم كما عانوا علم الحديث، وما دون من الكتب أكثر من كتب الحديث وما يلزم له، وخدم الحديث علم التاريخ كثيرا؛ لأنه يتوقف على معرفة الرجال وطبقاتهم ومواطنهم، وخدم علم الاجتماع؛ لأن المحدثين كانوا يرحلون إلى أقصى المشرق والمغرب في طلب حديث واحد، يسمعونه من راويه إما لعلو إسناده أو لثقتهم بالرواية، فنشأت من تدوين الحديث وتنقل رواته في الأمصار طريقة في التهذيب، فكان المحدثون يجتمعون يأخذ بعضهم عن بعض في جملة ما يأخذون من الحديث آراء ومنازع ونقدا وأسلوبا، كلها أورثت وحدة فكرية بين الأقطار الإسلامية، وكان اجتماع العلماء في الموسم من أكبر المعونات على رواية الحديث، يجتمع ابن خراسان بابن الأندلس وابن بخارى بابن إفريقية، ومن رجع إلى طبقات الأندلسيين ككتاب الصلة لابن بشكوال، وبغية الملتمس للضبي، والمعجم لابن الأبار وتكملة الصلة له، وتاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي، ونفح الطيب للمقري وغيره - من رجع إلى مثل هذه الكتب وقرأ تراجم المترجم لهم عرف عناية أهل الشرق والغرب من علماء الإسلام بالرحلة في طلب الحديث، وولع العلماء بالأخذ بعضهم عن بعض وتبادل العلم.
ولقد احتاج الحديث أيضا لما جعلوا لتصحيحه من شروط وقيود إلى أن لا تنسى الأمة ماضيها، وكان على المحدث أن يكون له حظ وافر من أخبار الناس وأنسابهم وتقويم بلادهم، كما كان الواجب أن يكون له قسط من علوم العربية، وإدمان تلاوة الأحاديث واستظهارها أيضا من أساليب تقوية ملكة العربية وتمرين الحافظة على الحفظ والذاكرة على التذكر. وقد رأينا في القرون الأولى من رجال الحديث جماعة وضعوا التواريخ المعتبرة على أسلوب المحدثين بالرواية وتصحيح السند، والسند
41
عند علماء الإسلام شرط في العمل بما في الكتب والاحتاج بها، والسند أن يعطي المصنف كتابه إلى آخر ويقول له: أذنت لك أن تروي عني هذا الكتاب، ويعطيه الذي أخذه عن المصنف إلى آخر بهذا الشرط. وهكذا نسبة كل علم، ولا يكون الكتاب معتبرا إذا عدم هذا السند، ولو ضم شتات العلوم الكثيرة، ولا يصح نسبة ما في الكتاب إلى من نسب إليه الكتاب إلا بشرط السند، وهذا شيء خص به علماء الإسلام وشريعته.
وانقرض المحدثون في القرن السابع أو كادوا وصار أهله «شرذمة قليلة العدد ضعيفة العدد» لا تغني على الأغلب في تحمله بأكثر من سماعه غفلا، ولا تعنى في تقييده بأكثر من كتابته عطلا
42
وعلى كثرة عناية السلف من المحدثين واشتراطهم في المحدث أن يعرف المسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل، وأن يحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون ويسمع الكتب الستة ومسند أحمد وسنن البيهقي ومعجم الطبراني ويضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية ، ويحفظ كتب الطبقات ويزيد على الشيوخ - مع كل هذه العناية وما ألفوه في المدلسين والضعفاء «لقبوهم
43
بالحشوية والنابتة والمجبرة وربما قالوا الجبرية وسموهم الغثاء والغثر، وهذه كلها أنباز
44
لم يأت بها خبر عن رسول الله.» ومع أن المحدثين تحاموا كل ما هجم على الأحاديث من وضع وتصنيع، وأطرح المحققون منهم الغث وأثبتوا السمين في الجملة، فقد وقع لهم لكثرة ما تناولته الأيدي المختلفة ما وقع في تفسير القرآن، ونقل من كانوا من أصل يهودي أو نصراني ككعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وابن جريج وأمثالهم أخبارا لا صحة لها، وملأ المفسرون كتب التفسير بهذه المنقولات.
45
يقول الذهبي: إن غالب المحدثين في زمانه، أي في القرن الثامن لا يفهمون، ولا همة لهم في معرفة الحديث ولا في التدين به، بل الصحيح والموضوع عندهم بنسبة، وإنما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواية، لا يتأدبون بآداب الحديث ولا يستفيقون من سكرة السماع، إلى أن قال فأي شيء ينفع السماع على جهلة المشايخ الذين ينامون والصبيان يلعبون، والشبيبة يتحدثون ويمزحون، وكثير منهم ينعسون ويكابرون، والقارئ يصحف. وقال بعد أن ذكر من طلب الحديث منذ عهد الصحابة والتابعين ومن بعهدهم: ثم تناقص هذا الشأن في المائة الرابعة بالنسبة إلى المائة الثالثة ولم يزل ينقص إلى اليوم، فأفضل من في وقتنا اليوم من المحدثين على قلتهم نظير صغار من كان في ذلك الزمان على كثرتهم، وكم من رجل مشهور بالفقه والرأي في الزمن القديم، أفضل في الحديث من المتأخرين، وكم من رجل من متكلمي القدماء أعرف بالأثر من مشيخة زماننا.
علم التصوف
رأى الجمهور من الصحابة الذين عاشروا الشارع الأعظم ورأوا قوله وعمله أن الواجب على المسلم أن يكون إلى الاعتدال حتى في العبادة وأن يعنى بأمر دنياه، ومن أجل هذا رأينا عمر بن الخطاب يمر برجل يصوم الدهر فيضربه بمخفقته، أي بدرته التي يضرب بها، ويقول: كل يا دهر كل يا دهر، ورأيناه يعس
46
المسجد بعد العشاء فلا يرى فيه أحدا إلا أخرجه وأمر الناس أن يتفرقوا، وشاهدنا علي بن أبي طالب يكتب إلى أحد عماله: «وخادع نفسك العبادة وارفق بها ولا تقهرها، وخذ عفوها ونشاطها، إلا ما كان مكتوبا عليك من الفريضة فإنه لا بد من قضائها وتعاهدها عند محلها.» وقال لمن لبس العباء
47
وتخلى عن الدنيا: «يا عدي نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك، أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك.»
وبدا لأبي ذر الغفاري من كبار الصحابة، وأحد أوعية العلم في الإسلام، أن يأخذ بظاهر القرآن في قوله:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ، وذهب إلى أن المسلم لا ينبغي أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته، أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم، فتأذى الأغنياء بما دعا إليه، وكثرت سلاطة الفقراء عليهم، فشكا معاوية بن أبي سفيان أبا ذر الغفاري إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان فنفاه إلى الربذة. ورأي أبي ذر أشبه بالآراء الاشتراكية، لكنه منبعث من زهد كثير وتقوى جميلة، إذا سار المسلمون على طريقهما ضعف سلطانهم في الأرض، ومن ضعف سلطانه ضعفت مقدساته ومشخصاته لا محالة.
وعد بعض الباحثين من المعاصرين حذيفة بن اليمان فاتح الري وهمدان والدينور في صف أبي ذر الغفاري في التصوف، وحذيفة بن اليمان هو الذي قال فيه عمر بن الخطاب - وقد قال لأصحابه أن يتمنوا، فتمنوا ملء البيت
48
الذي كانوا فيه مالا وجواهر ينفقونها في سبيل الله - قال: لكني أتمنى رجالا مثل أبي عبيدة ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان.
ونشأ في القرن الأول رجال ربانيون
49
أتقياء عزفت نفوسهم عن بهرج الدنيا وزخرفها، فانصرفوا إلى العبادة والزهادة، لمزاج خاص بهم، أو جبلة دفعتهم فتماشوا معها، أو لسبب من الأسباب التي تعرض للبشر من إخفاق في طلب مجد أو مال أو وصال، ومنهم من فتن به الناس فاتبعوه لما رأوا من جميل تمسكه وحسن سمته ، وبعده عن سفساف أمور هذا العالم، وكان هذا الرعيل من أوائل المتصوفة في الإسلام. ويقول ابن تيمية: إن أول ظهور الصوفية كان في البصرة، وإنهم من أصحاب عبد الواحد بن زيد من أصحاب الحسن البصري. والمظنون أن التصوف جاء الإسلام من الآريين؛ فقد كان في المجوس والبراهمة أيضا زهاد، وما خلت الأمم كلها من زهاد وعباد في كل العصور.
ويرى ماسنيون
50
أن الميل إلى حياة النسك كانت في كل بلد وفي كل عنصر، فلم تنشب أن انتشرت في الإسلام في قرنيه الأولين. وذكر الجاحظ وابن الجوزي أسماء أكثر من أربعين ناسكا حقيقيا، وأن الاستعداد للتصوف ينشأ في العادة من ثورة باطنية تخامر القلوب، فيثور صاحبها على المظالم الاجتماعية ولا يقف عند مقاومة غيره، بل يبدأ بجهاد نفسه وإصلاح خطيئاته، وذلك بنية سليمة في الباطن ليلقى الله تائبا منيبا، على نحو ما تجلى ذلك كل التجلي في الأمثال والخطب التي أثرت عن الحسن البصري، وذكر أن الطرق في الإسلام نشأت في القرن الحادي عشر من الميلاد.
كان الخطب في التنمس
51
بالدين، والتنطع
52
في العبادة، والتناغي بالآخرة واطراح الدنيا، من السهل على المجتمع الإسلامي لو انحصر في أفراد بعينهم، ولكنه تعدى إلى العوام، والعوام في كل عصر ومصر لا يقيمون للحقائق وزنا، ولا يهشون إلا لما تزينه لهم ظواهر المحسوسات، وهم أقرب الطبقات إلى غلط الحس، والمغالطة في النافع والضار. ولقد أطلق على من أخذوا أنفسهم بهذه الطريقة لقب الصوفية والمتصوفة، وعلى علمهم اسم التصوف، نسبة إلى الصوف الذي كانوا يلبسونه، أو إلى سوفا اليونانية ومعناها الحكمة، أو إلى رجل يقال له صوفة كان في الجاهلية هو وأصحابه ممن انقطعوا إلى الله ولزموا الكعبة فقالوا لمن تشبه بهم الصوفي. وقال السهروردي: إن سبب تسميتهم بالصوفية لبسهم الصوف، أو لأنهم كانوا من الانكسار كالخرقة الملقاة والصوفة المرمية، أو لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل، وأن الأصل في اسمهم صفوي نسبة إلى الصفة، وهو موضع مقتطع من مسجد النبي مظلل عليه ، كان الأوفاض
53
والأخلاط من الفقراء يأوون إليه على خلاف بين الباحثين في أصولهم. وقال ابن تيمية:
54
كان السلف يسمون أهل الدين والعلم القراء فيدخل فيهم العلماء والنساك، ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء. واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح وقد قيل: إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل: إلى صوفة بن إد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك، وقيل: إلى أهل الصفة، وقيل: إلى الصفا وقيل: إلى الصفوة وقيل: إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى. وهذه أقوال ضعيفة فإنه لو كان كذلك لقيل: صفي أو صفائي أو صفوي أو صفي ولم يقل صوفي، وصار أيضا اسم الفقراء يعني به أهل السلوك، وهذا عرف حادث. ا.ه. ولأبي الفتح البستي:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا
فيه وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى
صافي فصوفي حتى لقب الصوفي
وقال المعري:
صوفية ما ارتضوا للصوف نسبتهم
حتى ادعوا أنهم من الطاعة صوفوا
وأنشد الظاهر
55
لنفسه:
أرى جيل التصوف شر جيل
فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عشقتموه
كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
ويقول الكلاباذي في التعرف لمذهب أهل التصوف: إن الصوفية سموا بهذا الاسم لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولكثرة أسفارهم سموا سياحين، ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم الكهوف عند الضرورات سماهم بعض أهل الديار شكفتيه، والشكفت بلغتهم الغار والكهف، وأهل الشام سموهم جوعية؛ لأنهم إنما ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب، قال: ولما كانت هذه الطائفة بصفة أهل الصفة ولبسهم وزيهم زي أهلها سموا صفية صوفية، وقال: فقد اجتمعت هذه الأوصاف كلها ومعاني هذه الأسماء كلها في أسامي القوم وألقابهم، وصحت هذه العبارات وقربت هذه المآخذ، وإن كانت هذه الألفاظ متغيرة في الظاهر فإن المعاني متفقة؛ لأنها إن أخذت من الصفاء والصفوة كانت صفوية، وإن أضيفت إلى الصف أو الصفة كانت صفية أو صفية، ويجوز أن يكون تقديم الواو على الفاء في لفظ الصوفية وزيادتها من لفظ الصفية والصفية إنما كانت من تداول الألسن، وإن جعل مأخذه من الصوف استقام اللفظ وصحت العبارة من حيث اللغة، وجمع المعاني كلها من التخلي عن الدنيا وعزوف النفس عنها، وترك الأوطان ولزوم الأسفار، ومنع النفوس حظوظها وصفاء المعاملات وصفوة الأسرار إلخ.
قال: وممن نطق بعلومهم وعبر عن مواجيدهم ونشر مقاماتهم ووصف أحوالهم قولا وفعلا بعد الصحابة رضوان الله عليهم علي بن الحسين زين العابدين وابنه محمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق بعد علي والحسن والحسين رضي الله عنهم وأويس القرني والحسن بن أبي الحسن البصري وأبو حازم سلمة بن دينار المديني ومالك بن دينار وعبد الواحد بن زيد وعتبة الغلام وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض إلخ. وممن نشر علوم الإشارة كتبا ورسائل الجنيد والثوري والحراز ويقال له: لسان التصوف إلخ. وممن صنف في المعاملات منهم أبو محمد عبد الله بن محمد وأبو عبد الله أحمد بن عاصم الأنطاكيان وعبد الله بن خبيق الأنطاكي والحارث بن أسد المحاسبي ويحيى بن معاذ الرازي وغيرهم، وهم «الأعلام المذكورون المشهورون المشهود لهم بالفضل الذين جمعوا علوم المواريث إلى علوم الاكتساب، سمعوا الحديث وجمعوا الفقه والكلام واللغة وعلم القرآن، وبذلك تشهد كتبهم ومصنفاتهم إلخ.»
وأول من تسمى بالصوفي في أهل السنة أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة 150ه، وكان من النساك يجيد الكلام وينطق بالشعر كما وصفه الجاحظ، مثل كلاب وكليب وهاشم الأوقص وصالح بن عبد الجليل. وأول من تكلم على التصوف وعلوم الأحوال بكورة خراسان شفيق بن إبراهيم الزاهد أبو علي البلخي المتوفى سنة 153ه، وكان من كبار مشايخ خراسان وله لسان في التوكل، وكان أبو حمزة الصوفي أول من تكلم ببغداد في هذه المذاهب سنة 269 من صفاء الذكر وجمع الهمة، والمحبة والشوق، والقرب والأنس.
وكان جابر بن حيان صاحب الكيمياء
56
متقلدا للعلم المعروف بعلم الباطن، وهو مذهب المتصوفين من أهل الإسلام كالحارث بن أسد المحاسبي وسهل بن عبد الله التستري ونظرائهم. وظهر المتصوفة في الإسكندرية
57
في مستهل القرن الثالث يأمرون بالمعروف ويعارضون السلطان في أمره، وكانت كلمتهم نافذة.
عرف الغزالي
58
التصوف بأنه: «علم خاص بطريقة واضحة مجموعة من العلمين الشرعي والعقلي»، «وعلمهم يشتمل على الحال والوقت والسماع والوجد والشوق والسكر والصحو والإثبات والمحو والفقر والغنى، والولاية والإرادة، والشيخ والمريد، وما يتعلق بأحوالهم مع الزوائد والأوصاف والمقامات.» ويفهم منه أنه علم لدني يتم من لدن المولى ويكون بالذوق والرياضة، وليس هو بعلم كسبي يتكون بالدرس والنظر. وذكر الأشعري
59
من أهل المائة الرابعة أن من النساك الصوفية من يقول بالحلول، وأن البارئ يحل في الأشخاص وأنه جائز أن يحل في إنسان وسبع وغير ذلك من الأشخاص، وأصحاب هذه المقالة إذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا: لا ندري لعل الله حال فيه، ومالوا إلى اطراح الشرائع وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده. ا.ه. وكان كل من تنسك في ذلك الزمان سمي دورقيا نسبة إلى لبس الفلانس التي تسمى الدورقية
60
ويلبس أكثرهم المرقعات.
وفي الحق إن سيرة من شغفوا حبا بهذا الضرب من الأخلاق والعادات الذي سمي بالتصوف بعد، كانت في الصدر الأول مما يغبط عليه صاحبه، ويشرفه بين الأنام، وما أثر من كلماتهم أولا ثم من بعض مدوناتهم آخرا لو تم له نقل إلى لغات العلم الحديث اليوم، لما حوت من الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، لما خجل منها مسلم منور، وربما عدها بعضهم مفخرة من مفاخر الملة، بيد أن هذا العمل الصالح الذي كان يقصد منه تخفيف شرة التكالب على حطام الدنيا بإصلاح أهلها، أصبح في القرون التالية آلة من آلات التفريق بين أجزاء الأمة، وملهاة يتلهى بها العامة ومن في حكمهم من الناس، صدتهم عن الجلاد في ميدان الحياة، وخرجت من هذا المجموع الغض عناصر حيوية لو حسن استخدامها في المصالح، لما ترتب عليها بعد ذلك أمور غريبة، كالمواجيد والأذواق والشطح والكشف والأحلام، ولما أدت إلى اعتقاد الحلول ووحدة الوجود ثم إلى الإباحة، والتجرد من كل قيد، والدين لا يقر كثيرا مما يقوم
61
به بعض أدعياء التصوف أو أرباب الطرق من الأذكار والأوراد المصطلح عليها والتبتل والسماع والرقص ورفع الأعلام وضرب الطبول وإظهار الكرامات التي يزعمون، مثل مسك الثعابين والحيات ودخول النار وأكلها وبلع قطع الحديد والزجاج والآنية، واستعمال السلاح لضرب البطون، وإدخال المدى والأدوات الجارحة في الأفواه واللوق، أضف إلى ذلك ما يأخذون أنفسهم به من التوكل وترك السعي والعمل للمعاش، والتساهل بالفروض والواجبات، وإجهاد النفس في التريض والتقشف إلى غير ذلك من الحالات التي أنكرها حجة الإسلام في كتابه إحياء علوم الدين إنكار بعض العلماء وقوع الكرامات من الأولياء.
قال الشاطبي:
62
وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء يزعمون أنهم سلكوا طريق الصوفية فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهري على صوت واحد، ثم في الغناء والرقص إلى آخر الليل، ويحضر معهم بعض المتسمين بالفقهاء يرتسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق، هل هذا العمل صحيح في الشرع أم لا؟ فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع المحدثات المخالفة طريقة رسول الله وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان فنفع الله بذلك من شاء من خلقه، ثم إن الجواب وصل إلى بعض البلدان فقامت القيامة على القائلين بتلك البدع وخافوا اندراس طريقتهم وانقطاع أكلهم بها فأرادوا الانتصار لأنفسهم، بعد أن راموا ذلك بالانتساب إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم، واشتهرت في الانقطاع إلى الله والعمل بالسنة طريقتهم، فلم يستقر لهم الاستدلال بكونهم على ضد ما كان عليه القوم، فإنهم كانوا بنوا نحلتهم على ثلاثة أصول: الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في الأخلاق والأفعال، وأكل الحلال، وإخلاص النية في جميع الأعمال، وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الأصول، فلا يمكنهم الدخول تحت ترجمتهم. ا.ه.
وقال: إن هؤلاء، أي أصحاب الطرق المحدثة، لم يشموا من أوصاف الفضلاء رائحة فأخذوا بالتشبه بهم فأبرز لهم هواهم التشبه بالخوارج، ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد المذموم ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر والدوران والضرب على الصدور وبعضهم يضرب على رأسه وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى لكونه من أعمال الصبيان والمجانين، المبكي للعقلاء رحمة لهم، إذ لم يتخذ مثل هذا طريقا إلى الله وتشبها بالصالحين. ويقول ابن الجوزي:
63
تأملت أحوال الصوفية والزهاد فوجدت أكثرها منحرفا عن الشريعة بين جهل بالشرع وابتداع بالرأي، يستدلون بآيات لا يفهمون معناها وبأحاديث لها أسباب وجمهورها لا يثبت إلخ.
وما كان المتصوفون الأولون يعرفون مصطلحات المتأخرين من المتصوفين؛ لأنها من اختراعات المحدثين منهم، مزجت بشيء من الزندقة والفلسفة اليونانية فخرجت بها الشريعة عن سذاجتها ويسرها، وكان الاعتقاد السليم مهمازا للمؤمنين يحفزهم إلى العمل لما كانت الشريعة خالية من تأويلات تأباها نصوصها ولا تنطبق على روحها، وغلا القوم في هذا المعنى حتى خرجوا في بعض أوضاعهم ومعتقداتهم عن كنه الشريعة السمحة على ما حقق المحققون في كل عصر، ومن أهمهم في القرن السادس أبو الفرج بن الجوزي، فقد ذكر في كتابه «تلبيس إبليس» ما جناه علم التصوف ومن انتحلوه على الإسلام والمسلمين، ومن أهمهم في القرن الثامن ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، فقد حملت كتبهما فصولا كثيرة في نقد حال من افتاتوا على الشرع وعبثوا ببهائه.
ومن الغريب أن المتلبسين باسم التصوف على مخالفتهم الظاهرة للشرع، كادوا يسلمون من اضطهاد الدول، ولم يذكر سوى مرات قليلة أن أخذوا بما اجترحوا أو عوتبوا على زندقتهم، وممن يدعون الانتساب إلى التصوف في البلاد التي لم يبق منها في العهد الأخير من الإسلام إلا رسومه، أناس جاءت أعمالهم محض إباحة يقضون عامة شهوات النفوس بما لابسوه من العادات، وتلبسوا به من الأوضاع، ومن هذه الجمعيات الدينية أو الطرق ما هو أشبه بمجالس عهر وفجور منه بمجالس ذكر وعبادة، فيه أطرب الأصوات وأمتع الموسيقى وأجمل الوجوه وألطف الرقص وأغرى الأشعار الغرامية، ولطالما كان من بعض أهل هذه الطرق مطية لرجال السياسة يستخدمونهم في فتنة العامة، ليوطدوا لهم أسباب الملك والغلبة. أما هؤلاء المتصوفة أو المتعبدة أو المتفقرة أو المتزهدة فإنهم لا يتحرجون من مناصرة كل قائم رجاء الحظوة لديه، وهو يبالغ في إغداق حسناته عليهم يتمتعون بها من دون الناس.
كان من التصوف إفراط في اطراح الدنيا أولا، ثم تفريط أدى إلى اتخاذه ذريعة لكل رغيبة، لم يقف المنتحلون له عند مناهي الشرع؛ اللهم إلا ما راعوا فيه الظواهر من عبادات دخلت في حكم العادات، وكثر عدد هذه الطرق في العالم الإسلامي حتى ما تكاد تعد، وأصبحت الطرق إلى الله تعالى، كما قال لسان الدين ابن الخطيب، على عدد أنفاس الخلائق، يدخل في غمارها كل من ترغب نفسه في الكسل، وتحدثه بالدجل، وسماع الغرائب وإسماعها، فينغمس فيها بقدر استعداده، ويقرب مجموع المتألفين في إحدى الطرق من الدين أو يبعدون من تعاليمه بحسب علم الشيخ الملقن وعقل مريديه؛ وأكثر المقنين المتأخرين أشبه بالعامة يمتازون بشيء من الجربزة والدهاء،
64
وقد يكون لهذه الطبقة من القبول في القلوب أكثر مما لو كانت على شيء من العلم.
وما برح منذ القديم يلتف حول أدعياء التصوف أناس من عمار بيوت البطالة والجهالة، وفي أفرادهم من لو حللت تراكيب عقولهم لما رأيتها إلا مائلة عن الاعتدال. بيد أن هذه الفئات التي كانت وطأتها أشد ما تكون في القرون الثلاثة الأخيرة حتى ما يكاد يخلو من انتحالها من كان يظن أنهم استناروا بقبس من نور العلم، عادت مؤخرا فتحولت في عالم الكون والفساد، وثاب أشد المتحمسين لها إلى رشدهم في الجملة، وزهد الناس في تصوفهم هذا، اللهم إلا أناسا ممن لا تميل فطرتهم إلى النشاط في العمل، أو من كان تحصيل الرزق في أرجائهم هينا لينا، ويرون من حكوماتهم معاضدة ضمنية بالسكوت عنهم، بحجة حرية المعتقدات، وكأنا بتلك المعتقدات المدخولة وصبيان المكاتب يردونها، وكانت من قبل ممتلك قلوب طوائف من الناس، هم بحسب العرف علية كل بلد.
يقول مارتان هارتمان، من علماء المشرقيات الألمان: إن الطرق الدينية في الإسلام تختلف عن الطرق الدينية في النصرانية؛ لأن لها تأثيرا سيئا، وإن ما يظهر من أمرها يفسد الدين ويقلل من اعتباره، فأهل الطرق البكتاشية والملامتية والمولوية والنقشبندية والقادرية على اختلاف أسمائهم هم خطر على الأمة مهما كانت مكانتهم. ويقول بعض كبار رجال الطرق المنتشرة في إفريقية: إن الطرق أداة من أدوات التهذيب الديني يعاد بواسطتها إلى حظيرة الدين كل من انسلخوا منه أو كادوا، وإن مظاهر تلك الطرق تستميل قلوب العامة. والواقع أن من الطرق في إفريقية ما نفع في هداية العامة خصوصا ما كان منها يحث المتلبسين بها على العمل، ومن الطرق ما وقف عثرة في حلوق المبشرين بالأديان الأخرى.
وبعد فقد وقف بعض رجال الشريعة موقف المخاصم للمتصوفة؛ لخروج بعضهم على قواعد الملة، ولأنهم حرفوا ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة، كدأب الباطنية في التأويلات، مما توصلوا به إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم «فأصبح كل ما ارتضاه السلف من العلوم قد اندرس، وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع محدث» كما قال الغزالي. وتخلق الأمة بما يخالف دينها وعاداتها مضر بها وبمن يتولى أمرها، وقد تنحط بذلك إلى أدنى دركات الفساد، ويكثر فيها المكر والخديعة والكذب والإباحة والظلم، على ما قال العارفون.
هذا هو التصوف في أصله وما انتهى إليه حاله عند المتأخرين ممن لا يفقهون معناه، وإذا دخل فيه زيف
65
كثير فقد دخل أيضا على علماء الظاهر خلل غير قليل، وما دام هذا العلم منبعثا عن أمور روحية تحتاج إلى ذوق لا يؤاخذ أرباب الأصول منه بما فعل أرباب الفروع ممن لم يتذوقوا هذا الفن، وجعلوه آلة يتصرفون بها على أهوائهم، ويتكسبون به وما يحتقبون
66
إلا ضعف العقول والتأكل بالفضول.
الفلسفة في الإسلام
بينا كان رجال الدين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمتصوفين يتباحثون ويتناقشون وينحي بعضهم على بعض، كانت تترجم منذ عصر المنصور كتب الحكمة والفلسفة بهمة غريبة، وما مضى القرن الثالث حتى كان العرب ترجموا كتب السريان واليونان والهند وفارس، فدرسها بعض علماء المسلمين والعرب وأخذوا في شرحها والتعليق عليها وإظهار غوامضها، فبدأ الفلاسفة يظهرون بظهور هذه العلوم الطارئة على الملة، والفلسفة هي علم حقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح
67
هكذا عرفها القدماء، وعرفها المحدثون بأنها علم المبادئ والعلل والبحث عن العموميات العالية للكائنات والبحث في النفس والعالم وخالق الموجودات من طريق النظر الفكري، وكان يدخل في الفلسفة علم الطبيعة والأمور الإلهية والتعليمية والرياضية، ويدخل في العلم الطبيعي الطب والآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان والكيمياء وفي العلم التعليمي علم النجوم والموسيقى.
كانت الفلسفة في القرن الثاني معروفة للباحثين، ولا سيما لمن تعلموا في مدرسة حران وفي مدرسة جنديسابور من الصابئة والمانية واليعاقبة وغيرهم ولكن لم تنبعث شعلتها إلا في القرن الثالث، فسقط فيها بعض رجال الدين من المحدثين والفقهاء على أمور أنكروها، فقاوموها وما قاوموا في الحقيقة إلا ما جهلوا. ومن سوء بخت الفلاسفة أن كانوا فئة قليلة في كل بقعة إسلامية، وكان خصومهم كثرة في كل أرض؛ ولذا استضعفوهم في الفترات وأنحوا عليهم، وحاول هذا الكثير أن يقضي على ذاك اليسير وقد يكون الحق في جانب هذا القليل، كانت مع القوي المادة والسلطة والعوام
68
أتباع كل ناعق، أو من كان مذهبهم مذهب إمامهم يعتقدون صوابه وأن ما عداه باطل، ويوهمهم أنهم وصاحبه الناجون وغيرهم في النار مخلد أو معذب، وليس من الفئة القليلة من الخواص سوى أسلات أقلامهم ونبرات ألسنتهم، وثقوب أذهانهم، ونفوذ بصائرهم وأبصارهم، وكانوا على كثير من الحق، وكان منازعوهم على شيء من الباطل، وكانت عاقبة هذه الحرب التي شبت قرونا نكبة العلم، وإفلاس العقل، وشل حركة البحث والنظر.
ولكن الفلاسفة مع هذا ظهروا على ما عاداهم بقوة علمهم وقوة بصيرتهم، ونشروا تعاليمهم بالقدر الذي ينفع في إنارة العقول وثقافة الجمهور وعمارة البلاد، وغلط بعض من اشتغلوا بالفلسفة أن استخدموا بعض فروعها في تأييد العقائد فاتخذوها سلاحا في علم الكلام يقوون به برهانهم، ومزجوا الإلهيات بالفلسفيات، فكان في ذلك ضرر على الكلام وعلى الفلسفة معا. ولما زج بعض علماء الفلسفة
69
أنفسهم «في المجادلات الدينية التي أثارها من ادعى الإسلام من شيع الفرس والأعاجم، وحملهم الجدل ولدد
70
العناد على الخلط بين العقائد الدينية وما لا ينطبق على أصول النظر، انبرى لهم من بين الجماعة من أدحض لهم بعض قضاياهم، وخاف الخلفاء شر الفتن فأمسكوا عليهم حريتهم، وسقطوا في هاوية كانت خاتمة أمرهم في الإسلام. ولولا ذلك ما وقف أمام العلم والصناعة متعنت، ولا وقفت الحضارة الإسلامية عند حد محدود.» هذا، والإسلام
71
أول دين خاطب العقل ودعاه إلى النظر في أسرار هذا الخلق العظيم من حيوان ونبات وجماد، ورفع القرآن من شأن العقل فأطلق العنان للفكر ما شاءت قوته عظة واستدلالا، وما قولك في دين يقول أئمته بترجيح العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، والدين طريق القلب والعواطف، والفلسفة طريقها العلم والنظر.
اشتغل الفلاسفة في الإسلام بشيء من التقية في فلسفتهم، حتى عندما كانوا يرون من حماية بعض الخلفاء لهم ما ينشطهم على ما هم فيه، كعهد المأمون الذي اضطهد أعداء الفلاسفة، وقضى بعض أرباب الشهرة في سجنه الشهور أو السنين؛ لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنا منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده، واعتقد المأمون بخلق القرآن
72
فوضع هذا المبحث موضع المناقشة بين العلماء، فقال السواد الأعظم بقوله، وأبى بعضهم تورعا أن يوافق على أن القرآن مخلوق، فطلب أن يمتحن القضاة والمحدثون لكشفهم عما يعتقدون في هذه المسألة، وأن يكتب إلى الآفاق بذلك، فوافق أكثر الممتحنين، وهرب أفراد وحاولوا التملص، فأحدث هذا الرأي ضجة في الأمة شأن كل فكر جديد ، وأوذي بعضهم، وما كان المأمون يريد أذاهم، أراد تحكيم العقل فاتخذ أعداؤه من ذلك حجة للطعن عليه وسموا ذلك المحنة. على أن بعض المتأخرين من خلفاء بني أمية في أول القرن الثاني كانوا يرون رأيه لكن شغلتهم عن الجهر بما اعتقدوا على ما يظهر مسائل أهم من هذه، وهي مسائل الملك والخلافة.
وعلى ما تخلل تلك المحنة من الثورة على الفلسفة رأينا عقلاء منهم في أواسط القرن الرابع كالبستي والزنجاني والمهرجاني والعوفي وزيد بن رفاعة يؤلفون في البصرة جماعة إخوان الصفا ويضعون رسائلهم المشهورة، يودعونها آراءهم، ومذهبهم خلاصة أقوال الفلاسفة الإسلاميين في عصرهم بعد أن أخذوا الفلسفة عن اليونان والفرس والهند وعدلوها، وقالوا:
73
إن الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات فلا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية. وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال، وستر إخوان الصفا أمرهم وأخفوه عن الشمس والقمر، مخافة أن يحل بهم ما يعوقهم، ويقطع عليهم طريقهم، وكانوا في الغاية أدبا وعلما وذكاء، وكان زيد بن رفاعة أحد رجالهم من أذكى علماء العالم، وهو والخليل بن أحمد وأبو الأسود الدؤلي من أفراد الدنيا في تلك الأيام.
بل شهدنا صورة من الحرية في القرن الثاني من أدهش ما دون، شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم على ما قال خلف بن المثنى:
74
الخليل بن أحمد صاحب العروض سني، والسيد محمد الحميري الشاعر رافضي، وصالح بن عبد القدوس ثنوي، وسفيان بن مجاشع صفري، وبشار بن برد خليع ماجن، وحماد عجرد زنديق، وابن رأس الجالوت شاعر يهودي، وابن نظير النصراني متكلم، وعمر بن أخت المؤيد مجوسي، وابن سنان الحراني الشاعر صابئ، فيتناشدون أشعارا وأخبارا، ويتآلفون كما كان يتآلف في بغداد جماعة أبي سليمان المنطقي محمد بن طاهر السجستاني، الذين قيد كلامهم أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات
75
أواخر القرن الرابع، ومنهم يحيى بن عدي والبوشجاني والمقدسي والعروضي والقومسي وعيسى بن ثقيف الرومي وابن مقداد وأبو القاسم الأنطاكي وكان يعرف بالمجتبى وأبو محمد الأندلسي النحوي وأبو إسحاق الصابي والخوارزمي الكاتب ووهب بن يعيش الرقي وابن سوار وماني المجوسي وأبو الحسن محمد بن يوسف العامري وعبيد الكاتب، وغيرهم «من كل من هو واحد في شأنه وفرد في صناعته»، وكان فيهم المجوسي والصابي واليعقوبي والنسطوري والملحد والمعتزلي والشافعي والشيعي، ولم تصل إليهم يد السلطنة الزمنية لاتصالهم على ما يظهر بالأمراء، وكانوا فئة راقية وجمعيتهم أشبه بمجمع علمي، وربما كان بعض المتعصبة ينظرون إليهم شزرا،
76
وودوا لو يماشيهم رجال الدولة ليناقشوهم الحساب بالحق والباطل.
لا جرم أن بغداد كانت منذ أواسط القرن الثاني إلى أواخر القرن الخامس ميدان الأفكار الجديدة، كما كانت البصرة كذلك منذ القرن الأول، يقصدها العلماء من القاصية ويتألفون ويتذاكرون صنوف العلم ويتفاوضون الحكمة، وكانت دار السلام مدة ثلاثة قرون سرة العالم، ومبعث الحركات الفكرية، ومباءة العلم الوحيدة، بل حاضرة الثروة والرفاهية والمدنية، هان فيها على العلماء أن يوحدوا مقاصدهم، وينظموا صفوفهم، ويتناغوا بعلومهم وآدابهم، ويرى معظمهم من الخلفاء تنشيطا ومسامحة تقل وتكثر تبعا لعلم صاحب الشأن، ومبلغه ومبلغ رجاله من العقل.
وإذا قسنا حرية بني العباس في معنى السماح للفلسفة بحرية ملوك الطوائف والمرابطين والموحدين في الأندلس، نجد العباسيين أرقى كعبا من منافسيهم في الغرب، حاشا عهد الحكم المستنصر بالله الأموي الذي خدم هذا العلم، لما جمع للعلماء من كتبه، وأخذ بأيديهم وأطلق لهم العنان يعملون، وربما كان من ملوك الأندلس من يحبون الفلسفة سرا ويظهرون خلاف ما يضمرون تقربا من الجمهور، وكانت الفلسفة في القرن الخامس في الأندلس علما ممقوتا لا يستطيع صاحبه إظهاره كما قال ابن حزم، ومع هذا نبغ هناك عشرات من الفلاسفة أمثال ابن زهر وابن طفيل وابن رشد وابن باجة وابن الصائغ وأشباههم، كما نشأ في المشرق أمثال الرازي وابن سينا والفارابي والبيروني، وكان هوى ملوك الأندلس بعد دولة بني أمية مع العامة، وهؤلاء يسيطر عليهم المتفقهة، والملوك يفادون بالفلاسفة لإرضاء العامة، هذا إذا لم يدس بعض الملوك على الفلاسفة، ويشوقوا العامة إلى النيل منهم ليفترصوها
77
حجة في تشريدهم، ويشتدوا في التضييق على الفلاسفة، إذا شعروا أنهم غير راضين عن الدولة الحاضرة. ومن الفلاسفة من هام على وجهه لا يلوي على شيء، ومنهم من لزم بيته أو مسجده، ومنهم من تظاهر بالجنون كما فعل ابن الهيثم الرياضي مع الحاكم بأمر الله.
واشتدت الحكومات في القرن السادس في مطاردة علوم الحكمة، ولم يكن في الدولتين النورية والصلاحية سلطان لغير حملة الشريعة، وحرم ابن الصلاح في المائة السابعة المنطق والفلسفة، ولم يمكن أحدا في دمشق من قراءة كتبهما. وقال المؤرخون: إن الملوك كانوا يطيعونه في ذلك، وابن الصلاح هو الملقب بتقي الدين وهو غير نجم الدين أبي الفتوح أحمد المتوفى سنة نيف وأربعين وخمسمائة وكان هذا فيلسوفا طبيبا، ولما ولي الأشرف موسى نادى في مدارس دمشق من ذكر غير التفسير والحديث والفقه أو تعرض لكلام الفلاسفة نفيته، وهذا كان في أوائل القرن السابع. وقال الذهبي في القرن الثامن: «إن الفلسفة الإلهية ما ينظر فيها من يرجى فلاحه، ولا يركن إلى اعتقادها من يلوح نجاحه، فإن هذا العلم في شق وما جاءت به الرسل في شق، وما دواء هذه العلوم وعلمائها والقائمين بها علما وعملا إلا التحريق والإعدام من الوجود؛ إذ الدين ما زال كاملا حتى عربت هذه الكتب ونظر فيها المسلمون، فلو أعدمت لكان فتحا مبينا.» وهذا كلام الفقيه المتعصب، واشتد المتفقهة في إرهاق من علم الفلسفة، لكنهم لم يرهقوا المرهقين
78
في دينهم من المتصوفة؛ لأن عددهم كثير وجمهرة العامة منهم، وقد اتخذهم بعض الملوك قوة الظهر لهم، والجميع على طلب رضاهم والبعد عن غضبهم. وعلى قدر ما كانت مخالب أرباب القوة تستطيع أن تنشب في العزل
79
إلا من سلاح عقولهم، كنت ترى إرهاق الحرية وإزهاق أرواح دعاتها يشتد بعد المائة الثامنة، ولا نعرف فيما وقفنا عليه أنه جاء فيلسوف يذكر بعد هذا القرن، وأشبهت الأسباب التي دعت إلى اضمحلال الفلسفة في الأقطار العربية أسباب اضمحلالها في مختلف الأقطار والأمصار،
80
فقد اضطهدت الفلسفة في أثينا بسبب الشهوات السياسية والعصبيات الحزبية التي كثيرا ما تصبغ بصبغة دينية، وعفت آثار الفلسفة من بلاد اليونان كلها عندما رقت حالهم وفقدوا استقلالهم باستيلاء الرومان على بلادهم، على نحو ما كان من ذلك في الأقطار العربية، وقد التصق بالفلسفة أناس ليسوا من أهلها من الزنادقة الظاهرين بالإلحاد والكفر، المستهترين
81
بما يأتون من المنكرات تحت ظل حرية التفكير السامي، والفلسفة بريئة من كل منكر.
يقول رنان: لما تغلب علماء التوحيد في الملة الإسلامية وأصبحت لهم منذ سنة 1200م السيادة الكلية، هجرت الفلسفة في البلاد الإسلامية، وأصبح المؤرخون والكتاب لا يذكرونها إلا من قبيل الذكرى بشيء من النفرة، ورأينا بعد ذلك كتب الفلسفة تنعدم وتندر والحظر يتناول تعليم علم الفلك إلا بقدر الضرورة لمعرفة اتجاه القبلة، وجاء الأتراك واستولوا على بلاد الإسلام وغلبت عليهم طبائعهم فأطفأوا نور الفلسفة والعلوم جملة، وفي عهدهم انخفض لواء العلم والحكمة، ولم ينبغ في الإسلام عالم ذو فكرة وقادة إلا نادرا مثل ابن خلدون. ا.ه.
تم للمتجرين بالدين ما أرادوا من سد منافذ العقل وأبواب النظر، وقل في هذه العصور المظلمة من تاريخ الإسلام من يعد في المميزين المفكرين، وبطلت علوم الحكمة جملة، وصار من يتعاطاها بغيضا إلى المسيطرين على الأفكار كأنه أتى أمرا إدا
82
وخان دينه وملته، وذلك في العصر الذي بطل فيه النظر في الأصول، وتحتم على كل عقل أن لا ينظر في غير الفروع مما أملته خواطر المتأخرين، اعتبر ذلك بما تتلوه في تراجم أعيان العلماء في هذه القرون، فإنك لا ترى أعمالهم تتعدى الأقوال والآراء التي لاكتها الألسن، يقدس أهل كل جيل قول من سلفهم ولو بأعوام قليلة، ولا تكاد تجد لهم تأليفا فيه نور العقل والبحث، والخلاص من التقليد والجمود، وراح الفقهي يكفر الفلسفي، والصوفي ينقم على الحديثي، والأصولي يحمل على الفروعي، واشتغل أهل كل قطر بل أهل كل مصر بتقديس من تواطأوا على تقديسهم، والطعن على من عداهم، وامتزجت علوم الدين بالمشاغبات والمماحكات، وتفاحش الاختلاف بين الشريعة أمس واليوم، أو بين ما يطبق منها وما بقي في النظريات، حتى كادت بانتشار أطرافها يصعب الجمع بين أجزائها كما يصعب الجمع بين النقيضين.
قال أحد علماء الملة: الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأطباء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلا، فبين من يدبر المريض وبين من يدبر الصحيح فرق ظاهر وأمر مكشوف.
أصبح الناس بعد المائة السادسة تفتر هممهم شيئا فشيئا في طلب العلم، ورغبوا عن الافتنان بفنونه، وحصروا نطاقه وعفوا بعض معالمه فأصبحت مجاهل، وكثرت البدع وكثر الدعاة إليها، والتعويل عليها،
83
وأشبه طالب الحق في تلك العصور طلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما «وإن نشأة الإنسان على ما عليه أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صنيع أسقط الناس همة وأدناهم مرتبة.» وكان عمل من انحصر فيهم الدفاع عن حوزة الدين ضارا ونافعا، قاتلوا الخارجين على الإسلام ومن انتحلوا نحلا جديدة، فوحدوا الكلمة في الجملة، وأنزلوا الضرر بكل من خالفهم ولو قليلا في أفكارهم، هذا وهو لم يمس الجوهر، وربما كان ظاهر سعيه لتأييد هذا الجوهر، وراحوا يطلقون ألفاظ التبديع والتكفير على خاصة العلماء ممن لم يكونوا قرءوا كلامهم، أو إذا قرءوه لا يفهمون أسراره، فاضطر كثير من العارفين الأذكياء إلى أن يقبعوا في كسر
84
بيوتهم أو يعتصموا بالتقية المذلة، وكانوا بين خوف العامة، وعلى رءوسهم بعض أولئك المتعصبة يهيجون أرواحهم، وخوف السلاطين ومعهم أسواط العذاب يسوطون بها ويصولون، وكلما اشتدت نقمتهم على العلماء صفق السواد الأعظم سرورا، ولما يعرفوا السبب في تصفيقهم، والجمهور مجنون كما قيل.
وما يدرينا أنه جاء في الأمة رجال كتموا شيئا من الحقائق مخافة أن يعرفوا بها فيهلكوا، وبذلك حقنوا دماءهم، واتقوا تقاة أنجتهم من تسلط العتاة الطغاة، والملحوظ أنه ضاعت أخبار كثير من هذا القبيل؛ لأن من دونوا استصغروا على ما يظهر شأن ما وقع في هذا الباب فأغفلوه، إهمالا أو تقية ومتاقاة، وتجافى كثير من أرباب الأفكار المستنيرة عن تدوين ما وقع في نفوسهم، أو وقع لهم من المشاكل والمشاغب، خشية أن تسقط مدوناتهم في أيدي أعدائهم فتكون حجة في الخلاص منهم.
وربما لا يخطئ من يدعي أنه خرق النظام القريب المأخذ، وشعبوا منه ما لم يكن لأحد من أهل القرنين الأولين عهد بمثله، تساهلوا في إدخال ما يضر أو ما لا يضر ولا ينفع، وضيقوا الخناق على الفكر، ورموا إليه بالتافهات يشغلونه بها، ومنعوا عنه الطيبات، وتحكموا في القرائح فأخرجوها عما وضعت له، فتقلقلت أو جمدت، والجمود هو الموت بعينه، وقفت الأذهان بالجهل والتعصب، فجنى الجهلة على الدين والدنيا، ذلك لأنهم نظروا إلى كل أمر بمنظار الدين، ولم يتركوا الدنيا تسير بما هو أصلح لها، ولطالما كانوا لا يرضيهم إلا إهلاك من خالفوهم تقربا إلى الله ووسيلة.
وقف الجامد عند الحد الذي تصور فيه السلامة، وآلى أن لا يتقدم إلى الأمام؛ لأن قريحته خانته، وأظلم طريقه، وما كان وقوفه تراجعا بل فناء، ووقف الجاحد عند حد إنكار كل ما لا ينطبق على رأيه وعقله، من دون روية ولا درس، وكان الاثنان بين جاهل وأجهل: الأول قضى على الدنيا، والثاني قضى على الدين. جاءت طائفة من الجاحدين تقول: إن النجوم ناطقة مدبرة وكذلك الفلك، ورأت أن إنكار كل شيء في الدين أسهل عليها فأنكرت، وجاءت طائفة من الجامدين تدعي أن الأرض على حوت، والحوت على قرن ثور، والثور على صخرة، والصخرة على عاتق ملك، والملك على الظلمة، والظلمة على ما لا يعلمه إلا الله، فأي جمود أكثر من هذا وجحود أبشع من ذاك؟!
وما أجمل ما قال محمد عبده: «لم أر كالإسلام دينا حفظ أصله، وخلط فيه أهله، ولا مثله سلطانا تفرق عنه جنده، وخفر عهده، وكفر وعيده ووعده، وخفي على الغافلين قصده، وإن وضح للناظرين رشده، أكل الزمان أهله الأولين، وأدال منهم خشارة
85
من الآخرين، لا هم فهموه فأقاموه، ولا هم رحموه فتركوه، سواسية
86
من الناس اتصلوا به، ووصلوا سببهم بسببه، وقالوا: نحن أهله وعشيرته، وحماته وعصبته، وهم ليسوا منه في شيء إلا كما يكون الجهل من العلم، والطيش من الحلم، وأفن
87
الرأي من صحة الحكم.» ا.ه.
ضاع العلم بين جامد في دينه، وجاحد في يقينه، وكان طالع الفلسفة النحس؛ لأن أصحابها كانوا أبدا بين نارين: نار الملوك ومعهم السلطات كلها، ونار رجال الدين وسلطانهم. ووقر
88
في نفوس المسلمين، كما كان النصارى في بعض عصورهم، أن السلامة في ترك الفكر، والأخذ بالتسليم والاستسلام للأمر الواقع، وسرت إلى الناس قاعدة «الجهالة أم التقوى»، وكان بعضهم يتشدق ويقول: «اللهم إيمانا كإيمان العجائز.» وتغير الزمان وارتقت العقول، وهجمت المدنية الغربية على الإسلام، وذاك الجامد ما زال على جموده يمهد
89
لأعداء المدنية الإسلامية الطريق لمحاربة هذه المدنية، محتجين بأن التأخر الذي عليه العالم الإسلامي إنما هو ثمرة تعاليمه، والجامد هو سبب الفقر الذي ابتلي به المسلمون؛ لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط، والحال أن الإسلام هو دين دنيا وآخرة، وأن هذه مزية له على سائر الأديان، فلا حصر كسب الإنسان فيما يعود للحياة التي وراء هذه، كما هي ديانات أهل الهند والصين، ولا زهد في مال الدنيا وملكها ومجدها كتعاليم الإنجيل، ولا حصر سعيه في أمور هذه المعيشة الدنيوية كما هي مدنية أوروبا الحاضرة. «والجامد هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وفنونها وصناعاتها، بحجة أنها من علوم الكفار فحرم الإسلام ثمرات هذه العلوم، وأورث أبناءه الفقر الذي هم فيه وقص أجنحتهم، فإن العلوم الطبيعية هي العلوم الباحثة في الأرض، والأرض لا تخرج أفلاذها إلا لمن يبحث فيها، فإن كنا طول العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة قالت لنا الأرض: اذهبوا توا إلى الآخرة فليس لكم نصيب مني، ثم إننا بحصر كل مجهوداتنا في هذه العلوم والمحاضرات الأخروية، جعلنا أنفسنا بمركز ضعيف بإزاء سائر الأمم التي توجهت إلى الأرض، وهؤلاء لم يزالوا يعملون في الأرض، ونحن ننحط في الأرض إلى أن صار الأمر كله في يدهم، وصاروا يقدرون أن يأفكونا
90
عن نفس ديننا، فضلا عن أن يملكوا علينا دنيانا ... والمسلم الجامد لا يدري أنه بهذا المشرب يسعى في بوار ملته، وحطها عن درجة الأمم الأخرى، ولا ينتبه لشيء من المصائب التي جرها على قومه إهمالهم للعلوم الكونية حتى أصبحوا بهذا الفقر الذي هم فيه، وصاروا عيالا على أعدائهم الذين لا يرقبون فيهم إلا
91
ولا ذمة؛ فهو إذا نظر إلى هذه الحالة عللها بالقضاء والقدر بادئ الرأي، وهذا شأن جميع الكسالى في الدنيا يحيلون على الأقدار.» ا.ه.
وأقوى الأسباب في هذا الجمود الذي أدى إلى فناء العلم والصنائع كون العلوم التي تقوي ملكة العقل، وتعين على نجاح الصنائع وجلب الثروة، قد بطلت جملة واحدة بعد القرن العاشر، وأصبحت العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخية من علوم الكفر، لا يدرسها إلا من يهون عليه بزعم المتعصبين أن ينحل من معتقداته ومقدساته، وغدا ينظر إلى من كان له إلمام خفيف بفرع من فروعها كأنه بعض المتهوسين
92
والقصاصين، بل القصاصون أرفع مقاما من المؤرخين،
93
وربما اعتبر المجاذيب والحشاشون والطبالون والمؤذنون أكثر من المهندسين والمتطببين والمؤرخين والفلكيين والجغرافيين، وجاء عصر المتجرئين على الفتيا يقولون بتحريم هذه العلوم وكانت تقرأ في مدارس المسلمين منذ القرن الثالث إلى التاسع في جملة العلوم التي لها مساس بالشرع.
هذا إلى ما هنالك من انتشار الفوضى العقلية بين المسلمين
94 «وتحت حماية الجهلة من ساستهم فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم فوضعوا ما لم يعد في الإسلام قبل باحتماله، غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارا، ومن البعد عن ينابيع الدين أعوانا، فشردوا بالعقول عن مواطنها، وتحكموا في التضليل والتكفير، وغلوا في ذلك حتى قلدوا بعض من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين العلم والدين، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام.»
الفلسفة علم الخاصة وإضعاف أمرها إضعاف للعقول المفكرة في الأمة
95 «ولطالما قال القائلون: إن قليلا من الفلسفة يبعد عن الدين وإن كثيرا منها يعيد إلى حظيرته. وهذه الكلمة لا تخلو من غموض، فيها إشارة إلى قدرة العقل الإنساني وإلى ضعفه وعجزه، ولها نتائج أخرى غير التي يراد إلصاقها بها؛ إذ من البديهي أن جمهور الناس لا يكونون فلاسفة، فهم بين حالين إما أن يتذوقوها قليلا وإما أن يبتعدوا عن الأخذ بمذاهبها جملة، ولئن سدت الذريعة دون كل فلسفة تتسرب إلى آراء الجمهور، فإنه مما لا مناص منه أن تأثير المعتقدات الدينية يضعف إذا كان الناس على استعداد لذلك، أو كانوا يدعون أن أفكارهم تحسن فهم الفلسفة أو يظهرون أن الأوهام لا سلطان لها على عقولهم فيجادلون في المعتقدات والتكاليف، ويروون من الأفكار ما لا ينطبق على عقولهم ولا يخرج عن حدود الطبيعة، وفي هذه الحال لا يحول دون سراية الأفكار الفلسفية غير سيطرة المجتمع، فهو أكبر ضامن للقضاء على ما لا يصح من الحقائق، وهذا أفضل من اللجوء إلى المحاكمات والتعذيب في السجون والمطابق بما لا يقبل الجدل.»
الآداب: الشعر والنثر والخطابة
كان الأدب العربي يرتقي ويتدنى بفعل الحكومات، وعلى مقدار أخذها بأيدي الشعراء والكتاب، فالشاعر المشهور في الدولة الأموية هو الذي خاض في مسائل سياسية، ودعا إلى عصبية، ومدح بعض القائمين بالأمر أو قدح فيهم، وفاخر بقومه وملته، والموفقون للخلفاء يلقون منهم أبدا معاضدة ورفدا، والشعراء أدوات دعاية للعظماء والزعماء، وعلى هذا جرى الشعر في دولة بني العباس ولا يكاد يشتهر فيها إلا من لابس الكبراء، وتقرب من قلوب الخلفاء والأمراء، بهذه الضروب من الشعر، وأهمها في نظرهم المديح والهجاء، وكان الشعراء منذ عهد الراشدين بل منذ عهد صاحب الشريعة يدعون إلى قول الشعر بما يخدمون به الدعوة الدينية أولا ثم الدعوة السياسية، ومنذ عهد حسان وأغراض الشعر تدور على صاحب السلطان إلى أن تأذن الله بانقراض الدول العربية، وتولى أمر العرب ملوك من الأعاجم لا يفهمون الكلام العربي، فضلا عن أن يقيموا للبلاغة وزنا.
فالشعراء الذين اشتهروا مثلا في عهد الرشيد والمأمون هم الذين مدحوا هذين الخليفتين وخدموا الدعوة العباسية، والشعراء الذين اشتهروا في عهد معاوية وعبد الملك هم الذين تطوعوا في إيراد محامد الأمويين والمروانيين، ونالوا من خصومهم، والشعراء الذين اشتهروا في دولة الأندلس الأموية ثم في الدول الخالفة هم الذين تعلقوا من خدمة سلطانهم بسبب؛ وشعراء الفاطميين وشعراء سيف الدولة، بل شعراء ملوك الطوائف عامة، هم الذين كان سبيلهم سبيل غيرهم في الدفاع عن الحوزة وتبجيل صاحب القوة. وما راج الشعر إلا إلى جانب سلطان يفضل في الجملة على صاحبه، ويستنشده ويعضده ويهتز لمديحه، ويحاذر من سلاطة لسان صاحبه.
وهكذا كان من النثر ولكن على مقياس مصغر؛ لأن النثر لا يتناقل كالشعر، ولا يسهل حفظه، وإن كانت أغراضه أوسع رقعة، والحاجة إليه في التأليف والتصنيف ظاهرة محسوسة، ومع هذا اشتهر الكتاب الذين خدموا الدول أكثر من أقرانهم الذين عزفت نفوسهم عن الخدمة، حاشا أفرادا من المبرزين اشتهروا على بعدهم عن السياسيين، وما كانت شهرتهم تستفيض هذه الاستفاضة أيضا لولا أنه كان في رجال الدولة، بل من الخلفاء أنفسهم، من كانوا يعرفون أقدارهم، ويغدقون عليهم الهبات لتآليف لهم يهدونها إليهم، كلما وضعوا شيئا ويفضلون خصوصا على المبرزين منهم أمثال البلاذري والجاحظ والأصفهاني وابن قتيبة والثعالبي.
وبدأ الشعر ينحط منذ قل في الولاة من يقدره قدره ويثيب عليه. وأخذ النثر في القرن الرابع يتدلى بظهور أناس من الكتاب تعلقوا بالأسجاع، ومن أشهرهم الصابي وابن عباد وابن العميد والخوارزمي وأضرابهم ممن أخرجوا الكتابة عن طريقتها المرسلة التي حصرت في التأليف، وتشبث كتاب الدولة بالسجع ومنه الطبيعي وأكثره متكلف، فاعتور الانحطاط علوم الآداب وما إليها كما اعتور علوم الدين، منذ انقطع في القرن الخامس ظهور كبار الشعراء، وبقي في الشعر ذماء
96
من قوة إلى حوالي القرن السابع، وتدهور بعد ذلك تدهورا عظيما، إلى أن جاءت القرون الأخيرة فأصبح هيكلا من العظم لا دم فيه ولا لحم، وكان ضعف الإنشاء على تلك النسبة، فأمست كتابة المؤلفين ضعيفة معقدة لا رشاقة فيها ولا سلاسة، إذا خرجت عن قوانين السجع والترصيع تفقد جمال الديباجة، وتندر المعاني وينعدم الإبداع. ويستغرب في القرنين الثامن والتاسع ظهور مؤلفين مثل ابن خلدون وابن الخطيب في المغرب والمقريزي والقلقشندي في المشرق يكتبون العربية بهذه الرشاقة وهذا الإبداع، وما كان لهم شيء من لطف الأداء، لو لم يكونوا استقوا مادتهم من فحول الأقدمين، ولو لم ينطووا على علم كثير ومعارف واسعة.
أصبح الأدب في عهده الأخير عبارة عن شعر مبتذل ركيك، واستحال إلى أماديح لا غرض منها إلا الكذب على الممدوحين لتلقف هباتهم، أو غزل فج لا يعدو غزل كل عصر بمعناه، وهو ساقط مبتذل، وللنثر أساليب منقولة، وألفاظ مدخولة، وجماعه جناسات واستعارات، أفسدت اللغة بهذا البديع المريع، ولو أردت أن تنقل إلى لغة أخرى ما كتبه أكثر المسجعين لاقتضى لك على الأقل أن تحذف نصف جمله ومترادفاته المكررة، هذا إذا لم يكن المعنى المراد أداؤه تافها في ذاته، ولا يطالعك شاعر بصورة من صور عصره إلا إذا كان مما أخذ فيه بحظ وافر من التكلف والتعسف، خلافا لما نرى مثلا في بعض شعراء عصرنا ممن إذا قرأت شعرهم تتجلى لك منه روح العصر أو أكثره.
ولم يأت أحد بعد القرن التاسع في هذا الشرق العربي بضرب من الأدب يخلد صاحبه، وينتفع به على غابر الأيام، أو بتأليف طريف لا يستغني عنه جمهور الناس، ويعد ضياعه ثلمة في بنيان التآليف العربية، وإذا كتب لأحدهم الولوع بالأدب فيكون ذلك عن باعث نفسي فقط يتزين به صاحبه بين الملأ ويتجمل بطرائفه أمام الأقران والجيران. وضاق المحيط على الشاعر والكاتب فأصبح ابن اليمن منعزلا عن البشر يتوهم أن أفق العالم ينتهي ببلده، وابن الشام لا يعرف شيئا يذكر عن ابن بغداد، وابن أصفهان ونيسابور لا يبلغه عن ابن سمرقند إلا أخبار متقطعة في السنين الطويلة، بل ابن فسطاط مصر لا يعرف من أخبار ريفها إلا ما لا بال له، وابن فاس لا صلة له بابن الجزائر، وابن القيروان لا يكاد يعرف أمرا عن ابن برقة، إلا كما نعرف عن بلاد واق الواق. وصعب الارتحال على الناس لفتور هممهم في كل شيء، واكتفى كل قوم بما وقع تحت أنظارهم من الأفكار، وكانت الحكومات من أهم العوامل في هذا التباعد والجهل.
هذا ما كان من أمر الشعر والنثر، وتاريخهما في الجاهلية والإسلام طويل، وتدنيهما أيام الانحطاط إلى حد السخف والهراء أطول. بقي أن نقول كلمة في الخطابة، وكانت العرب في جاهليتها لا تعدم كل قبيلة خطيبها أو خطباءها كما لا تخلو من شاعرها أو شعرائها، ورقيت الخطابة في الإسلام بفضل الرسول وأصحابه والخلفاء وقويت حين نجمت الخصومة السياسية الحزبية بين المسلمين
97
والذي دون من كلام الخطباء وروي من خطبهم، آية البلاغة على وجه الدهر، وجاء الإسلام وصاحبه أخطب أمته، وفي أصحابه من مصاقع الخطباء كالراشدين، ومن قاموا باستصفاء هذا الملك ونشر الدين واللسان في الأمصار، ما هو مفخرة من مفاخر الأمم. وأتى خلفاء الأمويين ومعظمهم خطباء
98
ومنهم من يعد في أرقى طبقات الكتاب، وفي قوادهم وعمالهم نبغ الخطباء الأبيناء، والكتاب الذين لا يشق لهم غبار، وكذلك خلفاء بني هاشم ورجالهم، وكذلك خطباء بني علي وكذلك خطباء الخوارج وخطباء المعتزلة.
ولم يبد الضعف إلا لما أخذوا يوسدون الخلافة إلى الجهلة، فأنشأ هؤلاء ينيبون عنهم في خطب الجمع والمواسم والمجتمعات العامة، وبقدر ما كان يقل اشتراك النبغاء النابهين بأمور الدولة، كان خطباء السياسة يقلون بل يندرون. وعلى نسبة تدني العلم والعمل كان خطباء الجوامع إلى التقليد بعيدين عن المسائل التي تشتد رغبات العاقلين في حلها أو سماع ما يقال فيها، لا يأتون في الأكثر إلا بالساقط من الكلام، والضعيف من المعاني والأحكام، حتى غدوا سبة على البيان، وعدم الانتفاع بخطبهم الملفقة، وأصبح معظم الناس يتجافون عن سماع خطب توجع الرءوس بلا فائدة.
كان القصاص منذ الصدر الأول أشبه بخطباء في الجيوش والمساجد ويوم الحفل، فضعفوا أيضا وضعف بيانهم بضعف العلم وشلل الأدب وفساد السياسة، وقلما جاء قاص أو واعظ أو خطيب يؤثر كلامه بعد أن انحل أمر العرب أو كاد، ودخل الأعاجم يكاثرونهم ويجاذبونهم حبل السلطة، وبقدر ما كانت النفوس تزهد بالعلم، والعجمة تدخل على اللغة وأبنائها، واللسان يفسد بملابسة العرب لمن عداهم من الأمم، كانت الخطابة تتراجع، والبلاغة تستحيل إلى فهاهة، وأخذ خطباء السياسة وخطباء الدين يعمدون إلى إعداد خطبهم، وإذ كانوا ضعافا في صيغ الكلام، جاءت خطبهم مثالا ظاهرا من الضعف والتقعر، ثم انحطوا بعد عصور إلى أكثر من ذلك، فأصبح الخطيب يأخذ كلام غيره، ولا يحسن تلاوته أو التصرف فيه، وتولى خطابة الجوامع
99
العامة ومن في طبقتهم، فغدا نصف خطبهم في الزهد على غير طريقة السلف، والنصف الآخر دعاء يحفظونه لا يخرمون منه كلمة، ثم هم يدعون بأدعية مردودة، ويتعلقون ببيان فضائل الشهور والأيام والبلدان والأماكن والجوامع إلى آخر ما يرددونه من البدع التي ينكرها الشرع، فلا هم يعرفون كيف يعالجون حقائق الحياة، ولا هم ممن استعدوا بالثقافة لبث الأفكار الصحيحة، وتهذيب النفوس على ما ينفعها في المعاش والمعاد.
وبعد أن كان الخطيب أعظم أداة فعالة في قيام أمر الجماعة وسياسة الملك والدولة، وأنفع مدرس يلقي على أهل البلد في الجمعة والعيد والحج كل ما يصلحهم، أصبحت الخطابة من العوامل في صد الناس عن التحلي بالفضائل، تلقنهم الاتكال المذموم، وتعبث بعقولهم فتلقي في القلوب أمورا لا تنفع بل تضر، وتسمعهم مواعظ تخدش الملكات الطبيعية، وتلقي بالأمة في عالم من الخيال لا أثر للعمل فيه، وتسوقها إلى حياة لو جرى الناس فيها على ما يراد منهم لبطل حتى الكدح للمعاش، وفقدت كل دعوة إلى إصلاح وفضل، وآضت دواوين الخطب فجة سخيفة تلوكها ألسن جاهلة، قد لا تصحح حتى الآيات والأحاديث المأثورة، وعلى هذا أمست مطالب الناس في واد، وخطب الخطباء في واد آخر.
وكان من أكبر الدواعي إلى هذا الجمود المميت أن كان من تولوا أمر هذه الأمة في القرون الأخيرة أعاجم جهلة، لا يعرفون غير شهواتهم، ولا يهتمون لتعليم الناس ولا لإصلاح نفوسهم، بل يعدون الجهل ضربا من ضروب الإدارة والسياسة، وغاية ما يتطلبونه من خطباء الجوامع في الأعياد والمواسم أن يشيدوا بذكر الدولة القائمة، ويدعوا لخليفة الوقت ودولته الظالمة بالنصر والتمكين إلى يوم الدين!
نعم كانت الجوامع في الإسلام مدارس دائمة الفيض في تعليم العامة والخاصة، فأصبحت بالمستبدين من السلاطين بؤرة لتلقين الخمول، لا تؤوي إلا الكسول، وكانت قصور الملوك والأمراء ميدانا يتنافس فيه الشعراء والعظماء من العلماء، فيكون من مساجلاتهم وإنشاداتهم عموم النفع في تثقيف الطبقات المختارة، تسري سريعا إلى صفوف الجماعة يتلقفونها ويتدارسونها، فأصبحت مصادر الشهوات والدسائس والمظالم، والكلام فيها لا يعدو قانونا معينا، وفيه كثير من السخف والركاكة. وكانت دواوين الإنشاء في العواصم الإسلامية الكبرى من أعظم دور الأدب في تخريج المنشئين والكاتبين، فأصبحت تتقيد بالمثال الذي يريده صاحب السلطان، وكل من يأتي يستظهره أو ينقله برمته، وقد لا ينطبق على منطق معقول، ولا يوفي بمقصود العصر.
ولولا أن هبت على مصر، معلمة الأقطار العربية، هبة مباركة نحو المعالي، فقام فيها في مفتتح القرن خطباء نبهاء في السياسة المدنية والشرعية، ونشأ في واديها البهيج من الكتاب والشعراء والمؤلفين أناس أعادوا إلى اللغة بعض رونقها، وألبسوها حلة من حلل العلم الحديث مطرزا بآيات فصيح القديم، فنسجت بعض الأقطار العربية الأخرى على منواله، لما شهدنا هذا الفرق المحسوس بين أدب هذا القرن وأدب القرون الستة التي سبقته، وأقل مقارنة بين ما تنتجه مصر اليوم مثلا في جامعتها ومدارسها وأزهرها وصحافتها وطباعتها، وما كانت تنتجه في القرن الماضي، تتجلى بها للناقد البصير الدرجات العالية التي تصل إليها أمة تعمل وتتعلم بفضل حكوماتها وأفرادها، وأمة قضت عليها جهالة سلاطينها ففنيت فيهم، حتى تركوها كالسائمة ترسف في مؤخرة الشعوب، وباعدوا بين حاضرها وغابرها.
والواقع أن مصر كانت ولا تزال المجلية في هذا المضمار، ومشت على آثارها الشام ثم تونس ثم بعض الأقطار العربية، فربط شعراؤها وكتابها ومؤلفوها وخطباؤها حديثهم بقديمهم، وأصبحوا يعدون شيئا بين أرقى أمم الحضارة في الآداب، والآداب أول ما يرقى من المظاهر في الأمة الآخذة بالنهوض. وهذه دور العلم في معظم الأقطار العربية تذكر العرب بأيامهم الغر المحجلة، وبلغاء أساتذتها يعيدون إلى لغتهم نضارتها أيام عزة الأمة، حتى لو عاد رجل إلى الحياة من أهل القرن الماضي وشاهد هذه النهضة الأدبية، لما صدق أن الناس يبرزون في الفضل هذا التبريز، والله أعلم ما سيكون منهم بعد نصف قرن آخر. وقد تشبع بحب اللغة والقومية حتى أضعف طبقات المجتمع، وغدا كل إنسان يشعر بضعفه ويسعى إلى تقوته وكماله.
الفرق الإسلامية
بدأت الاختلافات في الأصول في آخر أيام الصحابة بمقالة معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري، في القول بالقدر وإنكار إضافة الخير والشر إليه، ومذهبهم القول بالقدر خيره وشره من العبد واختياره في أفعاله، وأن الإمامة تصلح في غير قريش، وكل من كان قائما بالكتاب والسنة كان مستحقا لها، ونسج على منوالهم واصل بن عطاء وكان تلميذ الحسن البصري، وتتلمذ له عمرو بن عبيد، واعتزل واصل عنهم فسمي هو وأصحابه المعتزلة، وسمي من جادلهم بالحشوية،
100
والحشوية بمنزلة السفسطائية عند الحكماء؛ لأنهم وضعوا من العقل ما رفع الله من شأنه، وكان يجلس من خالفوا في حلقة الحسن البصري، فلما وجد في كلامهم حشوا، أي كلاما لا فائدة فيه، قال: ردوا هؤلاء إلى حشي الحلقة، أي جانبها، فسماهم الناس حشوية لذلك. وقيل: إنهم منسوبون إلى الحشو بمعنى العامة، والشيعة تطلق اسم العامة على أهل السنة. وقيل: إن المعتزلة سموا بهذا الاسم لاعتزالهم أقوال الأمة. وقيل: لقولهم بأن صاحب الكبيرة اعتزل عن الكافرين والمؤمنين؛ ذلك لأنهم قالوا: إن الفاسق لا مؤمن ولا كافر منزلة بين منزلتين.
قوي أمر المعتزلة وهم أئمة العقل والبحث، وكان بعض الخلفاء يسمع لمقالاتهم ومنهم من كان يريد بهم الشر، ويسومهم سوء العذاب. ولو خلا مذهبهم من عبقة السياسة، ولم يتشددوا في شروط الخلافة لانتشر في الآفاق، ومع هذا سرى إلى الأندلس غربا وإلى خراسان وما وراء خراسان شرقا، وانتشر على عهد المأمون؛ لأنه كان عالما يقول بحرية النظر، معجبا بعلم رجالهم وفضائلهم، وقاومهم المتوكل مراعاة للعامة، وكانوا أبدا كما قال أستاذنا الجزائري
101
بغيضين إلى العامة والأمراء، أما الأمراء فلما يشترطونه في الخلافة من الشروط مما إذا انتشر في أفكار العامة لا يتيسر لأمير أو ملك أو خليفة أن ينطلق في أمر الأمة بما يشاء، وأما العامة فلأنهم ينفرون ممن يخرجهم عن الدين بمجرد إتيان المنكرات التي أطلق لهم العنان فيها من طرف خفي أمراء السوء، ممن يهمهم أن تكون العامة ممن يعينونهم على مقاصدهم. وكانت المعتزلة أعظم الفرق المناضلة عن الدين وشبه الملحدين. ا.ه.
يقول نيبرج:
102
يظهر أن لمذاهب الاعتزال أصلا يرجع إلى السياسة نشأ على مثال ما نشأ مذهب التشيع والخوارج، فإن استخلاف علي كان الخطر الأعظم الذي جرت منه المجاري في تاريخ الإسلام. ومعلوم أن كثيرا من المشار إليهم بالبنان من أصحاب الرسول أبوا أن يعترفوا لعلي بما طلبه منهم، أو بايعوه خلافا لما كانوا يبطنون، وفي مقدمتهم طلحة والزبير ومنهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وصهيب ومسلمة بن وقش وزيد بن ثابت، وكان من طلحة والزبير أن ثارا علنا على علي، ومعظمهم ظلوا على حيدتهم. وتابع أهل المدينة هؤلاء الرجال على خطتهم وكذلك الأحنف بن قيس في البصرة مع ستة آلاف من بني تميم ورأس الأزد صبرة بن شيمان امتنعوا عن الدخول في الفتنة. وقد وردت في النصوص التي تشير إلى ذكر هؤلاء الناس كلمة اعتزال، ومعناها الاستنكاف والامتناع والابتعاد، وهي لفظ أصبح يعبر عن السياسة الحاضرة بمعنى أن صاحبه يربأ بنفسه عن الدخول في الفتنة بين علي وخصومه. ويقول النوبختي في كتاب فرق الشيعة: إن فريقا من الصحابة عندما بويع لعلي قد اعتزل الدخول مع الداخلين واتبعوا سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد، فاعتزل هؤلاء عليا وأبوا أن يقاتلوه أو يشايعوه فدعوا «المعتزلة»، وهم أجداد جميع المعتزلة اللاحقين. فمذهب الاعتزال الديني قد سبقه اعتزال سياسي قام به هذا المذهب. ا.ه.
وهناك طائفتان الجبرية
103
والقدرية: فأما الجبرية فإن الذي أداهم إلى ما يعتقدونه هو نظرهم واعتبارهم عواقب الأمور وخواتيمها؛ وذلك أنهم لما تبين لهم أن الأمور كلها التي تخرج إلى الكون والفساد والوجود والعدم فعلى ما في مقدور الله وسابق علمه لا يكون خلاف ذلك شيء، وزعموا عند ذلك وظنوا أنهم لا يقدرون على شيء من الأفعال التي تظهر على أيديهم، ولا يستطيعون الامتناع عن شيء من ذلك ولا الترك لها بالحقيقة، نسبوها كلها إلى القضاء والقدر. وأما خصماؤهم ومخالفوهم فكان نظرهم واعتبارهم في هذه المسألة الأوامر والنواهي والمدح والذم والوعد والوعيد المتوجهة على الإنسان العاقل المستطيع، ورأوا أنه محجوج بها مزاح العلة فيها، وليس له أن يحتج على أحد لا عند الله ولا عند الناس بالقضاء والقدر، وعلم الله السابق في الكائنات؛ لأنه لا يدري أحد في مبدأ أمره وأول أفعاله قضاء الله وقدره وعلمه السابق، وإنما تبين له ذلك بعد فراغه مما قد فعل أو ترك ما أمر الله به، وهذا النظر نظر أولئك واعتبارهم، قالوا: فلا جرم أن المسألة قائمة بحالها والخلاف باق، والحكومة لم تنفصل، بل كلما ازدادوا فيها نظرا واعتبارا وبحثا وجدالا، ازدادوا خلافا على خلاف إلى يوم القيامة
إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون .
ونشأت الشيعة في الحجاز،
104
وكان بعض الصحابة من أنصار علي بن أبي طالب، ثم شاع مذهبهم في العراق وخالفوا أهل السنة بالإمامة، وخالفوا المعتزلة القائلين بوجوبها على الخلق عقلا، والأشاعرة القائلين بوجوبها على الخلق شرعا، وقال الإمامية منهم: إن خلافة علي منصوص عليها من الرسول، ولا تكون في غير أهل البيت وإن الرسول أوصى لعلي بالخلافة يوم غدير خم،
105
وإنه معصوم وآله عن الكبائر والصغائر، وإنه وآله لا يخطئون ولا ينسون ولا يسهون، وإن محمدا المهدي أحد أئمتهم مستور عن الناس كالخضر وإلياس إلى أن يؤذن له في الظهور.
وخالف الشيعة الأشاعرة بإمكان الرؤية البصرية يوم القيامة على الله تعالى، وقالوا كالمعتزلة باستحالتها مطلقا، وخالفوا في مسائل طفيفة ليست جوهرية، ومنها ما يقول به بعض الفرق الأخرى. وهم يقولون: إن عليا يرجع، ولما قتل علي قال عبد الله بن سبأ: لو أتيتمونا بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، «وفكرة الرجعة
106
هذه أخذها ابن سبأ من اليهودية وكان يهوديا قبل الإسلام، فعندهم أن النبي إلياس صعد إلى السماء وسيعود فيعيد الدين والقانون. ووجدت الفكرة في النصرانية أيضا في عصورها الأولى، وتطورت عند الشيعة إلى العقيدة باختفاء الأئمة، وأن الإمام المختفي سيعود فيملأ الأرض عدلا، ومنها نبعت فكرة المهدي المنتظر.»
والشيعة عدة فرق، ومنهم الغالي ومنهم المعتدل والرافضة فرقة من فرقهم. قال زيد بن علي:
107
الرافضة حربي وحرب أبي في الدنيا والآخرة، مردت الرافضة علينا كما مردت الخوارج على علي عليه السلام. قالوا: والرافضة أول ما ترفضت جاءت إلى زيد بن علي حين خرج فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نكون معك، فقال: بل أتولاهما وأبرأ ممن يبرأ منهما، قالوا: فإذن نرفضك فسميت الرافضة. وأما الزيدية فقالوا: نتولاهما ونبرأ ممن يتبرأ منهما فخرجوا مع زيد فسموا الزيدية.
ورأي المعتزلة في الخلافة لم يتعد القول كثيرا، ولكن رأي الشيعة فيها تجاوز إلى العمل، ووضع الغالون منهم لتأييد مذهبهم أحاديث لا يصححها جمهور الأمة، ومن ذلك نهج البلاغة الذي ألفه الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وروى فيه خطبا له وكلاما يستحيل أن يقوله، ومنه ما لا يصدر عن عربي من أهل الصدر الأول؛ لأن فيه ألفاظا من مصطلحات القرن الثاني والثالث.
108
واضطر بعض علماء الملة أن يبحثوا في الدين على طريق فلسفي منطقي؛
109
لأن كثيرين ممن دخلوا في الإسلام في القرنين الأولين كانوا من النصارى واليهود والثنوية، ولا سيما أصحاب ماني، وكان مركزهم القديم في العراق، وكثير منهم على مذهب الديصانية والمرقيونية وغيرهم من فرق الثنوية، ثم فرق الدهرية وهم الفلاسفة والسمنية، والسمنية أصحاب سمن عبدة أوثان، يقولون بقدم الدهر وبتناسخ الأرواح وأن الأرض تهوي سفلا أبدا، وكان الناس على وجه الدهر سمنيين وكلدانيين، والكلدانيون هم الذين يسمون الصابئين والحرانيين، وبقاياهم بحران والعراق، ويزعمون أن نبيهم بوذاسف الخارج في بلاد الهند، وبعضهم يقولون هرمس، فأما بوذاسف فقد كان في أيام طمهورث الملك وأتى بالكتابة الفارسية وسمي هؤلاء صابئين في أيام المأمون. فأما الصابئون على الحقيقة ففرقة من النصارى، وبقايا السمنية بالهند والصين، والديصانية منسوبون إلى ابن ديصان وهم ثنوية، والمرقيونية ينسبون إلى المرقيون هم ثنوية أيضا، والمنانية هم المانوية منسوبون إلى ماني. وفي القرن الثاني كان في العراق يهود وصابئة ونصارى ومجوس وسامرة، وبعض من دخلوا في الإسلام منهم لم يتخلوا عن شعورهم وعاطفتهم فانسل بهم في الإسلام ما ليس منه، وظاهره الإسلام وما هو به.
وكان لكل مذهب من هذه المذاهب القديمة
110
كلام مدقق، وعقائد محررة مقررة على أصول فلسفية، استعد أربابها منذ قرون للرد على خصومهم ببراهين ودلائل، واعتادوا الجدل ومقارعة الخصوم، وكانت الشيعة محل امتزاج الثنوية بالإسلام خاصة؛ إذ كان في أفكارها الرئيسة من الموافقة مع مذهب الثنوية ما لا يخفى، مثال ذلك قولها في أئمتها وتجسيمها الذي هو أقرب شيء إلى تجسيم الثنوية، وقد ثبت عن كثير من رجالها أنهم جمعوا بين الرفض والزندقة. والزندقة هي مذهب الثنوية، والزنادقة والمعطلة والمهملة والملاحدة والدهرية والمزدكية شيء واحد، قال فيهم صاحب البدء والتاريخ: وما قط انتشروا في أمة من الأمم، ولا أقروا في وقت من الأوقات انتشارهم في هذه الأمة لإعطائهم الإقرار بالديانة ظاهرا، وحقن الشريعة دم من أجاب إليها، وهم هؤلاء الباطنية الباطلية الذين تخلعوا عن الأديان.
111
وقال المعري:
112
إن المسلمين لما اتسع ملكهم مازج العرب منهم غيرهم من الطوائف وسمعوا كلام الأطباء وأصحاب الهيئة وأهل المنطق فمالت منهم طائفة كثيرة، ولم يزل الإلحاد في بني آدم على ممر الدهور، ولا ملة إلا ولها قوم ملحدون، يرون أصحاب شرعهم أنهم موالفون، وهم فيما نظن مخالفون.
وقام مذهب الخوارج منذ القرن الأول يكفرون عليا وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل، وكل من رضي بتحكيم الحكمين في وقعة صفين، والإكفار بارتكاب الذنوب ووجوب الخروج على الإمام الجائر، سماهم خصومهم بالخوارج؛ لأنهم خرجوا
113
على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه، ويسمى خارجيا كل من خرج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان، وسموا أنفسهم بالشراة لقولهم: إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة، وقاتلهم علي ثم من بعده من الأمويين وغيرهم. وهم يخالفون من حيث المذهب أهل السنة في مسائل طفيفة، وقد افترقوا كالشيعة والمعتزلة فرقا كثيرة ذكرت في كتب الملل والنحل، وكانوا الغاية في الصلابة في الدين والشجاعة والصدق، ومذهبهم لم يتأثر بمؤثرات خارجية، وكانت بقايا الخوارج الأباضية ببلاد حضرموت إلى القرن الرابع،
114
والأباضية هم أصحاب عبد الله بن أباض الذي خرج في أيام مروان بن محمد.
وأهم الفرق التي خرجت على الجماعة وأضرت بالإسلام فرق الباطنية، ادعوا أن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلا، وقد وضع أساس مذهبهم أناس من أبناء المجوس دخلوا في الإسلام، وتأولوا آيات القرآن وسنن الرسول على ما يوافقهم، استتروا لنشر مذهبهم وراء دعوى الخلافة لآل علي. ومن الباطنية الإسماعيلية القائلون بانتقال الإمامة بعد جعفر الصادق إلى ابنه الأكبر إسماعيل، انتقلت إليه بعد أبيه دون أخيه موسى الكاظم، وهم يرون أن الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلفة بطاعة الإمام المطهر، والعقل عندهم هو حقيقة معبودهم، والإسماعيلية طبقات كالماسونية، والذين يرخص لهم بالاطلاع على أسرار الدين تسع طبقات. ومن فرق الباطنية النصيرية أتباع نصير غلام علي بن أبي طالب، يدعون ألوهية علي مغالاة فيه، ويزعمون أن مسكنه السحاب، ويدعي بعض منتحلي هذا المذهب أن ليس لهم ديانة خاصة أو مذهب خاص، بل إنهم مسلمون شيعيون جعفريون لا فرق بينهم وبين سائر الجعفرية، وليس بينهم قيود دينية أو اجتهادات علمية مع الإمامية إلا ما أوجبته السياسة والبيئة، ويعتقدون كسائر مذاهب الشيعة أن الأئمة الاثنى عشر معصومون من الخطأ.
قال ابن الجوزي في المنتظم:
115 «لما جاء النبي وقهر الأملاك وقمع الإلحاد اجتمع جماعة من الثانوية والمجوس والملحدين ومن دان بدين الفلاسفة المتقدمين، فأعملوا رأيهم وقالوا: ثبت عندنا أن جميع الأنبياء كذبوا ومخرقوا
116
على أممهم ، وأعظم الكل علينا بلية محمد، فإنه نبغ بين العرب العظام وخدعهم بناموسه، فنصروه وبذلوا له أموالهم وأنفسهم، وأخذوا ممالكنا وقد طالت مدتهم، والآن فقد تشاغل أتباعه، ومنهم مقبل على كسب الأموال، ومنهم على تشييد البنيان، ومنهم على الملاهي، ومنهم يتلاعنون ويكفر بعضهم بعضا، فقد ضعفت أبصارهم، ونحن نطمع في إبطال دينهم، إلا أننا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم، فليس الطريق إلا إنشاء دعوة والانتماء إلى فرقة منهم، وليس فيهم أضعف عقولا من الرافضة، فندخل عليهم بذكر ظلم سلفهم الأشراف من آل نبيهم، ودفعهم عن حقهم وقتلهم، وما جرى عليهم من الذل، لنستعين بهؤلاء على إبطال دينهم، فتناصروا وتكاتبوا وتوافقوا وانتسبوا إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق، وأخذوا بعض آرائهم من المجوس وبعضها من الفلاسفة ومخرقوا على أتباعهم، وقصدهم المجد المطلق، ويسمون الإسماعيلية والباطنية والقرامطة والخرمية والبابكية والمحمرة والشيعة والتعليمية، وأكثر مذهبهم يوافق الثانوية، والفلاسفة في الباطن، والروافض في الظاهر، وقد نبغ منهم قوم أظهروا إمامة محمد بن الحنفية، وقالوا: إن روح محمد انتقلت إليه، ثم انتقلت منه إلى أبي مسلم صاحب الدعوة، ثم إلى المهدي ثم إلى رجل يعرف بابن القصري ثم خمدت نارهم، ثم نبغ في أيام المأمون لهم رجل بيتهم
117
فاحتال فلم تنفع حيلته، ثم تناصروا في أيام المعتصم وكاتبوا الأفشين، وهو رئيس الأعاجم، فمال إليهم واجتمعوا على بابك، ثم زاد جمعهم على ثلاثمائة ألف فقتل المعتصم منهم ستين ألفا، وقتل الأفشين أيضا ثم ركدت دولتهم. ثم نبغ منهم جماعة قصدوا إبطال الإسلام ورد الدولة الفارسية، وأخذوا يحتالون في تضعيف قلوب المؤمنين، وأظهروا مذهب الإمامية وبعضهم مذهب الفلاسفة، وجعلوا لهم رئيسا كان مشعبذا ممخرقا، ادعى أن الأرض تطوى له، وكان يبعث خواص أصحابه إلى الأطراف ومعهم طيور ويأمرهم أن يكتبوا إليه الأخبار عن الأباعد ثم يحدث الناس بذلك.» «ونبغ رجل
118
متنمس بالزهد من سجستان يقال له أبو عبد الله بن الكرام، قليل العلم قد قمش من كل مذهب ضغثا
119
وأثبته في كتاب، وروجه على أغتام
120
غزنة وغور وسواد بلاد خراسان فانتظم ناموسه
121
وصار بعد ذلك مذهبا قد نصره محمود ابن سبكتكين السلطان، وجر البلاء على أصحاب الحديث والشيعة من جهتهم، وهو أقرب مذهب إلى مذهب الخوارج وهم مجسمة.»
122
ومن الفرق الباطنية المذهب الدرزي يقول: إن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب، ومنه إلى أسلاف الحاكم بأمر الله ملك الفاطميين، متقمصة من واحد إلى آخر، والدين الحق توحيد الحاكم، ويفترض عندهم صدق اللسان بدل الصوم، وحفظ الإخوان بدل الصلاة، ويقرءون القرآن ويؤولونه، ويذهبون إلى قدم العالم تبعا لبعض الفلاسفة، ويقولون بالتناسخ معبرين عنه بالتقمص، وأن الهوية الإلهية تنتقل من قالب وتحل في قالب آخر في كل عصر، فتتجلى في كل زمن بصورة وتجلت أخيرا في الحاكم.
ونشأت أيضا فرق غريبة يصعب بعد التتبع الشديد معرفة العصر الذي وجدت فيه، وإن زعم الزاعم انقراضها يعسر عليه إثبات زمن انقراضها، كما تصعب معرفة ترجمة رجل من حذاقها. والذين كتبوا في هذا الشأن منهم الناقل غير الناقد، ومنهم المموه لغلبة الهوى عليه، ومنهم من لم تنشر كتبه، قاله شيخنا الجزائري، وفي كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، والملل والنحل للشهرستاني، والملل والنحل لابن حزم، والفرق بين الفرق للبغدادي، وصف لهذه الفرق وتنوعها، ودعوى كل فرقة أنها ذاهبة بالحق اليقين، وأنها الناجية وحدها يوم الدين.
والأصل في جميع هذه الفرق وما تشعب عنها دعوى «الخلافة» أو مسائل دينية غير جوهرية استخدمها الدعاة لأجل الخلافة والملك، فالخلافة هي أساس البلاء جرت على الأمة ما جرت، وهلك في سبيل تحقيقها لفريق دون فريق الأخضر واليابس، وغدا «لكل
123
فرقة مقالة على حيالها، وكتب صنفوها، ودولة عاونتهم وصولة طاوعتهم.» وأهل السنة والجماعة يطلقون على أكثر هذه الفرق اسم المبتدعة، والبدعة عندهم على ضربين:
124
بدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وأتباعهم مع الدين والورع والصدق. ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر والدعاء إلى ذلك، فالشيعي الغالي في زمن السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة وطائفة ممن حارب عليا وتعرض لسبهم، والغالي هو الذي كفر هؤلاء السادة وتبرأ من الشيخين أيضا.
وهناك فرق الملاحدة من المتفلسفة ظهروا كما ذكر ابن تيمية
125
في كل زمان ومكان ضعف فيه نور الإسلام، وكان من أسباب ظهورهم أنهم ظنوا أن دين الإسلام ليس إلا ما يقوله أولئك المبتدعون، ورأوا ذلك فاسدا في العقل، فكان غلاتهم طاعنين في دين الإسلام باليد واللسان، كالخرمية أتباع بابك الخرمي وقرامطة البحرين أتباع أبي سعيد الجنابي وغيرهم. وأما مقتصدتهم وعقلاؤهم فرأوا أن ما جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم
فيه من الخير والصلاح ما لا يمكن القدح فيه، بل اعترف حذاقهم بما قاله ابن سينا وغيره من أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموس محمد، وكان هذا موجب عقلهم وفلسفتهم. ا.ه.
يقول المقدسي:
126
إن التعصب قد ثوره الجهال المسرفون من القصاص وغيرهم، وأما الأمة فهي على النقيض من ذلك، قال هذا في القرن الرابع وما زال الأمر على ذلك في أكثر العصور إلى يومنا؛ ولذلك كان واجب العقلاء من أهل المذاهب الإسلامية كافة، وكلها في جوهرها مسلمة، أن تسدل اليوم دون حوادث الماضي حجابا كثيفا، وتسعى قلبا وقالبا لأن يتناسى المسلمون ما شعب وحدتهم في الدهر الغابر، فالخلاف مهما كان وكانت الدواعي إليه قد انقضى عصره، وإن أهل بيت واحد يرون الخطر يتهددهم من كل مكان لأحرياء بأن يتناسوا ما بينهم من اختلافات طفيفة، ويهبوا يدا واحدة للقضاء على من يريد السوء بهم، ويفترص ما شجر بينهم ليستغلهم ويجعلهم مطية لمطامعه وأغراضه.
وبعد، فقد تبين من عدة إحصاءات قام بها بعض الغربيين في أدوار مختلفة أن المخالفين من المسلمين لعقائد أهل السنة والجماعة لا يتجاوزون العشرين مليونا في البلاد الإسلامية والباقون من أهل المذاهب الأربعة المتعارفة، والغالب
127
على المغرب الأقصى اليوم المذهب المالكي، وهو الغالب أيضا على الجزائر وتونس وطرابلس لا تكاد تجد فيها من مقلدي غيره إلا الحنفية بقلة، وهم من بقايا الأسر التركية وأكثرهم في تونس، ومنهم أفراد بيت الإمارة بها، ولهذا تمتاز حاضرتها بالقضاء الحنفي مشاركا للقضاء المالكي وأما سائر أعمالها فقضاتها مالكية. ويغلب في مصر الشافعي والمالكي، الأول في الريف والثاني في الصعيد والسودان، ويكثر الحنفي وهو مذهب الدولة والمتبع في الفتوى والقضاء، والحنبلي قليل بل نادر، ويغلب الحنفي في بلاد الشام ويكاد يشمل نصف أهل السنة بها، والربع شافعية والربع حنابلة، ويغلب الشافعي على فلسطين ويليه الحنبلي، فالحنفي فالمالكي، ويغلب الحنفي على العراق ويليه الشافعي وبه مالكية وحنابلة، والغالب على الأتراك والألبان وسكان بلاد البلقان الحنفي، وعلى بلاد الأكراد الشافعي وهو الغالب على بلاد إرمينية؛ لأن مسلميها من أصل تركماني أو كردي، والسنيون من أهل فارس أغلبهم شافعية وقليل منهم حنفية. والغالب على بلاد الأفغان الحنفي ويقل الشافعي والحنبلي، وعلى تركستان الغربية التي فيها بخارى وخيوة الحنفي. وأما تركستان الشرقية المسماة أيضا بالصينية، فكان الغالب عليها الشافعي ثم تغلب الحنفي بمسعى العلماء الواردين عليها من بخارى. والغالب على بلاد القوقاز، وما والاها الحنفي وفيهم الشافعية. والغالب في الهند الحنفي، ويقدر أتباعه بنحو 48 ألف ألف، وأتباع الشافعي بنحو ألف ألف ويكثر بها أهل الحديث والآثار. ومسلمو جزيرة سرنديب (سيلان) وجزائر الفليبين والجاوة وما جاورها من الجزائر شافعية، وكذلك مسلمو سيام، ولكن بها حنفية بقلة؛ نقله النازحون إليها من الهنود، ومسلمو الهند الصينية شافعية وكذلك مسلمو أستراليا. وفي البرازيل من أمريكا نحو 25 ألف مسلم حنفية، وفي البلاد الأميركية الأخرى مسلمون مختلفو المذاهب، وتبلغ عدة الجميع نحو 140 ألفا، والغالب على أهل الحجاز الشافعي والحنبلي، وفيه حنفية ومالكية في المدن. وأهل نجد حنابلة، وأهل عسير شافعية؛ والسنيون في اليمن وعدن وحضرموت شافعية أيضا، وقد يوجد في نواحي عدن حنفية، والغالب على عمان مذهب الأباضية ولكنها لا تخلو من حنابلة وشافعية. ويغلب على قطر والبحرين المالكي وفيها حنابلة من الواردين عليها من نجد، والغالب على أهل السنة في الأحساء الحنبلي والمالكي، والغالب على الكويت المالكي. انتهى كلام تيمور.
وقال غلود صهير في معلمة الإسلام: إن المذهب الحنفي انتشر في معظم بلاد الإسلام كتركيا وآسيا الوسطى والهند، والشافعي في مصر وجنوبي بلاد العرب وجاوة وإفريقية الشرقية وسورية، والمالكي في المغرب وأحيانا في صعيد مصر وإفريقية الغربية الألمانية والإنجليزية. والحنبلي الذي كان إلى القرن الثامن (الرابع عشر) شائعا جدا في العراق ومصر والشام وفلسطين قد اقتصر اليوم من بلاد العرب على نجد.
الاضطهاد في سبيل المذاهب والأفكار
128
منذ ظهر الإسلام كان من يخالف الجمهور في المعتقدات والآراء يحمل إلى الولاة، فإما أن يستتيبوه أو يعاقبوه، وما فتئ المهيمنون على الشريعة يثيرونها شعواء على كل من جاهر بفكرة دعا إليها أو لم يدع، ويكفي في بلائه خروجه عن المألوف والعرف، وكانت أهم مسائل القرن الأول مسألة القدرية اهتزت لها الخلافة واهتز لها الناس، وما هي بالأمر المهم إذا قيست بالمظالم والمنكرات التي حدثت، وبعضها مما يشغل مئات من العاملين في إصلاحه، ورأوا من أهمتهم مسائل القدر فقط انفراج ما بين الشرع ومنتحليه فما أنكروا ولا انتقدوا، وذهبوا يناوئون سرا وجهرا كل باحث خالف لهم فكرا، خصوصا إذا شعروا أن صاحب الأمر مواطئ لهم على ما يذهبون إليه، أو أنه يريد أن يلبس المخالف له ثوب الدين لينتقم منه من أجل السياسة؛ ولذا كان بعضهم يغلون في المثالث والمناقب فأفسدوا وما قدروا مدى إفسادهم.
وما خلا عصر من جامدين كان لهم السلطان الأكبر على العقل فعبثوا به وبأهله، وهؤلاء هم الذين خاطبهم الغزالي في القرن الخامس
129
بقوله: «وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبودهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعونتهم،
130
وإرادتهم جاههم وشهواتهم، وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم، وذكرهم وساوسهم، وكنزهم سواسهم، وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم.»
ولو جئنا نعدد من قضوا شهداء فكرهم لطال بنا الأمر؛ لأن لكل بلد منهم غير واحد أوذوا وعذبوا وأهلكوا، وما كانت السلطة التنفيذية على ما يظهر تنزل على إرادة السلطة القضائية في معنى اضطهاد الأفكار، إلا إذا كان للسلطان مأرب من ذلك، يحاول أن يسد الذريعة
131
في وجه من يرجى أن يستخدم السياسة لمآرب، فيتخذ الملك من الدين حجة.
أول زندقة عرفت في زمن الخليفة الرابع زندقة أناس غلوا فيه فألهوه فأحرقهم بالنار، وقتل هشام بن عبد الملك غيلان بن مروان من القائلين بالقدر، قيل: إنه نال كثيرا من بني أمية، وكان من مذهبه أن الخلافة تصلح في غير قريش إذا استوفى الخليفة الشروط المطلوبة، وهو رأس المعتزلة ومن نوابغ العلماء الذين حاربوا الظلم والتظالم،
132
وضرب الحجاج عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه الراوي من التابعين أربعمائة سوط ثم قتله، والسبب في ذلك السياسة، وضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير مائة سوط وكان لقي العلماء وقرأ الكتب وكان من النساك، ويذكرون أنه كان تعلم علما كثيرا لا يعرفون وجهه ولا مذهبه فيه، يشبه ما يدعي الناس من علم النجوم، فأمر الوليد بن عبد الملك فضرب بالسوط وبرد له ماء في جرة ثم صب عليه في غداة باردة فكز
133
فمات بها. وضرب أبو عمرو بن العلاء خمسمائة سوط، وضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان، سعي به إلى جعفر بن سليمان عم أبي جعفر المنصور وقالوا: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، واتهم عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد بن عبد الملك بالزندقة، وقتل بمرو في آخر ملك بني أمية
134
جهم بن صفوان لما ظهرت دعوته بترمذ، لا لأن له رأيا في الدين؛ بل لأنه قام مع الحارث بن سريح في خراسان يجاذب الأمويين حبل السلطة. وقتل الوليد أبا بيهس الهيصم بن جابر صاحب البيهسية وأمر أن تقطع يداه ورجلاه أولا.
واتهم المهدي العباسي شريكا القاضي بالزندقة؛ لأنه كان يكره العباسيين، وقتل المهدي صالح بن عبد القدوس على الشبهة
135
متهما إياه بالزندقة مع أنه لما وافاه أعجب بغزارة علمه وأدبه وحكمته، وقتل المهدي بشار بن برد بدعوى الإلحاد. وروى قوم أن كتبه
136
فتشت فلم يصب فيها شيء مما كان يرمى به وأصيب له كتاب فيه إني أردت هجاء آل سليمان بن علي (بن عبد الله بن عباس) فذكرت قرابتهم من رسول الله فأمسكت عنهم، إلا أني قلت:
دينار آل سليمان ودرهمهم
كبابليين حفا بالعفاريت
لا يرجيان ولا يرجى نوالهما
كما سمعت بهاروت وماروت
وجد هذا الخليفة في سنة 167 في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق، وتوفر على تقصيب
137
الفلاسفة وتقطيع كتبهم والإمعان في قتال الملحدين لما انتشر من كتب ماني
138
وابن ديصان ومرقيون مما نقله ابن المقفع وغيره، وترجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنفه في ذاك الوقت ابن أبي العوجاء وحماد عجرد ويحيى ابن زياد ومطيع بن إياس تأييدا لمذهب المانية والديصانية والمرقيونية، فكثر بذلك الزنادقة وظهرت آراؤهم في الناس، وأنشئ للزنادقة ديوان خاص دعوا القائم عليه صاحب ديوان الزنادقة، وجعل لهم حبس يدعونه حبس الزنادقة، وكان المهدي
139
قد قال للهادي يوما، وقد قدم إليه زنديق فقتله وأمر بصلبه: يا بني إذا صار الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة، يعني أصحاب ماني فإنها تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها من هذا إلى تحريم اللحوم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجا، ثم تخرجها إلى عبادة اثنين أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور. وكان عبد الكريم بن أبي العوجاء بالبصرة يفسد الأحداث فقال له عمرو بن عبيد: قد بلغني أنك تخلو بأحداث من أحداثنا وتدخلهم في دينك، فإن خرجت من مصرنا وإلا قمت فيك مقاما أخاف منه على نفسك، فلحق بالكوفة فدل عليه محمد بن سليمان فقتله وصلبه بها.
قال المسعودي: وكان المهدي أول من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب على الملحدين ممن ذكرنا من الجاحدين وغيرهم فأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شبه الملحدين، فأوضحوا الحق للشاكين، أما الرشيد فمنع من الجدل في الدين وحبس أهل علم الكلام ثم أخرجهم، وأما ابنه المأمون فأطلق للحرية العنان فتمتع علماء الكلام والفلاسفة وغيرهم في أيامه بأجمل حسنات الحرية المطلقة.
ولقد كاد المعتزلة للمحدثين في عصر المأمون والمعتصم؛ لأن المعتزلة يتشددون في قبول الحديث ولا يعملون به إلا بعد جهد، فلما تراجع أمر المعتزلة وقوي المحدثون كال هؤلاء لخصومهم الصاع صاعين، واتهم أحمد بن أبي داود من عظماء العباسيين، حميد بن سعيد من وجوه المعتزلة بالزندقة «وأحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن فلم يجب إلى القول بخلقه فجلده حتى غاب عقله وتقطع جلده وقيد وحبس.» وقتل الواثق (231) في المحنة على القرآن أحمد بن نصر من علماء عصره وصلبه وكتب في أذنه رقعة: «هذا رأس الكافر المشرك الضال وهو أحمد بن نصر بن مالك ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه، وعرض عليه التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق، فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه، وأن أمير المؤمنين سأله عن ذلك فأقر بالتشبيه، وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه.» وقيل: إن ابن نصر قال للواثق أثناء المناقشة في خلق القرآن «مه يا صبي»، وأمر أن يتبع من وسم بصحبة أحمد بن نصر ممن ذكر أنه كان مشايعا له فوضعوا في الحبوس، ثم جعل نيف وعشرون رجلا في حبوس الظلمة، وضيق عليهم.
140
وحمل أبو يعقوب البويطي
141
خليفة الشافعي في حلقته بعده إلى بغداد مغلولا مقيدا وأريد على القول بخلق القرآن فامتنع فحبس ببغداد إلى أن مات في القيد والسجن، ونشأت أولا وآخرا غوائل وخصومات منع من اشتدادها ما كان عليه الناس من أخلاق حسنة كان الدين المؤثر الأول فيها، وكان على شيء من نضارته الأولى.
وفي سنة 277 منع المعتضد من بيع كتب الفلسفة والمنطق وتهدد على ذلك، وفي سنة 289 حلف الوراقون في دار السلام ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة وكان لهذا المنع ما يبرره بعض التبرير؛ لأن الفلسفة أخذت في هذه الحقبة تهاجم الدين بمقياس واسع، وكانت فتنة ابن قريش بمصر (285)، وذلك أنه أنكر أن يكون أحد خيرا من أهل رسول الله فوثب به الرعية فضرب بالسياط فمات بعد يومين، وقتل الخليفة ابن حبان البستي من أعلم أهل عصره ومن طبقة البخاري في الحديث، بدعوى أنه يعرف بعض العلوم الرياضية
142 (354)، ولعل السبب لأنه ألف كتابا في القرامطة وقال حاسدو فضله: إن هواه كان معهم.
وتتبع محمود الغزنوي لما فتح الري وغيرها في سنة 420 طائفة من المعتزلة ونفاهم وأحرق كتب الفلسفة والاعتزال والنجامة، فلقي منه علماء المعتزلة الألاقي مع أنه كان يحب الفلسفة ويعطف على الفلاسفة، وربما كان هذا مما حمل ابن الطيب المتكلم البصري المعتزلي (436)، وكان عالما بعلم كلام الأوائل، أن يتقي أهل زمانه في التظاهر به، فأخرج ما عنده في صورة متكلمي الملة الإسلامية وأحكم ما أتى من ذلك، وكان مذهب الاعتزال انتشر في مصر في جملة ما انتشر فيه من الأقطار، ولكن المقاومة كانت شديدة له أكثر من مقاومة مصر للتشيع في عهد الفاطميين؛ لأنه كان من وراء التشيع قوة تحميه ودولة تمليه، والاعتزال رائده العلم والنظر، حتى قال أحدهم في القرن الرابع من قصيدة:
فإن سلكت طريق العلم تطلبه
بالبحث أبت بتكفير من الناس
وكان قائل هذا سيبويه المصري من علماء المعتزلة فاختلط، فقال المؤرخ ابن زولاق مدون أخباره: وإنما كان الناس يتابعونه لما اشتهر عنه من اختلاطه، ولو تكلم بهذا أبو بكر بن الحداد أو أبو جعفر الطحاوي (وكلاهما من أكبر قضاة مصر وعلمائها)، ومن يشبههما لقتل لوقته بغير مشاورة.
ومن الأمور الطبيعية أن يخاف الأمويون والعباسيون على ملكهم ممن يخالفونهم ويتربصون الدوائر بدولتهم، ولكن ليس من العدل في شيء أن يقتل مخالفوهم باسم الدين والذود عن الشريعة، وفي الغالب أن يكون المعاقبون من أعيان الملة ومن أوعية العلم، ولقد أوذي العلماء بحجج كثيرة وفي مقدمتهم علماء المعتزلة، وأوذي الشيعة والخوارج؛ لأن مذهبهم من المذاهب السياسية الصرفة، والإسلام في الحقيقة ممزوج بالسياسة وهو لها ملازم غير مفارق، ولو جردوا العلم عن السياسة لما استطاع خليفة أن يدعي أنه قتل فلانا لأنه خالف الشرع، وكان الأولى أن يقال: إنه خالف السياسة.
مثال من ذلك الحسين بن الحلاج فهو رجل عظيم، ربما كان في كلامه بعض العهدة، ولكنه ظل متمتعا بحريته إلى اليوم الذي ثبت فيه للخليفة أنه كان بينه وبين رئيس القرامطة اتفاق سري على قلب الدولة،
143
وعند ذلك قتله متهما إياه بالإلحاد، وما كان بالملحد شأن عشرات غيره اتهموهم بالإلحاد علنا، والتهمة في جوهرها سياسية لا يريد الخليفة أن يقول: إن فلانا يريد القضاء على سلطاني، ويتهمه بأنه يحاول أن يعبث بالدين، ولطالما كان الدين تكأة يتكئ
144
عليها بعض السياسيين.
جد الشيعة في نشر مذهبهم، والدعوة إليه من أركان المذهب، ولما قامت دولة الفاطميين من بني عبيد في إفريقية (296ه) ثم استولت على مصر حاولت نشر مذهبها بالسيف، فمن قبله نجا ومن أبى قتل، وأفنت في إفريقية من كان بها من أئمة المذاهب الثلاثة قتلا ونفيا وتشريدا، ويروي ابن الأثير أن أبا عبد الله الشيعي لما وصل إلى رقادة من عمل القيروان جلس رجل يعرف بالشريف ومعه الدعاة، وأحضروا الناس بالعنف والشدة، ودعوهم إلى مذهبهم فمن أجاب أحسن إليه، ومن أبى حبس، فلم يدخل في مذهبهم إلا بعض الناس وهم قليل، وقتل كثير ممن لم يوافقهم على مذهبهم. وأخرج الظاهر الفاطمي (416) من بمصر من فقهاء المالكية وغيرهم، وأمر الدعاة أن يحفظوا الناس كتاب دعائم الإسلام ومختصره، وجعل لمن يحفظ ذلك مالا. وألف يعقوب بن كلس وزير الفاطميين بمصر كتابا في فقه الإسماعيلية حرج على الناس أن لا يطالعوا غيره، ونشط الفاطميون كل من حضره ووعاه، وكان ابن كلس
145
أحضر في سنة 380 جماعة الفقهاء وأهل الفتيا وأخرج لهم كتاب فقه عمله، وقال: هذا عن مولانا الإمام العزيز بالله عليه السلام عن آبائه الكرام، وقرأ عليهم رسالته وبعض كتاب الطهارة، وهذا الكتاب يعرف بالرسالة الوزيرية، ويقال: إنه جمع على عمل هذه الرسالة أربعين فقيها. وقتل الفاطميون
146
أبا بكر بن هديل وأبا إسحاق بن البرذون من فقهاء السنة وسحبوهما في أذناب الخيل لعدم إفتائهما بمذهب جعفر بن محمد الذي سموه مذهب أهل البيت. وابتنى الحاكم
147
المدارس بمصر وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ثم قتلهم وخربها وأحرق نحو ثلث مصر ونهب نحو نصفها، ومن جملة من قتلهم الحاكم من أهل العلم أبو شامة جنادة اللغوي الهروي لما قدم مصر وكان من الفضلاء
148
النبلاء.
ولما قدم المعز في القرن الرابع عطل مذهب الفاطميين وأمر بقتل الشيعة في إفريقية، حواضرها وبواديها
149
فلم يبق منهم أحد، وحمل الناس على مذهب الإمام مالك ومنع ما عداه. وكان بإفريقية مذهب الصفرية والشيعة والأباضية والنكارية والمعتزلة، ومن مذاهب أهل السنة الحنفية والمالكية، فلم يبق في أيامه غير مذهب مالك. ووصف النويري
150
هذه المذبحة، فقال: ركب المعز في القيروان، والناس يسلمون عليه ويدعون له، فمر بجماعة فسأل عنهم فقيل: هؤلاء رفضة والذين قبلهم سنة، فقال: وأي شيء الرفضة والسنة، قالوا: السنة يترضون عن أبي بكر وعمر، والرفضة يسبونهما، فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر، فانصرفت العامة من فورها إلى ناحية تشتمل على جماعة منهم فقتلوا منهم جماعة، ووقع القتل فيهم فصادفت شهوة العسكريين وأتباعهم طمعا في النهب، وانبسطت أيدي العامة فيهم، فأقبل عامل القيروان يظهر أنه يسكن الناس وهو يحرضهم ويشير إليهم بزيادة الفتنة، فقتل من الرفضة خلق كثير في ديارهم وحوانيتهم وأحرقوهم بالنار وانتهبت ديارهم وأموالهم، وزاد الأمر واتصل القتل فيهم في جميع بلاد إفريقية، وقيل: إن القتل وقع فيهم في جميع المغرب في يوم واحد في المدائن والقرى، فلم يترك رجل ولا امرأة ولا طفل إلا قتل وأحرق بالنار، ونجا من بقي منهم بالمهدية إلى الجامع الذي بالحصن فقتلوا فيه عن آخرهم، وخرج من بقي من المشارقة وهم الرفضة إلى قصر المنصور بظاهر المنصورية وهم زهاء ألف وخمسمائة وتحصنوا به فحاصرهم أهل السنة واشتد عليهم الحصار فقتلوا عن آخرهم. ا.ه.
ولابن العذارى في هذه المأساة الإفريقية تعليل برواية أخرى قال: كان المعز ابن باديس صغيرا فربي في حجر وزيره أبي الحسن بن أبي الرجال وكان ورعا زاهدا، وكانت إفريقية كلها والقيروان على مذهب الشيعة وعلى خلاف السنة والجماعة من وقت تملك عبيد الله المهدي لها، فأدب ابن أبي الرجال المعز على مذهب مالك، والشيعة لا يعلمون ذلك ولا أهل القيروان، فخرج المعز في بعض الأعياد إلى المصلى وهو غلام فكبا به فرسه، فقال عند ذلك أبو بكر وعمر، فسمعته الشيعة التي كانت في عسكره فبادروا إليه ليقتلوه، فجاء عبيده ورجاله ومن كان يكتم السنة من أهل القيروان ووضع السيف في الشيعة فقتل منهم ما ينيف على ثلاثة الآلاف، وصاح بهم في ذلك الوقت صائح الموت فقتلوا في سائر بلاد إفريقية . وكان التشيع في القرن الرابع غالبا على أهل قم
151
في فارس وأهل الكوفة في العراق وبلاد إدريس بن إدريس، وهي طنجة وما والاها في المغرب، وجاء زمن وليس في الأندلس إلا مذهب
152
مالك، فإن ظهروا على حنفي أو شافعي نفوه.
وكان في الدولة الفاطمية ديوان عظيم يتولى الدعوة لمذهبهم واسم رئيسه «داعي الدعاة»
153
تقرأ عليه مذاهب أهل البيت بدار تعرف بدار العلم، ويأخذ العهد على من ينتقل إلى مذهبهم على أن يستر جميع ما عرف إلا ما أطلق له أن يتكلم به، وأن ينصح ويخلص للإمام، وكان الشيعة إذا قوي سلطانهم في ناحية قتلوا من خالفهم بعد دعوته إلى مذهبهم، وإذا قويت المذاهب الأخرى قتلوا هم فرادى وجماعات. وهكذا الحال في بعض المذاهب الأخرى، ولكن منها ما تصل به الحماسة إلى قتل مخالفه، ومنهم من يكتفي باضطهاده ونفيه وتشريده وإهانته.
ومع هذا فقد لحق الاضطهاد بالفقهاء قليلا؛ لأنهم كانوا متصلين بأصحاب السلطان، وسهل عليهم تغيير مذهبهم خصوصا إذا كانوا من أهل السنة، حتى لا يستهدفوا لغضب السلطان أو يحرموا مناصب القضاء والفتيا وغيرها من المناصب الدينية كالحسبة والإمامة. ونال الاضطهاد الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم من أرباب البحث والنظر، والمحرك الأعظم في كل ما يعامل به العلماء سياسة الملوك، وما يخطر ببالهم وينطبق مع رغائبهم ورغائب الحافين بهم. والعامة أداة تحركها يد الملوك من حيث يدرون ولا يدرون ، قال ابن أبي جواد بخلق القرآن في إفريقية فاشتد سحنون عليه وضرب حتى مات تحت السياط، ولما ولي محمد بن عبدون القضاء بعد موت سحنون بالقيروان ضرب طائفة من أهل العلم
154
من أصحاب سحنون، وطيف بهم على الجمال بغضا منه في مذهب مالك وأصحابه ومنهم أبو إسحاق بن المضا وأبو زيد ابن المديني فماتا على الجمال، ومنهم أحمد بن معتب وابن مفرج، وكان ابن عبدون حنفيا ولو ساعده أمير البلاد على ما يريده لملأ من العلماء مقبرة كبيرة.
وضرب
155
ابن البرذون «إبراهيم بن محمد الضبي» خمسمائة سوط ودارت عليه دائرة ثم دارت عليه دائرة أخرى فضم إلى السجن هو ورجل كان يعرف بابن هذيل فخرج فيهما التوقيع في إفريقية أن يضرب ابن هذيل خمسمائة سوط وأن تخبط رقبة إبراهيم بن البرذون ليلا فضربه العامل العدة المذكورة ثم أعاده إلى السجن، ثم أخرج ابن هذيل فضرب رقبته، ثم انتبه للغلط فأخرج إبراهيم فضرب رقبته، ثم ربطت أرجلهما بالحبال وجرا مكشوفين غير مستورين من دار الإمارة، ثم صلبا ثلاثة أيام، وكان ذلك في زمن أبي عبد الله الشيعي، وضرب أيضا أبو العباس بن السندي وعذب وأخذت نعمته.
ودارت دوائر على ناس كثير في إفريقية من قتل وضرب إلا أنهم ليسوا
156
من العلماء كدائرة ابن عروس في خلع لسانه وابن معتب في ضرب ظهره، وأشياء كثيرة في هذا الباب من جهة ترك «حي على خير العمل» في الأذان وترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الفريضة. وضرب أبو العباس بن التستري الشافعي زمن العبيديين في إفريقية وعذب وأخذ ماله، وضرب أبو القاسم مولى مهرويه وعلي السدري من أهل الخير والعبادة سنة 308 بالمهدية، ثم قتلا وصلبا بكلام حفظ عليهما في السلطان، وضرب أبو القاسم الطوري صاحب المظالم في الجامع على رءوس الأشهاد، وفعلوا ذلك بجماعة من رجال المدنيين ممن لم يكن لهم اسم في العلماء دخلوا في جملتهم بالمحبة والصحبة. ومثل ذلك وقع للعلماء والقضاة في إفريقية كابن عتاب وابن القطان والعبيدي، ودارت من ابن عبدون دائرة على رجال المدنيين فضربهم ونكل بهم وطوف بعضهم وضربوا البهلول بن راشد، وكان أخذ عن مالك وسفيان وغيرهما، ولما مات البهلول بن عمر التجيبي وحملت جنازته رمي نعشه بالحجارة وقال الناس: الوادي الوادي، أي ألقوه في الوادي؛ لأنه كان على ما يقال يقول بخلق القرآن، وهو ممن سمع مالكا والليث وابن لهيعة وغيرهم.
ويقول محمد عبده: إن الأمراء لما أمعنوا في الفتك بالصوفية بإغراء الفقهاء، كان الصوفية يعقدون اجتماعات سرية للبحث في كف الأذى عنهم، ويقررون فيها ما يتفقون عليه، ثم يسعون لتنفيذه بالوسائل الكسبية، وقد يكون منه قتل بعض خصومهم، فهذا أصل ما يسمى التصرف في الأكوان، وليس تصرفا بالكرامات، ولا بخوارق العادات، قلنا فالمتصوفة إذا أشبهوا في إطالة الأيدي بالقتل جماعة الإسماعيلية، فقد مضى عليهم زمن طويل يقتلون الملوك والخلفاء ويوقعون بالعلماء حتى خافهم الناس، وكم من عظيم قتلوه وكم من عالم مسلم أباحوا دمه، وقيل: إنه قتل في يوم واحد في القاهرة خمسمائة صوفي، وزعم بعض المعاصرين أن فقهاء السنة وحكامهم ما عاملوا المتصوفة بأشد مما عاملوا سائر الفرق فحكموا ببدعة بعضهم وكفروا كثيرا من أكابر شيوخهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ثم غلوا بعد ذلك في تعظيمهم والتسليم الأعمى لهم غلوا كبيرا، وإن اضطهادهم للمتصوفة كان أشد من اضطهادهم للفلسفة، وما ذلك إلا لأن علم التصوف القريب من فهم الفقهاء أمس بالدين، بل هو ثمرة التمسك بفضائل الدين وآدابه.
اتهم محمد بن مسرة القرطبي (319) بالزندقة
157
لما ظهر من كلامه بالوعد والوعيد ولخروجه عن العلوم المعلومة بأرض الأندلس الجارية على مذهب التقليد والتسليم، ففر إلى المشرق، ولحقت ابن الإقليلي الأندلسي تهمة في دينه في أيام هشام المرواني في جملة من تتبع من الأطباء في وقته كابن عاصم والسنابسي والخمار وغيرهم وطلب ابن الإقليلي وسجن بالمطبق.
وامتحن حكم بن محمد المقري القيرواني مع أبي عبد الله الشيعي فسجنه من أجل صلابة كانت فيه في السنة، وإنكار شديد على أهل البدع، ولما غلب عبد الواحد ابن علي على المغرب ألزم العلماء الاجتهاد وترك التقليد لما رآهم انغمسوا فيه فأحرق كتب الفروع كلها، وأمر بوضع كتب أحاديث الأحكام، وكذلك فعل حفيده أبو يوسف يعقوب سنة 595 فأمر بإحراق كتب الفروع، وكان يقصد بذلك محو مذهب مالك من المغرب، وحمل الناس على الظاهر من الكتاب والسنة. هذا، والاجتهاد المطلق لم يوجد كما قال النووي من لدن القرن الرابع، وإنما هم أهل الاجتهاد المقيد، وهم مجتهدو المذاهب الذين لهم قوة على استنباط المسائل من الكتاب والسنة وبقية الأصول، ولكنهم مقيدون بقواعد مذهب إمامهم.
وتمالأ الفقهاء على ابن حزم الأندلسي
158 (456)؛ لأنه ترك مذهب الشافعي إلى مذهب داود الظاهري وأجمعوا على تضليله وسعوا به حتى أحرقت كتبه ومزقت علانية في إشبيلية، ووقع مثل ذلك لكتب الفيلسوف ابن رشد فمزقوها وأحرقوها في ساحات بعض المدن من الأندلس. ونفى المنصور بن أبي عامر من ملوك الأندلس الفلاسفة ومن جملتهم ابن رشد وأبو جعفر الذهبي وأبو عبد الله قاضي بجاية وغيرهم، وأحرق كتب المنطق والحكمة في بلاده، وشدد النكير على المشتغلين بها، وفوض ذلك إلى وزيره ابن زهر الفيلسوف لئلا يظهر ما عنده من كتب المنطق والحكمة، ولا ينقل أنه يشتغل بها ولا يناله مكروه بسببها، وقتل المنصور بن حبيب في إشبيلية بسبب الفلسفة وترك ابن زهر الفيلسوف، وقطع الطريق على الناس في النيل منه؛ لأنه كان عنه راضيا يندر تصرف مثله في تدبير مملكته.
وأوذي أبو بكر بن عربي؛ لأنه التزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأخذت كتبه وماله وصرف عن القضاء، وجرت محنة على أبي بكر الجياني الأندلسي (596) وشي به للمنصور بن عبد المؤمن أنه لزم ترك التقليد والعمل بالحديث. وأوقعت الحيطة في أيام الناصر العباسي على الركن عبد السلام بن عبد القادر الجيلي؛ لأنه قرأ علوم الأوائل وأجادها واقتنى كتبا كثيرة في هذا الفرع، فاتهم بأنه معطل وأنه يرجع إلى أقوال أهل الفلسفة، فصدر الأمر بإحراق كتبه في إحدى ساحات دار السلام، وخطبوا خطبة لعنوا فيها الفلاسفة ومن يقول بقولهم، واجتمع قواد عسكر أحمد خان صاحب سمرقند وقبضوا عليه بسبب زندقته ولما قبضوه أحضروا الفقهاء والقضاة وأقاموا خصوما ادعوا عليه الزندقة فجحد فشهد عليه جماعة بذلك وأفتى الفقهاء بقتله فخنقوه (488). ولزم محمد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن الوليد أبو علي المتكلم من رؤساء المعتزلة (487) بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج منه من عامة بغداد.
ونجا عمر الخيام الفيلسوف الشاعر النيسابوري من أهل المائة السادسة من اضطهاد العامة والملوك بشيء من التقية «ولما
159
قدح أهل زمانه في دينه، وأظهروا ما أسره من مكنونه، خشي على دمه، وأمسك من عنان لسانه وقلمه، وحج متاقاة لا تقية.» ووقف المستنجد العباسي على حكايات أخذها ابن حمدون صاحب التذكرة من التواريخ توهم في الدولة غضاضة، فأخذ من دست منصبه وحبس (608)، وقتل الظاهر غازي الحكيم الشهاب السهروردي، وكان ناقش علماء حلب فبذهم فشكوه إلى صلاح الدين فأمر ابنه بقتله
160
مع حرص الظاهر على إنقاذه، وغريب كيف نجا مثل أبي العلاء المعري على ما بدر في شعره ونثره من فلتات ينكرها فريق المتعصبين، ولعل الأصل في نجاته كونه زاهدا حقيقة، لا ينازع أرباب المذاهب الدينية في شيء من دنياهم، أو كما قال له أحدهم فغضب من قوله: إنه ترك لهم دينهم ودنياهم.
ووقع لسيف الدين الآمدي أحد أذكياء العالم من أهل المائة السادسة أن حسده جماعة من فقهاء مصر، ونسبوه إلى فساد العقيدة والتعطيل ومذهب الفلاسفة، فهرب واستوطن حماة في الشام فنجا من العطب بالهرب، وتتبع أعداء لسان الدين ابن الخطيب، رجل الأندلس علما وفصاحة، كلمات زعموا أنها صدرت منه في بعض تآليفه، فأحصوا عليه ورفعوها إلى قاضي غرناطة فسجل عليه بالزندقة، ثم أخذ وأحضروه في مجلس الخاصة وأهل الشورى من الفقهاء وعظم عليه النكير فيما كتب، فوبخ ونكل وامتحن بالعذاب، وأفتى بعض الفقهاء بقتله ثم طرقوا عليه السجن فخنقوه وأخرجوا شلوه
161
وأحرقوه.
كان الانتقام من العلماء يتم على أيدي الخلفاء والسلاطين، فلما جاء ملوك الطوائف وضعف العباسيون وأصبح لكل قطر ملك أو أمير غدا الانتقام من أرباب الأفكار محصورا في العامة أو من كان على مثالهم من العلماء، وكثرت مجالس المناظرات
162
بين الفقهاء حتى لا تكاد تخلو مدينة كبيرة من عقد المجالس بين كثيرين من علمائها، ولا سيما في العراق وخراسان، تعقد أمام الوزراء ممن كانوا بالأمس يميلون إلى الفقه لاحتياجهم إليه في الحكومات، ثم صاروا يميلون إلى استماع مقالات الناس في قواعد العقائد، ومالوا إلى سماع الحجج فيها، فأفضت إلى فتح باب العصبيات الفاحشة والخصومات المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد وأصبح الكبراء يميلون إلى المناظرات لبيان الأولى من مذاهب السنة، فنجمت من هذا الانكباب على المسائل الخلافية فتن أفضت إلى قتل النفوس بالألوف، وإلى خراب مدن برمتها، خربت بأيدي أناس كان مشايخهم يتفاخرون بالمناظرات والخلافيات، يوقدون نار الفتنة بين أتباعهم وخصومهم، وينال بعضهم من بعض بالنميمة والحسد والرياء والختل مما نهى عنه الشرع.
ومن هذه الفتن فتنة نشبت بنيسابور عاصمة خراسان بين الحنفية والشيعة، وأمر السلطان بأن تلعن المبتدعة على المنابر، وحسن له بعضهم فيما قيل: الإزراء بمذهب الشافعي وبالأشعرية، وأدى التصريح بلعن أهل السنة في الجمع، وتوظيف سبهم على المنابر ونفي بعض الشافعية، وهاجر من تلك البلاد أربعمائة قاض من قضاة الشافعية والحنفية، وشمل الضرر من ذلك خراسان والشام والحجاز والعراق. وكانت تقع في سجستان
163
وسرخس عصبيات بين الشيعة والكرامية في نيسابور، وبهراة بين العملية والكرامية، وخربت الري بسبب هذه المنافسات بين الفقهاء، وكان فيها شافعية وحنفية وشيعة وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يعرف، فلما أفنوهم وقعت العصبية بين الشافعية والحنفية فنشبت بينهم حروب، واشتد التطاحن بين الطوائف الإسلامية، بل بين أرباب مذاهب السنة، وكل فريق منهم يتهم خصمه أنه حشوي ليس على شيء من العلم. قال السبكي: وكثرت مذاهب الحشوية، وهم فريقان: فريق لا يتحاشى في إظهار الحشو، ويحسبون أنهم على شيء، وفريق يتستر بمذهب السلف لسحت يأكله أو حطام يأخذه أو هوى يجمع عليه الطغام الجهلة والرعاع السفلة. وفي هذا الفريق من يكذب على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويزعم أنهم يقولون بمقالته، يتستر بالسلف حفظا لرياسته، والحطام الذي يجتلبه، ويتحلى بالرياء والتقشف زاهدا في الذرة ليحصل الدرة، وأظهروا للناس نسكا وعلى المنقوش داروا. ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه، والمبتدعة تزعم أنها على مذهب السلف. ا.ه.
ولعل السبكي يقصد من قوله هذا مذهب الحنابلة وكان ابن تيمية منهم، وعليه اشتد المشايخ بنو السبكي في القرن الثامن مستعينين بما لهم من النفوذ في دواوين الدولة في مصر والشام فعاملوا هذا المصلح معاملة جائرة هو وتلميذه ابن قيم الجوزية ليقضوا عليه وعلى تعاليمه التي ما خرجت عن الكتاب والسنة والرد على المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة والرافضة
164
والنصارى، وتوصلوا إلى حبس ابن تيمية سنين طويلة في الإسكندرية والقاهرة ودمشق ولم يخرجوه من محبسه إلا إلى قبره، ونكبوا ابن القيم تلميذه وحبسوه آخر مرة مع شيخه في حجرة منفردة. ومن الغريب أن يعقد في القاهرة لابن تيمية مجلس حاكموه فيه على اعتقاده واعتقلوه بعدها في جب يوسف هو وأخوته وأن يكتب السلطان إلى دمشق أنه رسم أن من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه!
وما زالت العصبيات تقع بين أهل ساوة، وسكانها سنة، وأهل آوة، وسكانها شيعة؛ أوائل القرن السابع، ومنشأ الخراب في أصفهان إلى هذا العهد أيضا وقبله، وكثرت الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية، وكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وأخربتها، ولقد كانت الغلبة للحنفية في القرن الخامس ببلاد فارس ومنها ما كثرت حنابلته، ومنها ما كانت شيعته غالية يحبون معاوية، ومنها ما تغلب فيه أصحاب الحديث وأكثر إقليم خوزستان معتزلة، والفتن على الدين في الجبال متصلة، وكان للخوارج بسجستان ونواحي هراة وللمعتزلة بنيسابور ظهور بلا غلبة وللشيعة والكرامية بها جلبة، وفي تلك الديار شافعية وحنفية وبرساتيق هيطل أقوام يقال لهم بيض الثياب مذاهبهم تقارب الزندقة، وأقوام على مذهب عبد الله السرخسي لهم زهد وتقرب، وأكثر أهل ترمذ جهمية وأهل الرقة شيعة وأهل كندر قدرية.
ثارت فتن كثيرة في بغداد بين الحنابلة وغيرهم، وبين السنة والشيعة خربت بها بعض أحياء بغداد غير مرة؛ فقد هاجت في سنة 398 فتنة هائلة بين أهل السنة والرافضة واقتتلوا وقتل جماعة. وفي سنة 408 كانت الفتنة الكبرى فيها بين أهل السنة والشيعة وقتل طائفة منهما واستتاب القادر جماعة من الرفض والاعتزال وأخذ خطوطهم بالتوبة، وبعث إلى محمود بن سبكتكين صاحب خراسان يأمره بنشر مذهب أهل السنة وقتل جماعة، ونفي خلق من الإسماعيلية والرافضة والمعتزلة والمجسمة، وأمر بلعنهم على المنابر بعد أن عجزت الشرطة عنهم وأطلقت النيران في الشوارع. وفي سنة 422 هاجت الفتنة بين السنة والشيعة في بغداد فنهبت وأحرقت، ومن جملة ما أحرق أربعة أسواق وثاروا بالسلطان فأرضاهم الخليفة المقتدر بالعطاء.
وفي سنة 443 عاد السنة والرافضة إلى أشد مما كانوا في بغداد، وقتل جماعة ونبشت قبور الرافضة وأحرقوا عظام رجالهم وقتلوا هم أناسا من علماء السنة، وكتبوا على الأبراج «محمد وعلي خير البشر فمن أبى فقد كفر»، ووقع التقبيح على الرافضة وأحرقت كتبهم في بغداد لسبهم الصحابة، ومنهم من قتل كما وقع في سنة 574 فإنه وقع فيها ما لم يتهيأ منذ نحو مائتين وخمسين سنة، كما قال المؤرخون.
هذه أمثلة مما وقع بين السنة والشيعة في فارس والعراق وما وقع بينهم في مصر وإفريقية على عهد الفاطميين، وكان الشيعة في الشام أكثرية في القرن السادس ثم قلوا لما قضى صلاح الدين على دولة الفاطميين بمصر. ولما قطعت خطبة العاضد الفاطمي
165
بمصر استطال أهل السنة على الإسماعيلية وتتبعوهم وأذلوهم وصاروا لا يقدرون على الظهور من دورهم، وإذا وجد أحد من الأتراك مصريا أخذ ثيابه وعظمت الأذية بذلك، وجلا أكثر أهل مصر عنها إلى البلاد، وأخذ الناس بمذهب السلطان، إن كان شافعيا زاد الشافعية، وإن كان حنفيا أقبل القوم على المذهب الحنفي. وهكذا كانت الحال في كثير من الأقطار يتظاهر الناس بمذهب القائم بالأمر فيهم، فإذا تولى رقابهم من يخالفه في رأيه انقلب الناس معه، كما وقع في مصر مع الدولة الفاطمية، فإنها طبعت الأذهان بطابعها، فلما انقرضت دولتهم عاد التسنن إلى ما كان عليه.
وقعت في بغداد فتن كثيرة بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب الأخرى، وكان الحنابلة فيها يتشددون على خصومهم، ويقابلونهم بالعنف، ومنها فتنة عظيمة بين الحنابلة وخصومهم قتل فيها خلق كثير من الجند والعامة بسبب تفسير قوله تعالى:
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
اختلف الفريقان بتفسيرها، فكان الهرج والمرج. وفي سنة 323 عظم أمر الحنابلة على الناس فصاروا ينكرون المنكرات بشيء من الغلظة يدخلون بيوت القواد والعامة ليطلعوا على ما فيها من الموبقات، فهددهم الخليفة الراضي باستعمال السيوف في رقابهم والنار في منازلهم فكفوا، ووقعت فتن في بغداد بين الحنابلة وغيرهم من أرباب المذاهب فقتل عمر بن الحسن الخرتي من رجالهم.
ومن غرائب وقائع الحنابلة أن محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ (310) ألف كتابا ذكر فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن فقيها وإنما كان محدثا، فاشتد ذلك على الحنابلة فشغبوا عليه ولما هلك منعوا من دفنه نهارا، وادعوا عليه الرفض والإلحاد، وكان علي بن عيسى الوزير يقول: والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه.
ومن غريب أمر الحنابلة أنهم بنوا مسجدا في بغداد
166
وجعلوه طريقا إلى المشاغبة والفتنة فتظلم إلى علي بن عيسى من أمره فوقع على ظهر القصة «أحق بناء بهدم، وتعفية رسم، بناء أسس على غير تقوى من الله، فليلحق بقواعده إن شاء الله.»
ولما أبدى الإمام القشيري شعار الأشعرية في بغداد ثارت فتنة العامة (469) «وقصدت
167
الحنابلة سوق المدرسة وقتلوا جماعة وأظهروا شناعة.»
وهكذا ظلت بغداد ميدانا للتقاتل بين الشيعة والسنة والحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب زمنا طويلا، فهلكت أنفس وخرب عمران، بل «تتابعت
168
الفتن ووقع الخراب، وما زالت الفتن والمحن متواترة إلى أن وقع بين الرافضة وأهل السنة فتنة أحرقوا من الجانب الغربي ما لا يحصى من الدور والمساكن والحوانيت وقلت المعايش وكثر الجور، وفترت الهمم عن طلب العلوم وغيرها، وكان أهلها في سعة من الأرزاق ورخص الأسعار فانتقل عنها معظمهم.» وكانت بغداد في القرن الثاني والثالث والرابع عاصمة العلم والفلسفة والأفكار فأمست في القرن الخامس والسادس والسابع بؤرة الجمود والانحطاط الفكري.
وفي سنة 835 ثارت فتنة عظيمة في دمشق بين الحنابلة والأشاعرة حتى صدر مرسوم السلطان أن لا يعترض أحد غيره في مذهبه، ومن أظهر شيئا مجمعا عليه سمع منه، والحاصل أن الحنابلة كالرافضة أظهروا شدة في اختلافاتهم مع الطوائف الأخرى حتى تراجع أمرهم من العراق والشام إلا قليلا. وأهل نجد اليوم حنابلة المذهب وهم مثال من المبالغة في إنكار المنكرات، والتحامل على بعض المذاهب الإسلامية الأخرى.
وكم من فتنة حدثت لأن قوما يتعصبون للعالم الفلاني وآخرين يحطون منه كما جرى للبخاري والرازي، وكم فتنة قام بها العوام لأنه شاع أن فلانا العالم قال كذا في فلان الذي يقدسونه. فقد توفي الصولي (336) نديم الخلفاء وأوحد العلماء بالبصرة مستترا؛ لأنه روى في حق علي بن أبي طالب حديثا، فطلبته الخاصة والعامة لتقتله فلم تقدر عليه، ومات أبو عبيدة معمر بن المثنى (211) بالبصرة وكان يرى رأي الخوارج ولم يحضر جنازته أحد من الناس حتى اكتري لها من حملها، ومثل هذا وقع لياقوت الحموي في دمشق ذكر كلاما في حق علي كان قرأه في كتب الخوارج فعدوه من النواصب المنحرفين عن أمير المؤمنين، وأراد بعض أهل دمشق قتله فهرب. ومما يذكر أنهم كثيرا ما يتنازعون الرجل، كل يدعيه كما حدث لما توفي عيسى ابن سعادة الفاسي (355) فتنازع علماء فاس فيمن يصلي عليه الفقهاء أم المحدثون، كل يدعيه ويقول: إنه أحق بالصلاة عليه.
أما في قرون الانحطاط، أي القرون الخمسة الأخيرة، فكان من خالف الجمهور ولو في مسألة صغيرة عرضة للقتل إذا لم يكن له أحد يحميه في قصر الملك أو الأمير؛ لأن القوم أصبحوا ونفوسهم لا تشتفي ممن يخالفهم في معتقد أو فكر إلا أن يضرب عنقه، بل أصبح الحديثي ينظر إلى الفقيهي، والشافعي إلى الحنبلي، والفروعي إلى الأصولي نظرا شزرا، وبدأ ذلك منذ انسحب القراء عن صفوف الفقهاء والمحدثين ، ثم ابتعد الصوفية عن الفقهاء، ثم عرف أهل كل مذهب مذهبهم وثبتوا عليه في القرن الثامن؛ لأنهم قاتلوا دونه في بعض البلاد، وأصبحوا كلما نبت نابت من الرجال يقول بمقالة تخالف من بعض الوجوه مذاهب السياسة يقتل على مذهب مالك؛ فقد ذهب مالك ومن وافقه من أصحاب الشافعي إلى قتل الداعية إلى البدع، وذهبت طائفة من أصحاب أحمد إلى جواز قتل الجاسوس، وكان الخليفة قد يحتاج إلى قتل أمثالهم؛ لأن حكمه شريعة يجب تنفيذها في نظره، فلما ضعف الملوك لم يجدوا أحسن من العمل برأي مالك في قتل كل من خالف في مسائل؛ إذ لا توبة له، والدين يقول: إن المولى يقبل توبة التائبين.
أخذ الأمناء على الدين يتيهون في بيداء الفوضى العقلية، لا يرون في تأديب المبتدعة أو من سموهم كذلك، إلا تطبيق أشد مفاصل القانون عليهم، وإنزال آخر العقوبات المسطورة، ويتجافون عن سماع أقوالهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وادعوا لضعف فيهم أن المبتدع يحضر لكل سؤال من بدعته جوابا قلما يستطيع مجادل نقضه، ولذلك كان من الحزم أن يعامل لأول أمره بالعنف، ويعمد إلى صاحب السلطة في تأديبه، ولا يسمع له كلام ولا حوار، بل لم ير المسيطرون على الدين أن يكتب المبتدعة أو المتفلسفون كلامهم ليرد عليهم بالكتابة؛ لأن كتابتها، زعموا، تكون سببا في نشرها. فهم يرون أن يصموا آذانهم عن كل جديد، ويكتفوا بما لقفوا من العلم وقرروا من المذاهب.
وماذا يعنيهم من المقالات الجديدة، والاجتهاد في الدين موصد الأبواب، وهو محظور حتى على من بلغ رتبة عالية في العلم، واستعد للخوض في ميدان الأحكام، والرجوع إلى مصادر الشريعة ليأخذ من لبابها الأوفق للزمن والمصلحة لا ما رآه غيره، مع عدم الخروج عن قواعد الشرع، وتحت حماية مذهب مالك الذي يرى القتل ضربا من التعزير. قتل بين القرنين الثامن والثاني عشر عشرات من الأذكياء والباحثين في أوقات مختلفة في فارس والعراق والشام ومصر وإفريقية وغيرها، يتهم أكثرهم في دينهم ويسألون بضع مسيئلات إذا كان في أجوبتها بعض العهدة بحسب فهم المسيطرين، تقطع أعناقهم ويصلبون وتطهر الأرض منهم.
وبهذا الهول الأكبر انقطعت الرغبات في البحث واستعمال الفكر إلا في الدائرة المعينة الحدود والأوصاف التي قرروها، وأنشأوا يحرمون علنا بسائط علم الفلسفة كالطبيعيات والرياضيات بل والتاريخ وتقويم البلدان، فضعفت ملكة هذه العلوم على تلك النسبة، ضعف الملكات الدينية، وضعفت العقول معها، «وزاد الحق غموضا
169
وخفاء أمران: أحدهما خوف العارفين مع قلتهم من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق، مع جواز التقية بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق، ولا برح المحق عدوا لأكثر الخلق ... وكان العلم في أول الأمر يبذل من أهله لأهله مشافهة ولو سرا، وذلك أول النقص، وهو محفوظ في الصدور، فلما قل الحفظ وكتب ليحفظ، وتعذرت الصيانة وخيف العدوان من أعداء أهل الإيمان كتم بعضهم فلم يظهر علمه فازداد النقص، واتقى بعضهم فتكلم بالمعاريض الموهمة للباطل خوفا على نفسه، ورمز بعضهم فغلط عليه بما قصده في رمزه فتفاحش الجهل.»
نعم كان مما لقيه العلماء من الألاقي
170
ما وقف القرائح، وثبط الهمم، وقعد بالعزائم، وتجاهل الناقمون والمنتقمون، أن في قتل عالم قتل عالم، وأن في إرهاق العقول مدرجة إلى ظهور كل جهول، وما نفع قط الجهلاء في قيام دين أو دنيا، استسهل الضاغطون على الأفكار تشريد العلماء وتعذيبهم وسجنهم أو قتلهم بدعوى أن في عملهم ضم شمل الجماعة وإغلاق أبواب التفرقة، والقضاء على البدع والضلالات؛ وهيهات أن يجدوا عاقلا يضطلع بالدفاع عن أعمالهم اللهم إلا المأخوذ بالتقاليد الموروثة، الذي خلق ليدهن لكل من سودته مناصبه، والعلم يتطلب غير هذه السياسة الخرقاء، والعلماء يشقون ليسعدوا بعملهم الخلق، يبيتون حياتهم على مثل حسك السعدان
171
ليحلوا المشكلات والمعضلات، وينصروا الحق الذي يعرفونه، فيتجلى للأفكار نقيا ينتفع به من يعقلون، ولا سبيل إلى تأويل إهانة العلماء باسم الدين إلا بأن معظم أولياء الأمر ما كانوا يبالون بإطفاء أنوار الأفكار، فحالوا بعملهم دون ظهور النابغين، وقصروا هممهم على اصطناع المتوسطين، حجروا على العقول، فكانوا أعدى أعداء العلم الصحيح، وبدون حرية يموت العلم، وتفسد ثمرات المدارك، وكل من أبطلوا حركة البحث وشلوا الأعصاب عن الانبعاث باءوا بسبة الدهر، وكل من اتخذوا العلماء مطايا لأغراضهم، وفرحوا بتمزيق أجزاء القلوب ليسلم سلطانهم، كانوا أسقط الناس ورذالتهم في المجتمع الإسلامي. •••
رأينا بما قدمنا صورة من نشأة الشرع وعلوم الكلام والحديث والتصوف والفلسفة والآداب وقيام الفرق الإسلامية، وما لحق الناس والبلاد من اضطهاد وقتل وتخريب بسبب الدين، ورأينا كيف ضعف الدين منذ دهمته الزيادات الممرضات، وأن الدنيا كان شأنها كذلك منذ أصبح كل أمر يتوقف على فتوى العلماء مراعاة من السياسيين للظواهر، فكانت السخافات والترهات التي قضت على سلطان العقل، وماتت النفوس والهمم، وقعدت عن العمل الصالح، وطفئت شعلة الذكاء؛ وأبدلت بظلام دامس، وشغل الناس بأمور تافهة كان منها خراب بلادهم، وخراب عقولهم، وزهدوا في الجوهر الذي لا يقصد من العمل به إلا إنهاض النفوس، وتشبعوا بما لم ينزل به سلطان، قضوا بهذا الجمود على اللحاق بمن سبقوهم إلى فك القيود الثقيلة، وظلوا على تحجيرهم يفاخرون بالآباء والجدود.
وربما كان في المقاومين لمثل هذه المسائل من كان رائده الإخلاص في قوله وعمله، ولكن كثيرا منهم كانوا تبعا للسلطان أو تبعا لما يرضي العامة، والعلم كما يقول الراغب الأصفهاني
172
ذو منازل لكل منزلة منها حفظة كحفظة الرباطات والثغور، وقلما ينفك كل منزل منها من شرير في ذاته، وشره في مكسبه، وطالب لرياسته، وجاهل معجب بنفسه، بصير لأجل تنفيق سلعته، صارف عن المنزل الذي هو فوق منزلته من العلم وعائب له، فلهذا نرى كثيرا ممن حصل في منزلة من منازل العلم دون الغاية، عائبا لما فوقه صارفا عمن رامه، فإن قدر أن يصرف عنه الناس بشبهة مزخرفة فعل، أو ينفر الناس عنه فعل. ا.ه. وفي تاريخ الدين صورة عجيبة من هذا التهالك على الدنيا في الطبقة التي تدعي أنها أبعد الناس عن زخارفها، وليس من المبالغة أن يقال: إن من الدينيين من ليس له هم إلا أن يستأكل
173
بالدين ويضرب لصاحب القوة أبدا على الوتر الحساس فيه؛ فقد ذكر الغزالي
174
أنه بعد عهد المناظرات في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة ترك الناس الكلام وفنون العلم، وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذاهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباط، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، قال: فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة، أو إلى علم آخر من العلوم، لمالوا أيضا معهم، ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين، وأن لا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين.
وبعد، فمن المؤلم للنفس اليوم تذكر من قضوا ضحايا أفكارهم في بعض عصور الإسلام، فكان القضاء عليهم قضاء على الحرية، على أن ما وقع في بلاد المسلمين في غضون ألف سنة من هذه النكبات لا يعد جزءا صغيرا مما حدث في الغرب بسبب المذابح الدينية وديوان التحقيق الديني وبضغط الكنيسة على العقول وحريتها. أدى تفاعل العوامل الفكرية في الإسلام إلى ما لم تحمد مغبته فتأخر سير العلم بعض التأخر، وأخمدت جمرة التفكير الحر في بعض العصور، وكان ما جرى أشبه بحوادث أفراد دخلت العامة غمارها فهلكت أنفس وخرب عمران وتراجعت عقول، والمهم في تاريخنا أن تقلبه كل مقلب لا ندلس فيه ولا نوالس، لنتعرف الحقائق في صورتها الجلية النافعة، والتبعة فيما حدث في الإسلام تقع على صنفين: العلماء والرؤساء، ولما كان أغلب الرؤساء جهلاء كانت معظم التبعة على العلماء، وليس
175
تكليف العقلاء كتكليف الجهلاء ولا آلة الفريقين في الأفعال واحدة، ولا مؤاخذتهما بالأعمال متساوية، وكذلك قال تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
ولو أوخذ الجاهلون كما يؤاخذ العالمون، لكان ذلك جورا في القضاء، وحيفا في الجزاء؛ لأن الله تعالى كلف كل نفس بحسب قوتها، وأخذها بما جعله في قدرتها، ولو أن أحدا غلط غلطا جاهلا لحكمه، وأخطأ خطأ خارجا عن علمه، لما تعين عليه حكم، ولا تعلق به حد، وعلى ذاك فمتى كان علم الإنسان أكثر من عقله كان حتفه في علمه، أو عقله أكثر من علمه أمكن به جبر عجزه وإتمام نقصه، وما دبر العقل شيئا إلا أقام أوده وعدل ميده،
176
ولا دخل الجهل أمرا إلا حل نظامه وأحال التئامه؛ فقد ثبت أن الفضل فرع أصله العقل، ثم تدعو الحاجة مع وجود هذا الأصل إلى بان يعلي أساسه ويسقي غراسه من أدب يقتبس، وعلم يكتسب، ورياضة تصلح، وتوفيق يلحق؛ فإذا التقى من ذينك فرع وأصل، واقترن أدب وعقل، اجتمع بهما قوى العقل، ولمع بينهما نور الحزم، وأمكن رافع البناء أن يرتقي ذروته، وغارس الغرس أن يجني ثمرته. ا.ه.
الإدارة في الإسلام1
إدارة الرسول
لما ظهر الإسلام على الشرك وطفق الرسول يدعو إلى دينه جهرة، أخذ يرسل أمثل من دخلوا في الإسلام من الرجال لتلقين العرب الدين وأخذ الصدقات منهم، وإذا وفد عليه وافد يعهد إليه أن يعلم قومه دينهم، و«إمام كل قبيلة منها؛ لنفور طباع العرب أن يتقدم على القبيلة أحد من غير أهلها»، وإذا كان الوافد من رءوس قبيلته تسند إليه جباية الفيء ويأمره أن يبشر الناس بالخير ويعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، ويوصيه أن يلين للناس في الحق، ويشتد عليهم في الظلم، وأن ينهاهم إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، ليكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، وأن يأخذ خمس الأموال وما كتب على المسلمين في الصدقة، وأن من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان دين الإسلام فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يفتن
2
عنها، وبعث معاذا إلى اليمن،
3
فقال له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله تعالى، فإذا عرفوا الله تعالى فأخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.» وكتب إلى عمرو بن حريث عامله على نجران كتابا في الفرائض والسنن والصدقات والديات.
وضع الرسول على المسلمين وغيرهم وعلى الأرضين والثمار والماشية أموالا بين الكتاب العزيز أصنافها في عدة آيات، وبين حكم إنفاقها، فقال:
ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ،
4
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ،
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ،
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم .
فالفيء خراج يؤخذ من أرض العنوة
5
والخراج ما يؤخذ من أرض الصلح
6
ومما فتح عنوة وأكثر أهله عليه، والجزية مال يتقاضى من أهل الكتاب، والعشر ما يؤخذ من زكاة الأرض التي أسلم أهلها عليها كأرض العرب وما أسلم عليه أهله أو فتح عنوة وقسم بين الغزاة، وما كانت الجزية تقبل من غير الكتابيين في الأرض العربية،
7
ولا يقبل من المشركين عبدة الأصنام إلا الإسلام، ومن الأرض ما صولح أهله على النصف من ثمارهم كأهل فدك، وجعل النبي فدك له خاصة؛ لأنه لم يوجف
8
عليها المسلمون بخيل ولا ركاب، والأنفال الغنائم في القتال، والصدقة أنواع، هي الزكاة وهي عشر الغلات التي تأتي من الأرض التي خلت من سكانها أو كانت مواتا فأحيوها، وصدقات الماشية هي زكاة السوائم من الإبل والبقر والغنم دون العوامل والمعلولة، والصدقات عروض التجارة.
ولقد شكا يهود خيبر
9 - «وكانت قرية الحجاز ريفا ومنعة ورجالا» وكان فيها عشرون ألف مقاتل
10 - عبد الله بن رواحة، وكان الرسول يبعثه كل عام يخرص
11
عليهم تمرهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، فكانوا يضمنونه ، بيد أنهم شكوا إلى الرسول شدة خرصه
12
وأرادوا أن يرشوا ابن رواحة فجللوا له حليا من حلي نسائهم فقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله: يا معشر اليهود، إنكم لمن أبغض خلق الله تعالى إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، وأما ما عرضتم علي من الرشوة فإنها السحت وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
13
ولقد كان الرسول يتخير عماله من صالحي أهله وأولي دينه وأولي علمه، ويختارهم على الأغلب من المنظور إليهم في العرب ليوقروا في الصدور، ويكون لهم سلطان على المؤمنين وغيرهم، يحسنون العمل فيما يتولون ، ويشربون قلوب من ينزلون عليهم الإيمان، ويكشف أبدا عملهم، أي يفتشهم، ويسمع ما ينقل إليه من أخبارهم، وقد عزل العلاء بن الحضرمي عامله على البحرين؛ لأن وفد عبد القيس شكاه وولى أبان بن سعيد، وقال له: استوص بعبد القيس خيرا وأكرم سراتهم،
14
وكان يستوفي الحساب على العمال يحاسبهم على
15
المستخرج والمصروف، وقد استعمل مرة رجلا على الصدقات فلما رجع حاسبه، فقال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال النبي: ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى إليه أم لا، وقال: من استعملناه على عمل ورزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول.
16
وما انفك الرسول من استشارة أهل الرأي والبصيرة، ومن شهد لهم بالعقل والفضل، وأبانوا عن قوة إيمان، وتفان في بث دعوة الإسلام، وهم سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، منهم حمزة وجعفر وأبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وسليمان وعمار وحذيفة وأبو ذر والمقداد وبلال، وسموا النقباء؛ لأنهم ضمنوا للرسول إسلام قومهم، والنقيب الضمين، وكان له عرفاء، أي رؤساء جند، ويكتب له بعض جلة الصحابة من الكملة،
17
والكملة في الجاهلية وأول الإسلام هم الذين كانوا يكتبون بالعربية ويحسنون العوم والرمي.
كان كاتب العهود إذا عاهد والصلح إذا صالح علي بن أبي طالب، وممن كتب له أبو بكر وعمر وعثمان والزبير، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص وحنظلة الأسيدي والعلاء بن الحضرمي وخالد بن الوليد وعبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن أبي سلول والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان يكتب فيما بينه وبين العرب، وجهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وبلغ كتاب الرسول اثنين وأربعين رجلا، وكان صاحب سره حذيفة بن اليمان، وكان الحارث بن عوف المري على خاتمه، وخاتمه من حديد ملون عليه فضة نقش ثلاثة أسطر: محمد، سطر، ورسول، سطر، والله، سطر، ويضع خاتمه أيضا عند حنظلة بن الربيع بن صيفي ابن أخي أكثم، ويكون خليفة كل كاتب من كتاب النبي غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب.
وكان معيقيب بن أبي فاطمة يكتب مغانم الرسول، وكذلك كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري كان يقال له صاحب المغانم، وحذيفة بن اليمان يكتب خرص تمر الحجاز، والعلاء بن عتبة وعبد الله بن الأرقم يكتبان بين الناس في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء، وكان عبد الله بن الأرقم يجيب الملوك عن الرسول، والزبير بن العوام وجهيم بن الصلت يكتبان أموال الصدقات، والمغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات، وشرحبيل بن حسنة يكتب التوقيعات إلى الملوك. ومن شعرائه حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك انتدبهم لهجو المشركين، وخطيبه ثابت بن قيس، وزيد بن ثابت ترجمانه بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية واليهودية، وناجية الطفاوي ونافع بن ظريب النوفلي يكتبان المصاحف، وشفاء أم سليمان بن أبي حنتمة تعلم النساء الكتابة، وعبادة بن الصامت يعلم أهل الصفة القرآن، وكانت دار مخرمة بن نوفل بالمدينة تدعى دار القرآن.
وأول قاض في المدينة عبد الله بن نوفل، ومقرئ المدينة مصعب بن الزبير، وأول لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله بن جحش، وعقد لسعد بن مالك الأزدي راية على قومه سوداء، وفيها هلال أبيض، وكان لواؤه أبيض أو أصفر أو أغبر، وله راية تدعى العقاب من صوف أسود، مكتوب على رايته: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأول مغنم قسم في الإسلام مغنم عبد الله بن جحش، ومن عماله أبو دجانة الساعدي وسباع بن عرفطة عاملاه على المدينة، وكان ثلاثة أرباع عماله من بني أمية؛ لأنه إنما طلب للأعمال
18
أهل الجزاء والغناء من المسلمين، ولم يطلب أهل الاجتهاد والجهل بها والضعف عنها كما قال معاوية، واستعمل الرسول أبا سفيان بن حرب على نجران فولاه الصلاة والحرب، ووجه راشد بن عبد الله أميرا على القضاء والمظالم.
وكان الرسول كثيرا ما يقول: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.» وقال: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة.» وجمع القرآن، أي حفظه جميعه، من الأنصار أبي ومعاذ وزيد بن ثابت وأبو قيس بن السكن، هؤلاء أهم رجال الإدارة والقضاء والفقه والقرآن.
وهناك طبقة أخرى تتولى الأعمال مثل عتاب بن أسيد الذي استعمله واليا على مكة، ورزقه كل يوم درهما فقام يخطب ويقول: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله درهما كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد. وهذا الراتب من أول ما وضع من الرواتب للعمال، وقد يكون رزقهم ما يطعمون منه على نحو ما أجرى على قيس بن مالك الأرحبي من همذان لما استعمله على قومه، فأقطعه من ذرة نسار مائتي صاع ومن زبيب خيوان
19
مائتي صاع جار له ذلك ولعقبه من بعده أبدا أبدا أبدا، أما كبار الصحابة فكانوا يعطون ما يتبلغون به من الغنائم وغيرها، ومنهم من كان غنيا في الجاهلية والإسلام فجهز من ماله جندا في سبيل الله، بل منهم من أنفق كل ماله في هذا الغرض وهو راض مغتبط .
أقطع الرسول القطائع،
20
وكان يتألف على الإسلام، ويعطي من الصدقات من يريد تأليف قلوبهم، فدعي من يأخذون ذلك «المؤلفة قلوبهم»، وهم أحد وثلاثون رجلا من سادة العرب، تألفهم وتألف بهم قومهم، ليرغبوهم في الإسلام، ولئلا
21
تحملهم الحمية، مع ضعف نياتهم، على أن يكونوا إلبا مع الكفار على المسلمين، وما منهم إلا الشريف المسود والعالم والخطيب والشاعر والداهية الباقعة، قال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله يوم حنين وإنه لمن أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لمن أحب الناس إلي، وقال الرسول: «إني لأعطي قوما أتألف ظلعهم
22
وجزعهم، وأكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى.» وكان يعامل المسلمين بقواعد المساواة، ويفضل من الأزد الأنصار وهم الأوس والخزرج أبناء حارثة بن عمرو بن عامر، وهم أعز الناس نفسا وأشرفهم، لم يؤدوا إتاوة قط إلى أحد من الملوك.
كانت الحكمة في تأليف من قضت المصلحة بتأليفهم، أعطى كل واحد من المؤلفة قلوبهم في إحدى غزواته مائة من الإبل ومقدارا من الفضة، فلما دخل الناس في الدين أفواجا، وظهر المسلمون على جميع أهل الملل بطل العطاء للمؤلفة قلوبهم، ودخل بعضهم في خدمة الدولة وتولوا العمالات وقيادة الجيوش، ولم يبق عربي بعد واقعة حنين والطائف
23
إلا أسلم، ومنهم من قدم على الرسول ومنهم من لم يقدم، وقنع بما أتاه به وافد قومه من الدين، ولما فتحت مكة دانت العرب لقريش وعرفوا أن لا طاقة لهم بحرب الرسول ولا عداوته، جاء قيس بن نسبة السلمي فأسلم ورجع إلى قومه، فقال: يا بني سليم، قد سمعت ترجمة الروم وفارس وأسفار الرهاب والكهان ومقاول
24
حمير، وما كان كلام محمد يشبه شيئا من كلامهم. وقال أبو سفيان بن حرب: ما رأيت أحدا يحب أحدا من الناس كحب أصحاب محمد محمدا.
وكثرت الوفود في السنة التاسعة للهجرة حتى سمي عام الوفود، وفي سنة سبع بعث دحية الكلبي بكتاب إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل ليدفعه إلى قيصر، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس في مصر، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر ابن ساوى ملك البحرين، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحرث بن أبي شمر الغساني، والمهاجر بن أبي أمية إلى الحرث ملك اليمن، يدعوهم كلهم إلى الإسلام.
وجاءت وفود العرب من كل وجه، وكان الرسول يكرمهم ويفضل عليهم بعطائه، ومنهم من يضيفه عشرة أيام كوفد عبد القيس، ومنهم من يبالغ في إكرامه كملوك اليمن، وإنما سموا ملوكا؛
25
لأنه كان لكل واحد منهم واد يملكه بما فيه، وكانت كتبه إلى ملوك الأطراف خارج الجزيرة بلغة مضر وفصيح ألفاظها وكلها موجزة، واستعمل ألفاظا في بعض كتبه إلى أهل اليمن وغيرهم غير معروفة للعرب كافة إلا في قبيل واحد، وذلك إرادة إفهام القوم ومخاطبتهم بمألوفهم من العبارات،
26
قال علي للرسول، وقد سمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره، فقال: «أدبني ربي فأحسن تأديبي، وربيت في بني سعد.» فكان يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم وقبائلهم بما يفهمون.
ولم يكن للرسول بيت مال، وكان يخبأ الأموال في بيته وبيوت أصحابه، وفي الغالب أن الفيء يقسم من يومه، خصوصا إذا كان من الناطق كالإبل والشياه والخيل والبغال، والرسول يعطي الآهل
27
من الفيء حظين والعزب حظا،
28
وبلغ من تبادل الثقة
29
والحب بين المسلمين في صدر الإسلام أنهم كانوا خلطاء بالمال، يأخذ فقيرهم من مال الآخر؛ لقوله تعالى:
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ولقد أهديت لعبادة بن الصامت
30
هدية، وإن معه في الدار اثني عشر من أهل بيته، فقال عبادة: اذهبوا بهذه إلى آل فلان فهم أحوج إليها منا، قال الوليد بن عبادة: فأخذتها، فكنت كلما جئت أهل بيت يقولون: اذهبوا بها إلى آل فلان فهم أحوج منا إليها، حتى رجعت الهدية إلى عبادة قبل الصبح.
كان بالمدينة في زمن النبي شاب يقال له مالك بن ثعلبة الأنصاري ولم يكن بالمدينة شاب أغنى منه، فمر بالنبي والنبي يتلو هذه الآية: (والذين يكنزون إلى قوله فذوقوا ما كنتم تكنزون)، فغشي على الشاب فلما أفاق دخل على النبي فقال: بأبي أنت وأمي هذه الآية لمن كنز الذهب والفضة؟ فقال له النبي: نعم يا مالك، قال: والذي بعثك بالحق ليمسين مالك ولا يملك دينارا ولا درهما، قال: فتصدق بماله كله.
وما كان أصحاب رسول الله بالمنخرقين
31
ولا المتماوتين،
32
يتناشدون الأشعار، ويجلسون في مجالسهم، ويذكرون جاهليتهم، فإن أريد إنسان منهم على شيء من أمر دينه دارت عيناه فترى حماليقها
33
غضبا، بل كان منهم من إذا ارتكب كبيرة يعاقب عليها الإسلام يأتي الرسول يطلب إقامة الحد الشرعي عليه، أو يسمع منه ما ينقلب به إلى أهله مسرورا، يأخذ حكمة تثلج بها نفسه، ويعتقد أنه تحلل من ذنبه واستغفر له الرسول.
وأراد النبي مرة إحصاء المسلمين، فقال: اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس، فكتبوا له ألفا وخمسمائة رجل، وما كان يجمع المسلمين في أول أمرهم كتاب حافظ، أي ديوان مكتوب،
34
وكان إذا نودي للزحف وتخلف عنه أحدهم لعذر أو شبه عذر، يلومه الرسول وأصحابه، وإذا تبين أنه تعمد أن يكون مع المتخلفين عن القتال يعاتب، ويقاطعه الجماعة ويجتنبونه لا يكلمه أحد، ولما أمر الرسول بالتهيؤ لغزو الروم في تبوك، تثاقل المسلمون عنها وأعظموا غزوهم، فنافق من نافق من المنافقين، حين دعوا إلى ما دعوا إليه من الجهاد، وكان «ذلك في زمن عسرة
35
من الناس، وشدة من الحر، وجدب في البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم فيه» وجاء المتخلفون عن هذه الغزاة وكانوا ثمانين رجلا، فقبل الرسول منهم علانيتهم وأيمانهم، واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وفي هذه الغزوة حض الرسول أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وكان من أفضل القربات أن يجهز أرباب اليسار أناسا للغزو يتكفلون بطعامهم وإطعام ذويهم، ويعطونهم السلاح والكراع واللباس ليغزوا ويرابطوا،
36
وكان المسلمون كلهم جندا يقاتلون للدين وكان لا يزال فيهم أبدا من يبذل شطرا صالحا من ماله في وجوه البر والقرب، لا يريدون على إسلامهم ونصرهم للرسول جزاء، وكان الرسول يوري بغزواته، وقل أن يعين لأصحابه الوجهة التي يقصدها في غزاته، وكتب مرة لأحدهم كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وكان لا يستكره من أصحابه أحدا، أي لا يندبهم للعمل قسرا، وذلك ليترصد بذلك قريشا ويعلم له من أخبارهم.
ولم يكن للمسلمين سلاح جاهز، وسلاحهم القوس والنبل والحربة والسيف والدرع والمغفر
37
والنسبغة
38
ثم اتخذ أنواع السلاح التي كانت موجودة إذ ذاك عند الأمم، واستعار الرسول يوم هوازن
39
مائة درع بما يكفيها من السلاح من صفوان بن أمية ليلقى بها العدو، على أن تكون عارية مضمونة حتى يؤديها إليه، ورأى الرسول أن اتساع الفتوح يقضي بأن يتعلم بعض أصحابه صنعة الدبابات والمجانيق والضبور
40
أي صنائع القتال، فأرسل إلى جرش اليمن اثنين من أصحابه يتعلمانها، وكان أهل الطائف أول من رمي بالمنجنيق، وأخذ المسلمون بعيد ذلك يعدون لأعدائهم ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل؛ لأنهم قادمون على فتح الشام والعراق على ما بشرهم به الرسول، فقال لعدي بن حاتم: لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عددهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم. وقال مرة: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكتهم.
كان إذا سقط في يد الرسول أحد أذكياء المشركين أبقى عليه في الغالب، عل في حياته ما يستفيد منه الإسلام إذا أسلم، أما من قتلوا النفس التي حرم الله فهؤلاء لا تأخذه بهم رحمة، قدم عليه نفر من العرب قد ماتوا هزالا فأسلموا واجتووا
41
المدينة فأمرهم الرسول أن يأتوا إبل الصدقة يشربون من ألبانها ففعلوا وصحوا وسمنوا فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل فبعث في آثارهم، فما ترجل
42
النهار حتى جيء بهم وأوقع عليهم أشد العقوبة الشرعية.
وكان يسمح باستخدام النساء في حروبه وغزواته، يخدمن الجرحى ويأخذن من العطاء، ويتولين من الرجال ما يصلحن له كالطعام والإسقاء، ويحمسن من يحتاج إلى تحميس، وجعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحبس نفسها على خدمة من كان فيه ضيقة من المسلمين، وكذلك كانت أخت رفيدة واسمها كعبة بنت سعيد الأسلمية، ومنهن من كن يخطن القرب، فالنساء في حكومته ممرضات طاهيات ساقيات خياطات محمسات داعيات، وأمر الرسول أن لا يقتل النساء في الحرب، فكان بذلك يستفيد من كل قوة في بلده يستعين بها على الظهور على المشركين.
ومن خطبه الإدارية ما ورد في الثقات أنه قعد على بعير له وأخذ إنسان بخطامه أو بزمامه فقال: أي يوم هذا؟ قال من حضر: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فأي شهر هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ قالوا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قال: فأمسكنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه؟ فقال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأعراضكم (وفي رواية وأموالكم) بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد الغائب.
وجه الرسول علي بن أبي طالب إلى بعض الوجوه، فقال له فيما أوصاه: قد بعثتك وأنا بك ضنين، فابرز للناس وقدم الوضيع على الشريف، والضعيف على القوي، والنساء قبل الرجال، ولا تدخلن أحدا يغلبك على أمرك، وشاور القرآن فإنه إمامك.
هذا جملة ما يقال في تدبير الرسول في الإدارة من بث دعوة، وجهاد عدو، وأخذ غنائم وصدقات وجزى وعشور، وقسمتها بين المجاهدين وأهل البلاء من المهاجرين والأنصار، ثم على فقراء المسلمين، وما كان من توزيعه العمل بين عماله ومعاملته لهم وللوفود والنساء، واتخاذ الجند والمحاربين، واشتداده في الحق، ولينه إذا دعت الحال إلى اللين، وإغضائه أحيانا لما يلحق به من الأذى، يرتقب الفرص لمن يكيد للمسلمين.
ومما يصح التمثل به في باب اللين أنه رضي يوم الحديبية أن يدخل وأصحابه مكة ثلاثة أيام فقط على أن يكونوا بجلبان
43
السلاح، وصالح سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي فدعا علي بن أبي طالب، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله: اكتب باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال،
44
وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه إلخ. فاستاء المسلمون من هذا العهد بعد أن فازوا على أعدائهم؛ وأحب الرسول حقن الدماء فقبل من خصمه هذا العنت. ويقول القسطلاني:
45
إن الحكمة في موافقة الرسول سهيلا على أن لا يأتيه منهم رجل إن كان على دين الإسلام إلا رده إلى المشركين؛ أن فتحت مكة وأسلم أهلها كلهم، وكانوا قبل الصلح لا يختلط المشركون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي كما هي، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة ، وذهب المسلمون إلى مكة ودخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي ومعجزاته الظاهرة، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم، لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي.
إدارة الخلفاء الراشدين
إدارة أبي بكر الصديق
سار أبو بكر بسيرة الرسول في الإدارة الإسلامية، واحتفظ بالعمال الذين استعملهم صاحب الشريعة، والأمراء الذين أمرهم ، ومن العمال من أبى أن يعمل لغير رسول الله فاعتزل العمل، ولما وسدت الخلافة إلى الصديق قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك المال، وقال عمر: وأنا أكفيك القضاء، فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان، ولم يخاصم إليه أحد، وذلك لأن الناس كانوا أول ظهور الإسلام يرون من الطبيعي أن يعطي الإنسان الحق ويأخذ الحق، ويقف عند حدود الله لا يقارف منكرا ولا يسرف على نفسه، ويبعد عن الزور وأكل أموال الناس بالباطل، ويجعل رائده الصدق في أقواله وأفعاله.
كان إذا نزل بالصديق أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه، ودعا رجالا من المهاجرين والأنصار، دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وكل هؤلاء كان يفتي الناس في خلافة أبي بكر، على أن أبا بكر كان جد عالم بالشريعة وأخبار الناس وأيامهم وأنسابهم وسياساتهم، إلى ما رزق من صدر رحب يطلب من كل صاحب إدارة، واختار من القضاة ما اختاره الولاة غالبا، وكان ولاة المدينة
1
هم الذين يختارون القضاة ويولونهم، ويكتب لأبي بكر علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت، ويكتب له الأخبار عثمان بن عفان
2
ويكتب له من حضر،
3
ومن عماله عتاب بن أسيد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي العاص والمهاجر بن أبي أمية وزياد بن عبيد الله الأنصاري ويعلى بن منية وأبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل والعلاء بن الحضرمي وجرير بن عبد الله وعبد الله بن ثور وعياض بن غنم وأبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وخالد بن الوليد.
ما تجاوزت رقعة الملك الإسلامي في أيام أبي بكر أكثر من جزيرة العرب قسمت إلى ولايات أو عمالات، وهي مكة والمدينة والطائف وصنعاء وحضرموت وخولان وزبيد ورمع والجند ونجران وجرش والبحرين، أما القواد الآخذون بفتح الشام والعراق فيولون عمالا من عندهم في الأرض التي يفتحونها، بمعنى أن الحجاز قسم إلى ثلاث ولايات، واليمن إلى ثمان، والبحرين وما إليها ولاية.
ولما ولي أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن لتعجز عن مئونة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين وسأحترف للمسلمين في مالهم، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، فجعلوا له ألفين، (وفي رواية ثلاثة دراهم كل يوم من بيت المال)،
4
ثم قال: زيدوني فإن لي عيالا، وقد شغلتموني عن التجارة فزادوه خمسمائة، ولما مات ابنه في خلافته ترك سبعة
5
دنانير فاستكثرها أبو بكر، ولم يفرض أبو بكر ولا الرسول من قبل عطاء مقررا للجند،
6
وكانوا إذا غزوا وغنموا أخذوا نصيبا من الغنائم قررته الشريعة لهم، وإذا ورد المدينة مال من بعض البلاد أحضر إلى مسجد الرسول وفرق فيهم، يصيب منه الأنصار والمهاجرون وكل مسلم بحسب غنائه في نصرة الدين، جرى الأمر على ذلك مدة خلافة أبي بكر، وكان لأبي بكر
7
بيت مال بالسنح من ضواحي المدينة، فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قالوا: فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين فلا يبقى منه شيء، ولما قضى نحبه ذهب عمر في نفر من الصحابة لتسلم بيت المال فلم يجدوا فيه شيئا.
وجرى أبو بكر على كشف أحوال العمال، وكان كصاحبه يختار أكثرهم علما وعملا، ولما عزل خالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة، وكان أحد الأمراء، فقال: انظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثل ما كنت تحب أن يعرف لك من الحق عليه لو خرج واليا عليك، وقد عرفت مكانه من الإسلام وأن رسول الله توفي وهو له وال، وقد كنت وليته ثم رأيت عزله، وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه، ما أغبط أحدا بالإمارة، وقد خيرته في أمراء الأجناد فاختارك على غيرك، اختارك على ابن عمه، فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وليك خالد بن سعيد ثالثا، فإنك واجد عندهم نصحا وخيرا، وإياك واستبداد الرأي عنهم، أو أن تطوي عنهم بعض الخبر.
وخالد بن سعيد هو الذي نصح لأبي بكر، لما وجهه لفتح الشام فقال له: يا أبا بكر، إن الله قد أكرمنا وإياك والمسلمين طرا بهذا الدين، فأحق من أقام السنة وأمات البدعة وعدل في السيرة الوالي على الرعية، كل امرئ من هذا الدين محفوف بالإحسان إلى إخوانه، ومعدلة الوالي أعم نفعا؛ فاتق الله يا أبا بكر فيما ولاك الله من أمره، وارحم الأرملة واليتيم وأعن الضعيف والمظلوم، ولا يكن رجل من المسلمين إذا رضيت عنه آثر في الحق عندك منه إذا سخطت عليه، ولا تغضب ما قدرت عليه، فإن الغضب يجر الجور ولا تحقد وأنت تستطيع، فإن حقدك على المؤمن يجعله لك عدوا، فإن اطلع على ذلك منك عاداك، فإذا عادت الرعية الراعي كان ذلك مما يكون إلى هلاكهم داعيا، ولن للمحسن واشتد على المريب، ولا تأخذك في الله لومة لائم. فلما خرج من المدينة وأبو بكر يشيعه قال له أبو بكر: قد أنصت لك إذ أوصيتني برشدي وقد وعيت وصيتك، فأنا موصيك فاسمع وصيتي: إنك امرؤ قد جعل الله لك سابقة في هذا الدين، وفضيلة عظيمة في الإسلام، والناس ناظرون إليك ومستمعون منك، وقد خرجت في هذا الوجه وأنا أرجو أن يكون خروجك بنية صالحة، فثبت العالم، وعلم الجاهل، وعاتب السفيه المترف، وانصح لعامة المسلمين، واخصص الوالي على الجند بنصيحتك ومشورتك بما يحق للمسلمين، واعمل لله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى.
دعا أبو بكر عمرو بن العاص وسلم إليه الراية، وقال: قد وليتك هذا الجيش فانصرف إلى أهل فلسطين، وكاتب أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك، ولا تقطع أمرا إلا بمشورته، اتق الله في سرك وعلانيتك، واستحيه في خلواتك، فإنه يراك في عملك، وقد رأيت تقدمتي لك على من هم أقدم منك سابقة وأقدم حرمة، فكن من عمال الآخرة، وأرد بعملك وجه الله، واسلك طريق إيلياء حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وإياك أن تكون وانيا عما ندبتك إليه، وإياك أن تقول: جعلني ابن أبي قحافة في نحر العدو ولا قوة لي به، واعلم يا عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر فأكرمهم واعرف حقهم، ولا تتطاول عليهم بسلطانك، ولا تداخلك نخوة الشيطان فتقول: إنما ولاني أبو بكر لأني خيرهم، وإياك وخدائع النفس، وكن كأحدهم وشاورهم فيما تريد من أمرك ... وكان مما قاله أبو بكر ليزيد بن أبي سفيان: إني قد وليتك لأبلوك وأجربك وأخرجك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك. فأبو بكر على هذا بدأ بتجربة من توسم فيهم الغناء من القواد، وهددهم بالعزل إذا لم يحسنوا، واختط لهم الخطة الواجبة في مشاورة من معهم، وحذرهم الاعتداد بأنفسهم، فكانوا عند حسن ظنه بهم.
ولم يحدث أبو بكر في أيامه أحداثا جديدة، والفتوح لم تقف مع حروب الردة، ووجه وجهته نحو الشام وكان آخر جيش جهزه جيش اليرموك، جهزه بكل حكمة وبذل في تنظيمه أقصى الجهد، وجعل فيه قاصا، وجعل أبا سفيان بن حرب قاصا يسير في الجماعة ويقول: الله الله عباد الله انصروا الله ينصركم، اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك، يا نصر الله اقترب، يا نصر الله اقترب. وقصاص الجند يقصون عليهم أخبار الوقائع والفروسية وقصصا وأحاديث عن الأمم الماضية وأساطير وحكايات.
إدارة عمر بن الخطاب
كانت أول خطبة خطبها عمر بن الخطاب لما ولي الخلافة: أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ له الحق، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه، وما كان عمر ممن أولع بإلقاء الخطب كثيرا، على بلاغة فيه مستحكمة وعلم غزير، ولا يرتقي المنبر إلا إذا قضت الضرورة، وأراد بيان أمر ذهبت فيه نزوات النفوس مذهبا لا يرضاه، وكثيرا ما قال: إن هذا الأمر لا يصلح فيه إلا اللين في غير ضعف، والقوي في غير عنف، وكذلك كان عمر يجمع بين اللين والشدة، وهو إلى هذه ولا سيما على عماله أقرب.
طريقة عمر في الإدارة طريقة أبي بكر وصاحبه من قبل: إطلاق الحرية للعامل في الشئون الموضعية، وتقييده في المسائل العامة، ومراقبته في خلوته وجلوته، «وكان
8
علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته، كعلمه بمن بات معه في مهاد واحد، وعلى وساد واحد، فلم يكن له في قطر من الأقطار، ولا ناحية من النواحي عامل ولا أمير جيش إلا وعليه له عين لا يفارقه ما وجده، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممسى ومصبح، وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله وعمالهم حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الخلق إليه وأخصهم به.» كان كما قال المغيرة بن شعبة أفضل من أن يخدع وأعقل من أن يخدع.
كان إذا استعمل العمال خرج معهم يشيعهم
9
فيقول: إني لم أستعملكم على أمة محمد على أشعارهم
10
ولا على أبشارهم، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل، لا تجلدوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها
11
فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها، جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن محمد
صلى الله عليه وسلم
وأنا شريككم. وكان يقص من عماله، وإذا شكي إليه عامل جمع بينه وبين من شكاه، فإن صح عليه أمر يجب أخذه به أخذه.
وكان إذا بعث أمراء الجيوش يوصيهم بتقوى الله وأن لا يعتدوا ولا يجبنوا عند اللقاء، ولا يمثلوا عند القدرة، ولا يسرفوا عند الظهور، ولا يقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، وأن يتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وشنت الغارات، وأن لا يغلوا عند الغنائم، وينزهوا الجهاد عن عرض الدنيا، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص: أما بعد؛ فإني آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا وإن أسأنا حرب قوم قد سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفرة المجوس
فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ، واسألوا الله المعونة على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله ذلك لنا ولكم، وترفق بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيرا يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم، والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع، وأقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة حتى تكون لهم راحة يجمون فيها أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ أحدا من أهلها شيئا، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لها فعفوا لهم، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح، وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره، وإن صدق في بعضه، والغاش عين عليك وليس عينا لك، وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر من الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم، فتقطع سرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم، وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر والجلاد، ولا تخص بها أحدا يهوى، فيضع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك، ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجه تتخوف عليها فيه ضيعة ونكاية، فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوك كصنيعه بك، ثم أذك حراسك على عسكرك، وتحفظ من البيات جهدك، ولا تؤت بأسير ليس له عهد إلا ضربت عنقه، ترهب بذلك عدوك وعدو الله، والله ولي أمرك ومن معك، وولي النصر لكم على عدوكم وهو المستعان.
كان عمال عمر عرضة لكشف أحوالهم مهما بلغ من منزلتهم، وكان إذا شكي
12
إليه عامل أرسل محمد بن مسلمة يكشف الحال، وله عدة طرق في كشف سيرة عماله، منها أن يأمر عماله أن يوافوه بالموسم فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم، فما قام إلا رجل واحد، فقال: إن عاملك فلانا ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه.
فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك، فقال: كيف
13
لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه؟ قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فارضوه، فافتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين، وقال: من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي إلا أن يرفعها إلي حتى أقصه منه، فقيل له: أرأيت إن أدب أمير رجلا من رعيته أتقصه منه؟ فقال: وما لي لا أقصه منه، وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه؟
قالوا: وكان أبا العيال
14
يسلم على أبوابهن ويقول: ألكن حاجة وأيتكن تريد أن تشتري شيئا فيرسلون معه بحوائجهن، ومن ليس عندها شيء اشترى لها من عنده، وإذا قدم الرسول من بعض الثغور يتبعه بنفسه في منازلهن بكتب أزواجهن ويقول: أزواجكن في سبيل الله، وأنتن في بلاد رسول الله، إذا كان عندكن من يقرأ وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكن ثم يقول: الرسول يخرج يوم كذا وكذا فاكتبن حتى نبعث بكتبكن، ثم يدور عليهن بالقراطيس والدواة يقول: هذه دواة وقرطاس فادنين من الأبواب حتى أكتب لكن، ويمر إلى المغيبات فيأخذ كتبهن فيبعث بها إلى أزواجهن.
وكان إذا استعمل عاملا أوصاه بتقوى الله وإصلاح الرعية وكتب عليه كتابا وأشهد عليه رهطا من الأنصار ألا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين، ثم يقول: اللهم اشهد. وكتب إلى عماله: أما بعد، فإياكم والهدايا فإنها من الرشا. اهتدى إلى عظيم ضرر الهدايا مما بدر من رجل
15
كان يهدي إليه فخذ جزور فخاصم إليه رجلا فقال: يا أمير المؤمنين، اقض بيننا قضاء فصلا، كما تفصل الرجل من سائر الجزور، فقضى عليه عمر، ثم كتب إلى عماله إن الهدايا هي الرشا. وكان عمر إذا قدم العمال يأمرهم أن يدخلوا نهارا ولا يدخلوا ليلا كي لا يحتجنوا
16
شيئا من الأموال، وكان يعس
17
بنفسه ويرتاد منازل المسلمين ويتفقد أحوالهم، ويتعهد أهل البؤس والفاقة بنفسه.
كتب إلى أبي موسى الأشعري عامله على العراق يأمره بالقدوم عليه هو وعماله وأن يستخلفوا جميعا، يريد أن يعرف حالتهم بعد أن تبنكوا
18
في النعيم، وعهدت إليهم مصالح الناس، فأدرك عامل البحرين من بين كثير من العمال أن عمر يرغب في الخشونة، وعرف أنه سيدعوهم إلى طعامه فتجوع له، واتخذ خفين مطارقين
19
ولبس جبة صوف ولاث
20
عمامته على رأسه، فدعاهم عمر إلى خبز وأكسار
21
بعير، فجعلوا يعافونه؛ لأنهم حديث عهدهم بلين العيش، وعمر يلحظهم، ولفت عامل البحرين نظر عمر، وتهافته على تناول الطعام، فسأله عمر عن عمله ثم عن جعله فأجاب إنه يرزق ألفا، فقال له عمر: إنه كثير ما تصنع به؟ قال: أتقوت منه شيئا وأعود به على أقارب لي، فما فضل عنهم فعلى فقراء المسلمين، فأمر عمر أبا موسى أن يستبدل بأصحابه، وأبقى عامل البحرين في عمله؛ لأنه رآه مقلا متقشفا لا يخشى أن يسرف في المال، وولى عمر رجلا بلدا فوفد عليه
22
فجأة مدهنا حسن الحال في جسمه، عليه بردان، فقال له عمر: أهكذا وليناك؟ ثم عزله ودفع إليه غنيمات يرعاها، ثم دعا به بعد مدة فرآه باليا أشعث في ثوبين أطلسين ،
23
وذكر عند عمر بخير فرده إلى عمله، وقال: كلوا واشربوا وادهنوا فإنكم تعلمون الذي تنهون عنه.
كان إذا قدم وفد على عمر سألهم عن حالهم وأسعارهم، وعمن يعرف من أهل البلاد وعن أميرهم هل يدخل إليه الضعيف وهل يعود المريض، فإن قالوا: نعم، حمد الله تعالى، وإن قالوا: لا، كتب إليه: أقبل. وكان من سنة
24
عمر وسيرته أن يأخذ عماله بموافاة الحج في كل سنة للسياسة وليحجزهم بذلك عن الرعية، وليكون لشكاتهم وقت وغاية ينهونها إليه، كتب إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد، فإن للناس نفرة فأعوذ بالله أن تدركني وإياك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، أقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا عرض لك أمران: أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله، فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وأخيفوا الفساق واجعلوهم يدا يدا ورجلا رجلا، وعد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح لهم بابك، وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملا، وقد بلغني أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصيب فلم يكن لها هم إلا السمن، وإنما حتفها في السمن، واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقي الناس به والسلام.
وبلغ عمر أن أبا عبيدة عامله على الشام يسبغ على عياله، وقد ظهرت شارته، فنقصه من عطائه الذي كان يجري عليه، ثم سأل عنه فقيل له: قد شحب لونه، وتغيرت ثيابه، وساءت حاله، فقال: يرحم الله أبا عبيدة ما أعف وأصبر! فرد عليه ما كان حبس عنه وأجراه عليه. ودخل عمر منزل أبي عبيدة فلم ير إلا لبدا وصحفة وشنا،
25
وسأله طعاما فأخرج له من جونة
26
كسيرات فبكى عمر وقال: غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة، وأرسل إليه أربعمائة دينار، وسأل من أرسله أن يقف على ما يفعل بها فوزعها أبو عبيدة كلها، وأرسل مثلها إلى معاذ بن جبل فوزعها إلا أشياء قليلة سألته امرأته إياها لحاجتها، فقال عمر لما أخبر بذلك: الحمد الله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا.
كان معظم عمال عمر على غرار أبي عبيدة ومعاذ من التقشف والتبلغ باليسير، وكان إذا لم تقنع نفسه بحسن سيرهم على الصورة التي لا يرى غيرها، لا يتلكأ عن عزلهم، فقد شكا أهل حمص عاملهم سعيد بن عامر وسألوه عزله؛ لأنه لا يخرج للناس حتى يرتفع النهار، ولا يجيب أحدا بليل، وله في الشهر يوم لا يخرج فيه، فلما أيقن عمر أن عامله يعجن كل يوم خبزه ويجلس حتى يختمر فيخبزه ثم يخرج للناس، وأنه يجعل الليل كله للعبادة، وأنه يشتغل مرة في الشهر بغسل ثيابه، بعث إليه عمر ألف دينار يستعين بها فوزعها على جيش من جيوش المسلمين.
وقدم سعيد بن عامر على عمر بالمدينة فلم ير عمر معه إلا عكازا وقدحا فقال له: ليس معك إلا ما أرى؟ فقال له سعيد: ما أكثر من هذا؟ عكاز أحمل عليه زادي وقدح آكل فيه، وكان من عماله عمير بن سعد وفيه يقول عمر: وددت لو أن لي رجلا مثل عمير بن سعد
27
أستعين به على أعمال المسلمين، وعمير هذا هو الذي قال على منبر حمص: «لا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان، وليس شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذا بالعدل.» وهذا من أبعد مرامي الإدارة العادلة إذا أحس أهل عمل من عاملهم العدل لا يحتاج في سياستهم إلى شيء من الشدة.
كتب عمر إلى عمير أيام كان عامله على حمص: أقبل بما جبيت من فيء المسلمين. فسأله عمر عما عمله، فقال: بعثتني حتى أتيت البلد فجمعت صلحاء أهلها فوليتهم جباية فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به، قال: فما جئتنا بشيء؟ قال: لا، قال: جددوا لعمير عهدا، فقال عمير: لا عملت لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسلم، لقد قلت لنصراني: أي أخزاك الله، فهذا ما عرضتني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خلقت معك يا عمر. وكان إذا استعمل عاملا كتب عهده:
28 «وقد بعثت فلانا وأمرته بكذا.» فلما استعمل حذيفة بن اليمان على المدائن كتب في عهده أن اسمعوا له وأطيعوا وأعطوه ما سألكم، فلما قدم المدائن استقبله الدهاقين، فلما قرأ عهده قالوا: سلنا ما شئت، قال: أسألكم طعاما آكله وعلف حماري ما دمت فيكم. فأقام فيهم، ثم كتب إليه ليقدم عليه، فلما بلغ عمر قدومه كمن له في الطريق، فلما رآه على الحال التي خرج من عنده عليها أتاه فالتزمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك.
29
فعمر إذا لم يختر للأعمال إلا أفاضل الرجال ممن كانوا على سمته وزهده، وكان كثيرا ما يستعمل قوما ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل ويقول: أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل، وكان يشاور في كثير من الوقائع حتى قال يوما لأصحابه: أشيروا علي ودلوني على رجل أستعمله في أمر قد دهمني فقولوا ما عندكم، فإني أريد رجلا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، إذا كان فيهم وهو أميرهم كان كأنه واحد منهم، فقالوا: نرى لهذا الصفة الربيع بن زياد الحارثي فنشير على أمير المؤمنين به، فأحضره وولاه، فوفق في عمله، وقام فيه بما أربى على رجاء عمر وزاد على عمله، فشكر عمر لمن أشاروا عليه بولاية الربيع.
كتب عمر إلى عامله على البحرين العلاء بن الحضرمي أن سر إلى عتبة بن غزوان فقد وليتك عمله، واعلم أنك تقدم على رجل من المهاجرين الأولين الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وإني لم أعزله ألا يكون عفيفا صليبا شديد البأس، ولكن ظننت أنك أغنى عن المسلمين في تلك الناحية فاعرف له حقه. ولما سير عمر عتبة بن غزوان إلى البصرة ليقاتل من بالأبلة من فارس قال له: انطلق أنت ومن معك حتى تأتوا أقصى مملكة العرب وأدنى مملكة العجم، وأمره أن يشاور عرفجة بن هرثمة؛ لأنه ذو مجاهدة للعدو وذو مكايدة، وعزل عن بعض ولاية الشام شرحبيل بن حسنة واستعمل بدلا منه معاوية بن أبي سفيان، واعتذر على رءوس الأشهاد أنه لم يعزله عن شيء هجنه به، بل أراد رجلا أقوى من رجل، وبعث المغيرة بن شعبة عاملا على الكوفة لأنه قوي مشدد، وكان عمر سأله عن الضعيف والقوي فقال: أما الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وفضله له، وأما القوي المشدد فقوته لك وللمسلمين وشداده عليه. وعزل النعمان بن عدي عامله على ميسان؛ لأنه بلغه أنه قال أبياتا في التشبيب، تشير إلى أنه يتعاطى الراح، مع أنه عارف بأن ذلك لم يكن وإنما هو قول شاعر. وعزل زياد بن أبي سفيان فقال زياد: أعن عجز عزلتني يا أمير المؤمنين أم عن خيانة؟ فقال: لا عن ذاك ولا عن هذا، ولكني كرهت أن أحمل على العامة فضل عقلك. وكتب إلى سعد بن أبي وقاص أن شاور طلحة الأسدي وعمر بن معدي كرب في أمر حربك، ولا تولهما من الأمر شيئا، فإن كل صانع هو أعلم بصنعته. وكتب إلى النعمان
30
بن مقرن أن قبلك رجلين هما فارسا العرب عمرو بن معدي كرب وطلحة بن خويلد فشاورهما في الحرب ولا تولهما شيئا من الأمر. وبعث مع أبي عبيد بن مسعود سليط بن قيس لفتح العراق وقال له: لولا عجلة فيك لوليتك، ولكن الحرب زبون لا يصلح لها إلا الرجل المكيث.
31
وسأل عمر عمرو بن معدي كرب عن خبر سعد بن أبي وقاص نفسه فقال: متواضع في حبائه،
32
عربي في نمرته، نبطي في جبوته، أسد في تاموره،
33
يعدل في القضية ويقسم بالسوية، ويبعد في السرية، ويعطف علينا عطف الأم البرة، وينقل إلينا حقنا نقل الذرة، ولما شكا أهل الكوفة سعدا عزله عمر ولم تأخذه به هوادة؛ لأن الغاية إنفاذ العمل النافع للناس على يد أي كان من عماله، وألا يفتح للمسلمين بابا للشكوى، وخير ضروب السياسة أن يكون عمل العاملين فيها أكثر من قول القائلين، وسعد هذا هو الذي كان أجمع الصحابة على توسيد حرب العراق إليه، فأوصاه عمر بقوله يا سعد سعد بني وهب ، لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله وصاحب رسول الله، فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ ولكنه يمحو السيئ بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي منذ بعث إلى أن فارقنا يلزمه فالزمه فإنه الأمر، هذه عظتي إليك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك، وكنت من الخاسرين، وذهب سعد بهذه النصيحة فكان على يده فتح العراق.
كتب عمر إلى سعد حين افتتح العراق: «أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا جاءك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك إلى العسكر من كراع أو مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمالها، ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر، لم يكن لمن بقي بعدهم شيء، وقد كنت أمرتك أن تدعو الناس ثلاثة أيام فمن استجاب لك وأسلم قبل القتال، فهو رجل من المسلمين له ما لهم وله سهم في الإسلام، ومن استجاب لك بعد القتال وبعد الهزيمة فهو رجل من المسلمين، وماله لأهل الإسلام لأنهم قد أحرزوه قبل إسلامه، فهذا أمري وعهدي إليك، ولا عشور على مسلم ولا على صاحب ذمة إذا أدى المسلم زكاة ماله وأدى صاحب الذمة جزيته التي صالح عليها، إنما العشور على أهل الحرب إذا استأذنوا أن يتجروا في أرضنا فأولئك عليهم العشور.»
كان عمر على شدة فيه مع عماله إذا أحس اعتداء أو شبه اعتداء وقع على أحدهم يشتد على المعتدين في تلك الناحية ليبقى للعامل هيبة توقره في الصدور؛ ومهابة يلجم بها العامة والخاصة. وقع له مرة أن حصب
34
أهل العراق إمامهم، وقد كان عوضهم إماما مكان إمام كان قبله فحصبوه، فغضب وقال لأهل الشام: تجهزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ، ودعا عليهم، ذلك لأن شكوى العراقيين عاملهم كانت باطلة، وهو الذي يتحرى في انتقاء عماله ولا يستسلم لأحد منهم، بل يجعل بعضهم رقيبا على بعض، وله عليهم سلطان دونه كل سلطان. شكا عتبة بن غزوان
35
تسلط سعد بن أبي وقاص عليه فسكت عنه عمر، فأعاد عتبة ذلك مرارا، فلما أكثر على عمر قال: وما عليك يا عتبة أن تقر بالإمرة لرجل من قريش له صحبة مع رسول الله وشرف؟ فقال له عتبة: ألست من قريش والرسول يقول: حليف القوم منهم، ولي صحبة مع رسول الله قديمة لا تنكر ولا تدفع؟ فقال عمر: لا ينكر ذلك من فضلك، قال عتبة: أما إذا صار الأمر إلى هذا فوالله لا أرجع إليها أبدا؟ فأبى عمر إلا أن يرده فرده فمات في الطريق، وهذا من تأثير عمر في عماله ومعاملته لهم بما تريد المصلحة لا بما يريدون. مثال آخر يخالف هذا - والإدارة تختلف باختلاف الأزمان والبلدان - خالف معاوية وهو أمير الشام عبادة بن الصامت في شيء أنكره عبادة فأغلظ له معاوية في القول، فقال عبادة: لا أساكنك بأرض واحدة أبدا ورحل إلى المدينة، فقال عمر: ما أقدمك؟ فأخبره، فقال: ارجع إلى مكانك يفتح الله أرضا لست فيها أنت ولا أمثالك، وكتب إلى معاوية لا إمرة لك عليه، ذلك أن عمر لم يكن يستغني عن خدمة معاوية ولا عن فضل عبادة.
كان عمر وهو خليفة لا يميز نفسه من جمهور الناس بشيء في لباسه ومركبه وحركته، يختلط بالشعب كأنه واحد منهم، ومع هذا كان الناس يخافونه، ولو وقع مثل هذا التواضع أو التبذل من أحد أفراد الناس لجسروا عليه وضعف سلطانه عليهم، إن كان من أرباب السلطان. ولقد كلم الناس عبد الرحمن بن عوف أن يكلم عمر في أن يلين لهم فإنه قد أخافهم، حتى إنه أخاف الأبكار في خدورهن، فقال عمر: إني لا أجد لهم إلا ذلك إنهم لو يعلمون ما لهم عندي لأخذوا ثوبي عن عاتقي، وقال عمر: قد ألنا وإيل علينا، أي ولينا وولي علينا، معناه قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية.
وما أرانا نبعد عن الصواب إذا حكمنا أن شطرا عظيما من وقت عمر في ولايته كان يصرفه في سياسة العمال وكشف حالهم وانتقاء أصلحهم وتسليكهم في الإدارة والسياسة والقضاء، على أسلوب محكم لا تكاد تلحق به في هذا القرن أعرق الدول الحديثة في المدنية، وأفضلها بنظمها الإدارية والدستورية، ولعل في الناس من يقول: إذا عرضنا هنا لمصادرات عمر، وهذا أيضا من باب الشدة المتناهية والحجر على حرية العمال، وإدخال الخوف عليهم بالضرب على أيديهم على صورة تحرمهم متع الحياة، ولا توليهم منه غير الجفاء والخشونة في المعاملة، نعم هكذا كان عمر، وهكذا وضع أساس الملك الإسلامي؛ هو لا يجوز إغناء أفراد بإفقار أمة، ولا إسعاد فئة بإشقاء مجموع، كان ممن يشترون رضا العامة بمصلحة الأمراء،
36
فكان الوالي في نظره فردا من الأفراد، يجري حكم العدل عليه كما يجري على غيره من سائر الناس، فكان حب المساواة لا يعدله شيء في أخلافه، إذا اشتكى العامل أصغر الرعية جره إلى المحاكمة حيث يقف الشاكي والمشكو منه يسوي بينهما في الموقف حتى يظهر الحق، فإن توجه قبل العامل اقتص منه، إن كان هناك داع إلى القصاص، أو عامله بما تقضي به الشريعة أو عزله، ومن عادة عمر أن يكتب أموال عماله إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك وربما أخذه منهم، مر ببناء يبنى
37
بحجارة وجص فقال: لمن هذا؟ فذكروا عاملا له على البحرين فقال: أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها! وشاطره ماله، وكان يقول: لي على كل خائن أمينان الماء والطين.
ولقد صادر عمر عامله على مصر عمرو بن العاص؛ لأنه فشت له فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم تكن له حين ولي مصر، فادعى عمرو أن أرض مصر أرض مزدرع ومتجر، وأنها أثمان خيل تناتجت وسهام اجتمعت، وأنه يصيب فضلا عما يحتاج إليه لنفقته، ومع ذلك قاسمه عمر ماله، وصادر أبا هريرة عامله على البحرين لأنه اجتمعت له عشرة آلاف وقيل: عشرون ألفا، وادعى أن خيله تناسلت وسهامه تلاحقت وأنه اتجر، فقال له عمر: انظر رأس مالك ورزقك فخذه، واجعل الآخر في بيت المال، يريد بذلك أن يحصر العامل وكده في خدمة أهل عمله، أما الاتجار وتثمير الأموال فهذا ليس من شأن عمال الدولة، فإن لهؤلاء ما يتبلغون به من رزق، وكان يرى في مصادرة العمال وقهرهم ترويضا لهم على الطاعة وترك التبجح والإدلال على الرعية، وممن شاطرهم أيضا النعمان بن عدي عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على مكة، ويعلى بن منية عامله على اليمن، وسعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وخالد بن الوليد عامله في الشام، وآخذ خالد بن الوليد؛ لأنه أمره أن يحبس المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فأجاز الأشعث لشعره، فغضب عمر، وكان أحد الشعراء كتب إليه يقول:
نحج إذا حجوا ونغزو إذا غزوا
فأنى لهم وفر ولسنا بذي وفر؟
إذا التاجر الهندي جاء بفأرة
من المسك راحت في مفارقهم تجري
فدونك مال الله حيث وجدته
سيرضون إن شاطرتهم منك بالشطر
فشاطرهم عمر أموالهم، وتولى ذلك منهم محمد بن مسلمة لثقته
38
به ولم ينتطح في عمله عنزان، شاطر عمر سعدا وعمرا وخالدا وهم ممن يفتخر بهم الإسلام، استكثر عليهم أن ينعموا، وإن كان الأول فاتح العراق، والثاني فاتح مصر، والثالث فاتح الشام.
وقيل لعمر: إن عياض بن غنم، وهو من كبار الفاتحين ورجال الإدارة في حكومته، يتوسع كثيرا في إعطاء المال حتى لا يقل في هذا المعنى عن خالد بن الوليد، فقال: إن ذلك من شأن أبي عبيدة، وعياض من أقرباء أبي عبيدة، وعياض بن غنم هذا جلد صاحب دارا حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي فأتاه هشام فاعتذر إليه، ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع رسول الله يقول: إن من أشد الناس عذابا أشدهم للناس عذابا في الدنيا؟ فقال عياض: قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت، أو لم تسمع رسول الله يقول: من أراد أن ينصح لذي سلطان عامة فلا يبد له علانية ولكن ليخل به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه، وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله، فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله.
كان عمرو بن العاص يبعث إلى عمر بالمال
39
بعد حبس ما كان يحتاج إليه، والمال يجبى من أموال الجزية وما يؤخذ من الخراج، وكان النصارى واليهود أقروا على ما في أيديهم من الأرض يعمرونها ويؤدون خراجها، ووضع عمر في مصر على كل حالم دينارين جزية إلا أن يكون فقيرا، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل، رزقا للمسلمين، تجمع في دار الرزق وتقسم فيهم، وأحصى عمرو بن العاص المسلمين فألزم جميع أهل مصر لكل رجل منهم جبة صوف وبرنسا أو عمامة وسراويل وخفين في كل عام أو بدل الجبة الصوف ثوبا قبطيا، واستبطأ عمر في بعض السنين خراج مصر فكتب إلى عمرو: أما بعد فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيقة، وقد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوة في بر وبحر، وأنها قد عالجها الفراعنة وعملوا فيها عملا محكما مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك، على غير قحوط ولا جدوب، إلى آخر ما قال له وهز أعصابه بكلمات قاسية، فأجابه عمرو: لقد عملت لرسول الله ولمن بعده فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا، حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا، نرى غير ذلك قبيحا، والعمل به سيئا، وقال: فامض في عملك فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها، فكتب إليه إني لم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين وعندي من قد تعلم قوم محصورون، فأجابه عمرو: إن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين، فكان الرفق خيرا من أن نخرق
40
بهم، فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه.
ومع هذه الهيمنة من عمر على عماله نراه يشهد لعمرو بن العاص بحسن السياسة دليلا على تقديره عامله قدره، وكان من رأي عمر بن العاص في سياسة مصر أن الذي يصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، ولا يستأدي خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وتربتها، وكان عمر يقول إذا رأى رجلا يتلجلج في كلامه: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد. وعمرو بن العاص المثل السائر في حسن السياسة بين رجال العرب، دهش قبط مصر بجميل عمله، فدخل منهم في الإسلام كثير، وأدى به التسامح أن رفع رجل نصراني إليه أن غرفة بن الحارث الكندي من أصحاب الرسول الذين سكنوا مصر ضربه فوق أنفه، فقال عمرو للصحابي: إنا قد أعطيناهم العهد، كأنه يريد أن يؤاخذ الصحابي بما فعل، فقال غرفة: معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي، وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم، يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدو بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم، وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم، فقال عمرو: صدقت.
خطب عمر يوما في الجابية من حوران، فمما قاله: ألا وإني ما وجدت صلاح ما ولاني الله إلا بثلاث: أداء الأمانة، والأخذ بالقوة، والحكم بما أنزل الله، ألا وإني ما وجدت صلاح هذا المال إلا بثلاث: أن يؤخذ من حق، ويعطى في حق، ويمنع من باطل. وكتب معاوية إلى عمر يصف له سوء حال الشام فكتب إليه في مرمة حصونها وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس على مناظيرها واتخاذ المواقيد
41
لها. وجاء عمر الشام مرات أربعا يكشف حال عمالها ويعنى بقسمة الأرزاق، ويسمي الشواتي والصوائف، أي غزوات الشتاء والصيف، ويسد الفروج والمسالح
42
في كل كورة، ويستعمل أناسا على السواحل من كل كورة، أو يقسم المواريث بعد طاعون عمواس، وكان هلك فيه من المسلمين خمسة وعشرون ألفا، وقيل: إن عماله استقبلوه مرة بأبهة فنزل وأخذ بالحجارة ورماهم بها وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم، إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم منذ سنتين، وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين، لاستبدلت بكم غيركم، واعتذر له معاوية عامله في الشام عن الموكب الثقيل الذي كان له قائلا: إنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، فلا بد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت، فلم يأمره به ولم ينهه عنه، فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه، فقال: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه. وقيل: إن معاوية قدم على عمر من الشام
43
وهو أبض
44
الناس فضرب عمر بيده على عضده، فأقلع عن مثل الشراب أو مثل الشراك، فقال: هذا والله لتشاغلك بالحمامات، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسرات على بابك، وقال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع عني، أما هم فلا يصلون إلي، وأما عمالهم فلا يرفعونها إلي ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين.
وخصلة أخرى أيضا لعمر، تعد من بدائع إدارته الحسنة، وهو أنه ما كانت تفوته مسألة فيها تقوية قلوب الأمة والاعتماد على نفسها. خطب مرة فقال: «أعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضا على أن تحاكموا إلي، فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة، وأنا حبيب إلي صلاحكم، عزيز عتبكم، وأنتم أناس عامتكم حضر في بلاد، وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلا ما جاء الله به إليه.» يريد أن يعلم الناس ألا يكثروا من الرجوع إلى الحاكم للفصل بينهم في خصوماتهم، ليصرف وقته في التفكير في أمورهم الخطيرة، وأن يعتمدوا على أنفسهم لا على صاحب السلطان، وأن يعرفهم حالة الحاضر والبادي منهم، ويعلمهم أن يعملوا ولا يسرفوا لأنهم فقراء، ولطالما قال لقومه: أصلحوا أموالكم التي رزقكم الله، ولقليل في رفق خير من كثير في عنف. يريد أن يسوق الناس إلى المدينة بتؤدة وتدريج، وكان يقول: من كان له مال فليصلحه، ومن كانت له أرض فليعمرها، وإنه يوشك أن يجيء من لا يعطي إلا من أحب. ونظر إلى رجل مظهر للنسك متماوت فخفقه بالدرة وقال له: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله.
وكان غرام عمر أبدا أن يلقن قومه العمل ويبعد بهم عن حياة الكسل، ولطالما قال لكتابه وعماله: إن القوة على العمل ألا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إذا فعلتم ذلك تذاءبت
45
عليكم الأعمال، فلا تدرون بأيها تبدءون ولا بأيها تأخذون، وقال: اتقوا الله في الفلاحين لا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب. ونهى عمر أن تشترى أرض أهل الذمة ورقيقهم وقال: لا تشتروا من عقار أهل الذمة ولا من بلادهم شيئا. وما كان يرى إبعاد العامة عن المجالس العالية لئلا تفوتهم الفوائد، وليتربوا على أيديهم بما يسمعون وينقلون عنهم، ويوزع الأعمال بين الكفاة وأرباب التخصص ويقول: أيها الناس من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني له خازنا وقاسما.
وكتب عمر الناس على قبائلهم، أي أحصاهم، ففرض الفروض وأعطى العطايا على السابقة، بدأ بالأقرب فالأقرب من الرسول، وفرض لأهل بدر ولمن بعدهم إلى الحديبية وبيعة رضوان، ثم لمن بعدهم ولأهل القادسية واليرموك، وأعطى نساء النبي وغيرهن، ورزق الصبيان والأئمة والمؤذنين والمعلمين والقضاة والشعراء، وحلف على أيمان ثلاث فقال: والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد، والله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدا مملوكا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى، وقسمنا من رسول الله، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام؛ والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه.
جمع عمر المسلمين لأول عهده وقال: ما يحل للوالي من هذا المال؟ فقالوا جميعا: أما لخاصته فقوته وقوت عياله، ولا وكس ولا شطط، وكسوتهم وكسوته للشتاء والصيف، ودابتان إلى جهاده وحوائجه وصلاته وحجه وعمرته، والقسم بالسوية، وأن يعطي أهل البلاء على قدر بلائهم ويرم أمور الناس بعد، ويتعاهدهم عند الشدائد والنوازل، حتى تنكشف ويبدأ بأهل الفيء. وكان عمر إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه فربما عسر فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فليزمه فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه، وطلب من أحد أصحابه أن يقرضه مالا فقال له: ما يمنعك أن تقترض من بيت المال، فأجابه أنه إذا مات وهو له مدين ربما غفلوا عن تقاضي ما اقترض، أما صاحبه فإنه لحرصه على ماله يطالب الورثة بماله فيستوفيه وتبرأ ذمة عمر.
ومما تعلقت به همة عمر إحداث أوضاع جديدة اقتضتها حالة التوسع في الفتوح، فهو أول من حمل الدرة،
46
وهو أول من دون الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم، دونها له عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نبهاء قريش لهم علم بالأنساب وأيام الناس، والديوان الدفتر أو مجتمع الصحف والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وعرفوا الديوان بأنه موضع لحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال، وأطلق بعد حين على جميع سجلات الحكومة وعلى المكان الذي يجلس فيه القائمون على هذه السجلات والأضابير
47
والطوامير، وثبت أنه كان له سجن
48
وأنه سجن الحطيئة على الهجو وسجن ضبيعا على سؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات وشبههن، وضربه مرة بعد مرة ونفاه إلى العراق، وكتب ألا يجالسه أحد فلو كانوا مائة تفرقوا عنه، حتى كتب إليه عامله أنه حسنت توبته، فأمره عمر فخلى بينه وبين الناس، وكانت أعمال عمر جدا كلها لا يجوز لأحد أن يجلس في المسجد في غير أوقات الصلاة، وبنى في المسجد رحبة تسمى البطيحا، وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى الرحبة، وما كان المسجد في أيامه لغير الصلاة والقضاء، وكان الخلفاء الراشدون يجلسون في المسجد لقضاء الخصومات، ولما كثرت الفتوحات وأسلمت الأعاجم وأهل البوادي وكثر الولدان أمر عمر ببناء بيوت المكاتب ونصب الرجال لتعليم الصبيان وتأديبهم.
49
وضع عمر أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل، وقيل: إن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء، ودواوين الشام تكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية، ودواوين مصر بالقبطية، يتولاها النصارى والمجوس دون المسلمين،
50
والسبب في تدوين الدواوين أن عامل عمر على البحرين أتاه يوما بخمسمائة ألف درهم فاستعظمها وجعل عليها حراسا في المسجد، فأشار عليه بعض من عرفوا فارس والشام أن يدون الدواوين يكتبون فيها «الأسماء وما لواحد واحد، وجعل الأرزاق مشاهرة»، وجعل عمر تابوتا أي صندوقا لجمع صكوكه ومعاهداته، وجند الأجناد أي ألف الفيالق ، فصير فلسطين جندا، والجزيرة جندا، والموصل جندا، وقنسرين
51
جندا، وأصبح كل جند في الشام والعراق يتألف من مقاتلة المسلمين، يقبضون أعطياتهم من البلد الذي نزلوه، فأصبحت الجندية خاصة بفئة من المسلمين، ويسير الناس بقضهم
52
وقضيضهم إلى الزحف عند الحاجة حتى النساء والأولاد، وما كان الجند يجعلون كلهم في المسالح، بل يترك بعضهم في البلاد يكونون على استعداد للوثبة عند أول إشارة، والغالب أنه كان يترك فضل في بيوت الأموال في الولايات يستخدم في طارئ إذا طرأ، وما كانت الصوافي تحمل كلها إلى الحجاز، بل يدخر بعضها في بيوت الأموال في الشام والعراق ومصر، وجزء عظيم من دخل الدولة يصرف في الوجوه التي أشرنا إليها.
وعمر هو أول من لقب بأمير المؤمنين، وأول من استقضى القضاة، وأول من أحدث التاريخ الهجري فأرخ سنة ست عشرة لهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، فكان أول من أرخ الكتب وختم على الطين. قال اليعقوبي: وأمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكا من قراطيسه ثم يختم أسافلها، فكان أول من صك وختم أسفل الصكاك،
53
وغير أسماء المسلمين بأسماء الأنبياء،
54
وكان أول من مصر الأمصار، مصر المصرين، البصرة والكوفة، وكان إذا جاءته الأقضية المعضلة
55
قال لعبد الله بن عباس: إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل فأنت لها ولأمثالها، ثم أخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحدا سواه، وكان في المسائل العامة يسأل الناس في المسجد عن آرائهم ثم يعرض رأيه ورأيهم على مجلس شوراه وهم من كبار الصحابة، فما استقر عليه رأيهم أمضاه، فكانت أعماله ثمرة ناضجة من الآراء الصائبة؛ ولذلك ندرت هفواته في الإدارة بالقياس إلى غيره؛ لأنه يتروى ويعمل بآراء أهل الرأي، ولما أرسل عبد الله بن مسعود إلى العراق وزيرا ومعلما مع عمار بن ياسر الذي ولاه الإمارة كتب إلى أهل العراق: «وقد جعلت على بيت مالكم عبد الله بن مسعود وآثرتكم به على نفسي.» وقد يبعث إلى بعض الأقطار عاملا على الصلاة والحرب ويسميه أميرا،
56
وعاملا على القضاء وبيت المال ويسميه معلما ووزيرا كما فعل في العراق، أو يجمع للعامل بين الصلاة والخراج كعامل مصر، وتقسيم العمالات في الشام يختلف عنه في اليمن، وعامل البحرين لا يكون كعامل اليمامة، وقد يبعث أناسا لمساحة الأرض، وأناسا لتقدير الخراج، وآخرين لإحصاء الناس، وقال لعاملين له توليا مساحة العراق ووضع الخراج على سوادها: أخاف أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه، لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا، وقال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم ويعدلوا عليهم ويقسموا فيئهم بينهم، ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمورهم.
وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده، ولما استعمل زيد بن ثابت على القضاء فرض له رزقا، وكان يرزق عامله على حمص عياض بن غنم كل يوم دينارا وشاة ومدا، وبعث إلى الكوفة عمار بن ياسر على الثغر، وعثمان بن حنيف على الخراج، وعبد الله بن مسعود على بيت المال، وأمر هذا أن يعلم الناس القرآن ويفقههم في الدين، وفرض لهم شاة كل يوم، وجعل شطرها وسواقطها لعمار بن ياسر، والشطر الآخر بين عبد الله بن مسعود وعثمان بن حنيف. كان أبو بكر يساوي
57
بين الناس في العطاء ولا يفضل أهل السابقة ويقول: إنما عملوا لله فأجورهم على الله، وإنما هذا المال عرض حاضر يأكله البر والفاجر وليس ثمنا لأعمالهم. وكان عمر يقول: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه، ولم يقدر عمر الأرزاق إلا في ولاية عمار فأجرى عليه ستمائة درهم مع عطائه لولاته وكتابه ومؤذنيه ومن كان يلي معه في كل شهر، وكان عطاء عثمان بن حنيف خمسة آلاف درهم وأجرى على عبد الله بن مسعود مائة درهم في كل شهر وربع شاة في كل يوم، وأجرى على شريح القاضي مائة درهم في كل شهر وعشرة أجربة، وإنما فضل عمارا لأنه كان على الصلاة، قال الحسن: وكان عطاء سلمان خمسة آلاف وكان على زهاء ثمانين ألفا من الناس، وأتاه
58
عبد الله بن عمر السعدي، فقال له عمر: ألم أحدث أنك تلي من أعمال المسلمين أعمالا فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: بلى، فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قال: إن لي أفراسا وأعبدا وأنا بخير وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، فقال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت، وكان رسول الله يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي: خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إسراف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك.
كان عمر يأمر الناس بالتفقه في الدين ، ويجد في إرسال الفقهاء إلى الأمصار، يفقهون المؤمنين ويعلمونهم دينهم، وقد لا يرسلهم إلا بعد أخذ رأيهم، ولما أراد أن يرسل سعد بن عبيد، وكان لا يسمي القارئ من الصحابة غيره قال له: هل لك في الشام فإن المسلمين نزفوا وإن العدو قد ذأروا
59
عليهم؟ وذلك بعد طاعون عمواس.
وكان يقول حين خرج معاذ
60
بن جبل إلى الشام: لقد أخل خروجه بالمدينة وأهلها بالفقه، ولقد كنت كلمت أبا بكر رحمه الله أن يجلسه لحاجة الناس إليه فأبى علي وقال: رجل أراد جهادا يريد الشهادة فلا أجلسه.
وفي كتب عمر إلى قضاته وعماله كأبي موسى الأشعري والقاضي شريح وأبي عبيدة ومعاوية وغيرهم قوانين في الاشتراع والإدارة سنها للمسلمين لا تزال إلى يوم الناس هذا هي المعول عليها، ورسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري جمع فيها «جمل
61
الأحكام، واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس بعده يتخذونها إماما، ولا يجد محق عنها معدلا، ولا ظالم عن حدودها محيصا.» ولقد قالوا: إذا
62
اختلف الناس في أمر فانظر كيف قضى عمر، فإنه لم يكن يقضي في أمر لم يقض فيه قبله حتى يشاور، وكان أبدا يأخذ آراء أصحابه لا يقطع أمرا عظيما من دون استشارتهم ويقول: الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة مرار لا يكاد ينتقض، هذا ولو وضع علم عمر في كفة، كما قال ابن مسعود، ووضع علم أحياء العرب في كفة لرجح بهم علم عمر، وأنشد عمر ذات يوم شعر زهير بن أبي سلمى فلما بلغ قوله:
فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار
63
أو جلاء
جعل يتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها ويقول: لا يخرج الحق من إحدى ثلاث، إما يمين أو محاكمة أو حجة.
وكانت المدينة في أيامه أشبه بمدرسة يتخرج به فيها القضاة والعمال والقواد والأمراء فلا يبعث إلى الأمصار إلا من اختبره في الجملة، وقلما أخطأت فراسته في الناس، وهو المثل الأمثل في جده. كان كعب بن سور جالسا عند عمر فجاءته امرأة تشتكي زوجها، فقال لكعب : اقض بينهما، فلما قضى بما أعجبه وما لم يخطر له ببال قال لكعب: اذهب قاضيا على البصرة. ساوم عمر بفرس فركبه ليشوره
64
فعطب، فقال للرجل: خذ فرسك، فقال الرجل: لا، قال: اجعل بيني وبينك حكما، قال الرجل: شريح، فتحاكما إليه فقال شريح: يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت، أو رد كما أخذت، فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا، سر إلى الكوفة، فبعثه قاضيا عليها. قالوا: وإنه لأول يوم عرفه فيه، وبقي شريح قاضيا هناك ستين سنة.
ومن الفقهاء في أيامه أبو موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي، وأبو قرة الكندي، وأبو الدرداء، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس، ومن عماله نافع بن عبد الحارث الخزاعي، وسفيان بن عبد الله الثقفي، وعبد الله بن أبي ربيعة، وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وقتادة بن النعمان، وعمير بن عوف، وعمير بن وهب بن خلف الجمحي، وعتبة بن مسعود، وعدي بن أبي الزغباء الجهني، وعويم بن ساعدة، وسهيل بن رافع، ومسعود بن أوس بن زيد الأنصاري، وواقد بن عبد الله التميمي، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم، من كل من هو فرد في علمه، متميز بحسن سياسته وإدارته. كتب إلى أبي موسى الأشعري: إنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس فأكرم وجوه الناس، فبحسب المسلم الضعيف من العدل أن ينصف في الحكم والقسمة، يعني أن عمر أوصى بالأعيان، وإن كان يكره الشفاعة والوساطة، فقد توسط مولى عمر بأن يكتب كتابا إلى عامله في العراق ليكرم أحد من قصدوا إليه فانتهره عمر وسبه وقال: أتريد أن يظلم الناس، وهل هو إلا رجل من المسلمين يسعه ما يسعهم؟
65
وكان ابن الخطاب يفحص أمورا لا تخطر ببال أحد: كتب إلى أبي موسى الأشعري: «إني قد بعثت إليك مع غاضرة بن سمرة العنبري بصحف فإذا أتاك لكذا وكذا فأعطه مائتي درهم، وإن جاءك بعد ذلك فلا تعطه شيئا، واكتب إلي في أي يوم قدم عليك.» يريد بذلك أن يعلم من يستعملهم الجد والاهتمام والحرص على الأوقات وضبط المواعيد، هو يعطي من أرسله بالصحف مائتي درهم إذا جد فوصل إلى البلد الذي عين له في الأجل المضروب وإلا فيحرم أجرته. وكتب إلى حذيفة بعد ما ولاه المدائن وكثر المسلمات: إني بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها، فكتب إليه: لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام، وما أردت بذلك؟ فكتب إليه: لا، بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم، فقال: الآن نطلقها. هذا مع أن عمر كان يقول: ليس قوم أكيس من أولاد السراري لأنهم يجمعون عز العرب ودهاء العجم. وكتب إلى أبي موسى الأشعري أيضا:
66
إذا أتاك هذا فاضرب كاتبك سوطا واعزله عن عمله، وذلك أن كاتب أبي موسى كتب إلى عمر (من أبو موسى) وكان عليه أن يقول (من أبي موسى)، ودبر عام الرمادة (17-18) تدبيرا إداريا ناجعا عندما رأى الناس يهلكون من المجاعة، فكتب إلى أمراء مصر والشام والعراق أن يوافوه بالميرة فأتته القوافل تحمل طعاما كثيرا وغيره، فوسع على الناس، وكان قطع الطعام عن نفسه وأطعم الجياع، ولولا تدابيره هذه لهلك أهل الحجاز جميعهم.
ومن جملة تدابيره الإدارية أنه
67 «حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج من البلدان إلا بإذن وأجل، فشكوه فبلغه، فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سديسا ثم بازلا، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان، ألا فإن الإسلام قد بزل،
68
ألا وإن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا، إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار.»
هذا مجمل من إدارة عمر، وقد كان شديدا في إقامة الحدود يقيمها على أقرب الناس إليه: حد في الخمر ابنه، وعاقب ابن عمرو بن العاص عامل مصر؛ لأن أحد قبطها استعداه عليه، قال السائب بن يزيد: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله وإمارة أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرجلنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلدوا ثمانين، ولما ضعف نصاب الشهادة على المغيرة بالزنا سري عنه لأنه ما أراد أن يرجم أحدا من الصحابة،
69
وأراد أن يحد جبلة بن الأيهم من ملوك غسان لأن رجلا فزاريا
70
في الحج وطئ على إزاره فلطمه جبلة فهشم أنفه، وشكاه الفزاري فأراد عمر جبلة على أن يفتدي نفسه أو يأمر الرجل بلطمه، فقال جبلة: كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال: إن الإسلام جمعكما، وسوى بين الملك والسوقة في الحد، ففر جبلة والتحق بالروم، وكان يساوي بين الناس في القضاء مهما علت منزلتهم، وبلغه عن بعض عماله وهو في دار الحرب أنه تعدى حدا من حدود الله فأغضى عنه لئلا يعتصم ببلاد الروم.
وكان يعرف أن الرسول قال: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما، فسكت عمر عنهم، وراعى العهود التي أعطاها الرسول لهم، ولما كان من جملة شروط نصارى نجران ألا يأكلوا الربا أمر بإجلائهم واشترى منهم أرضهم وأوصى بهم أهل الشام والعراق، ولما انطلق نصارى بني تغلب هاربين من الجزية أضعفها عليهم
71
وشرط عليهم ألا ينصروا أولادهم، ولم يسمع لقول أحد بني تغلب: إنهم قوم عرب يأنفون من الجزية وهم قوم لهم نكاية، وقوله له مهددا: لا تعن عدوك عليك ، وكان يتحامى استعمال النصارى وعرضوا عليه كتابا منهم فأبى أن يستعملهم، وكان إذا
72
أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم بدأ بأهله وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره، وما كان يميز أحدا من آل بيته في شيء، وربما هضم بعض حقهم وأعطاه من هو أجدر منهم، قسم
73
عمر مروطا
74
بين نساء المدينة فبقي فيها مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا ابنة رسول الله التي عندك
75
فقال: أم سليط أحق به؛ فإنها مما بايع رسول الله، وكانت تزفر
76
لنا القرب يوم أحد. وقال أحدهم لعمر: اتق الله يا أمير المؤمنين، فقال: لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم، وردت عليه امرأة فرجع إليها وقال: رجل أخطأ وامرأة أصابت.
وكان لا يقرب الشعراء ولكنه يجري عليهم رزقا يكفيهم، كتب مرة إلى المغيرة بن شعبة أن استنشد من قبلك من الشعراء ما قالوا في الجاهلية والإسلام،
77
فأرسل إلى الأغلب العجلي فقال: إنه على استعداد لأن ينشده، ثم أرسل إلى لبيد بن ربيعة فقال: أنشدني، فقال: إن شئت أنشدتك مما عفي عنه من شعر الجاهلية قال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام، فانطلق إلى أديم فكتب فيه سورة البقرة فقال: أبدلني الله مكان الشعر هذا، قال: فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: إنه لم يعرف أحد من الشعراء حق الإسلام إلا لبيد بن ربيعة فانقص من عطاء الأغلب خمسمائة واجعلها في عطاء لبيد.
ونهج عمر لمن يخلفه النهج الذي يجب السير عليه في تدبير الملك، وأوصى الخليفة بعده أن يقر عماله سنة فيما قيل، وأوصاه
78
بتقوى الله لا شريك له وبالمهاجرين الأولين خيرا، وأن يعرف لهم سابقتهم، وأوصاه بالأنصار خيرا يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصاه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء العدو وحياة الفيء، وأن لا يحمل فيئهم إلا عن فضل منهم، وأوصاه بأهل البادية خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، وأن يأخذ من حواشي أموال أغنيائهم فيرده على فقرائهم، وأوصاه بأهل الذمة خيرا وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفهم فوق طاقتهم، إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين طوعا أو عن يد وهم صاغرون، وأوصاه بالعدل في الرعية والتفرغ لحوائجهم وثغورهم وأن لا يؤثر غنيهم على فقيرهم، وأن يشتد في أمر الله وحدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذه في أحد رأفة حتى ينتهك منه مثل ما انتهك من حرم الله، ويجعل الناس عنده سواء لا يبالي على من وجب الحق، ثم لا تأخذه في الله لومة لائم، وأوصاه أن لا يرخص لنفسه ولا لغيره في ظلم أهل الذمة، ونشده الله أن يرحم جماعة المسلمين، ويجل كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر عالمهم، وأن لا يضربهم فيذلوا، ولا يستأثر عليهم بالفيء فيغضبهم، ولا يحرمهم عطاياهم عند محلها فيفقرهم، ولا يجمرهم في البعوث فيقطع نسلهم، ولا يجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم.
إدارة عثمان بن عفان
حافظ عثمان بن عفان على الأوضاع التي وضعها عمر، وكان أول كتبه إلى أمراء الأجناد: «قد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم.» وكان أول كتبه إلى عماله: «فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة قد خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم، فتعطوهم ما لهم وتأخذون بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم.» وكتب إلى عمال الخراج: «أما بعد، فإن الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق، والأمانة الأمانة قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد فإن الله خصم لمن ظلمهم.» وكتب في الأمصار أن يوافيه العمال في كل موسم ومن يشكوهم، وكتب إلى الناس في الأمصار: «أن ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، ولا يذل المؤمن نفسه، فإني مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما إن شاء الله.» وكان كصاحبيه لا يسكت عن حد من الحدود ولا يتساهل مع من يرتكب المحظورات، ابتاع حمدان بن أبان، وعلمه الكتاب، واتخذه كاتبا، ثم وجد عليه لأنه كان وجهه للمسألة عما رفع على الوليد بن عقبة، فارتشى منه وكذب ما قيل فيه، فتيقن عثمان صحة ذلك، فقال: لا تساكني أبدا وخيره بلدا يسكنه غير المدينة.
واعتمد عثمان لأول ولايته في مشورته على من اعتمد عليهم الشيخان من قبل، وفي الولايات على بعض من كانوا عمالا لعمر، ثم على أناس من أهله وعشيرته، وممن اعتمد عليهم مروان بن الحكم، وكان مروان في ولايته على المدينة يجمع أصحاب الرسول يستشيرهم ويعمل بما يجمعون له عليه، ولم يكن عثمان مبتدعا بل كان متبعا، تبع سيرة العمرين في الحكومة،
79
وما عزل أحدا إلا من شكاة أو استعفاء من غير شكاة. وكثر المال في أيامه فكان لا يتوقف في إنفاقه، قيل: إنه باع غنائم إفريقية بخمسمائة ألف دينار وأعطاها مروان ولم يطالبه بها، ولم يزل المال متوفرا حتى لقد بيعت الجارية بوزنها ورقا، وبيع الفرس بعشرة آلاف دينار، وبيع البعير بألف والنخلة الواحدة بألف، وأعطى عبد الله بن الأرقم، وكان عمر استعمله على بيت المال، ثلاثمائة ألف درهم فأبى أن يقبلها وقال: عملت لله، وإنما أجري على الله.
وكان عثمان جوادا يحث عماله على الجود، قدم المدينة ابن خاله عبد الله بن عامر فاتح خراسان وأطراف فارس وسجستان وكرمان وزابلستان وهي أعمال غزنة، فقال له عثمان: صل قرابتك وقومك، ففرق في قريش والأنصار شيئا عظيما من الأموال والكسوات،
80
وأرسل إلى علي بن أبي طالب
81
بثلاثة آلاف درهم وكسوة، فلما جاءته قال: الحمد لله أنا نرى تراث محمد يأكله غيرنا، فبلغ ذلك عثمان فقال لابن عامر: قبح الله رأيك، أترسل إلى علي بثلاثة آلاف درهم؟ قال: كرهت أن أغرق ولم أدر ما رأيك، قال: فأغرق، قال: فبعث إليه بعشرين ألف درهم وما يتبعها، قال: فراح علي إلى المسجد فانتهى إلى حلقة وهم يتذاكرون صلات ابن عامر، هذا الحي من قريش، فقال علي: هو سيد فتيان قريش غير مدافع، وكان ذلك من سياسة عثمان وحسن إدارته.
ومن ذلك أن عامله على الكوفة كتب إليه أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات السابقة والقدمة، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت وأعراب لحقت حتى ما ينفر إلى ذي شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها، فكتب إليه عثمان: أما بعد، ففضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعا قسطهم من الحق فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل. ا.ه.
وكانت
82
مغازي أهل الكوفة في زمنه الري وآذربيجان، وكان بالثغرين عشرة آلاف مقاتل من أهل الكوفة ستة آلاف بآذربيجان، وأربعة بالري، وكان بالكوفة إذ ذاك أربعون ألف مقاتل، وكان يغزو هذين الثغرين منهم عشرة آلاف في كل سنة، فكان الرجل يصيبه في كل أربع سنين غزوة.
وضعفت الإدارة في النصف الأخير من عهد عثمان لشيخوخته، ولأنه لا يستطيع من كان في سنه أن ينظر في جميع المسائل، واشتغل بعض كبار العمال بأطماعهم في الولايات، وشاغب المحرومون على المنصوبين، وكثيرا ما كان يصر على تنفيذ أوامره لا يبالي كثيرا بالشكاوي، لعلمه بأنها صادرة على الأكثر عن أغراض شخصية، وما نفع اللين ولا الشدة يوم حم القضاء، فكان من قتله ما كان.
ومن عمال عثمان عبد الله بن الحضرمي، والقاسم بن ربيعة، وعبد الله بن عامر، وحبيب بن مسلمة الفهري، وأبو الأعور الأسلمي، وعلقمة بن حكيم، وجابر بن فلان المزني، وسماك الأنصاري، والقعقاع بن عمر، وجرير بن عيلان، والأشعث بن قيس، وعتيبة بن النهاس، ومالك بن حبيب، وسعيد بن قيس، والسائب بن الأقرع، وعقبة بن عامر، ومعاوية بن أبي سفيان، والغالب عليه مروان بن الحكم، وكان عثمان ست سنين في ولايته وهو أحب إلى الناس من عمر بن الخطاب، وكان عمر رجلا شديدا
83
قد ضيق على قريش أنفاسها، لم ينل أحد معه من الدنيا شيئا، إعظاما له وإجلالا، وتأسيا به واقتداء، فلما وليهم عثمان وليهم رجل لين، ثم أنكر الناس عليه أشياء أشرا وبطرا. قال ابن عمر: لقد عيبت عليه أشياء لو فعلها عمر ما عيبت عليه.
إدارة علي بن أبي طالب
أما طريقة علي بن أبي طالب فكانت أيضا في الإدارة طريقة من سبقوه إلى الإمامة: يولي العامل ويطلق يده على الجملة ويكشف حاله، ويدعو عماله إلى التبلغ بميسور العيش والرفق بالرعية، ويضع لهم المنهاج الذي يسيرون عليه، أوصى أحد عماله بأهل عمله فقال: إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيفا، ولا رزقا يأكلونه ولا دابة يعملون عليها، ولا تضرب أحدا منهم سوطا واحدا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضا في شيء من الخراج، فإنما أمرنا أن نأخذ العفو منهم. ومما كتبه إلى الأشتر النخعي: وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله؛ فإن في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا ... وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر.
ومما جاء في هذا الكتاب: ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة ، فإنهم أكثر أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية، وتحفظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه ... وجاء في هذا الكتاب أيضا: ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك
84
قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤنته على غيرهم.
ومن وصية لعلي بن أبي طالب كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وهي أشبه بالأوامر العامة:
انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعن مسلما، ولا تجتازن عليه كارها، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم، من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار، حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج
85
بالتحية لهم، ثم تقول: عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته، لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه، أو توعده، أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه، ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها، ولا تسوأن صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه، فإن استقالك فأقله، ثم اخلطهما ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق الله في ماله، ولا تأخذن عودا
86
ولا هرمة ولا مكسورة ولا مهلوسة
87
ولا ذات عوار، ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه، رافقه بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم، ولا توكل بها إلا ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا، غير معنف ولا مجحف ولا ملغب ولا متعب،
88
ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك فصيره حيث أمر الله، فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يمصر
89
لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدنها ركوبا، وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها، وليرفه على اللاغب، وليستأن بالنقب والظالع،
90
وليوردها ما تمر به من الغدر، ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلا جواد الطرق، وليروحها في الساعات، وليمهلها عند النطاف
91
والأعشاب، حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات
92
غير متعبات ولا مجهودات، لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله؛ فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك إن شاء الله.
ومن كتاب له إلى بعض عماله وفيه جماع سياسة المخالفين والموافقين إذا جعله كل عامل دستوره في عمله، قال: أما بعد فإن دهاقين
93
أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقارا وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم، ولا أن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله. وكتب إلى زياد، وكان عامله على فارس: أما بعد، فإن رسولي أخبرني بعجب، زعم أنك قلت له فيما بينك وبينه أن الأكراد هاجت بك فكسرت عليك كثيرا من الخراج وقلت له: لا تعلم بذلك أمير المؤمنين يا زياد وأقسم بالله إنك لكاذب، ولئن لم تبعث بخراجك لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، إلا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملا. وكتب إلى كعب بن مالك: أما بعد فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك، حتى تمر بأرض كورة السواد فتسأل عن عمالي، وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب.
قال اليعقوبي:
94
إن عليا حكم بأحكام عجيبة حتى إنه حرق قوما ودخن على آخرين، وقطع بعض أصابع اليد في السرقة، وهدم حائطا على اثنين وجدهما على فسق، وكان يقول: استتروا ببيوتكم والتوبة وراءكم، ومن أبدى صفحته للحق هلك، إن الله أدب هذه الأمة بالسوط والسيف، وليس لأحد عند الإمامة هوادة.
وكان علي
95
يقسم ما في بيت المال كل جمعة حتى لا يترك فيه شيئا، ودخل مرة إلى بيت المال فوجد الذهب والفضة فقال: يا صفراء اصفري، ويا بيضاء ابيضي وغري غيري، لا حاجة لي فيك، وقال: أيها الناس أعينوا على أنفسكم فإن السبعة (أو قال التسعة) يكونون في القرية فيحيونها بإذن الله عز وجل، ولولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت هذا السواد بينكم. وانتهى إليه أن أحد عماله يفرق ويهب الأموال وكان عليها، ولامه أن قسم فيء المسلمين في قومه ومن اعتراه من السألة والأحزاب وأهل الكذب من الشعراء كما يقسم الجوز، فأجابه عامله إنه منذ ولي العمل لم يرزأ من عمله دينارا ولا درهما ولا غيرهما، وأن العزل أهون عليه من هذه التهمة. وقال علي: لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة ولأسبين الذرية، فإني كتبت الكتاب بينهم وبين رسول الله على أن لا ينصروا أولادهم، ورأى علي دارا للقاضي شريح عمرها فقومت عليه بثمانين دينارا فوعظه وبكته ضمنا، مع أنه كان يرزق خمسمائة درهم، وكان يقبل الهدية ويكافئ بمثلها.
ومن مجموع هذه الفقرات من كتب علي بن أبي طالب عرفنا منزعه في تدبير الملك، وشدته على من يطيل يده بالأذى إلى الرعية وإلى أموال الدولة، وكان هديه هدي أصحابه الثلاثة من قبل وما خالف علي عمر ولا غير شيئا مما صنع، وقال: إن عمر كان رشيد الأمر ولن أغير شيئا صنعه
96
عمر، ولكن التوفيق أخطأه، فاستغرقت أيامه في الفتن، أكثر من التنظيم والإدارة، وفقد الاستقرار في البلاد للنزاع الذي قام بينه وبين خصومه. قال الجاحظ: لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه، ومتى ذكرت النخوة والذب عن الإسلام، ومتى ذكر الفقه في الدين، ومتى ذكر الزهد في الأمور التي يتناصر الناس عليها، كان مذكورا في هذه الخلال كلها إلا علي.
ومن عماله عبد الله بن عباس وكان واليه على البصرة واليه الصدقات والجند والمعاون، وقثم بن العباس وعبيد الله بن عباس وأبو الأسود الدؤلي وسهل بن حنيف وغيرهم.
إدارة الأمويين
الإدارة على عهد معاوية بن أبي سفيان
ما عرفت للحسن بن علي طريقة في الإدارة؛ لأنه لم يطل أمره غير بضعة أشهر، وذلك في العراق والحجاز، أما سائر الأقطار فكانت في يد معاوية، ولكن عبد الله بن عباس من أعظم أنصار علي كتب إلى الحسن أن يولي أهل البيوتات والشرف يستصلح بهم عشائرهم حتى تكون الجماعة، فإن بعض ما يكره الناس - ما لم يتعد الحق وكانت عواقبه تدعو إلى ظهور العدل وعز الدين - خير من كثير مما يحبون إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور ووهن الدين.
وتولى الأمر معاوية، وساعده على حسن إدارة الملك سابقة له من تجربة طويلة، ابتدأت منذ كان كاتب وحي رسول الله يشهد روعة الرسالة، فتثقف على أتم ما يكون من الكمال، ورأى منه أبو بكر وعمر ما رآه منه صاحبهما من الغناء فولي الشام عشرين سنة تمرس
1
خلالها بالسياسة، واتسع أمامه أفق جديد من النظر، فأدهش من تولي أمرهم بحلمه، وعلمه، وثاقب رأيه، وفرط دهائه، وكان أبوه من قبل يعالج شئون الناس ويتألفهم ويعرف ما يصلحهم، وعنه أخذ معاوية شيئا في هذا المعنى، والناشئ في مثل هذه الأعمال يتحنك في الإدارة، ويكون إماما في صناعته.
حافظ معاوية على أصول الرسول والراشدين في الإدارة، وما حاد عنها إلا فيما قضت به المصلحة ودعا إليه المحيط الجديد ، مثل إخراج الإدارة من سذاجة البداوة إلى بحبوحة الحضارة، وعرف فوائد الشورى فما كان يصدر في المهمات إلا عن مشورة، فهو يرى من الطبيعي أن يأخذ بآراء أشراف القوم، وينزل على حكم وفود
2
البلاد، وله ولآل بيته مجالس يعقدونها في المسجد الجامع، تدور بحوثها على سياسة البلاد وحكمها في الأكثر، ومجالس الأمويين أشبه بمجالس النواب والولايات والشيوخ.
كان معاوية يفض مشاكله بالحسنى، يلين للناس ويشفع المجاملة بالإحسان، يوليه كل ناب
3
نابه في قومه، سيد مسود في أهله، ولا تلين قناته لمن يحاول قلب الخلافة وإخراجها عن بيته بعد أن آلت إليه، وما كان مع من يظلم رعاياه إلا شديدا، ويستميل القلوب بالعطاء وبالإقناع أو بالإغضاء أو بالمجادلة بالتي هي أحسن، وبلغ من سعة الصدر ووافر الحلم أن ضرب المثل بحلمه، وكان إذا لم تنجع في الناس وسائله اللينة، يعمد بعد التماس كل حيلة إلى القوة، وهو القائل: «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.» وقيل: وكيف ذاك؟ قال: «كنت إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها.» وقال: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا، ومن المستحيل كم
4
الأفواه أو تنطق بما يراد، ورضا الناس غاية لا تدرك؛ فما دام الأمر يفض بالكلام، ولا يقوم رجل جد يقلقل أمر الجماعة، فالعالم أحرار في أقوالهم، ومتى لجئوا إلى القوة وتطالوا إلى الفتنة انكفأ عليهم بقوته، وهمته منذ تولى الحكم مصروفة إلى سياسة الدولة، وما عدا ذلك فالناس وما يختارون من الآراء والمذاهب، وهو يستشير أرباب الرأي من أنصار دولته، ولا يأتمن في إدارة الولايات والأعمال إلا الكفاة من آل بيته، فإذا اتفق أن كان فلان ينزع إلى كذا أو يحب فلانا من خصومه، أو يغلظ في بيان رأي يخالفه، فهذا مما لا يتعلق به كبير أمر عنده.
فالسياسة هي كل ما حصر فيه معاوية وكده، ومن أجل توطيد دعائمها لجأ إلى طرق في الدعوة مؤثرة، فجعل القصاص أو الوعاظ في المساجد والمعسكرات يدعون لدولته وينفرون من أعدائها؛ وذلك لما رأى عليا
5
عند منصرفه من صفين قنت في الصلاة ودعا على من خالفه، فوقع في نفس معاوية أن يعامل عليا بالمثل، وأمر من يقص بعد الصبح وبعد المغرب أن يدعو له ولأهل الشام، وحمل الأمصار على احتذاء مثاله في عاصمته، فأحدث قصص الخاصة، وظل قصاص العامة يجتمع إليهم النفر من الناس، يعظونهم ويذكرونهم، ويقصون عليهم ما يرق قلوبهم، وكان القاص إذا سلم الإمام من صلاة الصبح جلس فذكر الله وحمده ومجده وصلى على نبيه، ودعا للخليفة ولأهله ولأهل بيته وجنوده ، وعلى أهل حربه وعلى الكفار كافة، ومن القصاص من كانوا يرفعون أيديهم في قصصهم كما كان سليم بن عتر قاص الجند زمان عمرو بن العاص.
ويقول من أمعنوا في درس تاريخ معاوية: إن دعوى سنه لعن علي،
6
عقبى كل خطبة،
7
لم يقم عليها دليل ثابت يركن إليه، وما من أثر يدل على أن هذا اللعن تقدم مروان بن الحكم، وبذلك يبرأ معاوية من هذه الوصمة، وجلب لعن الأمويين عليا من
8
البغضاء المستترة أكثر مما نالهم من الفائدة الحقيقية، كما أخطأ معاوية بإطلاق يد زياد في سياسة القمع في العراق على صورة هائلة تخالف ما كانت عليه سياسة معاوية من اللين، وكان عليه أن يطبق بنفسه هذه السياسة مباشرة، وانتشر لعن الطالبيين للأمويين ولعن الأمويين للطالبيين في كل مكان، وقد لعن الأمويون عليا على منابرهم نحو ألف شهر، ولم تبطل هذه البدعة السيئة إلا في عهد عمر بن عبد العزيز، استعاض عنها بآية:
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
إلى آخر الآية الشريفة، وقيل: بل جعل مكان ذلك:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وقيل: بل جعلهما جميعا، وكان العلويون يقنتون عقب الصلوات يلعنون بني أمية يشفون بذلك نفوسهم الثائرة، من أجل دماء مطلولة، وطوائل
9
طويلة، وملك مستأثر به.
واقتفى معاوية فعل عمر بن الخطاب في العلم بأخبار رجاله ورعيته فانتظم له أمره، وكذا كان زياد بن أبيه وعبد الملك والحجاج. قال الجاحظ: ثم لم يكن من هؤلاء أحد في مثل هذه السياسة حتى ملك المنصور، ونقل عن زياد أن رجلا كلمه في حاجة وجعل يتعرف إليه ويظن أن زيادا لا يعرفه فقال: أنا فلان بن فلان، فتبسم زياد وقال له: أتتعرف إلي وأنا أعرف منك بنفسك، والله إني لأعرفك، وأعرف أباك وأمك وأعرف جدك وجدتك، وأعرف هذا البرد الذي عليك وهو لفلان وقد أعارك إياه، فبهت الرجل وأرعد
10
حتى كاد يغشى عليه.
قلنا: إن معاوية كان يتخير عماله من كفاة أهل بيته أو من غيرهم من رجال دولته وأنصار دعوته، وقد انتهى إلى علمه أن ابن أخته، عبد الرحمن بن أم الحكم عامله على الكوفة، قد أساء السيرة في إمارته فعزله وأقصاه عن الحكم، وقيل: إن سبب عزله أن عبد الله بن همام السلولي قال شعرا وكتبه في رقاع ألقاها في المسجد الجامع وهي:
ألا أبلغ معاوية بن صخر
فقد خرب السواد فلا سوادا
أرى العمال أقساء علينا
بعاجل نفعهم ظلموا العبادا
فهل لك أن تدارك ما لدينا
وتدفع عن رعيتك الفسادا
وتعزل تابعا أبدا هواه
يخرب من بلادته البلادا
إذا ما قلت أقصر عن هواه
تمادى في ضلالته وزادا
وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلا من بني حرب ولاه الطائف، فإن رأى منه خيرا وما يعجبه ولاه مكة معها، فإن أحسن الولاية وقام بما ولي قياما حسنا جمع له معهما المدينة، فكان إذا ولي الطائف رجلا قيل: هو في أبي جاد، فإذا ولاه مكة قيل: هو في القرآن، فإذا ولاه المدينة قيل: هو قد حذق،
11
وأوصى أحد أقاربه ممن استعمله فقال: لا تبيعن كثيرا بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتف فيما بينك وبين عدوك بالوفاء، تخف عليك المؤنة وعلينا منك، وافتح بابك للناس. وقال لآخر: إذا أعطيت عهدا فف به، ولا تخرجن منك أمرا حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، ولا تطعمن أحدا في غير حقه، ولا تؤيسن أحدا من حق له، وقواعد وضعها معاوية لعماله وفيها شيء من الأساليب لكف الناس بعضهم عن بعض، وإرضاء كل واحد بحقه، وتوفير ثقة الرعايا بولاتهم، ليعتقدوا أنهم لا يكذبون وأنهم إذا قالوا فعلوا.
ومن يمن الدولة الأموية أن كانت لا تستعمل من العمال إلا من ثبتت كفايته ونجدته في تأييد سلطانها، يمحضونها النصح ولا يغفلون عن تعهد حال الناس وكشف ظلاماتهم، واتخاذ الطرق المفضية إلى ما فيه راحتهم وهناؤهم، وإذا تبرم أهل قطر بتدابير من وليهم ينقله الخليفة إلى قطر آخر يستعيض عنه أكفأ منه، أو من كان على شاكلته أو ألين منه عريكة. يريد عاملا حقيقيا للعمل، لا عملا لعامل يرزقه، يتطلب عاملا إذا عرضت له المعضلات أن يفتق له وجه الحيلة ما يتوجه له فيه وجه.
أوعز زياد إلى والي خراسان أن يصطفي لمعاوية الصفراء والبيضاء فلا يقسم في الناس ذهبا ولا فضة عملا بكتاب ورد عليه من الخليفة، فكتب والي خراسان إلى زياد: بلغني ما ذكرت من كتاب أمير المؤمنين، وإني وجدت كتاب الله تعالى قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو أن السماء والأرض كانتا رتقا
12
على عبد ثم اتقى الله جعل له مخرجا والسلام. وقسم الفيء بين الناس من الذهب والفضة، ولم ينفذ ما أمر به الخليفة من أمر يجحف بأرباب الاستحقاق في العطاء من الجند والعمال؛ ذلك لأنه رأى في ولايته ما لم يره الخليفة ولا عامله الأكبر زياد، وكتب معاوية إلى عامله على مصر أن زد على كل رجل من القبط قيراطا، فكتب إليه كيف أزيد عليهم وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم؟ وهذا مما يشعر بما كان للعامل الأمين في عهد معاوية من الحرية فيما يرتئيه لإصلاح عمله. والإدارة في قطر قد لا تصلح لقطر آخر، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب.
قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين إلا في واحدة، طلبت رجلا فلجأ إليه وتحرم
13
به فكتبت إليه: إن هذا فساد لعملي إذا طلبت رجلا لجأ إليك وتحرم بك، فكتب إليه معاوية: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس بسياسة واحدة فيكون مقامنا مقام رجل واحد، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة، فيستريح الناس بيننا. وقديما قالوا: الدهاة أربعة، معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضلات، وزياد لكل كبيرة وصغيرة. وقال بعضهم: دهاة العرب وذوو الرأي والمكيدة، معاوية وعمرو والمغيرة وقيس بن سعد وعبد الله بن بديل بن ورقاء، وأربعة ممن ذكر دبروا ملك بني أمية، والآخران كانا من جماعة علي.
علمنا أن معاوية ما كان يستخدم الحسام، إذا أجزأه
14
الكلام، رمى أهل مصر بعمرو بن العاص؛ لأنهم اشتركوا في مقتل عثمان، ولما هلك ولى مصر أخاه عتبة بن أبي سفيان،
15
وكان والي عمر على الطائف وصدقاتها وهو من بلغاء الخطباء، قيل: لم يكن في بني أمية أخطب منه، فاشتد على أهل مصر وطأمن من جماحهم، وأدخل الرهبة على قلوبهم، ومن جملة ما خطبهم، وفيه نموذج من خطته وخطة أخيه، قوله: يا أهل مصر، خف على ألسنتكم مدح الحق ولا تفعلونه، وذم الباطل وأنتم تأتونه، كالحمار يحمل أسفارا أثقله حملها، ولم ينفعه علمها، وإني والله لا أداوي أدواءكم بالسيف، ولا أبلغ السيف ما كفاني السوط، ولا أبلغ السوط ما كفتني الدرة، ولا أبطئ عن الأولى، إن لم تصلحوا عن الأخرى، ناجزا
16
بناجز، ومن حذر كمن بشر، فدعوا قال ويقول، من قبل أن يقال فعل ويفعل، فإن هذا اليوم الذي ليس فيه عقاب، ولا بعده عتاب. وخطب الناس بمصر عن موجدة
17
فقال: يا حاملي ألأم آنف
18
ركبت بين أعين، إني إنما قلمت أظفاري
19
عنكم ليلين مسي لكم، وسألتكم صلاحكم إذا كان فسادكم باقيا عليكم، فأما إذ أبيتم إلا الطعن على السلطان، والتنقص للسلف، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم، فإن حسمت أدواءكم، وإلا فإن السيف من ورائكم، فكم من حكمة منا لم تعها قلوبكم، ومن موعظة منا صمت عنها آذانكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة، إذا جدتم بالمعصية، ولا أوئسكم من مراجعة الحسنى، إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى.
واستخلف عتبة هذا عاملا له على أهل مصر، وكانت له شدة، فامتنع عليه بعض أهلها، فكتب إلى عتبة، فقدمها فدخل المسجد ورقي المنبر وقال: يا أهل مصر قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم، لبعض الجور عليكم، وقد وليكم من إن قال فعل، فإن أبيتم درأكم
20
بيده، فإن أبيتم درأكم بسيفه، ثم جاء في الآخر ما أدرك في الأول: إن البيعة شائعة، لنا عليكم السمع، ولكم علينا العدل، وأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه، فناداه المصريون من جانب المسجد «سمعا سمعا» فناداهم «عدلا عدلا.»
وكلما لمح عتبة شرارة الفتنة خطب القوم بما يطفئها من معين بلاغته، احتبست كتب معاوية حتى أرجف أهل مصر بموته، ثم ورد كتابه بسلامته، فصعد عتبة المنبر والكتاب بيده وقال: يا أهل مصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات
21
السيوف حتى صرنا شجى في لهواتكم
22
ما تسيغنا حلوقكم، وأقذاء
23
في أعينكم ما تطرف عليها جفونكم، فحين اشتدت عرا الحق عليكم عقدا، واسترخت عقد الباطل منكم حلا، أرجفتم بالخليفة، وأردتم توهين السلطان، وخضتم الحق إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديث، فاربحوا أنفسكم إذا خسرتم دينكم، فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السار عنه، والعهد القريب منه، واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلحوا لنا ما ظهر نكلكم إلى الله فيما بطن، وأظهروا خيرا وإن أسررتم شرا، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله نتوكل وبه نستعين. ا.ه.
وخطب عتبة في الموسم في سنة إحدى وأربعين، وعهد الناس حديث بالفتنة، فاستفتح ثم قال: «أيها الناس، إنا قد ولينا هذا الموضع الذي يضاعف الله فيه للمحسن الأجر، وعلى المسيء الوزر، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا؛ فإنها تنقطع دوننا، ورب متمن حتفه في أمنيته، اقبلوا العافية ما قبلناها منكم وفيكم.» وقد عرفنا بهذه النموذجات من الخطب السياسية كيف أخذ بنو أمية يصفون البلاد من كدر الفتنة، وبعتبة وبأمثاله أدخلوا الناس في الطاعة، وكانوا ركبوا رءوسهم
24
في الغوائل وأوغلوا، وبعتبة وبأمثاله من العمال الذين كانوا يعملون للجماعة بعقولهم وقلوبهم، دفعوا الناس إلى الانقطاع إلى أعمالهم، واضطروهم إلى أن يتركوا الخوض في سياسة الملك إلى من يحسن القيام عليها.
ومن نظر في سيرة أولئك العمال يأخذه العجب من عفتهم عن الأموال، وتبلغهم بالقليل، وإنفاقهم بلا حساب، لتأليف الشارد واستمالة الخصم المعاند، ولي عمرو بن العاص الذي ولي مصر مرتين، وجعلها له معاوية في المرة الثانية طعمة بعد الإنفاق على مرافقها، فلم تعد عليه هذه الطعمة بثروة تذكر، وما اشتد عمرو على أهل مصر اشتداد عتبة؛ لأن هذا كان في سن الكهولة وعمرو في سن الشيخوخة، والشيوخ في الإدارة أقرب إلى الحنكة
25
والروية من الشباب على الأغلب، أما سائر عمال الدولة فكانوا بحسب الحال: على طريقة عتبة الناطقة أو على طريقة عمرو الصامتة.
رمى معاوية العراق بزياد بن أبي سفيان فخطب أهلها قائلا: حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا؛ إياي ودلج
26
الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا، وأحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوما أغرقته، ومن أحرق قوما أحرقته، ومن نقب بيتا نقبت عن قلبه، ومن نبش قبرا دفنته فيه حيا، فكفوا أيديكم وألسنتكم أكف عنكم، وقد كان بيني وبين أقوام أشياء قد جعلتها دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنا فليزدد، ومن كان مسيئا فلينزع، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا، ولم أهتك له سترا، حتى يبدي لي صفحته،
27
فإذا فعل ذلك لم أناظره، فأعينوا على أنفسكم وأتنفوا
28
أمركم. ومعنى هذا أن زيادا أعلن في العراق الإدارة العرفية العسكرية، وصرح بأنه يتناسى ما سبق للقوم من الخطيئات للدولة ولنفسه، إذا أحسنوا السيرة، وأنه ينوي افتتاح عهد جديد يغاث فيه الناس ويستريح السلطان.
ومع هذه الشدة البادية في كلام
29
زياد كان يبعث إلى الجماعة منهم فيقول: ما أحسب الذي يمنعكم من إتياني إلا الرجلة
30
فيقولون: أجل، فيحملهم ويقول : أغشوني الآن واسمروا عندي، يحاول تألفهم والوقوف على آرائهم من طرف خفي، والبعد جفاء، والعامل مضطر إلى أن يعلم البواطن والظواهر، ولا ميدان لالتقاط الفوائد إلا في المجالس الخاصة. قال عمر بن عبد العزيز: «قاتل الله زيادا جمع لهم كما تجمع الذرة، وحاطهم كما تحوط الأم البرة، وأصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام في شامهم، وجبى العراق مائة ألف ألف وثمانية عشر ألف ألف.»
كان زياد إذا ولى رجلا قال له: خذ عهدك وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك: إذا وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بقوتك لضعفك، وسلمتك من موتنا أمانتك، وإن وجدناك خائنا قويا استهنا بقوتك، وأحسنا على خيانتك أدبك فأوجعنا ظهرك، وأثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الجرمين، جعلنا عليك المضرتين، وإن وجدناك أمينا قويا زدناك في عملك ورفعنا لك ذكرك، وأكثرنا مالك، وأوطأنا
31
عقبك. هذا مثال من أعمال عمال معاوية وما يريدون أن يكون عليه من يتصرفون للسلطان ليستقيم أمر البلاد.
وكان زياد يقول: استوصوا بثلاثة منكم خيرا: الشريف والعالم والشيخ، فوالله لا يأتيني شيخ بشاب قد استخف به إلا أوجعته، ولا عالم بجاهل استخف به إلا نكلت به، ولا يأتيني شريف بوضيع استخف به إلا انتقمت له منه. قال زياد لحاجبه: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأنساب، ثم على الآداب، قال: فمن تؤخر؟ قال: من لا يعبأ الله بهم، قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف، وكسوة الصيف في الشتاء. وقال لحاجبه: وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادي إلى الله في الصلاح والفلاح لا توقفه عني، ولا سلطان لك عليه، وطارق الليل لا تحجبه، فشر ما جاء به، ولو كان خيرا ما جاء في تلك الساعة، ورسول صاحب الثغر، فإن أبطأ ساعة فسد عمل سنة، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد. قال العتبي: كان في مجلس زياد مكتوب: «الشدة في غير عنف، واللين في غير ضعف، المحسن يجازى بإحسانه ، والمسيء يعاقب بإساءته، الأعطيات في أيامها، لا احتجاب من طارق ولا صاحب ثغر.» وكان زياد يؤثر الأعمال على الأقوال لعلمه بأنها تنادي على نفسها، فقد بنى بالبصرة أحياء ودورا ومساجد وحفر أنهارا وترعا وكل ما بنى فيها أو صنع فإنه نسب إلى غيره.
32
ولم يزل زياد بالمداراة من يوم كان أميرا على فارس، وهي تضرم نارا
33
حتى عادوا إلى ما كانوا عليه من الطاعة والاستقامة، لم يقف موقفا للحرب، وكان أهل فارس يقولون: ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا بيني وبين اللين والمداراة والعلم بما يأتي. ولما قدم فارس بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره ومناه، وخوف قوما وتوعدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضا، وصفت له فارس فلم يلق فيها جمعا ولا حربا، وفعل ذلك بكرمان، هذا مع أن جماعة مقاتلة البصرة كانوا أيام زياد ثمانين ألفا، وعيالهم مائة ألف وعشرين ألف عيل، ومقاتلة الكوفة ستين ألفا وعيالهم ثمانين ألفا، وكان له في البصرة ديوان اسمه ديوان جند العرب.
وقدم زياد العراق وهي جمرة تشتعل
34
فسل أحقادهم، وداوى أدواءهم، وابنه عبد الله تولى العراق بعده، وهو أول من عرف العرفاء، ودعا الفقراء، ونكب
35
المناكب، وحصل الدواوين، ومشى بين يديه بالعمد ووضع الكراسي، وعمل المقصورة ولبس الزيادي، وربع الأرباع بالكوفة، وخمس الأخماس بالبصرة، وأعطى في يوم واحد للمقاتلة والذرية من أهل البصرة والكوفة، وضبط زياد وابنه عبد الله العراق بأهل العراق، هكذا كانت أعمال العمال تسير على أجمل مثال.
كتب معاوية إلى سليم بن عتر قاضي مصر يأمره بالنظر في الجراح والحكم فيها، وكان الرجل إذا أصيب فجرح بذلك الجرح فقصته على عاقلة
36
الجارح، ويرفعها إلى صاحب الديوان، فإذا حضر العطاء اقتضى من أعطيات عشيرة الجارح ما وجب للمجروح وينجم
37
ذلك في ثلاث سنين، والقاضي سليم هذا أول من سجل في مصر سجلا بقضائه، وذلك أنه اختصم إليه في ميراث فقضى بين الورثة ثم تناكروا فعادوا إليه ، فقضى بينهم وكتب كتابا بقضائه، وأشهد فيه شيوخ الجند ثم سجله، وكان من سياسة معاوية أن يحمي عماله الصادقين، وما كان يقيد من عماله ويدي
38
من بيت المال.
ابتكر معاوية في الدولة أشياء لم يسبق أحد إليها،
39
منها أنه أول من وضع الحشم للملوك، ورفع الحراب بين أيديهم، ووضع المقصورة التي يصلي فيها الخليفة منفردا عن الناس، وهو أول مسلم غزا في البحر وأنشأ الأسطول في صناعة صور وطرابلس، وغزا الروم، ولما فتح قبرص ورودس كان معه 1700 سفينة، وأهم ما قام به تنظيم الجيش فضاعف عطاءه، ووقت أوقاتا لتناول أرزاق الجند، ووفق إلى استخدام أكبر رجال الإدارة وأعظمهم: زياد ثم عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والضحاك بن قيس وأبو الأعور السلمي ومسلم بن عقبة وبشر بن أبي أرطأة وحبيب بن سلمة، وكان إذا لامه أهله على كثرة بذله المال للعلويين والهاشميين أجابهم أن الحرب تستلزم نفقات أكثر من هذا العطاء، وهو أول من وضع البريد، أحضر رجالا من دهاقين الفرس وأهل عمال الروم فعرفهم ما يريد فوضعوا له البريد، واتخذوا له بغالا بأكف كان عليها سفر البريد، وكان لا يجهز عليه إلا الخليفة أو صاحب الخبر، وهو الذي اخترع ديوان الخاتم وحزم الكتب ولم تكن تحزم، واستكتب عبد الله بن أوس الغساني سيد أهل الشام، وجعل على كل قبيلة من قبائل مصر رجلا يصبح كل يوم فيدور على المجالس، فيقول: هل ولد الليلة فيكم مولود، وهل نزل بكم نازل، فيقال: ولد لفلان غلام ولفلان جارية فيكتب أسماءهم، ويقال: نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله فيسميه وعياله، فإذا فرغ من القبيل أتى الديوان حتى يثبت ذلك، وعلى هذا كانت الدولة تحصي السكان، ولا يفوتها خبر من يتنقل في أرجاء البلدان.
واستخدم معاوية النصارى في مصالح الدولة، وكان عمر يمتنع من استخدامهم إلا إذا أسلموا، فعهد إلى سرجون بن منصور، ثم إلى ابنه منصور بن سرجون من نصارى الشام، بإدارة أمواله، وكان منصور والد سرجون على المال في الشام من عهد هرقل قبل الفتح، ساعد المسلمين على قتال الروم بأن أبى أن يمسك الرجال بالمال
40
قائلا: إن الملك، أي هرقل، غير محتاج إلى هذا العسكر العظيم؛ لأنه يحتاج إلى مال كثير وليس بدمشق مال عظيم. قالوا: إنه أراد بذلك أن يسمع الرجال أن ليس بدمشق مال يعطيهم، فيتفرق الجند، ويسلم المدينة إلى العرب. أحب معاوية الانتفاع من كل قوة تستخدم في قيام الدولة، وتعين على انتظام الجماعة، ولما رحل جبلة بن الأيهم
41
إلى الروم وارتد عن إسلامه، دعاه معاوية بن أبي سفيان إلى الرجوع إلى الإسلام، ووعده إقطاع الغوطة بأسره، يريد بذلك تلافي خطأ عمر بن الخطاب يوم أبى إلا إقامة الحد على جبلة، فكان من ذلك فراره إلى الروم، و«كان آل جفنة عمال القياصرة على عرب الشام، كما كان آل نصر عمال الأكاسرة على عرب العراق.»
وباتخاذ دمشق دار الخلافة بعد أن كانت دار إمارة الشام، انتقلت سياسة الملك من المدينة فكثر سكان الفيحاء من العرب، يقصدها طلاب العمل وغيرهم من الأقطار، ويختص الخليفة أهل الشام بعنايته، ويستعمل الصالحين من أهل الذمة في أعماله الإدارية، ورأى النصارى أكثرية في الشام وأنهم كثيرا ما تطالوا إلى الروم ودلوهم على عورات البلاد، فنقل إلى السواحل قوما من زط البصرة والسيابجة، وأنزل بعضهم أنطاكية، وأصل الزط من السند يغلب السواد على سحناتهم، ونقل قوما من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور، ونقل من أساورة
42
البصرة والكوفة وفرس بعلبك وحمص إلى أنطاكية جماعة، وأسكن حصن سفيان الذي بناه على أميال من طرابلس جماعة كثيرة من اليهود، وجعل قنسرين وأنطاكية ومنبج وذواتها جندا، وبنى حصونا في الساحل، وأسكن الشام جمهرة من القبائل العربية فمزجهم بأهلها الأصليين حتى يكون آمنا في دار ملكه، وبعمله هذا أصبح الساحل الشامي غاصا بالعجم والعرب، وذلك تفاديا من أن يستأثر النصارى وحدهم بمفتاح البلاد من البحر، وفي مزج العرب والفرس بسكان البلاد الأصليين يصبح كل عنصر رقيبا على العنصر الآخر ومنافسا له، ولما صالح صاحب قبرص خير أهلها بين أن يسكنوا الشام أو يرتحلوا إلى بلاد الروم.
ولئن غدت دمشق قبلة الإسلام ودار الملك، فقد ظلت المدينة عاصمة الفقه والدين مدة خلافته وخلافة من خلفوه، وما جعل مقره في الشام إلا لأن أهلها أحبوه لما بلوه، وكفى بعهد إمارته عليهم أن يعرفهم ويعرفوه، ويطبع طباعهم بطابع الطاعة والتزام جانب الجماعة، وخصلة أخرى أيضا، وهي أن دمشق متوسطة في البلاد الإسلامية أكثر من الحجاز، وفي الشام من الخيرات الطبيعية والأعمال الصناعية ما يمتاز منه الجيش ويرتفق، وما يترفه به العلية من رجال الدولة ويقوون. ونحن على صواب إذا قلنا: إن دمشق أصبحت في عهد معاوية ثم في عهد الخلفاء بعده مدرسة يتخرج فيها القواد والأمراء والجند.
ومن أهم ما قام به معاوية للتأثير في الرأي العام حسن معرفته باستخدام الشعراء
43
وكان الشعراء كأرباب الصحافة في هذا العصر، فانتفع بهم لمصلحة الدولة، وتكوين الوطنية العربية، فأبعد الشعر عن الهجو المألوف بين القبائل وجعله أداة عمل صالحة، ولم يغفل معاوية في وقت من الأوقات عن تعهد الزراعة وعني بها في الحجاز عناية خاصة، فأحيا موات الأرضين، واحتفر الآبار للسقيا، وأقام أسدادا للانتفاع بالمياه، وسرت أسرته ومعاصروه على طريقته، فشهدت الحجاز قرنا من الارتقاء لم تره من بعد، هذا مع أن طبيعة الحجاز قاسية غير ملائمة، ولكن الخليفة العاقل ما أحب لأهل الحجاز أن يعيشوا من العطايا والصدقات وموسم الحج؛ لأنها موارد غير طبيعية في المعاش، ومذاهب في الاتكال لا يؤمن مع زوالها عيش ونعمة. وصالحت الروم معاوية على أن يؤدي إليهم مالا، وارتهن معاوية منهم رهناء فوضعهم ببعلبك، ثم إن الروم غدرت فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهنهم وخلوا سبيلهم، وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر.
كان معاوية في الإبداع بتأسيس دولة الأمويين كعمر بن الخطاب في إبداعه بإنشاء دولة الراشدين، ومع هذا فقد قيل: إن أحد الصلحاء سئل أيام معاوية كيف تركت الناس؟ قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف وظالم لا ينتهي، كأنه يريد أن تكون إدارة الملك على عهد ابن أبي سفيان، كما كانت على عهد عمر بن الخطاب، وفاته أن لكل عصر طريقته ورجاله، والغالب أن البعيد لا يقدر الأمور بقدرها كالقريب، وأرباب الصلاح يتوهمون أن العدل المطلق يستفيض في الناس بأمر من الخليفة أو بعناية عماله وحدهم، وأن كل خير لا يأتي إلا من السلطان، أما المحكومون فليس لهم كبير أثر في إفاضة العدل في العالم ولا تلحق بهم تبعة، والنقد سهل والصعوبة في الإبداع.
قال المسعودي (وهو مشهور بتشدده في تشيعه): وأخبار معاوية وسياساته وما أوسع الناس من أخلاقه، وما أفاض عليهم من بره وعطائه، وشملهم من إحسانه، مما اجتذب به القلوب، واسترعى به النفوس، حتى آثروه على الأهل والقرابات، وقد كان ائتم بأخلاقه جماعة بعده مثل عبد الملك بن مروان وغيره فلم يدركوا حلمه، ولا إتقانه للسياسة، ولا التأني للأمور، ولا مداراته للناس على منازلهم، ورفقه بهم، ورفعه لهم على طبقاتهم. وقال الطبري: لما حضر معاوية أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال، كأنه أراد أن يطيب له الباقي لأن عمر قاسم عماله.
إدارة يزيد ومعاوية الصغير ومروان وابنه عبد الملك
عني معاوية في آخر أيامه بتخريج يزيد ابنه وولي عهده، يستشيره في المسائل الطارئة، ويأخذ برأيه أحيانا، ويبعث همته على العمل، ليتولى الأمر عن كفاية، ومشى يزيد في إدارته على أثر أبيه، فكان لا يضن بالمال مهما عظم في سبيل الخلافة، وفد عليه عبد الله بن جعفر فقال له: كم كان عطاؤك؟ فقال له: ألف ألف، قال: قد أضعفناها لك، قال: فداك أبي وأمي، وما قلتها لأحد قبلك، قال: أضعفناها لك ثانية، فقيل ليزيد: أتعطي رجلا واحدا أربعة آلاف ألف؟ فقال: ويحكم، إنما أعطيتها أهل المدينة أجمعين، فما يده إلا عارية، وما زال يزيد يزيد في إعطائه لمنزلته، ولأنه يريد أن يتألف بواسطته أهل المدينة، ويرفع يد ابن الزبير عنها وعن دعوى الخلافة، وما أثر عن يزيد أنه غير شيئا من أصول إدارة أبيه لاستغراق حرب الحسين بن علي في العراق وعبد الله بن الزبير في الحجاز معظم أوقاته، أما ابنه وخليفته معاوية الصغير أو الثاني فكانت خلافته أياما وما أراد أن يدخل في شيء من مهامها.
كان مروان كمعاوية آية في عقله وسياسته وتدبيره، درس الإدارة زمنا طويلا في الحجاز، وعرف ما يفسد الناس ويصلحهم، ولكن أمره لم يطل كثيرا، وتستبين محاسنه في تدبيره الملك مما وقع لابنه عبد العزيز معه؛ فإن مروان لما ولي الخلافة جاء إلى مصر فأقام بها شهرين ثم جعل ولايتها إلى ابنه عبد العزيز؛ جعل إليه صلاتها وخراجها، فقال عبد العزيز:
44
يا أمير المؤمنين، كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ فقال مروان: يا بني، عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقا تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره، يكن عينا لك على غيره
45
وينقد قومه إليك، وقد جعلت معك أخاك بشرا مؤنسا، وجعلت لك موسى بن نصير وزيرا ومشيرا، وما عليك يا بني أن تكون أميرا بأقصى الأرض، أليس ذلك أحسن من إغلاق بابك وخمولك في بيتك؟
هكذا دبر مروان ابنه ليخرجه في الإدارة ويعلمه حكم الناس، جعل له موسى بن نصير وزيرا، وهو ما هو بعلمه وعقله وحسن سياسته؛ وفارق موسى أميره عبد العزيز بعد حين ذاهبا إلى إفريقية والمغرب، فقضى على البربر والرومان، ثم فتح الأندلس، أما بشر بن مروان مؤنس أخيه يوم تولى مصر، فقد تقلد البصرة والكوفة، فكان الناس يدخلون عليه من غير استئذان، ليس على بابه حجاب ولا ستر، ولابن عبدل في بشر بن مروان:
ولو شاء بشر كان من دون بابه
طماطم سود أو صقالبة حمر
ولكن بشرا أسهل الباب للتي
يكون لبشر عندها الحمد والأجر
بعيد مراد العين ما رد طرفه
حذار الغواشي باب دار ولا ستر
استعمل عبد المك بشرا وأمره بالشدة والغلظة على أهل المعصية،
46
وباللين على أهل الطاعة، وخلف معه أربعة آلاف من أهل الشام منهم روح بن زنباع ورجاء بن حيوة الكندي، وهما من أمثل رجال بني أمية وأعلمهم وأسوسهم، وكان من سياسة بشر أو من سياسة دولته عامة، أنه إذا ضرب البعث
47
على أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمركزه أقامه على كرسي، ثم سمر يديه في الحائط، ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه، فلا يزال يتخبط حتى يموت، وبهذه الشدة على المجندين ما كانت تحدث أحدا نفسه بالهزيمة من الخدمة، وكان جيش بني أمية أطوع جيش عربي، ولا يستغربن أحد هذه الشدة فجزاء الفار من الجندية في يومنا هذا القتل.
رأينا عبد العزيز بن مروان أمير مصر وما كان من نصيحة أبيه له في سياسة الرؤساء، ليسلس له قياد المرءوسين، وكيف لقنه أبوه أقرب الطرق إلى استمالة القلوب وكان عند حسن ظنه به، فجاء عبد العزيز نابغة في إدارته، عمرت مصر في أيامه عمرانا ليس مثله، ومما بنى في حلوان الدور والمساجد وغيرها أحسن
48
عمارة وأحكمها، وغرس نخلها وكرمها، وكان له ألف جفنة
49
كل يوم تنصب حول داره، ومائة جفنة يطاف بها على قبائل تحمل على العجل إلى قبائل مصر.
ولي عبد العزيز مصر فكان خراجها وجبايتها إليه، فلم يوجد له مال ناض
50
يوم موته إلا سبعة آلاف دينار، وكانت ولايته على مصر عشرين سنة وعشرة أشهر وثلاثة عشر يوما، على حين لما مات عبد الله بن عبد الملك بن مروان وكان عاملا على مصر ترك ثمانين مدا من الذهب، وتقدم إليه أبوه أن يعفي آثار عمه عبد العزيز لمكانه من ولاية العهد، فاستبدل بالعمال عمالا وبالأصحاب أصحابا؛ ذلك لأن عبد العزيز لم يرض أن ينزل عن ولاية العهد لابن أخيه في حياته، وعبد العزيز هو والد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي العادل.
وجرى عبد الملك بن مروان في إدارة الملك على طريقة والده وطريقة معاوية في تخريج آله وعماله في سياسة البلاد، فزادت الأمور استقرارا، والأعمال تسلسلا، والعمال رغبة ورهبة، والرعايا أمنا ودعة، ولقد قيل له أن يأخذ بسيرة عثمان فقال: «وما خالف عثمان عمر في شيء من سيرته إلا باللين، فإن عثمان لان لهم حتى ركب، ولو كان غلظ عليهم جانبه كما غلظ ابن الخطاب ما نالوا منه ما نالوا.» وقال: «إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس، إن ذهب اليوم رجل يسير بتلك السيرة، أي باللين، أغير على الناس في بيوتهم، وقطعت السبل، وتظالم الناس، وكانت الفتن، فلا بد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه.» وهذا هو السر العظيم في نجاح الممالك في كل عصر وأمة، وقال عبد الملك يوما: أنصفونا يا معشر الرعية تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر، ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر، نسأل الله أن يعين كلا على كل، وسأله ابنه الوليد يا أبت ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.
51
ولى عبد الملك العراقين الحجاج بن يوسف الثقفي فقال: دلوني على رجل أوله، فقيل له: أي الرجال تريد؟ قال: أريد دائم العبوس، طويل الجلوس، سمين الأمانة، أعجف الخيانة، لا يحنق في الحق على مرة، يهون عليه سؤال الأشراف في الشفاعة، فقيل: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي فأرسل إليه فاستعمله، فقال له: لست أقبلها إلا أن تكفيني عمالك وولدك وحاشيتك، فقال الحجاج: يا غلام ناد من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت الذمة منه. قال الشعبي: فوالله ما رأيت قط صاحب شرطة مثله، كان لا يحبس إلا في دين، وكان إذا أتي برجل نقب على قوم، وضع منقبته في بطنه حتى تخرج من ظهره، وكان إذا أتي برجل نباش حفر له قبرا ودفنه فيه حيا، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة وأظهر سلاحا قطع يده، فربما أقام أربعين يوما لا يؤتى إليه بأحد، فضم إليه الحجاج شرطة البصرة مع شرطة الكوفة.
خطب الحجاج أهل العراق: «إني رأيت آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمطيع بالعاصي، حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم.» ولما اتصل بعبد الملك إسراف الحجاج في
52
القتل وأنه أعطى أصحابه الأموال كتب إليه: أما بعد، فقد بلغني سرفك في الدماء وتبذيرك الأموال، وهذا ما لا أحتمله لأحد من الناس، وقد حكمت عليك في القتل بالقود، وفي الخطأ بالدية، وأن ترد الأموال إلى أصحابها، فإنما المال مال الله ونحن خزانه، وقد متعنا بحق فأعطينا باطلا. كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في أخذ الفضل من أموال السواد فمنعه من ذلك وكتب إليه: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وابق لهم لحوما يعقدون بها شحوما.»
وكان الحجاج يأخذ بأيدي العلماء ممن لا يتدخلون في سياسته، ولا يشاركونه في سلطانه، ويضع في كل يوم ألف خوان في رمضان وفي سائر الأيام خمسمائة خوان، على كل خوان عشرة أنفس وعشرة ألوان وسمكة مشوية طرية وأرزة بسكر، وكان يحمل في محفة ويدار به على موائده ويتفقدها، فإذا رأى أرزة ليس عليها سكر، وسعى الخباز ليجيء بسكرها فأبطأ، حتى أكلت الأرزة بلا سكر أمر بضربه مائتي سوط، فكانوا بعد ذلك لا يمشون إلا متأبطي خرائط السكر.
53
وكان يوسف ابن عمر والي العراق في أيام هشام بن عبد الملك يضع خمسمائة خوان، فكان طعام الحجاج لأهل الشام خاصة، وطعام يوسف بن عمر لمن حضره، فكان عند الناس أحمد.
واشتهر عهد الحجاج
54
بإصلاح الموازين والخراج والزراعة فهو رجل الدولة بإصلاحاته، ولم يكن مصلحا فحسب بل كان مصلحا وموجدا، ومن إيجاده وضع الحركات والإعجام في المصاحف، لئلا يلتبس شيء من الآيات على من لا يعلم القرآن، واتخذ
55
الحجاج دار الضرب وجمع فيها الطباعين، فكان يضرب المال للسلطان مما يجتمع له من التبر وخلاصة الزيوف والستوقة والبهرجة، ثم أذن للتجار وغيرهم في أن تضرب لهم الأوراق، واستغلها من فضول ما كان يؤخذ من فضول الأجرة للصناع والطباعين، وختم أيدي الطباعين.
حرض عبد الملك ابنه على المشاورة في قضاء الأمور لما أسند إليه إمارة مصر قائلا له: «انظر أي بني إلى أهل عملك، فإن كان لهم عندك حق غدوة فلا تؤخره إلى عشية، وإن كان لك عشية فلا تؤخره إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلها، تستوجب بذلك الطاعة منهم، وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب، فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في الحق، واستشر جلساءك وأهل العلم، فإن لم يستبن لك فاكتب إلي يأتك رأيي فيه إن شاء الله، وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة
56
الغضب، واحبس عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون، وأنت ساكن الغضب مطفأ الجمرة، فإن أول من جعل السجن كان حليما ذا أناة، ثم انظر إلى أهل الحسب والدين والمروءة فيكونوا أصحابك وجلساءك، ثم ارفع منازلهم منك على غيرهم، على غير استرسال ولا انقباض، أقول هذا وأستخلف الله عليك.» وهذا من أجمل أساليب الإدارة وسياسة الناس: لا تأخير في الفصل بينهم، ولا كذب في الوعود والمواعيد، واستشارة العارفين والعالمين، وجعلهم وحدهم بطانة وسمارا وجلساء، ولا إسراع في إنزال العقوبات حتى يذهب الغضب.
وبلغ عبد الملك أن بعض كتابه قبل هدية فقال له: والله إن كنت قبلت هدية لا تنوي مكافأة المهدي لها إنك لئيم دنيء، وإن كنت قبلتها تستكفي رجلا لم تكن تستكفيه لولاها إنك خائن، وإن كنت نويت تعويض المهدي عن هديته وأن لا تخون له أمانة ولا تثلم له دينا، فلقد قبلت ما بسط عليك لسان معامليك، وأطمع فيك سائر مجاوريك، وسلبك هيبة سلطانك، ثم صرفه عن عمله؛ ذلك لأن غاية الخليفة ترتيب قواعد الدولة على أصول نقية من الشوائب، والرشوة من طريق الهدايا تذهب بها حقوق أحد المتنازعين أو حقوقهما معا. وكان عبد الملك بن رفاعة أمير مصر (96) يقول: إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الطاق.
وأدخل عبد الملك أمورا جديدة في الإدارة، وهو أول من أفرد للظلامات يوما يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة للنظر، وكان إذا قعد للقضاء أقيم على رأسه بالسيوف وينشد قول سعيد بن عريض بن عادياء من يهود الحجاز:
إنا إذا مالت دواعي الهوى
وأنصت الساكت للقائل
واصطرع الناس بألبابهم
نقضي بحكم عادل فاضل
لا نجعل الباطل حقا ولا
نلط
57
دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا
فنخمل الدهر مع الخامل
وزاد عبد الملك الجزية، وأقل الجزية دينار، وأكثرها مفوض إلى الاجتهاد، استقل ما يؤخذ منها بالجزيرة - وكان دينارا على كل جمجمة ومدين قمحا؛ وقسطين زيتا وقسطين خلا، وضعها عليهم عياض بن غنم في الفتح - فأحصى عبد الملك الجماجم وجعل الناس كلهم عمالا بأيديهم، وحسب ما يكسبه العامل سنته كلها، ثم طرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه
58
وكسوته وحذائه، وطرح أيام الأعياد في السنة كلها، فوجد الذي يحصل بعد ذلك لكل واحد أربعة دنانير، فألزمهم ذلك جميعا وجعلهم طبقة واحدة، ثم حمل الأموال على قدر قربها وبعدها،
59
وهذا خلا نوائب الرعية، وهو ما يضربه عليهم الإمام من الحوائج، كإصلاح القناطر والطرق وغير ذلك مما فيه عمارة بلادهم.
وفي أيام عبد الملك نقلت دواوين مصر والشام والعراق من القبطية والرومية والفارسية إلى العربية، فكان ذلك من أهم الأسس التي أقيمت في بناء القومية العربية في الممالك الإسلامية كافة، وقطع به آخر مظهر من مظاهر الأعاجم، فأصبحت البلاد عربية بأوضاعها سائرة إلى التعرب بسكانها، وكان كاتب الرسائل سليمان بن سعد الخشني من أهل الأردن أول مسلم ولي الدواوين كلها، وكان يتولاها القبط والروم والعجم، وكان بالبصرة والكوفة
60
ديوانان لإعطاء الجند والمقاتلة والذرية بكتاب العربية، وديوانان بالفارسية، وبالشام ديوان بالعربية لمثل ذلك، وديوان بالرومية، فحول ديوان العراق إلى العربية أبو الوليد صالح بن عبد الرحمن البصري، قدمه لذلك الحجاج فكان كتاب العراقين كلهم غلمانه وتلاميذه،
61
ونقل ديوان مصر من القبطية إلى العربية عبد الله بن عبد الملك بن مروان أمير مصر في خلافة الوليد بن عبد الملك سنة سبع وثمانين ونسخها بالعربية، وجعل على الديوان ابن يربوع الفزاري من أهل حمص، وتأخرت بعض البلاد في هذا التغيير من رسم الإدارة، فإن أول من كتب بالعربية في ديوان أصبهان سعد بن إياس كاتب عاصم بن يونس عامل أبي مسلم صاحب الدعوة، وهو أول من أخذ الناس بتعلم القرآن من أهل أصبهان، يقال: إنه استقرأ المسلمين بها فلم يجد إلا ثمانين رجلا لم يكن فيهم من يحفظ القرآن إلا ثلاثة، فلم يحل الحول حتى تعلم الناس القرآن وحفظوه.
وعبد الملك أول من كتب على الدينار «قل هو الله أحد» وذكر النبي في الطوامير، وكانت الدنانير رومية تدخل من بلاد الروم، والدراهم كسروية وحميرية
62
قليلة، فهو أول من ضرب الدراهم المنقوشة، وكان على خاتمه قبيصة بن ذؤيب والبريد إليه، يقرأ الكتب إذا وردت ثم يدخلها على عبد الملك فيخبره بما فيها،
63
ومن أهم أعمال الدولة وظيفة صاحب الشرطة، ومن أعماله أن يحجب الناس ويحافظ على الخليفة، وكان الأمويون لا يأذن خلفاؤهم بالدخول عليهم إلا بالترتيب الذي عينوه، والولاة ينزلون في المعسكر تحيط بهم الجند لتسهل المحافظة عليهم فلا يغتالهم مغتال، وقد يتنقلون في عمالاتهم، فزياد يقيم بالكوفة ستة أشهر وفي البصرة مثلها،
64
وهو أول من سير بين يديه بالحراب والعمد واتخذ الحراس خمسمائة لا يفارقون مكانه.
وكانت تقرأ عهود القضاة الذين نصبوا حديثا في المسجد الجامع أولا، ثم يقصدون دار الأمير فيقرأ أمامه عهد القاضي، والقضاة يقضون في الجوامع، وكان الجامع في الإسلام هو المجمع والمجلس والمحكمة وديوان المال والمدرسة وكل ما له علاقة بالسلطان والسكان، ويدبر الولاة ولاياتهم في المعسكرات، والمعسكرات بعيدة عن دور الحكومة القديمة، و«ليس
65
من مدينة عظيمة إلا وبها دار ينزلها غزاة تلك البلدة، ويرابطون بها إذا وردوها، وتكثر لديهم الصلات، وترد عليهم الأموال والصدقات العظيمة»، وإذا رحل الجيش واضطر إلى النزول في القرى لشدة البرد في الشتاء يؤويه أهلها ثلاثة أيام ويطعمونه مما يطعمون، ويقول البلاذري: إن مسلمة بن عبد الملك لما غزا عمورية حمل معه نساءه وحمل ناس ممن معه نساءهم، وكانت بنو أمية تفعل ذلك إرادة الجد في القتال للغيرة على الحرم، وكانت أمور الحرب بيد الولاة في الولايات تقوم
66
بها القبائل المهاجرة إليها، أما جيش الخليفة الخاص وهو عبارة عن أجناد الشام فكان خاصا بقتال الروم وحماية الخليفة من فتنة داخلية، وبفضل هذه القوى المخلصة للأمويين ظفروا في الحرب الأهلية سنة 64 وجرى عبد الملك على طريقة عمر ومعاوية وزياد والحجاج في أخذ نفسه بالتطلع إلى استعلام بواطن أمور الرعايا، وكذلك كان في التطبع إلى أخبار الروم وغيرهم ممن كانوا يودون أبدا أن يكيدوا للمسلمين.
أوصى أميرا سيره إلى أرض الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحا تجر وإلا تحفظ برأس المال، ولا تطلب الغنيمة حتى تحوز السلامة، وكن من احتيالك على عدوك أشد حذرا من احتيال عدوك عليك، وأوصى أولاده أن يعطف الكبير منهم على الصغير، وأن يعرف الصغير حق الكبير، وحذرهم البغي والتحاسد، وأوصاهم بأخيهم مسلمة وأن يصدروا عن رأيه، وأن يكرموا الحجاج فإنه هو الذي وطأ لهم هذا الأمر.
إدارة الوليد وسليمان
تولى الوليد بن عبد الملك الخلافة فسار على سيرة أبيه، وراعى إخوته وحث أولاده على اصطناع المعروف، وكان غرامه بعمران البلاد وإقامة المصانع والجوامع واعتقاد
67
الضياع، فقلده رعاياه في ذلك، فكان الناس في أيامه يخوضون في وصف الأبنية، ويحرصون على التشييد والتأسيس، ويولعون بالضياع والعمارات
68
لوفرة الثروة في أيدي الناس، وقد كتب أحد عمال الوليد بن عبد الملك أن بيوت الأموال قد ضاقت من مال الخمس، فكتب إليهم أن يبنوا المساجد، وأجرى الوليد الأرزاق على القراء وقوام المساجد وعلى العميان، وأصحاب العاهات والمجذمين، وأخدم كل واحد منهم خادما، وكان يهب أكياس الدراهم تفرق في الصالحين، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة، وزاد الناس جميعا في العطاء عشرة عشرة وذلك للشاميين خاصة، وزاد أهل بيته في جوائزهم الضعف، وفي مئات الألوف من الدنانير التي أنفقها على إقامة الجوامع والمصانع، وما مكان في خزائنه من الأموال التي تكفي الدولة خمس عشرة سنة مقنع لمن أراد أن يتصور الأموال التي احتجنها هو ومن قبله من الخلفاء استعدادا للطوارئ.
ودخلت الدولة في حالة استقرار ونظام وانتهى
69
تعريب الملك والإدارة، وأخذت الوظائف الكبرى من النصارى، ونحي آل سرجون الدمشقيون عن إدارة الأموال، وبلغت الفتوحات أقصى حدودها، وظهرت أبهة الملك والسلطان ومالت الدولة إلى إقامة الأعمال العظيمة على الدهر، تخليدا للذكر وإشادة بالفخر، والوليد هو الذي جود القراطيس، وجلل
70
الخطوط وفخم المكاتبات، وتبعه من بعده من الخلفاء إلا عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد، فإنهما جريا في المكاتبات على طريقة السلف، ثم جرى الأمر بعدهما على ما سنه الوليد بن عبد الملك إلى أن صار الأمر إلى مروان بن محمد فعمدوا إلى الإطناب، وكان الوليد موفقا في فتوحه في الشرق والغرب بفضل قواده وولاته ممن كان يعرف لهم أقدارهم، وما كانت فتوحه تشغله عن النظر في عمران البلاد. ومن خلق الوليد أنه كان سمحا يسره أن يرى لعماله شيئا من الرفاهية، كتب إليه الحجاج إنه أصيب لمحمد بن يوسف خمسون ومائة ألف دينار، فإن يكن أصابها من حلها فرحمه الله، وإن تكن من خيانة فلا رحمه الله، فكتب إليه الوليد: إن محمد بن يوسف أصاب ذلك المال من تجارة أحللناها له، وأمره أن يترحم عليه.
وتوسع الأمويون في هذه الحقبة في إفاضة الأموال على عمالهم، وكان القاضي بمصر مثلا يرزق ألف دينار في السنة، كان ابن حجيرة الأكبر في مصر (69-83) على القضاء والقصص
71
وبيت المال، فكان رزقه من القضاء مائتي دينار، وفي القصص مائتي دينار، ورزقه في بيت المال مائتا دينار، وعطاؤه مائتا دينار وجائزته مائتا دينار، والعادة الجارية عندهم أن لا يعطى العامل سوى رزق واحد، ولم يكن أحد من بني مروان يأخذ العطاء إلا عليه الغزو، فمنهم من يغزو، ومنهم من يخرج بدلا، وكانوا يصيرون أنفسهم في أعوان الديوان في بعض ما يجوز لهم المقام به، ويوضع به الغزو عنهم، أما الحجاج فكان يشتد في تجنيد الناس؛ لأنه يقظ حذر دائما، فكان لا يدع قرشيا ولا رجلا من بيوتات العرب إلا أخرجه «وضرب
72
البعث على المحتلمين ومن أنبت من الصبيان، فكانت المرأة تجيء إلى ابنها وقد جرد فتضمه إليها وتقول له: بأبي، جزعا عليه، فسمي ذلك الجيش جيش بأبي.» وكان تجريد الشبان من ثيابهم للاطلاع على عيوب أجسامهم، فينبذ السقيم ويجند السليم.
خطب الحجاج لما جاء واليا على العراق، وقد بعث بشر بن مروان المهلب إلى الحرورية ومما قال: وإياي وهذه الزرافات والجماعات وقال وقيل وما يقولون وفيم أنتم، والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل شغلا في جسده، ومن وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وانتهبت ماله وهدمت منزله، فشمر الناس بالخروج على المهلب. ولا يمنع بعث البعوث عند الشدائد من وجود جيوش عند الخليفة وعماله في الأقطار؛ تشبه الجيش الدائم تحت السلاح؛ يتيسر حشده عند الحاجة بقليل من العناية.
وكأن سياسة الدولة في هذا العهد كانت صورة من سياسة الحجاج؛ فقد كتب إليه الوليد يأمره أن يكتب إليه بسيرته فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، وأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته، وقسمت لكل خصم من نفسي قسما أعطيته حظا من لطيف عنايتي ونظري، وصرفت السيف إلى النطف
73
المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب. ا.ه.
ولما أفضى الأمر إلى سليمان بن عبد الملك أقر عمال من كانوا قبله على أعمالهم، وجلس في صحن المسجد وقد بسطت لديه البسط والنمارق عليها،
74
وصفت الكراسي، وأذن للناس بالجلوس، وإلى جانبه الأموال والكساوي وآنية الذهب والفضة، فيدخل وفد الجند ويتقدم صاحبهم يتكلم عنهم وعمن قدموا من عنده، فيأمر سليمان بما يصلحهم ويرضيهم، فما يطلب أحد شيئا إلا نوله مرامه، ورد المظالم وعزل عمال الحجاج، وأخرج من كان في سجنه في العراق وأعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة وكساهم.
إدارة عمر بن عبد العزيز
عمل الخلفاء السبعة الأولون من الأمويين في إدارة الملك الإسلامي بما أوحاه إليه عقلهم وعلمهم، فكان الصحابة منهم والتابعون على مثال خالفوا فيه مرغمين بعض طريقة الراشدين؛ لأن علمهم بالناس زاد بما فتح الله عليهم من البلاد، ولأنه نشأت أحداث جديدة، ودخلت في الإسلام عناصر أخرى، وكان عهد الأمويين صورة من دولة عادلة تتساهل في الأخذ بما لا يضر من الأوضاع، وتقتبس ما تضطرها إليه طبيعة البلاد المفتتحة، وأكثر ما اهتموا له توفير الجباية مع النظر إلى عمران البلاد والدفاع عن الحوزة، والحساب للمستقبل بادخار فضل الأموال، والظهور بمظهر دنيوي لا يبعث بأصل من أصول الدين.
كان أكثر خلفاء الأمويين يقيلون العامل إذا حدث في جهته خرق لا يستطيع رتقه، أو فتنة تهرق فيها الدماء، وتكلف الدولة مالا، وجعلوا همهم في مقاتلة الخوارج والشيعة في الداخل، وغزو الروم والتوسع في الفتح من المشرق والغرب في الخارج، وكثيرا ما كانت بعض الأنحاء تثور على الدولة، إما لسبب تفاحش الخراج، أو لأسباب أخرى كما كان من قبط مصر، فخرجوا غير مرة على الأمويين وعلى من خلفوهم، وربما كان من بعض عمالهم من اشتط في تقاضي الخراج والجزية والصدقات. والظلم ما خلا عصر منه، وخصوصا في دولة ليست مشاكلها متشاكلة، ولا أجيال الناس في أصقاعها متوحدة متماثلة، وغاية ما يقال في الإدارة المتبعة أبدا توسيع سلطة العامل، حتى يسرع في فض مصالح الناس، ذلك لأن العرب ألفوا التقاضي على عجل، وما عرفوا التطويل في الخصومات والمراجعات، وهذا ما كان ظاهرا كل الظهور في عهد الخوالف من بني أمية، ولا سيما في خلافة عمر بن عبد العزيز واسطة عقد الأمويين، والمثل الأعلى للعدل الإسلامي.
كان الوليد بن عبد الملك عهد لعمر بإمارة الحجاز (مكة والمدينة والطائف) قبل أن يتقلد الخلافة فأبطأ عن الخروج، فقال الوليد لحاجبه: ما بال عمر لا يخرج إلى عمله؟ قال: زعم أن له إليك ثلاث حوائج، قال: فعجله علي، فجاء به الوليد، فقال له عمر: إنك استعملت من كان قبلي، فأنا أحب أن لا تأخذني بعمل أهل العدوان والظلم والجور، فقال له الوليد: اعمل بالحق وإن لم ترفع إلينا درهما واحدا.
75
فلعمر إذا طريقته في الإدارة اشترط قبل أن يتولى الإمارة أن تترك له حرية العمل، وكان يشعر قبل الخلافة بأن في إدارة الدولة شيئا من الظلم، قال يوما لأسامة بن زيد، وقد بعثه سليمان بن عبد الملك على ديوان جند مصر وحثه على توفير الخراج: ويحك يا أسامة، إنك تأتي قوما قد ألح عليهم البلاء منذ دهر طويل، فإن قدرت أن تنعشهم فأنعشهم.
ولما بويع عمر شرع لأول أمره بصرف عمال من كان قبله من بني أمية، واستعمل أصلح من قدر عليه فسلك عماله طريقته،
76
وأخذ يرد المظالم مظلمة مظلمة، لا يدع شيئا مما كان في أيدي أهل بيته إلا رده، وكتب إلى جميع عماله أن الناس قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنن سيئة سنتها عليهم علماء السوء، قلما قصدوا الحق والرفق والإحسان، وكان أول خطبة خطبها: «أيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير جهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترضن فيما لا يعنيه.»
وبدأ بنفسه فنزل عن أملاكه التي انتقلت إليه من أبيه بالإرث الشرعي، ورد على رجل قدم عليه من حلوان إقطاعا ادعى أن والده عبد العزيز لما كان واليا على مصر أقطعه عبد الملك بن مروان أرض حلوان فورثها عمر وإخوته، فقال عمر: إن لي فيها شركاء إخوة وأخوات، لا يرضون أن أقضي فيها بغير قضاء قاض، وقام معه إلى القاضي فقعد بين يديه، فتكلم عمر بحجته وتكلم المدعي فقضى له القاضي، فقال عمر: إن عبد العزيز قد أنفق عليها ألف ألف درهم، قال القاضي: قد أكلتم من غلتها بقدر ذلك، فثلجت نفس عمر بحكم القاضي وقال: وهل القضاء إلا هذا، تالله لو قضيت لي ما وليت لي عملا، وخرج إلى الرجل من
77
حقه، وأراد أهله على أن يتخلوا عن أملاكهم فقطع بالمقراض كتب الإقطاعات بالضياع والنواحي. قالوا: ولما أقبل عمر على رد المظالم وقطع عن بني أمية جوائزهم وأرزاق حراسهم، ورد ضياعهم إلى الخراج، وأبطل قطائعهم، ضجوا من ذلك على رءوس الملأ في المسجد، وكانت انتهت إليهم هذه الإقطاعات من الخلفاء السالفين، ذكروا أنه كانت غلة عمر لما بويع بالخلافة بين أربعين وخمسين ألف دينار، وما زال يردها حتى كانت يوم وفاته مائتي دينار، ولو بقي لردها كلها فأفقر نفسه حتى يقوى على بعض آله، فيسترد منهم ما أخذوا من عقار ومزارع، وخلف من الناض بضعة دنانير ولم يرتزق من بيت مال المسلمين شيئا ولم يرزأه
78
حتى مات، وأداه اجتهاده إلى أن في صيغة امتلاك آل بيته الضياع والرباع نظرا، وأن ما ورثه وورثوه بالطرق المشروعة يقضي العدل المطلق برده على من أخذ منه، واعتقاد الضياع واستثمار الأموال من شأن الرعايا لا الرعاة، فكان نظره أعلى، وطريقته أمثل وأعدل.
كان الرسول أقطع بلال بن الحرث المزني أرضا فيها جبل ومعدن فباع بنو بلال عمر بن عبد العزيز أرضا منها، فظهر فيها معدن أو قال معدنان فقالوا: إنما بعناك أرض حرص ولم نبعك المعادن، وجاءوا بكتاب النبي لهم في جريدة فقبلها عمر ومسح بها عينه وقال لقيمه: انظر ما خرج منها وما أنفقت وقاصهم بالنفقة ورد عليهم الفضل.
وأبطل عمر بن عبد العزيز هدايا النيروز والمهرجان،
79
وكانت تحمل إلى معاوية ومن بعده وقدرها عشرة آلاف ألف، وهي من العادات الفارسية، أقرها معاوية وأنكرها علي، وقضى عمر بأن يكتفى بالخراج (وزن سبعة) ليس لها آيين
80
ولا أجور الضرابين ولا هدية النيروز والمهرجان ولا ثمن الصحف ولا أجور الفيوج
81
ولا أجور البيوت ولا دراهم النكاح، ورفع الخراج عمن أسلم من أهل الأرض وأبطل جوائز الرسل وأجور الجهابذة وهم القساطرة وأرزاق العمال وإنزالهم، وأبطل السخرة والعطاء، وورث العيالات على ما جرت به السنة، وأقر القطائع التي أقطعها
82
أهل بيته، ولم ينقص العطاء في الشرف ولم يزد فيه، وزاد أهل الشام في أعطياتهم عشرة دنانير ثم رأى الرجوع عنها، وورد كتابه على عامله في مصر بالزيادة في أعطيات الناس عامة، وكسرت دنان الخمر وعطلت حاناتها وقسم للفلاحين بخمسة وعشرين ألف دينار، ونزعت مواريث القبط عن الكور واستعمل المسلمون عليها.
ووضع المكس
83
عن كل أرض واكتفى بالعشر، والعشر ما يجب في الزروع التي سقيت بماء السماء وما يؤخذ من أموال أهل الحرب إلى بلد الإسلام المتاخم لهم، وإذا استقر الصلح معهم على أخذ العشر أو الخمس أو أكثر منه أو أقل منه أثبت ذلك الشرط في الديوان، ووضع الجزية عن كل مسلم، وأباح الجزائر والأحماء كلها إلا النقيع،
84
وقال في الجزائر: هو شيء أنبته الله فليس أحد أحق به من أحد. وفرض للناس إلا للتاجر؛ لأن التاجر مشغول بتجارته عما يصلح المسلمين، وسوى بين الناس في طعام الجار، وكان أكثر ما يكون طعام الجار أربعة أرادب ونصف أردب لكل إنسان، وكتب إلى أحد عماله أن يستبرئ الدواوين
85
وينظر إلى كل جور جاره من قبله من حق مسلم أو معاهد فيرده عليه، فإن كان أهل تلك المظلمة قد ماتوا يدفعه إلى ورثتهم، وقضى على عماله بإبطال المائدة والنوبة،
86
ومن أدى زكاة ماله قبل منه، ومن لم يؤد فالله حسيبه. ورد الخمس على أهله وعلى أهل الحاجة، وقضى أن لا يؤخذ من المعادن الخمس بل تؤخذ الصدقة، وضرب أحدهم سبعين سوطا لأنه سخر دواب النبط.
وجرت عادة الخلفاء إذا جاءتهم جبايات الأمصار أن يأتيهم مع كل جباية عشرة رجال من وجوه الناس وأجنادها، فلا يدخل بيت المال من الجباية دينار ولا درهم حتى يحلف الوفد ما فيها دينار ولا درهم إلا أخذ بحقه، وأنه فضل أعطيات أهل البلد من المقاتلة والذرية بعد أن أخذ كل ذي حق حقه، أي فضل أعطيات الأجناد وفرائض الناس، وقضى عمر على عماله أن ينظروا الأرض ولا يحملوا خرابا على عامر ولا عامرا على خراب، وإن أطاق الخراب شيئا يؤخذ منه ما أطاق ويصلح ليعمر، ولا يؤخذ من عامر لا يعتمل شيئا، وما أجدب من العامر يؤخذ خراجه في رفق. وكانوا بفارس يخرصون الثمار على أهلها ثم يقومونها بسعر دون سعر الناس الذي يبتاعون به فيأخذونه ورقا على قيمهم التي قوموا بها، فرد عمر إلى من شكوا الثمن الذي أخذ منهم وأخذوا بسعر ما باع أهل الأرض غلتهم.
كتب إلى عامله على البصرة: أما بعد، فإني كنت كتبت إلى عمرو بن عبد الله أن يقسم ما وجد بعمان من عشور التمر والحب في فقراء أهلها، ومن سقط إليها من أهل البادية، ومن أضافته إليها الحاجة والمسكنة وانقطاع السبيل، فكتب إلي أنه سأل عاملك قبله عن ذلك الطعام والتمر فذكر أنه قد باعه وحمل إليك ثمنه، فاردد إلى عمرو ما كان حمل إليك عاملك على عمان من ثمن التمر والحب ليضعه في المواضع التي أمرته بها ويصرفه فيها إن شاء الله والسلام.
وأمر عماله بالرفق بأهل الذمة، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال تنفق عليه الدولة، فإن كان له حميم ينفق عليه حميمه، كما لو كان لك عبد فكبرت سنه لم يكن بد من الإنفاق عليه حتى يموت أو يعتق، وكتب إلى عامله على الكوفة أن قو أهل الذمة، فإنا لا نريدهم لسنة ولا لسنتين، وأعطى بطريقا
87
ألف دينار يستألفه على الإسلام.
88
خاصم حسان بن مالك
89
عجم أهل دمشق إلى عمر في كنيسة كان رجل من الأمراء أقطعه إياها، فقال عمر: إن كانت من الخمس العشرة الكنيسة التي في عهدهم فلا سبيل لك عليها، وخاصم عجم أهل دمشق إلى عمر في كنيسة كان فلان أقطعها لبني نصر بدمشق فأخرجها عن المسلمين وردها إلى النصارى، وشكا نصارى دمشق أن الوليد هدم كنيسة يوحنا وأدخلها في المسجد فهم أن يعيدها إليهم، لولا أن المسلمين أقبلوا على النصارى فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا، ويمسكوا عن المطالبة بها، فرضوا بذلك وأعجبهم فكتب به إلى عمر فسره وأمضاه.
وعمر أول من ندب نفسه للنظر في المظالم في الدولة الأموية فردها، وذلك لانتشار الأمر حتى تجاهر الناس بالظلم والتغالب، فاحتاجوا في ردع المتغلبين ، وإنصاف المغلوبين إلى نظر المظالم الذي تمتزج به قوة السلطة بنصفة القضاء، وما شرهت قط نفس عمر إلى أخذ أموال الناس، بل ما كان يحب أن يأخذ منهم أكثر من الفضل، ويسامح بكثير من هذا الفضل. كتب إليه عامله على العراق أن أناسا قبله قد اقتطعوا من مال الله مالا عظيما ليس يقدر على استخراجه من أيديهم إلا أن يمسهم شيء من العذاب، فكتب إليه عمر: «أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني لك جنة
90
من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله، فانظر فيما قامت عليه البينة فخذه بما قامت عليه، ومن أقر لك بشيء فخذه بما أقر به، ومن أنكر فاستحلفه بالله وخل سبيله، فوالله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم.»
وكتب إليه عامله على مصر: إن أهل الذمة قد أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية، حتى استلفت من الحارث بن ثابتة عشرين ألف دينار لأتمم بها عطاء أهل الديوان، وطلب إليه أن يأمر بتوقيف الذميين عن انتحال الإسلام، فأجابه عمر: «قد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي بضربك على رأسك عشرين سوطا، فضع الجزية عمن أسلم، قبح الله رأيك، فإن الله إنما بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا.» وكتب إليه عامله على العراق عدي بن أرطاة: إن الناس قد كثروا في الإسلام حتى خفت أن يقل الخراج، فكتب إليه: «والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين، نأكل من كسب أيدينا.» وقال في إحدى خطبه: وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم. ثم قال: ما لي والدنيا أم ما لي ولها!
ولم يشهد مثل تحري عمر في اختيار العمال وتعليمهم إحسان العمل، وكان يرى كل مظلمة تقع في أقصى البلاد إذا لم يردها ويكشف ظلامة صاحبها، كأنه هو فاعلها أو على الأقل المسئول عنها، وإذا شكي إليه عامل وتحقق ظلمه جاء به مقيدا ولا يخليه من ضرب يوجعه به، وكان لا يفتأ يبحث عن سيرة عماله ورضا الناس عنهم، وإذا عزلهم لا يستعين بهم بعدها أبدا. كتب إلى أحد عماله: «أما بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله عليك، وفناء ما تؤتي إليهم وبقاء ما يأتون إليك.» وكتب إلى عامله على العراق: «إن العرفاء من عشائرهم بمكان، فانظر عرفاء الجند، فمن رضيت أمانته لنا ولقومه فأثبته، ومن لم ترضه فاستبدل به من هو خير منه، وأبلغ في الأمانة والورع.» وما كان يضن على عماله بالمشاهرات الحسنة، وقد قيل له: ترزق الرجل من عمالك مائة دينار ومائتي دينار في الشهر وأكثر من ذلك؟ قال: أراه لهم يسيرا إن عملوا بكتاب الله وسنة نبيه، وأحب أن أفرغ قلوبهم من الهم بمعايشهم، وقال: ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم من الدنيا شيئا.
وأخذ عمر نفسه بالسير في إصلاحه بالتدريج، ناظرا قبل كل اعتبار إلى الدين لا يحيد عن صراطه قيد أنملة، ولو كان في ذلك بعض الضرر على بيت المال، أو إدخال بعض الوهن على ما اصطلحوا عليه من قبله، إرادة إلقاء الهيبة في النفوس. قال لابنه: ما مما أنا فيه أمر هو أهم إلي من أهل بيتك، هم أهل العدة والعدد وقبلهم ما قبلهم، فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشاره علي، ولكني أنصف من الرجل والاثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجع له، فإن يرد الله إتمام هذا الأمر أتمه، وإن تكن الأخرى فحسب عبد الله أن يعلم الله أنه يحب أن ينصف جميع رعيته، وكتب إلى عامله على خراج خراسان: «إن للسلطان أركانا لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع أنا، وليس من ثغور المسلمين ثغر أهم إلي ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرزه في غير ظلم، فإن يكن كفافا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإلا فاكتب إلي حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم .» ولما وجد خراج تلك البلاد يفضل عن أعطيات جندها وأهلها قسم عمر الفضل في أهل الحاجة.
وكتب إلى أمصار
91
الشام أن يرفعوا إليه كل أعمى في الديوان أو مقعد أو من به فالج، أو من به زمانة تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فأمر لكل أعمى بقائد، ولكل اثنين من الزمنى بخادم، وأمر أن يرفعوا إليه كل يتيم ومن لا أحد له ممن قد جرى على والده الديوان، فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعونه بينهم بالسوية، وفرض للعوانس الفقيرات، وكان لا يفرض للمولود حتى يفطم، فنادى مناديه لا تعجلوا أولادكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام.
واتخذ دار الطعام للمساكين والفقراء وابن السبيل، وأوصى أن لا يصيب أحد من هذه الدار شيئا من طعامها؛ لأنه خاص بمن طبخ لهم، وقسم في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار، وكان الناس في عهده يعرضون على ديوانهم لتناول عطائهم، فمن كان غائبا قريب الغيبة يعطى أهل ديوانه، ومن كان منقطع الغيبة يعزل عطاؤه إلى أن يقدم، أو يأتي نعيه أو يوكل عنه الوالي بوكالة بينة على حياته ليدفعه إلى وكيله. ونظر في السجون وأمر أن يستوثق من أهل الدعارات
92
ويكتب لهم برزق الصيف والشتاء ويعاهد مريضهم ممن لا أهل له ولا مال، ولا يجمع في السجون بين قوم حبسوا في دين وبين أهل الدعارات في بيت واحد، ولا حبس واحد، وجعل للنساء حبسا على حدة، وعهد بالحبوس إلى من يوقن بأمانتهم ومن لا يرتشي «فإن من ارتشى صنع ما أمر به.» وأنشأ الخانات في بلاده يقري من مر بها من المسلمين يوما وليلة ويتعهد دوابهم، ويقرون من كانت به عجلة يومين وليلتين، فإن كان منقطعا به يقوى بما يصل به إلى بلاده، وأمر أن لا يخرجن لأحد من العمال رزق في العامة والخاصة، فإنه ليس لأحد أن يأخذ رزقا من مكانين في الخاصة والعامة، وأطلق الجسور والمعابر للسابلة يسيرون عليها بدون جعل؛ لأن عمال السوء تعدوا غير ما أمروا به ، وجعل لكل مدينة رجلا يأخذ الزكاة.
ولى عاملا له على الموصل فلما قدمها وجدها من أكثر البلاد سرقا
93
ونقبا، فكتب إلى عمر يعلمه حال البلد ويسأله أخذ الناس بالظنة، وضربهم على التهمة، أو يأخذهم بالبينة، فكتب أن خذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله. وكتب إليه أحد عماله يذكر شدة الحكم والجباية، فأجابه أنه لم يكلفه ما يعنته، وأن يجبي الطيب من الحق، ويقضي بما استنار له من الحق، فإذا التبس عليه أمر يرفعه إليه قائلا: فلو أن الناس إذا ثقل عليهم أمر تركوه ما قام دين ولا دنيا. وكتب إلى أحد عماله: إن العمل والعلم قريبان فكن عالما بالله عاملا له، فإن أقواما علموا ولم يعملوا فكان عملهم عليهم وبالا، وكتب أيضا: أما بعد، فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين، وكتب إلى عامل: أن دع لأهل الخراج من أهل الفرات ما يتختمون
94
به الذهب والفضة، ويلبسون الطيالسة ويركبون البراذين، وخذ الفضل. وكتب إلى عامله: أما بعد، فالزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق، يوم لا يقضى بين الناس إلا بالحق وهم لا يظلمون. وكتب إلى أمير مكة أن لا يدع أهل مكة يأخذون على بيوت مكة أجرا فإنه لا يحل لهم لقوله تعالى:
سواء العاكف فيه والباد ، والبادي: من يخرج من الحجاج والمعتمرين سواء في المنازل ينزلون حيث شاءوا ولا يخرج أحد من بيته، وكتب إلى عماله على مكة والطائف، أن في الخلايا صدقة فخذوها منها، والخلايا الكوائر كوائر النحل، وكتب إلى عامله على اليمن يأمره بإلغاء الوظيفة والاقتصار على العشر، وقال: والله لأن لا تأتيني من اليمن حفنة كتم أحب إلي من إقرار هذه الوظيفة، وكان ضربها محمد بن يوسف على أهل اليمن، وهي الخراج جعله وظيفة.
وما كان عمر مذ كان واليا على المدينة يقطع أمرا بدون استشارة، وكان دعا إليه عدة من الفقهاء وحرضهم على أن يبينوا له زلاته إذا رأوا منه ذلك وسمعوا، فكان إذا جلس مجلس الإمارة في عهد خلافته أمر فألقى لرجلين منهما وسادة قبالته، فقال لهما: إنه مجلس شرة وفتنة، فلا يكن لكما عمل إلا النظر إلي، فإذا رأيتما مني شيئا لا يوافق الحق فخوفاني وذكراني بالله عز وجل. وكان يقول، بعد أن ولي الخلافة، لأن يكون لي مجلس من عبيد الله - أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ومؤدبه لما كان صغيرا - أحب إلي من الدنيا وما فيها. وقال: وإني والله لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين تقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك؟ فقال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف. وكان يحب السمر مع أهل الفضل فقيل له في ذلك، فقال: لقاء الرجال تلقيح الألباب. وقال: إن في المحادثة تلقيحا للعقل، وترويحا للقلب، وتسريحا للهم، وتنقيحا للأدب، وما زال يرد المظالم ويحيي السنن ويطفئ البدع ويقسم الأموال والأعطيات بين الناس، ورد فدك إلى ما كانت عليه، أي إلى آل الرسول.
أبعد عمر بن عبد العزيز الشعراء والخطباء عن حماه، وما كان يحب المديح والهجاء، وهو يعرف استرسال الشعراء في المجون والهزل،
95
وأنهم يمدحون من يعطيهم ويهجون من يضن عليهم، وإذ كان رجل جد وتقوى حجبهم فانقشعوا
96
عنه كلهم، وثبت الفقهاء والزهاد فكان يعطيهم عطاء كثيرا، أما الشعراء فاكتفوا بالقليل الذي كان يعطيهم من ماله الخاص، وأعطى قوما في حمص نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، مائة دينار لكل رجل منهم، يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين، وبحسن سياسته سكنت الخوارج في أيامه فلم يثوروا؛ لأنه ناقشهم فأفحمهم، وأقسموا أن لا يشغبوا ما دام خليفة. وما حدثته نفسه قط بإهراق دماء من خالفوه في مذهبه، وقد كتب إلى عامله على الكوفة أن يستتيب القدرية مما دخلوا فيه، فإن تابوا يخلي سبيلهم وإلا فينفيهم من ديار المسلمين، أراد بذلك حقن دمائهم، وكان غيره من الخلفاء يبادر إلى قتلهم.
وطريقة عمر في إدارة ولاياته طريقة أسلافه في إطلاق الحرية للعامل، لا يشاور الخليفة إلا في أهم المهمات مما يشكل عليه أمره. كتب إلى عامله على اليمن: أما بعد، فإني أكتب إليك آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم، فتراجعني ولا تعرف مسافة ما بيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت، حتى لو كتبت إليك أن أردد على مسلم مظلمة شاة، لكتبت أردها عفراء أو سوداء، فانظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني. وأملى على كاتبه يوما كتابا إلى عامله على الكوفة قال فيه: «إنه يخيل إلي أني لو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلي أضأن أم ماعز، فإن كتبت بأحدهما كتبت إلي أصغير أم كبير، فإن كتبت إليك، كتبت إلي أذكر أم أنثى، فإذا أتاك كتابي هذا في مظلمة فاعمل به ولا تراجعني.» وكتب إلى آخر: «إنك تردد إلي الكتب فنفذ ما أكتب به إليك من الحق، فإنه ليس للموت ميقات نعرفه.»
كان ينهى عماله عن المثلة في العقوبة، أي جز الرأس واللحية، وينهاهم عن الإسراف حتى في القراطيس التي يكاتبونه فيها؛ فقد قيل له: ما بال هذه الطوامير التي تكتب بالقلم الجليل وتمد فيها وهي من بيت مال المسلمين؟ فكتب إلى العمال أن لا يكتبن في طومار ولا يمدن فيه. قالوا: وكانت الطوامير شبرا ونحو ذلك. ومما كتب إلى أحد عماله: أدق قلمك، وقارب بين سطورك، واجمع حوائجك، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به. وكان عمر من كبار الكتاب والخطباء، كان إذا خطب على المنبر فخاف فيه العجب قطع، وإذا كتب كتابا فخاف فيه العجب مزقه، ويقول: اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي. ولما بويع بالخلافة دعا إليه كاتبا فأملى عليه كتابا واحدا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأملى أحسن إملاء وأبلغه وأوجزه، ثم أمر بذلك الكتاب فنسخ إلى كل بلد. قالوا: وجعل يكتب بيده إلى العمال في الأمصار.
97
كان عمر يحسن ظنه بعماله ولا يتخلى عن كشف أحوالهم، فقد وفد عليه بلال بن أبي بردة بخناصرة، فقال عمر للعلاء
98
بن المغيرة بن البندار، وقد رأى بلالا يديم الصلاة: إن يكن سر هذا كعلانيته، فهو رجل أهل العراق غير مدافع. فقال العلاء: أنا آتيك بخبره، فأتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء فقال: اشفع صلاتك فإن لي إليك حاجة ففعل، فقال له العلاء: قد عرفت حالي من أمير المؤمنين، فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق فما تجعل لي؟ قال: لك عمالتي
99
سنة، وكان مبلغها عشرين ألف ألف درهم، قال: فاكتب لي بذلك، قال: فارقد
100
بلال إلى منزله فأتى بدواة وصحيفة فكتب له بذلك، فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلما رآه كتب إلى والي الكوفة: «أما بعد، فإن بلالا غرنا بالله، فكدنا نغتر، فسبكناه فوجدناه خبثا كله والسلام.» وبلال هذا كان فيما يقال: أول من أظهر الجور من القضاة في الحكم، وكان أمير البصرة وقاضيها، وكان عمر يقول: لا ينبغي للرجل أن يكون قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال: يكون عالما قبل أن يستعمل، مستشيرا لأهل العلم، ملقيا للرثع،
101
منصفا للخصم، مقتديا بالأئمة.
سخط مسلمة بن عبد الملك على العريان بن الهيثم فعزله عن شرطة الكوفة، فشكا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إليه: إن من حفظ أنعم الله رعاية ذوي الأسنان، ومن إظهار شكر الموهوب صفح القادر عن الذنوب، ومن تمام السؤدد حفظ الودائع واستتمام الصنائع، وقد كنت أودعت العريان نعمة من أنعمك فسلبتها عجلة سخطك وما أنصفته، غصبته على أن وليته ثم عزلته وخليته، وأنا شفيعه، فأحب أن تجعل له من قلبك نصيبه، ولا تخرجه من حسن رأيك، فتضيع ما أودعته وتتوي
102
ما أفدته، فعفا عنه ورده إلى عمله.
خطب يوما فقال: أيها الناس، لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد
صلى الله عليه وسلم ، ألا وإني لست بقاض، ولكني مقتد، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بعاص، ولكن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقال من خطبة: وما منكم من أحد تبلغنا حاجته يتسع له ما عندنا إلا حرصنا أن نسد حاجته ما استطعنا، وما منكم من أحد تبلغنا حاجته لا يتسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ بي وبخاصتي، حتى يكون عيشنا وعيشه سواء. ومن غريب أمره في إطلاق حرية القول أن يخطب الناس عبد الله بن الأهتم، ويذكر ما آل إليه أمر الأمة على عهد صاحب الشريعة والخليفتين من بعده ثم يقول: إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ضلع
103
أعوج، يقول هذا في عهد عمر بن عبد العزيز، وعمر يسكت عنه، ولطالما أسمعه بعض الناقمين على أهل بيته ما يغضب له الحليم، فما كان يقابلهم بغير الإغضاء، يفهمهم من طرف خفي أنه لا يليق بالرجل أن ينال من آله.
وكان عمر يجلس إلى قاص العامة ويرفع يديه إذا رفع، وقاصه محمد بن قيس، وعلم أن أناسا من القصاص يصلون على خلفائهم وأمرائهم، يلتمسون الدنيا بعمل الآخرة، فأمرهم بالدعاء للمؤمنين عامة وأن يلغوا ما سوى ذلك، وأدرك أن البادية يتحفزون إلى أن يرجعوا سيرتهم في الجاهلية، فبعث إليهم برجلين من أرباب الفقه يفقهان الناس في البدر وأجرى عليهما رزقا، وكأنه قطع عهدا على نفسه إذا ولي أمر المسلمين: «أن لا يضع لبنة على لبنة ولا آجرة على آجرة» لئلا يقع في ذلك حيف على الرعية، وهم يتولون من ذلك ما يصلحهم من إقامة القصور والبيوت، أما هو فيعمل لإغنائهم وحملهم على الجادة، حتى لم يبق فقير في أيامه في أكثر الأمصار، لكثرة ما وزع على الفقراء من أموال الصدقات: يقبض عماله الصدقة ثم يقسمونها في المحاويج حتى ليصيب الرجل الفريضتان أو الثلاث فما يفارقون الحي وفيهم معوز، ولا ينصرفون إلى الخليفة
104
بدرهم. بعث عاملا على صدقات إفريقية
105
فأراد أن يعطي منها الفقراء فالتمسهم في كل مكان فلم يجد فيها فقيرا يقبل أن يأخذ صدقة بيت المال، فاشترى بها رقابا وأعتقها وجعل ولاءهم للمسلمين. وما مات عمر حتى جعل الرجل يأتي بالمال العظيم ويقول : اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، لا يجد من يضعه فيهم، لكثرة ما أغنى الناس عمر.
ومن أهم ما عمله عمر في حسن الإدارة والسياسة أنه لم يشأ - لما أسندت إليه الخلافة - أن يبدأ بعمل قبل أن يستدعي المسلمين من أرض الروم، وقال: لرجل من المسلمين أحب إلي من الروم وما حوت، وفي سنة 100 أمر أهل طرندة بالقفول عنها إلى ملطية ثم اشترى ملطية من الروم بمائة ألف أسير، فجعل لدولته سدا منيعا، وأنقذ المسلمين من ذل الأسر، وأراد هدم المصيصة ونقل أهلها عنها لما كانوا يلقون من الروم فتوفي بعد ذلك.
ولما بلغ صاحب القسطنطينية نعيه نزل عن سريره وبكى، وذكر من مآثر عمر أمام وفد من العرب، كان ذهب للفداء بين المسلمين والروم، ما أبكى المقل، ومما قال: لقد بلغني من بره وفضله وصدقته ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطنا وظاهرا، فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدا، بل باطنه أشد حين خلواته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته، ولكني عجبت لهذا الراهب الذي صارت الدنيا تحت قدميه فزهد فيها حتى صار مثل الراهب.
106
وأحب عمر أن يجلي المسلمين من الأندلس؛ لأنه كان يعتقد أن مقامهم فيها غير طبيعي؛ لأنهم محاطون بالأعداء بعيدون عن مقر الخلافة، فأمر أحد عماله أن يرسم له مصور الأندلس ليرى في إجلاء المسلمين رأيه، وكتب إلى عامله عبد الرحمن بن نعيم يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم فأبوا، وكتب إلى عمر بذلك فكتب إليه: «اللهم إني قد قضيت الذي علي فلا تغز بالمسلمين، فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم.» كل أولئك يدل على أن عمر ما كان يريد التوسع في الفتوح، ويحاول أن يقتصر على البلاد التي دخلت في المملكة الإسلامية حتى لا تهرق الدماء على غير طائل، ويعمر الناس البلاد، ويصلح أهلها صلاحا دائما على أن يكونوا بين أخروي يرجون ثواب الله، ودنياوي يستجمع صفات الشرف في نفسه.
وكتب إلى ملوك الهند يدعوهم
107
إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه فأسلموا وتسموا بأسماء العرب. ولما ولي إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم بلاد المغرب سار أحسن سيرة ودعا البربر إلى الإسلام، وكتب إليهم عمر بن عبد العزيز كتابا يدعوهم إلى الإسلام فقرأه إسماعيل عليهم في النوادي فغلب الإسلام على المغرب، وكتب في اللواتيات: إن من كانت عنده لواتية فليخطبها إلى أبيها أو فليرددها إلى أهلها، ولواتة قبيلة من البربر كان لهم عهد، ولما استخلف كتب إلى ملوك ما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام فأسلم بعضهم ورفع الخراج عمن أسلم بخراسان وفرض لمن أسلم، وابتنى خانات، ثم بلغ عمر عن عامله عصبية، وكتب إليه أنه لا يصلح أهل خراسان إلا السيف فأنكر ذلك وعزله، وكان عليه دين فقضاه. ووفد عليه قوم من أهل سمرقند فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب إلى عامله يأمره أن ينصب لهم قاضيا ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فحكم القاضي بإخراج المسلمين وعلى أن ينابذوهم على سواء،
108
فكره أهل سمرقند الحرب وأقروه فأقاموا بين أظهرهم. قال عمر لمزاحم مولاه إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيني على نفسي، فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها أو فعلا لا تحبه، فعظني عنده وانهني عنه. وكان عنده رجلان فجعلا يلحنان فقال الحاجب: قوما قد آذيتما أمير المؤمنين، فقال عمر: أنت آذى لي منهما.
هذا مجمل ما تم في عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من الإصلاح، فأعاد إلى الخلافة جمالها وجلالها، على ما كانت عليه أيام جده لأمه عمر بن الخطاب، ولكن عمر بن عبد العزيز عمل في غير زمان عمر بن الخطاب وعمل بغير رجاله، وكان دأب عمر بن عبد العزيز أن يذكر الناس بالآخرة ويخوفهم العذاب، ودأب ابن الخطاب أن يذكرهم العمل للدنيا مع شدة التمسك بحقوق الأخرى، فكانت إدارة عمر بن الخطاب ملائمة لزمانه وسيرة حفيده كذلك؛ لأن الناس فسدوا في أواخر القرن الأول أو بدءوا بالفساد، فكان هجيراه أن يذكرهم بالمعاد ويطهر أخلاقهم، عمل عمر كل هذا في سنتين وخمسة أشهر وهذا من أعجب ما يدون في تاريخ عظماء الأرض.
لما مرض مرضته التي مات فيها دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال: ألا توصي يا أمير المؤمنين؟ فقال: فبم أوصي؟ فوالله إن لي من مال. فقال: هذه مائة ألف فمر فيها بما أحببت، فقال أو تقبل؟ قال: نعم، قال : ترد على ما أخذت منه ظلما، فبكى مسلمة ثم قال: يرحمك الله، لقد ألنت منا قلوبا قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا.
إدارة يزيد بن عبد الملك وهشام ويزيد بن الوليد ومروان بن محمد
ولم يكد عمر بن عبد العزيز يلحق بمولاه حتى عادت الدولة إلى سابق عهدها إلا قليلا، وعزل يزيد بن عبد الملك عمال عمر بن عبد العزيز جميعا، وأعاد سب علي على المنابر، وكتب إلى عمال عمر: «أما بعد، فإن عمر كان مغرورا غررتموه أنتم وأصحابكم، وقد رأيت كتبكم إليه في انكسار الخراج والضريبة، فإذا أتاكم كتابي هذا فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده، وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصبوا أم أجدبوا، أحبوا أم كرهوا، حيوا أم ماتوا والسلام.»
وجاء دور هشام في الخلافة، وناهيك به من «رجل محشو عقلا» وفيه من الحلم والأناة والعفة ما ظهرت آثاره في إدارة الملك، وعد أحد السواس الثلاثة من بني أمية وهم: معاوية وعبد الملك وهشام؛ وبه ختمت أبواب السياسة وحسن السيرة، وكان يحب جمع المال وعمارة الأرض واصطناع الرجال وتقوية الثغور وإقامة البرك والقنى في طريق مكة وغير ذلك، ويسير بموكب كسائر الخلفاء من أهل بيته، ولم يكن مثل ذلك لغير أخيه مسلمة بن عبد الملك، وافتتح عهده بعزل عمر بن هبيرة عن العراق وتولية خالد بن عبد الله القسري، فأدار هذه الولاية
109
العظيمة نحو خمس عشرة سنة بإقامة العدل وإفاضة السلام والعمل الصالح. وكان هشام على غاية الإخلاص متقللا متقشفا في ذاته، يقوم بواجب الخلافة حق القيام، ومن أكبر همه إصلاح أموال الدولة، وغلب عليه الاقتصاد حتى كاد ينقلب إلى شح، بينما هو يوصي عقال بن شبة
110
لما وجهه إلى خراسان نظر هذا إلى قباء الخليفة فقال: ما لك؟ قال: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء فنك
111
أخضر فجعلت أتأمل هذا أهو ذاك أم غيره، فقال: هو والله الذي لا إله إلا هو ذاك، ما لي قباء غيره، وأما ما ترون من جمعي هذا المال وصونه فإنه لكم.
وكانت دواوينه مثال التدقيق والعناية في معاملة الرعية ومحاسبة العمال الذين يتصرفون له يتخيرهم من الأمناء البعيدين «من الفساد ومن الرشا ومن الحكم بالهوى»، ويعتمد في إسناد عظام الأعمال على أناس من أهل بيته. قال عبد الرحمن بن علي: جمعت دواوين بني مروان فلم أر ديوانا أصح للعامة وللسلطان من ديوان هشام. وقال غسان بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بني مروان أشد حصرا في أمر الصحابة ودواوينه ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام.
كتب هشام إلى والي العراق لما أخذ ابن حسان النبطي فضربه بالسياط، وكان أوغر صدر هشام عليه من إفراط الدالة واحتجان الأموال وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق: «إن هشاما آثرك بولاية العراق، بلا بيت رفيع ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكتك وتتقدمك في المحافل والمجامع عند بداءة الأمور وأبواب الخلفاء.» ومما قال له إنه استعان بالمجوس والنصارى وولاهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم وسلطهم عليهم، وقال له: والله لو كنت من ولد عبد الملك بن مروان ما احتمل لك أمير المؤمنين ما أفسدت من مال الله، وضيعت من أموال المسلمين، وسلطت من ولاة السوء على جميع أهل كور عملك تجمع إليك الدهاقين
112
هدايا النيروز والمهرجان، حابسا لأكثره، رافعا لأقله، مع مخابث مساويك.
113
وغزا هشام الروم عدة غزوات موفقة، وكان الأسطول يشترك مع الجيش البري من اليابسة، وذلك بقيادة ابنيه معاوية وسليمان، وتقدمت جيوشه في الشرق فغزا الترك، وأخذ دعاة بني العباس وثوار الخوارج في أيامه يعملون سرا، وجهرا إذا أمكنهم الحال، وما كان بما عرف فيه من العقل يريد إثارة الخواطر فيما لا يعود على السلطان بفائدة؛ فقد لقيه في الحج سنة 106 سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان وقال له: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يزل ينعم على بيت أمير المؤمنين وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب (علي بن أبي طالب) فأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة، فشق ذلك على هشام وثقل عليه كلامه ثم قال: ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنه، قدمنا حجاجا، ثم قطع كلامه.
114
وذكروا أن هشاما كان ينزل الرصافة من أرض قنسرين وكان سبب نزوله إياها أن الخلفاء كانوا ينتبذون
115
ويهربون من الطاعون فينزلون البرية خارجا عن الناس، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج فإن الخلفاء لا يطعنون ولم ير خليفة طعن، فقال: أتريدون أن تجربوا بي! فنزل الرصافة وهي برية وابتنى بها قصرين، وكان
116
لا يدخل بيت ماله مال حتى يشهد أربعون قسامة
117
أنه أخذ من حقه، وأعطي لكل ذي حق حقه، وهو من أحزم بني أمية ومن أعقلهم يفضل على العلماء والفقهاء كثيرا.
وتولى يزيد بن الوليد الخلافة فنقص الناس من عطائهم، وكان أشد ضنانة بالمال من هشام، فسمي يزيد الناقص، فاضطربت عليه البلدان، وكان الخليفة من بني أمية إذا مات وقام آخر زاد في أرزاقهم وعطاياهم عشرة دراهم فيقولون: (عير بعير
118
وزيادة عشرة)، أي رجل برجل وزيادة عشرة، فسار هذا القول مسير الأمثال عند أهل الشام، وكان يزيد يهتم باللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساق، وأفسد على نفسه بني عميه: ولد هشام وولد الوليد ابني عبد الملك بن مروان، وأفسد على نفسه اليمانية وهم أعظم جند الشام، ولعل هذه الغلطات الإدارية جسمت ما اتهم به ، فكانت حجة للخواص عند العوام حتى أوردوه موارد الهلكة. وقال خالد بن يزيد: يا أمير المؤمنين، قتلت ابن عمك لإقامة كتاب الله تعالى وعمالك يغشمون ويظلمون. قال: لا أجد أعوانا غيرهم وإني لأبغضهم. قال: يا أمير المؤمنين، ول أهل البيوتات، وضم إلى كل عامل رجلا من أهل الخير والعفة، يأخذونهم بما في عهدك. قال: أفعل.
وأمر الوليد بن يزيد بعض رجاله بتعذيب بعض العمال؛ لأنه كان رفع إليه أنهم أخذوا مالا كثيرا.
119
ولما قتل الوليد (126) كان في يت المال سبعة وسبعون ألف ألف دينار ففرقها يزيد عن آخرها، وتعهد للناس أن لا يضع حجرا فوق حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا يكري نهرا ولا يكنز مالا، ولا ينقل مالا من بلد إلى بلد، حتى يسد ثغره وخصاصة أهله بما يغنيهم، فما فضل منه نقله إلى البلد الآخر الذي يليه، ولا يغلق بابه دونهم، ولهم أعطياتهم في كل سنة وأرزاقهم كل شهر، حتى يكون أقصاهم كأدناهم. أما مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية فقد كان شيخ بني أمية وكبيرهم
120 «ذا أدب كامل ورأي فاضل» وهو آحزم بني مروان وأنجدهم
121
وأبلغهم، ولكنه ولي الخلافة والأمر مدبر عنهم.
هذا ما كان من إدارة دولة امتد حكمها مسافة
122
مائتي يوم من المشرق إلى المغرب، تقرأ آي القرآن في سمرقند كما تتلى في قرطبة، ويتلاقى الهندي مع السوداني في مكة للحج، وكلاهما يدين لبني أمية. وفي أيامهم ظهرت على الممالك قدرة وغنى، وكانت كلمة الدولة نافذة في ثلاثة أقسام من الأرض: آسيا وإفريقية وأوروبا، ملكوا من براري جبل الطور إلى قفار ما وراء النهر، ومن وادي كشمير إلى منحدر جبل طوروس على البحر المتوسط وأطراف الأناضول، وسائر مملكة الأكاسرة وما عجز عنه الأكاسرة، وأخذت الجزية التي قدرها عمر بن الخطاب من النوبة كما أخذت من الهند والصين على ما قدرها مسلم بن قتيبة الباهلي، وكل ذلك على قواعد العدل وقسطاس الحق، حتى صارت دمشق في نظر المسلمين كأنما هي رومية في نظر النصارى، وانتشرت حضارة الإسلام
123
في نصف قرن تقريبا من سواحل البحر الأطلنطي إلى بلاد الصين، ومن جبال القوقاز وما وراءها إلى خط الاستواء وما وراءه، ودخلت في حوزة الإسلام أمم كثيرة من السلالة السامية (العرب والسريان والكلدان)، ومن السلالة الحامية (المصريون والنوبيون والبربر والسودان)، ومن السلالة الآرية (الفرس واليونان والإسبان والأهاند، أي الهنود)، ومن السلالة المسماة بالتورانية (الترك والتتار).
كل هذا، وما كان جميع الناس راضين عن إدارة الأمويين ولا سيما خصومهم السياسيون، ومتى كان الخصم ينصف خصمه؟ وإليكم مثالا من ذلك صدر عن أحد نساك الأباضية وخطبائهم وهو أبو حمزة يحيى بن مختار الخارجي، خطب في مكة ووصف سيرة الخلفاء الراشدين ثم قال في بني أمية: وأما بنو أمية ففرقة ضلالة، وبطشهم بطش جبرية، يأخذون بالظنة، ويقضون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويحكمون بالشفاعة، ويأخذون بالفريضة من غير موضعها، ويضعونها في غير أهلها، وقد بين الله أهلها فجعلهم ثمانية أصناف، فقال:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل
فأقبل صنف تاسع منها فأخذها كلها، تلكم الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله. ا.ه. والله أعلم بمقدار ما في هذا الخطاب - على جلالة قدر صاحبه - من الخطأ والخطل، ولكن غضب العربي في رأسه فإذا غضب لم يهدأ حتى يخرجه بلسانه أو يده كما قالوا.
لا جرم أن إدارة الأمويين لم تكن في كل أيام خلفائهم بريئة من العيوب، ولم تضعف في الحقيقة إلا في أيام يزيد بن الوليد، وكان على غير طريقة أسلافه في أعماله، وكان آخرهم مروان بن محمد، على عظم همته وشدة بأسه مشغولا بالدفع عن الخلافة وكثرت الفتوق فضعفت إدارة المملكة، كانت حكومتهم عربية صرفة يتولاها أهل البيوتات والأشراف على الأكثر.
إدارة العباسيين
تدابير السفاح والمنصور
داول أبو العباس السفاح بين الكوفة والأنبار والحيرة والهاشمية من المدن، فكان يتنقل فيها، ولم يجعل له عاصمة مستقرة، واتخذ له وزيرا أبا سلمة الخلال حفص بن سليمان، وسلمه الدواوين، وكان يسمى وزير آل محمد ، وأصبحت الوزارة في الدولة العباسية مقررة القواعد والقوانين، وما كانت تعهد في الدولة الأموية، كان من يستشيرهم الأمويون يسمون كتابا ومشيرين على الأغلب، ويسمى وزيرا من باب التجوز لا على مثال بني العباس. استوزر السفاح خالد بن برمك بعد أن قتل أبا سلمة الخلال، فجعل خالد له دفاتر في الدواوين من الجلود وكتب فيها وترك الدروج، وكانت كتابة الدواوين في صدر الإسلام أن يجعل ما يكتب فيه صفحا مدرجة، دام ذلك مدة بني أمية، ولما تصرف جعفر بن يحيى ابن خالد بن برمك في الأمور أيام الرشيد اتخذ الكاغد وتداوله الناس من بعد.
1
لم يتفرغ السفاح لوضع أساس ثابت للإدارة لانصرافه جملة واحدة إلى توطيد دعائم الفتح وقتال الخوارج عليه، وسار في الجملة على نظام الأمويين، وكان أخوه أبو جعفر يتولى لأخيه كل أمر عظيم، وكانت العراق على حظ وافر من ترتيب دواوينها وانتظام شئون إدارته على العهد الأموي، بفضل من وليها من أكبر رجال الإدارة والسياسة من بني أمية. وكذلك الحال في معظم الأقطار، تبدلت دولة بدولة وخليفة بخليفة، ونسج الآخر على منوال الأول اضطرارا واختيارا، وقل أن خالفه في ترتيبه ونظمه. خطب السفاح قائما، وكانت بنو أمية تخطب قعودا، فضج الناس وقالوا: أحييت السنة يا ابن عم رسول الله.
كان السفاح جميل العشرة جوادا بالمال يحب مسامرة الرجال، وكان كثيرا ما يقول: العجب ممن يترك أن يزداد علما ويختار أن يزداد جهلا، فقال له أبو بكر الهذلي: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: يترك مجالسة مثلك ومثل أصحابك ويدخل إلى امرأة وجارية، فلا يزال يسمع سخفا ويرى نقصا، فقال له الهذلي: لذلك فضلكم الله على العالمين، وجعل منكم خاتم النبيين.
ومن أثمن ما وصل إلى أبي العباس من ميراث بني أمية بردة الرسول وقضيبه، وكان مروان
2
بن محمد حين أحيط به في مصر دفعهما إلى خادم له وأمره أن يدفنهما في بعض تلك الرمال، فلما أخذ الخادم في الأسرى قال: إن قتلتموني ضاع ميراث النبي، فأمنوه على أن يسلم لهم ذلك، وكان للبردة والقضيب شأن، وأي شأن، عند جميع الخلفاء من بعده.
ولي المنصور الخلافة وكان أسن من أخيه أبي العباس السفاح، ودبر المملكة في أيامه تدبيرا حسنا، أفضى إليه الملك وهو حنيك
3
كما قال عن نفسه، قد حلب هذا الدهر أشطره،
4
وزاحم المشاة في الأسواق، وشاهدهم في المواسم، وغازاهم في المغازي، قال: فوالله ما أحب أن أزداد بهم خبرا، على أني أحب أن أعلم ما أحدثوا بعدي، مذ تواريت عنهم بهذه الجدارات، وتشاغلت عنهم بأمورهم، مع أني والله ما لمت نفسي أن أكون قد أذكيت عليهم العيون حتى أتتني أخبارهم وهم في منازلهم، وأبو جعفر المنصور في تأسيسه دولة بني العباس كمعاوية في تأسيس دولة بني أمية، مع اعتبار الفرق بين عصريهما، والسر الأعظم في نجاحهما أنهما مرنا على الإدرة قبل أن تسند الخلافة إليهما.
ولى المنصور أهله البلدان، وفرق العمالات بين قواد من العرب وقواد من مواليه، فكان ينقل قواد العرب في أعماله لثقته بهم واعتماده عليهم، ثم استعمل مواليه وغلمانه في أعماله، وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فامتثلت ذلك الخلفاء من بعده من ولده، فسقطت قيادات العرب، وزالت رياستها وذهبت مراتبها، فهو الذي «أصل
5
الدولة، وضبط المملكة، ورتب القواعد، وأقام الناموس، واخترع أشياء، ولم تكن الوزارة في أيامه طائلة لاستبداده واستغنائه برأيه وكفايته، على أنه كان يشاور في الأمور دائما، وإنما كانت هيبته تصغر لها هيبة الوزراء.»
اجتمع للمنصور كثير من الخيل لم يعرف مثله في جاهلية ولا إسلام، واستجاد الكساء والفرش وعدد الحرب ومؤنها، واصطنع الرجال وقوى الثغور، ولقب بأبي الدوانيق لتشدده في محاسبة العمال والكتاب، وجمع سياسته المالية أن يدخر المال قائلا: «من قل ماله قل رجاله، ومن قال رجاله قوي عليه عدوه، ومن قوي عليه عدوه اتضع ملكه، ومن اتضع ملكه استبيح حماه.» وذكر أنه أخذ أموال الناس حتى ما ترك عند أحد فضلا،
6
وكان يعطي الجزيل والخطير
7
إذا رأى في العطاء فائدة، ويمنع اليسير والخطير إذا كان عطاؤه تضييعا، فكان كما قال زياد: لو أن عندي ألف بعير وعندي بعير أجرب لقمت عليه قيام من لا يملك غيره، ومن أجل هذا كان يثمر ماله وينظر فيما لا ينظر فيه العوام، ووافق صاحب مطبخه على أن له الرءوس والأكارع والجلود وعليه الحطب والتوابل.
وعد محمد بن عبد الله لما خرج عليه إذا رجع إلى طاعته من قبل أن يقدر عليه أن يعطيه ألف ألف درهم، ويؤمنه على نفسه وولده وإخوته، ومن بايعه وتابعه وشايعه، ويطلق من في سجنه من أهل بيته وأنصاره، آثر أن يحقن الدماء ويعطي هذا العطاء على أن يبعث البعوث وينفق الأموال، وأنفق ثلاثة وستين ألف ألف درهم على جيش واحد كان مؤلفا من خمسين ألفا وجهه إلى إفريقية لقتال الخوارج، بمعنى أن أبا جعفر كان الحزم كله في تدبير ملكه، والحزم كله في جمع المال للشدائد، والإنفاق منه عند الحاجة لقيام الدولة، ويذكرون له في باب الإمساك أخبارا كثيرة.
يقول المسعودي: إن المنصور
8
كان في الحزم وصواب التدبير وحسن السياسة على ما تجاوز كل وصف، وهو أول من رتب المراتب من الخلفاء
9
وكان لبني أمية بيوت بلا منعة ولا إذن، وإنما كان الناس يقفون على أبوابهم حتى يؤذن لهم أو يصرفوا، فلما ولي بنو العباس وبنى المنصور بيته اتخذ في قصره بيوتا للإذن، فجرى الأمر على ذلك، وكانت أرزاق الكتاب في أيامه ثلاثمائة ثلاثمائة، وكذلك كانت في أيام بني أمية، وكان المنصور متقللا متقشفا لا يحب البذخ والرفاهية يعد كل ما يأكل ويلبس نعمة عظمى بالقياس إلى حاله قبل الخلافة، فهو شديد في قتال أعدائه، شديد في نظامه وترتيبه، يعرف قيمة الوقت فلا يصرفه إلا فيما ينفع الدولة ويعمل في خدمتها ليله ونهاره، وكان شغله
10
في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور والأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات، ومصلحة معاش الرعية والتلطف بسكونهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته، فإذا صلى العشاء الآخرة جلس ينظر فيما ورد من كتب الثغور والأطراف والآفاق وشاور سماره، وهو على انتباه لكل دقيق وجليل، وكان يقول: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، هم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم: أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب الشرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية، ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات يقول في كل مرة: آه آه، قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.
استعمل المنصور في ولاياته وأعماله قليلا من عمال الدولة البائدة، وكثيرا من أهل بيته ورجالات العرب وبعض الفرس، استوزر ابن عطية الباهلي وهو من صميم العرب كما وزر له أبو أيوب المورياني الخوزي وهو فارسي، وما كان يترك الوزير يعمل برأيه فقط، بل ينهي إليه كل ما يعرض له من أمور الدولة قبل البت فيها. وطريقته في حكم الأمصار طريقة «اللامركزية»، أي طريقة الأمويين والراشدين من قبل، دعاه إلى اتخاذها تباعد ما بين أجزاء المملكة، وبعد الشقة في نقل الأخبار، على ما كان في عهده من انتظام البريد وحمام الزاجل يطير في المهمات السريعة. كتب المنصور إلى مسلم بن قتيبة يأمره بهدم دور من خرج مع أحد الخوارج وعقر نخلهم، فكتب إليه: بأي ذلك نبدأ؟ أبالنخل أم بالدور؟ فكتب إليه أبو جعفر: «أما بعد، فإني لو أمرتك بإفساد ثمرهم لكتبت إلي تستأذن في أيه نبدأ أبالبرنى أم بالشهريز؟»
11
وعزله.
لم ينفتق على المنصور في ملكه الواسع خرق إلا سده؛ لأن جيشه كثير، وآلته تامة، وقواده يعرفون منه أن من سياسته أن يقتل على التهمة، فهم يصدعون بأمره كله، ولا يخرمون منه مادة واحدة، احتل الروم طرابلس الشام، وظهر في الشام رجل من أهل المنيطرة
12 (142-143) سمى نفسه ملكا، ولبس التاج وأظهر الصليب، واجتمع أنباط أهل جبل لبنان وغيرهم، ثم استفحل أمرهم فظهر عليهم الجيش العباسي، فأمر أمير دمشق بإخراج من بقي في الجبل وتفريقهم في بلاد الشام وكورها، فكان هذا التدبير الإداري مما انتقده الإمام الأوزاعي بشدة؛ لأنه إن كان من نصارى لبنان المعتدي على حقوق السلطان، فإن منهم البريء وليس من الجائز
13
أن يجلى عن أرضه ويعامل الطائع كالعاصي.
كان المنصور في أكثر أموره وسياسته وتدبيره متبعا في أفعاله لهشام بن عبد الملك لكثرة ما كشفه من أخبار هشام وسيرته، وكان يقول: إنه، أي هشام، فتى القوم أي رجل بني أمية، وقال: الملوك ثلاثة: معاوية وكفاه حجاجه، وعبد الملك وكفاه زياده، وأنا ولا كافي لي. وكان يقول لأهل بيته: إني لأجهل موضعي حتى أحذر منكم؛ لأنه ما فيكم إلا عم وأخ وابن عم وابن أخ، فأنا أراعيكم ببصري وأهتم بكم بنفسي، فالله الله في أنفسكم فصونوا، وفي أموالكم فاحتفظوا بها، وإياكم والإسراف فيوشك أن تصيروا من ولد ولدي إلى من لا يعرف الرجل حتى يقول له من أنت.
كان المنصور آية في الإشراف على عماله وإرادتهم على العدل، يهددهم بالعقوبات إذا ولاهم، وأكثرهم يصححون ويناصحون ويختار أهل البلاء منهم، ولقد وفد عليه قاضي إفريقية، وكان رفيقه في طلب العلم، فسأله كيف رأيت سلطاني من سلطان بني أمية، وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت إلينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت أعمالا سيئة وظلما فاشيا، والله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم شيئا من الجور والظلم إلا رأيته في سلطانك، وكنت ظننته لبعد البلاد منك، فجعلت كلما دنوت كان الأمر أعظم، فنكس الخليفة رأسه طويلا ثم رفعه وقال: كيف لي بالرجال؟ فقال القاضي: أليس عمر بن عبد العزيز كان يقول: إن الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برا أتوه ببرهم، وإن كان فاجرا أتوه بفجورهم. ووعظ الأوزاعي المنصور، فقال له إن السلطان أربعة: أمير يظلف
14
نفسه وعماله، فذلك أجر المجاهد في سبيل الله وصلاته سبعون ألف صلاة، ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف، وأمير رتع ورتع عماله فذلك يحمل أثقاله وأثقالا مع أثقاله، وأمير يظلف نفسه ويرتع عماله فذاك الذي باع آخرته بدنيا غيره، وأمير يرتع ويظلف عماله فذاك شر الأكياس.
كان المنصور يقول لابنه: يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه. وكتب إليه عامله على إرمينية يخبره أن الجند شغبوا عليه ونهبوا ما في بيت المال فوقع في كتابه: «اعتزل عملنا مذموما مدحورا، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا.» ولقد حدث أن المنصور ولى المدينة رياح بن عثمان فخطب أهلها يهددهم ويقول: أنا الأفعى بن الأفعى، أنا ابن عثمان بن حيان وابن عم مسلم بن عقبة المبيد خضراءكم المفني رجالكم، والله لأدعنها بلقعا لا ينبح فيها كلب، فوثب عليه قوم منهم وكلموه وقالوا: والله يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا، فكتب الوالي إلى المنصور يخبره بسوء طاعة أهل المدينة، فأرسل المنصور إلى رياح رسولا، وكتب معه كتابا يقول فيه: وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفا، وليقطعن البر والبحر عنكم، وليبعثن عليكم رجالا غلاظ الأكباد بعاد الأرحام. فلما قرئ عليهم نادوه من كل جانب كذبت يا ابن المجلود حدين، ورموه بالحصا وبادر المقصورة فأغلقها، فدخل عليه أيوب بن سلمة المخزومي فقال: أصلح الله الأمير، إنما تصنع هذا رعاع الناس. وقال بعض من حضر من وجوه بني هاشم: لا نرى هذا، ولكن أرسل إلى وجوه الناس وغيرهم من أهل المدينة فاقرأ عليهم كتاب المنصور، فجمعهم وقرأ عليهم فقالوا: ما أمرتنا فعصيناك ولا دعوتنا فخالفناك، وانفض الأمر بسلام.
وعني المنصور بالعمار في ملكه يعمر الجسور والقنى والآبار، ففشت في أيامه أعمال العمران، وحمل المهندسين من الآفاق إلى العراق خصوصا لبناء مدينة بغداد، واختار المنصور موقعها بنفسه لإحاطتها بدجلة والفرات بحيث يصعب على أكثر الجيوش تخطيها، ولأن مواد الشام والجزيرة تأتيها بالفرات، ومواد الموصل وما وراءها تحمل إليها في دجلة، وبنى الرصافة لابنه المهدي ليصير ابنه في مدينة، وعسكر بالجانب الشرقي، ويصير المنصور في مدينة، وعسكر بالجانب الغربي ، فلا يشغب الجند.
وحج المنصور آخر حجة وكان موقنا أنه لا يرجع من حجه، زاعما أنه عرف ذلك من المنجمين، فقال لابنه وأشار إلى سفط له فيه دفاتر وعليه قفل لا يفتحه غيره: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به؛ فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن حزبك أمر فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلا ففي الثاني والثالث، حتى تبلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة أي بغداد، وإياك أن تستبدل بها غيرها. وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البعوث فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا، وأوصى ابنه بأهل بيته وأن يحسن إليهم ويقدمهم، ويوطئ الناس أعقابهم، ويوليهم المنابر، وأوصاه بأهل خراسان خيرا؛ لأنهم أنصاره وشيعته الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولته، وأوصاه أن لا يدخل النساء في أمره، وأن يعد الكراع والرجال والجند ما استطاع، وأن يعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وأن يباشر الأمور بنفسه، وأن يستعمل حسن الظن، ويسيء الظن بعماله وكتابه، وأن لا يبرم أمرا حتى يفكر فيه، فإن فكر العاقل مرآة تريه حسنه وسيئه، وقال له: يا بني، لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره. وقال له أيضا: إني تركت الناس ثلاثة أصناف: فقير لا يرجو إلا غناك، وخائفا لا يرجو إلا أمنك، ومسجونا لا يرى الفرج إلا منك، فإذا وليت فأذقهم طعم الرفاهية، ولا تمدد لهم كل المد.
هذا إجمال ما عمله أبو جعفر المنصور، وما أوصى به ابنه لإتمام ما بدأ به من التراتيب، وقد أبقت الأيام كتابا لابن المقفع في الصحابة
15
أي أصحاب الخليفة، كتبه إلى أبي جعفر أورد فيه ما يحتاج إليه الملك من الإصلاح ليسير على قواعد مطردة سليمة من الشوائب، وأدركنا منه بعض المسائل الإدارية التي كانت تشغل الأذهان في ذاك الزمان، بدأه بتذكير الخليفة بجند خراسان فقال: إنهم جند لم يدرك مثلهم في الإسلام، وفيهم منعة وهم أهل بصر بالطاعة، وفضل عند الناس، وعفاف نفوس وفروج، وكف عن الفساد، وذل للولاة، فرأى أن يكتب لهم أمانا معروفا بليغا وجيزا محيطا بكل شيء، بالغا في الحجة، قاصرا عن الغلو، يحفظه رؤساؤهم، حتى يقودوا به دهماءهم، وارتأى أن لا يولي أحدا منهم شيئا من الخراج، فإن ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة، وإن منهم من المجهولين من هو أفضل من قادتهم، فلو التمسوا وصنعوا
16
كانوا عدة وقوة، وكان ذلك صلاحا لمن فوقهم من القادة، ومن دونهم من العامة، وأن يتعهد أدبهم في تعليم الكتاب والتفقه في السنة والأمانة والعصمة والمباينة لأهل الهوى، وأن يظهر فيهم من القصد والتواضع واجتناب زي المترفين وشكلهم مثل الذي يأخذ به أمير المؤمنين في أمر نفسه، قال: ولا يزال يطلع من أمر أمير المؤمنين ويخرج منه القول، ما يعرف مقته للإتراف
17
والإسراف وأهلهما، ومحبته القصد والتواضع ومن أخذ بهما، حتى يعلموا أن معروف أمير المؤمنين محظور عمن يكنزه، بخلا أن ينفقه سرفا في العطر واللباس والمغالاة بالنساء والمراتب.
وأشار أن يوقت الخليفة للجند وقتا يعرفونه في كل ثلاثة أشهر أو أربعة أو ما بدا له أنهم يأخذون فيه، فينقطع الاستبطاء والشكوى، هذا مع كثرة أرزاقهم وكثرة المال الذي يخرج لهم، وأن الجند يحتاجون إلى ما يحتاجون إليه من كثرة الرزق لغلاء السعر، والرأي أن يجعل بعض أرزاقهم طعاما وبعضه علفا يعطونه بأعيانه، ورأى أن لا يخفي عن أمير المؤمنين شيئا من أخبار هذا الجند وحمالاتهم
18
وباطن أمرهم بخراسان والعسكر والأطراف، وأن يحتقر في ذلك النفقة، ولا يستعين فيه إلا بالثقات النصاح «فإن ترك ذلك وأشباهه أحزم بتاركه من الاستعانة فيه بغير الثقة فيصير جنة للجهالة والكذب.»
ووصى بأهل المصرين (الكوفة والبصرة) قائلا: إنهم أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعة الخليفة ومعينيه، وأن في أهل العراق من الفقه والعفاف والألباب والألسنة شيئا لا يكاد يشك أنه ليس في جميع من سواهم من أهل القبلة مثله ولا مثل نصفه، وأراده على أن يكتفي بهم، وأنه ما أزرى بأهل العراق إلا أن من ولوا بلادهم كانوا أشرار الولاة، وأعوانهم من أهل أمصارهم كذلك «فحمل جميع أهل العراق على ما ظهر من أولئك الفسول،
19
وتعلق بذلك أعداؤهم من أهل الشام فنعوه عليهم، ثم كانت هذه الدولة فلم يتعلق من دونكم من الوزراء والعمال إلا بالأقرب فالأقرب، ممن دنا منهم أو وجدوه بسبيل شيء من الأمر، فوقع رجال مواقع شائنة لجميع أهل العراق حيثما وقعوا من صحابة خليفة، أو ولاية عمل أو موضع أمانة أو موطن جهاد، وكان من رأي أهل الفضل أن يقصدوا حتى يلتمسوا فأبطأ ذلك بهم أن يعرفوا أو ينتفع بهم» «فنزلت الرجال عن منازلها؛ لأن الناس لا يلقون صاحب السلطان إلا متصنعين بأحسن ما يقدرون عليه من الصمت والكلام، غير أن أهل النقص هم أشد تصنعا، وأحلى ألسنة، وأرفق تلطفا للوزراء أو تمحلا لأن يثني عليهم من وراء وراء.» ثم ذكره بإصلاح القضاء وما يصدر عن القضاة من الأحكام المتناقضة، ورجا أن يوحد القضاء ويوضع للقضاة كتاب يرجعون إليه.
وتعرض لأهل الشام وذكره أنهم أشد الناس مئونة وأخوفهم عداوة وبائقة، فمن الرأي أن يختص منهم خاصة ممن يرجو عنده صلاحا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء، فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويدخلوا فيما حملوا عليه من أمرهم، ولا يعامل أهل الشام كما عاملوا أهل العراق من جعل فيئهم إلى غيرهم وتنحيتهم عن المنابر والمجالس والأعمال، كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع، ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة، ورجاه أن يأخذ منهم أهل القوة والغناء وخفة المئونة والعفة في الطاعة، ولا يفضل أحدا منهم على أحد إلا على خاصة معلومة، وقال بهذا المعنى في إقامة العذر لأهل الشام على نزواتهم، وأنه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بها، ثم كان ذلك التوثب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.
وذكره بأصحابه «الذين هم بهاء فنائه، وزينة مجلسه، وألسنة رعيته، والأعوان على رأيه؛ ومواضع كرامته، والخاصة من عامته»، وأبان أنها مراتب طمع فيها الأوغاد «ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي، مشهور بالفجور في أهل مصره، قد غبر عامة دهره صانعا يعمل بيده، فصار يؤذن له على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل البيوتات من العرب، ويجري عليه من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم وغيرهم من سروات قريش، ويخرج له من المعونة على نحو ذلك، لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم، ولا فقه في دين، ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة، ولا غناء حديث، ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء، ولا عدة يستعد بها، وليس بفارس ولا خطيب ولا علامة، إلا أنه خدم كاتبا أو حاجبا فأخبر أن الدين لا يقوم إلا به، حتى كتب كيف شاء، ودخل حيث شاء.» ثم ذكره بأمر فتيان أهل بيته وبني أبيه وبني علي وبني العباس ووصفهم بأن فيهم رجالا لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوها وكانوا عدة لأخرى.
ومن أهم ما ذكره به أمر الأرضين والخراج، قال: فليس للعمال أمر ينتهون إليه ولا يحاسبون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعد ما يتأنقون لها في العمارة، ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم، فسيرة العمال فيهم إحدى ثنتين: إما رجل أخذ بالخرق والعنف من حيث وجد وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن وجد، وإما رجل صاحب مساحة يستخرج ممن زرع ويترك من لم يزرع، فيعمر من يعمر ويسلم من أخرب، ورجاه على أن يعمل رأيه في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وظائف معلومة، وتدوين الدواوين بذلك، وإثبات الأصول حتى لا يؤخذ رجل إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها، ولا يجتهد في عمارة إلا من كان له فضلها ونفعها ليكون في ذلك صلاح للرعية، وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال، قال: «وهذا رأي مؤنته شديدة، ورجاله قليل، ونفعه متأخر، وليس بعد هذا في أمر الخراج إلا رأي قد رأينا أمير المؤمنين أخذ به، ولم نره من أحد قبله، من تخير العمال وتفقدهم.»
ثم ذكره بجزيرة العرب وأن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم؛ لأن ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق أمير المؤمنين وأكرمه بها من الرأي الذي هو بإذن الله حمى ونظام لهذه الأمور كلها في الأمصار والأجناد والثغور والكور، ومما قاله في خاتمة كتابه: «إن بالناس من الاستخراج
20
والفساد ما قد علم أمير المؤمنين، وبهم من الحاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها، وأهل كل مصر وجند أو ثغر فقراء إلى أن يكون لهم من أهل الفقه والسنة والسير والنصيحة مؤدبون مقومون، يذكرون ويبصرون بالخطأ، ويعظون عن الجهل، ويمنعون عن البدع، ويحذرون الفتن، ويتفقدون أمور عامة من هم بين أظهرهم حتى لا يخفى عليهم منها مهم، ثم يستصلحون ذلك ويعالجون ما استنكروا منه بالرأي والرفق والنصح، ويرفعون ما أعياهم إلى ما يرجون قوته عليه، مأمونين على سير ذلك وتحصينه، بصراء بالرأي حين يبدو، أطباء باستئصاله قبل أن يتمكن، وفي كل قوم خواص رجال عندهم على هذا معونة إذا صنعوا لذلك وتلطف لهم، وأعينوا على رأيهم، وقووا على معاشهم ببعض ما يفرغهم لذلك ويبسطه لهم، وخطر هذا جسيم في أمرين: أحدهما برجوع أهل الفساد إلى الصلاح، وأهل الفرقة إلى الألفة، والأمر الآخر أن لا يتحرك متحرك في أمر من أمور العامة إلا وعين ناصحة ترمقه، ولا يهمس هامس إلا وأذن شفيقة تصيخ نحوه.» قال: «وقد علمنا علما لا يخالطه الشك أن العامة قط لم تصلح من قبل أنفسها، ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها، وأن خاصة قط لم تصلح من قبل أنفسها وأنها لم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها»، «فإذا جعل الله فيهم خواص من أهل الدين والعقول ينظرون إليهم ويسمعون منهم، اهتمت خواصهم بأمور عوامهم وأقبلوا عليه بجد ونصح ومثابرة وقوة، جعل الله ذلك صلاحا لجماعتهم، وسببا لإصلاح الصلاح من خواصهم، وزيادة فيما أنعم الله به عليهم، وبلاغا إلى الخير كله، وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك.»
هذه زبدة تقرير ابن المقفع للمنصور وفيه صورة جميلة مما تحتاجه إدارة البلاد من الصلاح، وما يجب القيام به لاستصلاح الجند والرفق بأهل الكوفة والبصرة، والعناية بأهل العراق والعطف على الحجاز واليمن واليمامة واختيار العمال الكفاة والرجوع إلى أهل الرأي، واصطناع أرباب العقل من أهل الشام وإشارة إلى أن بغضهم بني العباس من الأمور الطبيعية؛ لأن الملك كان فيهم فانتقل إلى غيرهم، وعرفه الطرق إلى استصلاح العامة واختيار الخاصة من الأصحاب والموالين إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن تطبيقها لعمران البلاد، ورفع الحيف عن الخلق والانتفاع بالقوى المفيدة للرعية وأرضهم، ومن أهم ما وقفنا عليه هذا التقرير أن الأمة لم تعدم في إبان مجدها رجالا يدلونها على مواطن الضعف من سلطانها، ومعالجة الإصلاح بالعقل حتى يبلغ كماله، والأخذ في كل أمر من أمور الدولة بالحزم النافع والمصلحة الشاملة.
إدارة المهدي والهادي والرشيد
سار المهدي بالخلافة على الخطة التي اختطها له أبوه، ينظر في الدقائق من الأمور، ويظهر أبهة الوزارة، لكفاية وزيره أبي عبيد الله بن معاوية بن يسار، فإنه جمع له حاصل المملكة ورتب له الديوان
21
وقرر القواعد «وكان كاتب الدنيا وأوحد الناس حذقا وعلما وخبرة.» اخترع أمورا، منها أنه نقل الخراج إلى المقاسمة، وكان السلطان يأخذ عن الغلات خراجا مقررا ولا يقاسم، وجعل الخراج على النخل والشجر، وضبطت الأمور في أيامه ضبطا محكما، وكان من جملة حظ المهدي أن يكون له وزراء من هذا الطراز العالي، وهو يعتمد عليهم ويضع ثقته في رجال دولته، واستوزر أيضا يعقوب بن داود فخرج كتاب المهدي إلى الديوان أن أمير المؤمنين آخى يعقوب بن داود، فلم يكن ينفذ شيء من كتب المهدي حتى يرد كتاب الوزير يعقوب معه إلى أمينه بإنفاذه، أي إن الخليفة ووزيره كانا يراقب أحدهما عمل صاحبه لتقرير ما تلزم به المصلحة قبل إمضائه.
ووضع المهدي ديوان الأزمة ولم يكن لبني أمية ذلك، ومعنى ديوان الأزمة أن يكون لكل ديوان زمام وهو رجل يضبطه، وقد كانت الدواوين قبل ذلك مختلطة،
22
والسبب في وضع ديوان الأزمة أنه لما جمعت الدواوين لعمر بن بزيع فكر فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون له على كل ديوان، فاتخذ دواوين الأزمة، وولى على كل ديوان رجلا، وأنشأوا ديوانا سموه ديوان النظر، أي المكاتبات والمراجعات، تسهيلا على أرباب المصالح، والديوان يقسم أربعة أقسام:
23
ديوان الجيش وفيه الإثبات والعطاء، وديوان الأعمال ويتولى الرسوم والحقوق وديوان العمال ويختص بالتقليد والعزل، وديوان بيت المال ينظر في الدخل والخرج.
كان المهدي أول من جلس للمظالم من بني العباس، يقيم العدل بين المتظالمين، ومشى على إثره الهادي والرشيد والمأمون، وكان المهتدي آخر من جلس للنظر فيها، وبسط المهدي يده في العطاء فأذهب جميع ما خلفه المنصور وهو ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، وأجرى المهدي على المجذمين وأهل السجون في جميع الآفاق، وأمر بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن وبغداد ببغال وإبل، ولم يكن هناك بريد قبل ذلك ولا في قطر من الأقطار، وكان وزيره «يرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة من أمور الثغور والولايات، وبناء الحصون وتقوية الغزاة، وتزويج العزاب وفكاك الأسرى والمحبسين، والقضاء على الغارمين والصدقة على المتعففين.» واشتد المهدي على الزنادقة فقتل في جملة من قتل ابن وزيره أبي عبد الله بن معاوية فاستوحش كل منهما من صاحبه، فاعتزل الوزير الخدمة.
قال رجل للمهدي عندي نصيحة يا أمير المؤمنين، فقال: لمن نصيحتك هذه؟ لنا أم لعامة المسلمين أم لنفسك؟ قال: لك يا أمير المؤمنين، قال: ليس الساعي بأعظم عورة ولا أقبح حالا ممن قبل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة فلا نشفي غيظك، أو عدوا فلا نعاقب لك عدوك، ثم أقبل على الناس فقال: لا ينصح لنا ناصح إلا بما فيه رضا لله وللمسلمين صلاح، فإنما لنا الأبدان وليس لنا القلوب، ومن استتر عنا لم نكشفه، ومن بادانا طلبنا توبته، ومن أخطأ أقلنا عثرته، فإني أرى التأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة، والسلامة مع العفو أكثر منها مع العاجلة، والقلوب لا تبقى لوال لا ينعطف إذا استعطف، ولا يعفو إذا قدر ، ولا يغفر إذا ظفر، ولا يرحم إذا استرحم، وهذا أرقى الأدب في استمالة القلوب وحسن سياسة الناس، ومن وافق إلى تطبيق هذه القواعد على أمته لم يحتج إلى سلاح يخيفهم ولا إلى جند يضبطهم.
وأفضت الخلافة إلى الهادي، والدواوين مدونة مرتبة، فمن ديوان الخراج إلى ديوان الضياع، إلى ديوان الزمام، إلى ديوان التوقيع والتتبع على العمال، إلى ديوان النظر، أي المكاتبات والمراجعات، إلى ديوان الرسائل، إلى ديوان البريد والخرائط، إلى غير ذلك من الدواوين، وجعل الهادي أمور الدولة تسير في قواعدها المرعية على ما تقضي به أحكام الشرع والعقل، ويراه الوزراء والأمراء والقضاة، وكان جبارا عظيما وهو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة المشهورة، والقسي الموتورة، فسلكت عماله طريقته، ويمموا منهجه، وكثر السلاح في عصره.
سار الرشيد في إدارته على نهج قويم، وأعاد إلى الخلافة رونقها الذي كان لها على عهد جده المنصور، وما كان بالمسرف ولا بالمبخل، وسمى الناس أيامه «أيام العروس» لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها، وكانت دولته
24 «من أحسن الدول وأكثرها وقارا ورونقا وخيرا وأوسعها رقعة مملكة: جبى الرشيد معظم الدنيا وكان أحد عماله صاحب مصر» وقلد وزارته يحيى بن خالد وقال له: «قد قلدتك أمر الدولة وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى.» ودفع إليه خاتم الخلافة، أما الولايات فقد فوضها إلى أمراء جعل لهم الولاية على جميع أهلها ينظرون
25
في تدبير الجيوش والأحكام ويقلدون القضاة والحكام، ويجبون الخراج ويقبضون الصدقات ويقلدون العمال فيها، ويحمون الدين ويقيمون حدوده، ويؤمون في الجمع والجماعات أو يستخلفون عليها، ويسيرون الحج من أعمالهم، فإن كانت أقاليمهم ثغرا متاخما للعدو تولوا جهاده.
وما قسمت أعمال الدولة منذ انتقالها إلى بني العباس تقسيمها في زمن الرشيد؛ ولذلك كان للخليفة وقت ليحج ووقت ليغزو، ووقت ليصطاف ويرتبع في الرقة، ويترك قصر الخلد في بغداد، وما اشتعلت فتنة في أرجاء مملكته إلا أطفأها، ومنها فتنة النزارية واليمانية في الشام أي قيس ويمن، عادوا إلى ما كانوا عليه فقتل منهم بشر كثير، فأرسل عليهم إبراهيم بن محمد المهدي واليا، ففكر أن يعمد إلى طرق إدارية لقطع شأفة هذه الغائلة، فرأى أن يلهيهم بقشور، ويتقرب من قلوبهم بما يستميلها، فسار في استقبالهم على قانون من «التشريفات» أو «البروتوكول» أرضاهم به وما تكلف شيئا؛ فقد أمر حاجبه بإحضار وجوه الحيين، وأمره بتسمية أشرافهم، وأن يقدم من كل حي الأفضل فالأفضل منهم، فأمر بتصيير أعلا الناس من الجانب الأيمن مضريا وعن شماله يمانيا، ومن دون اليماني مضري ومن دون المضري يماني، حتى لا يلتصق مضري بمضري ولا يماني بيماني، فلما قدم الطعام قال قبل أن يطعم شيئا: «إن الله عز وجل جعل قريشا موازين بين العرب، فجعل مضر عمومتها، وجعل يمن خئولتها، وافترض عليها حب العمومة والخئولة، فليس يتعصب قرشي إلا للجهل بالمفترض عليه.» ثم قال: يا «معشر مضر كأني بكم وقد قلتم إذا خرجتم لإخوانكم من يمن قد قدم أميرنا مضر على يمين، وكأني بكم يا يمن قد قلتم وكيف قدمكم علينا، وقد جعل بجانب اليماني مضريا وبجانب المضري يمانيا، فقلتم يا معشر مضر إن الجانب الأيمن أعلا من الجانب الأيسر، وقد جعلت الأيمن لمضر والأيسر ليمن، وهذا دليل على تقدمته إيانا عليكم، ألا إن مجلسك يا رئيس المضرية في غد من الجانب الأيسر، ومجلسك يا رئيس اليمانية في غد من الجانب الأيمن، وهذان الجانبان يتناوبان بينكما، يكون كل من كان في جهة متحولا عنها في غده إلى الجانب الآخر.» فانصرف القوم كلهم حامدا.
وبمثل هذه القوانين الإدارية رجع السلام إلى الشام ست سنين، واستراحت من العصبية الجاهلية وبأو
26
القبلية. قال الجاحظ:
27
حدثني إبراهيم بن السندي قال: لما كان أبي بالشام واليا أحب أن يسوي القحطاني والعدناني وقال: لسنا نقدمكم إلا على الطاعة لله عز وجل وللخلفاء، وكلكم أخوة، وليس للنزاري شيء ليس لليماني مثله قال: وكان يتغدى مع جلة من جلة الفريقين، ويسوي بينهم في الإذن والمجلس.
ومن عمال الرشيد من أبدع طرقا جديدة في الإدارة، ولي عمر بن مهران مصر فقال هذا لغلامه: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب، لا تقبل دابة ولا جارية ولا غلاما، فجعل الناس يبعثون بهداياهم فجعل يرد ما كان من الألطاف
28
ويقبل المال والثياب، ويوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية، وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فاستأدى من الخراج النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث وقعت المطالبة والمطل فأحضر أهل الخراج والتجار، فطالبهم فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس وأحضر الجهبذ
29
فوزن ما فيها وأجزى أثمانها عن أهلها ثم قال: يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا مالنا، فأدوا إليه حتى أغلق مال مصر، فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره.
30
ولقد كان الرشيد على أشد ما يكون من الانتباه لكل ما دق وجل من شئون الملك، «ومن أشد الملوك بحثا عن أسرار رعيته وأكثرهم بها عناية وأحزمهم فيها أمرا»، يصطنع الرجال ويحلم عن مساوئ تغتفر من رجاله، ويسعى في عمران البلاد ويكف الأذى عن الرعية، ويأخذ بأيدي العلماء والباحثين ويجتمع إليهم ويأنس بهم، ولما رأى أن ملكه في خطر محقق من نفوذ آل برمك وزرائه وخاصته، لانصراف الوجوه إليهم لكثرة ما أحسنوا إلى الناس، ولإجماع القاصي والداني على حبهم، حتى ساموا الخليفة أو أربوا عليه في المكانة، أمر بالقبض عليهم ومصادرتهم وقتلهم، وما أراد أن يبوح بسر ما أتاه، فرجم القوم الظنون به؛ وذلك لأنه خافهم على ملكه، وهم فرس لهم قديم يمتون إليه من الإمارة، والفرس يحاولون منذ القرن الأول أن يعيدوا الملك فيهم فارسيا ويخرجوه عن صبغته العربية، ونشأت من قتلهم قصة طويلة سداها ولحمتها المبالغة، بل الاختلاق، شغل الرشيد بها الناس عن نفسه وعن سياسة بلاده.
ووضع الرشيد عن أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف، وترك بعض أهل الضياع في فلسطين أرضهم فوجه إليهم أحد كبار قواده فدعا قوما من أكرتها ومزارعيها إلى الرجوع إليها، على أن يخفف عنهم من خراجهم وتلين معاملتهم، فرجعوا فأولئك أصحاب التخافيف، وجاء قوم منهم بعد فردت عليهم أرضوهم على مثل ما كانوا عليه وهم أصحاب الردود، والرشيد يسد كل خلل في مملكته، ويهتم كل الاهتمام أن يخفف عن الفلاحين، وكان رجاله لا يألونه نصحا؛ لأنه يهتم لكل ما ينفع، وفي الرسالة التي كتبها له قاضيه أبو يوسف في الخراج نموذج من هذه العناية، ومما قال فيها: وقد بلغني أن عمال الخراج يبعثون رجالا من قبلهم في الصدقات فيظلمون ويعسفون ويأتون ما لا يحل، وإنما ينبغي أن يتخير للصدقة أهل العفاف والصلاح، فإذا وليتها رجلا، ووجد من قبله من يوثق بدينه وأمانته، أجريت عليهم من الرزق بقدر ما تجري، ولا تجري عليهم ما يستغرق أكثر الصدقة ... ويكون من يولي فقيها عالما مشاورا لأهل الرأي مؤتمنا على الأموال، إني قد أراهم لا يحتاطون فيمن يولون الخراج، إذا لزم الرجل منهم باب أحدهم أياما ولاه رقاب المسلمين وجباية خراجهم، ولعله أن لا يكون عرفه بسلامة ناصية ولا بعفاف، ولا باستقامة طريقة ولا بغير ذلك ... وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفا لأهل عمله، ولا محتقرا لهم، ولا مستخفا بهم، ولكن يلبس لهم جلبابا من اللين، يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء، من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم، واللين للمسلم والغلظة على الفاجر، والعدل على أهل الذمة وإنصاف المظلوم، والشدة على الظالم، والعفو عن الناس ... فإن كل ما عمل به والي الخراج من الظلم والعسف فإنه يحمل على أنه قد أمر به وقد أمر بغيره، وإن أحللت بواحد منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره واتقى وخاف، وإن لم تفعل هذا بهم تعدوا على أهل الخراج، واجترأوا على ظلمهم وعسفهم وأخذهم بما لا يجب عليهم، وإذا صح عندك من العامل والوالي تعد بظلم أو سعف وخيانة لك في رعيتك، واحتجان شيء من الفيء، أو خبث طعمته، أو سوء سيرته، فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن تقلده شيئا من أمر رعيتك أو تشركه في شيء من أمرك، بل عاقبه على ذلك عقوبة تروع غيره فلا يتعرض لمثل ما تعرض له.
وقال: «بلغني عن ولاتك على البريد والأخبار في النواحي تخليط كثير، ومحاباة فيما يحتاج إلى معرفته من أمور الولاة والرعية، وأنهم ربما مالوا مع العمال على الرعية، وستروا أخبارهم وسوء معاملتهم للناس، وربما كتبوا في الولاة والعمال بما لم يفعلوا إذا لم يرضوهم، وهذا، مما ينبغي أن تتفقده، وتأمر باختيار الثقات العدول من أهل كل بلد ومصر فتوليهم البريد والأخبار»، «وينبغي أن لا يقبل خبر إلا من ثقة عدل، ويجري لهم من الرزق من بيت المال وليدر عليهم وتقدم إليهم في أن لا يستروا عنك خبرا عن رعيتك ولا عن ولاتك ولا يزيدوا فيما يكتبون به عليه خبرا، فمن لم يفعل منهم ينكل به، ومتى لم يكن أصحاب البرد والأخبار في النواحي ثقات عدولا فلا ينبغي أن يقبل لهم خبر في قاض ولا وال، إنما يحتاط بصاحب البريد على القاضي والوالي وغيرهما فإذا لم يكن عدلا فلا يحل ولا يسع استعمال خبره ولا قبوله.»
31
بمثل هذا اللسان يتلطف أبو يوسف وينصح لخليفته في اختيار عمال الخراج والأمناء على الأخبار لمراقبة العمال والولاة والقضاة. على أن الرشيد أخذ العمال
32
والتناء والدهاقين وأصحاب الضياع والمبتاعين للغلات والمقبلين
33
وكان عليهم أموال مجتمعة فطولبوا بصنوف من العذاب، وهذا ما دعا بعض الناس في الدولة العباسية إلى أن يقولوا: إن بني أمية
34
كانت مصائبهم في أديانهم، وأن جبايتهم وأموالهم سليمة لم يظلموا في العشر والخراج، أما بنو العباس فمع سلامة أديانهم كانت أموالهم فاسدة وجباياتهم بالظلم والغش، وأوضاع كل أمة تثقل وتخف في الميزان بحسب غناء القائمين على تطبيقها، يزنون بالقسطاس المستقيم، أو يخسرون إذا كالوا أو وزنوا.
ولى الرشيد أحدهم بعض أعمال الخراج، فدخل على الرشيد يودعه، وعنده يحيى وجعفر بن يحيى، فقال الرشيد ليحيى: أوصياه، فقال له يحيى: وفر وعمر، وقال له جعفر: أنصف وانتصف، فقال له الرشيد: اعدل وأحسن. وانتهى إلى علم الرشيد أن عامل الأهواز قد اقتطع مالا كثيرا من مال البلد، ولما سأله الرشيد أجاب: وحلفت بأيمان البيعة أني قد نصحت وشكرت الصنيعة، ووفرت وما أسرفت ولا خنت، والله لأصدقنك عن أمري: عمرت البلاد واستقصيت حقوقك من غير ظلم، ووفرت أموالك وفعلت ما يفعله الناصح لسيده، وكنت إذا كان وقت بيع الغلات جمعت التجار، فإذا تقررت العطايا أنفذت البيع وجعلت لي مع التجار فيه حصة، فربما ربحت وربما وضعت، إلى أن اجتمع لي من ذلك ومن غيره في عدة سنين عشرة آلاف ألف درهم فاتخذت أزجا
35
كبيرا عقد بالجص والآجر كأنه مجلس، وجعلت بين يديه موضعا أقعد فيه وعبيت البدر شيئا بعد شيء في الأزج ثم سددته، وهو بحاله ما أشك أن العنكبوت قد نسجت على ما فيه، فخذها وحول وجهك إلى عبدك، فقال الرشيد: بارك الله لك في مالك، فارجع إلى عملك ودار رعيتك.
ولما دخل عليه عامله بدمشق يرسف في قيده، قال له الرشيد: وليتك دمشق وهي جنة بها غدر تتكفأ أمواجها على رياض كالزرابي واردة منها كفايات المؤن إلى بيوت أموالي، فما برح بك التعدي لأرفاقهم فيما أمرتك، حتى جعلتها أجرد من الصخر، وأوحش من القفر، قال: والله يا أمير المؤمنين ما قصدت لغير التوفير من جهة، ولكن وليت أقواما ثقل على أعناقهم الحق فتفرقوا إلى ميدان التعدي، ورأوا المراغمة بترك العمارة أوقع بإضرار الملك وأنوه بالشنعة على الولاة، فلا جرم أن أمير المؤمنين قد أخذ لهم بالحظ الأوفر من مساءتي.
وكان الرشيد إذا أحس من عامل له خيانة دبر له من صائب رأيه ولطف حيلته ما يدل على بعد نظره وحسن إدارته، وجميل تدينه، وشدة غيرته على مصلحة ملكه، فيمسك أقصر الطرق إلى القضاء على الفتن الملحوظة والغوائل المستجنة، فيضرب على المسيء بسيفه وسنانه، كما يغمر المحسن بإنعامه وإحسانه، أراد مرة أن يعزل علي بن عيسى عن خراسان - وخراسان كثيرا ما كانت تشغل بال الرشيد كما شغلت بال أسلافه - فدعا هرثمة بن أعين مستخليا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدا، ولم أطلعه على سري فيك، وقد اضطربت علي ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمد ويتجيش، وأنا كاتب إليه أخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابا بخطي فلا تفتضه ولا تطلعن فيه، حتى تصل إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله ولا تجاوزه إن شاء الله، وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بن عيسى بخطي ليتعرف ما يكون منك ومنه، وهون عليه أمر علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددا لعلي بن عيسى وعونا له.
ثم كتب إلى علي بن عيسى كتابا بخطه نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا ابن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم خولك وأتباعك، فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته، بسوء سيرتك، ورداءة طعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة ابن أعين مولاي ثغر خراسان وأمرته أن يشدد وطأته عليك، وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهما ولا حقا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به، حتى ترده إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك، فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم، انتقاما لله عز وجل بادئا، ولخليفته ثانيا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثا، فلا تعرض نفسك للتي لا سوى لها، واخرج مما يلزمك طائعا أو مكرها.»
وكتب عهد هرثمة بخطه ونصه: «هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه، أمره بتقوى الله وطاعته، ورعاية أمر الله ومراقبته ، وأن يجعل كتاب الله إماما في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه، ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله، وأولي العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله عز وجل فيه رأيه، ويعزم له على رشده. وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين، وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم، فإن ثبتت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق المسلمين فدافعوا بها وجحدوها، أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم، فإذا خرجوا من حق كل ذي حق فأشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطأة، وجشوبة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله، فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك، فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك وعليه فليكن أمرك، ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحش معه إلى أمر يريبهم وظن يرعبهم، وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضي الله منك وخليفته ومن ولاك الله أمره إن شاء الله، هذا عهدي وكتابي بخطي وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سماواته وكفى بالله شهيدا، وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته.»
أمثلة تكشفت بها حقيقة إدارة الرشيد وبعد غوره في تراتيبه، ولقد رفع إليه أن رجلا بدمشق من بقايا بني أمية عظيم الجاه واسع الدنيا كثير المال والأملاك مطاعا في البلد له جماعة وأولاد ومماليك وموال، يركبون الخيل، ويحملون السلاح، ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه، فعظم ذلك عليه، فاستدعى منارة صاحب الخلفاء وأمره بالخروج إلى دمشق، وضم إليه مائة غلام وأجله لذهابه ستة وإيابه ستة ويوما لقعوده، وأمره أن يتفقد دار الرجل وجميع ما فيها وولده وأهله وحاشيته وغلمانه، وما يقولون وقدر النعمة والحال والمحل، فجاءه به في الميعاد المضروب وقص عليه ما سمعه ورآه، فعرف الرشيد أن الرجل محسود على النعمة مكذوب عليه، فأدناه واعتذر عن استدعائه، وقال له: سل ما تحتاج إليه من مصالح جاهك ومعاشك، فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون وقد استغنيت بعدله عن مسألته من ماله، وأموري منتظمة وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور أهل البلد بالعدل الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين، فأعاده إلى بلده على خير حال، ولم يترك للوشاة سبيلا إليه.
ولقد توسع الرشيد في توسعة سلطة عماله، شخص الفضل بن يحيى إلى خراسان واليا عليها فبنى فيها المساجد والرباطات، واتخذ بخراسان جندا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وذكروا أن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل فسموا ببغداد الكرنبية وخلف الباقي بخراسان على أسمائهم ودفاترهم، وكتب والي إرمينية للرشيد إلى وزيره أن قوما صاروا إلى سبيل النصح، فذكروا ضياعا بإرمينية قد عفت ودرست، يرجع منها إلى السلطان مال عظيم، وأني وقفت عن المطالبة حتى أعرف رأيك فكتب إليه: «قرأت هذه الرقعة المذمومة وفهمتها، وسوق السعاية بحمد الله في أيامنا كاسدة، وألسنة السعاة في أيامنا كليلة خاسئة ، فإذا قرأت كتابي هذا فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما في ديوانك، فإنا لم نولك الناحية لتتبع الرسوم العافية، ولا لإحياء الأعلام الداثرة، وجنبني وتجنب بيت جرير يخاطب الفرزدق:
وكنت إذا حللت بدار قوم
رحلت بخزية وتركت عارا
وأجر أمورك على ما يكسب الدعاء لنا لا علينا، واعلم أنها مدة تنتهي وأيام تنقضي، فإما ذكر جميل، وإما خزي طويل.»
ومما يعد في توسيع السلطة أن قاضي الرشيد أبا يوسف كان أول من دعي في الإسلام قاضي القضاة ولم يقع
36
هذا الاسم على غيره كما وقع له فيه، فإنه كان قاضي المشرق والمغرب، فهو قاضي القضاة على التحقيق، والقضاة يعينون باقتراحه، وكان القاضي في العواصم لا يتناول أقل من ألف دينار في السنة، وأجرى على قاضي مصر
37
مائة وثمانية وستين دينارا في كل شهر، وهو أول قاض أجري عليه هذا، وأجروا بعد ذلك على القاضي سبعة دنانير كل يوم، ثم صار أبو الجيش يجري على قاضيه كل شهر ثلاثة آلاف دينار، وكانوا يجرون على القضاة والعمال الأرزاق من بيت المال من جباية الأرض أو من خراجها والجزية.
والرشيد لا يضن بالمال في سبيل الدولة، والمال وحده لا يكفي الخليفة أمر الفتوق التي تحدث إن لم يكن لها من يوثق بأمانته في تلافي شرها، والرشيد على كثرة بذله المأثور خلف من المال «ما لم يخلف أحد مثله مذ كانت الدنيا»؛ وذلك أنه خلف من الأثاث والعين والورق والجوهر والدواب سوى الضياع والعقار ما قيمته مائة ألف ألف وخمسة وعشرون ألف ألف دينار. قال ابن الأثير: كان الرشيد يطلب العمل بآثار المنصور إلا في بذل المال فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن ولا يؤخر ذلك.
إدارة الأمين والمأمون
لم يعرف التاريخ شيئا من التدبير الذي جرى عليه الأمين بعد الرشيد؛ لأنه كان يعبث وقلما يجد، وفرق ما في خزائن الدولة من الأموال والأعلاق والذخائر، حتى دالت الخلافة وضاعت بعد الرشيد، ولم يرزق الأمين وزراء كوزراء أخيه: طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين والحسن بن سهل والفضل بن سهل ثم أحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة وأضرابهم، بل اصطنع من نبذهم أبوه الرشيد، وكان أقصاهم لسوء سيرتهم، فربح المأمون برجاله وعقله، وخسر الأمين برجاله وضعف تدبيره.
وبينا كان المأمون في مرو ينظر في أمور الدولة كان الأمين يوجه «إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق ونافس في ابتياع فره الدواب وأخذ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه ... وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه ... وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس وأنفق في عملها مالا عظيما.»
ولما حصر الأمين وضغطه
38
الأمر قال: ويحكم، أما أحد يستراح إليه! فأتوه برجل من العرب فلما صار إليه قال له: أشر علينا في أمرنا، قال له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب، ولكن استعمل الأراجيف فإنها من آلة الحرب، فكان يضع له الأخبار فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها، فالأمين كان يسف إلى ذلك، وأخوه المأمون يعمد إلى القواد والعظماء والعلماء الأعلام يستشيرهم ويأتمنهم.
وغلط المأمون لأول أمره ثلاث غلطات إدارية: منها أنه لم يأت إلى عاصمة ملكه عقيب مقتل أخيه فقضى في الطريق من مرو إلى بغداد سنتين بعد أن أقام بمرو تسع سنين، وكان عليه أن يبادر لجمع القلوب وكسر شوكة المتلاعبين من القواد، وبايع المأمون بولاية عهده إلى علي بن موسى الرضا وهو في خراسان فأخرج الخلافة من آل العباس، حتى أجمعوا على خلافه وبايعوا بالخلافة إبراهيم بن المهدي في بغداد وخلعوا طاعته، ومنها أنه سمع لوشاية وزيره الفضل بن سهل في هرثمة بن أعين الذي كان بحسن تدبيره العامل الأول في القضاء على جيوش أخيه الأمين وإيصال الخلافة للمأمون، وكانت أتت هرثمة كتب المأمون أن يلي الشام والحجاز فأبى وقصد إلى المأمون في خراسان
39 «إدلالا منه عليه لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار وألا يدعه حتى يرده إلى بغداد دار خلافة آبائه وملكهم، ليتوسط سلطانه ويشرف على أطرافه، فعلم الفضل ما يريد فقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل عليك البلاد والعباد وظاهر عليك عدوك»، ولما أدخل هرثمة على المأمون وقد أشرب قلبه ما أشرب من ناحيته، ذكر له ما بلغه عنه مما افتراه الفضل، وذهب هرثمة يتكلم ويعتذر ويدفع عن نفسه ما قرف به، فلم يقبل ذلك منه وأمر به فوجئ على أنفه وديس بطنه وسحب من بين يديه ثم قتل.
وكاد المأمون يغلط غلطة رابعة بتخليه عن طاهر بن الحسين: «الذي أبلى
40
في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتى إذا وطأ الأمر أخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة، قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده»، وتنوسى حتى لا يستعان به في شيء في الحروب، واستعين بمن هو دونه أضعافا، لكن عقل المأمون تدارك هذه الغلطات، وما إن جاء بغداد حتى قبض على قياد الملك قبضة الرجل الحازم، وظهرت مواهبه ونبوغه في السياسة والإدارة، في زمن غلبت الفتنة على قلوب الناس فاستعذبوها، ولا مال له يرضيهم به، وقال يتخوف هائجا يهيج وبيوت المال فارغة: إن الناس في هذه المدينة على طبقات ثلاث: ظالم ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم، فأما الظالم فليس يتوقع إلا عفونا وإحساننا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن ينتصف إلا بنا، ومن كان لا ظالما ولا مظلوما، فبيته يسعه.
وقيل: إن المأمون بكى لما رأى طاهر بن الحسين، فلما سئل عن سبب بكائه قال: إني ذكرت محمدا أخي (الأمين) وما ناله من الذلة فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرا مني ما يكره، فبلغ ذلك طاهرا فركب إلى أحمد بن أبي خالد فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه، فسعى له بتولية خراسان، وكان قبل ولايته ندبه الحسن بن سهل للخروج إلى محاربة نصر بن شبث فقال: حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأؤمر بمثل هذا، وإنما يجب أن توجه لهذا قائدا من قوادي، ثم وسد المأمون إلى عبد الله بن طاهر، وهو ابن طاهر بن الحسين، الرقة وحرب نصر بن شبث وولاه البلاد التي في طريقه ليكون حكمه نافذا مهيبا، مهيأة له أسباب الظفر من كل وجه، وذلك لئلا تتعارض السلطات، ويجمع القائد في العادة بين السلطة العسكرية والسلطة المدنية، وهذا من دقيق سياسة العباسيين، ولما أسندت إلى عبد الله بن طاهر قيادة الجيش لقتال الخارجي ابن شبث كتب إليه أبوه طاهر بن الحسين كتابا تنازعه
41
الناس وكتبوه وتدارسوه وشاع أمره حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه، فقال: ما أبقى أبو الطيب شيئا من أمر الدين والدنيا، والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة، وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة، إلا وقد أحكمه وأوصى به، وتقدم وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.
ومما ورد في هذا الكتاب في الإدارة: ولا تتهمن أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل تكشف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبداء والظنون السيئة بهم مأثم، واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم، يعنك
42
ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، ولا يمنعنك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، ولتكن المباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر فيما يقيمها ويصلحها، والنظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم آثر عندك مما سوى ذلك، وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطل ذلك ولا تهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب البدع والشبهات، يسلم لك دينك، وتستقم لك مروءتك، وإذا عاهدت عهدا فف به، وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة وادفع بها، واغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وأبغض أهله، وأقص أهل النميمة، فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها
43
تقريب الكذوب، والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها، ولا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنها رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك، وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم، وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى، واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوفاء والحلم، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تذخر وتكنز، البر والتقوى والمعدلة واستصلاح الرعية، وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم، والحفظ لدمائهم، والإغاثة لملهوفهم، واعلم أن الأموال إذا كثرت وزخرت في الخزائن لا تثمر، وإذا كانت في إصلاح الرعية، وإعطاء حقوقهم وكف المئونة عنهم، نمت وربت، وصلحت بها العامة، وتزينت بها الولاة، وطاب بها الزمان، واعتقد فيها العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم؛ وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك، وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب نفسا لكل ما أردت.
وعاد فوضع له قواعد في حكمة الأخلاق لا تصلح بغيرها الولاية، فقال: «ولا تحقرن ذنبا، ولا تمالئن حاسدا، ولا ترحمن فاجرا، ولا تصلن كفورا، ولا تداهنن عدوا، ولا تصدقن نماما، ولا تأتمنن غدارا، ولا توالين فاسقا، ولا تبتغين عاديا، ولا تحمدن مرائيا، ولا تحقرن إنسانا، ولا تردن سائلا فقيرا، ولا تجبين باطلا، ولا تلاحظن مضحكا، ولا تخلفن وعدا، ولا ترهقن هجرا، ولا تظهرن غضبا، ولا تأتين بذخا، ولا تمشين مرحا، ولا تركبن سفها، ولا تفطرن في طلب الأخرة، ولا تدفع الأيام عتابا، ولا تغمض عن الظالم رهبة منه أو مخافة ، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا.»
قال: وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الذمة والنحل ولا تسمعن لهم قولا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح، واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا، فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم، وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، يذهب الله بذلك فاقتهم، فيقوى بك أمرهم، وتزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا ...
ثم ذكر له القضاء وإقامة العدل فيه «لتصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة»، إلى أن قال، بعد أن عرفه ما يفعل لحقن الدماء وإعطاء الحقوق: وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا، ولأهل الكفر من معاهديهم ذلا وصغارا، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئا عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمرا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مر الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم، وألزم لرضا العامة، واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيمهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم، فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، وأحرزت به المحبة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وقوة وآلة وعدة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئا تحمد مغبة أمرك إن شاء الله.
واجعل في كل كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله، وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع، فأمضه وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته ...
وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فيشغلك ذلك حين تعرض له، فإذا أمضيت لكل يوم عمله، أرحت نفسك، وبذلك أحكمت أمور سلطانك، وانظر أحرار الناس وذوي الشرف
44
منهم ممن تستيقن صفاء طويتهم، وشهدت مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مئونتهم، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا، وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فسل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال.
وأجر للأضراء
45
من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم، والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورا تؤويهم، وقواما يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وفضل أمانيهم، لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم، دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه منها، ما يناله به مئونة ومشقة.
وأكثر الإذن للناس عليك وأبرز للناس وجهك، وسكن لهم حواسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة ... «واعرف ما تجمع عمالك من الأموال وينفقون منها، ولا تجمع حراما، ولا تنفق إسرافا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.
وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل منهم في كل يوم وقتا يدخل به عليك بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك وأمور كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر فيه والتدبر له، فما كان موافقا للحزم والحق فأمضه، واستخر الله فيه، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه، ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك ...»
أرأيتم هذا الكلام الآخذ بجماع الفؤاد الذي كتب به طاهر بن الحسين إلى ابنه قبل خمسين ومائة وألف سنة في هذا الموضوع الجليل الذي فيه قوام الممالك والشعوب؟ أتظنون أن هذه الأفكار يصدر اليوم أحسن منها عن أكبر عالم إداري عارف بطبائع الناس وما يصلحهم، والممالك وما ينبغي لها؟ وعرفنا من هذا الكتاب مكانة طاهر بن الحسين من قيام الدولة والدفاع عن حوزة الخلافة، وأن المأمون الذي يكون من جملة قواده ورجال دولته هذا العظيم لا بد أن يكون في عمله جد عظيم.
تقدم معنا أن عبد الله بن طاهر ندب لحرب نصر بن شبث، فلما استأمن هذا وصفت البلاد، جاء الشام فعمل أحسن الأعمال لراحة أهلها واستقراها بلدا بلدا، لا يمر ببلد إلا أخذ من رؤساء القبائل والعشائر والصعاليك والزواقيل،
46
وهدم الحصون وحيطان المدن، وبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر وضمهم جميعا، ونظر في مصالح البلدان وحط عن بعضها الخراج، ثم قصد إلى مصر فضرب على أيدي الخوارج فيها، وربطها بالخلافة ربطا محكما، وكان نحو
47
الخمسة عشر ألفا من أهل قرطبة جلوا من الأندلس بعد وقعة الربض في سنة 202 فانتهوا إلى الإسكندرية فملكوها مديدة، فلما ورد عبد الله بن طاهر على مصر وصالحهم على التخلي عنها على مال بذله لهم، وخيرهم في النزول حيث شاءوا من جزائر البحر فاختاروا جزيرة إقريطش من البحر الرومي.
وكان من تربية طاهر بن الحسين أن جاء ابنه، كما قال له أحمد بن يوسف الكاتب، موفقا في الشدة والليان في مواضعهما، ولا يعلم سائس جند ورعية عدل بينهم عدله، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوه، قال: ولقل ما رأينا ابن شرف لم يلق بيده متكلا على ما قدمت له أبوته. قال يونس بن عبد الأعلى: أقبل إلينا (في مصر) فتى حدث من المشرق، يعني ابن طاهر، والدنيا عندنا مفتونة، قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس في بلاء، فأصلح الدنيا وأمن البريء وأخاف السقيم واستوثقت له الرعية بالطاعة، ولقد قال المأمون لبعض جلسائه: من أنبل ما تعلمون نبلا وأعفهم عفة؟ فجالوا بما فتح الله عليهم، وبعضهم مدحه وقرظه، فقال: ذلك والله أبو العباس عبد الله بن طاهر دخل مصر وهي كالعروس الكاملة، فيها خراجها وبها أموالها جمة، ثم خرج عنها فلو شاء الله أن يخرج منها بعشرة آلاف ألف دينار لفعل، ولقد كان لي عليه عين ترعاه، فكتب إلي أنه عرضت عليه أموال لو عرضت علي أو بعضها لشرهت إليها نفسي، فما علمته خرج من ذلك البلد إلا وهو بالصفة التي قدمها فيها، إلا مائة ثوب وحمارين وأربعة أفراس، فمن رأى أو سمع بمثل هذا الفتى في الإسلام، فالحمد لله الذي جعله غرس يدي وخريج نعمتي.
هكذا كان عدل العمال وشرف أنفسهم، وهكذا كان علمهم وبعد نظرهم في عصر المأمون، فلا يستغرب بعد ذلك ما ذكر من قصة
48
تلك المرأة القبطية التي نادت المأمون لما مر بقريتها طاء النمل
49
من أرض مصر وسألته أن يقبل قراها، ليجعل لها الشرف ولعقبها بذلك، وأن لا يشمت بها الأعداء، وبكت بكاء كثيرا، فنزل عليها بجيشه ورجاله وكانت ضيافتها من فاخر الطعام ولذيذه، وفي الصباح بعثت إلى المأمون بعشر وصائف مع كل وصيفة طبق، في كل طبق كيس من ذهب، فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته، فقالت: لا والله لا أفعل، فتأمل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله، فقال: هذا والله أعجب، وربما عجز بيت مالنا عن مثل ذلك! فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا، فقال: إن في بعض ما صنعت لكفاية ولا نحب التثقيل عليك، فردي مالك بارك الله فيك؛ فأخذت قطعة من الأرض وقالت: يا أمير المؤمنين، هذا - وأشارت إلى الذهب - من هذا - وأشارت إلى الطينة التي تناولتها من الأرض - ثم من عدلك يا أمير المؤمنين، وعندي من هذا شيء كثير، فأمر به فأخذ منها، وأقطعها عدة ضياع، وأعفاها من بعض خراج أرضها.
وفي الحق إنه لم يعرف عصر كعصر المأمون وعصر أبيه وأخيه الأمين في استفاضة الأموال في كل طبقة من طبقات الأمة، فقد أنفق الحسن بن سهل على عرس ابنته بوران على المأمون أربعة آلاف ألف دينار، وماتت الخيزران أم الهادي والرشيد (173) وكانت غلتها ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ومات محمد بن سليمان وقبض الرشيد أمواله بالبصرة وغيرها، فكان مبلغها نيفا وخمسين ألف ألف درهم سوى الضياع والدور والمستغلات، وكان محمد بن سليمان يغل كل يوم مائة ألف درهم، وأنفق جعفر بن يحيى على داره التي ابتناها في دار السلام نحوا من عشرين ألف ألف درهم، وغنى إبراهيم بن المهدي محمدا صوتا فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم، فقال إبراهيم: يا سيدي قد أمرت لي إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم فقال: وهل هي إلا خراج بعض الكور!
ووقع للمأمون غير مرة أنه كان يخف إلى الأقطار التي تنشب فيها فتنة جديدة لا يعتمد على رجاله، على كثرة الصالحين منهم للعمل، ولما انتقضت أسفل الأرض كلها بمصر، عربها وقبطها، وأخرجوا العمال وخالفوا الطاعة، وكان ذلك لسوء سيرة العمال فيهم، هبط المأمون مصر لعشر خلون من المحرم سنة سبع عشرة ومائتين، وسخط على عامله عيسى بن منصور، وأمر بحل لوائه وأمر بلباس البياض وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك، حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتموني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد، وقال: ما فتق علي قط فتق في مملكتي إلا وجدت سببه جور العمال. وقال لمن رفع إليه خبرا في عامل: إني امرؤ أداري عمالي مداراة الخائف، وبالله ما أجد إلى أن أحملهم على المحجة البيضاء سبيلا، فاعمل على حسب ذلك ولن لهم تسلم منهم.
وخص المأمون بالإغضاء عن المساوئ، والتغابي عن التفاهات، وحمل الناس على محمل الخير، وجهد أن يسوق إليهم كل خير، وهذا مع كثرة عنايته بالأخذ بأخبار عماله ورعيته، قيل: إنه كان للمأمون ألف عجوز وسبعمائة يتفقد بها أحوال الناس ومن يحبه ويبغضه ومن يفسد حرم المسلمين، وكان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه كلها، وكان يدور ليلا ونهارا مستترا، ومع كل هذا كان المأمون أبدا إلى جانب المسامحة والعفو، وتتجافى نفسه العظيمة عن كل ما تشتم منه رائحة الطمع والإسفاف إلى أموال العمال، وكادت المصادرات والنكبات تبطل في أيامه، ولا ينكب إلا من حاول نقض بنيان الدولة، ولقد رفع إليه أن عمرو بن مسعدة أحد وزراء دولته، خلف ثمانين ألف ألف درهم، أو نحو ثمانية ملايين دينار، فوقع على الرقعة : «هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيه.»
وكأنه استفظع القتل الذي يصيب كل عدو للدولة فبسط جناح الرحمة، وقلل من إهلاك النفوس ما أمكن، وأقام نفسه مقام رجل يعرف الطباع البشرية، وينصف خصومه وأعداءه ويحسن إليهم ولا يسيء. كتب صاحب بريد همدان
50
إلى المأمون بخراسان يعلمه أن كاتب البريد المعزول أخبره أن صاحبه وصاحب الخراج كانا تواطآ على إخراج مائتي ألف درهم من بيت المال واقتسماها بينهما، فوقع المأمون: إنا نرى قبول السعاية شرا من السعاية، فإن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبله وأجازه، فانف الساعي عنك، فلئن كان في سعايته صادقا لقد كان في صدقه لئيما؛ إذ لم يحفظ الحرمة ولم يستر على أخيه.
وقال المأمون لولده في معنى الوشاة: «يا بني، نزهوا أقداركم وطهروا أحسابكم من دنس الوشاة وتمويه سعايتهم، فكل جان يده في فيه، وليس يشي إليكم إلا أحد الرجلين: ثقة وظنين، أما الثقة فقد قيل: إنه لا يبلغ ولا يسيئن بالوشاية قدره، وأما الظنين فأهل أن يتهم صدقه، ويكذب ظنه، ويرد باطله، وما سعى رجل برجل إلي قط إلا انحط
51
من قدره عندي ما لا يتلافاه أبدا، فلا تعطوا الوشاة أمانيهم فيمن يشون بهم.» ولئن لم يترك المأمون مجالا للوشاة يخربون بيوت الناس، ويزيلون نعمتهم، أو يوردونهم موارد الهلكة، فما كان يخفى عليه خبر من الأخبار الخاصة والعامة في القاصية والدانية، حتى إنه لما ضاق صدره من تشدد بعض العلماء في حوار خلق القرآن، كتب إلى عامله بمعايبهم رجلا رجلا، وقال: إنه أعلم بما في منازلهم منهم، وخبر في هذه الرسالة عن عيب واحد واحد من الفقهاء وأصحاب الحديث وعن حالتهم وأمورهم التي خفيت أو أكثرها عن القريب والبعيد.
ولقد كان من أهم قوانين إدارة المأمون التوسعة على عماله حتى لا يسرقوا الرعية والسلطان ويضيعوا حقوقهم؛ رفع منزلة الفضل بن سهل وعقد له على الشرق طولا وعرضا وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم، وما كان المأمون بالخليفة الذي يتخلى عن خاصة عماله لأدنى سبب، بل يغض الطرف عن مساويهم ويتركهم في بزخ بين الرغبة والرهبة؛ ولذلك استراح واستراح الناس معه، وعلى قدر ما كان يراعي الخاصة يراعي العامة، فقد قال في وصيته للخليفة بعده: ولا تغفل أمر الرعية والعوام؛ فإن الملك بهم وبتعهدك لهم، الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين، ولا ينتهين إليك أمر فيه صلاح المسلمين ومنفعة إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم وتأن بهم.
وكان المأمون يحرص كل الحرص على الانتفاع برجاله، ويطلق لهم حريتهم في العمل، وممن كان يستمع لمشورتهم أحمد بن أبي داود، وهذا كان أول من افتتح الكلام مع الخلفاء، وكانوا لا يبدؤهم أحد حتى يبدءوه، ولما أسند
52
المأمون وصيته عند الموت إلى أخيه المعتصم قال فيها: وأبو عبد الله أحمد بن أبي داود لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمر؛ فإنه موضع ذلك، ولا تتخذن من بعدي وزيرا. ومن جملة ما أوصى به المأمون أخاه المعتصم في مرضه: خذ بسيرة أخيك في القرآن والإسلام، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته، وكأن قد نزل بك الموت، ومن ذلك عرفنا أن سياسة المأمون ملكه كانت علما وعملا، وهكذا يريد أن يكون عماله، وعظه رجل فأصغى إليه منصتا فلما فرغ قال: قد سمعت موعظتك فاسأل الله أن ينفعنا بها وربما عملنا، غير أنا أحوج إلى المعاونة بالفعال منا إلى المعاونة بالمقال، فقد كثر القائلون وقل الفاعلون.
كان في المأمون شيء من الجاذبية الفطرية يستميل بها القلوب ويجمعها على حبه، ذلك أنه كان يعرف أمزجة أمته فيشغلها في المفيد، ولا لغو ولا لهو في حياته، فكان بإدارته مثال الجد في الخوالف من بني العباس، يفكر في أمر رعيته أكثر من تفكيره في أمور نفسه، كتب إلى عامله على دمشق في التقدم إلى عماله في حسن السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل محله، وأن يتقدم إلى عماله في ذلك أشد التقدمة، وأن يكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك، وكتب بهذا إلى جميع عماله في أجناد الشام، واستجلب المأمون لمساحة أرض الشام مساح العراق والأهواز والري، وكان يعدل الخراج إذا شكا منه أهله. كان العلاء بن أيوب لما ولي فارس من قبل المأمون يكتب عهد العمال فيقرؤه من يحضره من أهل ذلك العمل، ويقول: أنتم عيوني عليه فاستوفوه منه، ومن تظلم إلي منه فعلي إنصافه ونفقته جائيا وراجعا، ويأمر العمال أن يقرءوا عهده على أهل عمله في كل جمعة ويقول لهم: هل استوفيتم؟
أصاب أهل مكة سيل جارف مات تحته خلق كثير، فكتب والي الحرمين إلى المأمون يذكر له الحال، فوجه إليه المأمون بالأموال الكثيرة وكتب إلى الوالي: «أما بعد، فقد وصلت شكيتك لأهل حرم الله إلى أمير المؤمنين، فبكاهم بقلب رحمته، وأنجدهم بسيب نعمته، وهو متبع ما أسلف إليهم، بما يخلفه عليهم، عاجلا وآجلا، إن أذن الله في تثبيت عزمه على صحة نيته.» قالوا: فصار كتابه هذا آنس لأهل مكة من الأموال التي أنفذها. وكان له في كل بلد حوادث من الإحسان قلما يتسامى إليها أحد من الخلفاء، ذكر المؤرخون أن المأمون لما كان في دمشق أضاق إضاقة شديدة، ثم وافاه المال ثلاثون ألف ألف درهم، فقال ليحيى بن أكثم: أخرج بنا لننظر إلى هذا المال، فخرج وخرج الناس، وكان قد زين الحمل وزخرف، فنظر المأمون منه إلى شيء حسن كثير، فاستعظم الناس ذلك واستبشروا به، فقال المأمون: إن انصرافنا إلى منازلنا بهذا المال وانصراف الناس خائبين لؤم، فأمر كتابه أن يوقع لهذا بألف ألف ولذاك بمثلها ولآخر بأكثر منها حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب، ثم حول الباقي على عرض الجيش برسم مصالح الجند.
عقد المأمون لأخيه أبي إسحاق على ثغر المغرب، ولابنه العباس على الشام والجزيرة، ولعبد الله بن طاهر على الجند ومحاربة بابك، وفرق فيهم ما لم يفرق مثله أحد مذ كانت الدنيا: أمر لكل واحد منهم بخمسمائة ألف دينار، وما كان المأمون يضن بمال إذا كان فيه صلاح الدولة والرعية، وخمسمائة ألف دينار يأخذها العامل ينفقها في أتباعه ورجاله ومروءته، وكانت نفقة المأمون كل يوم ستة آلاف دينار يصرف أكثرها على الرعية ولا يناله منها إلا جزء طفيف. كتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون كتابا يستعطفه على الجند ونصه: «كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من أجناده وقواده في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، واختلت أحوالهم.» فقال المأمون: والله لأقضين حق هذا الكلام، وأمر بإعطائهم ثمانية أشهر، وكتب بعض ولاة الأجناد إلى المأمون: إن الجند شغبوا ونهبوا، فكتب إليه: لو عدلت لم يشغبوا، ولو وفيت لم ينهبوا، وعزله عنهم، وأدر عليهم أرزاقهم.
روى الجاحظ قال: حدثنا أحمد بن أبي داود قال: قال لي المأمون: لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين ملوكهم وحماتهم وكفاتهم وبين صنائعهم وبطانتهم، وذلك أنهم يرون ظاهر حرمهم وخدمهم واجتهادهم ونصحهم، ويرون إيقاع الملوك بهم ظاهرا حتى لا يزال الرجل يقول ما أوقع به إلا رغبة في ماله أو رغبة في بعض ما لا تجود النفس به، ولعل الحسد والملالة وشهوة الاستبدال اشتركت في ذلك، فلا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة في الملك، ولا أن يحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك المريب، ولا يستطيع ترك عقابه لما في ذلك من الفساد على عمله بأن عذره غير مبسوط للعامة ولا معروف عند أكثر الخاصة.
ويتعذر تعداد أفضال المأمون على الأفراد، وحرصه على اختيار رجاله وعنايته بآرائهم وتجاربهم، وغرامه بالعفو والإحسان. قال أحمد بن أبي خالد وزير المأمون لثمامة بن أشرس: كل واحد في هذه الدار، أي في دار الخليفة، له معنى غيرك، فإنه لا معنى لك في دار أمير المؤمنين، فقال له المأمون: إن له معنى في الدار، والحاجة إليه بينة، قال: وما الذي يصلح له؟ قال: أشاوره في مثلك هل تصلح لمن معك أو لا تصلح؟ وثمامة هو من الجماعة الذين كانوا يغشون دار الخلافة
53
وهي دار العامة، ومنهم محمد بن الجهم والقاسم بن سيار، وكان هؤلاء الرجال أشبه بالمستشارين بل أشبه بدعاة الدولة، وعنوان الخلافة، هذا إلى ما هناك من شعراء وأدباء وعلماء وفقهاء يختلفون في الأحايين إلى الخليفة فيشاركهم في حديثهم، وينافسهم في صناعتهم، ويفضل عليهم من هباته، فيخرجون وألسنتهم تنطق بحمده، وتدعو بدوام ملكه، ويذكرون للعامة والخاصة ما هو عليه من بعد النظر في سياسة الملك. قال الجاحظ: كان إبراهيم بن السندي مولى أمير المؤمنين عالما بالدولة شديد الحب لأبناء الدعوة، وكان يحوط مواليه ويحفظ أيامهم، ويدعو الناس إلى طاعتهم ويدرسهم مناقبهم، وكان فخم المعاني فخم الألفاظ، لو قلت لسانه كان أرد على هذا الملك من عشرة آلاف سيف شهير وسنان طرير لكان ذلك قولا ومذهبا.
أرانا قد خرجنا من وصف إدارة المأمون إلى وصف سيرته، ونحن إلى ذلك مسوقون على الرغم منا، وأنى لنا أن نصدر حكما صحيحا على حكومة مطلقة قبل أن نتعرف أخلاق رأسها خليفة كان أو ملكا أو أميرا، والرأس هو الكل في مثل هذه الدول، إذا صلح صلح الجسد كله.
الإدارة على عهد المعتصم وأخلافه
إذا ذكر المعتصم فأول ما يتبادر إلى ذهن قارئ التاريخ الإسلامي أنه الخليفة الذي أشرك الترك في الخلافة العباسية وأبعد العرب عنها، اجتمع له من الأتراك أربعة آلاف فألبسهم أنواع الديباج والمناطق الذهبية، وأبانهم بالزي على سائر جنده، واصطنع قوما من اليمن وقيس ومضر وسماهم المغاربة، وأعد رجال خراسان من الفراغنة والأشروسنية وغيرهم من الترك، فكانت جيوش المعتصم كثيرة مستعدة للقتال عند أقل إشارة، وكان السعد حليفه في غزواته للروم، قيل: إنه لما فتح
54
عمورية كانت عدة عساكره خمسمائة ألف فارس، وعلى مقدمته خمسمائة من الخيول البلق، وكانت الحاميات في الثغور أبدا على أتم نظام، وارتفاع الثغور الشامية
55
نحو المائة ألف دينار
56
تنفق في مصالحها من المراقب والحرس والفواثير والركاضة
57
والموكلين بالدروب والمخاوض والحصون وغير ذلك من الأمور والأحوال، وما يحتاج إلى شحنتها من الجنود والصعاليك،
58
وتنفق الدولة على مغازي الصوائف والشواتي في البر والبحر في السنة على التقريب مائتي ألف دينار، وعلى المبالغة ثلاثمائة ألف دينار. بيد أن المعتصم لم يكن بالنفقة على شيء أسمح منه بالنفقة على الحرب، وربما كان للمعتصم بعض العذر في ثقته بالأتراك في جيشه، وهم من القديم عرفوا بالحرب واشتهروا بالطاعة لقوادهم، ولكن هذه الغلطة الإدارية كان وبالها بعد على الدولة؛ لأن الأتراك تسللوا إلى الوزارات والقيادات، واستأثروا بالولايات والعمالات، فأصبح لهم بعد السلطان الحقيقي على البلاد، وللخلفاء صيغة غير عملية من الحكم .
أراد المعتصم أن يتشبه بأخيه المأمون فسار على أحكامه ونظامه، ومن أين له أن يشبهه بعلمه وحلمه، فقد ذكر واصفوه أنه كان قليل البضاعة من الأدب، وإذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل، وقالوا: إنه كان يحب العمارة ويقول: إن فيها أمورا محمودة من عمران الأرض التي يحيا بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش، ولطالما قال لوزيره محمد بن عبد الملك إذا وجدت موضعا متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهما فلا تؤامرني فيه، وأعطى أهل الشاش ألفي ألف درهم لكري نهر لهم اندفن في صدر الإسلام.
لم يبتدع المعتصم ولا ابنه الواثق شيئا جديدا في الإدارة لم يعرفه المأمون والرشيد، بل عاشا وعاشت الخلافة العباسية بعد ذلك بالأساس الذي وضعه المنصور للدولة، ولم يكن لها بعد منتصف القرن الثالث تلك الروعة التي كانت لها في عهد الخلفاء الأول، وقل بعد المأمون الخلفاء النادرون بذكائهم وتجاربهم، فأصيبت الخلافة بعد عظمائها بفتور، وأعمالهم بقلة الرواء والاتساق، ومن أهم الدواعي إلى هذا الانحطاط فساد الإدارة واختلال أحوال القضاء، وقد نشأ ذلك من شراهة نفوس العمال والوزراء وإضاعة الحقوق، ومن يصادر أو يموت عن عشرات أو مئات الألوف من الدنانير من هذه الطبقة كيف يصح لك أن تحكم عليه بالبراءة من مال السحت والرشا والسرقات، مساوئ ما فشت في أمة إلا ضاع حق سلطانها وحق رعيته.
كانت أهم عقوبة تقع على الظالم من العمال مصادرة الخليفة أو وزيره أو عامله الأكبر، وأصبح العمال في الدولة العباسية صورة عجيبة من استنزاف الأموال، وهم موقنون بأن مصيرهم بما جمعوه إلى المصادرة والقتل، وقل فيهم من كان يكتفي بما قرره له الخليفة أو العامل الأعظم من الجرايات والمشاهرات، وقد تكون على حد الكفاية وأكثر من الكفاية بالنسبة لتلك الأعصر، وما حدث فيها من وفرة الثروة وعوائد الترف والسرف، وللوزراء ومن يلونهم طرق إبليسية في السلب، والأرجح أن أهم موارد الوزراء والولاة كان من نهب جباية الدولة أو بيت مالها، ومن الهدايا التي يضطرون صغار عمالهم إلى تقديمها في كل فرصة، ومن رشا يتناولونها ممن يحاولون أن يستخدموا في أعمال الدولة، إلى غير ذلك من وجوه انتهاب الأموال وإعنات الناس، وكانت هذه الطبقة من الوزراء والكبراء تصوم وتصلي وتتعبد وتتصدق وتغار على الإسلام والدولة، ثم تجوز الاحتيال لأخذ الأموال؛ لأن الأبهة تقتضي التوسع في الإنفاق!
قال عامل مصر لأحد من زاره من وزراء العباسيين في الفسطاط فرأى جسرا يحتسب العمال عنه على السلطان ستين ألف دينار في كل سنة، وهو لا يكلف عشرة دنانير: إن جاريه ثلاثة آلاف في الشهر ولا يمكنه وهو عامل مصر أن يكون بغير كتاب ولا عمال ولا كراع ولا جمال ولا إعطاء ولا إفضال، وله حرم وأولاد وأقارب وأهل يحتاج لهم إلى مئونة، ولا يخلو أن يرد عليه زوار بكتب من الرؤساء فتقضي المروءة أن يبرهم ويصلهم، إلى غير ذلك مما يصانع به، ومنها هدايا سنوية إلى الخليفة وأنجاله والسيدة والقهرمانة وكتابهم وأسبابهم، وبهذا رأينا أن العامل كان مضطرا بحسب مصطلح ذلك الزمان إلى أن يسد العجز في موازنته الخاصة من طرق غير مشروعة، وقل العف الجيد الطعمة، وكلما تقدم الزمن وزادت الخلافة العباسية عتقا بليت الأخلاق في الناس وتبعها تقلقل الإدارة، لفسولة رأي القائمين بالدولة وتشعب أغراضهم.
ولقد كان الخلفاء على الأكثر يتخيرون للولايات والوزارات أكتب الناس وأعلمهم، وللقضاء أقضاهم وأفتاهم، وحظوة الرجل عند قومه قد تكون من بواعث إسناد كبار الأعمال إليه خصوصا الوزارات والولايات والقيادات، وأتى زمن بعد المعتصم والوزير أعجم طمطم لا يفهم ولا يفهم، وأصبح أنصار الدولة والغير عليها يتأففون ممن لا يحسنون العربية، وإن كان منطويا على صفات أخرى صالحة في تدبير الملك؛ وذلك لكثرة من دخل في الأعمال من غير العرب، وكان معظم العمال يحاولون أن يجروا الرعية على المعاملات القديمة، ويحملوهم على الرسوم السليمة، ولكن تطلب أنفس الولاة والعمال إلى العبث بحقوق الناس، ليجنوا من ذلك ما تتلمظ له شفاههم من المغانم، كان الباعث على استشراء الفساد في معظم طبقات المجتمع.
ثم أصبح بعض العظماء
59
ينفرون من الوزارة؛ لأن خاتمة حياتهم التقتيل، ولأن مصير أموالهم وأموال ذويهم كان في الغالب إلى المصادرة والاغتصاب، ولقد عمت المصادرة سائر رجال الحكومة حتى الرعية، وأصبحت بتوالي الأيام المصدر الرئيسي لتحصيل المال؛ فالعامل يصادر الرعية، والوزير يصادر العمال والخليفة يصادر الوزراء، ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم، حتى أنشأوا للمصادرة ديوانا خاصا مثل سائر دواوين الحكومة؛ فكان المال يتداول بالمصادرة كما يتداول بالمتاجرة.
غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وأخذ منه عشرة آلاف ألف دينار ثم نفاه، ثروة ضخمة لو فكر الفضل أن يخلع طاعة الخليفة وينشئ بها ملكا له لما أعجزه ذلك، وغضب الواثق على كتاب الدواوين وسجنهم وأخذ منهم ألفي ألف دينار، وفيهم بعض الوزراء ومن كانوا في منزلتهم، وقل أن كان الوزير ينجو من نكبة إذا طالت أيامه، وأيقن الخليفة أنه اغتنى وعبث بأموال الدولة، أو حفزت الحاجة أحد الخلفاء إلى المال فتفقده في خزائنه فلم يجده، ولم يعهد لوزير أن وزر وزارة واحدة بلا صرف لثلاثة خلفاء متسقين إلا محمد بن عبد الملك الزيات، وانتهى أمره بحرقه في التنور ومصادرة أمواله، وكان من العلم والأدب في الذروة العليا، وكان سلفه في وزارة المعتصم أحمد بن عامر الذي وصفه ووصف نفسه بقوله: «خليفة أمي ووزير عامي.»
60
قال الوزير ابن الفرات: تأملت ما صار إلى السلطان من مالي فوجدته عشرة آلاف ألف دينار، وحسبت ما أخذته من الحسين بن عبد الله الجوهري فكان مثل ذلك، فكأنه لم يخسر شيئا؛ لأنهم كانوا يقبضون بالمصادرة ويدفعون بالمصادرة، وإذا صودر أحدهم على مال لم يكن في وسعه أداؤه كله معجلا أجلوه بالباقي وساعدوه على تحصيله وجمعه. وتعددت أسباب المصادرة وجهاتها حتى أصبح كل صاحب مال أو منصب عرضة لها، وكانت وزارة ابن الفرات ثلاث سنين وثمانية أشهر واثني عشر يوما
61 - وولي الوزارة ثلاث مرات - وطولب بأمواله وذخائره فاجتمع منها مع ودائع كانت له سبعة آلاف ألف دينار، فيما حكي عن الصولي، وكان مشاهدا ومشرفا على أخبارهم، قال: وما سمعنا بوزير جلس في الوزارة وهو يملك من العين والورق والضياع والأثاث ما يحيط بعشرة آلاف ألف غير ابن الفرات.
كان الواثق في حلمه وحسن خلقه يشبه عمه المأمون؛ يحب العدل ويعطف على أهل بيته ويتفقد رعيته، حشم
62
الأمراء عن الظلم، وكان يجلس لحساب الدواوين بنفسه، وترك جباية أعشار سفن البحر، وكان مالا عظيما، وقيل: إنه سد باب اللهو والغناء أما هو فكان يسمع المغنيات ولا يتبذل ولا يسرف، واشتد على الناس كأبيه وعمه في مسألة خلق القرآن حتى قيل: إنه أمر في سنة 231، وهي سنة الفداء بين المسلمين والروم، أن يمتحن
63
أسارى المسلمين، فمن قال: القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة فودي به وأعطي دينارا، ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم.
كان لولي العهد في الممالك الثلاث التي قسمها الواثق بين أولاده، أو المملكة العباسية بأجمعها، الصلاة والمعاون، أي الشحنة والشرطة، والقضاء والمظالم والخراج والضياع والغنيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالها، وما في عمل كل واحد منها من البريد والطراز وخزن بيوت الأموال ودور الضرب، يستخلفون على القطر الكبير حربا وخراجا، ويفوضون الأمور كلها للعامل يأذن إليه في الحل والعقد بغير استئماز ويخلعون عليه سوادا، أي إن القطر الواحد بل المصر الواحد يحكم برأي عامله وجماعة ممن يختارهم لمشورته ومعاونته، فينظر في الأمور بحسب فهمه وما يوحيه إليه المحيط والعادة والعرف، ويطبق الأحكام الشرعية على الكبير والصغير والملي والذمي، وينصب العامل الأكبر في الولاية العمال من ذوي الرأي والتدبير والخبرة والعلم بالسياسة، ويشاور الفقهاء وأرباب التجارب، وينفق من المال ما تصلح به الولاية، وما يوسع به على القراء والفقراء وذوي الحاجات، وما تقتضيه من عطاء الجند وتقوية الثغور وشحن المصالح، ثم يبعث بالباقي من الأموال إلى الخليفة، وللخليفة الخطبة والسكة، فإذا كان العامل يحسن عمله، ويعرف مدى التبعة الملقاة عليه، يستسيغ الخراج إن كان ذا قوة، أو آنس من جانب الحضرة ضعفا، ولا يرجع في العادة إلى استشارة العاصمة إلا في عويص المسائل التي يمكن تأجيلها، وتكون من حقوق الخليفة داخلة في أمهات المسائل الكبرى في الدولة، وقد يجتهد ويرتكب غلطا فتصرفه العاصمة إن أحسته أو توجعه في العقوبة، كما فعل المنصور لما بلغه ضرب عامله على المدينة عالمها مالك بن أنس فشق ذلك على الخليفة وأهان عامله وصرفه، ولكن كانت كتف مالك قد زالت عن مكانها بالضرب المبرح، فالعامل في الحقيقة هو الملك الفعلي، ولا يسع العاصمة إلا أن تقره على ما يقرر ويدبر في أكثر الحالات، وقد ظهرت مضار هذه الطريقة عندما كانت العاصمة تعجز عن ضبط كل شيء من أمور الولايات لضعف الخلافة ووناء القائم على سدتها، وإذا كان هناك قضاة وولاة وناظرون ومفتشون وكتاب وحساب فإن التنفيذ يختلف قوة وضعفا بحسب كفاية العامل وسلطان الخليفة والوزير.
خلع المتوكل على عبيد الله بن يحيى وأمر أن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين على الخليفة شيئا، وأن يدفعوا أعمالهم إلى وزيره ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم، لما كان في نفسه من الأتراك واستبدادهم بالأمر، فكان عهده عهد جذب ودفع بين أصحاب الخلافة ومن رفعهم المعتصم على رقاب الناس من الترك، وعلق المتوكل يداوي الأمراض البادية في جسم الدولة بإنفاق المال الذي جمعه المأمون والمعتصم والواثق على نحو ما فعل الأمين؛ وهذا فرق ما جمعه السفاح والمنصور والمهدي والرشيد من الأموال، فقال الناس: إن أيام المتوكل كانت في حسنها ونضارتها ورفاهية العيش فيها ورخص أسعارها وحمد الخاص والعام لها ورضاهم عنها أيام سراء لا ضراء. نعم كان هذا الخليفة منفاقا لا يحسن تدبير خرجه، وله مع هذا عناية خاصة بديوان زمام النفقات، أنفق ما أنفق مما ادخره أجداده في بيوت أمواله، فكان هذا منه تدبيرا مؤقتا غير ناجح، وما استطاع أن يداوي ما تجلى من تسلط الأتراك على الدولة في عامة أقطارها وأعمالها.
شدد على أهل الذمة لما أيقن أنهم كانوا يتطلعون إلى دولة الروم ويعملون ما يخالف مصلحة الدولة، وأمر بإجلاء النصارى عن حمص؛ لأنهم كانوا يعينون الثوار من اليمانيين، والثورة لا تكاد تنطفئ كل حين من حمص حتى سميت الكوفة الصغرى؛ لكثرة قيام أهلها على العمال، كما خصت تونس بالتشغب والقيام على الأمراء والخلاف للولاة.
وجاء المنتصر يقاوم العلويين كأبيه المتوكل ويكتب إلى عامل مصر (247) أن لا يقبل علوي ضيعة، ولا يركب فرسا، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإن كانت بين العلوي وبين أحد خصومة قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة؛ ذلك لأن العلويين ما ناموا ساعة عن المطالبة بالملك، فمثل هذا الأمر يضيق عليهم دائرة حركتهم، وإن كان في بعض ما يرمي إليه غير عادل.
إدارة المعتز والمهتدي والمعتمد
تولى المعتز الخلافة فأمر بإحضار جماعة ممن صفت أذهانهم، ورقت طباعهم، ولطف ظنهم، وصحت نحائزهم، وجادت غرائزهم، وكملت عقولهم بالمشورة، وحاول أن يتخلص من الأتراك وكانوا تأصلوا في جسم الدولة وروحها، وكانوا كثروا، وأي كثرة، في العاصمة والولايات، وقدرت أرزاقهم وأرزاق المغاربة والشاكرية في سنة 252 فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار، وذلك خراج المملكة لسنتين، فإذا تأخر عطاؤهم فهناك المؤامرات والمشاغبات وخوف البدوات والنزوات والوثوب بالدولة.
وأسندت إمارة مصر لأحمد بن طولون (254) من الأتراك، واستبد بجميع أعمال مصر لما وسد إليه أمر الأموال، وكان الأمير في مصر من قبل ليس له إلا الجند والشرطة وللعامل النظر في الأموال، وكلاهما يراقب صاحبه، وهما متساويان في المكانة وربما تقدم العامل على الأمير. والأقباط منذ كان الإسلام يتولون النظر في الأموال؛ فتنظر إليهم الأمة نظرها إلى الصل والثعبان، ويراهم صاحب الأمر مختلسين، وكانت جمهرة جيش ابن طولون من المماليك والديالمة يشتريهم كما يشتري الرقيق، وبلغت عدتهم أربعة وعشرين ألف مملوك وأربعين ألفا من العبيد الزنج ومن العرب وغيرهم. أما ابنه خمارويه فقيل: إن عدة جيشه بلغت أربعمائة ألف فارس، وحسنت حال مصر على عهد ابن طولون ودر خراجها واستفاض عمرانها على كثرة ما سفك من الدماء، ولما انقرض الطولونيون خلفتهم الدولة الإخشيدية
64
فسارت على خطتها في إدارة مصر ولكن ليس المقلد كالمقلد.
تولى المهتدي (والدنيا كلها مفتونة) فحاول، إعادة الخلافة إلى رونقها، وأمر بإخراج الفتيان والمغنين والمغنيات من سامرا ونفاهم إلى بغداد، وأمر بقتل السباع وطرد الكلاب وإبطال الملاهي ورد المظالم، وجلس ليرفعها فرفعت إليه قصص في الكسور، فسأل عنها فقال وزيره سليمان بن وهب شيئا في تاريخ الخراج منذ عهد عمر إلى عهد المنصور فأجاب المهتدي: معاذ الله أن ألزم الناس ظلما تقدم العمل به ولو تأخر، أسقطوه عن الناس، فقال أحدهم: إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من أموال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم، فقال المهتدي: علي أن أقرر حقا وأزيل ظلما، وإن أجحف ببيت المال.
وكان المهتدي آخر الخلفاء الذين كانوا يتولون بأنفسهم القضاء والمظالم، وربما كانوا يجعلون القضاء والمظالم لقضاتهم كما فعل عمر مع قاضيه أبي إدريس الخولاني وكما فعل المأمون مع يحيى بن أكثم والمعتصم مع أحمد بن أبي داود، وربما كانت تجعل قيادة الجيوش للقضاة، وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم، وكان تولية هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب.
ولما هم الجند بقتل المهتدي خطبهم فقال: أما دين؟ أما حياء ؟ كم يكون هذا الخلاف على الخلفاء، والإقدام والجرأة على الله، سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم، ومن كان إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بأرطال الشراب فشربها سرورا بمكروهكم، وحبا ببواركم، ثم ذكر لهم أنه لم يصل إليه من دنياهم شيء وأنه ليس في منازل إخوته وولده فرش أو وصائف أو خدم أو جوار ولا لهم ضياع ولا غلات، وكان حقيقة مقلا من اللباس والفرش والمطعم، وأمر بخراج آنية الذهب والفضة من الخزائن فكسرت وضربت دنانير ودراهم، وعمد إلى الصور التي كانت في المجالس فمحيت.
65
وجيء بالمعتمد فقسم المملكة بين ابنه وأخيه الموفق، فغلب أخوه عليه وشغل هو بلذاته، وكثر دخول الزعانف في القبض على الأعمال والفتن منتشرة؛ ومن أهمها فتنة صاحب الزنج، والموفق يقود العساكر، ويرابط ويرتب الوزراء والأمراء، وقيل: إن المعتمد احتاج إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها فقال:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قل ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا
وما من ذاك شيء في يديه
وطالت أيام المعتمد ولم يؤثر عنها إبداع جديد في الإدارة والسياسة، وكان ديوان الموفق مائة ألف مرتزق، وكان المعتضد حسن الإدارة، عمرت
66
مملكته، وكثرت الأموال وضبطت الثغور، كان قوي السياسة شديدا على أهل الفساد، وكان ولي والدنيا خراب والثغور مهملة، فقام قياما مرضيا فسكنت الفتن، وصلحت البلدان وارتفعت الحروب، ورخصت الأسعار، وهدأ الهيج، وسالمه كل مخالف، ودانت له الأمور، وانفتح له الشرق والغرب، وأديل له من أكثر المخالفين، وكان سريع
67
النهضة عند الحادثة، قليل الفتور، يتفرد بالأمور، ويمضي تدبيره بغير توقف، ولي الأمر بضبط وحركة وتجربة، وكف من كان يتوثب ويتشغب من الموالي.
وأمر المعتضد بافتتاح الخراج في النيروز المعتضدي وهو في حزيران من شهور الروم، وذلك للرفق بالناس، وكتب إلى الأقطار برد الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث، وكان من قبل يلحق كثيرا من الناس إعنات في مواريثهم، ويتناول على سبيل الظلم من أموالهم، ويتقلد جبايتها أناس يجرون مجرى عمال الخراج، شيء لم يكن في خلافة من الخلافات إلى أن مضى صدر من خلافة المعتمد، فجرى العمل بذلك على سبيل تأول، فأزال المعتضد ذلك وأمر أن يرد على ذوي الأرحام ما أوجب الله ورسوله وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، وأن ترد تركة من مات من أهل الذمة ولم يخلف وارثا على أهل ملته، وأن يصرف جميع عمال المواريث في النواحي ويبطل أمرهم، ويرد النظر في أعمال المواريث إلى الحكام، وكانوا يرتادون القضاة من أهل البلاد نفسها.
وللمعتضد مذهب جميل في سياسة عماله؛ بلغه أن عامله على فارس أظهر أبهة في ولايته، وأنفق ما وقعت له به هيبة في نفوس الرعية، فسأل عن رزقه فقيل له: ألفان وخمسمائة دينار في الشهر، فقال: اجعلوها ثلاثة آلاف ليستعين بها على مروءته.
68
وكتب إليه في عامل عجز في ضمانه وهو مسجون بأنه كان في أيام ولايته يفرق عشرين كرا حنطة في كل شهر على حاشيته والفقراء والمساكين من أهل معرفته، وأنه فرق ذلك في هذا الشهر على عادته، فقال: سرني قيامه بمروءته ومعروفه، وعفاه من أداء مبلغ كان يطالب به، ورده إلى عمله وأحمد ما كان منه.
سارت الخلافة في طريق سوي على عهد المعتضد لسطوته ومهابته وعفته وإمساكه، فكان مع حرصه على إبقاء سلطانه يخافه عماله ويكفون عن المظالم، واستعمل بعضهم الشدة في حفظ الأمن، بلغ عامله بدمشق
69
أن رجلا أعرابيا في أذرعات نتف خصلتين من شعر أحد فرسان الدولة، فطلب الوالي معلما يعلم الصبيان وقال له: تخرج إلى اليرموك وأعطيك طيورا تكون معك فإذا دخلت القرية فقل لهم: إني معلم جئت أطلب المعاش وأعلم صبيانكم، فإذا تمكنت من القرية فارصد لي الأعرابي الذي نتف سبال الفارس وخذ خبره واسمه، فإذا رأيته قد وافى أرسل الطيور بخبره، ثم قبض على الأعرابي وقطع رأسه وصلبه وضرب الجندي مائة عصا وأسقط اسمه من الديوان؛ لأنه استخذى للأعرابي حتى فعل بسباله ما فعل.
كان من جميل سيرة المعتضد مع عماله وخوفه البطش بهم إذا جنوا ما يعاقبون عليه، أنه إذا نكب رجلا من جلة العمال ورؤسائهم وكل به من يحفظه من قبله وشدد الوصية في صيانته، ويظهر أن هذا التوكيل للمطالبة وزيادتها والتشدد فيها لا ليحفظ نفسه، لئلا يطمع العامل، وكان يقول: هؤلاء أكابر من العمال الذين قامت هيبتهم في نفوس الرعية وعرفوا أقطار البلاد، وهم أركان الدولة وأعضاء الوزارة والمرشحون لها، فإن لم تحفظ نفوسهم فسد الأمر. وهذه هي الغاية في الوقوف على نفسية العمال وحفظهم في أنفسهم، ومع هذه المسامحة واللين لم يرتفع السواد سواد العراق لأحد بعد عمر بن الخطاب بمثل ما ارتفع له أيام المعتضد،
70
وجمع تسعة آلاف ألف دينار فاضلة عن جميع النفقات وأراد أن يسبكها نقرة واحدة إذا أتمها عشرة آلاف ألف ويطرحها على باب العامة ليبلغ أصحاب الأطراف أن له عشرة آلاف ألف دينار وهو مستغن عنها «بعد النفقات الراتبة والحادثة، وإطلاق الجاري للأولياء في سائر النواحي وجميع المرتزقة بها وبالحضرة.»
الإدارة على عهد المكتفي والمقتدر وكلام في الوزراء
اكتفى المكتفي بنهج منهج والده المعتضد في الإدارة، وكان وزيره العباس بن الحسن يقول لنوابه بالأعمال: أنا أوقع لكم وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة، وقد كان يأخذ الوزير سبعة آلاف دينار في الشهر راتبا، ومن الكبراء من فادوا بخمسمائة ألف دينار ليصلوا إلى الوزارة، ومنهم من أعطوا المنجمين مائة ألف دينار ليحتالوا على الخليفة ويغيروا خاطره على أحد وزرائه ثم يتوصلون إلى منصب الوزارة، دليل ناصع أن الخلفاء انحطوا والوزراء كذلك.
بيد أن قواعد الدولة لم تتزلزل دفعة واحدة؛ لأن المعتضد ثبت قواعدها، ومن يجيء بعده مهما ارتكب من الأغلاط لا يقضي على عامة التراتيب الموضوعة للخلافة منذ سنين، وقد خلف المكتفي في بيوت الأموال من العين ثمانية آلاف ألف دينار، ومن الورق خمسة وعشرين ألف ألف دينار، وفي رواية أنه خلف مائة ألف ألف دينار عينا وعقارا وأواني بمثلها.
واستخلف المقتدر طفلا، ووالدته وخالته وأم ولد المعتضد تدير الملك، حتى إن هذه السيدة جلست بالرصافة للمظالم تنظر في الكتب يوما في كل جمعة، فأنكر الناس ذلك واستبشعوه وكثر عيبهم عليه والطعن فيه، ولم يكن في جلوسها أول يوم طائل، وفي اليوم الثاني أحضرت القاضي فحسن أمرها وخرجت التوقيعات عن سداد، فانتفع بذلك المظلومون وسكن الناس إلى ما كانوا نافرين من قعودها ونظرها، فالمقتدر في سنيه الأولى خصوصا كان يتدبر بآراء النساء والحاشية، والسيدة وقهرماناتها ومن يجري مجراهن من نساء القصر، يتحكمن في كل أمر ويتدخلن في العزل والنصب، وأمروا صاحب الشرطة ببغداد أن يجلس في كل ربع من الأرباع فقيها يسمع من الناس ظلاماتهم، ويعتني بمسائلهم حتى لا يجري على أحد ظلم، وأمروه ألا يكلف الناس ثمن الكاغد الذي تكتب فيه القصص وأن يقوم به، وألا يأخذ الذين يشخصون مع الناس أكثر من دانقين في أجعالهم.
ورد المقتدر رسوم الخلافة
71
إلى ما كانت عليه من التوسع في الطعام والشراب وإجراء الوظائف، وكان في داره أحد عشر ألف خادم خصي من الروم والسودان، وزاد في أرزاق بني هاشم وأعاد الرسوم في تفريق الأضاحي على الفقراء والعمال وأصحاب الدواوين والقضاة والجلساء، وأسرف في الأموال فمحق من الذهب ثمانين ألف ألف دينار
72
وفرق في خمس وعشرين سنة ما جمعه المنتصر والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي.
قيل: إنه كان بين ابن زبر القاضي وبين علي بن عيسى الوزير عداوة، وعجز ابن زبر عن رضاه فألقى رقعة في ورق المظالم، وفيها أن رجلا من خراسان رأى في ثلاث ليال متوالية العباس بن عبد المطلب في وسط دار السلام يبني دارا، فكلما فرغ من موضع تقدم رجل لهدمه، فقال له: يا عم رسول الله من هذا الذي بليت به؟ فقال: هذا علي بن عيسى كلما بنيت لولدي بناء هدمه، فقرئت الرقعة على المقتدر فقال: إن هذه الرؤيا صحيحة يصرف علي بن عيسى ويقبض عليه، فما جاء آخر النهار حتى وافى ابن زبر ومعه عهده بقضاء مصر ودمشق، فإن صحت هذه القصة كان تصديق المقتدر حيلة القاضي من أغرب ما أثر من ضعف العقول.
وعلي بن عيسى هذا أكبر وزراء ذاك العهد ومن الأسر العريقة في خدمة الدولة منذ أيام المعتضد
73
كان من الثقة والصيانة والصناعة على جانب، عامل المصادرين من الوزراء والعمال بالرفق، وكتب إلى كل واحد من العمال بما جرت العادة به من تشريف أمير المؤمنين إياه بالخلع، ورد أمر الدواوين والمملكة إليه، وأقرهم على مواضعهم، وأمرهم بالجد والاجتهاد في العمارة، وكتب إليهم بإنصاف الرعية والعدل عليها، ورفع صغير المؤن وكبيرها عنها، كما كان يطالب بتوفير حقوق السلطان وتصحيحها وصيانة الأموال وحياطتها، ونظر إلى من تعود اقتطاع الأموال السلطانية وإقامة مروات نفسه فيها، وقصر في العمارة واعتمد غيره، وعمر الثغور والبيمارستانات وأدر الأرزاق لمن ينظر فيها، وأزاح علل المرضى والقوام، وعمر المساجد الجامعة وكتب إلى جميع البلدان بذلك، ووقع إلى العمال وكتب إليهم في أمر المظالم وأمر بأن يستوفى الخراج بغير محاباة للأقوياء، ولا حيف على الضعفاء، وساس الناس أحسن سياسة، ورسم للعموم الرسوم الجميلة، وأنصف الرعية وأزال السنن الجائزة، ودبر أمر الوزارة والدواوين وسائر أمور المملكة بكفاية تامة وعفاف وتصون حتى أسقط الزيادات في إقطاعات الجند والعمال وغيرهم، لما رأى نفقات السلطان زائدة على دخله زيادة مفرطة تحوج إلى هدم بيوت الأموال وصرفها في نفقات يستغنى عنها.
وكان يجري على خمسة وأربعين ألف إنسان جرايات تكفيهم، وخدم السلطان سبعين سنة لم يزل فيها نعمة عن أحد. قال الصولي: ولا أعلم أنه وزر لبني العباس وزير يشبهه في زهده وعفته؛ بلغه أن أسارى المسلمين في الروم ساء حالهم وأن الروم يحاولون تنصيرهم فغمه ذلك، ولما كان يعرف أن الخليفة لا يريد قتال الروم عمد إلى طرق سلمية فندب بطريق أنطاكية وجاثليق القدس أن يكتبا إلى الروم كتابا يقبحان هذه المعاملة ويتوعدان، فاضطرت دولة الروم أن تحسن معاملة المسلمين، وما عابوا على علي بن عيسى الوزير إلا أنه كان ينظر كثيرا في جزئيات الأمور فربما شغلته
74
عن الكليات.
منع علي بن عيسى من إكراه التناء والزارعين «على
75
تضمين غلات بيادرهم بالحزر والتقدير، وإلزامهم حق الأعشار في ضياعهم على التربيع، واستخراج الخراج منهم على أوفر عبرة، قبل إدراك غلاتهم وثمارهم، وإكراه وجوههم على ابتياع الغلات السلطانية بأسعار مسرفة مجحفة»، ولما غلب السجزية على فارس جلا قوم من أرباب الخراج عنها لسوء المعاملة ففض خراجهم على الباقين وكمل بذلك قانون فارس القديم، ولم تزل هذه التكملة تستوفى على زيادة تارة ونقصان، وجاءه قوم من أجلاء فارس وقالوا: نمنع غلاتنا وتعتاق في الكناديج
76
حتى تهلك وتصير هكذا «وطرحوا من أكمامهم حنطة محرقة» ونطالب بتكملة ما وجب عليها فتدعونا الضرورة إلى بيع نفوسنا وشعور نسائنا وأدائها حتى تطلق الغلة وهي على هذه الصورة، «ثم رموا من أكمامهم تينا يابسا وخوخا مقدودا ولوزا وفستقا وبندقا وغبيراء وعنابا» وقالوا: وهذا كله خراج لقوم آخرين والبلد فتح عنوة، فإما تساوينا في العدل أو الجور، فأنهى علي بن عيسى ذلك إلى المقتدر بالله، وجمع القضاة والفقهاء ومشايخ الكتاب والعمال وجلة القواد في دار الوزارة وقد جعلها ديوانا، وتناظر الفريقان من أرباب الشجر وأرباب التكملة، فقال أرباب الشجر: هذه أملاك قد أنفقنا عليها أموالنا حتى أنبتت الغروس فيها، وحصل لنا بعض الاستغلال منها، ومتى ألزمت الخراج بطلت قيمتها، وقد كان المهدي أزال المطالبة ورسم الخراج عنها، وقال المطالبون بالتكملة ما شكوا به حالهم فيها واستمرار الظلم عليهم بها، ورجع إلى الفقهاء في ذلك فأفتوا بوجوب الخراج وبطلان التكملة.
هذا تمثيل للإدارة على ذاك العهد وصورة من أعمال الوزراء، وبأمثال علي بن عيسى وابن الفرات كانت القوة تدخل على ملك بني العباس إذا عراه الضعف ويجبرون نقص الخلفاء، وبمثل الوزير الخاقاني والوزير الخصيبي ترجع القهقرى.
فإن كان علي بن عيسى بعيد النظر في أمور الدولة جد عارف بما يصلحها، عفا عن أموال الرعية، ساهرا على مصلحتهم الحقيقية، فإن ابن الفرات كان نافذا في عمل الخراج وتدبير البلاد وجباية المال وافتتاح الأطراف، وكلاهما من بلغاء الكتاب ومن العارفين بأدب الملك.
وكان للدولة رسوم في تخريج رجال الإدارة، ومما ذكروه أن بادوريا كان يتقلدها جلة العمال، قال ابن الفرات: سمعت أبا العباس أخي يقول: من استقل ببادوريا استقل بديوان الخراج، ومن استقل بديوان الخراج استقل بالوزارة؛ وذلك لأن معاملتها مختلفة وقصبتها الحضرة، والمعاملة فيها مع الوزراء والأمراء والقواد والكتاب والأشراف ووجوه الناس، فإذا ضبط اختلاف المعاملات واستوفى على هذه صلح للأمور الكبار.
شكي إلى ابن الفرات عامل قطربل وإغفاله عمل البزندات
77
فوقع إليه: ينبغي أن تراعي العمل قبل الوقت للوقت وفي الوقت للوقت، وكان يقول: العامل في أول سنة أعمى، وفي الثانية أعور، وفي الثالثة بصير، وقال لمن سأله تضمينه الصدقات بفارس: «إنما يرغب في عقد الضمان على تاجر ملي، أو عامل وفي، أو تان غني،
78
فأما أصحاب الحروب فعقد الضمان عليهم، ومطالبتهم بالخروج من أموالها، تستدعي منهم العصيان وخلع طاعة السلطان.»
وقرأ كتابا ورد من صاحب البريد بالموصل أن أبا أحمد الحسن قد قسط في الأعمال، ومد يده إلى المال، وزاد في إظهار المروءة، وركب باللبود الطاهرية، وبين يديه عدة حجاب وخلفه جماعة غلمان، حتى إنه يسير بينهم في موكب، وأنه وصل معه من البغال والجمال والزواريق التي تحمل أثقاله شيء كثير، وهذا إنفاق وتوسع لا يقتضيه الرزق وإنما هو من الأصول، فرمى ابن الفرات بالكتاب وقال لكاتبه: وقع عليه يجاب بأنه نفع الرجل من حيث أراد الإضرار به؛ لأنه إذا كان في مثل هذا الصقع عامل ذو وجاهة وتجمل ومروءة، صلح أن يتقلد للسلطان مصر وأجناد الشام متى أنكر من عمالها حالا.
وكان ابن الفرات يكره السعايات ويقطع الطريق على من يتجرون بالوشايات ويتقربون بها إلى صاحب السلطان، فمن ذلك أنه كان إذا أتاه إنسان بشيء من هذا أهانه، وقد ينادي الآذن علنا إذا أراد الاستئذان على الوزير: أين فلان الذي قدم كذا في السعاية، ولما جرت فتنة ابن المعتز واستظهر المقتدر
79
واستوزر ابن الفرات أحضرت إليه رقاع جماعة أرباب الدولة، تنطق بميلهم إلى ابن المعتز وانحرافهم عن المقتدر، أشار عليه بعض الحاضرين بأن يفتحها ويطالعها فيعرف بها الصدوق الصديق، فماذا كان من ابن الفرات؟ والوزراء في الغالب يتطلعون إلى عيوب الناس ويتخذون من مثل هذه الوثائق شكائم لبعض من يريدون استتباعهم أو وسائط للنجاة ممن يخالفونهم، كان منه أن أمر بإحضار الكانون وفيه نار فلما أحضر جعل تلك الرقاع فيه بمحضر من الناس ولم يقف على شيء منها، وقال للحاضرين: هذه رقاع أرباب الدولة، فلو وقفنا عليها تغيرت نياتنا لهم ونياتهم لنا، فإن عاقبناهم أهلكنا رجال الدولة، وكان في ذلك أتم الوهن على المملكة، وإن تركنا كنا قد تركناهم ونياتهم متغيرة وكذلك نياتنا فما ننتفع بهم. وهذا من حكمة الإدارة في سياسة الممالك والإحاطة التامة بمعرفة الطبائع البشرية.
ولما تقلد الوزارة في أول أمره أجرى كلا من حجابه وكتابه وأصحابه على رسمهم، وأقرهم على ما كانوا يتولونه من أمره لم يستبدل بهم، ولا استزاد فيهم، لاكتفائه بمن كان معه من غيرهم، وكانت أخلاقه وهو وزير، مثله وهو صاحب ديوان، وفي وزارته الثالثة صرف أصحاب الدواوين والعمال والمنفقين وأصحاب البرد والخرائط وأكثر القضاة وبعض أصحاب المعاون، وقلد هذه الأعمال صحابه وذوي عناياته فصار الأول أعداء له وسعاة عليه، وقال الناس: إنه قلد للعناية لا للكفاية، حتى قال الخليفة: أما كان في هؤلاء المتصرفين من يصلح للإقرار
80
على عمله؟ وهذه الطريقة مألوفة في الإدارات المستبدة يأتي الوزير فيقلد أصحابه وحملة عرشه الولايات والأعمال، حتى إذا نكب ينكبون بنكبته، فهم يتصرفون بتصرفه ويتعطلون بعطلته.
عزم ابن الفرات يوما على الصبوح وكان يوم الأحد ومن رسمه أن يجلس للمظالم فيه، ثم انتبه أنه لا يجوز أن يتشاغل بالسرور، ويصرف عن بابه قوما كثيرين قد قصدوه من نواح بعيدة وأقطار شاسعة مستصرخين متظلمين، فهذا من أمير، وهذا من عامل، وهذا من قاض، ويمضون مغمومين داعين عليه، فأجلس صاحب ديوان المظالم وشخصا آخر من خاصته، يستدعيان القصص ويوقعان منها ما يجوز توقيعهما فيه، ويفردان ما لا بد من وقوفه عليه ويحضرانه ليوقع فيه، وينصرف أرباب الظلامات مسرورين.
وعرض عليه في وزارته الثالثة وقد جلس للمظالم رجل عمري رقعة تتضمن شكوى حاله ورقتها، وأن عليه دينا قد ضاق ذرعه به، وعلى ظهرها توقيع أحد الوزراء بأن يقضى دينه من مال الصدقات فقال: يا هذا، إن مال الصدقات لأقوام بأعيانهم لا يتجاوزهم، ولقد رأيت المهتدي بالله، رحمة الله عليه، وقد جلس للمظالم وأمر في مال الصدقات بما جرى هذا المجرى فقال له أهلها: ليس لك يا أمير المؤمنين ذلك، فإن حملتنا على أمرك وإلا حاكمناك إلى قضاتك وفقهائك، فحاكمهم فخاصموه وإن شئت أنت حاكمتك، فقال له العمري: لا حاجة بي إلى المخاصمة، قال: الآن نعم أواسيك وأقضي دينك وفعل، وكان مبلغه خمسمائة دينار .
وكان من رسمه أن يغدو إليه الكتاب فيوافقهم على الأعمال ويسلم إلى كل منهم ما يتعلق بديوانه، ويوصيه بما يريد وصاته فيه ثم يروحون إليه بما يعلمونه من أعمالهم فيوافقهم عليها وعلى ما أخرجوه من الخروج وأمضوه من الأمور، ويقيمون إلى بعض الليل، وإذا خف العمل وقد عرضت عليه في أثنائه الكتب بالنفقات والتسبيبات والإطلاقات والحسبانات، نهض من مجلسه وانصرفت الجماعة بعد قيامه، وكان يقول: أصل العمارة وزيادة الارتفاع حفظ البذور ولن يتم ذلك إلا بالعدل، ويقول: الضمان يهب بالارتفاع كما يذهب الساكن بالعقار، ويقول أيضا: سبيل العامل أن يؤدب على الزيادة في المساحة كما يؤدب على الاقتطاع منها. ووقع إلى بعض العمال، وقد رفع إليه صاحب الخبر أنه صفع واحدا من التناء لتقاعده عن أداء الخراج: «في الحبس للتناء مأدبة، فلا تعامل بعدها أحدا بهذه المعاملة، فأمكنه من الاقتصاص منك.» وكان يستظهر في نفقات المصالح ويستكثر من إعداد الآلات على الأماكن التي تخاف الحوادث منها.
81
الآن وقد رسمنا صورة وزيرين عبقريين بإدارتهما وسياستهما أصبح من الواجب أن نمر مرا بسيرة وزيرين آخرين كانا بلاء على الدولة بجهلهما وقلة عنايتهما، عنينا بهما الخاقاني والخصيبي؛ فقد كان الخاقاني مدة وزارته متشاغلا بخدمة السلطان ومراعاة أعدائه، لا يقرأ الكتب الواردة عليه ولا النافذة، واعتمد على ابنه فقلده خلافته على الأعمال والتنفيذ للأمور، فتشاغل بالشراب، وما كانت الكتب تقرأ إلا بعد فوات الأمر الذي وردت فيه، وربما وردت الرسائل بالحمول، وكتب فيها سفاتج بمال، فتبقى أياما في خزانة الأب وابنه لا تفض ولا يعرف حال ما فيها، «وبسط يده وأيدي أولاده وكتابه بالتوقيعات بالصلات والإطلاقات والإقطاعات والتسويغات وتخفيف الطسوق
82
والمعاملات، وأخذ المرافق على إضاعة الحقوق وإسقاط الرسوم فسخفت الوزارة، وأخلقت الهيبة، وزادت الحال في اختلال الأعمال ووقوف الأموال، وقصور المواد، وتضاعف الاستحقاقات، واشتداد المطالبات، وشغب الجند شغبا بعد شغب، وتسحبوا على السلطان تسحبا بعد تسحب.»
وكان هذا الوزير يقلد في أسبوع واحد الكورة الواحدة عدة من العمال، وذلك لارتفاق أولاده وكتابه من العمال الذين يولونهم، ويتقرب مع هذه الأعمال الجائرة إلى قلوب الخاصة والعامة بأن يمنع خدم السلطان ووجوه القواد أن يترجموا رقاعهم بالتعبد، ويتقرب إلى العامة بأن يصلي معهم في المساجد التي على الطرق، فاتضعت الوزارة بأفعاله وذلت.
ومثله كان الوزير الخصيبي، يواصل شرب النبيذ بالليل، والنوم في النهار، وإذا انتبه يكون مخمورا لا فضل فيه للعمل، فيرد إلى غيره فض الكتب الواردة من عمال الخراج والمعاون وقراءتها والتوقيع عليها وإخراجها إلى الدواوين، وقراءة الكتب النافذة والإعلام عليها، وكانت تعمل له جوامع خاصة مختصرة للمهم مما يرد وينفذ فيعرض عليه إذا انتبه، فربما قرأه وربما لم يقرأه، وإذا كثرت الرسائل تقرأ عليه، وإلى أن ينفذ الجواب تتمرد البثوق وتتسع الفتوق، وتحتمل الغلات الأعراب، وتحدث الحوادث المفسدة لمعنى ذلك الكتاب، وكان أكثر هؤلاء الوزراء يضيعون الأموال ويخربون الملك، ويولون بالعناية، ويصانعون على الولايات بالرشوة، تولى المقتدر الخلافة نحو خمس وعشرين سنة فكان الوزراء يديرون الملك فإن كانوا من عيار علي بن عيسى وابن الفرات جرت الأمور على سداد، وإن كانوا من عيار الخصيبي والخاقاني كان البلاء ظلمات فوق ظلمات.
الإدارة على عهد القاهر والراضي ومن بعدهما
أفضت الخلافة إلى القاهر فأظهر في أول أمره من الجود والتقشف والتصون وبعد الهمة والاقتصاد والقناعة ما هابه به الناس، أراد قطع ثوب يلبسه فحمل إليه من داره فقيل له: لو أخذ لك ثوب من خزائن الكسوة؟ فقال: لا تمسوا لهم شيئا، وعرضت عليه صنوف الألوان والحلواء والفواكه التي كانت توضع بين أيدي الخلفاء في كل يوم فاستكثرها وقال في الفاكهة: بكم تبتاع هذه كل يوم؟ فقيل له: بثلاثين دينارا، فقال: نقتصر من ذلك على دينار واحد، ومن الطعام على اثني عشر لونا، وكان يصلح لغيره كل يوم ثلاثون لونا من حلواء فاقتصر على الكافي له.
ونادى القاهر في بغداد بإبطال المغنيات والخمر والمخانيث وكسر آلات الطرب، على أنه لم يكن يصبر عن الشراب وسماع القينات، وقضى على أن تباع المغنيات على أنهن سواذج لا يعرفن الغناء ثم وضع من يشتري منهن كل حاذقة في صنعتها فاشترى منهن من أراد بأرخص الأثمان. قال ابن الأثير: «وكان القاهر مستهترا بالغناء والسماع جعل ذلك طريقا إلى تحصيل غرضه رخيصا، نعوذ بالله من هذه الأخلاق التي لا يرضاها عامة الناس.» وقيل: إن السبب في غضبه على إسحاق بن إسماعيل أنه كان أراد اشتراء جارية قبل الخلافة وكانت موصوفة بالجمال والغناء، فزايده إسحاق فيها واشتراها، وأن نصر بن حمدان كان أراد شراء جارية أخرى قبل الخلافة فاشتراها نصر وما زال به بعد الخلافة حتى قتله، وبضروب من مثل هذه السخافة لا تدار خلافة.
كان القاهر يحب جمع المال وهو أهوج طائش لا يعرف كيف يسير، ويقدم على سفك الدماء فيهاب رهبة منه لا رغبة فيه، أما خلفه الراضي فأحيا رميم الخلافة وختم الخلفاء في أمور عدة؛ منها أنه آخر خليفة له شعر، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش والأموال، وآخر خليفة خطب على منبر في يوم جمعة، وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء، وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه ومطابخه وشرابه ومجالسه وخدمه وحجابه وأموره جارية على ترتيب الخلافة الأولى، وآخر خليفة سافر بزي الخلفاء القدماء، وله فضائل كثيرة.
وفي أيام الراضي بطلت الوزارة من بغداد، وبقي ابن رائق الناظر في الأمور جميعها وتقلب عمال الأطراف عليها ولم يبق للراضي غير بغداد وليس له فيها حكم، وفي أيام المتقي عزت الوزارة وصغرت لضعف الدولة وصغر دائرة الخلافة، وكان الخليفة هو الذي يولي أرباب الوظائف من القضاة وغيرهم وتكتب عنه العهود والتقاليد لا يشاركه في ذلك سلطان، وكان قاضي القضاة ببغداد منذ عهد الرشيد يستخلف على قضاء الأمصار وهؤلاء يستخلفون نوابا عنهم في أقطارهم، ثم صار القضاء يقلده صاحب المال والجاه منذ القرن الثالث فما بعده، وربما توسط أهل البلد فكتبوا محضرا بطلب فلان وإسقاط فلان، ويكون العامة مع واحد والخاصة مع آخر، والعامة إذا دخلوا في مسائل أعلى من عقولهم كان الفساد في الأعمال.
وكان من القضاة من يجمع الألوف وعشرات الألوف من الدنانير مدة قضائه وهذا إذا كان قاضي القضاة، والقضاة يولون صغار القضاة في الأقاليم، وهناك ترى النفوس تشره إلى المال ولا يردها عن إتيان ذلك خوف الديان ولا خوف السلطان، أفسد الوزير ابن الفرات القضاة وفرق من جهة ثانية على طلاب الأدب ومن يكتب الحديث وعلى الشعراء مالا، ولم يفعل ذلك غير مسلمة بن عبد الملك في دولة بني أمية، فقد قيل: إنه أوصى بالثلث من ثلثه لطلاب الأدب، وقال: إنهم مجفوون أو أهل صناعة مجفوة، استتر ابن الفرات في دار أبي الأخوص البصري فحرج، فولي الوزارة فكافأه على جميله بأن قلده القضاء وكان ابن الأخوص بزازا. واختفى الوزير عبد الله بن وهب (388) عند ابن أبي العون التاجر وأراد أن يغنيه فأحضر التجار وسعر مائة ألف كر
83
من غلات السلطان بالسواد عليهم، فأباحها ابن أبي عون بنقصان دينار مما قرر به السعر على التجار، وباعه عليهم بسعر قرره معهم وأخرهم بالثمن إلى أن يتسلموا الغلال، وكتب إلى النواحي بتقبيضهم ذلك فحصل لابن أبي عون مائة ألف دينار، وجعله الوزير واسطة لقضاء مصالح الناس بالجعالة العالية، حتى أثرى إثراء عظيما من مال السلطان ومال رعيته، أعمال جائرة على الراعي ومن يرعاهم يقوم بها مهرة «بتحلب
84
الفيء وقتل النفوس وإخراب البلاد.»
ولقد كان الخليفة إذا مالت نفسه عن الوزير، أو أريد أن يغضب عليه بإيعاز أحد النافذين في دولته من كبار قواد مملكته، يسلمه إلى يد من يخلفه من الوزراء فيهلكه بالضرب والإهانة، وربما يقتله ويقتل بعض خاصته، أو يقر بما احتجن من أموال الدولة وأموال الناس، ويقبض على أسبابه وعلى عماله، وينالهم بسبب من ولاهم كل ضيم في أنفسهم، وإذا انفصلوا من الخدمة كانت قيمتهم قيمة اللصوص، ولما كانت الوزارة تنتقل بين أيدي بضعة أشخاص على الأغلب في كل دور، كان كل معزول يؤمل الرجوع إلى دست الوزارة، فإذا عاد فهناك الانتقام من كل إهانة وقعت عليه من الوزراء والعمال.
وما حدث شغب في الجيش فأدى إلى قتل عامل أو وزير أو خليفة إلا كان السبب فيه على الأغلب تأخر أرزاق الجند أشهرا؛ ذلك لأن كل من كانت إليه الجباية يفكر في مصلحته قبل كل مصلحة على الأكثر، وقلما يتعادل دخل الدولة مع خرجها، والإسراف شامل قصر الخليفة فما دونه، لا تعد الدولة المال إلى حين الحاجة المبرمة على ما كان المنصور والرشيد، فقد كان الجند إذا شكا التريث في تقاضي رواتبه يعطى أشهرا بل سنة مقدما فتضمحل كل ثورة، وينطفئ لهيب الفتنة، «كان الخلفاء المتقدمون يجمعون الأموال ليقمعوا بها أعداء الدين والخوارج وليحفظوا بها الإسلام والمسلمين.»
يعيد الخلفاء إلى الخدمة من الوزراء، من كانوا غضبوا عليهم وسلبوهم، وذلك في الأزمات التي لا يستطيعون حلها، كما فعل مع علي بن عيسى، وأبي الحسن ابن الفرات، ومن كتاب عن المقتدر في شأن ابن الفرات «ولما لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه، ولا للملك بدا منه، وكان كتاب الدواوين على اختلاف أقدارهم، وتفاوت ما بين أخطارهم، مقرين برياسته، معترفين بكفايته، متحاكمين إليه إذا اختلفوا، واقفين عند غايته إذا استبقوا، مذعنين بأنه الحول القلب، المحنك المحبب، العالم بدرة المال كيف تحلب، ووجوهه كيف تطلب، انتضاه من غمده، فعاد ما عرف من حده، فنفذ الأعمال كأن لم يغب عنها، ودبر الأمور كأن لم يخل بها.»
وهم الخلفاء في هذه الحقبة إذا كانوا على انتباه، وبمنجاة من شهواتهم وشرابهم، أن يخزنوا الأموال ويصادروا من طالت أيديهم إليهم من عمالهم، يستأثرون بما جمعوا لأنفسهم، أو لبيت مال الخاصة. حكى ابن مسكويه في معنى تبذير المقتدر للأموال، والتنفير من هذه الطريقة نصيحة ساقها للملوك ومدبري أمر المملكة، لئلا يغتروا بكثرة الأموال فيتركوا تثميرها، ويعدلوا عن التعب به إلى الراحة اليسيرة؛ لأن من كان هذا حاله يبتدر حينئذ ولا يلحق، ويكون مثله مثل البثق الذي ينفجر بمقدار سعة الدرهم ثم يتسع فلا يضبط، وقد ذكر أن المقتدر أتلف نيفا وسبعين ألف ألف دينار سوى ما أنفقه في موضعه وأخرجه في وجوهه، وهذا أكثر مما جمعه الرشيد وخلفه، ولم يكن في ولد العباس من جمع أكثر مما جمعه الرشيد فإنه خلف ثمانية وأربعين ألف ألف دينار، ولما تقلد المقتدر الخلافة كان في بيت مال الخاصة أربعة عشر ألف ألف دينار، وأخذ من أموال ابن الفرات في مصادرته ومصادرات كتابه وأسبابه أربعة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار، ومن ابن الجصاص الجوهري ألفي ألف دينار، ومن العباس بن الحسن ألفي ألف وثمانمائة ألف ألف دينار، ومن أموال حامد بن العباس ألفي ألف ومائتي ألف دينار، ومن الحسين ومحمد المادرائيين ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار، ومن علي بن عيسى وابن الحواري وسائر الكتاب ووجوه العمال المصادرين ألفي ألف دينار، ومن تركة الراسبي خمسمائة ألف دينار، ومن تركة المسمعي ثلاثمائة ألف دينار، وما حصل من أموال أم موسى وأخيها وأختها وأسبابها ألفي ألف دينار، هذا عدا خراج الأقطار وغيره من الموارد الكثيرة، ولقد شغبوا على المقتدر وطلب الجند الزيادة وشتموه ونهبوا القصر الملقب بالثريا وصاحوا: أبطلت حجنا وأخذت أموالنا وجرأت العدو وتنام نوم الجارية! فبذل لهم المال فسكنوا.
وفي ذاك الدور كان في بغداد أنواع من الدواوين منها ديوان المشرق وديوان المغرب، وديوان الضياع الخاصة والمستحدثة، وديوان الضياع الفراتية، وديوان زمام الخراج والضياع العامة، وديوان زمام النفقات والخزائن، وديوان الدار وديوان البر - وهو أشبه بديوان الأحباس - وديوان الصدقات وديوان زمام الجيش، وديوان الحرم وديوان الفص والخاتم وديوان الجهبذ وديوان زمام القواد، وديوان الخاصة وديوان الدار الأصغر الذي تنشأ منه الكتب بالزيادات والنقل.
وأخذت الألقاب تكثر في الرسائل من كل صنف، ووضع الوزير ابن الفرات الألقاب في مخاطبة الملوك والأمراء والوزراء والعمال وفي مكاتبتهم،
85
وأنف الملوك ومن بعدهم من الوزراء من ذكرهم بسيدنا، واستقلوا خطابهم بمولانا، فعدل الناس بأولئك إلى الحضرة الشريفة والحضرة العالية والحضرة السامية، وبالوزراء إلى مثل ذلك، ثم كنوا عن الخلفاء بالموقف الأشرف المقدس وذكروه بالمقام الأطهر النبوي، ونقلوا الملك إلى الأشرف والأعظم، وقالوا في الدعاء: نوره الله ونصره الله إلى ما بعد ذلك من المغالاة والمبالغة، وانتهت هذه الحال إلى أن شاركهم فيها الأكابر من أصحاب الأطراف ووقفوا بالوزارة على الحضرة السامية، ثم ألحقوا بها المظفرة والمنصورة مع النسبة إلى الألقاب كالوزيرية والعميدية والكمالية وما جرى هذا المجرى، وداخلهم في ذلك من يتلوهم من خلفائهم وأصحاب الجيوش وأمراء العرب والأكراد.
86
كتب الإخشيد إلى عبده كافور الخادم في مصر: ومما يجب أن تقف عليه أطال الله بقاءك، أني لقيت أمير المؤمنين بشاطئ الفرات فأكرمني وكناني، وقال: كيف أنت يا أبا بكر أعزك الله؟ فرح بأن كناه والخليفة لا يكني أحدا، وكان المعتضد يكني في الخلوات طبيبه وفي الملأ يسميه، وهكذا أصبح الكبير يدهن للصغير والصغير يتقرب من قلب الكبير بالألقاب،
87
وصار الصغير يكتب في الكتب عبد فلان وخادمه وصارت عادة تكتب بها إلى جميع الوزراء، ولقبوا عمالهم أو المتغلبين على بعض أصقاعهم بملك الملوك وذلك بفتوى من العلماء، وأجازها بعضهم وأنكرها آخرون، ولقبوا أحد وزرائهم بسيد الوزراء وصدر الشرق والغرب، وأمر المستكفي أن تضرب ألقاب بني بويه على الدراهم والدنانير.
الإدارة في العهد العباسي الأخير
بعد أن آضت الخلافة إلى ما آضت إليه من الضعف، وصار الخليفة تابعا للملك أو المتغلب، لم يبق شيء يقال له: إدارة؛ لأن الخليفة لا يحكم حتى على بيته، بل أصبحت الإدارة إدارة ملوك الأطراف والشأن في السلطان شأنهم، لا تكاد تسمع للخلفاء اسما، ذكروا أنه لما ولي المستضيء شملت رحمته من كان في السجن حتى لم يبق فيه أحد إلا أفرج عنه، ومن وجد له بخزانته شيئا عليه اسمه أعاده إليه، وكل من كان في ولاية أعاده إليها، ومن وجد من ملكه شيئا تحت الاعتراض أفرج عنه وأعاده إليه.
88
وجاء الناصر فملأ القلوب هيبة وفتح البلاد البعيدة وكان رديء السيرة في الرعية مائلا إلى الظلم والعسف، ففارق أهل البلاد بلادهم وأخذ أموالهم، وكان يفعل أفعالا متضادة وكان يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية بخلاف آبائه، وطالت خلافته (47) سنة وكان منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور المناسيب ويلبس سراويلات الفتوة، والفتوة أشبه بجمعية فوضوية، فكان الفتيان يغتالون كل من يخالفهم حتى أفتى الفقهاء بعد ذلك العصر بتحريم الفتوة، وأنكروا نسبتها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومن قواعد الفتوة أنه متى قتل الفتى فتى من حزبه سقطت فتوته وعوقب، وإن قتل غير فتى عونا من الأعوان أو متعلقا بديوان في بلد الناصر سقطت فتوته بهذا السبب أيضا، وكتب الناصر منشورا وسلمه إلى كل واحد من رءوس الأحزاب وألزم الناس إجراء الأمر على ما تضمنه.
ولم يكن
89
للناصر وزير وإنما له خديم يعرف بنائب الوزراء، ويحرض الديوان المحتوي على أموال الخلافة وبين يديه الكتب فينفذ الأمور، وله قيم على جميع الديار العباسية، وأمين على الحرم الباقيات من عهد جده وأبيه، وعلى جميع من تضمه الحرمة الخلافية يعرف بالصاحب مجد الدين أستاذ الدار، هذا لقبه ويدعى له إثر الدعاء للخليفة. قال ابن جبير: ورونق هذا الملك إنما هو على الفتيان والأحابيش المجابيب منهم فتى اسمه خالص وهو قائد العسكرية كلها، أبصرناه خارجا أحد الأيام وبين يديه وخلفه أمراء الأجناد من الأتراك والديلم وسواهم وحوله نحو خمسين سيفا مسلولة في أيدي رجال قد احتفوا به، وشاهدنا من أمره عجبا في الدهر.
قال: إن جميع العباسيين معتقلون اعتقالا جميلا لا يخرجون ولا يظهرون ولهم المرتبات القائمة بهم.
وجاء الظاهر بعد أبيه الناصر يحسن إلى الرعية كل الإحسان ويحيي سنة العمرين ويبطل عدة مظالم ويسقط المكوس والضرائب، ومن ذلك أنه كان بخزانة الخليفة صنجة زائدة يقبضون بها المال ويعطون بالصنجة التي يتعامل بها الناس، وكانت زيادة الصنجة في كل دينار حبة فخرج توقيع الظاهر بإبطال ذلك وأوله:
ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون
وعمل صنجة المخزن قبل صنجة المسلمين، وكانت العادة في زمن أبيه أن يكتب الحراس بأخبار الناس فلما أتته مطالعاتهم قال: أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم؟ فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا، فقيل له: إن العامة تفسد بذلك ويعظم شرها، فقال: نحن ندعو الله أن يصلحهم، ولما توفي وجد في بيت في داره ألوف رقاع كلها مختومة لم يفتحها فقيل له ليفتحها فقال: لا حاجة لنا بها، فإن فيها كلها سعايات، وجاء بعد الظاهر ولده الأكبر المستنصر صاحب المدرسة المستنصرية والآثار الجليلة في العمران وقالوا: إن أيامه كانت طيبة والدنيا في زمانه ساكنة والخيرات دارة والأعمال عامرة، ثم خلفه المستعصم وهو سابع ثلاثينهم وآخرهم وهو الذي قتله التتر فانقرضت به الخلافة العباسية من بغداد سنة 656.
إدارة دول الشرق والغرب
لما وافى عبد الرحمن الداخل الأندلس ألفاها ثغرا قاصيا غفلا من حلية الملك
90
فأرهف أهلها «بالطاعة السلطانية وحنكهم بالسيرة الملوكية»، بدأ فدون الدواوين وفرض الأعطيات، وجند الأجناد، وعقد الألوية، وأصل أوضاع الدولة، وأقام للملك آلته، على النحو الذي رآه في دار آبائه في الشام، «وأخذ يقعد للعامة ويسمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم، ويتوصل إليه من أراده من الناس، فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقة.» وعظمت دولة الأندلس فكبرت الهمم، ورتبت الأحوال والقواعد، وظهرت الهيبة، وكان من شأن الأمويين مراعاة الشرع في كل الأمور، وتعظيم العلماء والعمل بأقوالهم، وإحضارهم في مجالسهم.
كانت الوزارة بالأندلس مشتركة في جماعة يعينهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة ويخصهم بالمجالسة، ويختار منهم شخصا لمكان النائب المسمى بالوزير فيسميه الحاجب، وكانت هذه المراتب لضبطها عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة بذلك، ثم صار اسم الوزارة عاما لكل من يجالس الملوك ويختص بهم، وصار الوزير الذي ينوب عن الملك يعرف بذي الوزارتين - أي وزارة السيف والقلم - وأكثر ما يكون فاضلا في علم الأدب، ويدلون بالحجابة على حجابة السلطان عن العامة والخاصة.
ويقول ابن خلدون: إن دولة بني أمية بالأندلس نفوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة، ثم قسموا خطته أصنافا وأفردوا لكل صنف وزيرا فجعلوا لحسبان المال وزيرا، وللترسل وزيرا، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيرا، وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيرا، وأفردوا للتردد بينهم وبين الخليفة واحدا منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت، فارتفع مجلسه من مجلسهم، وخصوه باسم الحاجب ، فارتفعت خطة الحاجب ومرتبته على سائر الرتب حتى صار ملوك الطوائف ينتحلون لقبها، ثم كان من دولة الموحدين أتباع دولة الأمويين، فقلدوها في مذاهب السلطان واختاروا اسم الوزير لمن يحجب السلطان في مجلسه، وأرجعوا الدواوين عندهم إلى صنفين من الكتاب: كاتب الرسائل وكاتب الزمام؛ أي كاتب الجهبذة أو كاتب الأشغال الخراجية، وتراقب السلطة العليا ما يصدر من أعمالهم، ويفيدنا تصفح تراجم رجال الأندلس، وتاريخ الرجال تاريخ السياسة، إن القائمين بالحكم من الوزراء والقواد والعظماء والعمال في هذه الديار كانوا أقرب إلى التعفف عن أموال الناس من رجال العباسيين، وكثير من الدول التي قامت في المشرق، وكانت دولة الأندلس إذا تأثلت حال الكاتب فيها نكب وصودر؛ لأن هذه الزيادة التي حصلت له «إما أن يكون قد أخذها بحق أو ظلم، فإن كان أخذها بحق كان متبرعا بها، لا يستحق لها زيادة على المسمى في جاريه، وإن كان ظلما وجب ردها على من ظلم بها، وكان عدوانا من العامل يؤخذ بجريرته.»
سار الأمويون في بدء أمرهم في الأندلس بسيرة بعض خلفائهم، وقضوا ألا يكون كاتب الزمام في مملكتهم نصرانيا ولا يهوديا، ثم دخل النصارى بعد حين في أعمال الدولة يتولون حتى العظام منها، وبنو أمية في إدارتهم بعيدون عن الجمود، يسيرون بما يستلزمه الزمان والمكان، وتهمهم المصالح والمنافع، ولا يتحرجون من الأخذ بجديد، لما خصوا به من عمائق الفطن، وقرائح العقول. وجملة الأمر أن الأمويين ما كانوا بالمبخلين ولا بالمسرفين، ولا بالضعاف الضعف الذي تضيع معه الحقوق وتفسد الأمور، ولا بالأشداء الشدة المفرطة التي تبغضهم إلى من يعملون معهم من الناس من وزراء وأصحاب ولايات.
جعلوا القضاء في الأندلس أعظم الخطط المتعلقة بأمور الدين، ويكون القاضي في المدينة الجليلة، ومسدد الخاصة في المدن الصغيرة، ويقال لقاضي القضاة قاضي الجماعة، وعمال الإدارة غير القضاة، ويتحتم أن يكونوا كلهم عارفين بالشرع، وأصول الحكومة وتراتيبها، وكانت خطة الاحتساب أو الحسبة أشبه بخطة القضاء، وهي تتناول أمور المدن والبياعات والعمائر، وكل ما يضر إهماله بالمجتمع، وما ينفع أتباعه فيه. والحسبة أشبه بأعمال المجالس البلدية والشرطة والصحة بمصطلح هذه الأيام، وكان لهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها - كما تتدارس أحكام الفقه - وخطة القضاء وسيطة بين خطة القضاء
91
والمظالم، تجمع بين نظر شرعي وزجر سلطاني، وكان خلفاء الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم مصلحتها، ويتولى النظر في الحسبة فقيه في الدين، قائم مع الحق، نزيه النفس، عالي الهمة، معلوم العدالة، ذو أناة وحلم، وتيقظ وفهم، عارف بجزئيات الأمور، وسياسات الجمهور، لا يستفزه طمع، ولا تلحقه هوادة، ولا تأخذه في الله لومة لائم، مع مهابة تمنع من الإدلال عليه، وترهب الجاني لديه.
وقد يكون لخطة صاحب الشرطة النظر في الجرائم وإقامة الحدود، وإذا كان صاحبها عظيم القدر عند السلطان يكون له القتل لمن وجب عليه، دون استئذان السلطان، ولكنه يحد على الزنا وشرب الخمر، وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه، ويعرف صاحب الشرطة عندهم بصاحب المدينة أو صاحب الليل، وهناك خطة أخرى أشبه بخطة الشرطة وهي الطواف بالليل، ويقال لأربابها أصحاب أرباع في المشرق، ويعرفون في الأندلس بالدرابين.
هذا إجمال في أوضاع الأندلس ومصطلحها، والأيدي التي كانت تديرها وتنفذها صالحة في الجملة، لصلاح ملوكهم ومعرفتهم الواسعة بمن يصلح لكل عمل؛ فقد كان هشام بن عبد الرحمن متحريا للعدل يعود المرضى ويشهد الجنائز ويتصدق بالصدقات الكثيرة، «ويبعث بقوم من ثقاته إلى الكور يسألون الناس عن سير عماله، ويخبرونه بحقائقها، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أوقع به وأسقطه، وأنصف منه ولم يستعمله بعد.» ورأينا الاعتداءات والمصادرات تقل في الأندلس مدة ملك بني أمية فيها؛ لأن التضامن كان على أتمه بين الملك وحاجبه - أي وزيره - يختاره من أشرف الطبقات العربية، وهذا يختار العمال الصالحين والكتاب والحاسبين، وللقضاة إجلال دونه كل إجلال، وقل أن جاء من أصحاب القضاء الساقط في مروءته، الجائر في أحكامه، المصانع على قضائه، وكان من ملوكهم كالحكم من يباشر الأمور بنفسه، أو يسترشد بآراء الفقهاء والعلماء كمن سلف من أجداده، وله عيون يطالعونه بأحوال الناس، وقد شبهوه بالمنصور العباسي، والحكم أول من جند الأجناد، واتخذ العدة والسلاح، واستكثر من المماليك فصار له منهم خمسة آلاف، وكانوا يسمونهم الخرس لعجمة ألسنتهم، وقد جعلوا أفواجا على باب قصره وجعلهم في المرتزقة، واستكثر من الحشم والحواشي، وارتبط الخيول على بابه.
والحكم هو الذي ضرب سكان الربض، ربض قرطبة، لما تآمروا عليه ضربة قاضية، وأجلى منهم ستين ألفا هاموا على وجوههم في شمالي إفريقية ومصر، ثم في جزيرة إقريطش،
92
وعبد الرحمن الثالث هو الذي أصبحت الأندلس في أيامه أكثر بلاد العالم تمدينا،
93
ووضع على الإسبان جالية
94
يؤدونها، وكان فيما شرط
95
عليهم اثني عشر ألف صانع يصنعون له في مدينة الزهراء، وكان له اثنا عشر ألف من الخدم بمناطق الذهب، والسيوف المحلاة يركبون لركوبه وينزلون لنزوله، وكان يقسم الجباية أثلاثا، ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدخر، وقيل: إنه خلف في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف ألف - ثلاث مرات متكررة
96 - وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى تربى على ستة آلاف ألف، أما أخماس الغنائم فلا يحصيها ديوان.
وتعددت الدواوين في الأندلس منذ أواسط عهد الأمويين فيها، ومن جملتها ديوان الشعراء؛ لكثرة غرامهم بالأدب والشعر واستحسانهم له، ولما ضعف الوازع السياسي في الأمويين ضعفت إدارتهم بضعف القائمين بها، وظل لتراتيبهم شيء من النظام اقتدى به، واتخذه إماما كل من دولة المرابطين، ثم الموحدين، ثم دولة بني نصر من بني الأحمر، وكذلك ملوك الطوائف الذين تقاسموا تلك الدولة في بعض أدوارها، واستقل كل متغلب أو أمير أو قاض بولاية أو ولايتين بسط عليهما سلطانه.
يقول ابن خلدون: إن يوسف بن تاشفين صاحب المغرب والأندلس لم ير في بلد من بلاده على طول أيامه رسم مكس ولا خراج، لا في حاضرة ولا في بادية، إلا ما أمر الله به، وأوجبه حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم، وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يجبه أحد قبله، وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة، وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وذكر المؤرخون أنه طلب من أهل البلاد المغربية والأندلسية المعونة بشيء من المال على ما هو في صدده من الجهاد فامتنعوا، وأباحها له بعض الفقهاء والقضاة، وأفتوه أن عمر بن الخطاب كان أضاق ففرض مالا في زمانه، وأجابه أهل الرأي: إن عمر ما اقتضاها حتى دخل مسجد الرسول وحضر من كان معه من الصحابة، وحلف أنه ليس عنده في بيت مال المسلمين درهم واحد ينفقه عليهم، فإذا فعل ابن تاشفين وحلف أنه ليس في بيت مال المسلمين درهم وجبت معونته.
ووقف علي بن يوسف بن تاشفين أيضا مع الشريعة، وآثر أهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمرا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولي أحدا من قضاته كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمرا، ولا يبت في حكومته في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فعظم أمر الفقهاء في الأندلس، وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم.
97
ومنذ عهد الأمويين في القرن الثالث كان في الأندلس مجلس شورى الفقهاء يعرضون عليه ما حزبهم من الأمور الشرعية، وأشكل عليهم من الأحكام، فينظر فيها نظرا بليغا، وهذا المجلس لم يعهد له نظير في دولة بني العباس ولا في غيرها.
ولما استولى جهور بن محمد على الدولة العامرية جعل
98
ما يرفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك، وهو المشرف عليهم، وصير أهل الأسواق جندا وجعل أرزاقهم رءوس أموال تكون بأيديهم يأخذون ربحها خاصة، ورءوس الأموال باقية، يأخذون ويراعون في الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، وأمرهم أن يجعلوه في الدكاكين والبيوت حتى إذا دهم أمر ليلا أو نهارا، كان سلاح كل واحد معه. وكانت أيامه في قرطبة على أحسن نظام وأكمل اتساق، وطريقة ابن جهور هذه من الإبداع في الإسراع بتعبئة الجيش، هي أيضا من إيجاد الأندلس وما تفردت به من الأوضاع.
واختلفت طرق الإنفاق على الجند في الأندلس فجرت أولا «على إقطاع
99
الأرض للأجناد، فكانوا يستغلونها ويرفقون بالفلاحين فعمرت البلاد وتوفرت الأموال، وتوافرت الأجناد والكراع والسلاح.» ولما رد ابن عامر عطايا الجند مشاهرة وقدم على الأرض جباة يجبونها، أكلوا الرعايا واجتاحوا أموالهم واستضعفوهم، فتهارب الفلاحون وضعفوا عن العمارة، فقلت الجبايات وضعف الأجناد، ولما فتح الملثمون
100
الأندلس ردوا الإقطاعات كما كانت.
واقتبست الغرب الأقصى أوضاع حكومتها على الغالب من جارتها الأندلس. وإذ استولت دولة الغرب في عهد المرابطين وعهد الموحدين على البلاد الأندلسية، تشابهت الإدارة في المملكتين إلى حد غير قليل، قال ابن خلدون: لما جاءت دولة الموحدين لم تتمكن فيها الحضارة الداعية إلى انتحال الألقاب، وتمييز الخطط وتعيينها بالأسماء إلا آخرا، فلم يكن عندهم من الرتب إلا رتبة الوزير، فكانوا أولا يخصون بهذا الاسم الكاتب المتصرف المشارك للسلطان في خاص أمره، وله مع ذلك النظر في الحساب والأشغال المالية، ثم صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسب الدولة من الموحدين، وكان أهل المغرب يسمون صاحب ديوان الإنشاء صاحب «القلم الأعلى». وذكر المراكشي
101
أن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن كان في جميع أيامه وسيره مؤثرا للعدل متحريا له، بحسب طاقته وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها، كان في أول أمره أراد الجري على سنن الخلفاء الأول، فمن ذلك أنه كان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس، وكان يقعد للناس عامة لا يحجبه أحد من صغير أو كبير، يقعد في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة لا ينفذها غيره، ولما ولي ابن بقي كان فيما اشترطه عليه أن يكون قعوده بحيث يسمع حكمه في جميع القضايا، فكان يقعد في موضع بينه وبين أمير المؤمنين ستر من ألواح، وكان قد أمر أن يدخل عليه أمناء الأسواق وأشياخ الحضر في كل شهر، يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم، وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عنه عمالهم وقضاتهم وولاتهم، فإذا أثنوا خيرا قال: اعلموا أنكم مسئولون عن هذه الشهادة يوم القيامة، فلا يقولن أحد منكم إلا حقا، وربما تلا في بعض المجالس:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين .
وفي أيامه أمر أن يتميز اليهود في المغرب بلباس يختصون به دون غيرهم لشكه في إسلامهم، وكان يقول: لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئا للمسلمين، ولم تنعقد ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة، ولا عمرت في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة، واليهود يظهرون الإسلام، ويصلون في المساجد، ويقرئون أولادهم القرآن، وكان ذلك في الربع الأول من القرن السابع.
كسر
102
عبد المؤمن سنة 555 بلاد إفريقية، والمغرب من برقة من جهة الشرق إلى السوس الأقصى في المغرب بأنواع الفراسخ والأميال طولا وعرضا، ثم أسقط من التكسير الثلث في الجبال والغياض والأنهار والسباخ والحزون والطرق، وما بقي قسط عليه الخراج وألزم كل قبيلة قسطها من الزرع، فهو أول من أحدث ذلك بالمغرب. وكان حسبان العطاء والخراج مجموعا لواحد في دولة بني مرين، وصاحب هذه الرتبة هو الذي يصحح الحسبانات كلها، ويرجع إلى ديوانه ونظره معقب بنظر السلطان أو الوزير، وخطه معتبر في صحة الحسبان في الخراج والعطاء.
وكان للأشياخ الكبار من الجند على عهد بني مرين في مراكش الإقطاعات الجارية عليهم، لكل واحد منهم في كل سنة عشرون ألف مثقال من الذهب، يأخذها من قبائل وقرى وضياع وقلاع، ويحصل له من القمح والشعير والحبوب من تلك البلاد نحو عشرين ألف وسق، ولكل واحد من الإقطاع والإحسان في رأس كل سنة حصان بسرجه ولجامه، وسيف ورمح محليان، وبقجة قماش وجوخ، وربما زيد الأكابر على ذلك، وللأشياخ الصغار من الإقطاع والإحسان نصف ما للأشياخ الكبار، ويكون لكل واحد من المقربين إلى السلطان من أشياخ الجند ستون مثقالا من الذهب في كل شهر، ومن دون ذلك يكون له في الشهر ثلاثون مثقالا، ثم ما دونها إلى أن يتناهى إلى أقل الطبقات، وهي ستة مثاقيل في كل شهر، وليس لأحد منهم بلد ولا مزدرع، ولقاضي القضاة كل يوم مثقال من الذهب، وله أراض يسيرة يزرع بها ما تجيء بمئونته وعليق دوابه، ولكاتب السر في كل يوم مثقالان من الذهب، وله قريتان يحصل له منهما محصول جيد مع رسوم كثيرة له على البلاد ومنافع وإرفاقات،
103
وجرت العادة أن يركب السلطان بعد العصر في عسكره ويخرج إلى مكان فسيح، فيقف على نشر من الأرض وتتطارد الخيل قدامه، وتتطاعن الفرسان وتتداعى الأقران، وتمثل الحرب لديه وتقام صنوفها على سبيل التمرين، حتى كأنها يوم حرب حقيقية، وقيل: إن عسكره 140 ألفا، وقيل 40 ألف فارس غير حفظة المدن والسواحل، ويمكنه إذا استجاش لحرب أن يخرج في جموع كثيرة لا تكاد تنحصر.
وأكثر ما كانت الإدارة منتظمة في إفريقية - أي تونس على عهد الآغالبة - ثم العبيديين، ثم ملوك صنهاجة، ثم ملوك الحفصيين، وكان إبراهيم بن الأغلب أول من اتخذ العبيد لحمل سلاحه واستكثر من طبقاتهم، واستغنى عن استعمال الرعية في شيء من أموره، وقلد العبيديون في إفريقية والقيروان
104
الدولتين قبلهم في الخطط الوزارية وغيرها، وكانت الرياسة في دولة بني أبي حفص أولا، والتقديم لوزير الرأي والمشورة، وكان يخص باسم شيخ الموحدين، وكان له النظر في الولايات والعزل وقود العساكر والحروب، واختص الحسبان والديوان برتبة أخرى، ويسمى متوليها بصاحب الأشغال، ينظر فيها النظر المطلق في الدخل والخرج، ويحاسب ويستخلص الأموال، ويعاقب على التفريط. وكانت دولة الحفصيين
105
على أسلوب العرب، وعدتهم الرماح والسيوف والنبال، ولم تكن المكاحل ؛ أي المدافع ظهرت في مبتدأ أمرهم، وإنما ظهرت في مؤخر أيامهم أيام ألفونس الأحول صاحب قشتالة، وكانت عساكرهم تدعى بالموحدين سماهم بذلك محمد بن تومرت؛ لأنه وضع لهم توحيدا بلسان البربر، زعم أنه هو كلمة التوحيد، وكان لهذه الدولة عز
106
وسلطان واتساع ملك، إلا أن الغالب عليها سوء الإدارة؛ لتغلب الفكر البربري على رجالها، فلم يكن في القائمين بها الاستعداد الكافي للإبداع، لبعدها عن الصبغة العربية والحضارة الشرقية، وكان ملوكها يجلون العلماء ويحافظون على الشرع، وكان بتونس أربعة من القضاة: قاضي الجماعة، وقاضي الأنكحة، وقاضي المعاملات، وقاضي الأهلة، وقاضي الجماعة عبارة عن قاضي القضاة بالمشرق ، وكان بنو أبي حفص يجعلون يوم الخميس لاجتماع القاضي والعلماء في مجالسهم، وتنفذ بين أيديهم الأحكام الشرعية، وتلقى بين عليهم المسائل المعضلة، تتصرف بين يدي السلطان فلا يقع بين يديه من الأحكام إلا ما هو مشهور. وكانت إدارة إفريقية منذ الفتح بأيدي ولاة ينصبهم الخلفاء، والولاة يشرفون على أمهات الدواوين، وهي: ديوان الجند، وديوان الخراج، وديوان الرسائل، ولكل واحد منها فروع يقوم بها كتاب ومحاسبون، ولما ولي الأغلب بن إبراهيم أحسن إلى الجند، وأجرى الأرزاق الواسعة على عماله فقبض أيديهم عن الناس.
وبينا كان بعض الصنهاجيين يحرصون على تكثير سواد المسلمين أسوة بسائر الدول الإسلامية، حتى إن الحسن بن علي الصنهاجي
107
لما فتح تونس «عرض الإسلام على من بها من الكفار فمن أسلم سلم وإلا قتل.» كان بعض الملثمين مثل إدريس بن يعقوب أول من أدخل النصارى إلى مراكش واستنصر بهم، ودخل معهم اثنا عشر ألف نصراني (630ه) على نحو ما فعل محمد بن سعد المعروف بابن مرذنيش المتغلب على الأندلس قبل نحو قرن، بأن جعل جيشه من الإفرنج
108
اتخذه أجنادا له وأنصارا، وذلك حين أحسن اختلاف القواد عليه وتنكر أكثر الرعية له، فقتل بعض قواده، وأقطع الأجناد والقواد الجدد ما كان أولئك القواد يملكونه، وأخرج كثيرا من أهل مرسية وأسكن النصارى دورهم، ثم بلغت العلاقات بين ملوك المغاربة والإفرنج أن كان أمراء تونس ومراكش يجندون في جيوشهم أبناء الإفرنج، ويأذنون لهم بإقامة شعائر دينهم علنا في الثكن التي ينزلونها، وعقدت معاهدات تضمن للفرنج دماءهم وأموالهم، وتبيح لهم أن يتحاكموا عند قناصلهم، وأن يقيموا شعائر دينهم جهرا، وكان ملوك الإسلام هم الذين يعطونهم عرصات الأرض اللازمة لبناء الكنائس والمقابر، وهذا كان في القرن الثاني عشر والثالث عشر للميلاد (قاله بونيه موري)، وحدث أن رمضان باي أمير تونس (1108) بنى لأمه الإيطالية النصرانية كنيسة في تونس
109
الخضراء لما هلكت، فأحدث الأمير المسلم أول معهد ديني نصراني في تلك الديار.
قلنا: إن الرياسة في دولة بني أبي حفص كانت أولا، والتقديم لوزير الرأي والمشورة ، وكان يخص باسم شيخ الموحدين، وقد اختص القلم عندهم أيضا بمن يجيد الترسل ويؤتمن على الأسرار. وللسلطان قهرمان خاص بداره، وفي أحوال يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والاصطبلات وغيرها وخص باسم الحاجب، وكان السلطان في إفريقية إذا جلس للمظالم جلس حوله ثلاثة للرأي والمشورة، وجلس معهم وزير الجند إن كان كبيرا، وإن لم يكن كبيرا وقف بإزاء أولئك الثلاثة جلس دونهم عشرة من أكابر أشياخه، وقد يكون هؤلاء الثلاثة من العشرة المذكورين بعد هؤلاء، وهم خمسون نفرا، فإذا أمر السلطان بأمر بلغه وزير الجند لآخر واقف وراءه، وبلغه الآخر إلى أن يسمع الأمر السلطاني من خارج الباب، بنقل أناس عن أناس، وتقف جماعة تسمى بالوقافين بأيديهم السيوف حوله، وهم دون الخمسين المذكورين في الرتبة.
هذا ما نقله ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار على عهد دولة الحفصيين، وذكر أن الجند هم من الموحدين والأندلسيين، ومن قبائل العرب، وقليل ممن هرب وأقام عندهم من مصر، والفرنجة هم خاصة السلطان يقال لهم العلوج لا يطمئن إلا إليهم، ثم ذكر أرزاقهم وطبقاتهم والإحسانات عليهم والمرتبات والرتب وإحصاء الجيوش، وكان لهذا السلطان ثلاثة وزراء: وزير الجند وهو بمثابة الحاجب بمصر، ووزير المال وهو صاحب الأشغال، ووزير الفصل وهو كاتب السر، ومهما تجدد عند كل واحد منهم أمر يطالبه بالمكاتبة فيما يتعلق بشغله المنوط به، ويجاوبهم بما يراه. قال ابن سعيد والذي يتولى إبلاغ قصص الظلامات إلى هذا السلطان يسمى صاحب الرقاعات يأخذ براءات المتظلمين؛ أي قصصهم ويعرضها ويخرج بجوابها.
منذ بدأت الخلافة العباسية بالضعف أصبح التاريخ على الجملة تاريخ ملوك الأطراف، أو ملوك الطوائف، أو الأمراء الخاضعين أو المشاكسين، ويستمد كل ملك أو أمير قواعده في إدارة الملك من حاجته ومحيطه، وينسج في ظواهرها على ما أخذه عن بغداد، وقلما يتعدى في الجباية الحد المقرر في الشريعة، ولا يختلف الخروج عنها إلا بقدر قوة السلطان وحاجته وطمعه.
كان ديوان الإنشاء بمصر على مثال ديوان الإنشاء في بغداد ،
110
أحدثه أحمد بن طولون لما تولى أمر مصر وعظم ملكها، ولم يكن لمصر ديوان إنشاء من قبله، فاتخذ المنشئين وتوالت دواوين الإنشاء بذلك، وكان ابن طولون يقعد للمظالم - كما يقعد الخلفاء - وفي كتابة وجدت على البردي ظهر أن الطولونيين فتشوا مصر تفتيشا عاما من سنة 258 إلى سنة 261. وفي عهد الطولونيين عومل النصارى واليهود معاملة حسنة، واستخدم كثير من الموظفين من أبناء مصر، وبالغ بنو طولون في عمارة مصر، فاستفادوا مالا ووفروا الرزق للمصريين، وكانت عدة
111
العساكر المصرية في أيام أحمد بن طولون اثنى عشر ألف مملوك، وسبعة آلاف حر مرتزق، وأربعين ألف أسود، وكانت عادة الديوان بمصر في أيام بني أمية وبني العباس أربعين ألف فارس.
كان عمل الطولونيين صالحا من كل وجه خلافا لبني بويه بالشرق في القرن التالي مثلا؛ فقد خبط معز الدولة بن بويه في المشرق الناس، واستخرج الأموال من غير وجوهها،
112
فأقطع قواده وخواصه وأتراكه الضياع، فصار إليهم أكثر سواد العراق، وزالت أيدي العمال عنه، وبطلت الدواوين وبطلت أزمتها، وجمعت الأعمال كلها في ديوان واحد، فنقص الارتفاع وبطلت العمارة، وسامح الوزراء المقطعين وقبلوا منهم الرشا، وأخذوا المصانعات في بعض، وقبلوا الشفاعات في آخر، فحصلت لهم الإقطاعات بعبر متفاوتة، وأتت الجوائح على التناء
113
ورقت أحوالهم، فمن بين هارب جال، وبين مظلوم صابر لا ينصف، وبين مستريح إلى تسليم ضيعته إلى المقطع ليأمن شره، فبطلت العمارات، وأغلقت الدواوين، وامحى أثر الكتابة والعمالة، ومات من كان يحسنها، ونشأ قوم لا يعرفونها، ثم تضاعفت النفقات فزادت على الدخل.
وما خلا مع هذا عصر من علماء ينكرون على الملوك ظلمهم الرعية، والظالم لا يرده على الأكثر وعظ واعظ ولا نصح ناصح، وقلما يلين إلا إذا ألانته قوة كأن يخشى ثورة تنشب، أو عدوا من بلاده يقرب. لما خرج الظاهر بيبرس البندقداري رأس دولة المماليك إلى قتال التتر بالشام، أخذ فتاوى العلماء بأنه يجوز له أخذ مال من الرعية؛ ليستنصر به على قتال العدو، فكتب له فقهاء الشام بذلك، فقال: هل بقي أحد، فقيل نعم، الشيخ محيي الدين النووي، فطلبه فحضر، فقال: اكتب خطك مع الفقهاء فامتنع، فقال: ما سبب امتناعك، فقال: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار وليس لك مال، ثم من الله عليك وجعلك ملكا، وسمعت أن عندك ألف مملوك كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية لكل جارية حق من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت المماليك بالبنود الصوف بدلا من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيك بأخذ المال من الرعية، فغضب الظاهر من كلامه، وقال: اخرج من بلدي - يعني دمشق - وأنكر فخر الدين بن عساكر على الملك المعظم تضمين المكوس والخمور، فعاقبه بأن انتزع منه المدرسة التقوية والصلاحية بدمشق. وأنكر العلماء على العزيز بن صلاح الدين إعادة المكوس، التي كان أبطلها أبوه وزيادته في شناعتها، ومجاهرته بالمعاصي والمنكرات، وإباحة أرباب الأمر والنهي الخمر والحشيش، وإقامة الضرائب عليها حتى اضطربت الديار المصرية من قلة العدل وكثرة المعاصي والفسوق، والعزيز هذا منع في دمشق استخدام أهل الذمة في شيء من الخدم السلطانية، وألزموا لبس الغيار،
114
وأين إدارة العزيز من إدارة صلاح الدين بتسامحها ومتانتها؛ فقد ذكر المؤرخون أنه لما عقد الصلح بين الإفرنج والمسلمين دخل خلق عظيم من الإفرنج إلى القدس للزيارة، فأكرمهم السلطان وقدم لهم الأطعمة وباسطهم.
وبعد، فلم يكن يحول بين الملوك وما يشتهون من الاسترسال في طلب المال من الناس إلا خشية فتاوى أمثال النووي وابن عساكر، ممن يعتقد الشعب صدقهم وصحة يقينهم ويسير إذا دعاه الداعي على رغائبهم، وإذا كان الممتنع عن مماشاة السلطان أو الملك يقصد بما يقول الآخرة أو وجه الله تقف موعظته عند حد الوعظ، لا تتعدى الأقوال، وإذا كان ممن يهتم بالأمور السياسية، ويعرف كيف يصيب الغرض ويبلغ المحز، يثير على السلطان وأصحاب السلطان غارة شعواء، ربما كان فيها زوال أمره وجرأة خصومه عليه. ولا يخلو زمن من حزب مخالف يرى في السياسة المتعبة بعض الحيف أو الخروج عن مقاصد الشرع. وزعماء هؤلاء المخالفين إما أن يقاوموا السلطان ويجاهروه بالعداء وينقدوه لا تأخذهم رهبة ولا رغبة، وإما أن يثيروا من يهوى هواهم يحملونهم على النقد أو الطعن في سياسة الملك، ومنهم من يستعمل الشعراء في الدعوة إلى ما يتطالون إليه من تنبيه الأفكار، يضعون أبياتا أو آغاني يتناشدها الناس والنساء والأولاد، وفيها صراحة أو شبه صراحة بما يجري في البلاد من الظلم، ومنهم من يكتب إلى السلطان رقاعا يبسطون له فيها سوء الحال، ويحذرونه قبح المآل عليه وعلى دولته، والسلطان أو الأمير يقابل هذه القوة بمثلها، فيستكثر من الرجال الذين يتخذهم بوق دعاية له، ويحتال بكل حيلة لتحقيق الآمال واستتباع الرجال، فإما أن يغدق المال على من يحاذر مخالفتهم فيعمي أبصارهم وبصائرهم، أو أن يطمعهم في منصب ما كانوا يحلمون بتوليه يشتري به سكوتهم، أو أن يصانعهم على ما يوافق هواهم، فيكون متدينا مع المتدينين، حرا مع الأحرار، يبسم لهذا ويحترم هذا، ويرفع مقامه فيشايعه ويرتضيه، ويحمل من وراءه من قومه على مشايعته بدون إعمال فكر ولا نظر. ومن الملوك من كانوا يعمدون في الوصول إلى مآربهم إلى الطرق المشروعة، ولا يطلبون من أمتهم غير المطالب المعقولة التي يقرها جمهور العقلاء.
لما ضاق المسلمون بوطأة الصليبيين عليهم في دمياط كتب الملك المعظم إلى سبط ابن الجوزي الواعظ المشهور، أريد أن تحرض الناس على الجهاد، وتعرفهم ما يجري على إخوانهم أهل دمياط ، وإني كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفي قرية منها ألف وستمائة أملاك لأهلها وأربعمائة سلطانية، وأريد أن تخرج الدماشقة ليذبوا عن أملاكهم، الأصاغر منهم والأكابر، فأجابوا بالسمع والطاعة، ثم تخلفوا فأخذ الثمن والخمس من أموالهم لتقاعسهم، فما اعترض معترض، ولا نقد ناقد عاقل؛ لأن مطلب السلطان كان ظاهر الفائدة، خاليا من الشوائب، يقصد من حمل الناس على الحرب غيرته على البلاد وأهلها، ويعرف قومه أنه بعيد عن الإسراف في أموال الرعية لا يجبي مالا، وفي قصره ألوف وألوف من الجواهر والحلي والذهب على نحو ما فعل الظاهر بيبرس وشق عليه مجاهرة النووي له بالحق. على أن عمل الظاهر في أخذ فتاوى العلماء دليل على أنه لا يخرج عن الشرع، ويحاول تطبيق أعماله عليه، لا يسير سير المستبدين ولو بمراعاة الظواهر، قال ابن إياس: إن الظاهر كان سخيا على الرعية باسط اليد، يفرق الغنائم التي تحصل من فتوحاته على الرعية حتى يرغبهم في القتال وقت الحرب، وكان محبا للمال كثير المصادرات للرعية لأجل الغزوات والتجاريد، وينفق ذلك على العسكر، ولما وردت الأخبار في سنة سبعمائة بعودة التتر إلى الشام، صدر أمر سلطان مصر من المماليك باستخراج ثلث أموال غالب الأغنياء بمصر والشام؛ لاستخدام المقاتلة وبرز إلى محاربتهم بنفسه، فكان في ذلك النصر، ودفع عادية الأعداء عن البلاد.
كان الإخشيد أول من عمل الرواتب في مصر، وعمل له تقدير يحجز فيه المرتب عن الارتفاع، فأريد على أن يحط من الجرايات والأرزاق، فرأى أصحاب الرواتب الضعفاء وفيهم المستورون وأبناء النعم، فأخذ هذا العجز من كاتبه، أما الخلفاء فاقتنعوا في عصور الضعف أن تضمن الولايات من ديونهم بمال يحمل إليهم، وكانوا يضيقون فتنفجر الثورات، وأكثر ما يثور الجند لانقطاع أرزاقهم ورواتبهم، وكان الدافع إلى كثير من الثورات الأهلية ظلم العمال وجوع النساء والأطفال، والناس في مثل هذه الأحوال يلبون دعوة من يتقدم أمامهم ليتبعوه، والوزراء والكبراء ينهبون الرعايا من جهة ويطعمونهم من جهة أخرى.
كان الوزير ابن الفرات من أكبر رجال السياسة والإدارة في العباسيين ، يسلب ما يسلب بطرق له يعرفها، ومنها أخذ مئات الألوف من الدنانير من ديوان الخاصة؛ أي أموال الخليفة يدبر لاقتنائها طرقا ملتوية، ومع هذا يجري على خمسة آلاف إنسان ما بين مائة دينار في الشهر إلى خمسة دراهم، وبنى داره بثلاثمائة وخمسين ألف دينار، وكان من المحسن ابنه وخليفته على عماله، وهو على ديوان المصادرات، من الجور والعيث، ما جمع به في آخر وزارة أبيه الثالثة بضعة ملايين دينار، وكان راتب الوزير في هذا العهد خمسة آلاف دينار في الشهر.
ولولاة الأقاليم وأمرائها وملوكها طريقة في أخذ الأموال فيها غرائب، فإن سيف الدولة بن حمدان صاحب الموصل وميافارقين وحلب أراد أن يستصفي غوطة دمشق لنفسه، وكانت لألوف من الناس، فخاف أهل دمشق على غوطتهم، وكتبوا إلى كافور الإخشيدي صاحب مصر، فجاء واستولى على دمشق وأعمالها. وكان سيف الدولة هذا يجوز أخذ ما في أيدي الناس، ويجور ولا يبالي، وأفحش قاضيه أبو الحصين
115
في الظلم، فكان إذا مات إنسان أخذ تركته لسيف الدولة، وقال: «كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك.» وصادر له تجارا في بالس (مسكنة) على ألف ألف دينار، واشتد ظلم سيف الدولة وظلم آل بيته على بني حبيب، وهم بنو عم بني حمدان، وكانت منازلهم في نصيبين تضمن منذ أول الإسلام بمائة ألف دينار، حتى اضطروا أن يهاجروا إلى الروم، وكانوا اثني
116
عشر ألف فارس فتنصروا بأجمعهم وعادوا إلى بلاد الإسلام، بعد أن قويت نفوسهم بملك الروم يغزون ويفسدون.
كان سيف الدولة يأتي هذا الظلم، ويفضل من جهة على الشعراء فضلا قلما يسمع بمثله، وقد ضرب دنانير للصلات في كل دينار، منها عشرة مثاقيل وعليه صورته ورسمه، وأعطى أبا فراس الحمداني لما ارتجل له أبياتا ضيعة بمنبج تغل ألف دينار، ووصل المتنبي
117
بخمسة وثلاثين ألف دينار في مدة أربع سنين، وكان سيف الدولة لا يملك نفسه، كان يأتيه علوي من بعض جبال خراسان كل سنة فيعطيه رسما له جاريا على التأييد، فأتاه وهو في بعض الثغور، فقال للخازن : أطلق له ما في الخزانة فبلغ أربعين ألف دينار، فشاطر الخازن وقبض عشرين ألف دينار، إشفاقا من خلل يقع في عسكره وهو في الحرب.
وكانت حضرة سيف الدولة في مملكته الصغيرة أعظم من حضرة بني العباس، يتبارى الشعراء في مدحه، وهو لا يستحي أن ينكب قرية أو قرى ليجيز شاعرا، ويخرب إقليما أو يبطل تجارة جسيمة ليعمر قصرا وتتم له رفاهيته وبذخه، وقد خرب الرقة والرافقة من ديار مضر بما حملهما من الكلف والنوائب، وبمصادرة أهلهما
118
مرة بعد أخرى، وكان إذا أكل الطعام يحضر على مائدته أربعة وعشرون طبيبا، وينشئ من القصور ما يعجز عنه الخوالف من بني العباس. قال الأزدي:
119
إن سيف الدولة كان معجبا برأيه، محبا للفخر والبذخ، مفرطا في السخاء والكرم، شديد الاحتمال لمناظريه والعجب بآرائه، سعيدا مظفرا بحروبه، جائرا على رعيته اشتد بكاء الناس عليه ومنه، بكوا عليه لدفاعه عن أرض الإسلام وتوليه غزو الروم، وبكوا منه لظلمه وسوء إدارته.
وبينما كان سيف الدولة يعمل هذا لاستدرار الأموال والإفضال على من يحب، كان كافور صاحب مصر، وهو خصي أسود، يضن بالدانق إلا على مصالح الدولة، ويضن على الشاعر المتنبي نفسه، فلا يقلده ولاية من ولاياته، ويقول: إن من ادعى النبوة مع محمد ألا يدعي الملك مع كافور؟ وكان رسمه أن يستقبل العيد بيوم «تعد فيه الخلع والحملانات، وأنواع المباز لرابطة جنده وراتبة جيشه.» وقد تقدم إلى سائر دواوينه ألا يعطي دينار ولا درهم إلا بتوقيع يعقوب بن كلس فوقع في كل شيء، ويعقوب هذا منظم المالية في الدولتين الكافورية والفاطمية، وقامت الدولة الفاطمية في إفريقية ومصر لأول أمرها على إدارة وترتيب، ووضع المعز والعزيز من الفاطميين نظاما دقيقا في المالية والإدارة،
120
وكان لهما من ابن كلس وزير على ضعفه يفيد الدولة بنصائحه الثمينة. عهد المعز إلى يعقوب بن كلس، وكان يهوديا فأسلم، وإلى عسلوج بن الحسن بوضع نظام جديد للضرائب بدل النظام القديم، فوضعا قانونا لتقدير الأملاك وتحديد الضرائب، ومنع الجباة من الاستطالة والظلم فزاد ريع القطر، قلدهما المعز الخراج والحسبة والسواحل والعشور والجوالي والأحباس والمواريث والشرطتين.
لما فتح جوهر الصقلي مصر باسم مولاه المعز تعهد لأهلها في الكتاب الذي دفعه إليهم بإسقاط الرسوم الجائرة، وأن يجريهم في المواريث على كتاب الله وسنة نبيه، وأن يضع ما كان يؤخذ من تركات موتاهم لبيت المال من غير وصية من المتوفى بها، وقل في الفاطميين العادل العف عن الأموال من الوزراء، فقد ولي الوزارة الحسن بن علي اليازوري بالإكراه، وكان غنيا ولا يستبد
121
برأيه، ولا يأنف من مشاورة ثقاته وأصفيائه، ومع هذا كان نصيبه القتل (450) بوشاية الواشين، ولم يكن
122
بعده من يعادله في كفاءته من الوزراء الفاطميين، فكثرت الدسائس في الجيش والقصر حتى تعاقب على الوزارة أربعون وزيرا في تسع سنوات.
وزاد هذه الحالة سوءا ذلك النزاع الذي قام بين عناصر الجيش من الأتراك والسودانيين، واستكثر المعز من الجند بمصر، فكانوا ما بين كتامة وروم وصقالبة وبربر ومغاربة، لا يحصون كثرة حتى قيل لم يطأ الأرض بعد جيوش الإسكندر بن فيلبس الرومي الكبير أكثر من جيوش المعز الفاطمي. واستكثر
123
العزيز من المماليك الديالمة والمصامدة والأتراك المغول. وعني الفاطميون بالأسطول، وكان له ديوان خاص حافظ عليه صلاح الدين لما أخذ الملك منهم، وكان عمال الدولة الفاطمية وولاتها موسعا عليهم في الرزق، ثم كثر صرف أكثر الوزراء والولاة والقضاة أوائل النصف الثاني من القرن الخامس؛
124
لكثرة مخالطة الرعاع للخليفة وتقدم الأراذل، بحيث كان يصل إليه في كل يوم ثمانمائة رقعة فيها المراجعات والسعايات، فاشتبهت عليه الأمور وتناقضت الأحوال، ووقع الاختلاف بين عبيد الدولة، وضعفت قوى الوزراء عن التدبير لقصر مدة كل منهم، وخربت الأعمال لقلة ارتفاعها، وتغلب الرجال على معظمها، مع كثرة النفقات والاستخفاف بالأمور وطغيان الأكابر، وما كان الفاطميون يرون أنجع لاتقاء شر الولاة من المسارعة إلى تبديلهم مخافة أن يشقوا عصا الطاعة، ومن ارتضوا سيرته كابن عمار في طرابلس أنشأ له دولة صغيرة، والغالب أن ما دعاهم لإغماض العين عنه، والتساهل معه في إساغته أموالها، إرادتهم في أن يجعلوا من بلده مركزا من الدعوة إلى التشيع في الشام، ومن خلفائهم من كانوا على تدين وتصون، ومنهم من كانوا مستهترين مشغوفين باللهو كالظاهر (427) فتأنق الناس في أيامه بمصر، واتخذوا المغنيات والرقاصات، وبلغوا من ذلك مبلغا عظيما.
ومع أن من مقتضى مذهب الفاطميين البعد عن أهل الذمة لم يتلكأ بعض خلفائهم من الاعتماد عليهم في إدارة مصر والشام؛ فقد وسد العزيز الفاطمي الأمر لرجل من الأقباط اسمه نسطورس، وقلد أموال الشام ليهودي اسمه منشا، يجمعان الأموال ويوليان أبناء نحلتهما الأعمال، ويعدلان عن الكتاب والمتصرفين من المسلمين، فغضب الناس في مصر والشام، وعمد بعضهم في القاهرة إلى مبخرة من حديد، وألبسها ثياب النساء وزينها بإزار وشعرية، وجعل في يدها قصة على جريدة، وكتب فيها رقعة ليراها العزيز عند مروره، وهي «بالذي أعز جميع النصارى بنسطورس، وأعز جميع اليهود بمنشا، وأذل جميع المسلمين بك إلا ما رحمتهم، وأزلت عنهم هذه المظالم.» فتوسطت ست الملك ابنة العزيز لنسطورس فعفا عنه، بعد أن حمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار، وأعاده العزيز إلى ما كان ناظرا فيه، وشرط عليه استخدام المسلمين في دواوينه وأعماله، وأما منشا فقتل ولم يشفع به أحد.
وكانت جبايات الفاطميين فاحشة والفتن متصلة، وعمالهم يبالغون في ارتكاب المظالم، فخربت البلاد وجلا عنها أهلها وتعطلت الزراعة. ومع أن الرواتب والإقطاعات كانت كثيرة بل فاحشة المقدار في الدولة الفاطمية، كانت الرشوة وضياع الحقوق من الأمور المألوفة، كان راتب الوزير الفاطمي في كل شهر خمسة آلاف دينار،
125
ومن يليه من ولد أو أخ من ثلاثمائة دينار إلى مائتي دينار وربما خمسمائة دينار، ثم لحواشيه خمسمائة دينار إلى أربعمائة دينار إلى ثلاثمائة خارجا عن الإقطاعات، ولأكبر أرباب الأقلام في الشهر مائتان وخمسون دينارا حبشية، ومن الرواتب والغلة ما إذا بسط وثمن كان نظير ذلك، ثم دون ذلك ودون دونه، ولأعيانهم الرواتب الجارية من اللحم والخبز والعليق والشمع والسكر والكسوة، ونحو ذلك مما هو جار على العلماء وأهل الصلاح من الرواتب والأرضين المؤبدة وما يجري مجراها ، يتوارثه الخلف عن السلف، ولا يوجد بمملكة من الممالك، ولا مصر من الأمصار، ويبلغ إقطاع الواحد من أكابر الأمراء مائتي ألف دينار حبشية، وربما زاد على ذلك.
وإقطاع الأمراء في مصر أفحش مما هو في الشام، وكان رزق أحمد بن خيران الملقب بولي الدولة صاحب ديوان الإنشاء ثلاثة آلاف دينار في كل سنة، وله عن كل ما يكتبه من السجلات والعقود، وكتب التقليدات رسوم يستوفيها من كل شيء بحسبه. وقد خلف الأفضل وزير المستنصر والمستعلي والآمر (515) من العين ستمائة ألف ألف دينار، ومن الفضة مائتين وخمسين أردبا وسبعين ألف ثوب ديباج أطلس إلى آخر ما خلف . وخلف جوهر القائد من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار، ومن الدراهم أربعة آلاف ألف درهم، ومن اللؤلؤ الكبار واليواقيت أربعة صناديق إلى آخر ما خلف، وإذا كان وزير من وزرائهم يجمع هذا القدر العظيم من النعمة فما يكون في أيدي غيره وأيدي خلفائهم؛ فقد وقع صلاح الدين لما أخذ مصر منهم على كنوز عظيمة في قصورهم، لا يستطيع قلم أن يدونها، وهذا كله ما جمع من طرق مشروعة، والفلاح كان في شدة بالطبيعة.
وكثر في آخر أمر الفاطميين «القبض والمصادرات واصطفاء الأموال والنفي»، وكانوا إذا صرفوا وزيرا لا يعيدونه إلى العمل، وكان الوزير ابن البطائحي
126
أول من عمل إحصاء سكان البلاد، وتدوينها في قوائم خاصة سماها ابن ميسر أوراق «التصقيع»، ووضع أوراق السفر للداخل إلى البلاد والخارج منها، ووضع الجواسيس ومنهن النساء يتسقطن أخبار الناس لما ينفع الدولة، وفي أواخر أيامهم كان الوزير يجلس للمظالم بنفسه، ومعه قاضي القطاة والموقع وصاحب ديوان المال، وإذا خلت مصر من وزير صاحب سيف يجلس للنظر في المظالم صاحب الباب، وكان القضاة منذ استولى الفواطم على مصر يقضون بالمذهب الإسماعيلي، وبطل العمل مدة حكمهم بالمذهب الشافعي وغيره؛ أي إن المذهب الإسماعيلي كان مذهب الدولة القائمة، وعنوا عناية خاصة بالدعوة إلى مذهبهم، وكان له دعاة ودعاة دعاة، ولهم ديوان خاص تنفق عليه الدولة نفقات كبيرة، كما تعنى بديوان الإنشاء واختيار بلغاء الكتاب له ما بين مسلم وذمي.
127
وكان حملة الأقلام أو كتاب الدواوين يتولون الجباية والنفقات على اختلاف فروعها، وهم عبارة
128
عن ثمانية عشر صنفا، وهم: ناظر ومتولي ديوان ومستوف ومعين وناسخ ومشارف وعامل وكاتب وجهبذ وشاهد ونائب وأمين وماسح ودليل وحائز وخازن وحاشر وضامن، ولكل منهم أمر يتوجه عليه الخطاب فيه. وتتبدل الأسماء بتبدل الدول والمسميات واحدة، وابتليت الدولة الفاطمية بالجود بالألقاب العجيبة على وزرائها وعمالها، يسمون أحدهم «الوزير الأجل الأسعد المكين الحفيظ الأمجد الأمين عميد الخلافة، جلال الوزراء تاج المملكة، وزر الإمامة شرف الملة كفيل الدين» إلخ، ويطلقون على آخر «سيد الوزراء ظهير الأمة عماد الخلصاء فخر الأمة»، وعلى آخر «الوزير الأجل الأوحد، جلال الإسلام ظهير الإمام، قاضي القضاة وداعي الدعاة، شرف المجد خليل أمير المؤمنين وخالصته، ثقة الدولة وسناؤها» إلى غير ذلك من المبالغات الأعجمية التي لا تسمن ولا تغني.
هذه تراتيب الفاطميين، ولا يشفع في هذه الإدارة بسطهم الأيدي في إعطاء الألوف للشعراء والفقهاء والدعاة. وكانت حالة الدولتين الصلاحية والنورية على عكس ذلك؛ كان طغتكين صاحب دمشق، ومن عظماء أمراء السلاجقة (522) مثالا من صاحب الإدارة الحسنة، أعاد إلى الرعية كثيرا من أملاكهم التي اغتصبها منهم ولاة الجور، وجرت عليها أحكام المقاسمة، وأرجعها إلى خراجها القديم، وأحيا الأرض المعطلة، وباع منها ما كان شاغرا للناس يعمرونه، وعمرت البلاد بجميل سياسته وحسن تدبيره، وانبسطت الرعية في عمارة الأملاك.
وكان نور الدين زنكي كوالده ينهي أصحابه عن اقتناء الأملاك؛ لأن الإقطاعات تغني عنها، قال: ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية وغصبوهم أملاكهم، وكان إذا
129
توفي أحد الأجناد وخلف ولدا أقر الإقطاع عليه، فإن كان الولد كبيرا استبد بنفسه، وإن كان صغيرا رتب معه رجلا يثق به فيتولى أمره إلى أن يكبر، فكان الأجناد يقولون: هذه أملاكنا يرثها الولد عن الوالد فنحن نقاتل عليها، قالوا: وكان ذلك سببا عظيما من الأسباب الموجبة للصبر في المشاهد والحروب، وكان أيضا يثبت أسماء أجناد كل أمير في ديوانه وسلاحهم خوفا من حرص بعض الأمراء، وشحه أن يحمله على أن يقتصر على بعض ما هو مقرر عليه من العدد، ويقول: نحن كل وقت في النفير، فإذا لم يكن أجناد الأمراء كافة كاملي العدد والعدة دخل الوهن على الإسلام.
وكان نظام الملك وزير السلجوقيين أول من فرق الإقطاعات على الجند فعمرت البلاد، وكثرت الغلات، واقتدى به من جاء بعده من الملوك، وكانت عادة الخلفاء
130
من بني أمية وبني العباس والفاطميين من لدن عمر بن الخطاب أن تجبى أموال الخراج، ثم تفرق من الديوان في الأمراء والعمال والأجناد، ويقال لذلك في صدر الإسلام العطاء، وغير العجم هذه الرسوم، وأصبح من الأرض ما يوغره أصحابه؛ أي يدفعون عنه قدرا من المال مرة واحدة فيعفى من الخراج، أو يلجئونها، والإلجاء أن يلجأ صاحب الأرض إلى بعض الكبراء، فيسجل ضيعته باسمه تعززا به من عمال الخراج، حتى لا يجوروا عليه فتصبح الضيعة ملكا لذاك الكبير، وفي دولة السلاجقة كان يسمى صاحب ديوان الإنشاء أو كاتب السر الطغراوية، والطغراء هي الطرة بالفارسية، وكذلك الحال في بعض دول المشرق.
استفتى نور الدين الفقهاء في أخذ ما يحل له من المال، فأخذ ما أفتوه بحله ولم يتعده إلى غيره، وأسقط كل ما يدخل في شبهة الحرام، فما أبقى سوى الجزية والخراج وما يحصل من قسمة الغلات، وكتب أكثر من منشور بذلك، وأطلق في بلاده المظالم؛ أي القرى التي استصفاها بعضهم بالعنف من أربابها، وأسقط من دواوينه عن المسافرين الضرائب والمكوس، وحرمها على كل متطاول، وأقطع أمراء العرب لئلا يتعرضوا للحاج، وجدد قنى السبل ووقف الكتب الكثيرة، وأجرى على العلماء والقراء، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف فيما يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، وكان يبعث بما يصل إليه من الهدايا، وغيرها إلى القاضي يبيعه ويعمر به المساجد المهجورة ولا يتناول منه شيئا، ووقف الوقوف الكثيرة بعشرات الألوف من الدنانير على المدارس والجوامع، وعمارة الطرق والجسور، ودور المرضى والبائسين والخانات، وإقامة الأبراج والقلاع ومكاتب الأيتام.
هذه زبدة ما قاله ابن الأثير في سيرة نور الدين، ومما قال: قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا - أي في القرن السادس - فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه. وكان نور الدين أول من بنى دار العدل بدمشق، ثم بنى مثلها في مصر، وجلس فيها الملوك منذ عهد صلاح الدين.
أما صلاح الدين فقد سار بسيرة نور الدين، سامح بمئات الألوف من الدنانير، وأعطى عطاء من لا يخاف الفقر ، وأجرى كل سنة مبلغا لا يقل عن مائتي ألف دينار على أرباب العمائم في دولته، وكان يضن كل الضنانة برجاله، أسر قاضيه الهكاري فافتداه بمبلغ جسيم، وكان يصل كاتبه ووزيره ومشاوره القاضي الفاضل بالألوف، ويضن على أهله وأولاده، والقاضي الفاضل في الحروب الصليبية يشبه بدهائه وإخلاصه وعلمه أكبر ساسة الغرب في عهد نهضته الأخيرة، وهو الذي منع صلاح الدين عن الحج لما أراده، وقال له: إن رفع المظالم من البلاد، والقعود للإفرنج بالمرصاد، على حين تقطر السيوف دما، أفضل من حجك فأطاعه.
كان صلاح الدين يجلس في كل يوم اثنين، وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير أو صغير وعجوز وهرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا، على أنه كان في جميع زمانه قابلا لما يعرض عليه من القصص، وفي كل يوم يفتح باب العدل، وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل وإما في النهار ويوقع على كل قصة، ولم يرد قاصدا أبدا، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قصته وكشف ظلامته، واقتصر في جباياته على الخراج والعشور على الزراع مما أباحه الشرع. هكذا فعل في مصر لما قضى على دولة الفاطميين، وكانت المكوس فيها فاحشة فأسقطها، وأنواعها كثيرة جدا فألغاها، ورجع إلى الزكوات المشروعة والخراج عن الأرض، وكان قبل الفاطميين أيضا مكوس وضعها أمراء السوء، فأبطلت كلها في الدولة الصلاحية، ثم كانت بعض تلك الرسوم والمكوس تعاد إلى سابق حالها، ومنها الشائن كالمكس على المغنيات والفاحشات، وتصدر بالبواقي مساميح أيام العقلاء من الملوك في الدول المختلفة.
هذه بعض سيرة صلاح الدين في مصر وفي الشام، وكذلك كان أخوه أبو بكر بن أيوب سار على طريقته، وأبطل كثيرا من المظالم والمكوس، وطهر بلاده من الفواحش والخمور والقمار، بيد أنه حدث في عهد بعض أولاده صلاح الدين ما أوجب نقد المؤرخين لهم، قال المقريزي:
131
وفي أيام الملك العزيز عدمت في مصر الأرزاق من جانب الديوان، وتعذرت وجوه المال حتى عم المرتزقة الحرمان، واستبيح ما كان محظورا من فتح أبواب التأويلات، وأخذ ما بأيدي الناس بالمصادرات، وصار الإنفاق في السماط السلطاني من هذه الوجوه، قال: وضمن العنب بعصر الخمور، وحمل من ضمانه شيء إلى العزيز فصنع به آلات الشرب، ووقف الحال فيما ينفق في دار السلطان، وفيما يصرف إلى عياله، وفيما يقتات به أولاده، وأفضى الأمر إلى أن يؤخذ من الأسواق ما لا يوزن له ثمن وما يغصب من أربابه، وأفضى هذا إلى غلاء أسعار المأكولات، فإن المتعيشين أرباب الدكاكين يزيدون في الأسعار العامة بقدر ما يؤخذ منهم للسلطان، فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة وضمن المزر والخمر باثني عشر ألف دينار، وفسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت، ولم يقدر أحد على إنكار ذلك، وصار ما يؤخذ من هذا السحت ينفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه، وصار مال الثغور والجوالي إلى من لا يبالي من أين أخذ المال.
وما كان مثل هذا الإسفاف يقع في عهد صلاح الدين الذي ملأ بلاده بأعمال الخير في مصر والشام، وأغدق هباته على الطراء والتناء،
132
وأدر الأرزاق والمشاهرات على المدرسين والدارسين، وعلى الفقراء والصالحين، وعلى الحجاج والمجاورين، وما كان يطعم إلا المال الحلال، ولا يجوز غير ما جوزه الشرع من الأموال. قال السيوطي:
133
فلقد كان إماما عادلا وسلطانا كاملا، لم يل مصر بعد الصحابة مثله لا قبله ولا بعده. وقال ابن خلكان:
134 «ولقد فكرت في نفسي في أمور هذا الرجل (صلاح الدين)، وقلت: إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في هذه الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها، ورتب هذه الأوقاف العظيمة، وليس له فيها شيء منسوب إليه في الظاهر.» قال صلاح الدين لأحد خاصته وقد استعداه على جمال: ما عسى أن أصنع لك وللمسلمين قاض يحكم بينهم، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة، وأوامره ونواهيه ممتثلة، وإنما أنا عبد الشرع وشحنته، فالحق يقضي لك أو عليك.
135
رأى نور الدين وصلاح الدين أن بلادهما كادت تخلو من علماء ممتازين ، فأخذا يستدعيان العلماء من البلاد الإسلامية الأخرى، وكلما سمعا بعالم كبير زينا له نزول بلادهما، وعمرا له المدارس، وحققا له جميع رغائبه ومطالبه، وهما يريان في ذلك منة له عليهما؛ ولذلك كثر العلماء والشعراء في عهديهما، وكان منهم المجود والفهامة. وكان نور الدين متبحرا في الشرع وألف كتابا في الجهاد، وصلاح الدين لكثرة ما خالط العلماء وأخذ عنهم كان في مجالسه وحديثه كأنه من كبار الفقهاء، يضرب في كل علم من علوم الدين بالسهم الصائب، وهو متفرد في معرفة وقائع الأمم وسير الليالي.
إدارة المماليك
انتظمت دولة المماليك في بعض أدوار العظماء من ملوكها في مصر والشام، وكان أكثرهم مع الشرع لا يقطع أمرا بغير رأي الفقهاء؛ فالظاهر بيبرس أولهم لم يرض أن يأخذ مالا غير المقرر من بلاده؛ ليحارب التتر إلا لما أخذ خطوط العلماء جميعهم، وأراد أن يقرر القطيعة
136
على البساتين بدمشق، واحتاط عليها وعلى الأملاك والقرى، فنهاه القاضي قائلا هذا ما يحل،
137
ولا يجوز لأحد أن يتحدث فيه وقام مغضبا. ولما جاء السلطان مصر أحضر العلماء، وأخرج فتاوى الحنفية باستحقاقها بحكم أن دمشق فتحها عمر بن الخطاب عنوة، ثم قال من كان معه كتاب عتيق أجريناه عليه، وإلا فنحن فتحنا هذه البلاد بسيوفنا، ثم قرر عليهم ما أراد وما سامح به، وتوسع الظاهر في كل شيء، في البناء والنفقة والجيش، قالوا : وكانت العساكر في الديار المصرية في أيام غيره عشرة آلاف فارس فضاعفها أربعة أضعاف، وكانت الملوك قبله مقتصدين في النفقات والعدد وعسكره بالضد من ذلك، وكانت كلف المطبخ الصالحي النجمي ألف رطل لحم بالمصري كل يوم فضاعفها عشر مرات.
كان جند
138
المماليك مختلطا من الأتراك والشركس والروم والأكراد والتركمان، وغالبهم من المماليك المبتاعين، ولا يقل الفرسان منهم في مصر وحدها عن خمسين ألفا، ولهم الإقطاعات الكثيرة والجرايات الدارة، والجيوش على قسمين، منهم من هو بحضرة السلطان، ومنهم من هو في أقطار المملكة وبلادها. وسكان بادية كالعرب والتركمان، والمماليك طبقتان:
139
المماليك السلطانية، وهم أعظم الأجناد شأنا، ومنهم يؤمر الأمراء رتبة بعد رتبة، وهم في العدة بحسب ما يؤثره السلطان من الكثرة والقلة، والطبقة الثانية أجناد الحلقة، وهم عدد جم وخلق كثير، وأجناد الحلقة هم القائمون أبدا بسلاحهم يشبهون الحامية، ولكاتب الجيش جريدة بأسماء الأجناد وإقطاعاتهم وخيولهم، ولهم نقباء يعرفون أحوال الأجناد من الحياة والموت والغيبة والحضور.
وفتح أحد ملوكهم باب قبول البدل في الإقطاعات والوظائف، وجعل لذلك ديوانا؛ وذلك لأنه كان متطلعا إلى جمع المال، وألزم ديوان الجيش الفلاحين بالفلاحة في الإقطاعات، ومن نزح من دون ثلاث سنين يعاد إلى قريته قهرا، فخربت البلاد وكثرت المظالم والمغارم. وكان من ملوكهم من يستكثر لضعفه من الأنصار، ويتسلط على عقول السذج من العربان وأرباب الدعارة، والمماليك يتفننون في أخذ أموال الناس وهتك حرمهم. وحدث بعد الناصر قلاوون بين أجناد الحلقة نزول الواحد منهم عن إقطاعه لآخر بمال أو مقايضة الإقطاعات بغيرها، فكثر الدخيل في الأجناد بذلك، واشترت السوقة والأراذل الإقطاعات حتى صار أكثر أجناد الحلقة أصحاب حرف وصناعات، وخربت بهم أرض إقطاعاتهم.
كان الرسم في دولتي المماليك أن تقبل الأرض بين يدي الملك، كأن يحاول الملك الذي كان مملوكا أن يملك الأحرار، بإذلال الكبير والصغير من رعيته. ويرى الباحث في عهد المماليك ألوانا من الأحكام والقانون وعمرانا من جهة، وخرابا من أخرى، وقل أن جاء منهم رجل لم يطلق المال لإقامة المصانع والمعاهد في بلاده، وإذا رأيناهم من جهة يأخذون من الناس أموالا في الشدائد، فقد رأينا منهم ملوكا يبطلون كثيرا من المكوس والمظالم ينادون في الجوامع برفعها، وينقشون المرسوم العالي في رخام أو على سواري المساجد، ويلعنون فيها من يعود إلى تجديدها.
ولقد أصبحت أحكام مجالس المظالم في دولتهم أحكاما سياسية؛ أي إنها لا تتقيد بالشريعة فقط، فالأحكام عندهم على قسمين: حكم الشرع وحكم السياسة، وحكم الشرع معلوم، وحكم السياسة القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال، ويرى المقريزي أنها قواعد ورثوها عما سنه لهم جنكيز خان، وكان هذا لا يدين بدين ويحكم العقل في دولته، ففوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الشرعية، ورجعوا إلى عادات جنكيز والاقتداء بقانونه، فنصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عقائدهم، وجعلوا إليه النظر في قضايا الدواوين السلطانية، وكانت من أجل القواعد وأفضلها حتى تحكم القبط في الأموال وخراج الأرضين، فشرعوا في الديوان ما صار لهم به سبيل إلى أكل الأموال بغير حقها.
قال «هذا وستر الحياء يومئذ مسدل، وظل العدل ضاف، وجناب الشريعة محترم، وناموس الحشمة مهيب، فلا يكاد أحد يزيغ عن الحق، ولا يخرج عن قضية الحياء، إن لم يكن له وازع من دين كان له ناه من عقل، ثم تقلص ظل العدل وسفرت أوجه الفجور، وكشر الجور عن أنيابه، وقلت المبالاة، وذهب الحياء والحشمة من الناس، حتى فعل من شاء ما يشاء، وتعدت - منذ عهد المحن التي كانت في سنة ست وثمانمائة - الحجاب وهتكوا الحرمة، وتحكموا بالجور تحكما خفي فيه نور الهدى وتسلطوا على الناس ...»
كانت وظيفة الوزارة أجل رتب أرباب الأقلام؛ لأن متوليها تالي السلطان، وقدم المماليك رتبة النيابة على الوزارة، وولي الوزارة أناس من أرباب السيوف، وأناس من أرباب الأقلام، فصار الوزير إذا كان من أرباب الأقلام يطلق عليه اسم الصاحب، ويقال لوزير الدولة ناظر النظار أو ناظر المال، وتلي رتبته رتبة الوزارة، والوزير ينظر في المكوس وبعض الدواوين ومصارف المطبخ السلطاني والسواقي، وإليه يرجع ناظر الدولة وشاد الدواوين ، وناظر بيت المال، وناظر الأهراء ومستوفي الدولة، وناظر الجهات، وموضوع شد الدواوين أن يكون صاحبها رفيقا للوزير، متحدثا في استخلاص الأموال، وأهم جميع هذه الوظائف «النيابة»، ويعبر عن صاحبها بالنائب الكافل، وكافل الممالك الإسلامية، وصاحبها يحكم في كل ما يحكم فيه السلطان، ويعلم في التقاليد والتواقيع والمناشير، وسائر النواب لا يعلم الرجل منهم إلا على ما يتعلق بخاصة نيابته، والنائب يستخدم الجند من غير مشاورة السلطان، ويعين أرباب الوظائف الجليلة كالوزارة وكتابة السر، وهو سلطان مختصر بل هو السلطان الثاني. وهناك وظيفة نائب الغيبة، وهو الذي يتولى الأمر إذا غاب السلطان والنائب الكافل. وأحدثوا في عهد محمد بن قلاوون وظيفة ناظر الخاص ولم تكن تعرف
140
أولا، وهي أشبه بناظر الخاصة يتولى خصوصيات الملك ويدبر أموره، وفي أيام قلاوون أحدثت وظيفة كتابة السر، وكانت هذه الوظيفة قديما في ضمن الوزارة، والوزير هو المتصرف في الديوان وتحت يده جماعة من الكتاب، وفيهم رجل كبير يسمى صاحب ديوان الإنشاء، وصاحب ديوان الرسائل، وذكر ابن خلدون أن أهل هذه الرتبة العالية - أي الوزارة - استنكفوا في دولة الترك بمصر عن اسم الوزارة، وصار صاحب الأحكام والنظر في الجند يسمى عندهم بالنائب، وبقي اسم الحاجب على مدلوله، واختص اسم الوزير عندهم بالنظر في الجباية.
والولاة هم أصحاب الشرطة، وكان والي مصر أو ملكها منذ عهد ابن طولون يجلس للنظر في المظالم، وإذا ضعفت قوة الدولة يجري نقل الولاة والنواب في الأقاليم بسرعة، حتى قال ابن الوردي منكرا هذه الطريقة في التبديل وناعيا على الدولة أثرها في إضعاف البلاد:
هذي أمور عظام
من بعضها القلب ذائب
ما بال قطر يليه
في كل شهرين نائب
كان أرباب الوظائف من الأمراء بعد النيابة والوزارة أمير السلاح والدوادار والحجبة وأمير جاندار والاستادار والمهمندار ونقيب جيوش الولاة. وأمير السلاح
141
هو المتولي أرباب السلاح وحمل سلاح السلطان في المجامع العامة، والدوادار مبلغ الرسائل عن السلطان والقصص المقدمة إليه، وربما أخرج المراسيم السلطانية بغير مشاورة كما يخرج نائب السلطنة، ورتبة الحجبة قد تكون جليلة في بعض الأدوار، وكانت تلي رتبة نيابة السلطنة، ويقال لأكبر الحجبة حاجب الحجاب، وموضوع الحجبة أن متوليها ينصف من الأمراء والجند تارة بنفسه، وتارة بمشاورة السلطان، وطورا بمشاورة النائب، وكان إليه تقديم من يعرض ومن يرد وعرض الجند، فإن لم يكن نائب السلطنة فإنه هو المشار إليه في الباب، والقائم مقام النواب في كثير من الأمور، ولا يتعدى حكمه النظر في مخاصمات الأجناد واختلافهم في أمور الإقطاعات ونحو ذلك، وأمير جاندار يتسلم باب السلطان ويقدم البريد مع الدوادار وكاتب السر، والاستادار إليه أمر البيوت السلطانية والمطابخ والشراب خانات والحاشية والغلمان، والمهمندار هو الذي يتلقى رسائل الواردين وأمراء العربان وغيرهم ممن يرد من أهل المملكة وغيرها، يخاطب نقيب الجيوش إذا طلب السلطان أو النائب أو حاجب الحجاب أميرا، أو جنديا فيرسل إليه، ثم انحطت رتبته فصار محصورا في ترويع الخلق وأخذ أموالهم، وأصبح من أدوات الشر في البلاد.
طرأت في آخر دولتهم تغيرات على نظام الدولة وأوضاعها، وأصبحت عدة مباشري
142
الدولة نيفا وثلاثمائة مباشر ولها مقدم وتحت يده رسل وأعوان، كانت نفقتهم في أيام برقوق خمسين ألف دينار، وكان معلوم الوزير في الشهر مائتين وخمسين دينارا حبشية مع أرزاق من مأكول وعلوفة تبلغ نظير المعلوم، ثم ما دون ذلك من المعلوم لمن عدا الوزير وما دون دونه. وكان معلوم القضاة والعلماء أكثر من خمسين دينارا في كل شهر مضافا إلى ما بأيديهم من المدارس التي يستدرون أوقافها، وبرز المرسوم
143
العالي في بعض السنين بأن كل من انقطع عن وظيفته من الفقهاء والمدرسين والمؤذنين وأرباب وظائف الدين وغمز عليه يستأهل ما يجري عليه؛ أي إن وظائف الدين كانت فعلية قلما يسوغ أوقافها إلا من يقوم بالفعل بعمله، وأصبحت المدارس والجوامع الموقوف عليها في أواخر عهدهم متعددة الوجوه، وتتألف من ريعها موازنة كبيرة تعتاش بها خلائق؛ بل هي قوة من قوى الدولة تستخدمها على الأكثر فيما ينفع الناس، ويربط بها السلطان أو الأمير العلماء بنفسه حتى لا يشاكسوه فيما يراه مصلحة لدولته ، فإذا جسروا على مخالفته عاقبهم بحرمانهم إدراراتها.
وكثرت الدواوين آخر دولة المماليك، وكان أهمها ديوان الإنشاء، ويقال لناظر الإنشاء كاتب السر وكاتم السر. ومن الدواوين ديوان الجيوش، وديوان الخزانة الشريفة، وديوان المستأجرات والحمايات، وديوان الأحباس - الأوقاف - وديوان الإشراف، وديوان الذخيرة، وديوان المرتجع، وديوان الاستيفاء، وديوان الزكاة، وديوان العمائر، وله علاقة بالمهندسين وأرباب العمائر ويتكلم صاحبها في العمائر السلطانية مما يختار السلطان إحداثه وتجديده من القصور والمنازل والأسوار، ولكل ديوان ناظر ومباشرون.
ويطول المقال إذا أحببنا أن نعرض لتراتيب كل قطر من الأقطار الإسلامية على عهد المماليك؛ فقد كان من مصطلح الدولة اليمانية مثلا أن يكون لها نائب ووزير وحاجب، وكاتب سر وكاتب جيش، وديوان مال، ووظائف الشاد والولاية يتشبهون بالديار المصرية في أكثر أحوالهم،
144
وكتاب الإنشاء لا يجمعهم رئيس يرأسهم يقرأ ما يرد على السلطان ويجاوب عنه، ويتلقى المراسيم وينفذها، وإنما السلطان إذا دعت حاجته إلى كتابة كتب بعث إلى كل منهم ما يكتبه، فإذا كتب السلطان ما رسم له به بعثه على يد أحد الخصيان فقدمه إليه فيعلم فيه وينفذه، وصاحب اليمن قليل التصدي لإقامة رسوم المواكب والخدمة والاجتماع بولاة الأمور ببابه، فإذا احتاج أحد من أمرائه وجنده إلى مراجعته في أمر كتب إليه قصة يستأمره فيها فيكتب عليها بخطه ما يراه، وكذلك إذا رفعت إليه قصص المظالم، هو الذي يكتب عليها بخطه بما فيه إنصاف المظلوم، وكان شعار سلطان اليمن وردة حمراء في أرض بيضاء أو أبيض فيه وردات حمر كثيرة.
وصف ابن فضل الله
145
إمام الزيدية في اليمن في زمانه، فقال: وهذا الإمام وكل من كان قبله على طريقة ما عدوها، وهي إمارة أعرابية لا كبر في صدورها ولا شمم في عرانينها، وهم على مسكة من التقوى وترد بشعار الزهد، يجلس في ندي قومه كواحد منهم، ويتحدث فيهم ويحكم بينهم سواء عنده المشروف والشريف والقوي والضعيف، وربما اشترى سلعته بيده، ومشى بها في أسواق بلده، لا يغلظ الحجاب، ولا يكل الأمور إلى الوزراء والحجاب، يأخذ من بيت المال قدر بلغته من غير توسع ولا تكثر غير مشبع، هكذا هو وكل من سلف قبله مع عدل شامل وفضل كامل. ا.ه. وقال أيضا فيهم: وأئمتهم لا يحجبون ولا يحتجبون، ولا يرون التفخيم والتعظيم، والإمام كواحد من شيعته في مأكله ومشربه وملبسه وقيامه وقعوده وركوبه ونزوله وعامة أموره، ويجلس ويجالس، ويعود المرضى ويصلي بالناس وعلى الجنائز، ويشيع الموتى ويحضر دفن بعضهم. قالوا: وهذا الإمام يعتقد في نفسه ويعتقد أشياعه فيه أنه إمام معصوم مفترض الطاعة.
هذه دولة الزيدية في الجبال، أما دولة اليمن في تهامة كالدولة الرسولية مثلا، فقد وصفها القلقشندي، فقال: إن أوقات ملوكها مقصورة على لذاتهم، والخلوة مع حظاياهم وخاصتهم من الندماء والمطربين، فلا يكاد السلطان يرى ولا يسمع أحد من أهل اليمن خبرا له على حقيقته، وأهل خاصته المقربون الخصيان، وله أرباب وظائف للوقوف على أموره، وهو ينحو في أموره منحى صاحب مصر يتسمع أخباره، ويحاول اقتفاء آثاره في أحواله وأوضاع دولته.
إدارة الترك العثمانيين
لما لم يعهد عثمان الأول مؤسس السلطنة العثمانية بولاية العهد لابنه البكر علاء الدين، وعهد بها إلى ابنه الثاني أورخان، تولى الأخ الأكبر أمور الدولة، وكان أول صدر أعظم فيها، ولقب بلقب «باشا»، ومن عادة الأتراك أن يطلقوا على بكر الأولاد «آغابك»،
146
وأطلقوا على علاء الدين «باش آغا»؛ أي رئيس الأخوة، وتفرغ
147
هذا الصدر الجديد لوضع أنظمة وقوانين للحكومة، فكان واضع أساس إدارتها، فخدم الدولة بأوضاعه خدمة حسنة، وكان والده
148
كلما استفاضت فتوحاته، يقسم البلاد المفتتحة إلى أفضية وألوية، فيتولى القضاء قاض، ويتولى اللواء عامل يدعى أمير اللواء، ويقسم الأرضين قسمين: قسما يجعلها إقطاعا للجند، وقسما يسميه الخاص، يستثمره أبناء الملك والوزراء والأمراء والرجال العظام، وما بقي من الأرض يدعونه الخاص الملكي يدفع ريعه لخزانة الدولة.
وقف الأتراك العثمانيون في حكومتهم مع حدود الشرع الإسلامي، واتخذوا قضاة يحكمون بين الناس، وأخذوا يعدلون ما وضعوا من قوانين الإدارة بحسب الزمن، ولما كان السلطان مصدر كل تقنين كسائر الحكومات الإسلامية السالفة، كان الوزير يعرض رأيه على الملك فإما أن يقبله، وإما أن ينفيه.
وكان للسلطان وزير واحد في أول الأمر، ثم صار للدولة رئيس وزراء، ثم وزيران وثلاثة وأربعة وخمسة. والصدر أو رئيس الوزراء، هو نائب السلطان ينظر في أمور الدولة، وهناك طبقات «الآغوات»، وهم قواد الجيوش. ومدار الدولة على أقطاب أربعة: الصدر الأعظم وقاضي العسكر، «والدفتردار»؛ أي صاحب السجل وهو وزير المال، «والنشانجي»؛ أي رئيس الرماة وهو وزير الحربية. ويجتمع وزراء السلطنة في الديوان السلطاني تحت قبة لهم، ولذلك دعوا بوزراء القبة، والصدر الأعظم ينظر في مصالح الناس في داره ويطلقون عليه «باب الباشا» أو «باب الوزير»، ثم أطلق عليه «الباب العالي»، وبعد زمن أخذوا يطلقون اسم «الباب العالي» على مجموعة دواوين الدولة أو الوزارات، وفي عهد الفاتح أنشأوا يطلقون على المتصرف اسم «بك اللواء»، وعلى الوالي «بك البكوات» «بكلربكي»، وأصبح أهل الزعامة والمقاطعات تحت إدارة المتصرفين والولاة، وقسم الروم إيلي على عهد الفاتح إلى 36 لواء والأناضول مثله،
149
وكانت وارادات الدولة مائة وعشرين مليون دوكا ذهبا. قال ابن بطوطة
150
وقد زار آسيا الصغرى على عهد أورخان: إن هذا السلطان أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا، وله من الحصون ما يقارب مائة حصن، وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها، ويقيم بكل حصن منها أياما لإصلاح شئونه وتفقد حاله، ويقال: إنه لم يقم قط شهرا كاملا ببلد ويقاتل الكفار ويحاصرهم.
عاشت إمارة بني عثمان إلى ما بعد أورخان ثاني ملوكها في حالة أشبه بالبداوة، لا يأوي سادتها إلى غير المضارب والخيام،
151
ولما فتح ثالث ملوكهم مدينة أدرنة ونقل إليها عاصمته من بروسا؛ أي انتقل من آسيا إلى أوروبا ظلت الأخلاق البدوية مستحكمة في أخلاق الأتراك، وتكاد تكون أوضاع حكومتهم على حالة ابتدائية، وكان رابعهم ييلديرم بايزيد يجلس بكرة النهار
152
في براح متسع، ويقف الناس على البعد منه وهو يراهم، فينظر في ظلاماتهم، ويقضي بينهم فيما هم فيه مختلفون في الحال، وما كان يمكن أحد من التعرض لمال أحد من الرعية حيا ولا ميتا، وإن مات ولا وارث له يودع ماله عند القاضي، وكل من غزا معه لا يعرض لشيء مما يحصل بيده، وكان الأمن فاشيا في بلاده حتى ليمر الرجل بالجمل مطروحا بالبضاعة فلا يتعرض له أحد، وينام الناس
153
مفتحة أبوابهم لا يسطو عليهم لص، ولا يريد أحد بأحد سوءا. قال المقريزي: «وكان يشترط على كل من يخدم بايزيد ألا يكذب ولا يخون، ولكنه يصنع من الشهوات ما أراد، وكان الزنا واللواط وشرب الخمر والحشيش فاشيا في بلادهم يتظاهرون به.» وفي أيام بايزيد وضع الخراج على الأرضين والعقارات.
كان جيش السلطان العثماني مؤلفا من مماليك يشبه جند مصر والشام على عهد دولتي المماليك البرجية والبحرية، فأبدع قره خليل جاندارلي
154
وزير السلطان أورخان تأليف جيش الإنكشارية، وسنت الدولة نظام اللقطاء (دوشرمة) القاضي بأن يؤخذ بعض أولاد النصارى، ويعنى بتربيتهم وتهذيبهم تهذيبا إسلاميا، حتى إذا بلغوا سن التجنيد يرسلون إلى الثكنات العسكرية في العاصمة، فكان تأليف هذا الجيش وضعا حديثا عظم به سلطان الدولة العثمانية، وبه تهيأت فتوحها؛ وذلك لأن الجيش الإنكشاري كان جيشا مدربا تحت الطلب، ليس لدولة من الدول جيش مثله، وكان عدده بادئ بدء ستة آلاف، وقيل ألف جندي، ثم كثر فبلغ مائة ألف وهو يقسم إلى كتائب، ويدرب أفراده في الولايات على الكر والفر، ويعيشون عيش الجند والغزاة، ويستخدم بعضهم في خدمة الولاة، أو في مزارع أرباب الإقطاعات، وفي حوانيت أرباب الصناعات، ويعيش الفرد منهم بمياومات ضئيلة، وهي «إقجه»
155
واحدة في اليوم، تزاد لمن ثبتت كفاءته في الحرب، وتصرف لهم مرة في كل ثلاثة أشهر بأبهة وطنطنة، وتوزع الإقطاعات على المبرزين من ضباطهم وقوادهم يعيشون بها زمن السلم، وإذا أعلنت الحرب يجهزون أنفسهم على نفقتهم الخاصة. وأغلب الإنكشارية في الولايات فرسان، وفي العاصمة مشاة، وبلغ هذا الجيش أوج ارتقائه على عهد سليمان القانوني، وكان من سياسته أن يشغله أبدا بالحرب؛ لتعذر إطلاق رزقه
156
وعطائه أيام السلم باطراد، وما زال جيش الإنكشارية نافعا في الفتوح حتى دخل فيه على عهد مراد الثالث الرقاصون والمصارعون، وقيل: إنه فسد بدخول المسلمين واليهود والنور - الغجر - فأنشأوا يعصون أوامر قوادهم ويعيشون بالنهب والسرقة.
كانت واردات السلطنة تجبى من الجزية والخراج والأملاك السلطانية، ودخل الجمارك والملاحات وأموال الغنائم، أو التكاليف الشرعية والتكاليف العرفية، وهي كثيرة جدا، والإتاوات أو خراج الممالك نصف المستقلة. ووضع محمد
157
الثاني أساس النظام المالي وتعاوره التنظيم والإصلاح على عهد سليم الأول، وسليمان الأول، وأحمد الأول، فكانت حالة المالية حسنة في الجملة، وقد وصفها أحد قناصل البندقية في الآستانة سنة 1573م، فقال: إن لوزارة المالية نظاما منظما في الحسبانات، تضع في آخر كل سنة ميزانا للنفقات والارتفاعات. وبعد قرن من الزمن، قال سياسي آخر: إن النظام في وضع المالية قد حسن وضعه وصنعه في تركيا، من حيث سجلاته وانتظامه حتى لتجد فيه كل دولة ما تتعلمه، وذلك بقطع النظر عن شيء من سوء الاستعمال يتسرب إليه، وكانت سلطة الدفتردار فوق سلطة الوزير الأعظم؛ فقد يرد ما أمر به هذا إن كان أمره غير قانوني. وفي مبتدأ النصف الأول من القرن الثامن عشر بدأ تغير عظيم في إدارة المالية؛ وذلك بدخول طريقة الإقطاعات فبطلت «المركزية»، وقسمت إدارة المال إلى قسمين: الأناضول والروم إيلي، وأصبحت كل دائرة تدير شئون إدارتها على ما تريد، فانقسمت الأغراض وتجزأت السلطة المالية، وأخذ الإنكشارية يدبرون أعظم مناصب المالية ويتولون الولايات، ويحولون الجزء المهم من أموال الدولة إلى ضامنهم، وكثر العجز في موازنة الدولة أوائل القرن التاسع عشر، ويروى أن مجلس الوزراء كان مرة منعقدا ينظر في إصلاح المالية، فقال الصدر لوزير المالية: إن إصلاح مالية الدولة العثمانية لا يتم إلا بإلقاء نفط على وزارتكم العالية لتحرق بموظفيها وسجلاتها وبناياتها، وبالطبع يكون حضرة وزير المالية خارجها، ثم نعود فنبدأ بوضع جديد في المالية، وهذا كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
قلنا: إن التكاليف العرفية كانت كثيرة جدا، وقد أتى زمن بلغت فيه سبعا وتسعين ضريبة ورسما، حتى إن سليم الأول لما فتح الشام وضع مكوسا على الأحكام الشرعية فتعطلت الحدود، وضرب على المواخير والحانات والمومسات
158
رسوما يخجل ذكرها، وصادر تجار حلب وسمى ما أخذه منهم مال الأمان، والأنكى أنه ما كان يحمل إلى خزانة الدولة إلا بعض هذه المغارم، والقسم الآخر يستسيغه الظلمة من العمال، وقد يضيق السلطان فيطالب الرعية بعوارض سنتين أو ثلاث مقدما، والمصادرات والغرامات والإتاوات على الغرباء، وخمس الغنائم هي جماع أموال السلطان، وجاء يوم والسلطان العثماني أغنى ملك في عصره، على ما كان أقوى ملك بجيشه وجنده، وقدر دخله السنوي باثني عشر مليون دوكا،
159
وكان دخل شارلكان أعظم ملوك الغرب لذلك العهد ستة ملايين دوكا. وبعد المائة العاشرة من الهجرة أصبح من الموارد المهمة للدولة ما يصادر من أموال الوزراء والأمراء وغيرهم.
وقلت الموارد من الغنائم في العصور الأخيرة وكثرت الحروب، ولما نضب ما في خزائن الدولة وجيوب الرعايا حاولت الدولة منذ سنة 1808م أن تقترض مالا من أوروبا، وفاوضت الماليين والسياسيين فلم توفق إلى تحقيق أمنيتها إلا في حرب القرم؛ أي في سنة 1854م، وقد أدخلت الدولة في عداد الدول الأوربية، فأخذت تقترض بالفائدة الفاحشة، ولما أعلنت الدولة إفلاسها بعجزها عن تأدية النجوم المستحقة من رأس المال ورباه، ترك أرباب الديون لها خمسة وثمانين مليون ليرة عثمانية، وسرعان ما نسيت الدولة معرة إفلاسها فعادت إلى ما كانت عليه من الإسراف، وعلى ملوكها تحمل أكبر تبعة، وكان عبد الحميد الثاني يمزج حاجاته الخاصة باحتياجات المملكة ويبالغ في الإنفاق، إلا أنه يحاول ألا يستدين من الغرب ما أمكن.
والواقع أن الإسراف بعد محمد الفاتح أصبح محسوسا في جميع الطبقات التركية، واستلزمت الحياة الجديدة التي دخل الأتراك في طورها إنفاقا وبذخا، وكثر التشبه بالكبراء وأرباب النعم والرفاهية، فبدأت الرشوة تفشو حتى أصبحت مما لا يكاد ينكر على من يأخذها في العصور المقبلة، يسف إليها الصدور العظام كما يتناولها أصغر موظف في الدولة. وكثرت المصادرات لأقل سبب، فأنشأ من يملكون النقدين، الذهب والفضة، يدفنون في بطون الأرض ومخابئ الأبنية ما يخشون عليه المصادرة، ويخفون أمره حتى عن عيالهم، وقلما كان يظهر أحد بمظهر نعمة وسعة إلا وتختلق الأسباب لمصادرته - سواء أكان تاجرا أم مزارعا - وكان أكثر ما يصاب بالمصادرات الأروام واليهود لاشتغالهم بالصرافة والربا، أما مصادرة الوزراء وغيرهم فكانت العلاج الوحيد لهم، إن كان ينجع في الفاسد علاج، فقد صودر أحد آغوات البنات (قيزلر آغاسي) في سراي عثمان الثاني على مليونين ونصف مليون ليرة عثمانية، وخلف «جنجي خوجه» خمسين مليون قرش ذهبا، كان جمعها في خمس سنين من الرشاوى والهدايا والإنعامات، وأمثال هذين الرجلين عشرات في كل دور من أدوار السلطنة العثمانية «فأشبه الأتراك
160
الرومان في الإكثار من المصادرات، وكان الرومان يقتلون الناس لهذا الغرض ، وكثر القتل في بعض أدوارهم ففقدت الثروة في رومية، وكذلك فعل رجال الدولة العثمانية قديما، كانوا يهلكون الناس ليصادروهم، وكان ذلك من الدواعي إلى الاستكثار من الوقوف والأحباس لتخوف الكبراء على ثروتهم، وربما عد ذلك من العوامل في فقر البلاد العثمانية.»
يقول جودت:
161
إن أسلاف السلاطين العثمانيين العظام كانوا يخرجون مع عساكرهم زمن الحرب إلى أكثر الغزوات، فإذا عادوا إلى مقر السلطنة لا يمكثون فيه مدة طويلة، فينصبون أحد الوزراء قائم مقام على الآستانة، ويحيلون وظيفة ضبط البلدة إلى ناظر «الضبطية»، وهو آغا الإنكشارية الثاني، ثم ينقلبون مع رجال الدولة والعلماء والوزراء ومستشاري السلطنة وبطانتها إلى أرجاء أدرنة وينيشهر يتجولون فيها، ويقضون أوقاتهم تارة في الصيد والقنص، وهما من التمارين الحربية، ويتوفرون آونة على معاناة الأعمال العسكرية كرمي الأهداف بالرصاص والسهام، فكان أركان السلطنة وسائر عمالها بمثابة قوة سيارة خفيفة المئونة في أيام السلم، يشبهون القبائل الرحالة، لا أرب لهم في الرفاهية ودواعيها، والرفاهية تستدعي النفقات الطائلة، فلذلك كانت إدراراتهم تزيد على نفقاتهم.
قال: ومما يروى أن أحمد باشا صهر رستم باشا تقلد منصب الوزير الرابع في حرب سكتوار، ثم أسندت إليه الصدارة العظمى، ولما تقلد الوزارة أول مرة لم يكن يملك من ألبسة الأبهة غير فروتين، يتجمل بإحداهما في الديوان، ويلبس الثانية في بيته، مع أنه كان يملك خمسمائة مملوك بالعدة الكاملة، وكان جماع الوزراء على هذا المنوال، وفي ضياع كل واحد منهم مائة قطار من البغار ومائة من الجمال، فإذا سار أحدهم إلى وجه يستغني عن شراء جمل أو حصان، وتتيسر له أسباب الرحلة في ثلاثة أيام. ثم انتقلت الدولة من البداوة إلى الحضارة، وأصبح الملوك يقيمون في دار الخلافة حتى اطمأنوا إلى الراحة، واقتدى بهم في هذا الشأن رجال الدولة، فعمروا القصور الشامخة والمباني العظيمة في الآستانة، وجملوها بأنواع الزينة والزخارف والأثاث الثمين، فسرى داء التقليد إلى العامة، وزادت نفقات أرباب المناصب والعمال زيادة فاحشة عن مشاهراتهم، فاضطروا إلى تناول الرشوة، وغدا أرباب الإقطاعات والزعامات يلزمون أرضهم بأجور باهظة، ويتقاضى الملتزمون الفقراء من الناس ما لا طاقة لهم بتحمله من المظالم والمغارم، ليتأثلوا ما يسد نهمتهم وتربح به تجارتهم، مما أهاب بمعظم الأهلين إلى الهجرة من أوطانهم، وارتحل الرعايا وأهل الذمة منهم إلى الديار الأجنبية، ونزل كثير من الناس عاصمة الملك واستوطنوها، وتكاثروا فيها حتى غصت بهم وضاقت على اتساعها، وكثر انتشار الحريق، وفسد الهواء بكثرة الزحام وانتشرت الأمراض والعلل الوافدة، وعزت المؤن والغلات، فأكرهت الحكومة على ابتياعها واشتط الباعة في أسعارها، فكان ذلك داعيا إلى خراب البلاد. ا.ه.
ومهما قيل في وضع أنظمة للدولة في فجر حياتها، فإن قوانينها كانت على حالة ابتدائية ساذجة مستوحاة من حياة أشبه ببدوية ساذجة، وهذه القوانين كثرت بعد ذلك، ثم تعقدت بطول الزمن. وضع محمد الفاتح قانونا للروم لما قضى على آخر سلاطينهم في القسطنطينية، رأوا فيه
162
فرقا كبيرا بين ما كانوا يعاملون به، وما أحسن به معاملتهم، فارتاحوا من مشاكلهم واختلافاتهم القديمة، وغض أخلافه من السلاطين الطرف عن بطريرك الروم، فكان بما خوله من الحقوق أشبه بحكومة وسط حكومة، وظل وجماعته ممتعين بخير حال نحو خمسمائة سنة، وهم مستقلون بالفعل ولا يتقاضاهم استقلالهم جندا ولا مالا،
163
كل هذا أصابهم من فضل الفاتح وتسامحه وتسامح أبنائه وأحفاده، وفي عهده بدأ الجبايات والمكوس والجمارك تعطى بصورة تلزيم مقابل مبلغ معين، كان الالتزام لسنة واحدة أولا، ثم صار الالتزام مدى الحياة، يستأجر المسلمون الأرض وغيرها، والنصارى تحت أيديهم يعملون فيربحون ثمراتها.
لما فتح العثمانيون بلاد العرب وألقوا بمقاليد إدارتها إلى أيدي المتغلبين من أهلها مقابل إتاوة تؤدى كل عام في دار الملك، تركوا الإدارة في مصر والشام للمماليك أو المتغلبة من أمراء البر، فنهجوا بها النهج الذي نهجته الدولة قبلهم، تقطع الدولة الأقاليم الواسعة بمال تستوفيه كل سنة من المتغلبين وأرباب العصبيات، أو تضع الولايات في المزاد فيقلدها من رسا عليهم ضمان الولاية، وتعهد بمال أكثر من غيره، واكتفت الدولة بإرسال وال إلى الشام، وآخر إلى مصر لمدة سنة على الأكثر ، ولا يتولى ولاية مصر وهي أهم ولايات السلطنة
164
إلا «باشاوات»، يؤدون إلى رجال الدولة إتاوة كبيرة من المال تختلف بين أربعمائة إلى خمسمائة ألف ريال، وتتجدد ولايته سنة أخرى بإرسال هدايا إلى العاصمة، تربى على مائة ألف ريال مشفوعة بالخراج السنوي وقدره ستمائة ألف ريال، وهدايا من السكر والبن والأرز والشراب والحلواء والغلال، مما لا تقل قيمته عن ستمائة ألف ريال، وهذا عدا نفقات قافلة الحج المصري ونفقات الجنود في مصر، وفي مقابل هذه النفقات يتصرف الوالي في الدخل، ويحصل منه كل سنة بعد وفاء نفقات الجند أكثر من عشرين مليون فرنك، وإليه تؤول تركات المتوفين بلا عقب، ويكثر دخله من هذه الناحية إذا وقع وباء في البلاد. قال ماييه:
165
وقد يبلغ دخل الوالي في يوم واحد من أيام الوباء من مائتي ألف إلى ثلاثمائة ألف ريال، لهلاك من يمتلكون القرى؛ ذلك لأن قوانين الحكومة تقضي برجوع ملكية المزارع إلى الخليفة بعد وفاة أصحابها. وفي تقرير لأحد قناصل البندقية أن منصب الوالي عند العثمانيين كان يكلف في الآستانة من 80 إلى 100 ألف دوكا، ومنصب الدفتردار يباع من 40 إلى 150 ألف دوكا، ومنصب القاضي يساوي أقل من هذه القيمة.
166
كانت إدارة الحكومة المدنية والمالية في مصر بيد المماليك، وإليهم توزيع الأعطيات والأرزاق على الجنود، فأصبح هؤلاء تبعا لهم بحكم الروابط المدنية، ثم صار رؤساء «الوجاقات»،
167
وأغلب ضباطها من المماليك فانحصرت السلطة العسكرية والمدنية في أيديهم، واتصل ضباط الوجاقات وأفرادها بالمماليك بأواصر المصاهرة ولحمة القربى، فأصبحوا من حزبهم وأهلهم وعشيرتهم وأتباعهم، بعد أن كانوا مستعدين لحربهم وإخضاعهم، فاضمحلت سلطة الولاة العثمانيين، وعظم نفوذ البكوات المماليك واسترجعوا على الزمن سلطة الحكم التي كانت للسلاطين البحرية والشراكسة، والأمة في ذلك طعمة للملتزمين والغاشمين من الموظفين، فانصرفت عن الزراعة وتعطلت الأعمال، وهبطت قيمة الأرض فقلت الجباية، وخولت طريقة التلزيم للملتزمين سلطة مطلقة على الفلاحين، يفرضون على أملاكهم ما شاءوا وشاءت أهواؤهم من الضرائب والإتاوات، والملتزم حر بنقل الفلاح ونزع يده عن الأرض، ونظام الالتزام يشبه نطام الإقطاعات الذي رزحت أوروبا تحته قرونا، وكانت أموال الرعايا وأعراضهم وأرواحهم مباحة لصاحب المقاطعة، وإذا زاد نفوذه ينزع إلى الثورة، فيبدأ بمنع الخراج عن الدولة، وتضطر إلى إرسال حملة عليه، ويبقى السكان بين نارين، نار الثائر ونار القائمين بكبح جماحه، وكم من فتنة أوقدها العمال ليشغلوا الناس والدولة، وتبقى لهم الحكومة يستمتعون بها مديدة.
والقاعدة في إدارة العثمانيين أن يكذب الوالي على من نصبه على الأكثر، ويكذب على من يحتفون به، ويلقي التفرقة بين أرباب النفوذ والمتغلبين، وبين أبناء العناصر والأديان، ويتفنن في طلب المال لتسديد حسابه مع الآستانة، ولا يتولى الولاية إلا من تروق الآستانة شروطه من بين من دخل من الطالبين لها في سوق المزايدة، ويسارع إلى تبديل العمال حتى يتم لرجال العاصمة ما يطمعون فيه من المال، ومن يوقن أنه مهدد كل حين بالعزل، وعليه إتاوة يجب عليه دفعها، وهدايا ورشاوى لا بد من تقديمها، لا يتوفر في الغالب على غير نهب الرعية وسرقة أموال الدولة. يقول جودت
168
في حوادث سنة 1200ه: «إن وظيفة جابي المال في حلب كانت منذ أربعين سنة مطمح أنظار الموظفين في الدولة؛ لأنها تعود عليهم بثروات طائلة، إذا حملوها إلى الآستانة ينالون بها رتبة الوزارة ورتبة ميرمران، جرى ذلك لأحمد باشا (الجزار)، فأخذ العلم والطوخ
169
واشتهر شهرة عظيمة، وما برحت هذه الوظيفة تباع وتشترى بالمزاد، وكثيرا ما كانت الدولة ترسل مفتشين يشاركون في المغنم هؤلاء المرتشين من الجباة.»
170
وأعظم سبب في شيوع الرشوة أن الموظفين والعمال يعفون على الغالب من العقوبات مهما أجرموا، لا يعاقبون بأكثر من أن ينقلوا من ولاية إلى أخرى، فيمثلون في الثانية ما مثلوه في الأولى، وما قامت ثورة أهلية في السلطنة إلا كان العمال السبب فيها، ومن تكتب له حظوة عند الناس من العمال لحصافته وشرف نفسه قد يكون من المبعدين، وتختار الدولة المتوسطين في إدارتهم ومعلوماتهم على الأكثر أو من يتبالهون وينافقون، وتحاذر وزراءها في دار الملك، فتقصيهم إلى الولايات عند أقل شبهة، أو لمجرد شهوة السلطان، أو لوشاية الواشين وتصادرهم وتعذبهم، ومن يعرفون أن مصيرهم إلى مثل هذه الحال لا يتذممون من شقاء الناس ولا يرحمونهم، ويتناسون أن الحكم أمانة في عنق صاحب الشرف.
ومن القواعد التي لا تتخلف كثيرا في دار الملك أن كل رجل تحدث له بعض قوة، وتنطوي نفسه على شيء من حب المغامرة، يستجيش له أناسا من الغوغاء، ويؤلف له حزبا يستغويه بالوعود الخلابة، فلا يلبث أن يستولي على الأمر، ويشرد سلفه أو يقتله وبعض كبار حاشيته، تشتد شكيمة القوى مدة فيحكم ويتبسط في سلطانه، حتى يقوم أقوى منه فيسقطه ويتبوأ مكانه، ويخرب ما عمله سلفه من أعمال، وينهج غير نهجه في الإدارة، ولا شأن له غير ابتزاز الأموال وإسكات الناس عن الخوض في أمور الدولة، ومن جرؤ على أمر بمعروف ونهي عن منكر يشرد ويضطهد، ويتهم بعظائم ما دارت له في خلد، وقد تكون دعوته لإزالة شر أو لبث فكرة يكون من أثرها إصلاح سلطانهم، فيتهمونه بالجنون أو المروق من الدين، أو بدعوى النبوة أو الألوهية، أو أنه يدعو إلى أن يكون النساء مشتركات بين الناس، ويحلل ما حرم الله إلى غير ذلك من الأكاذيب؛ ليصرفوا أذهان العامة والخاصة عن حقيقته، حتى لا يأسف الخلق عليه، ولا ينصروه إن أمكنهم نصره.
قالوا: إن سليمان القانوني أصلح إدارة المملكة، ووضع قواعد لإدارة الدولة في داخليتها، وكان
171
أجداده وضعوا أساس هذه الأصول فكملت في عهده، ووضع قوانين لتنظيم إقطاعات الجند وملكية الأرضين ونظام الشرطة وقانون العقوبات، وقوانين للانتفاع من العناصر غير المسلمة في الدولة كقانون اللقطاء، وبه أصبحت الوظائف السامية في الدولة تسند إلى من دانوا بالإسلام حديثا، وفي أيامه نبغ محمد الصوقللي، وخير الدين بربروس، والعالم ابن كمال، والمهندس سنان، وأن كل واحد منهم عمل في محيطه الخاص، ولكنهم لم يوحدوا جهودهم وما وجهوها إلى هدف واحد. قالوا هذا وما نخال أنه ظهر أثر محسوس في الولايات العربية بإصلاحه، وكأن من حكموا هذه الأحكام خدعتهم قوانين جميلة سطرت على الورق فقط.
تقدم معنا أن جيش الإنكشارية بدأ انحطاطه من عهد مراد الثالث، وقد رأيناه في عهده الأخير أعظم عابث في الولايات بحياة الرعية، يقتل بعضه بعضا ويقتتل مع الطبقات العسكرية التي أنشئت بعد مثل السكبان والقبوقولي والدالاتية، وكم من فتنة حدثت بين هذه الطبقات من الحاميات، وكان معظم ضرره أيام السلم يتناول أبناء الأمة، ويسلب قرارها، ويبتز أموالها، ويسطو على النساء والولدان فزاد بجبروته في شقاء البلاد، ويضاف إلى ذلك أن معظم الموظفين والضباط لا يقبضون رواتبهم كل شهر، وإذا قبضوها لا تقوم بحاجتهم، فيرجعون أبدا على جيوب ضعاف السكان يسددون منها العجز، وليس للدولة موازنة ثابتة تعرف بها دخلها من خرجها، إن جاءتها أموال ومغانم في بعض السنين أسرفت فيها، فإذا أحست الضائقة تمسك عن دفع مشاهرات عمالها والإنفاق على جندها فينهالون على الخلق، ويكاد يكون معظم أموال الجباية خاصا بحاشية السلطان وقصره يحمل منها إلى خزانته ما يحب ويهوى.
شعر كثير من المنورين في دار الملك بسوء حال الدولة وأيقنوا أنها إذا لم تصلح إدارتها يتداعى هذا الملك العظيم، وكان معظم من يهتمون لذلك من طبقات العمال والموظفين، وما برحوا يقدرون ويعملون حتى نشرت الدولة في سنة (1255ه/1839م) خطة «كلخانة» في الإصلاحات، حمل السلطان عليها رجال الدولة، وقيل جاءهم الإيعاز بها من بعض الدول الحريصة على بقائها، وهذا الخط عبارة عن إعلان
172
من السلطان يذكر فيه أنه وطد العزم على إنقاذ أعراض عامة رعاياه وأموالهم، وأن يبطل تلزيم الجباية، وأن يكون التجنيد في الجيش على طريقة منظمة، وأن يحاكم المجرمون جهرة في محاكم معينة، وأن يكون جميع الرعية - أهل الإسلام والملل الأخرى - أحرارا أمام القانون، من غير استثناء، وقد ورد في أوله أن سبب نجاح الدولة العثمانية في القديم إنما هو رعايتها أحكام القرآن، وجاء في آخره أنه يراد من هذا القانون القضاء على العادات القديمة.
نشأت صعوبات جمة من تطبيق القانون الجديد المنقول عن القوانين الفرنسية، والمقصود منه أولا إرضاء الدول الأوربية التي اشتد تدخلها في خصوصيات السلطنة بحق وبلا حق ؛ ذلك لأن قانون أمة وهو زبدة تاريخها ومحيطها وعاداتها ومصطلحاتها، يصعب تطبيقه على أمة أخرى ليس لها مثل نزعاتها ومدنيتها، ورب قانون لأمة راقية يتعذر إنفاذه في أمة منحطة ويضر في كيانها أكثر مما ينفعه، وخاصة إذا كانت منوعة الشعوب والمدنيات واللغات والأجواء كالعثمانيين؛ فلقد حاذر غير المسلمين مساواتهم بالمسلمين في هذا القانون الجديد، لئلا يفقدوا جانبا مما كانوا يتمتعون به من الحقوق منذ عهد الفاتح، ومنها إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، وإمتاع كنائسهم بحق الاشتراع لطوائفهم، وإطلاق حريتهم في تنظيم شئونهم الملية، فكثر الاعتراض من كل جانب، وكان النصارى بعد عهد الإصلاحات يتمتعون بكل ما فيها من مرافق ويبعدون عما فيها من متاعب؛ لأن الدول عاونتهم على مطالبهم، وقالت للدولة أنت وشأنك مع المسلمين. قال ريشاروود: «أما اعتراض المعترض بأن المساواة بين الطوائف غير كاملة ما دام النصارى لم يشتركوا في الجندية العثمانية، فجوابنا عنه: أن الذنب في ذلك على النصارى أنفسهم عليه لا على الباب العالي؛ إذ النصارى مع حرصهم على نيل كل الحقوق لم يقبلوا أن يدخلوا تحت ما يقابلها من الواجبات.»
كان للأجانب من قانون الامتيازات الأجنبية أعظم وسيلة لتدخل وكلاء الدول في أمور الدولة بحجة النظر في حقوق رعاياهم. وقد دعا إلى تمتع الغرباء في بلاد السلطنة العثمانية بهذه الامتيازات اعتياد الحكومات
173
الإسلامية منذ القديم التساهل مع النصارى في بلادها، فأجازت لهم عدم اتباع الأحكام المرعية، وتركتهم يتقاضون في أحوال مخصوصة بحسب قواعد دينهم والمعمول به من قوانينهم، فأصبحت هذه العادة قانونا نافذا مع الزمن، وبكثرة الاختلاط وتمكن العلائق أضحى هذا التسامح حقا لهم لا يحتمل النزاع، ومن هذه الامتيازات ما بني على معاهدة كمعاهدة صلاح الدين مع الجمهورية بيزا (569-1172)، وبها منحت عدة امتيازات خاصة بالتقاضي، ومعاهدة قايتباي (1488م) مع الفلورنتيين الطليان، وقد جاء فيها أنه إذا حدث خلاف بين الفلورنتية أنفسهم، فليس لقضاة المسلمين وحكامهم أن ينظروا في مسائلهم، والحكم في ذلك لقنصل الفلورنتيين، يحكم في هذه الحالة بما يناسب القوانين الفلورنتية، وجرى التوسع في العمل بهذه المعاهدات، حتى عمت جميع رعايا الدول النصرانية، ثم أهمل العمل بها مدة، فلما جاءت الدولة العثمانية عقدت معاهدة تجارية بين سليمان الأول وفرنسوا الأول ملك فرنسا في سنة 1535؛ لضمان أرواح الفرنسيس وتجارتهم، وكان البنادقة عقدوا مثل هذه المعاهدة، فأصبحت لهم امتيازات وحقوق مكتسبة، وعقدت معاهدة بين محمود الأول ولويس الخامس عشر ملك فرنسا في سنة 1740م، وبها غدت فرنسا صاحبة الشأن الأول في حماية رعاياها وجميع من يلتجئون إليها من الأجانب. وجرت الدول على سياسة فرنسا في عقد مثل هذه المعاهدات ولا سيما روسيا، وأخذت الامتيازات تزداد شيئا فشيئا بمساعي الدول من جهة، وبإهمال الحكومات الشرقية من جهة أخرى، وبإقرارها بعض عادات كانت خارجة عن نصوص المعاهدات.
وعلى هذا عاق قانون الامتيازات الأجنبية تطبيق الإصلاحات التي أزمع رجال الدولة القيام بها، لمكان الغرباء ممتعين بامتيازات دون غيرهم؛ ولأن النصارى من أهل البلاد يريدون ألا يسري عليهم من أحكام القانون الجديد إلا ما يروقهم ويتفق وراحتهم، وهذا مما ينافي وجهة نظر الإصلاح المطلوب منه حصر كل سلطة بالدولة،
174
ونتجت من قانون «التنظيمات الخيرية» أعظم المشاكل المعقدة، فأنشأت الدول تتدخل في أمور السلطنة، ومن جملتهن المقام البابوي في رومية، يريد إمتاع المدارس الكاثوليكية ورهبانها بامتيازات تحميهم وتهيئ لهم أسباب التبشير بدينه.
كان من الإصلاحات التي قام بها الوزير رشيد بعد سنة 1255ه، وضع أصول جديدة لإدارة الولايات على قاعدة المركزية، ثم توسعت بعد حين وجرى تعديلها والعمل بها إلى آخر أيام السلطنة، وأنشئت القوانين العدلية - الحقانية - ومنها قانون التجارة، وأسست المحاكم ومنها المحاكم المختلطة، للاختلال المشهود في المحاكم الأهلية، ونقل قانون الجزاء إلى التركية، ووضعت مجلة الأحكام العدلية مأخوذة من كتب المذهب الحفني مذهب الدولة، ثم أنشئت وزارة المعارف والجامعة (1845)، ثم المدارس المنوعة المقاصد في دار الملك، ولم تثمر هذه الإصلاحات إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وجنى من ثمرتها الأتراك أكثر من العنصر العربي.
وبهذه القوانين والإصلاحات وإن لم تنفذ كلها دخلت السلطنة في عداد الأمم الممدينة، وزاد توغل الأجانب في البلاد وإشرافهم على سير الحكومة فيها، وتيسر لهم نيل امتيازات لشركات من رعاياهم استولت على اقتصاديات البلاد وطرق مواصلاتها، وأنشأوا يبشرون فيها بالنصرانية ويحببون إلى المتعلمين لغاتهم، فزاد بذلك التباين بين المسلمين وغيرهم، وكثر بغض العناصر غير المسلمة للعناصر المسلمة، وكان من هذا التعليم بلاء على الأرمن خاصة، وكان الروم والبلغار والصرب والرومان باكروا الاستقلال في ولاياتهم، وكان تعليم أفراد منهم من العوامل المفيدة في تحقيق أمانيهم القومية، ومهما قيل في الداعي لتسلل أصابع الدول الغربية إلى المسائل العثمانية وفي اشتطاطها عليها في الأحايين، فإنه مما لا جدال فيه أن الإدارة العثمانية كانت في معظم أدوارها مختلة على ما اعترف بذلك علماء الاجتماع والتاريخ والسياسة من الترك أنفسهم، وظهر في القرن الماضي الفرق بين إدارة بلاد الغرب وإدارة العثمانيين، وكانت مساحة بلاد الدولة لا تقل عن نصف أوروبا بعد القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتجلى البون الشاسع بين أمة جامدة أو مجموعة شعوب جامدة مشتتة أهواؤهم، لا وازع يضم شملهم، وبين أمم متوحدة تتحرك وتتكلم وتعاود نظمها بالحذف والإثبات، وتسير مع العقل في إقامة بنيان ممالكها.
كان منشأ كل وهن دخل في جسم السلطنة، وعبث بكيان سكانها من تبلبل الإدارة في ولاياتها، وكانت البلاد ولا سيما مصر والشام في عهد المماليك البحرية والبرجية أرقى مما صارت إليه في عهد العثمانيين؛ لأن البلاد كانت مجموعة الشمل في الجملة، وكان التركي يعيش ببقايا مدنيات الدول السالفة، فأكل من ثمراتها حتى نفدت، وهلك لما أتى على الأخضر واليابس، وما حدثته نفسه أن يحدث غرسا، ولا أن يطرح زوانا وعوسجا. والدولة ما فكرت في غير الاحتفاظ بحقوق سيادتها، وما خطر لها أن تحنو على رعاياها فتعطيهم بعض ما تأخذه منهم، وبدخول الأتراك العثمانيين في بلاد العرب نامت هذه نومة غير هادئة، واستشرى فيها الفساد وكثرت المغارم، واشتط سلطان المتغلبين وعيث البادية، فزادت مساحة القفار من البلاد زيادة فاحشة، وخلت القرى من سكانها، وهام مئات الألوف على وجوههم في أقطار الأرض، يطلبون الرزق ويفرون من الظلم ، وكانت الدولة إذا غضبت على أحد أرباب المقاطعات ترسل عليه حملة يكون أول عمل لها في التأديب قطع أشجار المقاطعة وتخريب بيوت سكانها، فزادت البلاد بهذا التدبير للتدمير خرابا فوق خرابها؛ فقد كان مثلا في أعمال حلب ثلاثة آلاف ومائتا قرية تدفع الخراج قبل استيلاء العثمانيين، فنزل عددها إلى أربعمائة في عهدهم، وكان في غوطة دمشق
175
أواخر عهد المماليك ثلاثمائة وخمسون قرية لا تزال أكثر دمنها ظاهرة وبعض أسمائها متعارفة، ولما غادر الترك البلاد كان في الغوطة نحو ستين قرية فقط، وهكذا يقال في عامة الأقطار.
أدرك عظماء السلطنة عاقبة هذه الأمراض على الدولة، وكانوا يزعمون كلما تذرعوا بالإصلاح أن الصدمات تأتيهم من الداخل والخارج، والحقيقة أنهم كانوا عاجزين عجزا مطلقا، وكسالى لا يحبون التعب. عرف رجال الدولة في العهد الأخير أمثال رشيد وعالي وفؤاد ومدحت وكامل وسعيد مواطن الداء، ولكنهم ما وفقوا قط إلى وصف الدواء الناجع، وكان الوزير رشيد كثيرا ما يردد قوله: إن المملكة العثمانية إما أن تصلح نفسها وإما أن تنقرض، وكيف لا نقول بعجزها، والقضاء كان كالسلع يوضع في السوق، فمن دفع الثمن الأعلى تولاه، ولو كان فيه جميع العيوب الشرعية، أسسوا منذ سنة 1272ه في العاصمة مدرسة للنواب - أي القضاة - ولكنهم ظلوا إلى آخر أيامهم يوسدون القضاء إلى الأميين والساقطين، وكيف يقيم العدل بين الناس من دفع ثمن قضائه، والقضاء إلى عهد قريب كان مرجع كل شيء.
والظاهر أن العقلاء من رجال العثمانيين في كل عصر أمثال جاندارلي وأوره نوس وميخال أوغلي، ثم صوقوللي وكوبرلي ونظرائهم حتى الذين أدركناهم من الوزراء، كان همهم الأعظم موجها في الأعم الأغلب إلى سياسة الدولة، ودفع صائل الغربي عنها أيام الضعف، والتوسع في فتح بلاد جديدة أيام القوة، وقلما كانوا يهتمون بتطهير المملكة من أهل الفساد، ولا ينفذون من ناموس الإدارة ما يخففون به فقر البلاد وبؤسها، فتركوا الأهلين يعملون ما شاءوا إذا أدوا ما عليهم لخزانتها. وليس من شك أن مصر والشام وسائر بلاد العرب كانت في الفتح العثماني قد ضعفت تجارتها لاستئثار البرتقاليين بتجارة الهند،
176
فأصبحت هذه البلاد بمعزل عن حركة الأسواق وقل سكانها، وكان فتح سليم الأول نافعا لها كما قالت معلمة الإسلام من الوجهتين الدينية والسياسية؛ لأنه أنشأ دولة سنية قوية أمام دولة الفرس الشيعية، فتراجع التشيع أمام التسنن. ونحن نقول: إن البلاد شاركت في حظ مملكة لا تبطل حروبها وفتنها، وولاتها لا يعرفون ما يصلحها، فتراجعت تراجعها، وانحلت أوضاعها علاوة على ما كانت منيت به من الانحلال.
مثال من عجز الدولة وأن نسبة الإخفاق إلى معاكسات الأجانب غير صحيحة دائما، أنها كانت إذا أعلنت حربا أو أرادت إطفاء فتنة داخلية، يموت من جندها ورعاياها بالأمراض والإهمال أكثر ممن يموت بالسيف والنار؛ وذلك لأنها كانت ترسل ابن البلاد الباردة إلى البلاد الحارة والعكس بالعكس، فيهلك الخلائق بالألوف، يهلكون بقلة التدبير والبصيرة، والمملكة لا طرق لها، وليس للجند مآكل مغذية كافية ولا ألبسة دافئة، ولا شيء من أسباب الصحة مما تحفظ به حياة الآدميين، شوهد ذلك في معظم أدوار السلطنة، وما استطاع قائد ولا صدر ولا وال أن يدخل الإصلاح المطلوب على هذا الخلل الممكن تلافيه، وأنت ترى أنه يحتاج إلى عقل يميز ويقدر، وأيد تحب أن تعمل أكثر من احتياجه إلى المال، وندر جدا من عمال السلطنة من كان ينظر لمصلحتها الحقيقية، كما عز من لم يكن هدفه من عمله غير جمع المال يعمر به على الأقل قصرا في أرباض العاصمة، ويترك لأسرته ثروة.
كان الفلاحون إذا ضاقت بهم الحال في قريتهم، واشتط عليهم المتغلبون وأرباب المقاطعات، يهجرونها إلى قرية بعيدة في إقليم آخر، ففقد الاستقرار، وقد تتعطل الزراعات سنة وربما سنين، ولا يداوي أرباب القرى ما يقعون فيه إلا باستعمال السياط وضبط الفرش والماعون، وأحيانا ضبط النساء والأولاد، وجاء زمان والفلاحون ينزلون برضاهم عن أرضهم إلى الكبراء؛ لأنهم لا يستغلون منها ما يفي بالضرائب الموضوعة عليها؛ بل أتى دهر وأرباب النفوذ إذا غضبوا على إنسان يأتون بشاهدين يشهدان عليه أنه عبدهم فيسترقونه، وجاء زمن وأعراب البادية يتقاضون حتى من المدن «خوة» أو مالا سنويا، ولهم على كل قرية مبلغ أو إتاوة سنوية، وإلا رعوا الزروع وقطعوا الأشجار وخربوا المساكن وقتلوا الأنفس.
أما ظلم الولاة فهو القاعدة المطردة في الغالب، ومنهم من كانوا يقتلون المارة يتصيدونهم في الطرق، كما كان يتصيد الإنكشارية الأبرياء من الناس ليجربوا بنادقهم، وقد وقع لوالي حلب أنه كان يغتال كل يوم في الشوارع بضعة رجال من أبناء السبيل، ولما سئل عن الداعي إلى القتل قال: إنه يحب إلقاء الرهبة في النفوس، ويريد بعمله أن يجعل للحكومة هيبة ووقارا! وظلم الملوك قد يصل إلى أبلغ من هذا، فقد قتل السلطان سليم أهل الرملة (رملة فلسطين) بأجمعهم، وأصدر ابنه سليمان أمره بقتل أهل حلب عن آخرهم، فحال الصدر الأعظم دون إنفاذ هذه الإرادة الخرقاء، واكتفوا بقتل من غضب عليهم السلطان. وعجيب مع هذه الإدارة الحمقاء أن يبقى إنسان في الأرض العثمانية يزرع ويصنع ويتجر.
177
أما مصر قبل أن يستقل بها محمد علي فكانت حالتها الإدارية مختلة، ومن أحب أن يتعرف حقيقتها كما هي، فعنده منها قدر كاف في تاريخ الجبرتي،
178
يرى فيه صورة بشعة من بلاد هي على الدوام عرضة لفتن الصناجق والآغوات والبلوكات وجميع الوجاقات، والفتن بين الفقارية والقاسمية يقتل فيها الناس وتحرق دورهم، وتصادر أموالهم حتى أصبح دم الإنسان كفاء دم كلب أو هر، وعمت «الرشا والتحيل على مصادرة بعض الأغنياء في أموالهم» «حتى صارت سنة مقررة وطريقة مسلوكة ليست منكرة، وكذلك المصالحة على تركات الأغنياء التي لها وارث»، ويقبضون «على كثير من مساتير الناس والتجار والمتسببين» يحبسونهم ويصادرونهم ويسلبون ما بأيديهم، وتتواتر المصادرات والمظالم من الأمراء، وانتشار أتباعهم في النواحي لجبي الأموال من القرى والبلدان وإحداث أنواع المظالم، ويسمونها مال الجهات ودفع المظالم والفردة حتى أهلكوا الفلاحين، وضاق ذرعهم واشتد كربهم، «وطفشوا» من بلادهم فحولوا الطلب على الملتزمين، وبعثوا لهم المعينين إلى بيوتهم، فاحتاج مساتير الناس لبيع أمتعتهم ودورهم ومواشيهم بسبب ذلك، مع ما هم فيه من المصادرات الخارجة عن ذلك، وتتبع من يشم فيه رائحة الغنى، فيؤخذ ويحبس ويكلف أضعاف ما يقدر عليه، وتوالي طلب السلف من تجار البن والبهار عن المكوسات المستقبلة، ولما تحقق التجار عدم الرد عوضوا خساراتهم من زيادة الأسعار، ثم مدوا أيديهم إلى المواريث، فإذا مات الميت أحاطوا بموجوده - سواء كان له وارث أو لا - وصار بيت المال من جملة المناصب التي يتولاها شرار الناس بجملة من المال يقوم بدفعه كل شهر، ولا يعارض فيما يفعل في الجزئيات، وأما الكليات فيختص بها الأمير، فحل بالناس ما لا يوصف من أنواع البلاء، إلا من تداركه الله برحمته واختلس شيئا من حقه، فإن اشتهروا عليه عوقب على استخراجه. وفسدت النيات، وتغيرت القلوب، ونفرت الطباع، وكثر الحسد والحقد في الناس بعضهم لبعض، فيتتبع الشخص عورة أخيه، ويدلي بها إلى الظالم، حتى خرب الإقليم، وانقطعت الطرق، وعربدت أولاد الحرام، وفقد الأمن، ومنعت السبل إلا بالخفارة، وركوب الغرر، وجلت الفلاحون من بلادهم من الشراقي والظلم، وانتشروا في المدينة بنسائهم وأولادهم يصيحون من الجوع، ويأكلون ما يتساقط في الطرقات من قشور البطيخ وغيره، فلا يجد الزبال شيئا يكنسه من ذلك.
قال هذا الجبرتي في حوادث سنة ثمان وتسعين ومائة وألف وختمه بقوله: «وضاع الناس بين صلحهم وغبنهم، وخروج طائفة ورجوع الأخرى، ومن خرج إلى جهة قبض أموالها وغلالها، وإذا سئل المستقر في شيء تعلل بما ذكر، ومحصل هذه الأفاعيل بحسب الظن الغالب، إنها حيل على سلب الأموال والبلاد.» وقال في حوادث سنة سبع ومائتين وألف: «استهل المحرم بيوم الخميس والأمر في شدة من الغلاء وتتابع المظالم وخراب البلاد وشتات أهلها، وانتشارهم بالمدينة حتى ملئوا الأسواق والأزقة رجالا ونساء وأطفالا، يبكون ويصيحون ليلا ونهارا من الجوع، ويموت من الناس في كل يوم جملة كثيرة من الجوع.» وقال في حوادث سنة تسع ومائتين وألف: «لم يقع بها شيء من الحوادث الخارجية سوى جور الأمراء وتتابع مظالمهم، واتخذ مراد بك أمير الإنكشارية الجيزة سكنا وزاد في عمارته واستولى على غالب بلاد الجيزة، بعضها بالثمن القليل، وبعضها غصبا، وبعضها معاوضة.» وقال في حوادث سنة عشر ومائتين وألف: «لم يقع بها شيء من الحوادث التي يعتنى بتقييدها سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء والمظالم.» وكانت الفتن بين الإنكشارية في الريف والعاصمة متصلة، وقد تستولي طائفة على الوجه البحري وأخرى على الوجه القبلي، فتتحاربان وينضم الهوارة والعربان إلى أحد الفريقين والناس بينهما في أمر مريج «من الظلم والفجور والفسق بأهل الريف والعسف بهم وتكليفهم الكلف الشاقة.»
وإذا شئت الوقوف على حالة القضاء فاقرأ الصفحة التالية من تاريخ الجبرتي بالنص الذي كتبه في ماجريات سنة 1231ه، قال: «حصلت جمعية ببيت البكري وحضر المشايخ وخلافهم، وذلك بأمر باطني من صاحب الدولة (محمد علي)، وتذاكروا ما يفعله قاضي العسكر من الجور، والطمع في أخذ أموال الناس والمحاصيل، وذلك أن القضاة الذين يأتون من باب السلطنة كانت لهم عوائد وقوانين قديمة لا يتعدونها في أيام الأمراء المصريين، فلما استولت هؤلاء الأروام - الترك - على الممالك والقاضي منهم، فحش أمرهم وزاد طمعهم، وابتدعوا بدعا وابتكروا حيلا لسلب أموال الناس والأيتام والأرامل، وكلما ورد قاض ورأى ما ابتكره الذي كان قبله أحدث هو الآخر أشياء يمتاز بها عن سلفه، حتى فحش الأمر وتعدى ذلك لقضايا أكابر الدولة وكتخدا بك بل الباشا، وصارت ذريعة وأمرا محتما، لا يحتشمون منه ولا يراعون خليلا ولا كبيرا ولا جليلا، وكان المعتاد القديم أنه إذا ورد القاضي في أول السنة التوتية التزم بالقسمة بين المميزين من رجال المحكمة بقدر معلوم يقوم بدفعه للقاضي، وكذلك تقرير الوظائف كانت بالفراغ أو المحلول، وله شهريات على باقي المحاكم الخارجة كالصالحية، وباب سعادة، والخرق، وباب الشعرية، وباب زويلة، وباب الفتوح، وطيلون، وقناطر السباع، وبلاق، ومصر القديمة ونحو ذلك، وله عوائد وإطلاقات وغلال من الميري، وليس له غير ذلك إلا معلوم الإمضاء، وهو خمسة أنصاف فضة، فإذا احتاج الناس في قضاياهم ومواريثهم أحضروا شاهدا من المحكمة القريبة منهم، فيقضي فيها بما يقضيه ويعطونه أجرته، وهو يكتب التوثيق أو حجة المبايعة أو التوريث، ويجمع العدة من الأوراق في كل جمعة أو شهر، ثم يمضيها من القاضي، ويدفع له معلوم القضاء لا غير، وأما القضايا لمثل العلماء والأمراء فبالمسامحة والإكرام، وكان القضاة يخشون صولة الفقهاء، وقت كونهم يصدعون بالحق ولا يداهنون فيه، فلما تغيرت الأحوال وتحكمت الأتراك وقضاتها، ابتدعوا بدعا شتى، منها إبطال نواب المحاكم، وإبطال القضاة الثلاثة بخلاف مذهب الحنفي، وأن تكون جميع الدعاوي بين يديه ويدي نائبه، وبعد الانفصال يأمرهم بالذهاب إلى كتخداه لدفع المحصول، فيطلب منه المقادير الخارجة عن المعقول، وذلك خلاف الرشوات الخفية، والمصالحات السرية، وأصناف التقرير والقسمة لنفسه، ولا يلتزم بها أحد من الشهود كما كان في السابق، وإذا دعي بعض الشهود لكتابة توثيق أو مبايعة أو تركة فلا يذهب إلا بعد أن يأذن له القاضي، ويصحبه «بجوقة دار» ليباشر القضية وله نصيب أيضا، وزاد طمع هؤلاء «الجخدارية» حتى لا يرضون بالقليل كما كانوا في أول الأمر، وتخلف منهم أشخاص بمصر عن مخدوميهم، وصاروا عند المتولي لما انفتح لهم هذا الباب.
وإذا ضبط تركة من التركات وبلغت مقدارا، أخرجوا للقاضي العشر من ذلك ومعلوم الكاتب والجوخدار والرسول، ثم التجهيز والتكفين والمصرف والديوان، وما بقي بعد ذلك يقسم بين الورثة، فيتفق أن الوارث واليتيم لا يبقى له شيء، ويأخذ من أرباب الديون عشر ديونهم أيضا، ويأخذ من محاليل وظائف التقارير معلوم سنتين أو ثلاث، وقد كان يصالح عليها بأدنى شيء وإلا إكراما، وابتدع بعضهم الفحص عن وظائف القبانية والموازين وطلب تقاريرهم القديمة، ومن أين تلقوها، وتعلل عليهم بعدم صلاحية المقرر، وفيها من هو باسم النساء ولسن أهلا لذلك، وجمع من هذا النوع مقدارا عظيما من المال، ثم محاسبات نظار الأوقاف، والعزل والتولية فيهم والمصالحات على ذلك، وقرر على نصارى الأقباط والأروام قدرا عظيما في كل سنة بحجة المحاسبة على الديور والكنائس، ومما هو زائد الشناعة أيضا أنه إذا ادعى مبطل على إنسان دعوى لا أصل لها، بأن قال ادعى عليه بكذا وكذا من المال وغيره كتب المقيد ذلك القول، حقا كان أو باطلا، معقولا أو غير معقول، ثم يظهر بطلان الدعوى أو صحة بعضها، فيطالب الخصم بمحصول القدر الذي ادعاه المدعي، أو سطره الكاتب، يدفعه المدعى عليه للقاضي على دور النصف الواحد، أو يحبس حتى يوفيه، وذلك خلاف ما يؤخذ من الخصم الآخر، وحصل نظيرها لبعض من هو ملتجئ لكتخدا بك فحبس على المحصول، فأرسل الكتخدا يترجى في إطلاقه والمصالحة عن بعضه فأبى، فعند ذلك حنق الكتخدا وأرسل من أعوانه من استخرجه من الحبس. ومن الزيادات في نغمة الطنبور كتابة الإعلامات، وهو أنه إذا حضر عند القاضي دعوى بقاصد من عند الكتخدا أو الباشا يرجع به مع القاصد تقييدا أو إثباتا، فعند ذلك لا يكتب له ذلك الإعلام إلا بما عسى لا يرضيه، إلا أن يسلخ من جلده طاقا أو طاقين، وقد حكمت عليه الصورة وتابع الباشا أو الكتخدا ملازم له يستعجله، ويساعد كتخدا القاضي عليه، ويسليه على ذلك الظفر والنصرة على الخصم، مع أن الفرنسيين الذين كانوا لا يتدينون بدين لما قلدوا الشيخ أحمد العريشي القضاء بين المسلمين بالمحكمة، حددوا له حدا في أخذ المحاصيل لا يتعداه، بأن يأخذ على المائة اثنين فقط، له منها جزء وللكتاب جزء، فلما زاد الحال وتعدى إلى أهل الدولة رتبوا هذه الجمعية، فلما تكاملوا بمجلس بيت البكري ، كتبوا عرض محضر، ذكروا فيه بعض هذه الأحداث والتمسوا من ولي الأمر رفعها، ورجوا من المراحم أن يجري القاضي، ويسلك في الناس طريقا من إحدى الطرق الثلاث، أما الطريقة التي كان عليها القضاة في زمن الأمراء المصريين، وأما الطريقة التي كانت في زمن الفرنسيين، أو الطريقة التي كانت أيام مجيء الوزير، وهي الأقرب والأوفق، وقد اخترناها ورضيناها بالنسبة لما هم عليه الآن من الجور، وتمموا العرض محضرا، وأطلعوا عليه الباشا، فأرسله إلى القاضي، فامتثل الأمر، وسجل بالسجل على مضض منه، ولم تسعه المخالفة.» ا.ه.
ونحن إذا اضطررنا إلى ذكر هذه الحوادث فلكي ندل بها على تلك الإدارة، ولا تفهم سوء حالتها إلا بما تحيف البلاد من شرور القائمين عليها، وإذا ذكرنا الأشخاص فلنستدل على أعمالهم، فقد ذكر التاريخ أن الوزير سنانا فاتح اليمن وتونس ووالي الشام ومصر، وقد تولى الصدارة غير مرة خلف ثروة أقل ما يقال فيها: إنها مجموعة ثروة قسم عظيم من الولايات العربية،
179
إذا وجد بعضها في أحد متاحف الغرب عد غنيا بما في تركته من غرائب. وهذا الفاتح هو الذي أمر بقتل أمراء اليمن ومشايخها، وكانوا جاءوه من بعيد للسلام عليه، فغرس الأحقاد في صدور اليمانيين على الترك قرونا، وهكذا يقال في أحمد الجزار والي الشام وعكا: فإنه لم يبق على ثروة ولم يعف عن إنسان، ولو شئنا أن نعدد أمثالهما لما ضن التاريخ العثماني علينا بمئات سودوا صحيفته، وأكثرهم يقف الوقوف على الجوامع والمدارس، فقد قيل: إن سنانا قام بأعمال خيرية قدر المنفق عليها بمليوني جنيه ذهب بسكة زماننا منها جامع بدمشق، والجزار عمر جامعا بديعا في عكا.
قال ريشاروود:
180
كان الولاة لعجزهم وضعف قوتهم يضطرون إلى الاتفاق مع أعيان البلد على تنفيذ أغراضهم، ويشاركونهم في دسائسهم وجرائمهم وسرقاتهم، ولم يكن بين موظفي الحكومة أحد يحق له أن يكاتب الحكومة المركزية إلا هؤلاء الولاة، وبديهي أنهم لا ينبئون الباب العالي بحقيقة الحالة الإدارية، ولذلك كانت الحكومة المركزية تجهل أحوال الولايات كل الجهل، وقال: إنه سادت المحاكم حالات رديئة مثل استماع شهادة الزور وتناول الرشوة وعمت الفوضى كل مصالح الحكومة، حتى صارت واردات الدولة مأكلا للمختلسين.
وما كانت إدارة بقية بلاد العرب بأحسن مما كانت في الشام ومصر، ولا أكثرها من القوانين والتراتيب الإدارية، فالحجاز يحكمه أشراف مكة مع وال للدولة يتقاسمان المغانم فيئن الناس من الظلم، واليمن تتنازعها سلطتان سلطة بني عثمان في تهامة، وسلطة أئمة الزيدية في الجبال، والأتراك أبدا هناك في حالة حرب واحتلال مؤقت، والدولة تنفي إلى اليمن كما تنفي إلى طرابلس الغرب من تغضب عليهم، وبالنظر لبعدها ما كان يرضى بالتوظف فيها إلا من ضاقت سبل الأعمال أمامه، فكان اليمانيون من هاتين الطبقتين في مصيبة، والبلاد تحكم بقواعد العشائر وعاداتهم ليس فيها طرق ولا مدارس ولا مصانع كسائر الولايات، وأخرب البلاد ما يشب فيها من حروب وغوائل دامت إلى أن عقدت الدولة مع إمام الزيدية في سنة 1329ه، معاهدة اعترفت به وبمذهبه وسلطته اعترافا رسميا، وسواحل اليمن كانت أبدا في فوضى، ولم ينتشر الأمن في ربوعها إلا لما ارتبطت بحكومة الهند الإنجليزية، فأصبح لكل إمارة وناحية إدارة خاصة بها، ونجد لا شأن لقبائلها البدوية إلا أن تتقاتل، وكان الأمن مفقودا فيها كسائر البوادي، وأقر آل سعود وبعدهم آل الرشيد الأمن في ربوعها لما حكموها، وكان العراق بأيدي الولاة في الظاهر، وأيدي متزعمة القبائل في الحقيقة، حتى أصبح بعد عمرانه القديم بادية إلا قليلا، لولا بقع من مجموعات سكان تنزل أرجاء بغداد والبصرة والحلة والموصل وغيرها، وسلطة الدولة لا تكاد تتعدى الحواضر شأنها في كثير من الولايات العربية، والقاصية بأيدي أرباب الزعامات والإقطاعات، وأخذت بعض الولايات التي تولاها عظماء من رجال السلطنة في العهد الأخير تؤسس فيها قواعد الإدارة، وتكثر فيها مراكز الحكومة من أقضية وألوية، فقد أسسوا لواءين في جنوب الشام وشرقها: «لواء الكرك» و«لواء الزور»، فدخل عرب البادية في حياة الزراعة وخف اعتداؤهم بعضهم على بعض، وبطل الغزو أو كاد لاستلاب المواشي. ولما أنشئت السكة الحجازية بين دمشق والمدينة بدأ الأمن يستتب والبادية تحس طعم السكنى، وعمرت على بعض جانبي الخط قرى ومزارع.
وفي الحق أن الدولة أنشأت، بعد تنظيم الولايات، ترسل ولاة ومتصرفين لا بأس باقتدارهم، ومنهم من كانوا يحاولون الإصلاح ما أمكنهم ويقرون العدل بعض الشيء، ويؤمنون السبل بالقليل من القوات التي كانت لهم من الجند والدرك والشرطة، ومنهم من أنشأ مدارس وطرقا كما فعل الوزير مدحت في العراق والشام، وقد كتب من دمشق في إصلاح الإدارة إلى الآستانة يقول: إن الأوامر التي تصدر من الآستانة إلى الشام محصورة في طلب المال والجند فقط، وبذلك بطل العمل بالقانون والأصول المتبعة، وفتحت أبواب سوء الاستعمال، وما عدا بعض رجال من الموظفين أصبح كبار العمال، وصغارهم لا يلتفتون إلى غير مصالحهم فطرأ على المعاملات خلل، وبسوء تأثير ذلك فسدت أخلاق الناس، وكثر القتل والنهب والغارة على الأموال والعروض في كل مكان، واختل الأمن كل الاختلال، قال: وإذا ألقينا نظرة على واردات الدولة رأينا الخراج والأموال قد نزل ارتفاعها إلى النصف، وخربت مسائل الأعشار البلاد، وقل البدل العسكري - الجزية - كتب هذا قبل نحو ستين سنة والدولة آخذة في تقليد الغربيين في إدارة بلادها.
أما سائر الولايات والألوية المستقلة كبرقة وطرابلس وتونس وما إليها، فقد كان سلطان الترك فيه اسميا، وكانت تقنع منها بخراج معين، وتقيم بها حامية، وتوسد أمهات الوظائف الكبرى إلى الأتراك شأنها في كل ولاية، ومنذ استولت على طرابلس بعد سنة 972ه وقعت في أيدي جيشها الإنكشاري،
181
فاختل نظامها واستبدوا بالحكم ومدوا أيديهم إلى ما في أيدي الناس، وفرضوا على الأهالي ضرائب مما لا قبل لهم به، وكثر طغيانهم حتى اضطر كثير من رؤساء القبائل إلى الثورة عليهم في أزمان متتالية تخلصا من حكمهم الجائر، وكان القضاة إذا مات الميت أرسلوا للوارث وطالبوه بدفع سدس ماله وسموا ذلك «فريضة»، وربما أفحش المقدر للأموال المورثة فقدرها بأكثر مما تساوي فيخرج بذلك الوارث من إرثه، وقد يمهل الوالي المعوزين من الفلاحين في أداء ما عليهم من الإتاوات، حتى إذا أدوا ما عليهم باعهم من قائد آخر وسلطه عليهم، ويزيدون في العشور حتى ليجعلون الكيلة توازي ثلاثا من الكيلات المقررة لقسمة الحبوب، وهكذا في خرص الزيتون والنخيل، ومن نقص من شجره شيء ولو النصف لا تسمع شكواه ويلزم بأداء ما كان يدفع على شجره قديما، وقد يجعلون خراج الأرض على الجماجم، ومنذ سقطت تونس (935ه) في أيدي العثمانيين أخذ العمال يتوارثونها، وظلت كأنها مستقلة تنجد الدولة في بعض أيام حروبها العظيمة بشيء من المراكب والجند، وفي تواريخ تونس أنه كان من هؤلاء العمال، ثم من أمرائها الحاليين من يعنون قليلا بتحسين الإدارة والجباية ويعمرون ما تشتد الحاجة إليه من المعالم، ونبغ فيها أواخر القرن الماضي الوزير خير الدين فأحيا مصانعها وزراعتها، ونشر محمد باي الثاني (1276ه) قانونا دعاه عهد الأمان،
182
أطلق فيه حرية التدين للسكان على اختلاف مذاهبهم، وساوى بينهم في الحقوق العامة، وكفل للتونسيين حرياتهم وأموالهم وأعراضهم.
وكان الآغا في تونس على عهد الحكم التركي المباشر يجلس في الديوان ويقوم أكبر الشواش
183
بين يديه والترجمان بإزاء الآغا، فإذا أخذوا مراتبهم قام خطيبهم فدعا للسلطان والعسكر وقرئت الفاتحة، ثم يخرج مناديهم عند الباب يقول: من له دعوى فليدخل، فإذا دخل قابله الترجمان وتعرض القضية، فإن كانت من الأمور الشرعية ردوها إلى الشرع، وإن كانت قانونية فعلوا بآرائهم وبما جرت العادة به بينهم. ولما ظهرت رتبة المفتي في المائة التاسعة، أصبحت أرفع من درجة القاضي، وإذا أشكل أمر على القاضي بعث إلى المفتي يسأله، والقضاة أتراك يجيئونها من بلاد الترك والغالب عليهم العجمة، فاحتاجوا إلى نائب يكون بين يدي القاضي، يكون بمثابة قاضي الخصومات، والقاضي التركي مقام قاضي الجماعة.
هذا ما قاله صاحب المؤنس، وهذه العجمة الغالبة على قضاة الترك التي أشار إليها كانت سببا عظيما من أسباب سوء الإدارة، وسوء التفاهم بين الحاكم والمحكوم منذ الزمن الأطول، وكيف يفهم القاضي أو الوالي أقوال المتقاضين والشاكين إذا كان أعجميا، بل كيف يفهم مع عجمته الحكم الشرعي من كتب العرب، والشريعة عربية ، وهل للوالي أو الشاويش أن يؤثر في نفوس من يتولى أمرهم إذا لم يستطع التفاهم معهم، بل أن يخطبهم إذا دعت الحال، وأنى لابن العرب أن يفهم كلام التركي في زمن ضعفت فيه أيضا ملكته في لغته! ولذلك خرجت الدولة العثمانية من بلاد العرب، ومنها ما حكمته ثلاثة قرون، ومنها ما حكمته أربعة، وهي لا تعرف روح البلاد ولا روح أهلها.
وفي معلمة الإسلام
184
أنه كان من فتح الترك شمالي إفريقية وضع حد لتوسع دول النصارى فيها، وإنقاذ المسلمين في أرجائها من توسع الإسبان في استيلائهم على بعض بلدانها (1615م)، فأسس الترك مملكة تناولت بلاد الغرب الأوسط وتولاها «بكلربك» من قبل الدولة العثمانية، ولم يبق غير مدينة وهران بيد الإسبان، ولم تتناول سلطة الأتراك الفعلية في الجزائر غير محيط من الأرض، لا تتجاوز مساحته خمسة وسبعين ألف كيلو متر مربع، أو سدس بلاد الجزائر، وظل الباقي في أيدي أناس من المتغلبة، ومن القبائل المستقلة، ومنها ما يدفع خراجا للسلطنة، فلم يبق أمام الترك غير اتباع سياسة «فرق تسد» بين القبائل والمتزعمين والبيوت المتغلبة، وكذلك كانت سياستهم مع الخاضعين لسلطانهم مباشرة. دام الحال على ذلك النحو ثلاثة قرون، والقتل يفشو في البادية والحاضرة، على مثال سائر الولايات العثمانية، ومن الولاة من كانوا يعينون من الآستانة إلى ثلاثين سنة، تعضد سلطانهم خمسة آلاف جندي إنكشاري، ثم تغلب بعض آغواتهم على الحكم، فلم يبق للوالي المعين من دار السلطنة غير سلطة اسمية، وكان عهد الآغوات عهد اضطراب وفتن ويلقى عامة هؤلاء الآغوات حتفهم بأيدي جند الإنكشارية، ولما ضايقت الدول البحرية الأوربية الجزائر لحملها على منع قرصان البحر من الإتجار بالرقيق، وكانت تجارته من أعظم أسباب غنى الجزائريين مدة ثلاثة قرون، بل من أهم موارد الحكومة في هذه الولاية، عاد الولاة يظلمون الرعايا في اقتضاء الجباية، أو يلقون أنفسهم في أحضان اليهود، يقترضون منهم الأموال ليصرفوها في إدارة البلاد. وكثيرا ما كانت الفتن تنتشر بين السكان لكثرة المغارم والمظالم، ومن سنة 1672 إلى سنة 1830 قتل بيد الجند العثماني من الدايات أو الولاة في الجزائر ثمانية عشر واليا، وكان الجند هم الذين يختارون الوالي في العهد الأخير، ويتمتع بسلطة واسعة ويعينه مجلس أو ديوان مؤلف من خمسة وزراء، يتولون مسائل المال والجندية والبحرية، وأملاك الدولة وغير ذلك. ودام هذا التخبط حتى جاء الفرنسيس واستولوا على الجزائر سنة 1830 وجعلوها مستعمرة لهم، وهكذا بقي الفرق محسوسا بين الأرياف وقواعد البلاد، وبين الأرجاء التي حكمتها الدولة بعض الشيء، والأصقاع التي نجت من سيطرة عمالها، كأن القرى والدساكر من غير هذا العالم، ومن قرن لا يعد في هذه القرون.
وبعد فمهما قيل في فساد الإدارة العثمانية منذ القرن العاشر إلى الثالث عشر من الهجرة، فإن فجر القرن الرابع عشر انبلج عن إجماع الحاكم والمحكوم على قبح هذه الإدارة وإرادة الإفاقة من كابوسها صيانة للبلاد، ورأينا الدولة في آخر أيامها ترسل مفتشين لكشف أحوال عمالها في المالية والداخلية والقضاء والحربية وغيرها، ورأينا منهم طبقة صالحة في الجملة إذا بحثوا سقطوا لا محالة على الخلل المتسرب إلى الأوضاع الحكومية، وكانوا يضعون التقارير النافعة لما شاهدوا وحققوا، لكن التنفيذ كان قليلا، وندر أن يؤخذ عامل مجرم بما يقرر فيه، وغاية ما يناله من عقوبة أن ينقل إلى ناحية أخرى، أو يترك مدة بلا عمل ويلقى الستار على جنايته أو جريمته، وكان من الصعب إذا كان للموظف حام يحميه إنزال العقوبة به ولو كان قاتلا. أما سرقة مال الدولة وتعريق لحم الملة فهذا مما لا يؤبه له كثيرا، وعلى هذا كان الناس في هذه الإمبراطورية العظمى بين ظالم ومظلوم، ينفذ فيها القانون على فقراء الرعية غالبا، وقد يستثنى من أحكامه من كان له شافع من ثروة وجاه وقرابة ونسب.
قال لاموش:
185
لئن كان في تنظيم الإدارة في المملكة العثمانية عيب فاحش الظهور لهو في صور التنفيذ لا في الأصول، ومنشأ النقص هو السلطة المطلقة الذاتية، التي يتمتع بها الحكام فمن بعدهم، وبيع المناصب وجباية الضرائب، وشيوع الاختلاس في أموال الدولة، وفشو الرشوة، وإذا قيست إدارة العثمانيين بإدارة معظم الممالك الأوربية في ذلك العهد، رؤي في الإدارة العثمانية ترتيب وسلطة ثابتة هي أتم مما كان من نوعها عند غيرهم، وبهذه المركزية وبالإدارة المطردة كتب للملكة العثمانية، على ما كان لها من المشاكل الخارجية، أن تبلغ درجة عالية من القوة، وأن تحتفظ بها إلى آخر القرن التاسع عشر، وما منع الإسلام سلاطين العثمانيين من رعاية النصارى في المملكة، لما عرف من أن فتحهم الروم إيلي والآستانة، ثم فتح بلاد المجر قد زاد في عديد رعاياهم من النصارى، ومنهم العنصر المنتج العامل في الزراعة والتجارة والمال، ومنهم يجبى قسم عظيم من ارتفاع الدولة. وقال أيضا: من سوء طالع تركيا أن جزءا عظيما من القوانين الجديدة، لما عاقت العوائق عن تطبيقها، ظلت مكتوبة في الورق، فقيل بعد ذلك: إنه كان لتركيا قوانين جيدة ولديها من ضروبها شيء كثير، ولكن يعوزها التطبيق فقط. وقال جلال نوري:
186
إنا لنرى، والأسف ملء قلوبنا، أن جنسنا التركي ليس على استعداد كبير للإدارة؛ فقد وضعت أسس ترتيبات مهمة على عهد أورخان ومراد خداوندكار، فحالت قلة أهليتنا لها دون الاحتفاظ بها، وكان عجزنا في الإدارة محققا، ولنا أن نقول: إن المسألة الشرقية بمعناها الحقيقي هي مسألة إدارة، أو بتعبير أصح مسألة قلة إدارة، ولولا فساد الإدارة ما وجدت روسيا، ومن لهن علاقة بالشرق من الدول سبيلا إلى الدولة العثمانية ينفذن منه إلى إثارة العناصر المختلفة في السلطنة، وكل ما أصابنا ناشئ من خلل الإدارة، وباختلال إدارتنا قامت في العهد الأخير بعض العناصر العثمانية فنزعت إلى الاستقلال، ودفعت إلى تأليف إدارات مستقلة، وإنشاء حكومات قامت على السلطان القومي، وما احتفظت أمة قط بوحدتها وحياتها إلا بحسن إدارتها.
السياسة في الإسلام
سياسة الرسول
كان أول الناس إسلاما زوج الرسول خديجة بنت خويلد، وأبو بكر الصديق، وابن عمه علي بن أبي طالب وهو طفل، ومولاه زيد بن حارثة، وقضى نحو ثلاث سنين منذ نبوته وهو يعمل مستخفيا يجتمع إليه أصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم سابع سبعة في الإسلام، ودعيت هذه الدار دار الإسلام؛
1
لأن فيها دعا الرسول إلى التوحيد، ومنها خرج المسلمون لما أسلم عمر بن الخطاب وكبروا وطافوا بالبيت ظاهرين.
وأخذ الرسول ينذر عشيرته الأقربين من بني هاشم وبني المطلب قائلا: ما أعلم إنسانا في العرب جاءكم بأفضل مما جئتكم بخير الدنيا والآخرة،
2
فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم، وقام بالأبطح من ضواحي مكة فقال: إني رسول الله أدعوكم إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت. فاستهزأت به قريش، وقالوا لأبي طالب: إن ابن أخيك قد عاب آلهتنا، وسفه أحلامنا، وضلل أسلافنا، فليمسك عن ذلك ، وليحكم في أموالنا بما يشاء، فقال الرسول: إن الله لم يبعثني لجمع الدنيا والرغبة فيها، وإنما بعثني لأبلغ عنه وأدل عليه، وقال: لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أدع هذا الذي جئت به ما تركته.
وأخذ يوافي الموسم كل عام،
3
ويتبع الحاج في منازلهم في المواسم، بعكاظ ومجنة وذي المجاز من أسواق مكة وضواحيها، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه، وإنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم العجم، وقال «بعثت إلى الناس كافة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش، فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم، فإن لم يستجيبوا لي فإلي وحدي.»
كان أبو طالب عم الرسول يرعاه ويحميه من أذى قريش، وعمه أبو لهب يضطهده ويؤذيه ويؤلب قريشا عليه، وهلك أبو طالب، ثم زوج الرسول خديجة، فذهب النصير والعشير، وعظمت عليه المصيبة بموتهما، ووصلت قريش من أذاه إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياة عمه: يهزءون بدعوته ويكذبونه، ويضعون الشوك في طريقه، ويحثون التراب على رأسه، ومنهم من يطرح عليه أو في برمته
4
رحم شاة، فيقف على بابه ثم يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟
أغرت قريش سفهاءها به، ومن قبل النبوة كانت تدعوه الأمين لما رأت من أمانته ومروءته، وصدق حديثه وحسن جوابه، ولطالما حكمته قبل مبعثه في معضلاته فحكم بالحق، وقد شهد حلف الفضول على التآسي بين قريش وعدم التظالم، واشترك في حرب الفجار، ورضي العشائر بحكمه يوم اختلفوا فيمن يرفع الحجر الأسود إلى محله في الحرم، حتى قال قائل ممن حضر من قريش - وقريش كلها حضور - متعجبا من فعلهم وانقيادهم
5
إلى أصغرهم سنا وأقلهم مالا، فجعلوه عليهم رئيسا وحاكما: أما واللات والعزى ليفوتنهم سبقا، وليقسمن بينهم حظوظا وحدودا، وليكونن له بعد هذا اليوم شأن ونبأ عظيم.
شق على قريش أن يقوم من بنيها من يزحزحها عن مألوفها من العبادات والعادات، لا يحفل بما تواطأت على تعظيمه، ويأتي على نظامهم الاجتماعي الذي كان لا يفيد إلا الممولين والملآء،
6
وكان يقهر الصعاليك والضعفاء، وكانت مكة في الجاهلية لا تدين
7
لملك من الملوك، ولم يؤد أهلها إتاوة، ولا ملكهم ملك قط، تحج إلى مكة ملوك حمير وكندة وغسان ولخم، فيدينون للحمس من قريش، ويرون تعظيمهم والاقتداء بآثارهم مفروضا، وكان أهلها آمنين يغزون ولا يغزون، ويسبون ولا يسبون، وأهلها حلفاء متآلفون، ومتمسكون بكثير من شريعة إبراهيم، وهي توحيد
8
الخالق، وملة الإسلام هي ملة إبراهيم نزل القرآن بتوكيدها، وجاء الإسلام ليأتي على الشرك، ويخرج العرب من عبادة اللات والعزى ومناة وغيرها من أصنامهم إلى توحيد الخالق تعالى.
ضاقت مكة بمن أجابوا الدعوة من المسلمين، ومنهم من ليس له عشيرة تحميه، فأمر الرسول بعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر إليها نحو ثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة سوى الأبناء، وسافر إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة، فعاد وقومه أشد مما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين،
9
ممن آمن به، ورجع أصحابه إلى مكة من الهجرة الأولى فاشتد عليهم قومهم
10
وسطت بهم عشائرهم، ولقوهم أذى شديدا، فأذن لهم الرسول في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الأولى أعظمهما مشقة، ولقوا من قريش تعنيفا شديدا، وكبر عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره، وغضبوا على الرسول وأصحابه، وأجمعوا على قتله، وكتبوا كتابا على بني هاشم ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، ثم حصروا بني هاشم في شعب أبي طالب، وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبه مع بني هاشم، وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني هاشم وبني المطلب، وقطعوا عنهم الميرة والمادة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى بلغهم الجهد، وسمعت أصوات صبيانهم من وراء الشعب، فمن قريش من سره ذلك، ومنهم من ساءه، ومكث الرسول في الشعب سنتين وقيل أكثر.
وكان من ضروب الأذى الذي تلحقه قريش بالمستضعفين من المؤمنين، أن يلبسوا بعضهم أدراع الحديد، ثم يصهرونهم في الشمس، أو يلصقون ظهورهم بالرصف
11
حتى يذهب لحم متنهم، ويجيعونهم ويعطشونهم حتى ما يقدر أحدهم أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، ويقولون له: آللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى اضطر الرسول أن يحث المؤمنين ألا ينزلوا إلا مع المسلمين، لما كان يلحقهم من أذى المشركين إذا جاوروهم؛ لأنهم لا عهد لهم.
كل هذا والرسول لا يفتأ يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، ويقف بمنى على منازل القبائل من العرب
12
فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأوثان، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني، وما كان يسمع بقادم يقدم من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له أو عرضه عليه ما عنده.
واهتدى به في بعض السنين ستة من الخزرج من أهل مدينة يثرب - وأهلها قبيلتان الأوس والخزرج يجمعهم أب واحد وهم يمانيون - وبين القبيلتين حروب، وهم حلف قبيلتين من اليهود يقال لهما قريظة والنضير، فذهبوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، وجاءه من قابل اثنا عشر رجلا من أهل يثرب أيضا، فأسلموا وبايعهم بيعة النساء، وبيعة النساء ألا يشركوا بالله شيئا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، فعادوا إلى المدينة ينشرون الدعوة المحمدية.
وما برح المؤمنون بالرسالة يكثرون سنة فسنة، حتى رأى الرسول في السنة الثالثة عشرة من مبعثه أن يهاجر إلى يثرب ليكون والمؤمنين به بمأمن من الأذى، وينفسح أمامه المجال لنشر دعوته، وما إن علمت قريش أنه صار له أنصار وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، وأن أصحابه بمكة لحقوا به ونزلوا يثرب وأصابوا ممن آمن منعة، ورأوا «ظهور الرسول وعلو حقه» حتى اجتمعوا في دار قصي بن كلاب، وهي دار ندوتهم
13
فأجمع رأيهم على أن «يأخذوا من كل قبيلة رجلا يضربونه بسيوفهم ضربة رجل واحد ليضيع دمه في القبائل.»
وجاء مدينة يثرب فآخى بين المهاجرين والأنصار،
14
آخى بينهم على الحق والمؤاساة، يتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام، وكانوا تسعين وقيل مائة، نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، وظلوا على هذه المؤاخاة حتى نزلت في وقعة بدر آية
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله
فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة في الميراث، ورجع كل إنسان إلى نسبه وورثه ذوو رحمه.
وكتب الرسول كتابا في يثرب - وكانت أرض يثرب لليهود - بين المهاجرين والأنصار وبين اليهود، أقر فيه اليهود على دينهم وأموالهم، وعاهدهم ووادعهم، واشترط عليهم وشرط لهم، جاء فيه: أن المؤمنين لا يتركون مفرحا
15
بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافر على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأن من اتبع المسلمين من يهود، فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت مع المسلمين يعقب بعضها بعضا، وأن المؤمنين يبيء
16
بعضهم بعضا بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأن من اعتبط
17
مؤمنا قتلا عن بينة، فإنه قود به إلى أن يرضي ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، لا يحل لهم إلا قيام عليه، وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يؤتغ
18
إلا نفسه وأهل بيته، وأن بطانة يهود كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة آمن إلا من ظلم أو أثم.
وبهذا العهد مع أهل يثرب أمن المؤمنون على أنفسهم، واستعدوا لما يخبؤه المستقبل في صدره من الحوادث والكوارث، وكان الرسول في مكة بالأمس داعيا إلى دينه، يتلطف بنشره بين المشركين، ويتحمل العنت والأذى، فلما غادر دار أهله وهي دار الشرك، إلى بلد بعيد وهي دار النصرة، قلب لمن طال عداؤهم له ظهر المجن، وكان المكيون وهو بين أظهرهم يحاربونه بأقوالهم وأفعالهم، وهو يسالمهم لا يريد منهم إلا القول بالتوحيد ونزع أوضار الشرك، فأصبح بعد الجلاء عنهم إلى دار هجرته، قويا بنفسه وبمن معه، وأخذ يحاربهم بأقواله وأفعاله. •••
وكثرت هجرة المؤمنين إلى مدينة يثرب، وقوي المكيون المهاجرون بالأنصار المدنيين، وكان «أول
19
ما بعث الله نبيه بالدعوة بعثه بغير قتال ولا جزية، فأقام على ذلك عشر سنين بمكة بعد نبوته يؤمر بالكف عنهم، ثم أنزل الله عليه:
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا
الآية، وأمره بقتال من قاتله والكف عمن لم يقاتله، وقال الله عز وجل:
فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ، ثم نزلت براءة لثماني سنين من الهجرة، فأمره بقتال جميع من لم يسلم من العرب، من قاتله أو كف عنه، إلا من عاهده ولم ينتقض من عهده شيئا فقال:
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ».
كانت
20
الكفار بعد الهجرة مع النبي على ثلاثة أقسام، قسم وادعهم على ألا يحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وبني قينقاع، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش، وقسم تاركوه وانتظروا ما يؤول إليه أمره كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا وهم المنافقون»، وهو يوادع ويتلطف وسياسته التي علمه إياها ربه:
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر .
وشرع الرسول في غزواته وسراياه، وأول غزواته غزوة ودان، وهي غزوة الأبواء، وتواترت غزواته حتى بلغت إلى حين وفاته سبعا وعشرين غزوة وسراياه، وبعثوه ثماني وثلاثين على أرجح الأقوال، ومن غزواته أو سراياه ما كان يضرب فيه المكيين في تجارتهم بين الحجاز والشام، يتسقط عير قريش إذا اجتازت بأرض المدينة، ذاهبة جائية بين دمشق ومكة، وقد وفق في أكثر سراياه وغزواته؛ لأنه كان يعمل برأي من نجذتهم الحروب من أصحابه، وعرفوا بالشجاعة وحسن التدبير، وقد يعمل بما يذهب إليه أصحابه من رأي سديد، ولا يتمسك بما يراه إذا ظهر له صواب ما اعترض عليه به، ويقول «الحرب خدعة»؛ أي إن آخر مكايد الحرب القتال بالسيف إذا كان بدؤها خدعة، وقد يحضر بعض الغزوات بنفسه واشترك في بضع منها، ووصل العدو إليه مرة، وأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته، وشج وجهه، وكلمت شفته، وانهزم المسلمون يوم حنين، وكانوا أعجبوا بعديدهم فجاء التنزيل:
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ، وكان الرسول يفادي بالأسرى، ويرفق بهم، وإذا جاءه أهلهم ونساؤهم أو شفع فيهم أحد أصحابه، يخفف عنهم أو يطلق سراحهم ولو كان لقي منهم شرا، وفادى بأسارى بدر على قدر أموالهم، وكان أهل مكة
21
يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه.
قال الرسول يوم الحديبية، وقد قيل له إن قريشا قد سمعوا بمسيرك فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل،
22
قد لبسوا جلود النمور
23
يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا، أي مكة: يا ويح
24
قريش! قد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
25
وفي هذه الغزوة صدته قريش عن زيارة البيت الحرام، فأرسل عثمان بن عفان لمفاوضة قريش في مكة وبلغه أنه قتل، فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا إلى البيعة، بيعة الرضوان، فبايعه أصحابه تحت الشجرة، وهم ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلا، بايعوه على الموت، وقيل بايعهم على ألا يفروا من الزحف، ولم يتخلف عن بيعته أحد من المسلمين،
26
وعادت هذه البيعة على الإسلام بالنصر المؤزر، وكتب للمسلمين بعدها كل قوة في الأرض العربية، وكان الرسول شعر بالضعف قبل حين، وهم بمصالحة الأحزاب على ثلث تمر المدينة.
وما كانت غزوات الرسول وسراياه إلا عن دواع اضطرته إلى حرب المشركين، فسبب وقعة الخندق أن قريشا كانت تبعث إلى اليهود وسائر القبائل يحرضونهم على قتال الرسول، والسبب في وقعة حنين، وتسمى غزوة هوازن ما بلغ الرسول بعد أن فتح مكة وأسلم عامة أهلها أن هوازن وثقيف جمعت فيها جمعا كثيرا، وقصدوا محاربة المسلمين، فخرج إليهم الرسول من مكة في اثني عشر ألفا، منهم الثلثان من أهل مكة وهم الطلقاء الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، والسبب في غزوة غطفان إلى نجد أنه بلغ الرسول أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب بذي الكنف أمر قد تجمعوا، يريدون أن يصيبوا من أطرافه، والداعي إلى سرية أبي سلمة بن عبد الأسد إلى قطن ما بلغ النبي من أن طليحة وسلمة ومن أطاعهما يدعونهم إلى حربه، وسرية المنذر بن عمرو إلى بئر معونة كان فيها سبعون، وقيل أربعون رجلا من المسلمين فيهم أشهر القراء والحفاظ أرسلهم مع عامر بن أبي براء ملاعب الأسنة الكلابي؛ ليدعو أهل نجد إلى الإسلام، فخرج عليهم عامر بن الطفيل من بني عامر ورعل وذكوان وعصية، فقتلوا ولم يجد رسول الله على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة.
وسبب سرية مرثد بن أبي مرثد أن رهطا من عضل والقارة سألوا النبي أن يرسل معهم من يعلمهم شرائع الإسلام، فلما كانوا بين عسفان ومكة غدروا بهم فقتلوهم غير اثنين، ودعا إلى غزوة دومة الجندل ما بلغه من أن فيها جمعا كثيرا يظلمون من مر بهم، ويريدون أن يدنوا من المدينة، وسبب غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ما بلغه من أن فيها جمعا يريد حرب الرسول بقيادة الحارث بن أبي ضرار، وسبب غزوة الغابة أن جماعة استاقوا غنمه وقتلوا ابن أبي ذر، وسرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك ما بلغه من أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، وسرية عبد الله بن رواحة إلى أسيد بن زارم اليهودي ما بلغه من أنه يجمع اليهود لحرب الرسول، والسبب في غزوة تبوك للطلب بدم جعفر بن أبي طالب ما بلغه من الأنباط
27
الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم تجمعت مع هرقل، وكانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل أن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك، وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا، وسرية زيد بن حارثة أن زيدا هذا خرج في تجارة إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب النبي فلما كان بوادي القرى لقيه أناس من فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم، وسرية بني الرجيع بعث الرسول ستة من أصحابه فغدروا بهم، فكان ذلك سبب غزوة بني لحيان، وكثير من غزواته وسراياه كان الداعي إليها أنه دعا قوما إلى الإسلام، فشاكسوه وقاوموه وامتهنوا ما دعاهم إليه.
28
وأخذ أمر المشركين يضعف ويتراجع، والمسلمون يقوون ويكثرون، والرسول يطلب من الناس أن يبايعوه على ألا يشركوا بالله شيئا،
29
ولا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يعصوه في معروف، والناس يبايعونه على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، على ألا ينازعوا الأمر أهله، وعلى أن يقولوا بالحق أينما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم، وإذا بايعه الناس على السمع والطاعة يقول: فيما استطعتم.
وبعد صلح الحديبية جاءه نساء مهاجرات من الكفار، فورد التنزيل:
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن ، فكان يأمر بامتحان النساء بالحلف، وأنهن ما خرجن إلا رغبة في الإسلام
30
لا بغضا لأزواجهن من الكفار، ولا عشقا لرجال من المسلمين، ومعنى لا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن؛ أي بولد ملقوط ينسبنه إلى الزوج، فإن الأم إذا وضعت الولد سقط بين يديها ورجليها، ومعنى لا يعصينك في معروف هو ما وافق طاعة الله كترك النياحة، وتمزيق الثياب، وجز الشعور، وشق الجيب، وخمش الوجه إلى ما شاكل ذلك من أعمال الجاهلية. وما جوز الرسول قتل النساء والولدان في الحرب، ولا قتل العسفاء ولا الوصفاء،
31
وأغضى عن المنافقين وأجرى عليهم
32
حكم الظاهر حتى قويت بهم الشوكة وكثر العدد، وأغضى عن القاعدين عن الحرب، وهو أشد ما يكون حاجة إلى تكثير سواد من يقاتل معه.
وصالح الرسول قريشا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، ثم انتقض هذا الصلح بعد مدة؛ لأن خزاعة كانت في عهد الرسول، وكنانة في عهد قريش، فأعانت قريش كنانة، فأرسلوا مواليهم، فوثبوا على خزاعة، فقتلوا فيهم، فشكت خزاعة إليه.
فصحت نيته عندئذ على فتح مكة متحللا من المعاهدة التي بينه وبينهم، وخف يدوخها في عشرة آلاف من المؤمنين، فيهم الأنصار والمهاجرون وطوائف من العرب، فسقط
33
في أيدي المشركين، وخافوا إذا ظهر عليهم أن يفنيهم على بكرة أبيهم، فما رأوا منه وهو في موقف الغالب إلا العطف، وكل ما يحبب الإسلام إلى قلوبهم، وشمل أعاظم قريش بإحسانه، وكف عن الأذى عندما أعطوا
34
بأيديهم، وقال: ألا كل دم ومال ومأثرة في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي هاتين، إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج، فإنهما مردودان إلى أهلهما، ألا وإن مكة محرمة بحرمة الله، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، وإنما حلت لي ساعة ثم أغلقت، فهي محرمة إلى يوم القيامة، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها،
35
ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين،
36
إما أن يعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل، وقال من كان في بيته صنم فليكسره، ودعا بالنساء فبايعنه، وأخذ عليهن العهد والميثاق، فإذا أقررن بألسنتهن قال: بايعتكن، ولا يمس أيديهن، فجعل من النساء أدوات صالحة لنشر الإسلام، وكان بعضهن في الجاهلية يصبغن ثيابهن بدم القتيل، ويأكلن كبده وقلبه.
قال ابن قيم الجوزية: لما خرج رسول الله من حصر العدو دخل في حصر النصر، فعبثت أيدي سراياه بالنصر في الأطراف، فطار ذكره في الآفاق، فصار الخلق معه ثلاثة أقسام: مؤمن به، ومسالم له، وخائف منه، دخل مكة دخولا ما دخله أحد قبله ولا بعده، حوله المهاجرون والأنصار لا يبين منهم إلا الحدق، دخل وذقنه تمس قربوس سرجه خضوعا وذلا لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رءوسها، ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة مالكا مؤيدا منصورا، وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة، فنشر بزا طوى عن القوم من يوم قوله «أحد أحد»، ورفع صوته بالآذان، فأجابته القبائل من كل ناحية، فأقبلوا يؤمون الصوت، فدخلوا في دين الله أفواجا، وكانوا قبل ذلك يأتون آحادا، فلما جلس الرسول على منبر العز، وما نزل عنه قط، مدت الملوك أعناقها بالخضوع إليه، فمنهم من سلم إليه مفاتيح البلاد، ومنهم من سأله الموادعة والصلح، ومنهم من أقر بالجزية والصغار، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب.
بعث الرسول في سنة سبع كتبه ورسله إلى الملوك والأمراء من العرب والعجم يدعوهم إلى الإسلام، وذلك لما تمت له الغلبة على قريش، ولم يبال سلطانهم، ولا استخذى
37
في سبيل دعوته، وكان كل كتاب أرسله يختلف بألفاظه ومعناه واحد، فمن الملوك من تلطف وهاداه ووالاه، ومنهم من أكبر هذه الجرأة منه ككسرى، فإنه مزق كتابه وأمر أحد عماله في اليمن أن يأتي الحجاز ويستتيب الرسول أو يبعث إليه برأسه.
هذا والناس يدخلون في الدين أفواجا، والقبائل تنزل على حكم الرسول وأصحابه، والوفود تفد عليه من أقطار بلاد العرب، يدخل أهلها في طاعته، وتتخلى عن الشرك وتدين بالتوحيد، وتؤدي الصدقات والأموال، ومنهم من ينضم إلى جيشه، ومنهم من يبقى في أرضه، وأهل الكتاب يؤدون الجزي والعشور، ويسالمون الرسول لا يرجون غير رضاه، وفي كتبه إلى من رأى دعوتهم إلى دينه من الملوك والأقيال والزعماء مثال من سياسته واستبطانه أحوال كل قطر ومصر، وهو أبدا في شغل شاغل من تأمير الأمراء، يوصيهم بتقوى الله
38
وبمن معهم من المسلمين، ثم يقول: «اغزوا على اسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم، فإن أبوا فاستعن بالله تعالى وقاتلهم، وإذا حصرت أهل حصن فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك فإنكم إن تخفروا ذممكم، أهون من أن تخفروا ذمة الله، وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل بل على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا.»
ومن سياسة الرسول أن كان القريب والبعيد، والقوي والضعيف، في الحق سواء، ما هاب ملكا لملكه، ولا ذا سلطان لسلطانه، ولا صانع ذا مال لماله، يؤلف بين قلوب أهل الشرف، ويؤلف أصحابه ولا ينفرهم، ويكرم كريم قومه، وهو أحلم الناس، يحب العفو والستر ويأمر بهما، يخوض مع أصحابه إذا تحدثوا، فيذكرون الدنيا
39
فيذكرها معهم، ويذكرون الآخرة فيذكرها معهم، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولا ضرب امرأة ولا خادما قط، كان يبشر ولا ينفر، وييسر ولا يعسر، يعدل في الغضب والرضا، ويعفو عمن ظلمه، ويصل من قطعه، ويأمر أمراءه - أي عماله - أن يأذنوا للفقير قبل الغني، وللوضيع قبل الشريف، وللمرأة قبل الرجل.
أشعر القلوب معنى المساواة والحرية، وإلغاء الطبقات التي كان من نظامها أن يستعبد الشريف المشروف، والغالب المغلوب، استعبادا دونه الرق، سرقت امرأة من بني مخزوم
40
فأهم قريشا شأنها، فقالوا من يكلم فيها رسول الله، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيده حبه، فكلمه أسامة فقال: أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ ثم قام فاختطب،
41
ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
ومن خطبة أيام التشريق
42
ألا لا تظالموا ثلاثا، ألا إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في أيام الجاهلية تحت قدمي هذه، ألا وإن أول دم وضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل، ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع، ألا وإن الله تعالى قضى أن أول ربا يوضع ربا عمي العباس
وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .
وأوصى الرسول آخر أمره بالأنصار وأهل الذمة وبالنساء، وأذن في الناس في السنة التاسعة أنه لا يحج بعد ذاك العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان،
43
ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدته، ولا عهد لمشرك ولا ذمة بعد أربعة أشهر، ولم تمض سنة حتى دخلت العرب في الإسلام ، وكانوا أكثر من مائة ألف وتعايروا بالشرك بينهم والمقام عليه.
44 •••
صورنا في الصفحة الماضية صورة من دعوة الرسول إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ومثلنا ما بلغ قومه من إيذائه وإيذاء أصحابه، إلى ما لم تكد نفس بشرية تتحمله، وها نحن أولاء نرسل صورة أخرى تكذب أيضا من تقولوا عليه، واتهموه بأنه ظلم من قاتلهم، ولطالما رماه بذلك المتنطعون ليقولوا: إن الإسلام ما قام إلا بالسيف، فقد رأينا عطف الرسول على نصارى نجران، لما جاءه وفد منهم فيه عاقبهم وثمالهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم
45
في ستين راكبا فناقشوه وناقشهم، ثم ارتضوا بأداء الجزية فداموا بخير ما حافظوا على عهدهم، وكذلك كان حال أهل دومة الجندل
46
وأذرح وهجر والبحرين وأيلة من بلاد النصارى، فإنها كانت من أرض الصلح، وأدت إلى الرسول الجزية، وعاشت مع المسلمين بسلام، ولم يقاتل بني قيس بن ثعلبة، وكانوا نصارى وتركهم يلحقون باليمامة حتى أسلم الناس، فمنهم من أسلم، ومنهم من أقام على نصرانيته. وقال الرسول من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه. وقال من قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة. وقال من قتل نفسا معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشمها، وجعل دية المعاهد كدية المسلم ألف
47
دينار.
وعطف المسلمون على الروم لما غلبهم الفرس في أرض الجزيرة حتى فرح المشركون وشمتوا بالمسلمين،
48
وقالوا أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس أميون، فقد ظهر إخواننا المجوس على إخوانكم فلنظهرن عليكم، فنزل قوله تعالى:
الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، ثم ظهرت الروم على فارس، والتقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأول، وغلب الروم الفرس فسر المسلمون وصدق التنزيل.
49
وفي السنة الأولى من الهجرة كانت واقعة ذي قار بين بكر بن وائل وبين الجيش الذي بعثه إليهم الملك خسرو أبرويز، فهزمت العجم ومن كان معها من تغلب وطي وضبة وتميم والنمر وبهراء وتنوخ وغيرهم من متنصرة العرب ، ولما أتى بعض بكر بن وائل الموسم وقف عليهم النبي وهو يعرض نفسه على القبائل، فوعدوه إن نصرهم الله على الأعاجم أن يؤمنوا به فدعا لهم بالنصر، ولما حمي وطيس الحرب بينهم وبين جيوش كسرى قالوا عليكم بشعار التهامي، فنادوا يا محمد يا محمد فهزموا عدوهم، فلما بلغه ظهورهم على الأعاجم، قال: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم.
50
هكذا كانت عاطفة الرسول والمسلمين نحو النصارى، ومثل ذلك كانت عاطفته نحو اليهود،
51
ولولا ذلك ما عاهدهم ولا هاجر من بلده إلى بلدهم معتصما بالأوس والخزرج حلفائهم، وبعد أن عاهدوه وشرطوا عليه واشترط عليهم خانوه وألبوا عليه الأحزاب - أي قبائل العرب - وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فبنو قريظة نقضوا عهده وأعانوا عليه في غزوة الخندق، وهي غزوة الأحزاب، فحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، فأمر بقتل المقاتلين منهم، وسبي ذراريهم، واستفاءة
52
أموالهم لمظاهرتهم المشركين على المسلمين، وبنو النضير امتنعوا منه بحصونهم، فقطع نخلهم وشجرهم وأضرم النار عليهم، فصالحوه على أن يحقن لهم دماءهم ويسيرهم إلى أذرعات في الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء على أن لهم ما أقلت الإبل ما عدا الحلقة،
53
ويهود خيبر طالوه وماكسوه،
54
ثم صالحوه على حقن دمائهم وترك الذرية على أن يجلوا ويخلوا بين المسلمين وبين الأرض والصفراء والبيضاء والبزة إلا ما كان منها على الأجساد.
ثم قالوا له: إن لنا بالعمارة والقيام على النخل علما فأقرنا فأقرهم، وساقاهم على النصف من ثمارهم، وبنو قينقاع نزلوا على حكمه فغنم أموالهم، وأخذ الخمس وهو أول خمس خمسه،
55
وفرق أربعة الأخماس على أصحابه، وبنو المصطلق كان حكمهم حكم غيرهم، وفتح وادي القرى وأخذ المسلمون أرضهم؛ لامتناعهم عن قبول الإسلام وقتالهم له، فما كان الرسول هو الظالم لليهود، بل هم الذين ظلموا أنفسهم.
ومن اليهود من ألقى صخرة على الرسول يريد قتله ومن كان معه من أصحابه، وفي غزوة خيبر أدخلت عليه السم في الطعام زينب بنت الحرث اليهودية، ومنهم من آذاه وآذى المسلمين ككعب بن الأشرف الشاعر اليهودي هجاه وشبب بنساء المسلمين، وحرض عليهم وآذاهم فقتله، وعصماء بنت مروان الشاعرة اليهودية كانت تعيب الإسلام وتؤذي النبي، وتحرض عليه وتهجوه، وأبو عفك اليهودي يحرض على المسلمين، ويقول الشعر على الرسول، ولم يترك اليهود حيلة لإلقاء الشقاق بين المسلمين، وبين المسلمين والمشركين إلا أتوها، وغاظهم تألف
56
الأوس والخزرج فذكروهم يوم بعاث، وكان الظفر فيه للأوس في الجاهلية، فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وتداعوا إلى السلاح، ولولا أن وعظهم الرسول وأبان لهم أن ذلك كيد من عدوهم لأفنى بعضهم بعضا، وفي هذه المؤامرات نزلت آية:
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين .
وبدأ بدومة الجندل فكانت أول غزواته للروم فيها وغزا تبوك، ثم أغزى بعض خاصته مؤتة من أرض الشام ذلك لما بلغه أن الروم تجمع جموعها، تريد أن تغزو بلاد العرب بمن عندها من متنصرة العرب وغيرهم، وكان شرحبيل بن عمرو الغساني من عمال الروم عرض للحرث بن نمير الأسدي رسول الرسول إلى أمير بصرى يحمل كتابا فقتله، ولم يقتل للنبي رسول غيره فوجد عليه وجدا كثيرا.
فلم يعمد الرسول إلى السيف إلا لما رأى الخطر يتحيفه من كل وجه، وما قال بالقوة إلا لما استنفد عامة طرق الدعاية إلى دينه، وما غزا غزوة إلا عن سبب قوي دعاه إليها، ومن المتعذر أن يحمي حمى الدين بغير حماية القائمين به، ولا يأمن المضعوف شر القوي إلا إذا قوي مثله، ولن تكون الحجاز بمأمن من جيوش الروم وفارس، إذا لم تكن العرب ذات سطوة يخشى بأسها، ولا يكون محمد والمؤمنون به بمنجاة من مجاوريهم إذا لم يكونوا أبدا على استعداد لمقابلتهم بمثل سلاحهم.
قويت كلمة الإسلام وزاد كلب أعدائه، فأمر الرسول بقتال المشركين والكفار والمنافقين،
57
وجاءت عدة آيات في قتالهم منها:
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ،
وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين ،
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ،
فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ،
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ،
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ،
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ،
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ،
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
وكان من حرب الرسول للعرب فوائد أخرى، منها الضرب على أيدي من استنزفوا ثروة الجزيرة، توزع أموالهم على العاملين من الناس، ويعوض من مال من قاوموا الإسلام على المهاجرين، الذين فقدوا بهجرتهم ما كانوا يملكونه في مكة من عروض التجارة والعقار والأرض، ويعتاض الأنصار عما أنفقوه في إكرام إخوانهم المهاجرين إلى المدينة، فأعانت الحروب الأولى أهل الإسلام على المضي في دعوتهم؛ ليتفرغوا بما تصل إليه أيديهم من المغانم والصدقات، فيقووا على حرب من أفسدوا كيان الجزيرة بما استحلوا من ظلم أهلها، ومنهم من كانوا يكرهون إماءهم على الزنا، ويضربون عليهم الضرائب فنزل قوله تعالى:
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا .
ثم إن العرب ذلوا زمنا طويلا لفارس والروم، وآن لهم بعد أن اعتزوا بالإسلام أن يخرجوا من صحاريهم داعين لما تلقوه من آداب الدين، آخذين بحظ من الدنيا، ومن قبل كانت تجارتهم مسارقة ومغامرة، تشتد حاجتهم إلى جيرانهم، وهؤلاء قلما يحتاجون إليهم، ويتطلبون رضا من ينزلون عليهم، وهؤلاء لا يعبأون بهم كثيرا، وكيف السبيل إلى الاستمتاع بالكرامة والأمنة إذا فقدت القوة المادية، وكيف تؤمن الطرق إلى انتشار الدين إن لم تكن وراءها قوة تحميها، وعلم يرفرف على دعاتها.
ولأحمد شوقي مخاطبا الرسول في جهاده:
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا
لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة
فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لما أتى لك عفوا كل ذي حسب
تكفل السيف بالجهال والعمم
58
والشر إن تلقه بالخير ضقت به
ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسم
سل المسيحية الغراء كم شربت
بالصاب من شهوات الظالم الغلم
59
طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها
في كل حين قتالا ساطع الحدم
60
لولا حماة لها هبوا لنصرتها
بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم
61
سياسة الخلفاء الراشدين
سياسة أبي بكر الصديق
لحق الرسول بربه بعد أن دعا إليه ثلاث عشرة سنة في مكة، وعشر سنين في المدينة، فعرت الصحابة دهشة عظيمة لوفاته، حتى إن عمر نفسه قال يوم ارتحال النبي، ما مات محمد رسول الله وليبعثنه الله تعالى، فقال أبو بكر: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا قوله تعالى:
إنك ميت وإنهم ميتون .
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ، فنفخ الصديق في قلوب أصحابه روح الصبر، وأنقذهم بما ذكرهم به من الجزع، وأرشدهم إلى ما كانوا غفلوا عنه، من أن دعوتهم إلى الله وشرعه وتوحيده، وأن صاحب هذا الشرع كان بشيرا ونذيرا وبشرا رسولا، إذا قضى فإن شرعه لن يموت، وأن الواجب أن يعملوا كلهم جميعا لإتمام مقصده الأعلى.
وكان لزاما بعد وفاة الشارع أن يبايع لأعظم رجل من أصحابه، يتولى من أمر الأمة ما تولاه رسولها منه، لتظل الدعوة مستحكمة، والألفة بين المؤمنين شائعة، ويكمل هذا الصرح الديني الذي أسسه صاحبه العظيم لسلامة الخلق، وليس أفضل من أبي بكر لإتمام هذا الغرض، وهو شيخ قريش بسنه وفضله وحسن بلائه، وهو أعرف الصحابة بمقاصد صاحب الرسالة لطول ملابسته له؛ ولأن الرسول لما مرض مرضته التي توفي بها، قال لمن حضره غيره مرة: مروا أبا بكر فليصل بالناس، وإن تفضيله له على غيره دليل ثقته به.
اجتمع الناس غداة ارتحال الرسول في سقيفة بني ساعدة برياسة سيد الخزرج سعد بن عبادة، فأذعنت الأنصار لبيعته، وقال المهاجرون
1
الأئمة من قريش، وطال الحوار فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وقال المهاجرون: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، وكان شاهد هذه المحاورة أبو بكر وعمر، وكان عمر هيأ كلاما يريد أن يقوله فانقطع، وتقدم أبو بكر فخطب وقال: «نحن المهاجرون أول الناس إسلاما والناس لنا تبع، ونحن عشيرة رسول الله، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابا، ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة، وأنتم والله الذين آووا ونصروا، وأنتم وزراؤنا في الدين ووزراء رسول الله، وأنتم إخواننا في كتاب الله تعالى، وشركاؤنا في دين الله - عز وجل - وفيما كنا فيه من سراء وضراء، والله ما كنا في خير قط إلا كنتم معنا فيه.» ودعاهم إلى مبايعة أبي عبيدة بن الجراح أو عمر بن الخطاب، فقال عمر وأبو عبيدة ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار ثاني اثنين، وأمرك رسول الله بالصلاة، فأنت أحق بهذا الأمر، وطالت مرادات المؤتمرين من زعماء الأنصار والمهاجرين، ثم قام أبو بكر يدعوهم إلى الجماعة وينهاهم عن الفرقة، وقال: إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين أبي عبيدة وعمر، فبايعوا من شئتم منهما، فقال عمر: معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا، أنت أقدمنا صحبة لرسول الله، وأنت أفضل المهاجرين وثاني اثنين، وخليفته على الصلاة، والصلاة أفضل دين الإسلام، فمن ذا ينبغي أن يتقدمك، ويتولى هذا الأمر عليك، ابسط يدك أبايعك فبايعوه، ومن الغد بويع مبايعة عامة في المسجد، ولم يتخلف عن بيعته سوى علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، وقعد علي والعباس والزبير في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيتها، وقال له: إن أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم النار، فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب جئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة، وحرص عمر كل الحرص على أخذ البيعة من علي لأبي بكر؛ لأن عليا أحد العشرة المبشرة، وما عبأ كثيرا بتخلف سعد عن البيعة، وبايع بنو هاشم بأجمعهم.
وأقام أبو بكر بعد البيعة ثلاثة أيام يقيل الناس ويستقيلهم ويقول: قد أقلتكم في بيعتي هذه، هل من كاره، هل من مبغض؟ وخطب القوم ومما قال: وايم الله ما حرصت عليها - أي الخلافة - ليلا ولا نهارا، ولا سألتها الله قط في سر ولا علانية، ولقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ولا يد، وودت أني وجدت أقوى الناس عليه مكاني، فأطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم.
وأنكرت فاطمة ابنة الرسول وزوج علي بن أبي طالب حرمان زوجها الخلافة، ومنزلتها ومنزلة زوجها منزلتهما، فاستأذن أبو بكر وعمر عليهما فلم تأذن،
2
فأدخلهما علي عليها، فقالت: تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمروا ولم تردوا لنا حقا، فحاوراها فما زادت إلا غضبا، وقالت: لئن لقيت النبي لأشكونكما إليه، وقالت لأبي بكر: لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها، فخرج أبو بكر باكيا فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته مسرورا بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي، قالوا: يا خليفة رسول الله، إن هذا الأمر لا يستقيم، وأنت أعلمنا بذلك، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين، فقال: والله لولا ذلك، وما أخافه من رخاوة هذه العروة، ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة، بعد ما سمعت
3
ورأيت من فاطمة.
وقال أبو بكر لعلي:
4 «والله لقد سألت رسول الله عن هذا الأمر فقال لي: يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش
5
عليه، ولمن يتضاءل عنه لا لمن يشمخ إليه، وهو لمن يقال له هو لك، لا لمن يقول هو لي، والله لقد شاورني رسول الله في الصهر، فذكر فتيانا من قريش، فقلت له: أين أنت من علي فقال: إني لأكره لفاطمة ميعة
6
شبابه وحداثة سنه، فقلت له: متى كنفته يدك، ورعته عينك، حفت بهما البركة، وسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك، وما كنت عرفت منك حوجاء ولا لوجاء،
7
فقلت ما قلت، وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سواك، وكنت لك إذ ذاك خيرا منك الآن لي، ولئن عرض بك رسول الله في هذا الأمر، فلم يكن معرضا عن غيرك، وإن قال فيك فما سكت عن سواك.»
وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح، وليس ثمة ما يمنع من صحتها؛ لأن معناها تدل عليه الظواهر والوقائع، فقد ثبت أن عليا كان له وجه عند الناس حياة فاطمة،
8
فلما ماتت لخمس وسبعين ليلة من وفاة أبيها، انصرفت وجوه الناس عنه، فعندها ضرع زوجها إلى مصالحة أبي بكر، وقال له: ما نفسنا عليك ما ساقه الله إليك من فضل وخير، ولكنا نرى أن لنا في هذا الأمر شيئا، فاستبددت به دوننا وما ننكر فضلك، وقالوا: إن مما قاله أبو عبيدة لعلي: يا ابن عم
9
إنك حدث السن، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالا واضطلاعا، فسلم لأبي بكر، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء، فأنت بهذا الأمر خليق وحقيق ، في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.
وبديهي أن الصحابة بأسرهم كانوا يحرصون على الجماعة، كما كانوا كلمة واحدة في نصرة الدين، ومثل علي بعقله وعلمه وتقواه لا تحدثه نفسه أن يسير على غير الجادة، بعد أن شاهد الإجماع على مبايعة أبي بكر، فراعى الأمر الواقع، ورأى الخير فيما تم، والسياسة مصلحة، وأكفأ الصحابة لها أبو بكر، وبهذا الإجماع من أهل الحل والعقد وعلية الصحابة، ممن مات رسول الله وهو عنهم راض، وكانوا السابقين الأولين إلى هدايته، ثبت أن الرسول لم يوص لأحد بعده، وليس في القرآن إشارة إلى استحقاق الخلافة بالإرث، بل ولا للخلافة بالمعنى الذي عرفه الناس بعد، ولو كان هناك شيء لما وسع الصحابة، على منزلة الصديق منهم أن يبايعوه، ويغفلوا عن علي، ويتركوا وصية الرسول جانبا، وهناك أمور أدركها الصحابة بالبداهة، منها تقديم أبي بكر للصلاة؛ لأنه حب الرسول وصاحبه الأكبر، وعطفه عليه ظاهر، وثقته به لا تدفع، وأدركوا أن الخلافة لعامة قريش،
10
وأن الرسول لم يخص بها أهل بيته ولا بني هاشم، حتى لا يتخيل الناس أنه ملك متوارث، «وإذا كان
11
جعفر أفضل بني هاشم بعد علي في حياته، ثم مع هذا أمر النبي زيد بن حارثة وهو من بني كلب عليه، علم أن التقدم بفضيلة الإيمان والتقوى، وبحسب أمور أخرى، وبحسب المصلحة لا النسب، ولهذا قدم النبي أبا بكر وعمر على أقاربه؛ لأنه رسول الله، يأمر بأمر الله، وليس من الملوك الذين يقدمون بأهوائهم لأقاربهم ومواليهم وأصدقائهم، وكذلك كان أبو بكر وعمر، حتى قال عمر: من أمر رجلا لقرابة أو صداقة بينهما وهو يجد في المسلمين خيرا منه، فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين.»
قال زيد بن علي: إن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها، من تسكين ثائرة الفتنة، وتطييب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريبا، وسيف أمير المؤمنين - عليه السلام - من دماء المشركين من قريش لم يجف بعد، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل، ولا الرقاب تنقاد له كل الانقياد، وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عرفوه باللين والتودد والتقدم بالسن، والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله.
وقال أبو بكر للعباس: إن الرسول خلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم متفقين لا مختلفين، فاختاروني عليهم واليا، ولأمورهم راعيا، وخرج أبو بكر إلى المسجد، فأقبل على الناس فقام علي فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى فبايعه فأقبل الناس على علي فقالوا: أصبت يا أبا الحسن وأحسنت، يقول المسعودي:
12
إنه تنوزع في بيعة علي بن أبي طالب أبا بكر، فمنهم من قال بعد موت فاطمة بعشرة أيام، وذلك بعد وفاة رسول الله بنيف وسبعين يوما، وقيل بثلاثة أشهر، وقيل ستة، وقيل غير ذلك.
أما سعد بن عبادة الذي بايعه قومه أو كادوا بالخلافة في سقيفة بني ساعدة قبل أن يشهدها أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فقد بطلت بيعته بإجماع الناس على أبي بكر، وقال: لا أبايع حتى أراميكم بما في كنانتي،
13
وأقاتلكم بمن تبعني من قومي وعشيرتي، فترك وشأنه لم يعرض له أحد بسوء، وكان سعد يدعو «اللهم هب لي حمدا، وهب لي مجدا.» وكان من أجواد الناس وأصحاب الجاه العريض والوفر المأثور، سمع عمر بعضهم يقول: إن بيعة أبي بكر فلتة فتمت، فغضب عمر وخطب فيما جرى يوم السقيفة فقال: خشينا
14
إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة، أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.
15
والحق إن الخير كل الخير كان في الإسراع ببيعة أبي بكر، وفي حرض أبي بكر وعمر على أن تكون بيعة عامة لا يفلت منها من كان له مكانة في الصحابة؛ وذلك لأن عقلاء القوم كانوا يتخوفون العرب، والجزيرة لم تصف كلها بالإسلام صفاء يركن إليه، وارتد أكثر العرب عقبى وفاة الرسول
16
إلا أهل المدينة ومكة والطائف، وحاول بعض أهل مكة أن يرتدوا، فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بقريش وغيرهم، فاجتمعوا إليه فقال: يا أهل مكة، كنتم آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من ارتد، والله ليتمن هذا الأمر كما قال رسول الله، فامتنع أهل مكة من الردة، وسهيل بن عمرو، هذا هو أخو عامر بن لؤي الذي تولى عقد الصلح عن قريش عشر سنين، وأبى على الرسول أن يكتب في العهد «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله»، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، اكتب اسمك واسم أبيك، فقبل الرسول هذا التحكم على مضض ممن كان شاهد ذلك من الصحابة.
بعد استخلاف أبي بكر
17
بعشرة أيام، امتنعت بعض قبائل العرب من أداء الزكاة، فمنعت شاتها وبعيرها وارتضوا بالصلاة، ولما كانت الزكاة من دعائم الإسلام، رأى أبو بكر أن الممتنع عن أدائها مرتد، ومن أنكر بعضا قد يبلغ به الحال أن ينكر أكثر من ذلك، واستشار أبو بكر الصحابة، فأجمع رأيهم
18
كلهم أن يلزم أبو بكر بيته ومسجده؛ إذ لا طاقة له بقتال العرب، فقال أبو بكر: أإن كثر أعداؤكم وقل عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب، والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها، ولو كره المشركون، قوله الحق ووعده الحق، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق،
19
وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، والله أيها الناس لو أفردت من جميعكم لجاهدتهم في الله حق جهاده، حتى أبلى بنفسي عذرا أو أقتل قتلا، والله أيها الناس لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، واستعنت الله وهو خير معين، وعلى هذا جاهد حتى أذعنت العرب بالحق.
استبد الصديق برأيه في دفع هذه الغائلة، وأبى إلا قتال المرتدين والمتنبئين، فكان رأيه مسددا دون سائر إخوانه، وأثبت للملأ أنه خير من يجمع كلمة المسلمين، بما أوتي من نفس قوية وصبر، وعلم محكم بأفضل التجارب، فلم يترك بشدته على أهل الردة، والكذبة من متنبئة العرب، مجالا لتسرب الضعف إلى نفوس المسلمين، وذهب وهو رجل الحرب والسلم، بهذه المفخرة من قتال النازلين على الدولة الفتية والدين الجديد، فعد رجل البأس والدهاء السياسي، كما هو رجل الرحمة واللين، لم يتلكأ عن مباغتة المرتدين ومناجزتهم قبل أن يأخذوا عدتهم، وينشروا بين الناس دعوتهم، فكان عمله كله الحكمة وبها قام الإسلام.
كتب أبو بكر لأمرائه الذين وجههم لقتال أهل الردة ما نسخته: هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله لفلان، بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، عهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وجهره، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان، بعد أن يعذر
20
إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم، ولا ينظرهم، ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله - عز وجل - وأقر له، قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، ومن لم يجب إلى داعية الله قتل وقوتل، حيث كان وحيث بلغ مراغمه،
21
لا يقبل من أحد شيئا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقر به قبل منه وعلمه، ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه قتل فيه كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله إلا الخمس فإنه مبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألا يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونا، ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين، ويرفق بهم في السير والمنزل، ويتفقدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول. ا.ه.
ومن وصايا الصديق ليزيد بن أبي سفيان لما أرسله إلى الشام «إذا دخلت بلاد العدو فكن بعيدا من الحملة، فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد وسر بالأدلاء ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيان فإن في العرب غرة،
22
واقلل الكلام فإن لك ما وعى عنك، وإذا أتاك كتابي فأنفذه، فإنما أعمل على حسب إنفاذه، وإذا قدمت عليك وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك وأسبغ عليهم النفقة، وامنع الناس عن محادثتهم ليخرجوا جاهلين كما دخلوا جاهلين، ولا تلحن في عقوبة فإن أدناها وجع، ولا تسرعن إليها وأنت تكتفي بغيرها، واقبل من الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سرائرهم، ولا تجسس عسكرك فتفضحه، ولا تهمله فتفسده.» وفي رواية أنه قال ذلك لخالد بن الوليد حين وجهه لقتال أهل الردة.
مثال من منهاج الصديق في محاربة الناشزين على دينه، وهو لم يخرج في مدته القصيرة التي ولي فيها الخلافة عن الخطة التي رسمها الرسول، قضى على المرتدين والمتنبئين، وما سها عن التوسع في الفتوح، وبسط سلطان الإسلام، وكانت حروب الردة من أول ما علم العرب أن الانشقاق الداخلي مما يقوض دعائم الممالك، ويقصم عرا الوحدة في الأمم، وقدر أن كانت هذه الغزوات بمثابة تمرين لرجال الإسلام على الحروب الكبرى، وفيها ظهرت لهم كفاءات غريبة ساعدتهم على الفتوح بعد حين، فدكوا عروش أمم تسلسل فيها الملك قرونا، وعرفوا كيف يأخذون بمخنق الشعوب والقبائل.
أخذت العرب بعد ذلك تضيف إلى ما تعلمته من صاحب النبوة، ما هدتها إليه فطرتها السليمة، ولقنها إياه المحيط والبيئة، وأي سياسة أحكم مما قاله أبو بكر وهو يشيع يزيد بن أبي سفيان لفتح الشام يوصيه بما يجب عمله، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرم مثواهم، فإنه أول خيرك إليهم، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت الذي تلي كلامهم، وإذا بلغتك عن عدوك عورة فاكتمها حتى توافيها، واستر في عسكرك الأخبار وأذك الحراس، وقال: إنك ستجد قوما حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له يعني الرهبان، ثم قال إني موصيك بعشر: لا تغدر ولا تمثل، ولا تقتل هرما ولا امرأة ولا وليدا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا ما أكلتم، ولا تحرقن نخلا ولا تخربن عامرا، ولا تغل ولا تجبن.
ومن خطب أبي بكر «إنكم اليوم على خلافة نبوة ومفرق محجة، وسترون بعدي ملكا
23
عضوضا، وأمة شعاعا، ودما مفاحا، فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الأثر وتموت السنن، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن، والزموا الجماعة، وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد طول التناظر.» كأن أبا بكر كان يستشعر ببصيرته على نحو ما يكشف السياسي المحنك، حجب الغيب أو يكاد، أن الخلافة تنقلب إلى ملك عضوض لما يرى مما يجري في الخلفاء، ولما يبيت بعضهم من نيات تراد الدنيا في تحقيقها أكثر من الأخرى.
وخطب يوما أهل المدينة في يوم جمعة، وكان يبلغه عن قوم من أهلها أنهم ينالون من أصحاب الرسول، ويوافقهم آخرون على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس أن يقربوا من المنبر فلما فرغ من خطبة الجمعة كان مما قال: «ويحكم، إني لست أتاويا
24
أعلم، ولا بدويا أفهم، قد حلبتكم أشطرا، وقلبتكم أبطنا وأظهرا، فعرفت أنحاءكم وأهواءكم، وعلمت أن قوما أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسروا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله ببعض، وولدوا الروايات فيهم، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانا يأذنون لهم ويصغون إليهم.»
ضبط أبو بكر الأمور بيد من حديد، ولم يترك في خلافته سبيلا إلى الشهوات وخصوصا ما أدى منها إلى الفرقة، وكان لا ينعم بشيء من مناعم الملك، بل هو في الزهد والتواضع والنسك على مثال صاحبه. رؤي
25
يوما في سوق من أسواق المدينة على كتفه جلد شاة، ففزعت عشيرته لذلك، وقالوا له: قد فضحتنا بين المهاجرين والأنصار والعرب، قال: «أفأردتم مني أن أكون ملكا جبارا في الجاهلية جبارا في الإسلام، لا والله لا تكون طاعة العرب إلا بالتواضع لله، والزهد في هذه الدنيا.» وتواضعت الملوك ومن ورد عليه من الوفود بعد التكبر، وقدم إليه زعماء العرب وأشرافها وملوك اليمن، وعليهم الحلل والحبر والبرد، والوشى المثقل بالذهب والتيجان، فلما شاهدوا ما هو فيه من اللباس والزهد، وما هو عليه من الوقار والهيبة، ذهبوا مذهبه ونزعوا ما كان عليهم، وكان ممن وفد عليه من ملوك اليمن ذو الكلاع ملك حمير ومعه ألف عبد، دون من كان من عشيرته، وعليه التاج والبرود المغشاة بالذهب، فلما شاهد أبا بكر ألقى ما كان عليه وتزيا بزيه.
كان الصديق موضع إجلال، بكل ما في الإجلال من المعاني، ما خرج إنسان عن رضاه، وما جسر أحد أن يجهر بذات نفسه، وأي عاقل يجرؤ على الخلاف لمن كان جمهور المسلمين يعجبون بسيرته، وكان كل هذا من العوامل الفعالة في تطبيق مفاصل سياسته، وسر تغلبها أنه لم يكن له مأرب في شيء من أمر الدنيا، ولا أحب جلب النفع إلى ولده وأهله ومواليه وعشيرته دون سائر الناس، وعرفت منزلة الصديق من نفوس قومه يوم قبض، فارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض النبي، وجاء علي باكيا مسترجعا وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر مسجى، فقال: يرحمك
26
الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله وأنيسه، ومستراحه وثقته، وموضع سره ومشاورته، كنت أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله، وأحوطهم على رسوله، وأحدبهم على الإسلام، وآمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفلهم سوابق، وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسوله هديا وسمتا، ورحمة وفضلا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله خيرا، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر،
27
وصدقت رسول الله حين كذبه الناس، فسماك الله في تنزيله صديقا، والذي جاء بالصدق - محمد - وصدق به - أبو بكر - وآسيته حين تخلوا عنه، وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، نهضت حين وهن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، لزمت منهاج رسول الله، وقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت إذا تتعتعوا، مضيت بنور إذ وقفوا، كنت والله للدين يعسوبا،
28
أولا حين نفر عنه الناس، وآخرا حين أقبلوا، فكنت للمؤمنين أبا رحيما حين صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما ضعفوا عنه، ورعيت ما أهملوا، وحفظت ما أضاعوا، وكنت كما قال رسول الله آمن عليه في صحبتك وذات يدك، وكنت - كما قال - ضعيفا في بدنك، قويا في أمر دينك، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في أعين المؤمنين، كبيرا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز، ولا لقائل فيك ملمز، ولا لأحد فيك مطمع، ولا لمخلوق عندك هواه، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، الغريب والبعيد عندك في ذلك سواء ... فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبدا، فألحقك الله بنبيه ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، وسكت الناس حتى انقضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم، وقالوا: صدقت يا ختن رسول الله.
سياسة عمر بن الخطاب
عقد أبو بكر عقد الخلافة من بعده لعمر بن الخطاب، وقد شاور فيه أصحابه من كبار رجال السياسة، وممن شاورهم عبد الرحمن بن عوف، فقال له: هو والله أفضل من رأيك فيه،
29
ولكن فيه غلظة، فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضي الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، ويا أبا محمد قد رمقته
30
فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه، واشتد المرض بالصديق فأشرف على الناس وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، وكتب إليه كتابا هذا نصه:
هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، وفي الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل، فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن جار وبدل، فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب:
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ودعا أبو بكر عمر
31
فأوصاه بما أوصاه به، ثم خرج فرفع أبو بكر يديه، ثم قال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به، فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضرني فاخلفني فيهم فهم عبادك، ونواصيهم في يدك، وأصلح لهم واليهم، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدي نبي الرحمة، وأصلح له رعيته.
ولم يخل استخلاف الصديق عمر من حديث بين من كانت أنفسهم تحدثهم بالخلافة بعده، قال أبو بكر لعبد الرحمن بن عوف: «إني
32
وليت أمركم خيركم في نفسي ، فكلكم ورم
33
أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد
34
الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذربي،
35
كما يألم أحدكم أن ينام على حسك السعدان.»
36
بيد أن ما ظهر من غناء أبي بكر وحسن بلائه، ألجم الألسن فما استطاعت أن تغلظ، وكبح من جماح النفوس، فما استرسلت في تطلب ما تطال إليه، وكأن بني هاشم يئسوا من أن يستخلف سيدهم، بعد الذي كان من أبي بكر وعهده لابن الخطاب، وهم يعرفون منزلة الثاني من نفوس من تجردوا عن الغايات، ولا مصلحة لهم غير قيام أمر المسلمين، والسير في الطريق التي اختطها صاحب هذا الشرع، ورأى الصديق أن عمر أقوى عليها، ولو كانت - كما قال علي بن أبي طالب - محاباة لآثر بها ولده، واستشار المسلمين في عمر، فمنهم من رضي ومنهم من كره، ومن كره أولا رضي آخرا.
كان أول منطق نطق به ابن الخطاب حين استخلف: «إنما مثل العرب مثل جمل أنف اتباع قائده، فلينظر قائده حيث يقود، وأما أنا فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق.» ولما فرغ عمر من دفن أبي بكر نفض يده عن تراب قبره، ثم قام خطيبا مكانه فقال: إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن الجزاء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم. قالوا فوالله ما زاد على ذلك حتى فارق الدنيا، وقال: اللهم إني شديد فليني، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخني.
فتح عمر «الفتوح العظام في كل بلد»، ومن فتوحه مصر والشام والعراق والجزيرة وإرمينية وفارس وخوزستان وأذربيجان والجبال وطرابلس مما لم يفتح مثله على أحد قبله ولا بعده، وما طاش له سهم، ولا التوى له علم، يحرص على حياة المسلمين، ويولي جيوشه رجالا من أهل الفقه والعلم. كتب إلى النعمان بن مقرن في نهاوند: «أما بعد، فإنه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله، وبمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتنفرهم، ولا تدخلنهم غيضة، فإن رجلا من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار.» وكان إذا أتاه نعي أحد قواده وأصحابه بكى، ولو كان جاءته الأخبار مع قتلهم بفتح بلاد عظيمة.
وهدي عمر هدي صاحبيه، ولسانه لسانهما، قال لسلمة الأشجعي لما أرسله إلى الأكراد: «سر
37
باسم الله، قاتل في سبيل الله، من كفر بالله، فإذا لقيتم عدوكم من المشركين، فادعوهم إلى ثلاث خصال: ادعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة، وليس لهم في فيء المسلمين نصيب، وإن اختاروا أن يكونوا معكم، فلهم مثل الذي لكم، وعليهم مثل الذي عليكم، فإن أبوا فادعوهم إلى الخراج، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم، فإن أبوا فقاتلوهم، فإن الله ناصركم عليهم، فإن تحصنوا منكم في حصن، فسألوكم أن تنزلوا على حكم الله وحكم رسوله، فلا تنزلوهم على حكم الله، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله فيهم، وإن سألوكم أن ينزلوا على ذمة الله وذمة رسوله، فلا تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله، وأعطوهم ذمم أنفسكم، فإن قاتلوكم فلا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا. ا.ه.»
ارتضى بعمر أهل الحل والعقد من الصحابة ومنهم علي، لما كان من أعماله التي ابتهجت بها النفوس، وهو القائل ما أبالي إذا ما اختصم إلي رجلان لأيهما كان الحق، وهو القائل مضى لي صاحبان، عملا عملا وسلكا طريقا، وإني إن عملت بغير عملهما، سلك بي طريق غير طريقهما، وهو الذي قال فيه الرسول: لو كان بعدي نبي لكان عمر، وقال: إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وقال: أشد أمتي في أمر الله عمر، وقال فيه بعض واصفيه: إنه كان جوادا بالحق بخيلا بالباطل.
كانت كلمة عمر عالية في سياسته الخارجية والداخلية، مزق شمل المملكتين المجاورتين لبلاده، وعقدت في ظبات
38
سيوفه آيات النصر المبين، وسر هذا التوفيق العظيم، بعد نظره وقوة نفسه، والأخذ بمشورة أهل الرأي، وحسن اختياره العمال والرجال، والعمل بكل نافع، والانتفاع من كل قوة، وما طمعت نفسه في شيء من حطام الدنيا، فكان كصاحبيه يؤثر الخشونة
39
ويبتعد عن كل ترف، ويريد عماله أن يتبعوه في سائر أفعاله وشيمه وأخلاقه، يلبس الجبة الصوف المرقعة بالأديم وغيره، ويشتمل بالعباءة، ويحمل القربة على كتفه، مع هيبة رزقها، وكذلك كان عماله مع ما فتح الله عليه من البلاد وأوسعهم من الأموال، كان عمر يلتف في كسائه
40
وينام في ناحية المسجد، فلما ورد بالهرمزان صاحب تستر جعلوا يسألون عنه فيقال: مر ههنا آنفا، فيصغر في قلب الهرمزان إذ رآه كبعض السوقة، حتى انتهى إليه وهو نائم في ناحية المسجد، فقال الهرمزان: هذا والله الملك الهنيء، يقول لا يحتاج إلى حراس وعدد، فلما جلس عمر امتلأ قلب العلج
41
منه هيبة؛ لما رأى عنده من الجد والاجتهاد، وألبس من هيبة التقوى.
ولقد كان علي بن أبي طالب من جملة مجلس شورى عمر، شاوره مرة في غزو الروم بنفسه فقال له: إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة
42
دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث رجلا محربا،
43
واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره الله فذاك ما تحب، وإن كانت الأخرى كنت ردءا للناس ومثابة للمسلمين،
44
واستشار عليا أيضا في الشخوص لقتال الفرس بنفسه،
45
فقال له: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا، والعرب وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض، انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله - سبحانه - هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. ا.ه. وهكذا كان عمر لم يحارب بنفسه في حروب الفتح وهو خليفة؛ وقل أن اشترك في الغزوات في زمن الرسول.
سمع عمر مرة شيئا في بيعة الصديق وهو في مكة، وأراد أن يخطب الناس، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حتى تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها أولئك عنك كل مطير،
46
وألا يعوها، وألا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص
47
بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها، وكذلك فعل وعمل بنصيحة قارون هذه الأمة عبد الرحمن بن عوف كما عمل بنصيحة علي بن أبي طالب.
كان عمر لا يأخذه هوى في اختيار الأصلح لخدمة الدولة، وهو جد عارف بما في نفوس الناس، يضع الأشياء مواضعها ويقدرها بقدرها، قام في المسجد ذات يوم يدعو الناس إلى الجهاد ويحضهم عليه، وقال: إنكم قد أصبحتم في غير دار مقام بالحجاز، وقد فتح الله عليكم بلاد كسرى وقيصر، فسيروا إلى أرض فارس، فقام أبو عبيد بن مسعود فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أول من انتدبت من الناس، فلما انتدب أبو عبيد انتدب الناس. وقيل لعمر أمر على الناس رجلا من المهاجرين والأنصار، فقال لا أأمر عليهم إلا أول من انتدب. وكان عمر أبدا على يقين من الخفي والجلي مما يدور في القاصية والدانية، ملء القلب وملء السمع، وما شئت من دهاء واستماتة في إحكام عرا المسلمين، أطلق عليه لقب أمير المؤمنين، وكان أول من لقب به، وكان يقال لأبي بكر - خليفة رسول الله - فلما ولي عمر أصبح من المتعذر أن يقال يا خليفة خليفة رسول الله، فاكتفى بلفظ الخليفة أو أمير المؤمنين.
لما طعن عمر بيد أبي لؤلؤة، وكان قتله نتيجة مؤامرة
48
دبرها له الهرمزان؛ لما كان يكنه من الحقد على العرب بعد أن ثلوا عرش فارس - كانت الخلافة أول ما فكر فيه عمر، ودمه يسيل، فاستدعى عبد الرحمن بن عوف
49
فقال له: إني أريد أن أعهد إليك، فقال: يا أمير المؤمنين، نعم إن أشرت علي قبلت منك، قال: وما تريد، قال: أنشدك الله أتشير علي بذلك، قال: اللهم لا، قال: والله لا أدخل فيه أبدا، قال: فهب لي صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، أدع لي عليا وعثمان والزبير وسعدا، قال: وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثا - وكان متغيبا عن المدينة - فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم بينكم، وقال لعلي: أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس، أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا، ثم اقضوا أمركم، وليصل بالناس صهيب، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري قبل أن يفارق الحياة بساعة، فقال: قم على بابهم في خمسين رجلا من الأنصار، فلا تدع أحدا يدخل إليهم حتى يختاروا رجلا منهم، وقال أوصي الخليفة من بعدي بالعرب فإنها مادة الإسلام، أن يؤخذ من صدقاتها حقها فتوضع في فقرائهم، وأوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله أن يوفي لهم بعهدهم، اللهم هل بلغت، تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة.
وقيل لعمر لما طعن يا أمير المؤمنين لو استخلفت، قال: من أستخلف لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت سمعت نبيك يقول: إن سالما شديد الحب لله، فقال له رجل: أدلك على عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله، والله ما أردت بهذا خيرا، ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته، لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فقد صرف عنا، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد، أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافا لا وزر ولا أجر إني لسعيد، انظر فإن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه.
ترك عمر الأمر شورى بين ستة من كبار الصحابة، مات الرسول وهو عنهم راض، وسمى علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ابني عبد مناف، والزبير بن العوام حواري رسول الله وابن عمته، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وطلحة الخير بن عبيد الله، ليختاروا منهم رجلا، وقال لهم إذا ولوا واليا أن يحسنوا موازرته ويعينوه إن ائتمن أحدا منهم يؤدي إليه أمانته. وبدأت الشورى ثلاثة أيام وأراد أهلها ألا يأتين اليوم الرابع إلا وعليهم أمير منهم، وقال عمر للمقدار بن الأسود، قم على رءوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد فاشدخ رأسه، أو اضرب رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم، وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منهم، فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين أن يرغبوا عما اجتمع عليه الناس.
صورة غريبة من انتخاب الخليفة وضعها عمر على غير مثال، مثل كثير من أعماله في السياسة، وفيها إبداع وعبقرية، أوحتها إليه معرفته بمرامي كل واحد من هؤلاء العظماء، وهو يتخوف انحلال أمر الأمة إذا دب دبيب الحسد إلى الصدور، وتحركت الضغائن والسخائم،
50
وهو القائل: إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالشدة التي لا جبرية فيها، واللين الذي لا وهن فيه ، ويعرف أن غير الشدة لا تفيد في هذه المواقف الخطيرة، قدموا للبيعة
51
أكثرهم فضلا وأكملهم شروطا، فسارع الناس إلى طاعته، وأمنت غوائل الفتنة، على نحو ما كان سارع عمر إلى مبايعة أبي بكر يوم السقيفة، وأكره من تجافوا عن بيعته من الصحابة على البيعة باللين أولا والشدة آخرا، وكان عمل عمر هذا من أحكم ما عمل، لم يلق الحبل على الغارب، واجتهد في خير الأمة حيا، وما أراد أن يدعها فوضى بعد مماته.
وعرفنا مما تم من استخلاف أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان أن الخلافة عن الرسول ليست من معالم الدين،
52
ولا هي جارية مجرى العبادات الشرعية كالصلاة والصوم؛ بل أجروها مجرى الأمور الدنيوية مثل تأمير الأمراء وتدبير الحروب وسياسة الرعية، وأن الخلافة عن الرسول قد وسدت إلى واحد بعهد أو شبه عهده، ووسدت إلى آخر بعهد صريح وإلى آخر بالشورى بين أهل الحل والعقد، فجمع الإسلام النظام الجمهوري المقيد، والنظام الملكي المقيد، على ما تقضي به حالة الزمن ومصلحة الأمة، وكان في هذه السلطة الروحية الزمنية معا لأول الأمر شيء من الاستبداد المعقول الذي ينظم أمر الجماعة، ويحمل الناس على الطاعة، وهي الطاعة لأولي الأمر - أي الأئمة المتأمرين على الناس - المقصود بقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم .
عن ابن عباس قال: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه
53
الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم، فلم يرعني إلا ورجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن ليجعلك الله معهما؛ أي صاحبيك، ذلك أني كنت كثيرا أسمع من رسول الله يقول: فذهبت أنا وأبو بكر
54
وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأظن أن يجعلك الله معهما. وقال علي:
55 «ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم خيرها بعد أبي بكر عمر، ثم يجعل الله الخير حيث أحب.»
سياسة عثمان بن عفان
انتخب مجلس شورى الخلافة عثمان بن عفان خليفة في مسجد الرسول وعلى منبره، على الطريقة التي رسم عمر واستأمر بعض أهل الشورى أرباب الرأي من الرؤساء سرا، فأشاروا بعثمان إلا قليلا، وجعل الناس يبايعون الخليفة الجديد بعد أن بايع كبار الصحابة، وتلكأ علي عن البيعة، فقال عبد الرحمن بن عوف:
فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ، فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: «خدعة وأيما خدعة.» وسار الخليفة الثالث بسيرة أبي بكر وعمر ست سنين، كان الناس خلالها راضين عنه، والفتوح كما كانت على عهد عمر متصلة، والأموال على المدينة دارة، ويده بالعطاء مبسوطة، يولي الولايات من يراهم أصلح الناس للعمل، ولما توسع بتوسيد العمالات إلى أهله من بني أمية، انطلقت الألسن فيه، وتحقق خوف عمر لما نصح له، ولعلي ألا يحملا أقاربهما
56
على رقاب الناس، إذا كان لهما من الأمر شيء، فوقع كلاهما في هذا الحرج فثارت النفوس، ووجد الطاعنون من عملهما بابا يلجونه إلى اللغط والشغب، وعثمان بنى على
57
أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم وهدى ورحمة وكرم، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته، ولا فيه كمال عدله وزهده، فطمع فيه بعض الطمع، ودخل بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه فتولد من رغبة الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله، ومنه ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما أوجب الفتنة.
بدأت الفتنة من مصر بانتزاء محمد بن أبي حذيفة ابن خال معاوية بن أبي سفيان على عثمان، وكان عثمان كفله لما مات أبو حذيفة، وسار إلى مصر فصار من أشد الناس تأليبا على عثمان، والسبب في ذلك على ما يظهر أن عبد الله بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة، كان أمير مصر ولاية عثمان كلها، وكان محمودا في ولايته،
58
موفقا في غزواته، فتح إفريقية فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الراجل ألف دينار، فماذا كان نصيب الأمير من هذا المال؟ لا جرم أنه شق الأمر على محمد بن أبي حذيفة وجماعة آخرين إن لم يكن لهم سهم كبير من هذه المغانم، وأنشأ ابن حذيفة هنا يكتب الكتب على ألسنة أزواج النبي ويقرؤها في المسجد، ويقوم القارئ بالكتاب، فيقول: إنا لنشكو إلى الله واليكم ما عمل في الإسلام، وما صنع في الإسلام، فيحرك ساكن النفوس بهذا، حتى أرسل المصريون بضع مئات من الجند إلى المدينة يشتركون في إحراج عثمان، وكذلك فعل أهل الكوفة والبصرة.
وقيل: إن بعض الصحابة
59
كتب بعضهم إلى بعض أن يقدموا المدينة إن كانوا يريدون الجهاد، وكثر الناس على الخليفة، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد «وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى ولا يذب» ما خلا نفرا قليلا، وكان عبد الله بن سبأ من اليهود أسلم زمن عثمان، وأخذ يتنقل في بلدان المسلمين الحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، ثم مصر، وهو يقول بالرجعة ويزعم أن محمدا يعود كعيسى إلى الأرض، وقال: إن عليا هو وصي محمد، وقال من أظلم ممن لم ينجز وصية رسول الله، ووثب على وصي رسول الله وتناول أمر الأمة، وادعى أن عثمان أخذها بغير حق، وأراد الناس على النهوض في هذا الأمر، وقال: ابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر، فبث دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، فانتقم هذا اليهودي لقومه عما أصابهم في الحجاز في بدء الدعوة الإسلامية.
لما اشتدت الحال بعثمان، وأخذت الجموع تسير إلى المدينة كتب إلى الأمصار «رفع إلي أهل المدينة أن أقواما يشتمون وآخرين يضربون، فيا من ضرب سرا وشتم سرا، من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم، فلنأخذ بحقه حيث كان، مني أو من عمالي، أو تصدقوا أن الله يجزي المتصدقين.» وتآمر عثمان وبعض الصحابة على ما كان من الناقمين، فناقشوه وناقشهم، ومما قال له عمرو بن العاص: إنك لنت لهم وتراخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبك، فتشتد في موضع الشدة، وتلين في موضع اللين، إن الشدة لا تنبغي لمن لا يألو الناس شرا، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، ولما عاتبوه على بسط المال لآل بيته قال: «إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما، ومن كان منهما بسبيل احتسابا، وإن رسول الله كان يعطي قرابته، وأنا في رهط أهل عيلة
60
وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك المال، لمكان ما أقوم به فيه، ورأيت أن ذلك لي، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه، فأمري لأمركم تبع.» وقال في مجلس آخر: «إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإني لم أمل معهم على جور بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإن ما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من الناس، ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة
61
من صلب مالي، أزمان رسول الله وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وودعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا، وإني والله ما حملت على مصر من الأمصار فضلا، فيجوز ذلك لمن قاله.»
ورد عليهم في كونه حمى حمى المدينة فقال: والله ما حميت إلا ما حمي قبلي على عهد عمر لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى، وما لي من بعير غير راحلتين وما لي ثاغية ولا راغية،
62
وإني قد وليت وإني أكثر العرب بعيرا وشاء، ورد على من قال: إنه رد الحكم وهو طريد رسول الله، فقال: «إن رسول الله سير الحكم، وهو مكي من مكة إلى الطائف ثم رده، فرسول الله سيره ورسول الله رده.» ورد على من قال: إنه استعمل الأحداث في الولايات، فقال: إنه لم يستعمل إلا محتملا مرضيا، وعليهم أن يسألوا أهل عملهم عنهم، ولقد ولى من قبله أحدث منهم، وقيل في ذلك لرسول الله أشد مما قيل له في استعماله أسامة.
ثم استمد عثمان أهل الأمصار وكتب إليهم يقول: وأدخلت في الشورى على ملأ منهم ومن الناس، على غير طلب مني ومحبة، فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون تابعا غير مستتبع، متبعا غير مبتدع، مقتديا غير متكلف، فلما انتهت الأمور وانتكث
63
الشر بأهله، بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى إلا إمضاء الكتاب، فطلبوا أمرا وأعلنوا غيره، بغير حجة ولا عذر، فعابوا علي أشياء مما كانوا يرضون، وأشياء عن ملأ من أهل المدينة لا يصلح غيرها. ا.ه.
ثم خطب وتاب مما فعل على المنبر، فحصبوه فأغمي عليه وحمل إلى داره لا يعي، وتقاذفته العوامل، فمروان بن الحكم المتسلط عليه يؤنب الناس ويشتد عليهم، ويقول لجيوش الأمصار: «جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم، ولا تحمدوا غب
64
رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا.» ونائلة امرأة عثمان تتدخل في الأمر، وعلي ينصح لعثمان فلا يسمع له حتى نفض يده منه.
والواقع أن بسط عثمان الأموال لذوي قرباه أو إرجاعه الحكم طريد الرسول، أو تعديه حمى المدينة، أو استعماله الأحداث من آله، كل هذا لا يتألف منه جرم، يستوجب هذا التأليب عليه، أو يبرر إطالة الأيدي بأذاه، ولكن الكتاب الذي وجده محمد بن أبي بكر في رحل عبد من عبيد عثمان على مقربة من المدينة، وفيه خاتم عثمان إلى عبد الله بن أبي سرح والي مصر، هو الذي كان العامل الأكبر والحجة القاطعة في الانحراف عنه، وفي هذا الكتاب «إذا جاءك محمد بن أبي بكر ومن معه بأنك معزول فلا تقبل واحتل له بقتلهم، وأبطل كتابهم وقر في عملك.» فرجع محمد بن أبي بكر وأصحابه وجمعوا الصحابة ووقفوهم على الكتاب، وسألوا عثمان عن ذلك فاعترف بالختم وخط كاتبه، وحلف بالله أنه لم يأمر بذلك، فطلبوا منه مروان ليسلمه إليهم فامتنع، فازداد حنق الناس ، حتى قتل شهيدا مظلوما، وفتق بمقتله على المسلمين «فتق لا يرتقه جبل»، ودافع عنه علي بن أبي طالب وأقام ابنه الحسن لذلك حتى خرج هذا مصبغا بالدم، وأقام الزبير ابنه عبد الله، وطلحة ابنه محمدا يذبان عنه، فلم يغنوا عنه شيئا مع الألوف الهائجة التي جاءت من مصر والكوفة والبصرة إلى المدينة وانضموا إلى الثائرين من أهلها، «وكانوا
65
يدا واحدة في الشر، وكان حثالة من الناس قد ضووا إليهم، وقد مرجت عهودهم وأماناتهم، وكان أصحاب النبي الذين خذلوه كرهوا الفتنة، وظنوا أن الأمر لا يبلغ قتله، فندموا على ما صنعوا في أمره، ولعمري لو قاموا أو قام بعضهم فحثا في وجوههم التراب لانصرفوا خاسرين.»
كانت هذه الفاجعة مبعث كل فتنة في الأمة، أدى إليها حب الولايات والشغف بالأموال التي كثرت في أيام عثمان، فكان يفيض منها على من يستحقها، وقد لاموه على استعمال ابن خاله عبد الله بن عامر فاتح خراسان وأطراف فارس وسجستان وكرمان وزابلستان، وآخذوه على استعمال أخيه من الرضاع عبد الله بن أبي سرح فاتح طرابلس، وإفريقية الذي قضى على جيش الروم وقتل الملك جرجيره، وفي أيام عثمان فتحت أذربيجان وأرجان واصطخر وأصبهان وطبرستان وخراسان والجوزجان ونيسابور وطوس وسرخس ومرو وهراة وفرياب وبلخ وخوارزم والجبال ، وقتل بخراسان يزدجرد آخر ملوك الأكاسرة، وفي أيامه فتحت جزيرة قبرص وغيرها من جزر البحر الرومي، واستصفيت بعض الحبشة إلى غير ذلك من فتوحاته التي استعمل فيها رجالا عظاما وضع ثقته بهم، وكانوا عند حسن ظنه بما أبلوه من خدمة الإسلام والمسلمين.
ومن أهم المسائل التي صرفت الوجوه عنه وألبت المغيظين المحنقين عليه، أمره بضرب عمار بن ياسر - أحد كبار الصحابة - لما جاءه يحمل إليه كتابا من بعض أصحاب النبي،
66
ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان سنة الرسول من تطاوله في البنيان، وإفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية، وما كان من الوليد بن عقبة أمير الكوفة الذي صلى بالمسلمين وهو سكران (جلده ثمانين على شرب الخمر)، وما كان من تركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم، وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على قوم بالمدينة، ليست لهم صحبة من النبي، ثم لا يغزون ولا يذبون، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران. وعمار لا يضرب حتى يفتق بطنه ويغشى عليه ويطرح على باب الدار، فيغضب لما حل به بنو المغيرة وكان حليفهم، بل يغضب السواد الأعظم من الصحابة لما حل به، وكان من النقباء في مجلس الرسول، ومناقبه كثيرة في الإسلام، فكان بما جرى عليه من أعظم من ألب على عثمان، وخدم عليا ضروب الخدم، حتى قتل في صفين.
سياسة علي بن أبي طالب
بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان، قيل جاءه طلحة والزبير وسألاه البيعة له فقال: لا حاجة لي في أمركم، من اخترتم رضيت به، فقالوا: ما نختار غيرك، وترددوا إليه مرارا وقالوا: إنا لا نعلم أحدا أحق بالأمر منك، ولا أقدم منك سابقة، ولا أقرب من رسول الله، فقال:
67
دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد غامت،
68
والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا، وبعد هذا التمنع قصدوه في المسجد فبايعوه وبايعته الأنصار، إلا حسان
69
بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبا سعيد الخدري، والنعمان بن بشير، ومحمد بن مسلمة، وفضالة بن عبيد، وزيد بن ثابت، قيل: إن عثمان كان ولاهم على الصدقات وغيرها، وكذلك لم يبايع عليا سعيد بن زيد، وعبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وأسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة بن شعبة، وسمي هؤلاء المعتزلة لاعتزالهم بيعة علي، وسار النعمان بن بشير إلى الشام بقميص عثمان الملطخ بالدم، فأخذ معاوية بن أبي سفيان أمير الشام يعلقه على المنبر، يحرض أهل الشام على المطالبة بدم عثمان، ثم على قتال علي؛ لأنه لم يقتل قتلة عثمان.
وطلب علي من معاوية البيعة له فأبى إلا أن يسلم إليه قتلة عثمان أولا، وكتب إلى علي يقول: «لو بايعك القوم الذين بايعوك، وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان - رحمة الله عليهم - ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك، حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين.» فأجابه علي: «لعمري، ما كنت إلا رجلا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ولا ليضربهم بالعمى.» على أن معاوية ما كان بالذي
70
ينكر فضل علي واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان على البيعة أولا، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان، والكلام فيه عن ولد عثمان دون الحكم بن أبي العاص لسنه وقوته على الطلب بذلك، ولمكان قرابته من عثمان، فهو المطالب ضمنا بالأخذ بثأره.
بعث معاوية بكتاب مع أبي مسلم الخولاني
71
إلى علي بن أبي طالب جاء فيه: وأخرى أنت بها ظنين إيواؤك قتلته - قتلة عثمان - فهم عضدك ويدك وأنصارك وبطانتك، فلما وقع الكتاب إليه أراده على أن يجيئه من الغد، فدخل عليه أبو مسلم وهو في المسجد؛ فإذا بزهاء عشرة آلاف رجل قد لبسوا السلاح، وهم ينادون كلنا قتلة عثمان، فقال أبو مسلم لعلي إني لأرى قوما ما لك معهم أمر، وأحسب أنه بلغهم الذي قدمت له ففعلوا ذلك خوفا من أن تدفعهم إلي.
والواقع أن قتلة عثمان كانوا من أكثر القبائل، اختلطوا بعشائرهم وعشائرهم أكثر أتباع علي، وما خالف علي
72
في البراءة من قتلة عثمان، ولكنهم كانوا عددا ضخما لا طاقة له عليهم، ومن المتعذر عليه أن يسلمهم أو بعضهم وهم عضده ولو كان يعرفهم بأعيانهم، ومسألة وقعت على غير رضاه، ليس من مصلحته أيضا أن يستهدف لغضب عشائر كثيرة تقوم بنصرته اليوم، أما هو فكما روي عنه أنه قال: والله
73
لو شاءت بنو أمية لأتيتهم بخمسين غلاما من بني هاشم يحلفون بالله ما قتلت عثمان ولا مالأت عليه.
كان في نفس عائشة أم المؤمنين شيء من علي لما جرى حديث رميها بالإفك في حياة الرسول، وبرأها القرآن مما قذفت به في عدة آيات، ولما كان ما كان من مقتل عثمان كانت في مقدمة من حنق لمقتله، وقامت لسد الفتق الحادث في الإسلام تطالب بدم الشهيد العظيم، وهي تعرف منزلته من الرسول، وبلاءه في خدة الأمة، وتعرف المتآمرين على قتله، ومن غضوا الطرف عنهم طوعا أو كرها، ورأت ومن معها من الصحابة، ومنهم طلحة والزبير ورهط من بني أمية أهل عصبية عثمان، أن يقصدوا إلى البصرة في الجموع العظيمة التي تبعتهم يطالبون بدم عثمان، وقالوا معاوية بالشام يكفينا أمرها، وجمع علي أربعة آلاف رجل، فيهم جلة من الصحابة، ومنهم أربعمائة ممن بايع تحت الشجرة وثمانمائة من الأنصار، فالتقى الجيشان وعائشة في هودج على جمل، فتمت الهزيمة على أصحاب الجمل، وقتل طلحة والزبير، فكانت عدة القتلى من الفريقين نحو عشرة آلاف، وهذه أول مرة التقى فيها المسلم بالمسلم بالسلاح، مقدمة مشئومة استفتحت بها خلافة علي.
فرغ علي من حرب الجمل، فانتظم له أمر العراق ومصر واليمن والبحرين وعمان واليمامة وفارس والجبل وخراسان والحرمين، ولكن معاوية في الشام والجزيرة وثغورهما لم يبايع ولم يشايع، بل يطالب بدم عثمان بكل ما لديه من حيلة، وأهل الشام بايعوه على المطالبة بذلك، يقاتلون معه حيث أراد من أراد. واتفق معاوية مع عمرو بن العاص على أن يسيرا يدا واحدة في المطالبة بدم عثمان، وكتبا بينهما كتابا ببيت المقدس على التناصر والتخالص والتناصح في أمر الله والإسلام، لا يخذل أحدهما صاحبه بشيء، ولا يتخذ من دونه وليجة،
74
ولا يحول بينهما ولد ولا والد أبدا ما حيا، فإذا فتحت مصر فإن عمرا على أرضها، ومعاوية أمير على عمر في الناس وفي عامة الأمر، حتى يجمع الله الأمة، فإذا اجتمعت فإنهما يدخلان في أحسن أمرها على أحسن الذي بينهما في أمر الله.
سار علي من العراق بجيشه يريد الشام لقتال معاوية، وسار معاوية من الشام للقاء جيش علي في العراق، والتقى الجيشان بصفين على الفرات، واقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتل المسلمون مثله، وخاض علي المعارك بنفسه، فقتل سبعون ألفا من الفريقين على أصح الروايات، منهم مئات من الصحابة، وفيهم القراء والعلماء، فكانت مصيبة الإسلام بهم عظيمة، «وما كف القتال أيام صفين إلا لما أمر معاوية جماعته
75
أن ينادوا في سواد الليل نداء معه صراخ واستغاثة، يقولون: يا أبا الحسن، من لذرارينا من الروم إن قتلتنا، الله الله في البقية الباقية، كتاب الله بيننا وبينكم.» وغدا جماعة معاوية وقد رفعوا المصاحف على الرماح، وقلدوها أعناق الخيل، والناس على راياتهم قد أصبحوا للقتال.
وجرت المهادنة بين الجيشين على أن يكون لعلي العراق ولمعاوية الشام، لا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو، على أن يحكم الفريقان بينهما حكمين، حكما من جهة علي، وحكما من جهة معاوية، فحكم علي أبا موسى الأشعري، وحكم معاوية عمرو بن العاص، ويكون الخليفة من يتفق الحكمان على توليته، «وكتبوا بينهم كتابا
76
أن يوافوا رأس الحول بأذرح،
77
فينظروا في أمر هذه الأمة، فافترق الناس فرجع معاوية بالألفة من أهل الشام، وانصرف علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل، فخرجت عليه الخوارج من أصحابه ومن كان معه، وقالوا: «لا حكم إلا لله» وعسكروا بحروراء،
78
فبذلك سموا الحرورية ... وساروا إلى النهروان، فعرضوا للسبل وقتلوا عبد الرحمن بن خباب بن الأرت، فسار إليهم علي فقتلهم وقتل منهم ذا الثدية،
79
وذلك في سنة ثمان وثلاثين، ثم انصرف علي إلى الكوفة، فلم يزل بها يخافون عليه الخوارج من يومئذ إلى أن قتل، رحمه الله، واجتمع الناس بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين، وحضر سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما من أصحاب رسول الله، فقدم عمرو أبا موسى فتكلم فخلع عليا، وتكلم عمرو فأقر معاوية، وبايع له فتفرق الناس على هذا.»
وأخذ علي بالعراق يقنت في الصلاة ويدعو على معاوية، وعلى عمرو بن العاص، وعلى الضحاك، وعلى الوليد بن عقبة، وعلى الأعور السلمي، ومعاوية يقنت في الصلاة ويدعو على علي، وعلى الحسن، وعلى الحسين، وعلى عبد الله بن جعفر.
وكان سعد بن أبي وقاص من الصحابة الذين اعتزلوا الاشتراك بصفين، وقال إذا كان غزو الكفار قاتلنا، فأما قتال الفتنة والبغي، فلا نقاتل أهل القبلة،
80
أما عبد الله بن عمر فكان يقول: لا أقاتل في الفتنة وأصلي وراء من غلب،
81
وقال: إنما كان مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها، فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة وظلمة، فأخذ بعضنا يمينا وبعضنا شمالا، فأخطأنا الطريق، وأقمنا حيث أدركنا حتى تجلى عنا ذلك، فأبصرنا الطريق الأول فعرفناه فأخذنا فيه، إنما هؤلاء فتيان قريش يتقاتلون على هذا السلطان، وعلى هذه الدنيا، والله ما أبالي ألا يكون لي ما يقتل فيه بعضهم بعضا بنعلي.
ومن مكملات هذه الفتنة، فتنة الخلافة بين علي ومعاوية، قيام الخوارج على علي، وكانوا من أصحابه وأنصاره يوم الجمل وصفين، وهم يزيدون على اثني عشر ألفا، ساءهم رضا علي بالتحكيم، وقالوا لا حكم إلا لله، فإن الله يقول:
إن الحكم إلا لله .
82
وكفروا عليا بفعله واعتزلوه، فعاتبهم علي فلم يفد فيهم، ثم قاتلهم وظهر عليهم، وقتل منهم نحو أربعة آلاف، ولم تطفأ نائرتهم، وظلت سيوف فلولهم مصلتة قرونا بعده، ونشأ من ذلك مذهب جديد قام على التشنيع على علي، كما نشأ مذهب الشيعة الذي قام على التشيع له، والأصل في هذه المذاهب والمتاعب مقتل عثمان، وتعذر قصاص قاتليه على علي، وحرص هذا على الخلافة. •••
كان المأمول بعد أن اهتدى العرب بالرسول، أن يحتكموا إلى كتابه في كل ما شجر بينهم، لا أن يجعلوا فصل الخطاب للسيف في دق أمورهم وجلها، على ما كانوا في الجاهلية، وأن تعتدل طبيعة العرب المأخوذة بحب الحرب والتناغي بالسيادة، لا ترى تحقيقها إلا من طريق العصبية القبلية، ولا تنام عن الثأر تطلب به، وعادت نغمة العصبيات التي جاء الإسلام بمحوها تتغلب على نفوسهم، مع ما غلب على أمزجة سوادهم الأعظم من المزاجين العصبي والصفراوي، وكان الخطب بالعصبيات عند العرب كالخطب بالأحزاب عند الأمم الحديثة أو أدهى وأمر.
نعم! ما ارتاحت العرب زمنا طويلا في الإسلام من أحداث وفتن يتقاتلون فيها، فيفني بعضهم بعضا، على نحو ما كان أجدادهم، كأن الدين لم يصقل من نفوسهم إلا ظواهرها، على حين دل ما بدا منهم من نصرة الشارع الأعظم، ثم من نصرة صاحبيه من بعده، على أن الإسلام هذب كثيرا من حواشيهم، ثم بدأ هذا التهذيب يضعف بجرأة العامة على الخاصة، وأي جرأة أعظم من قتل أمير المؤمنين عثمان؟ وقديما كان قتل الملوك من أشأم ما يحدث في الأمم وقلما أتى بخير، فكيف بمقتل هذا العظيم؟
كان للعرب في الجاهلية بعض العذر في شن غاراتهم، وأرضهم مجدبة، وعيشهم ضنك، وأمرهم شتات، وأي معذرة لهم في الإسلام، وقد أذكى الدين عقولهم، ولقنهم الرحمة، ودمث من أخلاقهم، وقضى أو كاد على العادات الضارة فيهم، وفتح عليهم أبواب النعمة في الأقطار التي دخلوها فاتحين، ووضعوا أساس الملك العتيد، فدرت لهم أخلاف البركات، في كل بلد نزلوه واستثمروه.
دل اقتتال المسلمين يوم الجمل وصفين والنهروان، واغتيال الثالث والرابع من الخلفاء بأيدي جماعة من المسلمين، على استسهال العرب سفك الدماء، وأنهم أبوا إلا أن يتحاكموا إلى السيف، ويعمدوا إلى التقاتل، وأن القوانين مهما سمت لا تغير كثيرا من روح من يأخذون أنفسهم بها، وقد يخالفونها عند أقل بادرة، ولكم أضاع العرب من قوتهم، ولما يمض جيل واحد على تكونهم، وإذا عرفنا أن المسلمين كانوا على ما روى الشافعي
83
ستين ألفا لما قبض الرسول، ثلاثون ألفا بالمدينة وثلاثون ألفا في قبائل العرب وغير ذلك، وأنه هلك منهم ألوف في حروب الردة وحروب الشام والجزيرة وإرمينية وإفريقية والعراق وفارس على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، أدركنا عظم هذه النازلة بهذا القدر من الرجال الذين قتلوا في حروب علي.
كانت وقعة صفين المشئومة مما عاق الإسلام عن الانتشار، ووقف بالفتوح العربية عند حد كاد يطمع الأمم المجاورة برده على أعقابه إلى أقصى الأرض العربية، ولولاها لكتب لمعاوية أن يفتح القسطنطينية، وكان أعد لذلك في أرض الشام وبحره القوتين البرية والبحرية، فلما ظهرت مسألة علي اضطر معاوية أن يصانع الروم لشغله بعلي،
84
وأن يرجع عن عزمه، أو يؤخر إنفاذه إلى أجل غير معلوم، ولو فتحت القسطنطينية لسرى الإسلام إلى الغرب على أيسر حالة، وكان في الإمكان توقي هذه الحرب الحاصدة، لو لجأ المتخاصمان لأول الأمر إلى التحكيم، ولو قدر كل واحد منهما حالة الأمة وما يتربص لها أعداؤها، ما امتشق أحدهما حساما في سبيل غرضه مهما كان شريفا؛ لأن هناك ما هو أشرف منه، وهو بث الدعوة وحماية البيضة، ولو سمع علي نصح بعض عقلاء الصحابة ما تسرع في عزل عمال عثمان، وفي مقدمتهم معاوية، ولما أهرقت هذه الدماء المحرمة، ولكن عليا أصيب بكرامته ولما أبى معاوية مبايعته، أو يسلم إليه القتلة في جيشه، ومن أخلاق علي ألا يسكت ساعة عمن يكون غير راض عنهم، ويعد مصانعتهم خروجا على قواعد الصدق والإخلاص.
أشار المغيرة بن شعبة،
85
وهو المعروف بدهائه وبعد نظره، على علي أن يقر معاوية على الشام تسمح له طاعته، قال: فإن أهل الشام قد ذاقوه فاستعذبوه ووليهم عشرين سنة، لم يعتبوا عليه ولم يعتبوه
86
في عرض ولا مال، فقال علي: «والله لو سألني قرية ما وليته إياها.» قال المغيرة: «أراه سيلي أرضين وقريات.» وكان الأمر كما تنبأ المغيرة، وما قدر علي، على ثقوب ذهنه وكثرة علمه، أن يقدر قوة خصمه فاحتقره، ورأى أن دينه يمنعه من أن يقره، وهو يعتقد في إقراره الضرر له وللجماعة.
أدرك علي بعد الدخول في العمل، أن جنده مشتت الأهواء تغلب عليه الفوضى، على ما عرف من بعض شيعته من الاستماتة في سبيل دعوته؛ ولطالما تمنى لو يقايض عشرة من جنده بواحد من جند معاوية.
87
ومن خطبه لما بلغه مقتل محمد بن أبي بكر أمير مصر، وتملك عمرو بن العاص لها باسم معاوية: «أوليس عجيبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه بغير عطاء، ويجيبونه في السنة المرتين والثلاث إلى أي وجه شاء، وأنا أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقية الناس على معاوية، وطائفة منكم على العطاء، فتتفرقون عني وتعصونني وتختلفون علي.»
وريت زناد معاوية بأهل الشام؛ لأنه طالما أحسن إليهم، فكان في أطوع جند، وجنده يعتقد أن صاحبه على الحق، وروي عنه أنه قال:
88
أعنت على علي بن أبي طالب بأربع خصال: فقد كان ظهرة علنة لا يكتم سرا، وكنت كتوما لسري، وكان لا يسعى حتى يفاجئه الأمر، وكنت أبادر إلى ذلك، وكان في أخبث جند وأشدهم خلافا، وكنت في أطوع جند وأقلهم خلافا، وكنت أحب إلى قريش منه، فنلت ما شئت، فلله من جامع إلي ومفرق عنه!
قال علي بعد وقعة صفين، وقد آلمه ما أهرق من دماء المسلمين، وما جرت عليه الخلافة من المتاعب، رحم الله عمي العباس كأنما كان يطلع على الغيب من وراء ستر رقيق، وصدق والله ما نلت من هذا الأمر شيئا إلا بعد شر لا خير معه، وكان العباس أشار عليه لما اشتد مرض رسول الله أن يسأله إن كان الأمر في بني هاشم يعطوه، وإن كان في غيرهم يوصي بهم، فقال علي: إن منعناه لم يعطناه أحد.
فلما قبض الرسول دعي علي للبيعة فقال: في جهاز رسول الله شغل، ولن يفوت الأمر، فبويع في السقيفة لغيره، ولما طعن عمر أشار عليه العباس ألا يدخل في الشورى؛ لأنه إن اعتزلهم قدموه، وإن ساواهم لم يقدموه، ولما أخذ عثمان في الأمور قال له العباس، وقد وقع في نفسه أن عثمان سيقتل: والله لئن كان ذلك وأنت حاضر بالمدينة ليرمينك الناس بدمه، وإن فعلوا لا تنال من هذا الأمر شيئا إلا شرا لا خير معه.
يقول ابن حزم
89
في معرض الكلام على أن عليا كان أسوس الصحابة، بعد أن ذكر ما قام به أبو بكر من حروب الردة حتى ثبت الإسلام، وما قام به عمر وعثمان من حروب انتهت بظهور الدين في الأقطار: «ثم قد رأى الناس خلاف ذلك كله، وافتراق كلمة المؤمنين، وضرب المسلمين بعضهم وجوه بعض بالسيوف، وشك بعضهم قلوب بعض بالرماح، وقتل بعضهم من بعض عشرات الألوف، وشغلهم بذلك عن أن يفتح من بلاد الكفر قرية، أو يذعر لهم سرب،
90
أو يجاهد منهم أحد، حتى ارتجع أهل الكفر كثيرا مما صار بأيدي المسلمين من بلادهم، فلم يجتمع المسلمون إلى يوم القيامة، فأين سياسة من سياسة.»
ويقول ابن تيمية:
91 «تولى علي والفتنة قائمة، وهو عند كثير منهم ملطخ بدم عثمان، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه، والمبغضون لغيره من الصحابة، فإن عليا لم يعن على قتل عثمان ولا رضي به، كما ثبت عنه وهو الصادق أنه قال ذلك، فلم تصف له قلوب كثير منهم، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال، وظن أن به تحصل الطاعة والجماعة، فما زاد الأمر إلا شدة، وجانبه إلا ضعفا، وجانب من حاربه إلا قوة، والأمة إلا افتراقا، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله، كما كان في الأول يطلب منه الكف، وضعفت الخلافة ضعفا أوجبت أن تصير ملكا، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم، ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية، فهو خير ملوك الإسلام، وسيرته خير من سيرة الملوك بعده.»
وقال أيضا: «إن معاوية بقي في الشام عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة، ورعيته من أشد الناس محبة وموافقة له، وهو من أعظم الناس إحسانا إليهم، وتأليفا لقلوبهم، حتى قاتلوا علي بن أبي طالب، وصابروا عسكره إلى أن قاوموهم وغلبوهم، قاتلوا مع معاوية؛ لظنهم أن عسكر علي فيهم ظلمة معتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان، وأنهم يقاتلونهم دفعا لصيالهم، وقتال الصائل جائز؛ ولهذا لم يبدءوهم بقتال حتى بدأهم أولئك؛ ولهذا قال الأشتر النخعي: إنهم ينصرون علينا؛ لأنا نحن بدأناهم بالقتال، وعلي كان عاجزا عن قهر الظلمة من العسكرية، ولم تكن أعوانه يوافقونه على ما يأمر به، وأعوان معاوية يوافقونه. ا.ه.»
لا جرم أن عليا اضطرته الحال إلى الوقوع فيما وقع فيه من قتال المسلمين، وعمل ما عمل وهو كاره، ولم يواته الحظ في خلافته، وكاد ألا يفكر في غير رد المطالبين بدم عثمان، والناشزين على خلافته من الخوارج وأهل الشام وغيرهم، ورأى انفراج قلوب الأمة بمقتل عثمان، وأحس أكثر من غيره بما وقع من تشتت في الأهواء، وتأصل في الأحقاد التي انتقلت من الأجداد إلى الأحفاد، وما كان له مفزع غير السيف، والسيف لا تؤمن غائلته على الغالب والمغلوب، وهو شر لا بد منه، ولقد قالوا: «إن في القرآن أربعة
92
سيوف: سيف على المشركين حتى يسلموا أو يؤسروا
فإما منا بعد وإما فداء ، وسيف على المنافقين وهو سيف الزنادقة، وقد أمر الله بجهادهم والإغلاظ عليهم في سورة براءة وسورة التحريم وآخر سورة الأحزاب، وسيف على أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وسيف على أهل البغي وهو المذكور في سورة الحجرات، ولم يسل الرسول هذا السيف في حياته، وإنما سله علي في خلافته، وكان يقول: أنا الذي علمت الناس قتال أهل القبلة، وله
صلى الله عليه وسلم
سيوف أخر، منها سيف على أهل الردة، وهو الذي قال فيه من بدل دينه فاقتلوه، وقد سله أبو بكر من بعده في خلافته على من ارتد من قبائل العرب، ومنها سيف على المارقين، وهم أهل البدع كالخوارج، وروي عن علي أن النبي أمر بقتال المارقين والناكثين والقاسطين، وقد حرق علي طائفة من الزنادقة فصوب ابن عباس قتلهم، وأنكر عليه تحريقهم بالنار، فقال علي: ويح ابن عباس لبحاث عن الهنات.»
وبعد، فإن الخلفاء الراشدين قاموا بخلافة النبوة على أكمل وجه أمكن، وإذا لاحظنا اليوم أنه وقع من بعضهم شيء فهو منهم محض اجتهاد، والمجتهد يصيب ويخطئ، والسياسة صعبة المراس على كل الناس، وما كان للبشر أن تجيء أعمالهم تامة من كل وجه، ومن المؤلم أن يستغل هذه الحوادث المرمضة في سبيل الخلافة أناس عز عليهم أن يقوض العرب بالإسلام عرش ملوكهم وهم الفرس، فيندسون في الغمار ويتخذون من آل البيت تكأة، ويزعمون لعلي أنه بغي عليه منذ أول يوم، ويدعون له العصمة على نحو ما كان أجدادهم يدعونها لملوكهم من المجوس، وأن يكون من عبد الله بن سبأ وأمثاله ممن تظاهروا بالإسلام، وهو لم يمس شغاف قلوبهم، ما كان من الدعاية لتأليب الناس على عثمان، وكان من أثر دعايتهم تمزيق الأمة طرائق وحزائق.
هذا، وعلي حرق من غلوا فيه، وأنكر ابنه محمد بن الحنفية على شيعته دعواهم فيه أنه يعلم المغيبات وأن علمه لدني، ومن بعده زاد الغلو فسكت آل البيت عما ينسبه أنصارهم إليهم ووضعوهم في غير مواضعهم؛
93 «لأنهم افترضوا على أنفسهم طاعتهم ووظفوا عليهم شرائع دينهم ونحلوهم علم ما هو كائن.»
عن سويد بن غفلة،
94
وكان من كبار التابعين، صحب أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، واختص بعلي وقاتل معه، قال: مررت بقوم يذكرون أبا بكر وعمر ويتنقصونهما، فأتيت عليا فذكرت ذلك له، فقلت: إني مررت بقوم من الشيعة يذكرون أبا بكر وعمر ويتنقصونهما، ولولا أنهم يعلمون أنك تضمر ما هما عليه لم يجسروا على ذلك، قال: أعوذ بالله أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل: أخوا رسول الله ووزيراه، ثم نهض دامع العين يبكي قابضا على لحيته ينظر فيها وهي بيضاء، وقد اجتمع الناس فقام فخطب خطبة موجزة بليغة، ومما قال: ما بال أقوام يذكرون سيدي قريش وأبوي المسلمين بما أنا عنه متنزه، ومما يقولون بريء، وعلى ما يقولون معاقب، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا يحبهما إلا مؤمن تقي، ولا يبغضهما إلا فاجر رديء، صحبا رسول الله بالصدق والوفاء، يأمران وينهيان، ويعاقبان فما يجاوزان فيما يقضيان. وبعد أن امتدح أبا بكر وعمله في أهل الردة، قال: إنه سار بسيرة رسول الله حتى قبض، ثم ولي الأمر من بعده عمر بن الخطاب، واستأمر في ذلك الناس، فمنهم من رضي ومنهم من كره، وكنت ممن رضي، فوالله ما فارق عمر الدنيا حتى رضي من كان له كارها، فأقام الأمر على منهاج النبي وصاحبه يتبع بآثارهما، كما يتبع الفصيل إثر أمه إلى أن قال: فمن أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني، وأنا منه بريء، ولو كنت تقدمت في أمرهما لعاقبت أشد العقوبة، فمن أتيت به بعد مقامي هذا فعليه ما على المفتري.
وجيء علي برجل وهو بالكوفة يتنقص أبا بكر وعمر فقال: يا قنبر اضرب عنقه، قال: يا أمير المؤمنين علام تضرب عنقي وإنما غضبت لك؟ قال: وما ذاك ويلك! قال: إني رجل غريب ما صحبت رسول الله، ولا علمت مكان هذين الرجلين منه ولا منك، وإنما سمعت من بعض من يغشاك يفضلك عليهما، ويذكر أنهما ظلماك حقا، وتقدماك في أمرك، قال علي: أوتعرف القوم؟ قال: لا، إلا بأعيانهم عند نظري إليهم، قال: أما والله ما تقدماني إلا بأمر الله وبأمر رسوله، وما ظلماني ما يزن ذرة،
95
ولولا أنك أقررت بغربتك، وقلة معرفتك بشيخي المسلمين، لضربت عنقك، ثم قال: يا قنبر، ناد في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس له ظهرا فصلى بهم، ثم صعد المنبر فقال: أيها الناس، إن الله بعث محمدا وقد اخلولق الإسلام، وذهب صفاء الدين، وظهر الظلام بالكفر، والناس في عمية جاهلية جهلاء، يعبدون الأصنام، ويعظمون الأوثان، ويكفرون بالرحمن، فقال: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله، فقالوا بأجمعهم: كذبت
أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ، فقال أبو بكر: صدقت، وأنا إذ ذاك طفل صغير لا أغني عن نفسي شيئا في حجر رسول الله وفي بيته، فلم يزل أبو بكر الصديق معه على تلك الحال، يضرب الناس ويضربونه، ويغلبهم ويغلبونه، ويقاتلهم ويقاتلونه، ويخافهم ولا يخافونه، يظهر دينه ولا يكتم إيمانه، حتى قالت قريش: إن ابن أبي قحافة مجنون، فلم يكن أحد أولى بالإسلام منه، ولا أكرم على الله في هذه الأمة بعد نبيها منه، ولا خيرا منه، ولا أفضل في الدنيا والآخرة، وإن أقواما يفضلونني عليهما في قلوبهم بقية النفاق، يريدون فرقة أهل الإسلام واختلاف الأمة ... وفي هذا مقنع لمن «جودوا الجنون في الغلو».
سياسة الأمويين
بويع بالخلافة للحسن بن علي بعد مقتل أبيه، فحاول أن يحارب معاوية، وهو أيضا خليفة مبايع، ورأى من تخلف القوم عن نصرته أنهم لا يتوقفون عن خذلانه عند الحاجة - كما خذلوا أباه من قبل - واستنفر الأحنف بن قيس من جماعة أبيه، فقال: قد بلونا الحسن وآل الحسن، فلم تكن عندهم إيالة الملك، ولا صيانة المال، ولا مكيدة الحرب، واتفق أن أحد شيعته طعنه ذات يوم في جنبه فصرعه عن فرسه، فكان ذلك أحد أسباب مصالحته معاوية، فنزل عن الخلافة بعد أن خطب له بها نحو ستة أشهر في العراقين العربي والعجمي وخراسان وجزيرة العرب، مشترطا أن يكون ولي عهد معاوية من بعده،
96
وألا يأخذ معاوية أحدا من آل الحسن بإحنة،
97
وأن يؤمن الأسود والأحمر، ويجعل له خراج الأهواز مسلما في كل عام، ويحمل إلى أخيه الحسين بن علي كل سنة ألفي ألف درهم، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، فبذل معاوية له العهود المؤكدة على ذلك، وأعطاه كل ما طلب إلا ما كان من لعن أبيه على المنابر، ودخل الحسن في طاعته، فحقن بذلك الدماء، وحمد فعلته العقلاء، وأكبرت شيعة الحسن أمر هذا الصلح، ولم يسعها إلا أن تحمله على محمل الخير؛ لاعتقادهم بعصمة آل البيت في كل ما يصدر من أقوالهم وأفعالهم، لا يسألون عما يبدر منهم.
وكان أهل الشام بايعوا معاوية بالخلافة في سنة 37 حين تفرق الحكمان، كما بايعوه على الطلب بدم عثمان، فلما تنازل الحسن عن الخلافة بويع له بإيلياء سنة 40 مبايعة عامة أخرى، وسمي هذا العام عام الجماعة؛ لاجتماع الأمة على إمام واحد، وكان معاوية يدعى بالشام الأمير فلما قتل علي دعي أمير المؤمنين،
98
وغدا يسوس بلاد الإسلام كلها بسلطانه مباشرة، وكان بالأمس يسوس بعضها تحت سلطان أعظم من سلطانه.
أحسن معاوية تأليف القلوب، واستخدم العصبيات لما فيه مصلحة الدولة، وكان كلما زاد قوة انقطعت آمال الطامعين في الخلافة، المشاغبين على السلطان، فاستخدم الشعراء في تأييد دعوته كما يستخدم رجال السياسة اليوم أرباب الصحف والإذاعات لمثل هذا الغرض، ويرسل الوعاظ إلى الآفاق ليحولوا القلوب عن علي، عدا ما كان يخطب به وعماله في علي على المنابر ينفر القلوب منه، وكانت العراق أضعف جزء في ملك معاوية فرمى أهلها بأخيه زياد، وكان هذا من عمال علي فانضم بعد موته لأخيه، فجاء زياد والعراق تغلي مراجله بالفتن، يوقد نارها أرباب الشغب، فسل الأحقاد وداوى الأدواء، وتولى العراق بعد زياد ابنه عبيد الله فاشتد على الخوارج، فقتل منهم صبرا جماعة كثيرة، وحاربهم حتى كاد يفنيهم، وكانوا قاموا لأول خلافة معاوية فعفا عن بعضهم، ثم ثار آخرون فقتلهم، وسكنت نأمة الشيعة وأصبحت دعوتهم سرية.
وأهم ما عاناه معاوية من مسائله الخارجية غزو الروم، وكان اعتاد غزوهم منذ كان أميرا، ووصلت جيوشه إلى القسطنطينية وإلى بحر هيجاي (إيجه)، وإلى سواحل بحر الروم ومنها جزيرة صقلية، وكان ألح على عمر في خلافته بغزو البحر، فما جاء دور عثمان حتى كان للشام أسطول عظيم، فصير عثمان إلى معاوية غزو الروم، على أن يوجه من رأى على الصائفة،
99
وفتح قبرص ورودس وأرواد وغيرها من الجزر، وفتح السودان وصالح الروم في سنة 41 على مائة ألف دينار، وكانوا جمعوا جموعا كثيرة فخاف أن يشغلوه عن تدبير بلاده وإحكام أمره، وهو أول من صالح الروم، فلما استقام له الأمر أغزى أمراء الشام على الصوائف، فسبوا في بلاد الروم سنة بعد سنة، حتى طلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال فلم يجبه، واستولى الروم على جبل لبنان في السنة السابعة عشرة من خلافته بمعاونة الجراجمة،
100
فاضطر لعقد معاهدة مع الروم (سنة 57) صعبة الشروط عليه؛ وذلك ليدفع غائلة أسطولهم عن بلاده.
رأى معاوية في سنة 56 أن يجعل ولاية العهد لابنه يزيد من بعده، فكان هذا الوضع الجديد في أساس الملك مما استفظعه بعضهم؛ لأنه كان في الصحابة أفراد يليقون للخلافة أكثر من يزيد، وعير معاوية خصومه أنه جعل الخلافة كسروية وقيصرية؛ أي جعلها وراثية وما كانت بها، أو كما قال مروان بن الحكم: جئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم، بيد أن معاوية كان يرى هذا التدبير على ما فيه من غمط حقوق الكفاة للخلافة، أضمن لسلامة الدولة وتتقى به شرور قد تستطير بين الناس كلما مات لهم خليفة، أو قوي أعداؤه فأرادوا استلاب الخلافة منه، ويخشى إذا ظل المسلمون على تناحرهم أن يجمع أعداؤهم شملهم، ويعيدوا الكرة عليهم في صميم جزيرة العرب، والله أعلم ما تكون النتيجة على الإسلام والمسلمين.
بوضع قانون ولاية العهد في الإسلام بعض الحيطة التي تنجي من انقسام الكلمة، وقد يخطئ رأس الملة في توليته من يريد، وربما قل في رجال الخليفة، أو من اصطنعهم لخدمته من يسعهم الإنكار عليه، أو إرجاعه إلى الصواب إن أخطأ، والعهد للأبناء أو الأخوة أو أبناء العم على شرط الكفاية في الجملة، أقرب إلى سلامة الدولة من فتنة تنشب بين الأحزاب أو أصحاب العصبيات، وكل حزب يرشح خليفته بالحق والباطل، حتى لا يكاد يجد الصالح من المستخلفين، أدنى مما يجد الطالح من المعونة والمظاهرة، ولو كان مرجع هذه الولاية أرباب الرأي في الأمة فقط؛ أي أهل الحل والعقد كما اشترط في توسيد الخلافة لكان في ذلك الخير كله.
ثم إن حصر السلطات الدينية والمدنية في يد الخليفة أو الملك يخرج الأمر مهما تلون اسمه بالأسماء المختلفة عن أحكام الشورى ويعيده استبدادا. والشورى حياة الممالك والشعوب، ومن النادر ظهور رجل سلمت نفسه من العيوب واستجمع شروط الخلافة، فما توخى غير مصلحة الناس والدولة كأبي بكر وعمر. وفي الحكومة الملكية عيوب، وفي الحكومة المقيدة عيوب، وفي الحكم «الأتوقراطي» الديني عيوب، وفي الحكم «الديمقراطي» الشعبي أو الجمهوري عيوب، ولقد كثرت أخطاء الجمهوريات في آثينة ورومية في العهد القديم، وفي جمهوريات الدول الحديثة المقيدة بالأنظمة الدستورية، فنسب الخير والشر إلى من تضامنوا من أهل شوراها على القيام بأمر الأمة؛ أي إنه يخطئ في الحكم الجمهوري أو النيابي مجموع مختار في الجملة من أبناء البلاد، ولا يكون الخطأ خطأ فرد بمحض إرادته كما هو الشأن في الحكومات المطلقة الاستبدادية.
قلنا: إن خصوم معاوية نالوا منه بعهده لابنه يزيد، وفي الأمة بقايا رجال من الصحابة أعظم مكانة وسابقة منه، وكان من المتعذر توسيد الخلافة إليهم؛ لأنهم ضعاف في عصبيتهم، بالقياس إلى أرباب العصبيات الكبرى كعصبية الأمويين في ذاك العهد، ويخشى إذا استخلفوا أن يشغلوا بالدفع عن أنفسهم فتضيع المصلحة العامة، كما جرى في عهد الخليفة الرابع، ولما تم الأمر ليزيد أخذ بعض الطامعين في الخلافة وأتباعهم، وقد رأوا حرص معاوية على حمل بعض الصحابة والتابعين على مبايعة ابنه بعده، يتقولون على يزيد ويرمونه بالكبائر، ويسقطون منزلته ويصغرون شأنه، وما كان يزيد كما قال ابن تيمية مظهرا للفواحش كما يحكي خصومه، ولا كان من الصحابة، ولا من المشهورين بالدين والصلاح، وكان من شبان المسلمين، ولا كان كافرا ولا زنديقا، وتولى بعد أبيه العهد على كراهية من بعض المسلمين، ورضا من بعضهم، وكان فيه شجاعة وكرم، وكان أبوه يشركه في مشورته، ويأخذ برأيه أحيانا في تدبير الملك وسياسته، وقد أغزاه الروم فبلغ أسوار القسطنطينية، وكثيرا ما بعث همته على العمل وعلمه وثقفه، وغاية ما ثبت عنه أنه كان به رسلة يحب الراحة ويدرب كلابا للصيد.
كان يرجى بعد استقرار الخلافة أن يطوى حديثها، خصوصا وقد رضي السبطان بحظهما من الدنيا، ولكن أهل الكوفة بعد أن خذلوا عليا وابنه الحسن، عادوا يزينون للحسين بن علي الرحيل إليهم؛ ليعاونوه على إخراج الأمر من يزيد فاغتر بهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به، وصاروا مع عبيد الله بن زياد عامل يزيد، حتى قتل الحسين وأكثر آله بكربلاء، فأكبرت الأمة هذه المصيبة وراحت شيعته وقد خذلته في حياته، تستغل مقتله بعد مماته، وعظم حظ يزيد من اللعن والطعن مع أنه لم يأمر بقتل الحسين،
101
ولا أظهر الفرح بهلاكه، ولكن أمر بدفعه عن الأمر ولو بقتاله، ولما سمع يزيد ما تم على الحسين دمعت عينه
102
وقال: ويحكم! قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو كنت صاحبه لعفوت عنه، وكان بلغ معاوية في حياته أن الحسين في آخر أيامه كان يتهيأ لشق عصا الطاعة فكتب إليه: «أما بعد، فقد انتهت إلي أمور عنك لست بها حريا؛ لأن من أعطى صفقة يمينه جدير بالوفاء، فاعلم رحمك الله أني متى أنكرك تستنكرني، ومتى تكدني أكدك، فلا يستفزنك السفهاء الذين يحبون الفتنة.» والحسين ما تحلل في الحقيقة من مبايعة معاوية إلا بموته حتى إذا خلفه ابنه خالف عليه.
وصح ما تنبأ به معاوية فيما قاله لابنه يزيد قبيل موته، قال: إني لست أخاف عليك إلا أربعة رجال: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير. فأما الحسين بن علي فأحسب أن أهل العراق غير تاركيه حتى يخرجوه، فإن فعل فظفرت به فاصفح عنه، وأما عبد الله بن عمر فإنه رجل قد وقذته العبادة، وليس بطالب للخلافة، إلا أن تأتيه عفوا، وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه ليس في نفسه من النباهة والذكر عند الناس ما يمكنه من طلبها، ومحاولة التماسها، إلا أن تأتيه عفوا، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب، فإن أمكنته فرصة وثب، فذلك عبد الله بن الزبير، فإن فعل وظفرت به فقطعه إربا إربا، إلا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل منه، واحقن دماء قومك بجهدك، وكف عاديتهم بنوالك، وتغمدهم بحلمك.
وكان أن امتنع عبد الله بن الزبير في الحجاز من بيعة يزيد بن معاوية، ووافقه كثير من أهل المدينة، وفيهم بعض المهاجرين والأنصار، على خلع طاعة يزيد، وأخرجوا نوابه وأهله من المدينة، فأرسل يزيد عليهم جيشا، وأمر قائده إن لم يطيعوه بعد ثلاث، أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا، ووقعت الحرب وأبيحت المدينة في هذه الوقعة التي سميت بوقعة الحرة نسبة لحرة المدينة، وقتل من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الناس ألف وسبعمائة، ومن سائر الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان ، وكان معاوية أوصى ابنه يزيد عند موته بقوله: انظر أهل الحجاز فهم عصابتك وعترتك، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعاهده، وانظر أهل العراق فإن سألوك عزل عامل كل يوم فاعزل له عنهم، فإن عزل عامل واحد أهون عليك من سل مائة ألف سيف، ثم لا تدري علام أنت عليه منهم، ثم انظر أهل الشام فاجعلهم الشعار دون الدثار، فإن رابك من عدو ريب فارمهم به، فإن أظفرك الله فاردد أهل الشام إلى بلادهم، لا يقيموا في غير بلادهم فيتأدبوا بغير آدابهم.
واعتصم عبد الله بن الزبير بمكة، ومات على الأثر يزيد، فاستخلف ابنه معاوية فلبث شهرين لا يخرج إلى الناس، ثم خطبهم فقال: إني نظرت فيما صار إلي من أمركم، وقلدته من ولايتكم، فوجدت ذلك لا يسعني فيما بيني وبين ربي أن أتقدم على قوم وفيهم من هو خير مني وأحقهم بذلك، وأقوى على ما قلدته، فاختاروا مني إحدى خصلتين: إما أن أخرج منها وأستخلف عليكم من أراه لكم رضا ومقعنا، ولكم الله علي لا آلوكم نصحا في الدين والدنيا، أو أن تختاروا لأنفسكم وتخرجوني منها، وقال: قد ضعفت عن أمركم ولم أجد لكم مثل عمر بن الخطاب لأستخلفه ولا مثل أهل الشورى، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا من أحببتم، وطعن معاوية الصغير بعد أيام، فخاف بنو أمية أن يخرج الأمر عنهم، وعبد الله بن الزبير يقوي سلطانه في الحجاز، وتنتشر دعوته في الشام سرا، فدخلوا عليه فقالوا له: استخلف على الناس من تراه لهم منا، فقال لهم: عند الموت تريدون ذلك، لا والله لا أتزودها، ما سعدت بحلاوتها، فكيف أشقى بمرارتها، ثم جاءوا إلى خالد بن يزيد بن معاوية فتورع أن يستخلف على صغر سنه.
وكان الناس لما مات يزيد بايعوا بمكة ابن الزبير بالخلافة وبايع له أهل العراق والحجاز واليمن ومصر، وبايع له
103
سرا بالشام الضحاك بن قيس، وبايع له بحمص النعمان بن بشير، وبايع له بقنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وكان مروان بن الحكم بعد رحيله من الحجاز أيام ابن الزبير أقام بالشام، واجتمعت إليه بنو أمية، وصار الناس بالشام فرقتين: اليمانية مع مروان، والقيسية مع الضحاك بن قيس، وهم مع ابن الزبير، فاجتمع بنو أمية على عقد الأمر لمروان، وهو «شيخ مجرب بقية بني أمية في وقته»، فضرب مروان القيسية بمن كان مع الأمويين من اليمانية بمرج راهط من أرض دمشق فغلبهم، ودخل الفيحاء فقعد مقعد الخلافة.
104
قال المسعودي: وكانت وقعة مرج راهط سبب ملك بني أمية، وقد كان زال عنهم إلى بني أسد بن عبد العزى؛ ولذلك رأى قوم أن مروان أول من أخذ الخلافة بالسيف، وعزي إلى عبد الملك بن مروان قوله:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها
والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
وأبو ليلى هو معاوية بن يزيد بن معاوية، وجعل الأمر بعد مروان لخالد بن يزيد بن معاوية، ولعمرو بن سعيد الأشدق، وبذلك انتقلت الخلافة إلى بني مروان، وخرجت عن آل أبي سفيان، وكلهم أمويون، وكلهم بنو عبد شمس، تولاها من تأهل لها من هذا البيت، وظل عبد الله بن الزبير خليفة يخطب له في الحجاز واليمن والعراق ومصر وفارس، وأول ما اتجهت له همة مروان الاستيلاء على مصر من ابن الزبير، وامتدت حدود البلاد الإسلامية في أيام مروان إلى نهر كور أكبر أنهار القوقاز، ودخلت بعد حين بلاد الكرج وطاغستان وشركسستان في حظيرة الملك الأموي، ولما هلك مروان اجتمع الناس على ابنه عبد الملك، فقال لهم: إني أخاف أن يكون في أنفسكم مني شيء فقام جماعة من شيعة مروان، فقالوا: والله لتقومن إلى المنبر أو لنضربن عنقك، فصعد المنبر فبايعوه، ولم يختلف عليه أحد من قريش لما عرفوا من صدقه وعلمه، ولما وصل عبد الملك إلى العراق لإرجاعها إلى الأمويين وثب بدمشق عمرو بن سعيد الأشدق، وكان من أحب الناس إلى أهل الشام يسمعون له ويطيعون، فدعا إلى نفسه بالخلافة واستولى على دمشق، فرجع إليه عبد الملك ولاطفه وراسله، وحلف له أن يكون الخليفة من بعده، وألا يقطع شيئا دونه ولا ينفذ أمرا إلا بمحضره ثم قتله، وكان مصعب بن الزبير الذي قاتل الجيوش الأموية في العراق فقتله عبد الملك، من أحب الناس إلى عبد الملك وأشدهم له إلفا ومودة، وقال في الاعتذار عن قتله: «ولكن الملك عقيم.»
105
وقام المختار بن أبي عبيد الثقفي يدعي الطلب بثأر الحسين، فقتل عبيد الله بن زياد وتمزق أكثر جند الشام، وكانوا أربعين ألفا، فغلب المختار على الكوفة وأباد قتلة الحسين، وبعد حين قتل مصعب بن الزبير المختار وجميع رجاله وكانوا سبعة آلاف، وقضى الحجاج في ولايته العراق على ابن الأشعث، وكان ادعى الخلافة، وذلك بالقرب من دير الجماجم في ثمانين وقعة تواقعاها، وابن الأشعث في جيش أعظم من جيش الحجاج، ولكن ليس له عقل الحجاج ولا حزمه، وانهزم ابن الأشعث وأنصاره من أهل العراق، ولم يكن
106
بعد وقائع صفين أعظم من هذه الحروب.
لما أمن الخليفة جانب العراق وبايعه أهلها بالخلافة، رمى الحجاز بالحجاج ليقضي على ابن الزبير وخلافته، فكان ذلك بعد حروب أهرقت فيها الدماء، وبمقتل ابن الزبير صفت الحجاز واليمن وفارس للخليفة الأموي، فصفت بها بلاد الإسلام، وقضى عبد الملك على الأزارقة من الخوارج في فارس، وعلى الروم والبربر في إفريقية، وعاهد الروم ثم نقضوا عهده،
107
وظلوا على عدائهم طول أيامه، وعلى كثرة ما قتل من المسلمين في غزوات الروم في أرجاء إرمينية وآسيا الصغرى، كان الروم يخافون المسلمين لتهديدهم بلادهم، والمسلمون يخافون الروم؛ لأنهم كانوا حتى في حال الضعف لا تؤمن غوائلهم على بلاد المسلمين، وظلت هذه الحروب محتدمة إلى أيام ابنه الوليد وردد أقصى الغرب النصراني صداها. يقول سترستن: إن غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد الأشدق وقسوته عليه، يلقي شيئا على شخصية عبد الملك، والظاهر أن عمله كان شاذا، وأن هناك أسبابا قاهرة حملته في مثل هذا الموقف على ما أتاه، ليقضي على الفتوق التي كانت ظاهرة في كل مكان. قال: ومن الثابت أنه ليس في خلفاء بني أمية من يدانيه في الاضطلاع بأساليب الحكم، وكان يحرص
108
على أن يكون ولاته ممن ينفذون أمره، ولا يفكرون إلا في إرضاء الخليفة والفناء فيه، على طريقة الحجاج والمهلب في سياسة الدولة لا ينظرون إلا إلى مصلحة الملك، والمهلب بانضمامه إلى عبد الملك بعد أن كان مع ابن الزبير، كزياد بانضمامه إلى معاوية بعد أن كان مع علي، وما كان عبد الملك يطلق الحرية لغير أخيه عبد العزيز والي مصر وكانت له طعمة، ومصر كانت تتمتع منذ عهد عمرو بن العاص بشيء من الاستقلال، ويرعاها الأمويون رعاية خاصة؛ لأنها طريقهم إلى شمال إفريقية وإلى ما وراءها، ولكونها برأسها مملكة عظيمة غنية.
غزا عبد الملك الروم مرارا برا وبحرا، وصالحهم مرة لاضطراب البلدان عليه، وحمل إليهم أموالا كثيرة حتى انصرفوا عن المصيصة على أن تكون الهدنة عشر سنين، ويخرج الروم الذين كانوا في جبل لبنان من آخر أيام معاوية فيؤدي عبد الملك إليهم في كل يوم ألف دينار وفرسا ومملوكا، على أن يكون خراج قبرص وإرمينية مشتركا بين الروم والعرب، ثم أخذ ملك الروم اثني عشر ألف مقاتل من المردة أو الجراجمة في جبال الشام إرضاء لعبد الملك، وكان صالح الروم (70ه) لأول خلافته على أن يؤدي إليهم في كل جمعة ألف دينار، وكانوا طمعوا في الشام، وهو موزع الفكر بمسائل عمرو بن سعيد، ومصعب بن الزبير، وعبد الله بن الزبير، وليس من الحزم أن يحارب حربين داخلية وخارجية في وقت واحد، وفي أيامه وصل من الروم موريق وموريقان (75ه) وحملا بجيشهما على دير القديس مارون في جهات حماة من الديار الشامية، وقتلا خمسمائة راهب، ثم تحولا إلى قنسرين والعواصم فقتلا الأهلين ونهبا وخربا المساكن، ولم يعفيا عن أحد من الموارنة، وخضعت لهم بلاد الكورة في لبنان، ثم قوي الجبليون على عساكر الروم، وقتلوا أكثرهم وانهزم الباقون.
وصف الجاحظ عبد الملك فقال فيه: «كان عبد الملك بن مروان سنان قريش وسيفها رأيا وحزما، وعابدها قبل أن يستخلف ورعا وزهدا»، ويعد في العلماء العاملين كما هو من أكبر الساسة، ويشبه عبد الملك معاوية بحزمه وسياسته ، وما كان يدهش لما يحل به من المفظعات،
109
وكان من جملة وصيته لأولاده أن يعطف الكبير منهم على الصغير، وأن يعرف الصغير حق الكبير، وحذرهم البغي والتحاسد، وأوصاهم بأخيهم مسلمة، وأن يصدروا عن رأيه، وأن يكرموا الحجاج، فإنه هو الذي وطأ لهم هذا الأمر. وعمل زياد بن أبي سفيان وخالد القسري وقتيبة بن مسلم وأمثالهم من رجال بني أمية، لا يقل عن أعمال الحجاج في سياسة الدولة، وكانوا كلهم «قطب
110
الملك الذي عليه مدار السياسة ومعادن التدبير، وينابيع البلاغة، وجوامع البيان، هم راضوا الصعاب حتى لانت مقاودها، وخزموا الأنوف حتى سكنت شواردها، ومارسوا الأمور، وجربوا الدهور، فاحتملوا أعباءها، واستفتحوا مغالقها، حتى استقرت قواعد الملك، وانتظمت قلائد الحكم، ونفذت عزائم السلطان.»
وأريد عبد الملك على أن يعهد لابنيه الوليد وسليمان فأبى؛ لأن البيعة كانت لأخيه عبد العزيز، وكان عبد الملك لا يفضل عبد العزيز في شيء إلا باسم الخلافة، وهو نظير عبد الملك في الحزم والعقل، ومات عبد العزيز فعهد عبد الملك إلى ولديه الوليد، ثم سليمان بالخلافة، وكانت أيام الوليد خالية من المشاغل الداخلية في الجملة، والعمران يعظم والفتوح سائرة على ساق وقدم. فتح بلادا في أرض الترك والروم والهند وأعظم ما فتح الأندلس، وجاء فاتحها موسى بن نصير إلى دمشق في طائفة من أبناء ملوك البربر والجزائر والروم والإسبان والإفرنج، يلبسون تيجانهم وهم في حالة الأسر، وسئل فاتح الأندلس في حضرة الخليفة سليمان عن حال تلك الأمم التي افتتح بلادها فقال: إن الروم
111
أسود في حصونهم، عقبان على خيولهم، نساء في مواكبهم، إن رأوا فرصة افترصوها، وإن خافوا غلبة فأوعال ترقل
112
في أجبال، لا يرون عارا في هزيمة تكون لهم منجاة. وقال عن البربر: إنهم أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبرا، وفروسية وسماحة وبادية غير أنهم غدر. وقال عن الإسبان: إنهم ملوك مترفون، وفرسان لا يجبنون. ووصف الإفرنج: بأن هناك العدد والعدة، والجلد والشدة، وبين ذلك أمم كثيرة ومنهم العزيز ومنهم الذليل، وكل قد لقيت بشكله فمنهم المصالح ومنهم المحارب، وما عامل الخليفة سليمان بن عبد الملك موسى بن نصير ولا قتيبة بن مسلم بما يستحقان لما قدما من خدمة الدولة؛ فقد قتل قتيبة بن مسلم فاتح خوارزم وسمرقند وبخارى، وضارب الجزية على ملك الصين؛ لأنه أظهر الخلاف وأثار الجيش على الخليفة فيما قيل، وقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير توهما منه أنه يستقل بالأندلس، وبعث سليمان إلى الروم بأخيه مسلمة بن عبد الملك وعمر بن هبيرة فلقيا جهدا وفتحا بعض مدن الروم، وكان أول من ضرب بسيفه باب القسطنطينية وأذن في بلاد الروم أحد بني عامر بن صعصعة، وكان مع مسلمة فأراد قيصر قتله فقال: والله لئن قتلتني لا تبقى بيعة في بلاد الإسلام إلا هدمت.
113
ومن أهم ما عمله سليمان عهده لابن عمه عمر بن عبد العزيز بالخلافة ومن بعده لأخيه يزيد، وذلك بإشارة وزيره رجاء بن حيوة، فدل على بعد نظر، وحب الخير للأمة، فدعي مفتاح الخير، ولم يكد عمر بن عبد العزيز يقبض على زمام الخلافة حتى استدعى من الروم جيش المسلمين لما لقوا من الجهد، وطلب إلى عامله على الأندلس أن يرسم له مصورها؛ لأن المسلمين هناك محاطون بالأعداء، بعيدون عن مقر الخلافة، وكان من رأيه أن يجليهم عن أرضها، وكتب إلى عامله في بلاد ما وراء النهر بإقفال المسلمين بذراريهم إلى البلاد التي أظلها سلطان العرب منذ سنين، قائلا: حسب المسلمين الذي فتح الله عليهم؛ ذلك لأن عمر بن عبد العزيز كان يضن بدماء قومه، ولا يحب التوسع في الفتوح، ويحرص على إصلاح البلاد وأهلها، وفي أيامه سكنت الخوارج فلم يثوروا، وكان ناقشهم وأفحمهم، وعطف على الطالبيين ووسع عليهم، فكانوا عنه راضين، وأبطل لعن أبي تراب علي بن أبي طالب من منابر الإسلام، وكان بنو أمية يسبون عليا من سنة إحدى وأربعين، وهي السنة التي خلع فيها الحسن نفسه من الخلافة.
وكانت علاقة عمر مع الروم سلمية، ولما بلغ صاحب القسطنطينية نعيه نزل عن سريره وبكى، وذكر من مآثر عمر أمام وفد من العرب - كان ذهب للفداء بين العرب والروم - ما أبكى المقل، ومما قال: لقد بلغني من بره وفضله وصدقته ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطنا وظاهرا، فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدا، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعة، ولكني عجبت لهذا الراهب الذي صارت الدنيا تحت قدميه فزهد فيها، حتى صار مثل الراهب.
114
أعاد عمر للخلافة جمالها وجلالها، على ما كانت عليه أيام جده لأمه عمر بن الخطاب، ولكن ابن عبد العزيز عمل في زمان غير زمان ابن الخطاب، وبرجال غير رجاله، وكان دأبه أن يذكر الناس بالآخرة، ويخوفهم من العذاب، ودأب جده أن يذكرهم العمل للدنيا، مع شدة التمسك بحقوق الأخرى، فسياسة عمر بن الخطاب ملائمة لزمانه، وسيرة سبطه كذلك، هذا والناس في آخر القرن الأول قد فسدوا أو بدءوا بالفساد، عمل عمر أعمالا عظيمة في خلافته القصيرة، وهي سنتان وخمسة أشهر، وهذا من أعجب ما يدون في تاريخ عظماء الأرض، ولو لم يتقيد بعهد سلفه سليمان بن عبد الملك ليزيد بن عبد الملك، لعهد إلى القاسم بن محمد بن أبي بكر، أو إلى إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأشدق، لما كان يعرف من غنائهما، ولكن حاذر إن أقدم على ذلك أن يغضب بني أمية، وكان بعضهم يبطن له الكراهة، وإذا حول الأمر عن المروانيين تقع التفرقة لا محالة.
وكان عمر بن عبد العزيز يشعر أن يزيد بن عبد الملك لا يسير بعده بسيرته، بل يسير بسيرة أخيه على طريقة الملكية المطلقة، يجمع الأموال ويبددها، ويقتل ولو على الشبهة لما يعتقد أن فيه سلامة الدولة، فلما بويع ليزيد أعاد سب علي على المنابر، وأرجع الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل سلفه، وكتب إلى مصر بمنع الزيادة التي كان عمر بن عبد العزيز أمر لأهل الديوان بها فمنعوها،
115
وأتاه
116
قوم من قريش وخيار بني أمية، وكانت قلوبهم قد سكنت إلى هدي عمر واطمأنت إلى عدله، فاتهم منهم نفرا بالخلع والخروج فأسكنهم السجن عشرين شهرا، ثم دس لهم السم فماتوا جميعا، وأقصى من سائر قريش ثلاثين رجلا، بعد أن صادرهم وعذبهم، وصلب من الناس جملة ممن ألف هؤلاء القوم واتهم بمصانعتهم ومصاحبتهم، وقيل: إن يزيد بن عبد الملك
117
لما ولي الخلافة قال: «سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز فأتوه بأربعين شيخا فشهدوا عنده أن الخلفاء لا حساب عليهم ولا عذاب، وكان طائفة من الجهال الشاميين يعتقدون هذا.»
كان يزيد بن عبد الملك على غير طريقة إخوته، قرب القيسيين وأقصى اليمانيين، خلافا لما جرى عليه أخوه سليمان، وبذلك استهدف لغضب اليمانيين، وهم الكثرة الغامرة في جيوش الشام، وفي أيامه وثب بالبصرة يزيد بن المهلب وتسمى بالقحطاني، ونصب رايات سوداء، وقال أدعو إلى سيرة عمر بن عبد العزيز فقتله أمير العراقين مسلمة بن عبد الملك، وكانت أيضا ملحمة كبرى عند باب
118
الأبواب التقى الجراح الحكمي وهو والترك فانكسروا بعد قتال عظيم، وكان
119
يزيد جعل ولاية العهد من بعده لهشام، ثم بدا له أن يبايع بولاية العهد لابنه الوليد، فأقنعه خالد بن عبد الله القسري بالعدول عن ذلك؛ لئلا تقع العداوة والشر بينهم، ويجد الناس السبيل إلى الطعن فيهم والاختلاف عليهم، وصير الوليد ولي العهد بعد أخيه هشام.
وجاء هشام بن عبد الملك يتولى الخلافة، وهو آخر من تولاها من ولد عبد الملك، تولاها هو ويزيد وسليمان والوليد، فلقب هؤلاء الإخوة الأربعة بالأكبش الأربعة، ولقب والدهم عبد الملك بأبي الأملاك لتولي الخلافة أربعة من أولاده. تولى هشام فلم يخرج
120
عليه خارج، ولم يقم عليه قائم، اللهم إلا زيد بن علي في بعض نواحي الكوفة، فقتله ابن هبيرة، فعظم قتله على هشام، وأقصى ابن هبيرة وصادره، وقال الخليفة: إن ابن هبيرة لم يزل مبغضا لأهل البيت من آل هاشم وآل عبد المطلب، وإني ما زلت محبا لهم حتى أموت، وكانت سياسته رشيدة وكتب له التوفيق في فتوحه، وما سارت طريقة الجباية سيرا أحسن من سيرها في أيامه، وكان النظام في الأخذ والعطاء على أتمه، وزعم مؤرخو النصارى
121
أن هشاما أتى على ثروة الذميين والمسلمين، فثارت ثورات من تطبيق قوانين الجباية عليهم، وعم البلاد الشقاء والفاقة، وفي أيامه دخل الخوارج إلى الشام، وأعقب ذلك خلل في الجيش، وحاول فان فلوتن
122
أن يثبت أن الجباية كانت فاحشة في عهد الأمويين، وأن من الثورات ما نشب بتأثر تلك المظالم والضرائب، لكن لم يأت ببراهين مقنعة، بل استنتج استنتاجا ضعيفا واستقرى استقراء ناقصا. ويقول الطبري: إنه كان لا يدخل بيت مال هشام مال حتى يشهد أربعون قسامة أنه أخذ من حقه، وأعطي لكل ذي حق حقه، ومن كان هذا شأنه في أخذ ما حل له كيف يستحل أخذ أموال الذميين والمليين بالباطل، ولكن من الرعية من لا يرضيهم شيء حتى ولو أعفوا من كل ضريبة. قال أرباب السير من العرب: إن السواس ثلاثة في بني أمية، وهم معاوية وعبد الملك وهشام، وبه ختمت السياسة وحسن السيرة، وأجمعوا على أنه لم يكن في بني أمية ملك أعظم من هشام، أخذ الجزية من الروم والفرس والترك والفرنج والزنج والسند والهند، ولم يجترئ أحد معه على ظلامة، وهو «رجل محشو عقلا»، وغزا هشام الروم عدة غزوات موفقة، وكان الأسطول يشترك مع الجيش البري من اليابسة، وذلك بقيادة ابنيه معاوية وسليمان، وأسر قسطنطين ملك الروم،
123
وتقدمت جيوشه في الشرق فغزا الترك وفتح الفتوح العظام.
وأتت نوبة الوليد بن يزيد لتولي الخلافة، فعقد لابنيه الحكم وعثمان بولاية العهد من بعده، وأساء السيرة وانتحى على أهله وجماعة من قريش، وأحدث الأحداث العظيمة وسفك الدماء، وقتل خالدا القسري فأغضب اليمانية، واشتد على بني هشام وأضر بهم، وضرب سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان، وحبس يزيد بن هشام، فرماه بنو هشام وبنو الوليد، وكان أشدهم قولا فيه ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر التنسك
124
فألحت عليه القدرية، وكان قدريا يرى رأي غيلان، وقالوا له: لا يحل لك إهمال أمر الأمة، وأجابته اليمن بأسرها، وقاتل الوليد بمن كان معه من المضرية، وأثخنت اليمانية القتل في مضر، إلى أن أحاطوا بالوليد بحصن البخراء من أرض تدمر، وذبحوه وحملوا رأسه على رمح فطيف به في دمشق، وبايع المضريون ليزيد بن الوليد طوعا أو كرها، فاضطربت عليه البلدان، وسمي الناقص؛ لأنه نقص من عطاء الناس، ومما خطب به القوم يستميلهم «فإن وفيت لكم بما قلت، فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن لم أف فلكم أن تخلعوني إلا أن أتوب، وإن كنتم تعلمون أن أحدا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه ما قد بذلت لكم، وأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه معكم.» وفي أيامه خرج يحيى بن زيد من آل البيت بأرض الجوزجان فوجه نصر بن سيار صاحب خراسان أحد رجاله، فقتل زيد في المعركة، ولما قتل الوليد خرج أهل حمص وأغلقوا أبواب المدينة، وأقاموا النواح والبواكي عليه، وطلبوا بدمه، قالوا:
125 «إن المضرية تلاومت فيما كان من غلبة اليمانية عليها، وقتلهم الخليفة الوليد بن يزيد، فدب بعضهم إلى بعض، واجتمعوا من أقطار الأرض، وساروا حتى وافوا مدينة حمص، وبها مروان بن محمد بن مروان بن الحكم ، وكان يومئذ شيخ بني أمية وكبيرهم، وكان ذا أدب كامل ورأي فاضل، فاستخرجوه من داره وبايعوه، وقالوا له: أنت شيخ قومك وسيدهم فاطلب بثأر ابن عمك الوليد بن يزيد، فاستعد مروان بجنوده في تميم وقيس وكنانة وسائر قبائل مضر، وسار نحو مدينة دمشق فاقتتل جيشه مع جيش يزيد بن الوليد في ثنية العقاب وانهزم الحمصيون، واستولى يزيد على حمص، ووثب أهل فلسطين، وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك فجعلوه عليهم، فدعا الناس إلى قتال يزيد الناقص فأجابوه إلى ذلك، وبلغ يزيد ذلك فأرسل إليهم جيشا مع سليمان بن هشام بن عبد الملك، ووعد كبراء فلسطين ومناهم، فتخاذلوا عن صاحبهم، وأخذ سليمان البيعة من أهل طبرية والرملة ليزيد بن الوليد.»
ومات يزيد بن الوليد بعد ستة أشهر من خلافته، فخلفه أخوه وولي عهده إبراهيم بن الوليد، وقيل: إن أخاه لم يعهد إليه ولكنه استولى بغير عهد، وقيل لم يتم له الأمر، فكان قوم يسلمون عليه بالخلافة، وقوم يسلمون عليه بالإمرة، وأبى قوم أن يبايعوا له، وأقبل مروان بن محمد من إرمينية داعيا إلى نفسه في جيش من أهل الجزيرة، وكان القوم بايعوا لإبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك من بعده، ودخل مروان دمشق فخلع إبراهيم نفسه وهرب وتوارى حتى أمنه مروان ودخل في طاعته، وكان أهل حمص لم يبايعوا إبراهيم، وكان مروان أخاه لأمه، ثم قتل مروان بعد أخذ البيعة له إبراهيم بن الوليد وعبد العزيز بن الحجاج، ونبش عسكره قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية بدمشق، وسمي مروان بالجعدي نسبة للجعد بن درهم، الذي لقنه مذهبه في القدر والقول بخلق القرآن،
126
وأخذ مروان بحزمه يقضي على النازين على الخلافة كقضائه على فتنة ثابت بن نعيم الجذامي لما خرج عليه ببلاد طبرية والأردن، ودخلت خوارج اليمن مكة والمدينة يدعون لعبد الله بن يحيى الكندي الأباضي، فجهز مروان جيشا وقاتل هؤلاء الخوارج في الحجاز، ثم في اليمن، وقتل في ذلك خلق كثير، ودخل داعية عبد الله بن يحيى طالب الحق إلى مصر فبايع له ناس من تجيب وغيرهم، فاستخرجهم عامل مروان فقتلهم، وقاتل مروان الضحاك بن قيس الشيباني الحروري، وكان قوي أمره في أرجاء الكوفة حتى بلغ جيشه - فيما قيل - مائة وعشرين ألفا، فأرسل إليه ابنه عبد الله وما زال يحاربه حتى قتله، ثم قتل من خالفوه من الحرورية، وكان ممن لحق بالضحاك بن قيس هذا سليمان بن هشام بن عبد الملك، وبايعه بعد أن اختلفت به الأحوال منذ خرج من سجن الوليد في عمان وثار فأخذ ما كان بها من الأموال، وأتى دمشق فلحق أولا بيزيد بن الوليد، فولاه بعض حروبه
127
إلى أن كسره مروان بن محمد بعين الجر، فهرب ثم استأمن إلى مروان وبايعه ثم خلعه، واجتمع عليه نحو سبعين ألفا وطمع في الخلافة، فبعث إليه مروان عسكرا فندم سليمان على ما كان منه ومضى إلى حمص فتحصن بها، ثم التحق بالضحاك، ثم بقحطبة
128
بن شبيب أحد قواد العباسيين الذي تولى حرب ابن عمه مروان بن محمد فأحسن البلاء، فحسن موقع سليمان من أبي العباس السفاح العباسي، ثم شعر سليمان أن السفاح يريد قتله فخرج ولحق بالجزيرة، وكتب إلى مواليه وصنائعه فاجتمع إليه منهم خلق كثير، فبعث إليه أبو العباس بعثا ليقاتله فانهزم، ثم بعث إليه بعثا آخر فهزمه أيضا، ثم بعث إليه بعثا آخر فأسره وصلب على دار الإمارة بالكوفة.
رأينا كيف تلونت أحوال السياسة في عهدها الأخير، وكانت في الأيام الخالية متسقة مطردة، وبهذا التناحر بين أبناء العم على الخلافة، دب الفشل في جيش الأمويين، وقتلت هيبتهم في النفوس بهذا الانشقاق البادي بينهم، وكيف يستقيم لهم الأمر كما كان في زمن هشام مثلا، وفي سنين قليلة خرج على خليفة الوقت من أهله بشر بن الوليد بقنسرين، وعمر بن الوليد بالأردن، ويزيد بن سليمان بفلسطين، وسليمان بن هشام بحمص وقنسرين، وبايعه أهل حمص بالخلافة، وخلعوا مروان بن محمد بعد أن قتل من عسكر سليمان بن هشام ثلاثون ألفا، وكان في سبعين ألفا .
ولما انهزم مروان بن محمد الجعدي في الزاب الصغير قرب الموصل أمام جيش بني العباس لم ينفعه تعصبه
129
مع النزارية شيئا، بل غدروا به وخذلوه، ولما اجتاز ببلاد قنسرين وخناصرة أوقعت تنوخ بساقته وجاز حمص فناوشه أهلها القتال، وكان قاتلهم غير مرة وقتل من رجالهم ومثل بهم، ووثب به في دمشق الحارث بن عبد الرحمن الحرشي، فما آوته دمشق عاصمة آبائه، ورحل بجيشه إلى الأردن فوثب بها هاشم بن عمرو العنسي والمذحجيون - أي اليمانون جميعا - ثم مر بفلسطين فوثب به الحكم بن ضبعان لما رأوا من إدبار الأمر عنه.
وكان مروان لما وسدت إليه الخلافة ودخل دمشق ترك لأهل كل جند من أجناد الشام أن يختاروا عمالهم، فوقع اختيارهم على هؤلاء العمال الذين ثاروا بهم بعد على مروان، وخذلوه أي خذلان، وجعل مروان يستقري
130
مدن الشام فيستنهض أهلها، فيروغون عنه ويهابون الحرب فلم يسر معه منهم إلا قليل، بل لقد انقلب عليه من كان مواليا لدولته، وقتل أهل مصر واليهم، وقتل أهل حمص واليهم، واكتفى أهل المدينة بإخراج عاملهم، وخرج عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة، فانهزم ومضى إلى فارس فغلب عليها وعلى أصبهان، والفتنة انتشرت في أنحاء البلاد كلها حتى انهزم مروان وهبط مصر، فلحق به الجيش العباسي فقتل في بيعة في بوصير من أرض الصعيد وبه انحل ملك الأمويين في الشرق. •••
أهم الأسباب التي عجلت القضاء على ملك بني أمية تحكم أهواء المتأخرين من الخلفاء في قوادهم العظام، فابتعد العارفون الصادقون عن الخدمة، ودخل الأغمار الأغرار، أبعدوا أولياءهم، كما قال أبو مسلم الخراساني، ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألفا لهم، فلم يصر العدو بالدنو صديقا، وصار الصديق بالبعاد عدوا، ومنها إلقاء بذور الخلاف بين النزارية والمضرية، وقيس ويمن، واعتصام خليفة بهذا، وآخر بذاك، فمروان بن محمد اصطفى قيس عيلان وانحرف عن اليمن، وباداها العداوة فصارت
131
عليه إلبا، وله حربا، وما عطف بنو أمية على العراق وخراسان العطف المطلوب فظاهروا غيرهم، وكان تنازع رؤساء العرب في خراسان على الولاية، وانقسام الجيش إلى مضري ويماني من العوامل أيضا في ظهور أعداء الأمويين عليهم، ثم إن الأمويين توسعوا في الفتوح، حتى اتسعت دائرة ملكهم إلى ما لم تبلغه دولة الرومان، فقد استطاعوا أن يقضوا على الطالبيين الذين نازعوهم سلطانهم في الأقطار القريبة من دار ملكهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقضوا على رجل من الخوارج الصفرية اسمه ميسرة لما قدمه البربر في شمالي إفريقية سنة 122 وبايعوه بالخلافة، وخوطب في طنجة وما إليها بأمير المؤمنين، هذا والأمويون كانوا في أوج سلطانهم.
كانت الدولة الأموية عربية صرفة برجالها وبكثير من أوضاعها، لم يتول القيادات والنيابات فيها إلا جماعة من أبنائهم، ومن أهل البيوتات العربية المعتمد عليها عندهم، وجيوشهم كلها من أصول عربية لم يمازجها غير قليل من البربر في شمال إفريقية والأندلس، «وكان أمر بني أمية نافذا في جميع العرب بعصبية بني عبد مناف حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك من دمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل، ولم يرد أمره، ثم اضمحلت عصبية بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا.»
132
وكان الأمويون على الأكثر أصحاب ثقافة عربية راقية فيهم المرونة السياسية والإدارية، تمرنوا على قيادة الجيوش وحكم الناس منذ عهد الرسول، وكان أكثر عماله منهم،
133
ولم يكن في عماله ولا في عمال أبي بكر وعمر أحد من بني هاشم، وأثبت الأمويون كفاءتهم الحربية والسياسية منذ قاتلوا الروم يوم اليرموك في الشام، فكان نساؤهم وبناتهم يقاتلن مع الرجال، وما فتحت من كور الشام مدينة إلا وجد عندها رجل منهم ميتا، فكان من الطبيعي أن يحبهم الشاميون ويستميتوا في نصرتهم لأول أمرهم، ومن الطبيعي أن تكون الشام لهم ولأعقابهم دار ملك، ومبعث عزة وسلطان، ومن الطبيعي أن يمتد ظلهم هذا الامتداد العظيم في المشرق والمغرب.
امتد ملكهم من سواحل الأطلنطي إلى بلاد الصين، ومن جبال القوقاز وما وراءها
134
إلى خط الاستواء وما وراءه، ودخلت في الإسلام في عهدهم أمم كثيرة من السلالة السامية (العرب والسريان والكلدان)، ومن السلالة الحامية (المصريون والنوبيون والبربر والسودان)، ومن السلالة الآرية (الفرس واليونان والإسبان والأهاند)، ومن السلالة التورانية (الترك والتتار)، وأمست تتلى آي القرآن في سمرقند كما تتلى في قرطبة،
135
ويتلاقى الهندي مع السوداني في مكة للحج، وكلاهما يدين لبني أمية، وأخذت الجزية من النوبة كما قررها عمر بن الخطاب، ومن الهند والصين على ما قدرها قتيبة، وأصبحت دمشق في نظر المسلمين كرومية في نظر أهل النصرانية.
وصعب في عهد خلفائهم قيام دولة شيعية، على أن الشيعة كانت تعمل منذ طمعت نفس آل أبي طالب في الخلافة، محتجين بأن الرسول أوصى بالخلافة لعلي يوم الغدير بالنص، وأنه وآله معصومون، وأنه مصيب في كل أحواله، وأنه ضل كل من لم يبايعه من الصحابة، ولم تجد هذه الدعوى أنصارا كثارا لها في المسلمين، وكانت الغلبة للجماعة، والأمم تحكم في كل عصر بسوادها الأعظم، وبصفات خاصة في الفاتحين والمتغلبين، وهذه الصفات كانت متوفرة فيمن تولوا بعد الراشدين، واستمات الشيعة في تحقيق أمنيتهم في الخلافة، فمزق بهذا السبب شمل العرب والإسلام أو كاد، وجرت حروب أبيحت
136
بسببها الأموال والدماء، وتشعبت منها آراء ومذاهب، وسرى الاعتقاد بالمهدي المنتظر عند الشيعة إلى أهل السنة، وباسمه قامت أو حاولت أن تقوم دول في المغرب في القرون اللاحقة.
137
وما فتئ الفريقان المتخاصمان يلبسان خلافاتهم على الخلافة ثوبا دينيا، وما وجد الفريق المقهور حرجا في الاختلاق على خصمه وتجسيم غلطاته، وكان هذا يتطلب رضاه بكل حيلة، ويعرف له مكانته وقرابته، حتى اضطر الأمويون بعد حين أن يعاملوا خصومهم بالشدة، والخصمان في نظر التاريخ من البشر، يعشقان الدنيا ويقاتلان عليها المنافس، ولا ينظر في التنظير بين الفريقين، إلا إلى الأثر الذي أثره كل منهما في كيان الأمة. وخرج أعداء الأمويين في التشنيع على أعدائهم، عن حد الاعتدال، فراحوا يخرجونهم عن الملة، وهم مساهموهم في خدمة الدين، بل لقد بذوهم في نشره، وبسط سلطان أهله على العالمين، وما أورثت هذه الخصومات الدنيوية غير تأريث الأحقاد، وفصم عرا الوحدة، والسير في طريق ردب،
138
ما انتهت بغير الإحن والمحن على طول الزمن، سالت الدماء كالأنهار، وقتل ولاة الأمر في الدولة جماعة الشيعة والخوارج بدون توقف، والأمويون كغيرهم من أرباب الدول، لا يرون سلامتهم إلا في قتل من يناصبهم العداء، ولا يتهاملون في القضاء على من يخرج على خلفائهم.
وعجيب في مثل هذه الدولة وبنيانها قائم على العدل واللين ممزوجا بشدة، وقد توفرت لها عامة أسباب البقاء، وعملت للأمة أعمالا لم توفق إليها دولة إسلامية بعدها، ألا يطول عمرها كثيرا، وقضي عليها على أيسر سبب وهي في معظم قوتها. وقد علل أسباب انقراضها باحثان في تاريخها ربما كانا على صواب فيما ارتأياه، قال فال:
139
إن وفاة هشام زعزعت أركان الدولة الأموية، فثارت ثورات أوقد نارها تحريض الشيع المخالفة ودعاتهم، وكان من مظالم الولاة وتنازع الأمويين بينهم ما عجل سقوطهم. ومن أسباب الضعف أن يتعاقب على الخلافة في سنة واحدة ثلاثة خلفاء، الوليد الثاني ويزيد الثالث وإبراهيم، وكان حظ محمد والخلفاء الأول كحظ مملكة الكارولنجيين، توسعت فتوحها في العالم القديم، وانتهت بأن تزرعه بالأنقاض المنتثرة منه، والعوامل في انحلالها كالعوامل في تلك المملكة، فتن داخلية من أجل الملك، ميل الرؤساء إلى خلع ربقة الطاعة، نقمة العناصر والجنسيات ودعاة القوميات.
وقال ليفي ديلافيدا:
140
لا يكفي فساد الوليد الثاني لسقوط الدولة الأموية، بيد أن الوليد هيأ انحلال الدولة بعهده إلى ولديه، وما استطاع الوليد ولا يزيد الثالث، ولا أخوه إبراهيم وضع حد للفوضى، وضعف الإشراف على القاصية واستولى الخارجي الضحاك بن قيس الشيباني على الكوفة، وقام مروان بن محمد القيام المحمود في السنين الثلاث الأولى، بجيش دربه أيام ولايته إرمينية وظهر به على الروم، فذكر بعمله أعمال جده وسميه، وأعمال عبد الملك بعده ببلائه الحسن في توحيد المملكة، إلا أن حاله لم تكن تشبه حالهما، وكان عمله شاقا؛ ذلك لأن البيت الأموي كان قد دخله الوهن، وجفت فيه مادة النشاط أو كادت، وأيقن أعداؤه بنجاح الدعوة للدولة الجديدة، وما كان مروان أمام جيوش مرتجلة، كما كان الشأن في جند ابن الزبير، والعصابات المستبسلة من العلويين، بل كان أمام جيش منظم اعتاد حرب الترك، كان أمام جيش فارسي دربه أبو مسلم الخراساني. هذا وما استطاع الأمويون أن يجعلوا المملكة جسما واحدا متماثلا، وكذلك قصر باع العباسيين بعدهم في هذا السبيل، وكانت مسألة استخلاف الخلفاء في العهدين الأموي والعباسي من المشاكل الصعبة الحل، تتجدد غوائلها كلما مات خليفة.
سياسة العباسيين
لما سلم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، قامت الشيعة من أهل المدينة،
141
وأهل مكة والكوفة والبصرة واليمن وخراسان، فاجتمعوا إلى محمد بن الحنفية فبايعوه على طلب الخلافة، وعرضوا عليه قبض زكاتهم، فولى على شيعة كل بلد رجلا منهم، وأمره باستدعاء من قبله في ستر، على ألا يبوحوا بمكنونهم إلا لمن يوثق به حتى يرى للقيام موضعا، فأقام ابن الحنفية إمام الشيعة حتى مات، وولي عبد الله ابنه من بعده، وأمره بطلب الخلافة إن وجد إلى ذلك سبيلا، وعلم به الخليفة سليمان بن عبد الملك، ولما اجتمع إليه أنكر ما عزى إليه من المبايعة له بالخلافة؛ إذ كان «من
142
الجائز للإمام في حال التقية
143
أن يقول: إنه ليس بإمام.» فقيل: إن سليمان بن عبد الملك دس على عبد الله من سمه في الطريق، وقيل: إنه مرض فأتى الحميمة من أرض الشام، وبها جماعة آل العباس، فعهد قبل موته إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أن يطالب بالخلافة بعده، وولاه وأشهد له من الشيعة رجالا، فأقام محمد بن علي هذا إماما، ودعوة الشيعة له حتى مات، فلما حضرته الوفاة ولي الأمر إبراهيم بن محمد المدعو بالإمام، فانتبه مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين لما كان منه فقتله، وقيل: إن إبراهيم بن محمد عهد بالخلافة بعده إلى أخيه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن العباس عم الرسول.
اختار محمد بن علي يوم قام يحاول انتزاع الملك من الأمويين بلاد خراسان ميدانا لإظهار دعوته؛ لأن أهل الشام والجزيرة والحجاز لم يكن هواهم مع آل العباس، وهم يعلنون ولاءهم للأمويين سرا وجهرا؛ ولأن في أهل خراسان العدد الكثير
144
والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة، لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، وليس فيهم التحزب للقبيلة والعصبية للعشيرة،
145
وهم مظلومون يؤملون الدول، ولم يكونوا على العهد الأموي محل الرعاية، بل أقصوهم عن الحكومة، وجلبوا إليهم العمال من الأحزاب العربية، وكان أهل خراسان في أكثر ملك العجم لقاحا، لا يؤدون إلى أحد إتاوة ولا خراجا، فلما جاء الإسلام صالحوا على بلادهم، فلم تسفك بينهم الدماء وخف خراجهم. ومن مرو الشاهجان ظهرت دولة بني العباس (127ه) وصبغ أول سواد لبسته المسودة، وقلما سمع أهل بلد بجيش خراسان إلا سودوا قبل أن يوافيهم؛ أي لبسوا السواد شعار بني العباس ونزعوا شعار المبيضين، أي الأمويين .
قالوا لما جاء الوقت الذي أعد
146
فيه أبو مسلم مستجيبيه خرجوا جميعا في يوم واحد من كور خراسان، وانجفل الناس من هراة وبوشنج ومرو الروذ والطالقان ومرو ونسا وأبيورد وطوس ونيسابور وسرخس وبلخ والضغانيان والطخارستان وختلان وكش ونسف، فتوافوا جميعا مسودي الثياب، وقد سودوا أيضا أنصاف الخشب التي كانت معهم، وسموها «كافر كوبات» وأقبلوا فرسانا وحمارة ورجالة يسوقون حميرهم ويزجرونها «هر مروان»، يسمونها مروان ترغيما لمروان بن محمد وكانوا زهاء مائة ألف رجل.
لما وجه إبراهيم الإمام أبا مسلم الخراساني إلى دعاته بخراسان أعطاه لواء يدعى الظل وراية تدعى السحاب، فعقدهما على رمحين، ومعنى الظل والسحاب أن السحاب يطبق على الأرض فلا تخلو من الظل، كما لا تخلو الأرض من خليفة عباسي آخر الدهر، وجعلت الراية سوداء حزنا على شهدائهم من بني هاشم، ونعيا على بني أمية في قتلهم،
147
وكان الحارث بن سريج لما ثار على بني أمية (سنة 116ه)، وكذلك بهلول الخارجي (سنة 119ه)، وأبو حمزة الخارجي (سنة 128ه) اتخذوا اللواء الأسود شعارا، وما كان أحد منهم في حداد على أحد من آل البيت.
148
وكان إبراهيم الإمام أوصى أبا مسلم باليمانيين، وأن يقتل من يشك فيه من مضر، وإن استطاع ألا يدع بخراسان من يتكلم بالعربية فليفعل، وأي غلام بلغ خمسة أشبار يتهمه فليقتله، فأنفذ أبو مسلم ما أمر به، وقتل أبناء المهاجرين والأنصار في خراسان. واستمر
149
ما كان من الشنآن بين النزارية واليمانية، وتحزب الناس بالمثالب، وثارت بينهم في البدو والحضر، فغلب على خراسان، بضعف الأمويين آخر أيامهم عن إنجاد واليهم عليها، وتخطت عسكره إلى العراق، وما وضع مقاليد الخلافة في أيدي بني العباس بالكوفة حتى كان قتل فيما قيل ستمائة ألف إنسان.
كان آل العباس وآل أبي طالب شرعا
150
في المطالبة بالخلافة؛ ولذلك سموا شيعة آل محمد، ولم يكن إذ ذاك بين بني علي وبني العباس افتراق في رأي ولا مذهب، فلما ملك بنو العباس نفر عنهم فرقة من الشيعة مالت إلى بني علي، واعتقدت أنهم أحق بالأمر، فصار المتشيع هو الذي يعتقد إمامة أئمة الإمامية من بني علي لا الموالي لبني علي والعباس - كما كان من قبل - وكان المنصور أول
151
ملك أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد علي بن أبي طالب، وإذ قدر أن يستأثر بالملك آل العباس دون الطالبيين، أصبح هؤلاء بحكم الطبيعة من المخالفين، ونقم الطالبيون على العباسيين وخرجوا عليهم في كل عصر.
أيقن إبراهيم الإمام بأنه مقتول لا محالة بأيدي الأمويين فنعى نفسه إلى أهل بيته، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه عبد الله، وأوصى إليه بالخلافة، فسار بأهل بيته وفيهم أخوه أبو جعفر، فأقام بالكوفة شهرا وهو مستخف، ثم ظهر وسلموا عليه بالخلافة، وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي، ولقب بالسفاح؛ لأنه سفح دماء بني أمية، وقال في أول خطبة خطبها «أنا السفاح المبيح والثائر المنيح.» وفي هذه الخطبة يقول ردا على الشامية - أي بني أمية - في قولهم: إنهم أحق بالرياسة والسياسة والخلافة من غيرهم: إن الله لما قبض الرسول إليه قام بالأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم، «وحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان، فانتبذوها وتداولوها، فجاروا فيها واستأثروا ... وقام عمه داود بن علي فقال: أيها الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينا ولا عقيانا، ولا نحفر نهرا ولا نبني قصرا، وإنما أخرجتنا الأنفة من ابتزازهم حقنا، والغصب لبني عمنا، وما كرهنا من أموركم.»
وفرق السفاح الولايات على رجال من آل بيته، وعهد إليهم أن يستأصلوا الأمويين، وكل من يمت إليهم بسبب، ولم تأخذ العباسيين رأفة بأطفال الأمويين ونسائهم وشيوخهم، قتلوا حتى من استأمن منهم، وبحثوا عنهم في كل صوب وحدب، واجتثوا أصولهم وفروعهم، وأخذوا ثاراتهم من أحيائهم بالقتل، ومن أمواتهم بنبش قبورهم، وصلب أشلائهم، وإحراق عظامهم، وتذريتها في الريح، أو بصب اللعنات عليهم، وتسويد صحائفهم، ثم كتب السفاح كتابا عاما إلى البلاد يعطي فيه الأمان للأمويين، وما كان أمانه إلا مدرجة لظهورهم، حتى إذا برزوا للناس قتلوا كل قتلة بلا حكم ولا مسوغ.
وأهم ما وقع بموت السفاح قيام عبد الله بن علي عم السفاح يدعو بالشام والجزيرة إلى نفسه، زاعما أن السفاح جعله ولي عهده من بعده، فجهز المنصور لحربه أبا مسلم الخراساني فاشتد القتال بينهما في نصيبين، ثم انهزم عبد الله والتحق بأخيه في البصرة، واستولى أبو مسلم على جميع ما كان أخذه عبد الله من نعمة بني أمية في الشام.
ولقد كان المنصور كالسفاح ممن لا تأخذهم هوادة في سبيل الملك، وربما كان في شدته على العلويين أكثر من شدته على الأمويين؛ فقد كان في العلويين بقية من قوة يخشى شرها، أما رجال بني أمية فقد قتلوا، ولم يبق منهم إلا عبد الرحمن بن معاوية الذي أفلت من مجازر العباسيين، وذهب إلى الأندلس وأقام فيها ملكا، جمع حوله فيه كل شريد وطريد من آله وأنصارهم، فأرسل المنصور عليه جيشا بقيادة العلاء بن مغيث اليحصبي، فنزل باجة داعيا إلى المنصور واجتمع إليه خلق فسار إليه عبد الرحمن ولقيه بنواحي إشبيلية، فقتل القائد العباسي وجيشه كله، وكان سبعة آلاف، وقع هذا بعد سنة 139ه فقال المنصور في عبد الرحمن الداخل: ما هذا إلا شيطان، فالحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر، أو كلاما هذا معناه، ولقبه بصقر قريش.
ولما قتل المنصور أبا مسلم الخراساني خرج
152
رجل اسمه سنباذ بخراسان يطلب بثأره، ولما التقى هو وعسكر المنصور، كان سنباذ قد أخذ معه عدة من النساء المسلمات اللواتي قد سباهن، وهن على جمال، فأمر سنباذ بإخراج النساء المسبيات قدام عسكره، فخرج النساء حواسر على الجمال، وصحن صيحة واحدة: وا محمداه، فنفرت الجمال، وكرت راجعة على عسكر سنباذ ففرقتهم، فتبعها عسكر المنصور ودخلوا خلف الجمال، فوضعوا فيهم السيوف وأبادوهم قتلا، وكان عدد القتلى ستين ألفا.
وظهر محمد بن عبد الله العلوي (145ه) في المدينة ودعا إلى نفسه فبايعه أهلها بالخلافة، وقال: إنه خرج
153
غضبا لله، واستولى على مكة واليمن فندب المنصور لقتاله ولي العهد عيسى بن موسى، وقال: لا أبالي أيهما قتل الآخر، يعني إن قتل هذا الخارج فبها ونعمت، وإن قتل عيسى استراح منه ليولي مكانه ابنه المهدي، فحارب محمد حتى قتل، ثم خرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بالبصرة فغلب عليها وعلى الأهواز وعلى فارس وأكثر السواد، وشخص عن البصرة في المعتزلة وغيرهم من الزيدية، فبعث إليه أبو جعفر عيسى بن موسى فحارب إبراهيم حتى قتل وقتلت المعتزلة بين يديه.
154
ويقول أرباب التواريخ: إن المنصور لما بلغه خروج إبراهيم بن عبد الله خاف واشتد قلقه، وتحول فنزل بالكوفة ليأمن غائلة الشيعة، وألزم الناس حينئذ بلبس السواد حتى العوام، وجعل يقتل كل من يتهمه أو يسجنه، والشيعة يغلون ويتبايعون سرا لإبراهيم حتى اتسع الخرق، وبقي المنصور لا يقر ولا ينام وحار في نفسه، وحوله بالكوفة مائة ألف سيف كامنة مضمرة للشر. قال الذهبي: لولا السعادة لزال ملكه بدون ذلك، وقيل: إن عسكر إبراهيم بن عبد الله بلغوا مائة ألف، فلو هجم على الكوفة لاستولى على الأمر وظفر بالمنصور: وخشي إن هجمها أن يستباح الصغار والكبار، وكان جنده يختلفون عليه وكل واحد يشير برأي، إلى أن كانت الوقعة بباخمرا على يومين من الكوفة، وقتل إبراهيم وأفلت ابن أخيه إدريس بن عبد الله فأتى مصر وحمله صاحب البريد إلى المغرب، فانتهى إلى أرض طنجة ونودي به إماما سنة 172، ثم خرج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بفخ على ستة أميال من مكة، فخرج إليه عيسى بن موسى فقتل الحسين وأكثر من معه.
وخرجت الجيوش الخراسانية عن الطاعة (150ه) فاشتد الأمر على المنصور، وجهز جيشا عظيما، وكذلك كان من الأمير الذي عصا عليه فجرت بين الفريقين وقعة يقال إنه قتل فيها سبعون ألفا، وضرب الجيش العباسي أعناق الأسرى، وكانوا أربعة عشر ألفا، وغلب الخوارج الأباضية على إفريقية (153ه)، وبايعوا أبا قرة أحد رؤسائهم بالخلافة، وجهز المنصور خمسين ألف فارس وأنفق عليهم ثلاثة وستين ألف ألف درهم، وكانت إحدى شيع الخوارج النكرية هي التي قامت بهذه الثورات على الخلافة، ثم استعاد المنصور إفريقية من الخوارج وقتل عامله كبارهم.
وغزا الروم في أيام المنصور ملطية وقالقيلا وهدموا سور ملطية، وعفوا عن المقاتلة والذرية، فأرسل المنصور (سنة 140ه) فعمرها في ستة أشهر، ثم سار ملك الروم إليها في سبعين ألفا، فلما بلغه كثرة المسلمين رجع عنهم. وفي أيام المنصور أيضا احتل الروم طرابلس الشام، وظهر في لبنان رجل من أهل المنيطرة
155 (سنة 142-143ه) وسمى نفسه ملكا، ولبس التاج وأظهر الصليب، واجتمع عليه أنباط جبل لبنان وغيرهم، واستفحل أمرهم، فظهر الجيش العباسي عليهم، وكانت علائق المنصور مع ملك فرنسا (ببين القصير) حسنة، أسرع
156
هذا إلى عقد صلات مع خليفة بغداد، وأرسل في سنة 765م رسلا لبثوا ثلاث سنين حتى رجعوا إلى فرنسا، ومعهم رسل الخليفة، ثم عادوا إلى بغداد ومعهم الهدايا إلى الخليفة. ويقال: إن المنصور
157
حرض ببين على قتال عبد الرحمن الأموي في الأندلس، وكان خلفاء الشرق يحاسنون ملوك الفرنسيس ويتبادلون وإياهم الهدايا والألطاف، وببين هذا لا يزال يغري بعضهم بالإيقاع ببعض، وملوك قرطبة يراسلون قياصرة القسطنطينية الذين كانوا في حرب مع مسلمي الشام وفارس ومصر، وظهر المنصور على من بيضوا في الشام؛ أي لبسوا شعار الأمويين، وكان عرب الشام
158
ندموا على ما أتوا من خذلان بني أمية، حتى تسلط العجم من أبناء خراسان عليهم، فهاجت لذلك واضطربت، وامتنعوا من البيعة لبني العباس، وقاوموهم بجموعهم، وحاربوهم بمن بقي من أحباب الأمويين، ومنهم من ادعى الخلافة، ومنهم من ادعى أنه السفياني نسبة لأحد أبناء أبي سفيان المبشرين بإعادة ملك بني أمية، فالتف الناس حولهم، وكان المقصود من دعوى السفياني تقوية الآمال برجوع دولة بني أمية، ومسألة السفياني عند الأمويين كدعوى المهدي عند العلويين، اختلقوا لها أحاديث وجلبت ويلات على الضعفاء، وقتل المشايعون لها تقتيلا بأيدي الأقوياء، عن مسلمة بن عبد العزيز قال: سمعت العزرمي يقول: سمعت محمد بن علي يقول: النبي ما زال منا والمهدي من بني عبد شمس، ولا نعلمه إلا عمر بن عبد العزيز، وكان الناس يرون موسى بن طلحة بن عبيد الله في زمانه هو المهدي.
كان اليمانيون يذهبون إلى أنه سيظهر فيهم القحطاني المنتظر، والمضريون يعتقدون بالتميمي حتى إن عبد الرحمن بن الأشعث ادعى أنه القحطاني،
159
وكان الحارث بن سريح الذي قام على الأمويين يدعي أنه المهدي وأن الله أرسله لإنقاذ الأمة من الظلم وإقامة حكومة يرضى عنها السواد الأعظم، وبالطبع تكون من آل البيت.
والمنصور
160
أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه في أعماله، وقدمهم على العرب، فاقتدى به من بعده من الخلفاء، حتى سقطت قيادات العرب وزالت رياستها وذهبت مراتبها، واستعمل كثيرين من أهل بيته في القيادات الكبرى، واختار من استخلصه من غيرهم للأعمال الصغيرة، واستوزر أبا أيوب المورياني الخوزي وهو فارسي، كما استعمل ابن عطية الباهلي وهو من صميم العرب، فهو الخليفة الذي بدأ بخلط العناصر الإسلامية، وما تشدد في أصول من يستعملهم في شئون الدولة.
وخلع المنصور من ولاية عهده عيسى بن موسى (سنة 147ه) وعهد لابنه المهدي، وجعل لعيسى بن موسى ولاية العهد بعد المهدي، ووجه المهدي في خلافته رسلا إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى الطاعة، فدخل أكثرهم في طاعته، فكان منهم ملوك كابل وطبرستان والسغد وطخارستان وباميان وفرغانة وأشروسنة والخرلخية وسجستان والترك والتبت والسند والصين والهند والتغرغز، وغزت جيوشه الروم والهند، وخرج عليه في خراسان يوسف بن إبراهيم فقضى عليه.
وحمل المهدي عيسى بن موسى على خلع نفسه من ولاية العهد، وبايع لابن المهدي موسى بن محمد الذي لقب بالهادي، وكان المهدي في آخر أيامه يود لو تنحى ابنه الهادي من ولاية العهد، ويقدم عليه ابنه الآخر هرون، لما رأى من كفاءة هذا. وفي أيام المهدي خرج نائبه دحية بن مصعب بن الإصبغ بن عبد العزيز بن مروان بصعيد مصر، ومنع الأموال ودعا إلى نفسه بالخلافة، وملك عامة الصعيد، وقاتل العباسيين مدة فأعجزهم.
كانت الخيزران أم الهادي تتدخل في أمور السلطان لقضاء حوائج الناس، فمنعها ابنها من ذلك، وكانت تفتات عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله، في الاستبداد بالأمر والنهي فأرسل إليها، ألا تخرج من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل، فإنه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليها بصلاتها وتسبيحها وقبلتها، ولها بعد هذا طاعة مثلها فيما يجب لها، وحرضها ألا تفتح فاها في حاجة لملي ولا ذمي، وحلف أن يضرب عنق كل من يقف على بابها من قواده وخاصته وخدمه. •••
بويع للرشيد عند موت أخيه الهادي، وكان أبوهما عقد لهما بولاية العهد معا، وكانت حدثت الهادي
161
نفسه بخلع الرشيد، وجمع الناس على تقليد ابنه العهد بعهده فأجابوه، وأحضر هرثمة بن أعين فقالوا له: تبايع يا هرثمة؟ فقال: يا أمير المؤمنين يميني مشغولة ببيعتك، ويساري مشغولة ببيعة أخيك، فبأي يد أبايع، والله يا أمير المؤمنين ما أكدت في الرقاب من بيعة ابنك أكثر مما أكده أبوك لأخيك في بيعته، ومن حنث في الأولى حنث في الأخرى، ولولا تأول هذه الجماعة بأنها مكرهة، وإسرارها فيك خلاف ما أظهرت، لأمسكت عن هذا، فقال لجماعة من حضر: شاهت وجوهكم، والله لقد صدقني مولاي وكذبتموني، ونصحني فغششتموني، وسلم إلى الرشيد ما قدره الهادي فيه.
ومن الغريب أن سلم على الرشيد بالخلافة، وهو في الثانية والعشرين من عمره، كل من عمه سليمان بن المنصور، وعم أبيه المهدي وهو العباس بن محمد، وعم جده المنصور وهو عبد الصمد بن علي، وبويع له بإجماع الأمة ما عدا جزيرة الأندلس،
162
وكانت سياسة الرشيد رشيدة في شئونه الداخلية والخارجية، غزا الروم حتى وصل إلى اسكدار من ضواحي القسطنطينية أيام ولايته العهد، وتغلغل مرة ثانية في بلادهم وغزاهم في خلافته بضع غزوات، وأخذ منهم هرقلية، وبعث ملكهم إليه بالجزية عن رعيته وعن رأسه ورأس ولده وبطارقته، واشترط عليه الرشيد ألا يعمر هرقلية، وأن يكون الحمل في السنة ثلاث مائة ألف دينار، وكان نقفور صاحب الروم نقض العهد الذي كان أعطاه، قال معاوية بن عمرو:
163
وقد رأينا من اجتهاد أمير المؤمنين هرون في الغزو، ونفاذ بصيرته في الجهاد، أمرا عظيما، وأقام من الصناعة (الأسطول) ما لم يقم قبله، وقسم الأموال في الثغور والسواحل، وأشجى الروم وقمعهم، وسمي الرشيد جبار
164
بني العباس؛ لأنه أغزى ابنه القاسم الروم فقتل منهم خمسين ألفا، وأخذ خمسة آلاف دابة بسروج الفضة ولجمها، وأغزى علي بن عيسى بن ماهان بلاد الترك فقتل منهم أربعين ألفا، وسبى عشرة آلاف، وأسر ملكين منهم، ثم غزا الرشيد نفسه الروم وافتتح هرقلية وأخذ الجزية من ملك الروم.
يقول أرباب التواريخ
165
من الإفرنج: إن الرشيد كان بينه وبين شارلمان ملك فرنسا وجرمانيا وإيطاليا في عصره صلات سياسية، وإنهما تبادلا السفراء، وإن الرشيد أرسل هدايا إلى شارلمان، وبعث إليه بمفاتيح القبر المقدس، وإن نصارى الشام نفس من خناقهم عقبى هذه العلائق بين ملكي الإسلام والنصرانية. ولا أثر لهذه الرواية في تواريخ العرب. ويقول
166
رينو: إن هرون الرشيد بعث وفدا إلى شارلمان، وكان شارلمان قبل ذلك قد أرسل رسولا يهوديا اسمه إسحق، مصحوبا باثنين من الفرنسيس للسلام على الخليفة، فعاد الوفد من الشرق إلى الغرب يحمل إلى شارلمان هذا شيئا من المنسوجات وفيلا وطيوبا ومعطرات، ومن جملة الهدية شمعدان من نحاس أصفر عظيم الحجم، وساعة من نحاس أصفر أيضا تتحرك بالماء وتدق اثنتي عشرة مرة بعدد ساعات النهار، وأبلغ الوفد شارلمان ما قال له الرشيد من أنه يضع مودته فوق مودة جميع الملوك.
وفي أيام الرشيد خرج الوليد بن طريف الحروري من رءوس الخوارج (سنة 179ه) فقتل بعد أن استفحل شأنه، وخرج في الديلم يحيى بن عبد الله العلوي وبايعه الشيعة وكثرت جموعه، فبعث إليه الرشيد جيشا فقتله وأنصاره، وخرج بتاهرت السفلى محمد بن جعفر فغلب عليها وصارت في أيدي مناصريه، وخرج الخزر (سنة 183ه) من باب الأبواب فقتلوا وسبوا، وقيل: إنهم سبوا مائة ألف، فطردتهم عساكر الخليفة، ثم سدوا الباب الذي خرجوا منه، وأمر الرشيد بإخراج الطالبيين من دار السلام إلى المدينة.
ومن رأي سترستين
167
أن انحطاط دولة بني العباس بدأ بالرشيد، ونحن نرى أن عهد الرشيد وابنه المأمون أرقى عصور بني العباس قوة وعظمة وثقافة، وهو العصر الذهبي، بما لا يقبل الجدال ودور الانحطاط، إنما بدأ بعد عصر المعتصم باستيلاء الأعاجم على مقاليد الدولة، فخرجت عن عظمتها، وعلق الضعف يدب فيها، والفساد يعبث بكيانها، ولعل سترستين يعد من انحطاط هذه الدولة أن يعهد الرشيد لابن الأغلب عامله على إفريقية (تونس) بأن يؤدي عنها كل سنة أربعين ألف دينار، وينزل عن المعونة التي كان سلفه يأخذها من مال مصر، وقدرها مائة ألف دينار، وجعل الإمارة لعقبه من بني الأغلب يتوارثونها، والواقع أنه قلما عهد من الخلفاء توسيد العمالات للبنين بعد الآباء، وأن إفريقية بهذا الصنيع أصبحت مستقلة في داخليتها، مرتبطة بالخلافة العباسية في أمورها المهمة فقط، فصغرت رقعة الدولة العباسية بالإمارة الأغلبية في إفريقية، ومن ورائها الدولة الرسمية في تاهرت، ودولة إدريس في طنجة، ودولة بني أمية في الأندلس، فانسلخت ممالك من جسم دولة بني العباس في الظاهر، واكتفوا بتوسعهم في أملاكهم في الشرق، وحصروا وكدهم في البلاد الباقية، وفيها ما يستغرق جميع قوى الدولة.
وربما كان مما دعا الرشيد إلى إعطاء هذا الاستقلال كون جمهرة جيوش العباسيين من خراسان وما وراء النهر وغيرها من أرض الترك، والأعاجم كغيرهم تهوي أفئدتهم أبدا إلى بلادهم، وهم أعرف بمداخل بلادهم ومخارجها، وطباعهم أقرب إلى التلاؤم مع هواء المشرق، ولئن كانت جيوش الرشيد مستعدة على الدوام للوثبة على الأعداء، لكن أي الحملات يضمن لها النجاح كل حين، إذا قضى عليها أن تسير عند الاقتضاء من ضفاف الفرات ودجلة إلى المغرب الأقصى، أو من مصر إلى الغرب الأقصى، مع هذه المساوف الطويلة في البر، وهي لا تقل عن بضعة أشهر بسير الجيش.
إذا نظرنا إلى توسيد إمارة إفريقية إلى ابن الأغلب من وجهها الحسن، نقول: إن الرشيد أراد أن يجعل من إفريقية سدا بينه وبين أعدائه من الأمويين، ويترك لبني الأغلب أن يعالجوا شئون الغرب الأقصى والأدنى، وما يقوم فيه النزاع إلى الثورة والخارجون على السلطان، ليتفرغ لشئون مملكته التي أربت بسعتها على مملكة الرومان في أوج عظمتها. أما إذا نظرنا إلى ما جرى من وجهه القبيح، فنقول: إن العباسيين بدءوا على عهد الرشيد ينزلون عن أجزاء مهمة من ممالكهم؛ لعجزهم عن سياستها وإملاء إرادتهم عليها، والانتفاع بها من كل ناحية، بيد أن الرشيد لم يعهد لابن الأغلب بولاية إفريقية إلا لما استشار أولياءه،
168
وفي مقدمتهم أعظم قواده هرثمة بن أعين، وكان ولي إفريقية وخبر أحوالها، وتولى الآغالبة قتال الأباضية وبني إدريس بن عبد الله الظاهر ملكهم يومئذ بالمغرب، وفتحوا صقلية ومالطة وجزائر البحر، ووسعوا بما فتحوا ملك الإسلام تحت علم الخلافة العباسية، وعمرت إفريقية وغيرها من الأقطار والجزائر التي فتحوها عمرانا لا نظير له من كل وجه.
وعهد الرشيد في سنة 175ه إلى ولده محمد الأمين، ومحمد بن خمس سنين، قال اليعقوبي أخرجه إلى القواد فوقف على وسادة، فحمد الله وصلى على نبيه، فقام عبد الصمد بن علي فقال: أيها الناس، لا يغرنكم صغر السن، فإنها الشجرة المباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولقد اضطر الرشيد إلى هذه البيعة لتطاول أعناق كثير من بني العباس للخلافة، ولكن ما عزي من الكلام إلى عبد الصمد بن علي فيه نظر؛ لأنه أشبه بالهزل
169
منه بالجد، على أن الرشيد أخذ البيعة للمأمون بعد الأمين في سنة 183، وأودع العهد الذي كتبه بينهما في الكعبة، وقال فيه: إن الغادر منهما خارج عن الأمر، أيهما غدر بصاحبه فالخلافة للمغدور به،
170
وكان الأمين البادئ بهذا الغدر بنزعه ولاية العهد من أخيه المأمون وتفويضها إلى ابنه الطفل، وكان الرشيد جعل للمأمون خراسان وسجستان وجرجان وطبرستان والري وما إليها خمس سنين على أن يكون له جميع ما في جيشه وفي البلاد من العتاد والعدة، فكانت هذه المهمات من العوامل النافعة في تغلبه على أخيه، ولم تصف له الخلافة حتى أهرقت دماء كثيرة. ولما جرى بين الأمين والمأمون ما جرى، وقتل الأمين، وأعطى أهل خراسان الطاعة للمأمون، وبايعوه بالخلافة خطبهم فقال: أيها الناس، إني جعلت لله على نفسي إن استرعاني أموركم أن أطيعه فيكم، ولا أسفك دما عمدا لا تحله حدوده وتسفكه فرائضه، ولا آخذ لأحد مالا ولا أثاثا ولا نحلة تحرم علي، ولا أحكم بهواي في غضبي ولا رضاي، جعلت ذلك كله لله عهدا مؤكدا، وميثاقا مشددا، فإن غيرت أو بدلت كنت للعبر مستأهلا، وللنكال متعرضا، وكان منه أن وفى بشروطه.
وحاول المأمون أن يريح الأمة من متاعب الخلافة، بعد أن رأى عبث أخيه الأمين وعبث المهدي والهادي، فارتأى أن يوسد ولاية العهد لأحد أبناء علي، فرأى وهو في خراسان قبل أن يعود إلى دار ملكه، أن يعهد إلى علي بن موسى الرضا، رجل زمانه من آل البيت علما وصلاحا، وزوجه ابنته أم حبيب، وزوج محمد بن علي بن موسى ابنته أم الفضل،
171
وضرب اسم ولي عهده على الدينار والدرهم، وأزال السواد شعار بني العباس من اللباس والأعلام، فأكبر آل العباس هذا، ورأوا فيه مسا بحقوق بيتهم، وكانوا ثلاثة وثلاثين ألفا، فبايعوا بالخلافة في بغداد لعم المأمون إبراهيم بن المهدي، ولما رأى هذا قوة ابن أخيه اختفى مدة، فعفا المأمون عنه، وكان المأمون شاور فيه أصحابه فكل أشار بقتله فقال لهم: «إن قتلته كنت متبعا للملوك قبلي فيما فعلته بمن ناوأها ونازعها، وإن عفوت كنت أمة وحدي.» وكذلك كان أمة وحده. قالوا: وكان المأمون يقصد من جعل حصة للعلويين في الخلافة، والاستعاضة عن سواد بني العباس بخضرة آل علي، أن يحمل هؤلاء على الظهور؛ لأن القوم كادوا يعدونهم من غير الطينة البشرية، وارتأى أنهم متى ظهروا من استتارهم للناس رأوهم مثل غيرهم، وفيهم الفاجر والطاهر، فتنتهي المطالبة أو تخف وتحقن الدماء، وأخرى أن المأمون كان يرى في الخلافة رأي المعتزلة، وهو أن توسد إلى الأصلح لها في المسلمين ولو كان من غير قريش، وبذلك ترجع الأمة مجموعة الشمل، لا فرقة في صفوفها، ولا خلل في بنيانها، وتكون الخلافة للصالح لها، يعيدها سيرتها الأولى على عهد أبي بكر وعمر، بعهد من الخليفة للأصلح، أو شورى يختاره لها جماعة من الأخيار، وأما قول من قال: إن المأمون عهد لعلي بن موسى الرضا؛ لأنه كان يتشيع ، فإن تشيع المأمون هذا كان مقبولا معتدلا، وهو أقرب إلى الاعتزال، والمأمون يريد أن ينصب خليفة للمسلمين كافة، لا للسنة ولا للشيعة ولا للمعتزلة ولا للخوارج.
كانت الخلافة أوائل العهد الأموي قد انقلبت ملكا عضوضا، يقوم على الغلب والعصبية، ويورث ويتنازل عنه، فإن جاء في الخلفاء من انطوى على حزم وكياسة، استقرت أمور الدولة، وسارت شئونها على الصراط السوي، وإلا أصبحت في بحر مائج من الفضائح والفظائع، وندر في البيوت تسلسل الفضائل والذكاء في بطون كثيرة مددا متطاولة، مهما عني الأسلاف بتأديب الأخلاف، ولا بد من حدوث عوارض كالمرض أو الشيخوخة، تطرأ على البيوت كما تطرأ على الأوطان والإنسان، وهذا في الجملة ما دعا إلى تقلقل الدول الإسلامية بتقلقل القائمين بالأمر فيها؛ لأن الأيدي التي تعاورتها كانت تتفاوت قوة وضعفا.
أراد المأمون أن يغير نهج العباسيين في الخلافة، وقد رأى آله أخذوا بنظرية الحق الإلهي
172
في الحكم وصبغوها بصبغة إسلامية، فجعلوا الخلافة ميراثا عن النبي يتوارثونها، وساروا على قواعد الفرس في نظام البلاط، وفي هذا النظام من فتح المجال للدسائس ما فيه؛ فقد ذهب المهدي والهادي ضحية مكايد دبرت لهما في البلاط، وما أغنى عنهما الاستبداد، وكان من يحكم في ظل هذا النظام، إذا كان قويا يستبد ويطغى، وإن كان ضعيفا فهناك الفتن والاضطرابات والدسائس؛ فقد كان المنصور والمهدي والرشيد والمتوكل جبابرة مستبدين في أحكامهم؛ لأنهم على قوة في ذاتهم، أما الضعاف من خلفائهم فكانوا ألاعيب في أيدي أهل البلاط ونساء القصر، يصرفونهم على الهوى، ويرأمون للمذلة، فيكون اسم الخلافة لهم، والفعل للنافذين من أهل سلطانهم. ا.ه.
وآية كل ذلك أن الخليفة إذا استجمع ما تقتضيه الخلافة من علم وعدل وكفاية، أراح الأمة والدولة في حياته وبعد مماته، وإذا كان على عكس ذلك، ومثله من كثر ظهورهم في القرن الثالث من الخلفاء، فهناك البلاء والشقاء.
وفي أيام المأمون خرج في مكة محمد بن جعفر الصادق وكان يلقب بديباجة لحسن وجهه، وبويع له بالخلافة وسموه أمير المؤمنين، فأرسل المأمون إليه جيشا فكانت الغلبة له، وظفر به المأمون وعفا عنه، ثم أخرجه معه من بغداد فمات بجرجان. وفي سنة مائتين ظهر في اليمن إبراهيم بن موسى الكاظم ولم يتم أمره، وكان يعرف بالجزار لسفكه الدم،
173
وكان داعية لمحمد بن إسماعيل صاحب أبي السرايا فوجه إليه المأمون جيشا فهزمه وصار إلى العراق فأمنه المأمون، وخرج بالكوفة في أيام المأمون محمد بن إبراهيم من آل البيت ودعا إليه أبو السرايا، والمأمون بخراسان، وأنفذ زيد بن موسى داعية له، ثم مات بعد أربعة أشهر من خروجه، فخرج بعده مع أبي السرايا محمد بن محمد بن زيد العلوي، فأخذ بطريق خراسان فقتله أبو السرايا، وأظهر بعد ذلك موت محمد، ويقال: إنه حمل إلى المأمون وهو بمرو فمات هناك،
174
وفي أيامه خرج زيد بن موسى بالبصرة على المأمون وفتك بأهل البصرة فأرسل إليه المأمون أخاه علي بن موسى الرضا فجاءه، وقال له: ويلك يا زيد؛ فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت، وتزعم أنك ابن فاطمة بنت رسول الله، والله لأشد الناس عليك رسول الله، يا زيد ينبغي لمن أخذ برسول الله أن يعطي به. فبلغ كلامه المأمون فبكى وقال: هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله. وفي سنة سبع ومائتين خرج عبد الله
175
بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك من اليمن، يدعو إلى الرضى من آل محمد، فوجه إليه المأمون دينار بن عبد الله في عسكر كثيف، وكتب معه بأمانه فقبل ذلك، ووضع يده في يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فمنع المأمون عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه، وأمر بأخذهم بلبس السواد، وعلى ما رأى المأمون من تهجم الطالبيين على خلافته، أوصى أخاه المعتصم أن يحسن صحبة بني عمه من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ويتجاوز عن مسيئهم، ويقبل من محسنهم، وألا يغفل صلاتهم في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى.
176
وكان المأمون يكتب إلى عماله على خراسان في غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل ما وراء النهر، ويوجه رسله فيفرضون لمن يرغب في الديوان، وأراد الفريضة لأهل تلك النواحي وأبناء ملوكهم، ويستميلهم بالرغبة، فإذا وردوا بابه شرفهم وأسنى صلاتهم وأرزاقهم. ثم استخلف المعتصم، فكان على مثل ذلك حتى صار جل شهود عسكره من أهل ما وراء النهر، من السغد والفراغنة والأشروسنة وأهل الشاش وغيرهم، وحضر ملوكهم بابه، وغلب الإسلام على من هناك، وصار أهل تلك البلاد يغزون من وراءهم من الترك. والترك
177
أجناس مختلفة، ولكل جنس مملكة منفردة يحارب بعضهم بعضا.
ولم يغفل المأمون عن قتال الروم، غزاهم غير مرة وفتح مدنا من بلادهم، وفي أيام أبيه جرى الفداء بين الروم والمسلمين، حتى لم يبق في أرض الروم من أهل الإسلام أحد، وكأن الروم كانوا عارفين بأن مملكتهم لا تنجو من أيدي المسلمين إلا إذا غزوهم، كلما استطاعوا إلى غزوهم سبيلا، وكذلك المسلمون كانوا موقنين بأن غزو الروم فريضة عليهم، وإلا جاء الروم، إذا آنسوا ضعفا، يستولون على ما قدروا عليه من البلاد، فتعادل بهذا التوازن بين الأمتين، ورجحت كفة المسلمين، ولا سيما في عهد الرشيد والمأمون والمعتصم.
وأرسل المأمون وفدا من قبله إلى ملك فرنسا مؤلفا من رجلين مسلمين وآخر نصراني، حملوا إلى إمبراطورها من قبل الخليفة العباسي فيها منسوجات فاخرة، وأفاويه عطرة، وكانت العلائق بين العباسيين وملوك فرنسا حسنة. •••
دب الضعف في الخلافة العباسية بعد المعتصم بفتحه للأتراك باب السيطرة على الأمة، واعتماده عليهم في تدبير ملكه وإدارة ولاياته، فكان ناقض الحجر الأول من أساس دولته،
178
ولم يتجل الانحلال في أيامه كثيرا، وبعد زمنه أخذ الأتراك يسيطرون على الخلفاء، بل يقتلونهم ويسملون عيونهم، ويستبدلون بهم غيرهم، ويبعدون عن الخلافة من يصلح لها، فقد بدءوا بقتل المتوكل بن المعتصم، وأنشأوا يقتلون من شاءوا ويبقون على من شاءوا، استضعفوا الخلفاء فكان الخليفة
179
في أيديهم كالأسير. وفي أيام المعتصم خرج محمد بن القاسم من ولد الحسين بن علي بالطالقان من بلاد خراسان فحاربه عبد الله بن طاهر وهو على خراسان فانهزم محمد، ثم قدر عليه فحمل إلى المعتصم فحبسه معه في قصره، فاختلف الناس في أمره فمن قائل يقول هرب، ومن قائل يقول مات، ومن الزيدية من يزعم أنه حي وأنه
180
سيخرج. وفي أيامه خرج علي بن محمد من آل البيت فقتله بنو مرة بن عامر، وظهر بابك الخرمي المجوسي سنة إحدى ومائتين وتبعه خلق كثير، واستفحل أمرهم فاستولوا على جبال طبرستان، ومكث بابك عشرين سنة فقتل في حروبه عشرات الألوف من الخلائق، وانهزم أمامه الجيش العباسي، حتى بعث المعتصم أفشينا فحاربه (223ه)، وسمي أصحاب بابك المحمرة؛ لأنهم صبغوا ثيابهم بالحمرة في أيامه.
181
وكان العراك شديدا في أيام المتوكل بينه وبين القواد الأتراك، حتى عزم أن ينقل عاصمة الخلافة إلى دمشق، ونقل إليها الدواوين بالفعل، وجاءها بنفسه ثم عدل عن رأيه، وكان شديدا على العلويين، عفى قبر الحسين بن علي، وبقدر ما كان من شدة المتوكل في هذا المعنى، كان الواثق يكرم العلويين ويحسن إليهم، «وما أحسن أحد إلى آل أبي طالب من خلفاء بني العباس ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير.» ورد أيضا على بعض بني أمية أموالهم، وكان القادر أيضا بارا بالطالبيين وبأهله، وفي أيام المتوكل غزا الروم دمياط وقتلوا وسبوا من المسلمين والأقباط، فأمر المتوكل بهدم جميع البيع المحدثة في الإسلام
182
في مملكته، وألا يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من عمل السلطان، ومنع
183
النصارى من العمارة، وأفردهم بلباس خاص، وكتب بذلك إلى الآفاق.
عقد الواثق لبنيه الثلاثة وقسم الدنيا بينهم، وكتب بذلك كتابا على نحو ما أجرى جده الرشيد مع أولاده، فأعطى ابنه الأكبر المنتصر من عريش مصر إلى إفريقية المغرب كله إلى حيث بلغ سلطانه، وأضاف إليه جند قنسرين والعواصم والثغور الشامية والجزرية وديار بكر وربيعة والموصل والفرات وهيت وعانة والخابور ودجلة والحرمين واليمن واليمامة وحضرموت والبحرين والسند وكرمان وكور الأهواز وماسبذان ومهرجان وشهرزور وقم وقاشان وقزوين والجبال. وأعطى ابنه المعتز خراسان وطبرستان وما وراء النهر والشرق كله، وأعطى ابنه المؤيد إرمينية وأذربيجان وجند دمشق والأردن وفلسطين، وهذا التقسيم في المملكة لم يقع لأحد، ولم يخرج الملك مع هذا عن القواعد التي وضعها القدامى من الخلفاء.
وخلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر المنتصر خلعهما (248ه)، وفي أيام المستعين خرج بطبرستان الحسن بن زيد من آل علي بن أبي طالب، فغلب عليها وعلى جرجان بعد حروب كثيرة، ثم خلف من بعده محمد بن زيد أخوه، ثم قتل بعد حرب كانت بينه وبين محمد بن هرون، وخرج بقزوين الكوكبي وهو من ولد الأرقط، واسمه الحسن بن أحمد من ولد الحسين بن علي فغلب عليها، ثم هزمه بعض الأتراك، وخرج بالكوفة أيام المستعين يحيى بن عمر فقتل، وخرج في أيامه أيضا الحسين بن محمد من ولد الحسين بن علي فظفر به وأخذ وحبس إلى أن أطلقه المعتمد، وخرج بسواد الكوفة أيام فتنة المستعين بن الأفطس، وكان داعية لمحمد بن إبراهيم بالمدينة فلما مات هذا دعا إلى نفسه. وفي سنة خمسين ومائتين خرج بسواد المدينة إسماعيل بن يوسف من ولد الحسين بن علي فغلب عليها، وتوفي بعد سنتين وخلفه أخوه بعده محمد بن يوسف ، وما زال على أمره إلى أن خرج أبو الساج إلى مكة والمدينة فقتل خلقا كثيرا من أصحابه، وهرب محمد فمات في هربه
184
وخلع المستعين (251ه) نفسه وبايع للمعتز.
وخاف الوزيران الحسن
185
بن الفرات والعباس بن الحسن أن يتولى الخلافة عبد الله بن المعتز وهو من أكفأ الرجال لمنصبه وبايعا لصبي، فأدخلا سوس الفساد في الدولة، بايعا للمقتدر وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ولم يل أمر الأمة صبي قبله، وضعف دست الخلافة في أيامه، وأصبحت والدة المقتدر تأمر وتنهي، وترسل قهرمانتها تنظر في القصص والمظالم بحضرة القضاة، ورزق المقتدر ولدا صغيرا فولاه على إمرة الديار المصرية وله أربع سنين، فأصبحت الخلافة خلافة نسوان وصبيان، كل هذا بفعل وزيرين خافا زوال نعمتهما، إذا جاء الكفؤ إلى الخلافة يتولاها، فقضيا على نعمة الأمة بتولية الأطفال خلافة المسلمين وإمرة بلادهم، كان ابن الفرات يريد الخليفة ممن لا يعرف أسعار الخبز واللحم حتى يأمن الوزراء على نفوسهم، وما جمعوه من أموال الناس والدولة، يريد خليفة يقضي أوقاته في شهواته وصيوده ونزهاته، مسجونا في السجن المزوق وهو قصر الخلافة، والوزير يملي إرادته على نحو ما قال الشاعر في أحد هؤلاء الخلفاء:
خليفة في قفص
بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له
كما تقول الببغا
حاولوا إبعاد مثل ابن المعتز عن الخلافة؛ لأنه لا يطلق أيدي الأغمار والأغرار في مطالبتهم الناس، ويعرف الدقيق والجليل من أحوالهم. ولا عجب بعد هذا أن تكثر الفتوق في الدولة، ويقتل مثل صاحب الزنج الذي استولى على قسم من العراق خمس عشرة سنة، ألف ألف وخمسمائة ألف رجل، وقيل: إنه قتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف، وكان له منبر يسب عليه عثمان وعليا ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة، وهذا رأي الخوارج الأزارقة. ويروي الطبري أن صاحب الزنج كان علويا واسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم، سمي بصاحب الزنج؛ لأنه جمع إليه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ بالبصرة، ويقول الأشعري: إن في اسمه خلافا وإن أنصاره الزنج، وغلب على البصرة سنة سبع وخمسين، وقتل سنة سبعين ومائتين قتله أبو أحمد الموفق بالله ابن المتوكل على الله، وعلى ذلك تكون دعوى أنه من الخوارج فيها نظر، وخرج بأرض الشام من آل البيت المقتول على الدكة، فظفر به المكتفي بعد حروب ووقائع كانت. وفي رواية أن الذي ظهر في أعمال دمشق سنة ثلاثمائة هو ابن الرضي محسن بن جعفر بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد، فكانت له مع أحمد بن كيغلغ عامل الشام وقعة قتل فيها صبرا، وقام القرامطة فاستولوا أيضا على أقسام من العراق والشام والحجاز وعلى البحرين وهجر أواخر المائة الثالثة، استولوا عليها وقتلوا عشرات الألوف من الناس، وكان لصاحبهم اتصال بالفاطمي صاحب مصر وكان صاحبهم يكتب إلى عماله، «من عبد الله المهدي، المنصور بالله، الناصر لدين الله، القائم بدين الله، الحاكم بحكم الله، الذاب عن حرم الله، المختار من ولد رسول الله، أمير المؤمنين وإمام المسلمين»، ودعوته من الدعوات الباطنية المتسترة بالانتساب إلى آل البيت العلوي. وقالوا: إن القرامطة من الرافضة يزعمون أن النبي نص على علي بن أبي طالب، وأن عليا نص على إمامة ابنه الحسن، وأن هذا نص على إمامة أخيه الحسين، وزعموا أن محمد بن إسماعيل حي لم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض، وأنه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به.
وأصبحت الخلافة في هذا الدور ولا شأن فيها لأذكياء الوزراء في الدولة إلا أن يجمعوا الأموال، وأمست الدولة دولة الأتراك والديالمة والخصيان والنسوان، وما كان للخليفة إلا إرضاء الأمراء وأرباب الصولة، روى صاحب
186
تاريخ بغداد أن جماعة (296ه) من الكتاب والقواد سعى بعضهم إلى بعض عازمين على خلع المقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز، فناظروه في ذلك، فأجابهم على ألا يسفك دم، ولا تكون حرب، فأخبروه أن الأمر لا يسلم عفوا، وأن جميع من وراءهم قد رضوا به فبايعوه بالخلافة، وكان أحد رجال الدولة ممن يختلف إلى دار أبي جعفر الطبري المؤرخ، دخل عليه فسأله: ما الخبر وكيف تركت الناس؟ أو نحو هذا من القول، فقال له: قد بويع عبد الله بن المعتز، قال: فمن رشح للوزارة؟ قال: محمد بن داود بن الجراح، قال: فمن ذكر للقضاء؟ فقال: الحسن بن المثنى، قال: فأطرق الطبري قليلا، ثم قال: هذا الأمر لا يتم ولا ينتظم، قال: فقلت له وكيف، فقال: كل واحد من هؤلاء الذي سميت متقدم في معناه، عالي الرتبة في أبناء جنسه، والزمان مدبر والدنيا مولية، وما أرى هذا إلا إلى اضمحلال وانتقاص، ولا يكون لمدته طول، فكان الأمر كما قال: ولم يل ابن المعتز الخلافة إلا يوما، وقتل من الغد بقوة أشياع الخليفة قبله.
واستولى بنو بويه على بغداد، وروي
187
أن الوزير ابن مقلة قال: إنني أزلت دولة بني العباس وأسلمتها إلى الديلم؛ لأني كاتبت الديلم وقت إنفاذي إلى إصبهان، وأطمعتهم في سرير الملك ببغداد، فإن اجتنيت ثمرة ذلك في حياتي، وإلا فهي تجتنى بعد موتي، فكان كما قال.
وأمر الطائع (سنة 369ه) خلفاءه على الصلاة في جوامع مدينة دار السلام، بأن يقيموا لعضد الدولة بن بويه الدعوة تالية لإقامتها له على منابرها، ونفذت به الكتب إليهم، ورسم أن يضرب على بابه بالدبادب في أوقات الصلوات. قال ابن مسكويه:
188
وهذان الأمران من الأمور التي بلغها عضد الدولة، واختص بها دون من مضى من الملوك على قديم الأيام وحديثها، والخلفاء في هذا الدور يلقون إلى المتغلبين عليهم بمقاليد السلطنة إلا ما لا بال له،
189
ويخلع الخليفة على الملك الخلع السبع والعمامة السوداء ويسود بطوق، وكان أبدا يخطب للملك أو الأمير المتغلب مقرونا إلى اسم الخليفة. •••
والحاصل أن الخلافة انتقلت منذ أواخر القرن الثالث من دور الحكم، إلى طور أصبحت فيه محكومة، كانت لها القوة، فأصبحت لا حول لها ولا قوة. وكثر في هذا القرن خروج الروم إلى بلاد الإسلام، فغدوا يبلغون آمد ونصيبين وأنطاكية وحلب، وكان العباسيون في القرن الذي قبله يفتحون من بلادهم أنقرة وعمورية وهرقلية، وكأن بعض خلفائهم شعروا في هذه الحقبة بأن الخلافة مهددة بالزوال إذا لم يتولها الأطايب من أبناء هذا البيت، فخلع المعتمد ابنه جعفر المفوض من ولاية العهد وجعل المعتضد ابن أخيه ولي العهد من بعده، وهذا عمل مجيد يغبط عليه فاعله مهما كانت الدواعي إليه، فالمعتضد ثبت قواعد الخلافة العباسية بعقله وكفايته، وكان «المعتمد مستضعفا»،
190
وكان أخوه الموفق طلحة الناصر هو الغالب على أموره، وكانت دولة المعتمد دولة عجيبة الوضع، كان هو وأخوه الموفق كالشريكين في الخلافة، للمعتمد الخطبة والسكة والتسمي بإمرة المؤمنين، ولأخيه كلمة الأمر والنهي وقود العساكر، ومحاربة الأعداء، ومرابطة الثغور، وترتيب الوزراء والأمراء. وفي أيام المعتمد قطع ابن طولون المتولي على مصر خطبة الموفق، وأسقط اسمه من الطراز، فأمر المعتمد بلعن ابن طولون على المنابر، وقيل: إن ابن طولون ادعى الخلافة لنفسه بمصر وبايعته الجند والموالي وسائر الناس، على أن يعادوا من عاداه ويوالوا من والاه، ويحاربوا من حاربه من الناس جميعا، وقيل: إنه أمر بكتاب فيه خلع الموفق من ولاية العهد لمخالفته المعتمد فقط.
قلنا: إن المعتضد ثبت أركان الخلافة، وكانت تريد أن تنقض جملة، وهو الذي رد مصر إلى حظيرة الخلافة بعد أن كاد يذهب بها أحمد بن طولون وأولاده، وكتب إلى ابنه خمارويه بولايته عليها هو وولده ثلاثين سنة، وذلك من الفرات إلى برقة، وجعل إليه الصلاة والخراج والقضاء وجميع الأعمال، على أن يحمل في كل عام من المال
191
مائتي ألف دينار مما مضى، وثلاثمائة ألف عن كل عام للمستقبل، ولعل ما ساقه أيضا إلى هذا التسامح بقطعة عظيمة من الملك العباسي، ما تناصرت الأخبار عليه من أن الدولة العبيدية الفاطمية ظهرت أعلامها في المغرب، فأحب أن يضع الطولونيين بينه وبينها، وطلب المعتضد إلى ابن طولون أن يزوجه ابنة ابنه خمارويه، وقال: ما قصدت بهذا الزواج إلا إفقار ابن طولون؛ لأنه يضطر أن يجهزها بجهاز لم تجهز به عروس من قبل، وجرى الأمر - كما قال - فإنها جهزت بما استفرغ خزائن مصر والشام، وكثر هذا الضرب من الزواج السياسي في القرنين التاليين بين أمراء المسلمين، وبما أتاه المعتضد من الأعمال لفظ كيان الدولة صح ما قيل
192
بعض الصحة من أن بني العباس قوم منصورون، تعتل دولتهم مرة وتصح مرارا؛ لأن أصلها ثابت وبنيانها راسخ.
وانحل
193
في الربع الأول من القرن الخامس أمر الخلافة والسلطنة في بغداد، حتى خرج بعض الجند ونهب شيئا من ثمرة قراح
194
الخليفة القائم بأمر الله فعظم عليه، واشتد أذى العيارين، واختل الأمن في كل جهة، فتقدم الخليفة إلى القضاة بترك القضاء والامتناع عنه، وإلى الشهود بترك الشهادة، وإلى الفقهاء بترك الفتوى. وفي أيام القائم انتهى البساسيري الثائر إلى المستنصر الفاطمي صاحب مصر، فأمده بالأموال حتى أخذ بغداد، وقطع منها دعوة بني العباس وخطب للمستنصر بها نحو سنة والقائم محبوس، ثم قدم طغرلبك السلجوقي، وأعاد القائم إلى الخلافة، وقتل البساسيري.
وفي أيام الراضي زادت وطأة الأتراك على الخلافة، وقال الخليفة يوما: وكأني بالناس يقولون كيف رضي هذا الخليفة بأن يدبر أمره عبد تركي (بجكم) حتى يتحكم في المال وينفرد بالتدبير، ولا يدرون أن هذا الأمر أفسد مثلي، وأدخلني فيه قوم بغير شهوتي، فسلمت إلى ساجية وحجرية يتسحبون علي ويجلسون في اليوم مرات، ويقصدونني ليلا، ويريد كل واحد منهم أن أخصه دون صاحبه، وأن يكون له بيت مال، وكنت أتوقى الدماء في ترك الحبل عليهم إلى أن كفاني الله أمرهم. ثم دبر الأمر ابن رائق فدبره أشد تسحبا في باب المال منهم، وانفرد بشربه ولهوه، قال: ويتعدى الواحد منهم أو من أصحابهم على بعض الرعية بل على أسبابي، وآمر فيه بأمر فلا يمتثل ولا ينفذ ولا يستعمل، إلى أن قال: فرضيت ضرورة به، وكان أوفق لي وأحب إلي ممن قبله، وكان الأجود أن يكون الأمر كله لي، كما كان لمن مضى قبلي، ولكن لم يجر القضاء بهذا لي. ا.ه. وهذا كلام الرجل الضعيف النفس والعزيمة والسياسة، وفي أيامه (326ه) جاء كتاب الروم من رومانس وقسطنطين من عظماء ملوك الروم يطلبون الصلح، قالوا فيه: لما بلغنا ما رزقته - أيها الأخ الشريف - من وفور العقل وتمام الأدب واجتماع الفضائل أكثر ممن تقدمك من الخلفاء حمدنا الله، ثم طلبوا الهدنة والفداء.
195
وفي سنة 332ه خرج عسكر الروس إلى أذربيجان وقصدوا بردعة وملكوها، وفي أيام الراضي وثب في كل قطر من الأقطار قائم أو أمير تغلب على إقليمه، وانطلق في أحكامه يفعل ما يشاء، كأنه المالك الحقيقي للقطر أو الأقطار التي أصبح له السلطان الأعظم عليها، والخطبة لبني العباس ما عدا الغرب وإفريقية والأندلس، وفارس في يد علي بن بويه، والري وأصفهان في يد أخيه الحسن بن بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد محمد بن طغج، ثم في أيدي الفاطميين، وخراسان والبلاد الشرقية في يد بني سامان.
وكان من العادة في أيام تراجع الخلافة واستيلاء المتغلبين على بعض أقطارها أن يكتفي بعض الخلفاء بلعن من خالف عليهم، يأمرون بلعنه على المنابر حتى يكل اللاعنون ويملوا، والخارج يقوى ويستعلي، وربما قابلهم هو بالمثل، فيكون اللعن شفاء لصدر المقهور، وتقاصر اسم
196
الخلافة في هذه الأزمان، وقنع الخلفاء من خلافتهم بالدعاء على المنابر، وضرب اسمهم على الدنانير والدراهم، فكان المتقي والمستكفي والمطيع
197
كالمولى عليهم لا أمر ينفذ لهم، أما ما نأى عنهم من البلدان فتغلب على أكثرها المتغلبون واستظهروا بكثرة الرجال والأموال، واقتصروا على مكاتبتهم بإمرة المؤمنين والدعاء لهم. وأما بالحضرة فتفرد بالأمور غيرهم فصاروا مقهورين خائفين، قنعوا باسم الخلافة ورضوا بالسلامة، وازداد في أيام المطيع أمر الخلافة إدبارا، حتى لم يبق له من الأمر شيء قل أو جل، ولم يبق في يد الخليفة غير ما أقطعه إياه معز الدولة بن بويه مما يقوم ببعض حاجته.
بعث بختيار (361ه) على مطالبة المطيع بما يوهمه
198
أنه يحتاج إلى إحراجه في طريق الغزو، فأجابه المطيع: إن الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي، وإلي تدبير الأموال والرجال، وأما الآن وليس لي منها إلا القوت القاصر عن كفايتي، وهي في أيديكم وأيدي أصحاب الأطراف، فما يلزمني غزو ولا حج، ولا شيء مما تنظر الأئمة فيه، وإنما لكم مني هذا الاسم الذي يخطب به على منابركم تسكنون به رعاياكم، فإن أحببتم أن أعتزل اعتزلت من هذا المقدار أيضا، وتركتكم والأمر كله.
وكانت هذه الطبقة من الخلفاء منحطة لا تصلح للخلافة ولا لشيء غيرها من مهام الملك. قال ابن بهلول: كنا إذا كلمنا المستكفي وجدنا كلامه كلام العيارين، وكان الغالب على دولته امرأة يقال لها علم الشيرازية، وكانت قهرمانة داره، وهي التي سعت في خلافته عند «توزون» حتى تمت، فعوتب على إطلاق يدها وتحكمها في الدولة، فقال: خفضوا عليكم، فإنما وجدتها في الشدة ووجدتكم في الرخاء، وهذه الدنيا التي بيدي هي التي سعت لي فيها حتى حصلت، أفأبخل عليها ببعضها؟
ولم يغن
199
عن المقتدر ما بذل من المال للجند لما شغبوا حتى ضربوه بالسيف، وذلك بسبب جرأة الأعداء وطمعهم فيما لم تكن أنفسهم تحدثهم به من الغلبة على الحضرة، وانخرقت الهيبة، وضعف أمر الخلافة وتفاقم.
قال الطبري:
200
وحار الناس في أمر دولة المقتدر وطول أيامها على وهي أصلها وضعف ابتنائها، ولم ير الناس ولم يسمعوا بمثل سيرته وأيامه وطول خلافته، وكان جيد العقل صحيح الرأي، ولكنه كان مؤثرا للشهوات، قال التنوخي:
201 «ولقد سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الوزير، يقول: وقد جرى ذكر المقتدر بحضرته في خلوة: ما هو إلا أن يترك هذا الرجل النبيذ خمسة أيام متتابعة حتى يصح ذهنه، فأخاطب منه رجلا ما خاطبت أفضل منه، ولا أبصر بالرأي، وأعرف بالأمور، وأسد في التدبير، ولو قلت: إنه إذا ترك النبيذ هذه المدة يكون في أصالة الرأي، وصحة العقل، كالمعتضد والمأمون، ومن أشبههما من الخلفاء، ما حسبت أن أقع بعيدا، وما يفسده غير متابعة الشرب ولا يخبله سواها.»
وفي أيام القادر
202
عاد إلى الدولة العباسية وقارها، ونما رونقها وأخذت أمورها في القوة، وكان من أفضل خلفائهم، قال ابن الأثير: إن خلافته إحدى وأربعون سنة، وقد جدد ناموس الخلافة، ومن قبل كان طمع فيها الديلم والترك، وأطاعه الناس أحسن إطاعة؛ لأنه كان على صفات حسنة من الخير، وراح المقتدي وجاء المستظهر، ثم المسترشد وهو المتمم للثلاثين من خلفاء بني العباس، والمسترشد والراشد أخوان، كما كان السفاح والمنصور أخوين، والهادي والرشيد أخوين، والواثق والمتوكل أخوين، أما الثلاثة الأخوة الأمين والمأمون والمعتصم إخوة أولاد الرشيد، والمكتفي والمقتدي والقاهر إخوة أولاد المعتضد، والراضي والمتقي والمطيع إخوة أولاد المقتدر. ويقول أرباب السير: إن المكتفي (550ه) كان حسن السيرة وهو أول من استبد بالعراق منفردا عن سلطان يكون معه، وإن حرمته كانت وافرة، بخلاف الخلفاء قبله.
203
وأظهر الظاهر (623ه) من العدل والإحسان ما أحيا به سنة العمرين.
204
ومع هؤلاء النابهين من الخلفاء أصبحت الخلافة العباسية أوائل القرن السابع شبحا من الأشباح، وكان الضعف سرى إليها منذ انتقل الملك والدولة في آخر
205
أيام المتقي وأول أيام المستكفي إلى بني بويه الديلم، ولما عزل المستكفي وبويع للمطيع ودخل معز الدولة إلى بغداد خلقت ديباجة الخلافة، وكادوا يبايعون للعلويين.
قال المقريزي: فلم يبق في يد بني العباس من الخلافة إلا اسمها فقط من غير تصرف في ملك، بحيث صار الخليفة منهم في مدة الدولة البويهية، ثم في الدولة السلجوقية إنما هو كأنه رئيس الإسلام، لا أنه ملك ولا حاكم، تحكم فيه الديلم، ثم السلجوقية كتحكم المالك في مملوكه، وما زالوا تحت الحكم منذ سنة 334ه إلى أن قتلوا عن آخرهم، وسبي حريمهم، وهدمت قصورهم، وهلكت رعاياهم على يد هولاكو، وكانوا هم السبب في ذلك. قال: والعوامل في انقضاء الدولة العباسية التي دامت نيفا على خمسمائة وعشرين سنة أنها صارت إليهم بعد ما ضعف أمر الدين وتخلخلت أركانه، وتداول الناس أمر الأمة بالغلبة، فأخذ حينئذ بنو العباس بأيدي العجم أهل خراسان، ونالوها بالقوة، ومناهضة الدول، ومساورة الملوك، حتى أزالوا بعجم خراسان دولة بني أمية، وتناولوا العز كيف كان، فما وصل أمر الأمة إلى أهل العدالة والطهارة، ولا وليهم ذوو الزهادة والعبادة، ولا ساسهم أهل الورع والأمانة، بل استحالت الخلافة كسروية وقيصرية. ا.ه. وقال أيضا في دولة
206
بني العباس: إن فيها افترقت كلمة الإسلام، وسقط اسم العرب من الديوان، وأدخل الأتراك فيه، واستولت الديلم ثم الأتراك، وصارت لهم دول عظيمة جدا، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام، وصار بكل قطر قائم، يأخذ الناس بالعسف ويملكهم بالقهر.
ولقد تجلى التفريط والإفراط في العهد العباسي الأخير والأوسط، وما كانت تأثيرات النكبات ظاهرة كل الظهور، لمكان القوة في جسم الأمة، وكان كلما ضعف سلطان الخلافة ضعفت الأمة على نسبتها، وربما كان من العوامل في ضعف سلطان العباسيين اتساع رقعة مملكتهم وترامي أطرافها، فصعب معه القضاء على دعوة كل من ينزع في القاصية إلى الاستقلال بجيشهم من الخراسانيين، ثم من غيرهم من العناصر غير العربية؛ ولأن من الخلفاء من ربما أعطوا الألوف لمن يجب ولمن لا يجب، وضنوا بالمئات على الجند والقواد، ومنهم من شغل بشهواته ورفاهيته، وبلغ في ذلك مبلغا عظيما، وخرجوا جملة عن هدي الراشدين، وخالفوا سيرة أعاظم الأمويين والعباسيين، وراحوا يتمتعون بالفتوح التي تمت لبني أمية في الخافقين، ووضع هؤلاء أساسها، فما بنى أخلافهم كما بنوا، واحتفظوا بهذا التراث العظيم الاحتفاظ الواجب، ولئن نقموا من الأمويين تغاليهم في رد الطالبيين وآل العباس عن الأمر، فما كان العباسيون أرفق بالطالبيين والأمويين والخوارج وكل من نازعهم السلطة يوم كان الأمر أمرهم.
ولما كثر الأعاجم في دولتهم، وهجم عليهم الروح الفارسي من كل جانب، وأضعفوا بأيديهم عصبيتهم العربية، وجعلوا من الفرس والترك عصبية محدثة لهم، صار اسم العرب في أكثر أيام هذه الدولة كأنه تاريخ أمة بائدة، يقرأ للتسلية والاطلاع، لا للقدوة والاتباع، ولو لم تكن العربية لسان الدولة لما قال القائل في وصف الدولة العباسية، إلا أنها دولة الفرس دخلها تعديل بالإسلام. على أن الدولة يتعذر عليها أن تسير على غير هذه الطريق ما دام الجيش - وهو أول عامل في قيام الدولة - من الأعاجم، وما دام سلطان الدولة يمتد على مملكة تسعة أعشارها من غير العرب.
ولولا أن نبغ في صدر هذه الدولة بضعة خلفاء عظماء، كالمنصور والرشيد والمأمون من بين سبعة وثلاثين خليفة، لصح أن يقال: إن الدولة العباسية الفارسية كانت دون الدولة الأموية العربية بمراحل، وأي ضعف أعظم من أن يقتل الخليفة بأيدي المتغلبين، أو يبقى آلة في أيديهم وهو ساكت لا يتحرك، راض بما قسم له من حظ، خصوصا لما انتقل الملك إلى آل بويه،
207
وأصبح ما كان بقي في أيدي العباسيين أمرا دينيا اعتقاديا لا ملكا دنياويا، فكان القائم بالدولة منذ فجر القرن الرابع إنما هو رئيس الإسلام لا ملك يستجمع صفات الملك والخلافة. وإذا دون المؤرخون شيئا من أخبار القوة فهو صادر عن ملوك الطوائف الذين اتخذوا شعار العباسيين اسما، وعملوا تحته كالبويهين والسلجوقيين والسامانيين والغزنويين والطولونيين والإخشيديين والحمدانيين والآغالبة، وهذا مما لم يعهد مثله في دولة بني أمية في دمشق وقرطبة، هؤلاء كان فيهم شمم العرب وعز الملك والسلطان، والتشبع بروح الدين، وكان لخلفائهم صبغة خاصة يهتمون بملكهم قبل كل شيء.
أفسد العباسيون دمهم العربي بما أدخلوه عليه من الدم الغريب، وأفسدوا عصبيتهم بما كان من زهدهم في عنصرهم ، والاستنامة إلى غيره لقيام دولتهم، فغدا الدخيل بعد حين أصيلا، وسقطت الأصول وقامت بدلها الفروع، وآض المصطنع سيدا مسودا، ورجع العظيم يتعثر في أذيال الذل، أصبح العباسيون إلا قليلا خلاسيين وهجناء لا بالعرب ولا بالعجم، وتركتهم الشعوب للتبرك بهم لشرفهم، ولا تزيد مكانتهم عن بعض السلاطين الذين انتزعوا أقطارا من الأرض العباسية وحكموها بالجبرية حكما دينيا ومدنيا.
ومن أهم العوامل في ضعف بني العباس عدم العناية بتربية أولياء العهد تربية حرة عملية، وكان من عادة أكثر الخلفاء أن يحبسوا أولادهم وأقاربهم، وبذلك جرت سنتهم إلى آخر أيام المستنصر، فلما ولي المستعصم آخر خلفائهم ببغداد أطلق أولاده الثلاثة ولم يحبسهم، وبحبس أولاد الخلفاء ضعفت ملكاتهم، وربما انصرف أكثرهم في دور احتباسهم إلى اللهو والشهوات، فإذا جاءوا يتربعون في دست الخلافة عجزوا عن سياستها؛ لأنهم عاجزون عن سياسة أنفسهم، ولقد كان الرسم في عهد الخلفاء الأول من آل العباس أن يراقب الوالد ابنه والابن أباه والأخ أخاه على طريقة مكتومة عن الأنظار، وتوسد إلى أبناء الخلفاء وإخوتهم قيادة الجيوش وإدارة الولايات يشتركون في السلطان، وتؤخذ آراؤهم في النوازل، ويدخلون في مجالس المشورة، فيكون لهم بذلك شيء من الوقوف يدركون به أنهم شركاء في الملك، وعليهم أن يستعدوا لتولي زمامه. وبحجب أبناء الخلفاء في عصر الانحطاط أمسى بعضهم كالمغفلين لعدم اختلاطهم بأحد، يدرسون سياسة الملك في الكتب، وربما لا يرخص لهم أن ينظروا في كل الكتب، ويهيئهم المؤدبون تهيئة نظرية، ولا يعلمون شيئا كثيرا يصح أن يكون مادة لحياتهم وحياة الخلافة، إذا أتت نوبتهم لتولي هذا المنصب الجليل.
ثم قد يترفع الخليفة عن المجتمع حتى يجهل حقيقة أحوال الناس، وما يدور في بلاده من المسائل المهمة، اللهم إلا ما يكتب به إليه أصحاب الأخبار، وعد من مزايا الظاهر (622ه)، ولم يل الخلافة العباسية أتقى منه بعد عمر بن عبد العزيز الأموي، أنه ظهر للناس وكان الخلفاء قبله لا يظهرون إلا نادرا،
208
ولم ينظر في الرقاع التي تكتب إلى الخليفة في العادة في موضوع أخبار الناس، إلا أن أيامه لم تطل، ولم يدم الملك العباسي بعده كثيرا.
وأهم مسألة في انهيار بنيان الدولة هذا الجيش الغريب، فقد كان الجيش لأول أمره من أبناء خراسان، واشترى المنصور المماليك واستخدمهم وتابعه من خلفوه، وما جاء المعتصم حتى وضع من العرب
209
وأخرجهم من الديوان، وأسقط أسماءهم، ومنعهم العطاء من العاصمة والولايات، وأصبح جند
210
الخلافة على عهده خمسة أقسام: الخراساني والتركي والمولي والعربي والبنوي،
211
وهذه الجيوش التي سلبت قرار الحضرة - أي العاصمة - كانت تثور في أيام العظماء من ملوكهم وتتطلب عطاء السنة والسنتين، ولها هيجة كلما راح خليفة وجاء خليفة، إذا لم يكن المال مهيئا لإرضائهم ولوا وجوههم عنه، ويا ويل من يولي الجيش عنه وجهه.
ولقد أنكر الجند
212
والقواد على المقتدر استيلاء النساء والخدم على الأمور، وكثرة ما أخذوا من الأموال والضياع، فقتلوه فانخرقت الهيبة، وضعف أمر الخلافة منذ ذلك العهد، وطمع أصحاب الأطراف والنواب وخرجوا عن الطاعة. يقول حمزة الأصفهاني:
213
إن الملك تنقل من بني العباس في ثمانية عشر نفرا، والمقتدر ثامن عشرهم وكان في مدة مائة وسبع وسبعين سنة على جملة من الاستقامة؛ إذ كانت العوارض التي تعرض في سلطانهم قصيرة المدة سريعة الزوال، فانساق ملكهم على هذا المنهاج إلى أن مضى من ملك المقتدر ثلاث عشرة سنة إلا أياما، وذلك في آخر سنة ثمان وثلاثمائة، فعندها بدأت الأحداث والفتن في دار ملكهم، فأزالت عن الجند والرعية هيبتهم، وأخلت من الأموال خزائنهم.
وإذا استثنينا عهد المعتضد لم نشاهد بعد المأمون من كان ذا عبقرية في إدارة الملك، وقد لا ينتظم الأمر حتى بوجود الوزراء المحنكين؛ لأن للرئيس تأثيره ما دام مرجع الأعمال إلى الخليفة، فإن كان هذا على اتزان تخفى العيوب في الجملة، في هذه السلطنة الاستبدادية الطويلة العريضة، وإلا فالملك في تزلزل، وهناك خليفة يدبره أخوه، وآخر تدبره أمه وقهرمانتها وقهرمانته، وغيره يدبره وزيره، وفي كثير منهم كانت سلطة النساء بادية في الخلافة، وقل خليفة كالمأمون والمعتضد من يصدر عن رأي نضيج، ويعنى بملكه كما يعنى بنفسه.
يقول صاحب النشوار:
214 «كان أول ما انحل من نظام سياسة الملك أيام بني العباس القضاء، فإن ابن الفرات وضع منه وأدخل فيه قوما بالزمانات،
215
لا علم لها ولا أبوة، فما مضت إلا سنوات حتى ابتدأت الوزارة تتضع، ويتقلدها كل من ليس لها بأهل، حتى بلغت في سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة إلى أن تقلد وزارة المتقي ابن العباس الأصفهاني الكاتب، وكان غاية في سقوط المروءة والرقاعة. وتلا سقوط الوزارة اتضاع الخلافة وبلغ صيورها إلى ما نشاهد، فانحلت دولة بني العباس بانحلال القضاء. ا.ه.»
ولما ولى معز الدولة بن بويه القاضي عبد الله بن أبي الشوارب (سنة 350ه) قضاء القضاء، شرط على نفسه أن يحمل في السنة إلى خزانة ابن بويه مائتي ألف دينار، فتألم المطيع لله وامتنع من تقليده. وبلغ من سقوط منصب الوزارة أن بعضهم كان يستعمل ضروب الرشى ويرتكب كل صغار ليصل إليها، ومنهم من أنفق في هذه السبيل فقط خمسمائة ألف دينار، ومنهم من رشا المنجمين حتى يشيعوا أخبارا يجعلها سلما إلى أغراضه.
ما انقضت الدولة العباسية
216
حتى كانت مصر والشام في أيدي المماليك، واليمن بأيدي الزيدية والدولة الرسولية، والحجاز لبني حسن، ومراكش لبني مرين، وإفريقية للحفصيين، والأندلس لبني الأحمر وملكهم غربا من جزائر بني مزغنان - الجزائر اليوم - إلى عقبة برقة، والتكرور لرجل ينتسب إلى عمر بن الخطاب، وصاحب البرنو وصاحب الكانم من بيت قديم في الإسلام، وماردين لبني أرتق، وحصن كيفا بيد رجل من بقايا الأيوبيين، وصاحب أرزن من ملوك آل سلجوق، وصاحب بدليس شرف الدين، وهراة غياث الدين، والأكراد يتأمر عليهم صاحب جولمرك وصاحب عقرشوش، وأمراء الترك في بلاد الروم أو بلاد الدروب؛ أي البلاد المنحصرة بين بحري القرم والخليج القسطنطيني، ومملكة إيران بأيدي بيت هولاكو ويدخل فيها الهياطلة وهي بلاد مازندران، وما يليها إلى آخر كيلان، وتوران مملكة الخاقانية بيد أفراسياب ملك الترك، وبقية ديار بكر بيد إبراهيم شاه، ومملكة أذربيجان بيد سليمان شاه من أولاد جوبان، وخراسان بيد الخاقان طغتمر. ومملكة توران منقسمة ثلاثة أقسام، منها سلطانان مسلمان وأكبر الثلاثة القان الكبير هو صاحب الصين والخطا، وقد دان دين الإسلام، والملكان الآخران صاحب السراي
217
وخوارزم والقرم ودست القبجاق، والثاني صاحب غزنة وبخارى وسمرقند وعامة ما وراء النهر، وهناك أمراء البادية من العرب وهم بديار مصر وبرقة واليمن والحجاز والشام والعراق والبحرين. •••
علل بعض مؤرخي الإفرنج لسقوط المملكة العباسية بأن الثورة التي عجلت بسقوط الأمويين وأدالت منهم للعباسية، كانت عمل حزب ديني ثار علنا ودعا سرا مدة قرن كامل، وكانت أيضا حركة قومية، ومقاومة من الشرق، وأثرا من آثار نقمة الفرس على الفتح العربي، وأن بعض عظماء ملوكهم كالسفاح والمنصور والمهدي والرشيد والمأمون والمعتصم أسرع الانحطاط إلى العباسيين، وتقسم البلاد ملوك وأمراء، وتعاقبت عليها دول حربية أو وطنية استأثروا بجزء من المملكة وراحوا بها يؤسسون ملكا ويقيمون حكومات، وأن الوحدة السياسية فقدت في المملكة العربية عقب انحلال دولة بني أمية في دمشق. قال: وبينا كان يظهر في الفاطميين والأمويين في الأندلس زعماء وفاتحون، لم يكن يظهر في العباسيين الكسالى غير أناس أمسوا ألعوبة في أيدي مستخدميهم من الجنود ورجال البلاط، ومع ذلك عاشت دولتهم بعد تينك الدولتين. قال: إن العصر الذهبي لخلافة بغداد كان في أواخر القرن الثامن ومبدأ القرن التاسع، ثبتت قواعد تلك المملكة في الشرق، وقمعت الثورات التي قام بها أبناء علي، وسكنت نغمة الخزر في تخوم إرمينية والروم في آسيا الصغرى، ومنهم من كبح جماحه ومنهم من رد على أعقابه. وعقد العباسيون مع الإمبراطورة إيرين، ثم مع خليفتها نقفور الأول معاهدات حملت في مطاويها ذلا للإمبراطورية. وكانت بلاد الخلافة عبارة عن ثماني وعشرين ولاية تمتد من نهر الأندوس إلى الأطلنطي، ومن جبال القوقاز إلى الصحراء، أما أقصى حدود المملكة من الغرب - أي إسبانيا والمغرب - فقد نزعت طاعة الخلافة العباسية عنها، وظلت سائر البلاد مجموعة الشمل متماسكة الأجزاء، وكانت عوامل الاضمحلال واحدة في الخلافات الثلاث (العباسية والفاطمية والأموية الأندلسية)؛ ذلك لأن السلطات كلها كانت مجموعة في أيد الخليفة، ولكي يقوم بعمله يجب أن يكون عظيما في ذاته، أو يحسن اختيار وزراء عارفين يحسنون خدمته ولا يتسلطون عليه، وقد أثبت الخلفاء الأولون من العباسيين ومؤسسو الدولة الفاطمية، وكثير من الأمويين في الأندلس، ومنهم عبد الرحمن الثالث أنهم من الطراز الأول من الرجال، بيد أن عيش القصور والحرم، على ما كان عليه في قرطبة والقاهرة وبغداد، لا ينشأ منه غير فساد الذرية مهما كان من قوتها؛ ولذلك لم تلبث هذه الممالك أن تولاها أمراء جهلاء ليسوا على شيء من النبوغ ولا الأخلاق، وعلى قدر الملك يكون قدر الحكومة، والاستقرار يكون عادة في الممالك المطلقة، ولئن أصبحت الوراثة في تولي الملك عادة متبعة، فما عين القانون لانتقال الملك بالإرث خطة مقررة، وحاول بعض أرباب المدارك من رجال الأمر أن يصلحوا هذا الخلل فما وفقوا.
كان العباسيون ينصبون ولي العهد مقدما، وهو يقسم الأيمان كما يقسم الملك المتولي، وفي الأندلس عمد الحكم الثاني إلى عظماء المملكة ودعاهم إلى التوقيع على ما يشبه البراءة؛ لتقليد ابنه الخلافة وأرسلت نسخة منها إلى الولايات، وكان الأعيان وأرباب الطبقات الدنيا يوقعون عليها، ولم تنجع كلتا الطريقتين. وفي بغداد لم يهدأ بال المنصور إلا بخلع ابن عمه عيسى من ولاية العهد لنصب ابنه مكانه، وفي قرطبة لم يكد الحكم الثاني يلقى حتفه حتى دبرت في القصر مكيدة، جعل بها بدل هشام أموي آخر اسمه المغيرة، إلا أن الوزير المصحفي وابن أبي عامر تقدما بقتل هذا الدعي، ومن حظ هشام أن أطماع هذين الرجلين وقفت عند حد إعادة الحق إلى صاحبه. وعلى هذا رأينا نظام ولاية العهد عرضة للأخطار، وكانت شهوة كل من كانوا على صلة بالعرش، أن يتولوا الأمر إذا كانوا من الأمراء، وأن ينصبوا الملك الذي يختارونه، إذا كانوا من الوزراء أو من رجال الدولة وقواد الجيش، وهناك الدسائس والأحزاب والمنافسات والفتن، والسلطة العليا تضعف إذا كانت مختلة باضطرابات دائمة، والدولة أبدا قلقة بأطماع الوزراء، ومكايد الموالي والعبيد ونفوذ الأمراء.
إن سادة العرب بفتحهم الشرق والغرب، لم يتخلوا عن طبيعتهم الجامحة التي تقضي على النظام، وكان من غرائزهم المتأصلة في جوانحهم ألا ترضى بإقامة حكومة منظمة، وكان من القوة للخلفاء أن يختاروا عمالهم وجندهم من فريق آخر، يؤثرون الاعتصام بالعرب أو الركون إلى غيرهم، أي من العناصر الوطنية من فرس وبربر وقبط وإسبان، وما خلت هذه السياسة من أخطار، وما عرف مدى ضرر هذه الرعاية للغريب؛ ذلك لأنها كانت مدعاة لتيقظ الفكرة الوطنية في البلاد المغلوبة على أمرها، ومن شأن القوميين أن يعادوا وحدة المملكة، بل هم لا يرون قيامها بحال.
يدين العباسيون في الشرق بخلافتهم للنقمة الفارسية، وهم أنفسهم أدنى إلى أن يكونوا فرسا منهم إلى أن يكونوا عربا، ومتى ضعفت الخلافة وثار القواد في أصقاع الولايات، وجعل رؤساء العصابات ملوكا، يقوم هؤلاء الغاصبون ويهيجون النعرة القومية، ويوهمون الناس أنهم على حق بما يمتون إليه من أصولهم القديمة، وبحرصهم على إعادة ذكرى ما كان لهم من ذلك قبل الإسلام، فقد ادعى السامانيون، وهم من عنصر تتري، أنهم من نسل الملك بهرام بن جوبين الفارسي، وزعم البويهيون من الديلم أنهم من نسل الساسانيين ملوك فارس، وهكذا الحال في إفريقية وفيها أنشأ الفاطميون مملكتهم بأيدي البربر، كما أنشئت خلافة بغداد بأيدي الفرس.
كان الأمويون في الأندلس عرضة للانحلال منذ القرن العاشر؛ لأنهم كانوا على خطر من الممالك النصرانية من الشمال، وانتقاض رعاياهم من الإسبان المهتدين أو النصارى، لولا أن حال دون ذلك نبوغ عبد الرحمن الثالث. ولما لم يستطع الخلفاء أن يعتمدوا على مواطنيهم من العرب، أو على رعاياهم من أهل البلاد، حاولوا أن يقيموا سلطانهم بعناصر أخرى، فأنشأوا لهم جندا مهما يتفانى في خدمتهم، فوقع اعتمادهم على جند غريب وسلموا حامياتهم للعبيد وللمماليك، فكان للعباسيين حامية تركية، وللفاطميين حامية من البربر والزنوج والأتراك، واتخذ الأمويون في الأندلس الصقالبة والبربر والقشتاليين، فغلط الخلفاء في تقديرهم هذا؛ لأن أدوات الحكم خرجت عنهم أو انقلبت عليهم، وعملت المكايد في هؤلاء الصعاليك، وتقرب منهم أرباب الأحزاب، وعصفت فيهم الأطماع، وعبثت بهم الأهواء، فما لبثوا أن دخلوا في العراك ينصبون الخلفاء ويخفضونهم، ويعسفونهم ويذلونهم، ويوقعون بهم ويقتلونهم، إن مصير خلافة الأمويين في قرطبة مصيرها في العباسيين والفاطميين، انحلت بالفوضى العسكرية. ا.ه.
وقال لبون: إن أول ما نشأ من فساد الأسلوب السياسي عند العرب تمزيق مملكتهم، فقد كان الخلفاء ينيبون عنهم نوابا في الولايات يجمعون مثلهم بين السلطة الحربية والدينية والمدنية، فلا يعتمون أن يحاولوا حكم البلد لحسابهم الخاص، ولما كان من المتعذر كبح جماحهم، أصبح من الميسور عليهم أن يملكوا البلاد، وكان من نجاح بعض الحكام في التغلب على الولاية التي انتدبوا لإدارتها، داع إلى حمل غيرهم على احتذاء مثالهم، وبلغت الحال أن أصبحت الولايات القاصية في المملكة ممالك مستقلة، ونتجت من هذا التمزيق نتائج مضرة ونافعة، والضرر في كون التقسيم يضعف السلطة العسكرية في العرب، والنفع في كون هذه التجزئة تسهل ارتقاء المدنية، وما كان لمصر ولا لإسبانيا أن تبلغا هذه الدرجة من النجاح الذي كتب لهما لو لم تنفصلا عن الحضرة. ا.ه.
وفي الحق إن الأندلس ومصر ما كان يتم فيهما ما تم من الحضارة لو ظلتا مقطورتين مع الدولة العباسية إلى آخر أيامها، وكيف تبقيان لها والعباسيون بعد القرن الثالث عجزوا عن إدارة العراق دع القاصية، وقد كانت الأندلس حتى في العهد الأموي الأول ميدانا للفوضى لبعدها عن مقر الخلافة، وكانت مصر في هذا المعنى أحسن حالا لقربها من دار الملك في الجملة، فمن سعادة الأندلس أن عاد أبناء الأمويين فحكموها، ومن سعادة مصر أن تولاها ابن طولون عن العباسيين فاستقل بها، ومن سعادة تونس أن تولاها الآغالبة زمنا، وكان هذا البعد الباعد بين هذه الممالك الثلاث وبين دار الخلافة العباسية من العوامل الكبيرة في استقلالها.
ويرى لبون أيضا أن من جملة العوامل في انحطاط دولة العرب اختلاف العناصر الخاضعة لهم، وقد ظهر تأثير هذا العامل الأخير من طريقتين مختلفتين كلاهما ضار، ونشأ من اختلاط عناصر مختلفة تمازج، ثم تنافس بين شعوب متباينة كل التباين، وكان من جهة أخرى اختلاط كثير في الدم لم يلبث أن كان منه تغير دم الفاتحين، ولطالما كان هذا التمازج بين شعوب مختلفة في مملكة واحدة من عوامل الانحلال الفعالة، ويعلمنا التاريخ أن من المتعذر استبقاء عناصر مختلفة في يد واحدة إلا إذا روعي في ذلك شرطان أساسيان، أحدهما أن تكون سلطة الفاتح قوية إلى الغاية بحيث يوقن كل إنسان أن كل مقاومة باطلة، والثاني ألا يختلط الغالب بالمغلوب ولا يفنى فيه، وهذا الشرط الثاني لم يحققه العرب بتاتا وكذلك كان شأن الرومان ... ومن المتعذر حياة شعوب منوعة الأصول بقانون واحد، إذا تباينوا في المصالح والأجناس، وقد لا يتأتى إسلاس قيادهم إلا بضغط شديد، وما قامت العرب بمثل هذا الضغط مع شتى العناصر التي خضعت لهم؛ لأن الشعوب المغلوبة قبلت الدين والأوضاع التي حملها العرب على غاية من السهولة. وهكذا كان قانون القرآن، وما أراد الفاتحون أن يناقضوه، فألف الغالبون والمغلوبون لأول الأمر شعبا واحدا، كانت معتقداته وعواطفه ومصالحه مشتركة، وما دام سلطان العرب من القوة بحيث يحترم في كل مكان، كان الاتفاق تاما في جميع أجزاء الدولة، ولئن سكنت المنافسات بين هذه الشعوب المختلفة فما خمدت كل الخمود، وبدت تظهر عادات الاختلاف المتأصلة في العرب، وعادت فكرة الأحزاب في جميع البلاد الإسلامية فأخذت تتناحر وتتقاتل.
وقال أيضا: قد ينبعث النجاح من الأخلاق والذكاء في زمن، ويكونان أداة للإخفاق في زمن آخر، عرفنا كيف كان ميل العرب للحرب والشقاق بادئ بدء، وكيف كان هذا الخلق من دواعي ارتقائهم في عصر فتوحهم، وقد أصبح مضرا لهم لما تم الفتح، ولم يبق أمامهم عدو يكتسحونه. وعاد فتجلى طول اعتيادهم الانقسام، وكان منه تمزيق ملكهم وانتهى بسقوطه. أضاعوا باختلافاتهم الداخلية إسبانيا وصقلية، وكان من تنافسهم الدائم أن قوي النصارى على طردهم، وقد يكون من أوضاعهم السياسية الاجتماعية عوامل في نجاحهم السريع، ودوافع إلى انحطاطهم المريع، وما استطاع العرب أن يفتحوا العالم إلا يوم خضعوا لقانون مقرر ثقفوه من الدين الجديد الذي جاءهم به محمد. قال: وعرف المسلمون في عصور الخلفاء الزاهرة في بغداد وقرطبة أن يوفقوا بين الشريعة وحاجة الشعوب التي دانت بها، وصعب إدخال تعديل في الأوضاع السياسية في الإسلام، ومن أحكامه أن يكون على رأس المملكة ملك يجمع في يديه جميع السلطات العسكرية والدينية والمدنية، وبهذا فقط تيسر قيام دولة عظمى، وربما كان من هذه الأوضاع عامل من عوامل خراب المملكة، فقد تكون الدول الملكية الكبرى التي تجمع عامة السلطات في يد واحدة من التماسك بحيث لا تقاوم في فتوحها، وقل أن يكتب لها النجاح إلا إذا كان على رأسها أبدا رجال ممتازون، فإذا خلت البلاد منهم يتداعى كل شيء فيها. ا.ه.
السياسة في الشرق والغرب
دول الشرق
ما نزع نازع أيام الأمويين إلى دعوى الخلافة أو الملك إلا ضرب ضربة قاسية ردته أدراجه، فكانت رقعة ممالكهم مصونة وتزيد اتساعا على الزمن، وقلما قام قائم على العباسيين إلا وتم له ما أراد من اقتطاع جانب من الملك، وكانت دولة العباسيين أبدا سائرة إلى الاضمحلال منذ القرن الثالث.
وقد يحتال النازع إلى اقتطاع جزء من الملك العباسي، لأخذ تولية من الخليفة بالبلاد التي طمع فيها، وربما كتب له الخليفة من تلقاء نفسه عهدا يربطه به ربطا صوريا، قانعا منه بهدية سنوية أو بإتاوة يجبي الخارج من كورة صغيرة من الكور التي استصفاها أكثر منها. وعلى هذا كان العباسيون أيام ضعفهم يرضون من المتغلب بالمحافظة على الظواهر، ويعدونها طاعة لمن يبعث لهم هدية ويخطب باسمهم ويجبي الخراج لنفسه، وكان الاعتقاد السائد يومئذ أن الخارج على الخلافة إذا لم يبايعه الخليفة لا يجوز أن يطلق عليه لفظ سلطان «وقد
1
أفتى بعض الأئمة أن من أقام نفسه سلطانا قهرا بالسيف من غير مبايعة من الخليفة يكون خارجيا، ولا يجوز توليته النواب والقضاة، وإن فعل شيئا من ذلك كان جميع حكمه باطلا، وعقد الأنكحة باطلا.» وكان العباسيون يحرصون بالطبع على هذه القاعدة؛ لأن بها بقاء القليل من سلطانهم.
تعد حكومة عمان من أول الحكومات التي حاولت الانسلاخ عن العباسيين ، وكان أهلها من الخوارج في القرن الثاني، ولإمامهم
2
وزراء وأرباب دولة ولهم خليفة، ثم دعوا أمراءهم بالملوك، ويقول البلاذري:
3
إنه كان للخوارج سلطان في عمان منذ عهد الرشيد، وإن عامله عيسى بن جعفر حارب الشراة
4
فقتلوه، لما خرج إليها بأهل البصرة، وجعلوا يفجرون بالنساء ويظهرون المعازف ويسلبون الناس، فامتنع الخوارج على الخليفة فلم يعطوه طاعة دولتهم، وولوا أمرهم رجلا منهم، وكانوا يسمون سلطان العباسيين سلطان الجور، وظلت عمان مستقلة بأهلها حتى فتحها المعتضد العباسي، وأقام بها الخطبة له، وانحاز الشراة إلى ناحية لهم تعرف بنزوة وكان فيها إمامهم وبقية ما لهم وجماعتهم
5
من ذاك العهد.
روى المقدسي
6
أن ولايات بلاد العرب كانت في القرن الرابع متقطعة، أما الحجاز فهو أبدا لصاحب مصر لأجل الميرة، واليمن لآل زياد، ولابن طرف عثر، وعلى صنعاء أمير، غير أن ابن زياد يحمل إليه أموالا ليخطب له، وربما أخرجت عدن من أيديهم، وآل قحطان في الجبال، وهم أقدم ملوك اليمن، والعلوية على صعدة يخطبون لآل زياد وهم أعدل الناس، وعمان للديلم، وهجر للقرامطة ، وعلى الأحقاف أمير منهم.
أول من استقل بملك مصر أحمد بن طولون وأولاده، ساعده على استقلاله جيش كان جنده بأمر الخليفة لقتال أحد الخوارج بالشام، فلما استؤصلت الفتنة، وأمنت الغائلة، لم يسرح الجيش، فكان به استيلاؤه على مصر والشام وما وراءهما، وأطاع الناس ابن طولون؛ لأنه كان أعدل من كثير من الخلفاء في عهده، يعمر بلاده ويتفقد رعاياه «وكان مع
7
ذلك طائش السيف. قال القضاعي: يقال إنه أحصى من قتله ابن طولون صبرا أو مات في حبسه، فكان عددهم ثمانية عشر ألفا وخلف عشرة آلاف ألف دينار.» وعد استيلاء ابن طولون على الأمر في مصر خروجا على الخلافة العباسية، وإن كان يخطب لها بادئ بدء، ويبعث إليها ما تيسر من الخراج، ولم يتأت الخلاص من دولته إلا لما قوي العباسيون سنة 292ه فقتلوا جميع آل طولون. وخلفتهم الدولة الإخشيدية، وهي كالدولة الطولونية، دولة أعجمية، ولم يطل أمرها كثيرا حتى حكم مصر عبد زنجي اسمه كافور، إلى أن سقطت في أيدي الفاطميين.
وكثرت الدول في المشرق، وكلها خرجت عن طاعة الدولة العباسية بالفعل، كدولة الحسين بن زيد العلوي بطبرستان (240ه)، ومن الدول ما أبقى للعباسيين السكة والخطبة والطاعة الظاهرة كدولة بني زياد في اليمن، وكان مؤسسها محمد بن زياد عاملا من عمال المأمون أرسله للقضاء على الأعراب فأطفأ نائرتهم، واستقرت قدمه وقدم أعقابه في ذاك القطر إلى سنة 407ه، فالزياديون استولوا على اليمن أجمع، ودخلت في طاعتهم حضرموت والشحر وديار كندة، وصار ابن زياد في مرتبة التبابعة، وكان في صنعاء بنو جعفر من حمير بقية الملوك التبابعة مستبدين بها، مقيمين بالدعوة العباسية، ولما بلغ عاملها أبا الجيش إسحاق بن إبراهيم قتل المتوكل وخلع المستعين، واستبداد الموالي على الخلفاء، ركب بالمظلة شأن سلاطين العرب المستبدين، وفي أيامه خرج في اليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي إبراهيم بن طباطبا، بدعوة الزيدية وقد جاء بها من السند، وكان جده القاسم قد فر إليها بعد خروج أخيه محمد مع أبي السرايا فلحق القاسم بالسند وأعقب بها الحسين، ثم ابنه يحيى باليمن سنة 288ه، ونزل صعدة، وكان شيعته يسمونه بالإمام، ولقب يحيى هذا بالهادي إلى الحق، والزيدية ما زالوا إلى اليوم أصحاب اليمن على كثرة ما تعاورها من الدول، وكانوا إذا قوي أعداؤهم عليهم اعتصموا في معاقلهم وجبالهم، فإذا نفس خناقهم امتد سلطانهم إلى السهول والساحل، ويلقب سلطانهم بأمير المؤمنين وبالإمام.
ومن غريب ما وقع في هذا القطر أن ملوك زبيد كانوا يخطبون للعباسيين، والصليحيين يخطبون للعبديين إلى أواخر المائة الخامسة، وبقي أمر اليمن في تقلقل، الجبال لرجل والسهول لآخر، وعدن لغيرهما، حتى جاء عبد النبي بن مهدي الخارجي من زبيد واستولى على اليمن، وبها يومئذ خمس وعشرون دولة، اكتسحها كلها، وأظهر الصليحيون الدعوة العبيدية أو الفاطمية وملكوا اليمن كله، ونزل الصليحي مؤسس دولتهم صنعاء وأسكن عنده ملوك اليمن الذين غلب عليهم، وهزم بني مطرف ملوك عثر وتهامة، ثم استولى بنو أبي البركات على بني المظفر، ودخل شمس الدولة تورانشاه بن أيوب أخو صلاح الدين سنة 566ه، واستولى على الدولة التي كانت باليمن، ونزل زبيد واتخذها كرسيا لمملكته، ثم انتقل إلى تعز، وكانت عاصمة الصليحي حصن ذي جبلة منذ سنة 458ه، ونزلها وبقيت كرسيا لملكه وبنيه ومواليهم بني رسول، وكان السبب في فتح صلاح الدين اليمن أنه كان
8 «أهله خائفين من نور الدين فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر، بحيث إن قصدهم نور الدين قاتلوه، فإن هزمهم التجئوا إلى تلك المملكة.»
والدولة الرسولية هي دولة عمر بن علي بن رسول، وكان والده علي بن رسول استادار الملك المسعود بن السلطان الملك الكامل، استقر أولا نائبا لبني أيوب فما إن هلك حتى استولى ابنه عمر على ما كان عليه أبوه، ولقب بالملك المنصور، ودام الملك في بنيه مدة طويلة، على اختلاف كان بين أهل هذا البيت على الملك، واليمن بطبيعة أرضها مستعدة لقيام الدول وإذا قامت فيها يدوم أمرها، فقد سمت للخلافة نفس أحمد بن الزبير الغساني - المعروف بالرشيد
9
الأسواني من أهل صعيد مصر، وكان قاضي اليمن للفاطميين ويعد من كبار العلماء - فأجابه قوم إليها ونقشت له السكة (563ه)، وأعظم من هذا أن معز الدين بن سيف الإسلام طغتكين ملك اليمن (594ه) ادعى الألوهية نصف نهار، ثم رجع عن ذلك وادعى الخلافة ودعا لنفسه وقطع الدعاء من الخطبة لبني العباس، وأكره من كان في مملكته من أهل الذمة على الإسلام.
وكانت الحجاز تتقلب في أيدي بيوت يدعون الشرف ويدينون بالطاعة لصاحب القوة من العباسيين أو الفاطميين، ومنهم
10
بنو الحسن، ومنهم محمد بن سليمان خلع طاعة العباسيين وخطب لنفسه بالإمامة في سنة إحدى وثلاثمائة، ثم اعترضه القرامطة فخطبوا لعبيد الله المهدي صاحب إفريقية وقلعوا الحجر الأسود وباب الكعبة وحملوهما إلى الأحساء، ثم صولحوا وأعيدت خطبة العباسيين، ثم خطب لبني بويه مع الخليفة العباسي، ثم أعيدت الخطبة للفاطميين متقطعة، فكان الأمراء إذا قطعوا خطبتهم قطعوا عن الحرمين الميرة فيعودون إلى الخطبة باسمهم، ثم خطب للسلجوقيين وتولى الإمارة الحجازية بنو قتادة وغيرهم، والحالة لا تسر صديقا في أكثر الأدوار.
وقامت الدولة السامانية في بخارى وما إليها من سنة 261ه إلى سنة 389ه، واشتهرت في معظم أدوارها بالعدل وحسن السياسة. ثم خلفتها دولة محمود بن سبكتكين في خراسان وخوارزم من سنة 366ه إلى أن انقرضت سنة 578ه، واتخذت غزنة عاصمتها، وكانت من الدول التي لا بأس بسياستها تتصل مع العباسيين بالسكة والخطبة، ويعترف خليفة بني العباس بسلطانها، وكان في المنصورة من بلاد السند في القرن الرابع سلطان من قريش يخطب للعباسي، والملتان قرب غزنة يخطبون للفاطمي، ولا يحلون ولا يعقدون إلا بأمره، وأبدا رسلهم وهداياهم كانت تذهب إلى مصر، وكان الخليفة من الخوارج يسكن بناحية وردان مما يلي سجستان ومكران، وهي
11
بلدهم ودارهم في القرن الرابع، ومع أن أهلها من المنحرفين عن علي بن أبي طالب «ويظهرون مذهبهم ولا يتحاشون منه ويفتخرون به عند المعاملة، وليس في الدنيا سوقة أصح منهم معاملة ولا أقل منهم مخاتلة.» ومع أن عليا لعن على منابر الشرق والغرب لم يلعن على منبرها إلا مرة واحدة، ومن الغريب أنهم امتنعوا على بني أمية حتى زادوا في عهدهم وألا يلعن على منبرهم أحد.
ومن أهم الدول التي استولت على القسم المهم من بلاد الخلافة العباسية دولة بني بويه من الديلم، وكانوا شيعة أراد مؤسس دولتهم أن يتبسط في نشر التشيع في بغداد والولايات فخوفوه العاقبة فأحجم، وقد امتد حكم البويهيين من بلاد فارس إلى العراق من سنة 321 إلى 448ه، وكان فيهم رجال من أجل الملوك علما وسياسة. وجاء بعدهم السلجوقيون الأتراك وهم من أهل السنة، فاستولوا بعد بني بويه على خراسان، وامتد حكمهم إلى العراق والشام من سنة 431ه، وخطب لملكهم العظيم ملكشاه (485ه) من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وخطب لسنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان بالعراقين وأذربيجان وأران وإرمينية والشام والموصل وديار بكر وربيعة والحرمين، ومؤسس هذه الدولة ألب أرسلان أسر أرمانيوس طاغية الروم (463ه)، وكان في مائتي ألف من الروم والفرنج والعرب المتنصرة والروس والكرج في أرجاء خلاط بإرمينية ففدى نفسه بألف ألف وخمسمائة ألف دينار، وأن يطلق كل أسير في مملكته، وهادنه ألب أرسلان خمسين سنة، وكان ملكشاه يأخذ إتاوة من ملك الروم في القسطنطينية، وامتد حكم بيته إلى أرض الروم - أي آسيا الصغرى - وكانت دولتهم عادلة تنفذ شرع الإسلام.
والسلجوقيون هم الذين تلقوا بصدورهم الصدمة الأولى للحروب الصليبية، وكانت الشام والجزيرة وآسيا الصغرى موزعة بين أمراء منهم، فأخذوا يطاولون الأعداء ويصاولونهم، حتى فتح الأتابك زنكي بعض بلاد الشام، وكان من سياسته أن «يراسل فرنج الشام ويحذرهم ملك الروم ويعلمهم أنه إن ملك بالشام حصنا واحدا، أخذ البلاد التي بأيديهم منهم، وكان يراسل ملك الروم ويتهدده ويوهمه أن الفرنج معه، فاستشعر كل واحد من الفرنج والروم من صاحبه.»
وجاء ابنه محمود بن زنكي فجمع شمل البلاد الشامية والجزرية، ثم ضم إليها مصر، وكان الملوك
12
قبله جاهلية حتى جاءت دولته فوقف عند أوامر الشرع ونواهيه، وكانت سيرته أشرف سيرة، وسياسته أنجع سياسة . ثم قامت دولة صلاح الدين يوسف بن أيوب تتولى من دفع عادية الصليبيين ما تولته الدولة النورية ودولة الترك السلجوقيين من قبل، ثم دولة الترك المماليك من بعد، وقد بنت الدولة الصلاحية على أساس الدولة النورية وعملت برجالها.
كان من المعقول أن تعاون بلاد المسلمين كلها من أقصى آسيا إلى أقصى إفريقية لدفع صائل الصليبيين عن بلاد المسلمين، لكن الأمراء والملوك لم يكونوا يهتمون بغير شهواتهم وراحتهم في ملكهم، فقدر لهذه الدول الصغيرة برقعة ممالكها الكبيرة بعقول القائمين بسياستها، أن تتولى سياسة الإسلام الخارجية، وتقضي على خطط واسعة وضعها البابا في رومية، وقد جند جيوشا جرارة من كل شعوب أوروبا،
13
ما خلا الإسبانيين والبرتقاليين لشغلهم بحرب المسلمين في الأندلس، وما خلا الروس؛ لأنهم ليسوا على مذهب البابا فلا سلطان له عليهم.
ولعل ملوك الإسلام لم يكونوا يومئذ يقدرون مدى مضار الحروب الصليبية على الإسلام إذا ظفر المهاجمون من الغربيين. ولقد كتب التبريز في السياسة والحرب للدولة السلجوقية، وفي مقدمتها دولة نور الدين، ثم دولة بني أيوب، صلاح الدين والعادل والكامل والظاهر والأشرف وأمثالهم، فقامت كل واحدة خير قيام بواجب دولة كبيرة على قلة النصير وضعف المادة.
وبطلت مدة قرنين كاملين غزوات المسلمين على الروم وبالعكس، وانحصرت جهود مصر والشام والجزيرة وإرمينية وآسيا الصغرى في معالجة مشكلة دولية كانت أعظم المشاكل الخارجية التي أصيب بها الإسلام، منذ انبعث من جزيرة العرب، وكان ملوك الصليبيين يرهبون ملوك المسلمين، ويدهشون لأعمالهم في السلم والحرب؛ ذلك لأن الملوك القائمين برد العدو في تلك الأعصار كان رأيهم في الملك يخالف رأي الملوك الآخرين ممن لا شأن لهم إلا أن يقبعوا في أرضهم فقط.
هذه جملة حال الممالك التي نبعت من أرض المملكة العباسية، وبذلك تضاءلت خلافتهم في القاصية والدانية، فلم يبق أمام خلفائها إلا خلع الخلع على الملوك المحدثين، واختراع الألقاب لهم يلقبونهم بها، لقبوا محمود بن سبكتكين الغزنوي بيمين الدولة وأمين الملة،
14
ولقب المقتدي ملك المرابطين في الغرب الأقصى بأمير المسلمين، وأخذ نور الدين عمر مؤسس الدولة الرسولية في اليمن لقب سلطان، ومثله كان من ملوك دهلي، وكانوا ينقشون على الدنانير أسماء العباسيين، وظلوا ينقشونها بعد ثلاثين سنة من مهلك المستعصم آخر خلفاء بني العباس في بغداد.
15
كان عمل هذه الدول داخليا محليا، وقل أن كانت تتصل بدول غير دول الإسلام، اللهم إلا إذا استثنينا الدولة الحمدانية في الشام والجزيرة، وكانت تحتك بالروم على الدوام، والدولتين النورية والصلاحية ومن بعدها وقبلها من الدول التي خفق لها علم على أرجاء البلاد المتاخمة كالسلجوقيين؛ فإن علاقات هذه الدول بالإفرنج كانت وافرة، وكل دولة تقف موقف الخائف المترقب من جارتها.
كانت علائق الدول الإسلامية بالدول النصرانية موفقة إذا كان القائم بالأمر رجلا في الجملة، يعمل لملكه لا لشيء آخر من ضروب هواه، فقد رأينا نور الدين وصلاح الدين ومن جاء بعدهما يأسرون ملوكا وأمراء من الصليبيين، ويفتدونهم بأموال عظيمة يستعينون بها على الجهاد أو على أمر شريف آخر من أنواع القربات، أسر الملك الأوحد (607ه) ابن أخي صلاح الدين ملك الكرج ففدى نفسه بمائة ألف دينار ، واشترط عليه أن يطلق أسرى المسلمين، وأن يلزم الصلح ثلاثين سنة، وأن يزوجه ابنته بشرط ألا تفارق دينها.
قلنا: إن الدولة الحمدانية كانت من جملة الدول التي تم لها احتكاك شديد بالروم - وكانت هذه الدولة على صغرها بحيث لم تكن تملك غير القسم الشمالي من بلاد الشام والثغور الشامية والجزرية وديار بكر وديار مضر - من الدول التي يحسب الغريب حسابها ويدين رأسها سيف الدولة الشيعي (356ه) بالطاعة للعباسيين، غزا الروم أربعين غزوة له وعليه، وجاء الروم في أيامه ففتحوا بلادا من بلاده وخربوا عامرها، وكان أخلافه أضعف منه نفسا فهادنوا الروم، وأدوا إليهم الجزية مدة، ومنهم من استنجد بهم وذل أمامهم ذلا ليس بعده ذل، ودام هذا التخبط حتى بيض السلجوقيون وجه الإسلام بأعمالهم الحربية، وقد دامت دولة سيف الدولة أو الدولة الحمدانية سبعين سنة.
على هذا المنهج كانت تسير الدولة العباسية، وهكذا حال الدول التي اقتطعت من الجسم العباسي، والعباسيون راضون بهذا الذل، حتى جاء هولاكو التتري واستولى على بغداد وقتل الخليفة، فانقرضت الخلافة العباسية، وأقامت الدنيا ثلاث سنين ونصف سنة بلا خليفة.
16
وفي سنة 659ه حضر إلى مصر أبو القاسم أحمد بن أمير المؤمنين الظاهر بالله العباسي، وهو عم الخليفة وأخو المستنصر، وكان معتقلا ثم أطلق، فخرج الملك الظاهر بيبرس البندقداري للقائه، وخرج الوزراء العلماء، واليهود بتوراتهم والنصارى بإنجيلهم، وأريد العباسي على إثبات نسبه فأثبته، وبايعه الظاهر بيبرس وخطب له على المنابر، وضرب اسمه على السكة، وكتبت بيعته إلى الآفاق. وبعد أيام ركب الخليفة والسلطان والقاضي والوزير والأمراء إلى خيمة عظيمة، فألبس الخليفة السلطان بيده خلعة سوداء وعمامة سوداء، وجعل له في عنقه طوق من ذهب، وقيد من ذهب في رجليه، وفوض الأمور إليه «في البلاد الإسلامية وما سيفتحه من بلاد الكفر والبلاد الشامية والديار بكرية والحجازية واليمنية والفراتية وما يتجدد من الفتوحات.» فأحيا بيبرس الخلافة العباسية بعد موتها، على ألا يكون للخليفة عمل غير المراسم، لا ينصب ولا يعزل، ولا يعقد الصلح ولا يعلن الحرب، ولا يجبي مالا، ولا يصرفه في وجوهه، ولا يعمل شيئا يدل على سلطانه.
وكأن الظاهر بيبرس بإرجاعه الخلافة العباسية حاول أن يصلح ما ارتكبه من القضاء على آخر فرد من أبناء صلاح الدين. وظلت الشام ومصر والحرمان بعد هذا العهد في أيدي المماليك يتعاورون الحكم عليها، زهاء قرنين ونصف قرن. وفي أيام محمد بن قلاوون امتد حكم المماليك من مصر والشام إلى إفريقية وخطب لهم في تونس وطرابلس وبرقة ودام حكمهم حتى جاءت الدولة العثمانية، فاستولت على الشام ومصر وبلاد العرب (922-923ه).
ودولة المماليك البرجية والبحرية، كالدولة الفاطمية قبلها، كان في ملوكها الصالح والطالح، وربما كان الصالح فيها أكثر من أمثالهم في دولة العبيديين الفاطمية، وقد عمرت البلاد في أيامهم عمرانا يستغرب تحقيق مثله على خلل بين يطرأ عليها في الفترات، بتبدل الولاة ونشوب الفتن الأهلية من أجل الملك، لكن نوابغ من ملوكهم كانوا يتولون الأمر أحيانا فيسدون كل خلل، ويأخذون بأيدي أهل البلاد إلى الترقي، ويلقون الهيبة في صدور المجاورين من الشرقيين والغربيين من الإفرنج.
دول الغرب
من أعظم ما فت في عضد الخلافة العباسية قيام دولة الأمويين في الأندلس، ثم إعلانهم الخلافة، وكان عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي لما انتهى به المطاف إلى شمالي إفريقية، وأعانه اليمانيون ففتح الأندلس، وأنشأ بعد ذهاب ملك آبائه في الشرق (139ه) ملكا ضخما جعل قرطبة عاصمته، أقام دون السنة بعد فتح قرطبة
17
يدعو لأبي جعفر المنصور إلى أن أفرد نفسه بالدعاء، ولم يتعد التلقب بالأمير، وكذلك سلك الأمراء من ولده سنته في ذلك، وتسمى عبد الرحمن بن محمد الناصر بالخلافة بعد سبع وعشرين سنة من سلطانه بالخليفة، ودعي بأمير المؤمنين، وذلك لما استفحل أمره، واستبان له ضعف ولد العباس، وانتشار سلطانهم بالمشرق، وكتب إلى العمال كتابا جاء فيه «وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنا وورودها علينا بذلك؛ إذ كل مدعو بهذا الاسم غيرنا منتحل له ودخيل فيه، ومتسم بما لا يستحق، وعلمنا أن التمادي في ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسم ثابت أسقطناه.» وعبد الرحمن الثالث هذا هو الذي لم يتردد لسلامة ملكه في قتل ابنه عبد الله لاتهامه بمؤامرة على الملك.
ومما مكن لعبد الرحمن الناصر كونه وضع حدا للحروب الأهلية
18
بين العرب والإسبان والبربر، وأمن الحدود، وجعل قوة من أسطوله استولى بها على شمالي إفريقية، وعبد الرحمن الثاني هو الذي أقام أبهة الملك ورتب الرسوم، وكان يشبه الوليد بن عبد الملك في أبهته. قال ابن عذاري: وهو أول من جرى على سنن الخلفاء في الزينة والشكل وترتيب الخدمة، وكسا الخلافة أبهة الجلالة، فشيد القصور وجلب إليها المياه وبنى الرصيف وعمل عليه السقائف، وبنى المساجد الجوامع بالأندلس، وعمل السقاية على الرصيف، وأحدث الطراز، واستنبط عملها، واتخذ السكة بقرطبة وفخم ملكه.
تعاقب على الأندلس منذ فتحت أيام الأمويين عشرون واليا كانوا أمراءها وولاة الحرب فيها، يلونها من قبل بني أمية في المشرق، أو من قبل من يقيمونه بالقيروان أو بمصر، والفتن فيها قائمة لبعد الأندلس عن مقر الخلافة في دمشق، حتى إذا فتحها عبد الرحمن الداخل فتحا ثانيا، وصفت له ولأولاده من بعده، ساقوا الإمارة، ثم الإمامة أو الخلافة في أبنائهم على الغالب وترسموا خطا أجدادهم في المشرق حتى إن عبد الرحمن الأموي عهد بالإمارة إلى ابنه هشام لما كان يتوسم فيه من الشهامة والاضطلاع بالأمر، وترك ابنه الأكبر سليمان. ومن ملوك الأمويين في الأندلس من عرفوا بالسياسة والدهاء والتحلي بفضائل كبار الخلفاء من آبائهم في القرن الأول وثلث الثاني.
وما انقرضت دولة الأمويين في الأندلس
19
إلا لما تواترت الفتن الأهلية وعجزوا عن أن يأخذوا من أعنة جيوشهم المؤلفة من صعاليك مستأجرة، وقدم المنصور أبو عامر رجال البرابرة وزناته في الأندلس، وأخر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم، فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك، وسمي بالحاجب المنصور، وأمر بالدعاء له على المنابر عقب الدعاء للخليفة، ولم يبق لهشام المؤيد من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء على المنابر، وكتب اسمه في السكة والطراز، وأغفل ديوانه مما سوى ذلك. وكان العرب الذين نزلوا الأندلس لأول الفتح من قبائل شتى وفيهم اليمانية والقيسية وفيهم بنو كلاب ومحارب وهوازن وغطفان والأزد وعقيل وقشير والجرمش وغيرهم، ومنهم كانت جمهرة الجيش العربي هناك، فأبدلوا بعد حين بصقالبة وبربر وغيرهم.
وفي أوائل المائة الخامسة انقرضت خلافة الأمويين في الأندلس، فتقاسم ملوك الطوائف الولايات، وذهب ذاك الوقار الذي يتمتع به في الأغلب من تسلسل فيهم الملك والإمارة كابرا عن كابر، وما انقطع من الملوك الخالفين مع هذا ظهور رجال تحنكوا بالسياسة وإدارة الملك. قال ابن سعيد مؤرخ الأندلس:
20
وكان الضابط فيما يقال في شأن أهل الأندلس في السلطان أنهم إذا وجدوا فارسا يبرع الفرسان، أو جوادا يبرع الأجواد، تهافتوا في نصرته ونصبوه ملكا من غير تدبر في عاقبة الأمر، وبعد أن يكون الملك في مملكة قد توورثت وتدوولت، يكون في تلك المملكة قائد من قوادها، قد شهرت عنه وقائع في العدو، أو ظهر منه كرم نفس للأجناد ومراعاة، قدموه ملكا في حصن من الحصون، ورفضوا عيالهم وأولادهم، إن كان لهم ذلك بكرسي الملك، ولم يزالوا في جهاد وإتلاف نفس حتى يظفر صاحبهم بطلبه. قال: وأهل المشرق أصوب رأيا من الأندلسيين في مراعاة نظام الملك، والمحافظة على نصابه، لئلا يدخل الخلل الذي يقضي باختلاف القواعد وفساد التربية وحل الأوضاع.
وذكر صاحب المعجب أن المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن من ملوك الطوائف «كان في غاية السخف وركاكة العقل وسوء التدبير، وزر له رجل حائك يعرف بأحمد بن خالد، وكان هو المدبر لأمره والمدير لدولته، فقل في دولة يديرها حائك.» وتفرق أهل الأندلس فرقا،
21
وتغلب في كل جهة متغلب للسبب الذي علل له ابن سعيد، وتقسموا ألقاب الخلافة، فمنهم من تسمى بالمعتضد، وبعضهم بالمأمون، وآخر بالمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والموفق والمتوكل، وفي ذلك يقول ابن رشيق:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
لما ولي علي بن حمود الناصر بالأندلس تسمى بالخلافة (سنة 408ه) وبويع لإدريس بن علي بالخلافة في مالقة (431ه)، ولما هلك لم يتسم ابنه بالخلافة، ثم بويع للحسن بن يحيى بالخلافة ولقب بالمستنصر، وهكذا صار خليفة لمالقة وسبتة وطنجة، ثم حدث في الأندلس من دعوى الملك شيء لا يكاد يسبق له نظير، وهو أن رجلا من العامة، لا عصبية له ولا سابقة، ادعى أنه من نسل بني أمية بعد انقراض دولتهم في الأندلس، وخطب له على المنابر عشرين سنة، وهو كاذب في دعواه. قال ابن حزم:
22
أخلوقة لم يقع في الدهر مثلها، فإنه ظهر رجل يقال له خلف الحصري بعد عشرين سنة من موت هشام بن عبد الملك المنعوت بالمؤيد، وادعى أنه هشام فبويع وخطب له على جميع منابر الأندلس في أوقات شتى، وسفك الدماء، وتصادمت الجيوش في أمره، وأقام المدعي أنه هشام نيفا وعشرين سنة، والقاضي محمد بن إسماعيل في رتبة الوزير بين يديه والأمر إليه، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن توفي المدعو هشاما، فاستبد القاضي محمد بالأمر بعده، وكان من أهل العلم والأدب والمعرفة التامة بتدبير الدول، ولم يزل ملكا مستقلا إلى أن توفي في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ا.ه.
ذاك ما تم في الأندلس من تغلب خلف الحصري وقاضيه، تم لهما الملك بالغلبة وبعصبية ملفقة، وليس الملك - كما قال ابن خلدون
23 - لكل عصبية، وإنما الملك على التحقيق لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال، ويبعث البعوث، ويحمي الثغور، ولا تكون فوق يده يد قاهرة، ومن قصرت به عصبيته عن بعضها مثل حماية الثغور، أو جباية الأموال، أو بعث البعوث، فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته، كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الآغالبة في القيروان، ولملوك العجم صدر الدولة العباسية، ومن قصرت عصبيته أيضا عن الاستعلاء على جميع العصبيات، والضرب على سائر الأيدي، وكان فوقه حكم غيره، فهو أيضا ملك ناقص لم تتم حقيقته، وهؤلاء مثل أمراء النواحي ورؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة، وكثيرا ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق مثل صنهاجة مع العبيديين، وزناتة مع الأمويين تارة، والعبيديين أخرى، ومثل ملوك العجم في دولة بني العباس.
وقول ابن خلدون لا يكاد يتخلف، ومسألة خلف الحصري وقاضيه من الشواذ، وكان هذا من هزل الدهر في الأندلس، أيام كان أهل كل إقليم يحاولون أن تكون لهم الغلبة بقاض لهم آثروه، أو قائد أحبوه؛ أو دعي عاونوه، ولقد قال ابن حزم: فضيحة لم يقع في الدهر مثلها: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد، أحدهم في إشبيلية، والثاني بالجزيرة الخضراء، والثالث بمالقة، والرابع بسبتة، حتى إذا ضاقت الأرض بما رحبت على الأندلسيين جاءهم من بر العدوة يوسف بن تاشفين اللمتوني ملك المرابطين، فكان أول من دعا للخلافة العباسية على منابر الأندلس والمغرب، وتسمى بأمير المسلمين تأدبا مع الخليفة، وانتهى ملكه إلى مدينة أفراغه من ناحية شرق الأندلس، وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من الغرب، وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مزغنان إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان.
واختل ملك بني تاشفين بعد الخمسمائة لإهمال السلطان، واشتغاله بالعبادة،
24
ولاستيلاء النساء على الأمور «فصارت كل امرأة من أكابر لمتونة ونفوسة مشتملة على كل مفسد وشرير، وقاطع سبيل، وصاحب خمر وماخور.» وانقطعت الدعوة للعباسيين من منابر الأندلس والمغرب بقيام ابن تومرت من المصامدة في بلاد السوس، وفتح الموحدون بقيادة ملكهم عبد المؤمن بن علي الكومي البربري إفريقية سنة 528ه، ثم فتحوا الأندلس، وهو أول من تسمى في المغرب بأمير المؤمنين بعد عصر الأمويين، ونادى «في البلاد
25
التي ملكها بإخراج النصارى منها، وشرط لمن أسلم منهم بموضعه على أسباب ارتزاقه ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن بقي على رأي أهل ملته، فإما أن يخرج قبل الأجل الذي أجله، وإما أن يكون بعد الأجل في حكم السلطان مستهلك النفس والمال.»
ومؤسس دولة الموحدين هو ابن تومرت، سمى نفسه المهدي، وادعى أنه هو المهدي المنتظر وكثر أتباعه، ورأى من بعض جموعه قوما خافهم، فادعى أن الله أعطاه نورا، يعرف به أهل الجنة من أهل النار، وجمع الناس إلى رأس جبل، وجعل يقول لكل من يخافه: هذا من أهل النار، فيلقى من رأس الشاهق ميتا، وكل من لا يخافه هذا من أهل الجنة، ويجعله عن يمينه، حتى قتل خلقا كثيرا واستقام أمره وأمن على نفسه، وقيل: إن عدة الذين قتلهم سبعون ألفا، وسمى عامة أصحابه الداخلين في طاعته «الموحدين»، ودامت هذه الدولة ثمانين سنة (462-542ه)، وكان ملوك الموحدين كملوك المرابطين يخاطبون بأمير المؤمنين، ويحرصون على هذه التسمية، حتى إن صلاح الدين يوسف صاحب مصر والشام لما أرسل إلى أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من
26
الموحدين وخاطبه بسيدنا، نقم عليه المنصور لتجافيه عن خطابه بأمير المؤمنين، وأسرها في نفسه، ولم يجبه إلى حاجته، وكانت حاجته طلب مدد أساطيله؛ لتتجول في البحر بين أساطيل الإفرنج، وتحول دون مرامهم بإمداد جيوش النصرانية في ثغور الشام.
دامت دولة الموحدين في الأندلس إلى أن قام بنو الأحمر، واستولوا على غرناطة، وبالقضاء على دولتهم انقضى ملك المسلمين من تلك الديار، أواخر القرن التاسع من الهجرة. وأول من استولى من بني الأحمر أو ملوك بني نصر أمير المسلمين أبو عبد الله محمد بن يوسف الخزرجي الأنصاري،
27
تظاهر لأول أمره بطاعة الملوك بالعدوة وإفريقية فخطب لهم زمنا يسيرا، ودعا للمستنصر العباسي ببغداد، حاذيا حذو سميه ابن هود، للهج العامة في وقته بتقلد تلك الدعوة إلى أن نزع عن ذلك كله.
وكان في تلمسان وإفريقية وفاس ملوك مختلفون في تلك الحقة، واعتاد المغرب منذ القرن الثاني أن يخلع الطاعة فيه للخلافة العباسية، قائد من القواد ويؤسس ملكا، وأول ما كان من ذلك دولة الخوارج الأباضية في أيام المنصور العباسي، وتغلبها على مملكة إفريقية، وكان يسلم بالخلافة على ميمون بن عبد الرحمن بن رستم من فرس العراق
28
ورأس الصفرية والواصلية، وتعاقبت مملكة تاهرت بنو ميمون وإخوته، ثم بعث إليهم عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب صاحب إفريقية أخاه الأغلب، فقتل من الرسمية عددا كثيرا، وملك بنو رستم تاهرت مائة وثلاثين سنة، ودامت دولتهم إلى سنة 202ه، وامتدت دولة إدريس بن عبد الله من السوس الأقصى إلى تلمسان، وكان من جملة قواعد مملكته فاس، وانقرضت سنة 307ه، وكانت قامت سنة 172ه.
وفي النصف الأول من القرن الثالث عندما كانت تاهرت، وما إليها في أيدي ميمون الرسمي
29
كان وادي الرمل ووادي الزيتون وقصر الأسود بن الهيثم إلى طرابلس وما وراء ذلك في يد ابن صغير البربري المصمودي، وكانت إيزرج مما يلي تاهرت في يدي إبراهيم بن محمد البربري المعتزلي، وطنجة وفاس في أيدي ولد إدريس بن إدريس بن إدريس، ولا يسلم عليه بالخلافة، وإنما يقال: «السلام عليك يا ابن رسول الله»، وكان يسلم على الأموي صاحب الأندلس «السلام عليك يا ابن الخلائف»؛ وذلك إنهم لا يرون اسم الخلافة إلا لمن ملك الحرمين.
وكان بنو الأغلب عمالا للعباسيين في إفريقية فمنحهم الرشيد شبه استقلال في داخليتهم، فأنشأوا لهم دولة في تلك الأصقاع زالت بغلطة سياسية ارتكبها إبراهيم الثاني من بني الأغلب؛ ذلك لإبعاده كثيرا من الجيوش العربية الداخلة في إفريقية عند افتتاحها ومعظمهم
30
من قيس وتميم وفهر وجرير، فتطاولت رقاب كتامة من البربر فسقطت الدولة العربية، ودامت دولة الآغالبة مائة واثنتي عشرة سنة كما دامت دولة بني مدرار في سلجماسة مائتين وستين سنة.
وأعاد إدريس من ولد محمد بن القاسم الإمامة إلى بيته، بعد أن كانت فيه مدة ثم تراجعت وذلك بعد الأربعين وثلاثمائة. وقامت عدة دول في شمالي إفريقية لم يطل أمرها كثيرا كما قام في الأندلس، مثل دولة بني عبد الواد ويعرفون ببني زياد، قامت بالمغرب الأوسط؛ أي في بلاد الجزائر أو جزائر بني مزغنان، وذلك عند ضعف دولة الموحدين، وجعلوا قاعدتها تلمسان ودامت من سنة 633 إلى 923ه، ومثل دولة بني مرين في المغرب الأقصى من سنة 613-823ه، وهم من البربر كزناتة وبني عبد الواد، وقد تلقب بعض ملوكهم بأمير المؤمنين، وخلفتهم الدولة الوطاسية في المغرب، ولما ذاع صيت المستنصر
31
أحد أمراء الحفصيين بني أبي حفص في الآفاق أرسل إليه أمير مكة وأهل الأندلس بيعتهم بالخلافة سنة 657ه، ولقب من يومئذ بأمير المؤمنين، وكان ملك الحفصيين في تونس يدعي الخلافة ويلقب بألقاب الخلفاء، ويخاطب بأمير المؤمنين، والحفصيون نسبة إلى أبي حفص أحد العشرة أصحاب ابن تومرت، وهم بقايا الموحدين.
وأهم الدول التي ظهرت في المغرب وانتشر سلطانها في المشرق وأغصت الدولة العباسية بريقها الدولة الفاطمية، وقد هيأ لها العباسيون دعاية ممتدة النطاق للطعن في نسب مؤسسها، ومن المؤرخين كابن خلدون والمقريزي من صححه، ومنهم وهم الأكثر من زيفوه، والغالب أن أصل ملوكهم من شيعة الإسماعيلية في سلمية في الشام هبوا لتأسيس ملك، فما زالوا يتنقلون في ربوع إفريقية حتى قام أبو عبيد الله المهدي سنة 297ه، وتسمى بأمير المؤمنين وقتل أبا عبد الله الشيعي داعية ملكه، على نحو ما فعل المنصور العباسي فقتل أبا مسلم الخراساني مؤسس دولته.
وسميت هذه الدولة بالفاطمية نسبة لفاطمة بنت الرسول، ومن المؤرخين من يطلق عليها اسم العبيديين نسبة لأبي عبيد الله مؤسسها، وادعت الخلافة، ولقب ملوكها بأمراء المؤمنين واستولوا على القسم الأعظم من شمالي إفريقية. وبنى عبيد الله أول ملوكهم في إفريقية «القصور ورتب السياسة وأحكم التدبير»، وأمر أن يدعى له في المنابر وخطب الأعياد بمرسوم، يقال فيه بعد الصلاة على النبي وعلى أمير المؤمنين علي وفاطمة الزهراء والحسن والحسين، وعلى الأئمة من أولادهم: «اللهم صل على عبدك ووليك وخليفتك القائم بأمر عبادك في بلادك أبي محمد عبيد الله الإمام المهدي بالله أمير المؤمنين، كما صليت على آبائه خلفائك الراشدين المهديين، الذين قضوا بالحق وكانوا به يعدلون، اللهم وكما اصطفيته لولايتك واخترته لخلافتك، وجعلته لدينك عصمة وعمادا، ولبريتك موئلا وملاذا، فانصره على أعدائه المارقين، وافتح له مشارق الأرض ومغاربها كما وعدته، وأيده على العصاة الضالين، إنك أنت الحق المبين.» وكانت أوامر المعز «تنفذ من أقصى الشام والحجاز إلى السوس الأقصى.» ويقول ابن الخطيب:
32
إن المعز لدين الله
33
كان أعظم ملوكهم خطرا، وكان بعيد الصيت، عظيم الجبروت، وقورا كثير التأني، ذهب بنفسه كل مذهب، حتى زعموا أنه أمر المؤذن أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن معدا رسول الله، وأن مما يشهد لذلك قول شاعره أبي القاسم محمد بن هانئ الأندلسي في القصيدة الشهيرة التي أولها:
أتظن راحا في الشمال شمولا
أتظنها سكرى تجر ذيولا
ويقول من أبيات غير متوالية:
أمديرها من حيث دار لطالما
زاحمت تحت لوائه جبريلا
أورثته البرهان والتبيان وال
فرقان والتوراة والإنجيلا
وعلمت من مكنون علم الله ما
لم يؤت في الملكوت ميكائيلا
لو كنت آونة مبشر أمة
34
نشرت لمبعثك القرون الأولى
لو كنت نوحا منذرا في قومه
ما زادهم بدعائه تضليلا
لله فيك خفية لو أعلمت
أحيا بذكرك قاتل مقتولا
لو كان آتي الخلق ما أوتيته
لم يخلق التشبيه والتمثيلا
والكتب لولا أنها لك شهد
ما فصلت آياتها تفصيلا
لولا حجاب دون علمك حاجز
وجدوا إلى علم الغيوب سبيلا
لو لم تعرفنا بذات نفوسنا
كانت لدينا عالما مجهولا
وإذا أحسنا الظن بالمعز - وهو في قوم أكثرهم على خلاف مذهبه يضمرون له ولدولته السوء - نقول: إن هذه مبالغة شاعر كان الأولى بالملك الفاطمي ألا يقره عليها؛ لأن إشاعتها مما يضر بسياسته، وإذا أسأنا الظن نقول: إنه أوعز بعمل هذه الأبيات، أو كان على الأقل لا يرضيه غير هذا اللسان، وهذا الإغراق في مدحه، والمعز هو الذي صحت عزيمته على فتح مصر بعد أن غزتها جيوش دولته غير مرة، وكان فتحها على يد مولاه القائد جوهر الصقلي الذي قطع خطبة بني العباس عن منابر الديار المصرية، ونزع اسمهم من السكة، وعوض عن ذلك باسم مولاه، وأزال الشعار الأسود، وألبس الخطباء الثياب البيض، وأمر بالزيادة عقيب الخطبة «اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وصل على الأئمة الطاهرين آباء المؤمنين.» وأذن بحي على خير العمل، صيغة الأذان الشيعي، ولما دخل المعز إلى مصر أمر بأن ينقش على الجدران في مصر القديمة «خير الناس بعد رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.»
35
قيل: إن الجيش الفاطمي لما دخل مصر كان مائة ألف، وقيل مائة وأربعين ألف مقاتل، معه ألف وخمسمائة جمل تحمل الذهب فقط، ذكروا أنه كان ثلاثة وعشرين ألف ألف دينار، وهو مبلغ عظيم يدل على اشتطاط الفاطميين في سلب من حكموهم من الأفارقة مدة ليفتحوا بما جبوا مصر ويمتدوا منها إلى الحرمين، ثم يضعون أيديهم على الملك العباسي، واستكثر الفاطميون من العساكر بمصر فكانوا بين كتامة وبربر ومغاربة وروم وصقالبة عددا عظيما، قل لدولة أن جمعت مثله و«تمتاز الدولة العبيدية على من تقدمها في الأمر بكونها تأسست بدعوة الدين، والقائمين بنصرتها هم البربر من قبائل إفريقية.» وأقبل العبيديون في آخر أمرهم على شراء المماليك لاتخاذهم عبيدا وحراسا وبطانة، وأصبح جيشهم مؤلفا من العبيد السود والأمراء المصريين والعربان والأرمن وغيرهم، وكثر النصارى واليهود في خدمة الفاطميين على صورة مستغربة، ثم اضطهد النصارى على عهد الحاكم بأمر الله وخربت كنائسهم، ثم أعيدت إلى ما كانت، وأبقى الفاطميون أهل السنة في أعمالهم في البلاد المصرية والشامية والحجازية، ثم راحوا يستعيضون عنهم، ولا سيما عن كبرائهم، بأناس من أهل عصبيتهم الإسماعيلية، فضجت البلاد من مظالمهم، ومن فرضهم مذهبهم على أهل السنة فرضا، ومن العمال من تظاهروا بالتشيع لتسلم لهم مناصبهم، ومنهم من أبوا فنحوا عن أعمالهم.
مهد الفاطميون لخلافتهم بالبذل الكثير للشعراء وأرباب الدعاية، وأكثروا من الألقاب الغريبة، يعطونها لمن يرجون الخير منه لسلطانهم، وكان الوزراء في بعض أدوار هذه الدولة
36
يلقبون كألقاب الخلفاء فيهم، وكان ابن مماتي في الأدوار الأخيرة كالمستولي
37
على الديار المصرية ليس على يده يد، والمسمون بالخلافة من الفواطم محجوبون ليس لهم غير السكة والخطبة، ومن أظهر الظواهر السياسية في مؤخرات أيام الفاطميين أنهم كانوا يواترون نقل العمال والولاة والوزراء، مخافة أن يتأصل شأنهم في البلاد، وكانوا إذا جاء فيهم مثل المعز على جانب من الثقافة العالية لا تأخذه رحمة بمن يلاحظ أنهم مخالفوه في رأيه، فقد حرق كثيرا من أعيان مصر وأدبائها بالنار
38 - إذا جاء فيهم مثل هذا فقد كان فيهم أضعف الضعاف الفاسدين.
ولقد بالغ بعضهم في عمل الفاطميين، وتابعهم من يأخذون الأمور على ظواهرها، ولو أنصفوا التاريخ لما تحرجوا من التصريح بأن ظلم الفاطميين في شمالي إفريقية أخرجها من أيديهم على أقل سبب، واشتداد عمالهم في إيذاء الناس في صقلية منع من امتداد سلطان المسلمين في جنوبي أوروبا، حتى قال أحد المفكرين في هذا العصر:
39
إنه لم يجن أحد على الإسلام ما جناه هؤلاء العبيديون الفاطميون. ومما ذكر من مساويهم أنه في عهد أبي عبيد المهدي نصب على ولاية أوروبا؛ أي صقلية، خليل بن إسحاق الطاغية، فقضى في الحكم أربعة أعوام، ارتكب فيها من الجور والفساد ما لم يسمع بمثله، ومن ظلمه أخذ المسلمون يفرون أفواجا إلى البلاد النصرانية ويتنصرون، ولما عاد سنة 329ه إلى إفريقية كان يفتخر بمظالمه، وحضر مجلسا فيه وجوه الدولة العبيدية في قصر الإمارة، فقال: إنه قتل في إمارته ألف ألف نسمة، فرد عليه أبو عبد الله المؤدب، وكان من عقلاء الرجال في الدولة الشيعية: «لك يا أبا العباس، في قتل نفس واحدة ما يكفيك.»
وخطب للفاطميين في الحرمين (362ه)، وفي سنة 396 خطب بالحرمين للحاكم بأمر الله، وأمر الناس عند ذكره بالقيام وأن يسجدوا له، وكان الرسم أن يلقى الناس الخليفة الفاطمي بتقبيل الأرض، عادة لهم أخذوها من الفرس والإسلام لا يقرها، وخطب أمير بني عقيل للحاكم الفاطمي بأعماله كلها، وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة (401ه) وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل «الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب، وانهدمت بعظمته أركان النصب.» وخطب البساسيري (450ه) بجامع المنصور ببغداد للمستنصر بالله العلوي خليفة مصر، وأمر المؤذن فأذن بحي على خير العمل، ودامت الخطبة له سنة.
امتد ملك الفاطميين منذ قاموا بسجلماسة سنة 296ه إلى أن توفي العاضد سنة 567ه مائتين واثنتين وسبعين سنة، وظلت المنابر تخطب بأسماء خلفائهم في إفريقية إلى سنة 435ه، وفيها نبذت دعوتهم عقبى ثورة الإفريقيين على الشيعة في شمالي إفريقية، وخطب لبني العباس فيها منذ سنة 439ه، واعترف خليفة بغداد بالاستقلال للمعز الذي خلف دولة الفاطميين بإفريقية. وفي أيام الفاطميين قتل الدوقس عظيم الروم على حصن فامية من بلاد الشام (332ه)، وقتل من عسكره ألوف وأسر منهم خلق كثير، وكان يعقوب بن كلس أحد كبار وزرائهم أوصى خليفته المعز عند وفاته بأن يسالم الروم ما سالموه، وأن يقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة، وألا يبقي على مفرج بن دغفل بن جراح إن عرضت له فيه فرصة.
40
وكان المعز نصح لنائبه يوسف بن زيري لما أزمع الرحيل إلى الشرق، بعد أن فتحت مصر باسمه فقال: إن نسيت شيئا مما أوصيتك به، فلا تنس ثلاثة أشياء: لا ترفع الجباية عن أهل البادية، ولا ترفع السيف عن البربر، ولا تول أحدا من أهل بيتك، فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك، واستوص بالحضر خيرا. وكانت أبدا سياسة الفاطميين مع غير الدول الإسلامية لينة، ويقال: إن من رجالهم المتأخرين من فاوضوا الصليبيين ليسلموا لهم ملكهم الذي كان في بعض الأدوار بأيدي النساء والمتغلبين من الرؤساء، وكان يؤتى ببعضهم وهم أطفال يجلسون على سرير الملك، وفي سيرة بعضهم من القبح ما لو قسم على عدة ملوك لكان فظيعا، وإن مجد فيهم عمارة اليمني بشعره؛ لكثرة ما أغدقوا
41
عليه من الأموال والعطايا. قال ابن ظافر جامع أخبار الدولة العلوية بإفريقية ومصر والشام: إن هذه الدولة عظم خطب الاختلاف في أحوال أربابها، وقويت الشناعة بإبطال ما ادعته من انتمائها إلى العترة النبوية. قال وهم أصل القرامطة الذين كان هلاك الدين على أيديهم، وظهر خروجهم على أهل ملة الإسلام وتعديهم. كلام فيه حق وغيره. •••
لم تخل الأندلس وشمالي إفريقية أو الغرب الأقصى والأوسط والأدنى، ومصر واليمن وما إليهما، من ثائر على الخلافة العباسية أو من أمير سموه خليفة، أو من خلفاء لهم بالفعل، كانوا على جانب من القوة واستجماع أدوات الملك أمثال الأمويين في الأندلس، والفاطميين في إفريقية، ثم في مصر، وأمثال رجال دول المرابطين والموحدين والأدارسة وبني مرين والحفصيين، وجاء في بعض العصور عدة خلفاء في الأرض، ومنها خلافة سنية، وأخرى شيعية ، وثالثة خارجية، ورابعة زيدية، والقوة في مجموعها كانت للخوالف من أهل السنة.
كانت دول العرب الأولى إلى أواسط المائة الثامنة على صورتها الاستبدادية تجمع شمل الأمة في الجملة، والخير يأتيها متقطعا على أيدي الملوك العادلين، وإن لم تكن صفات العدل والحزم والعلم كل حين على مقياس واحد في كل فرد تولى الخلافة أو الملك، والنوابغ قليل عددهم في كل صناعة، فكيف بأصعب الصناعات صناعة الملك، وكان الصالح في القرون الأولى أكثر من الطالح في الملوك والزعماء، وفي القرن الرابع كثر عدد من لا يصلح للملك ولا لإدارة البلاد، وقوي الدخلاء فاستأثروا بالحكم، وبقي القول الفصل لهم في الحياة العامة، ولا حول ولا طول للخلفاء من العرب.
هذا، وعمر الخليفة أو الملك قصير، وندر أن يعمل بسيرته من يخلفه، حتى ابنه الذي رباه وأورثه ملكه، وقلما يكمل الخلف ما بدأ به السلف من عمل، أو جرى عليه من سياسة وتدبير، وفي النادر أن يحافظ الثاني على أوضاع الأول إلا فيما لا غنية عنه، وربما نفع من طالت أيامهم من الملوك على استبداد فيهم؛ لاستقرار الأمر في حياتهم، أكثر من ملوك استوفوا شروط الحكم، وما امتد أجل أحكامهم غير أعوام قليلة.
لو علت سن عمر بن عبد العزيز لدخلت خلافة الأمويين، بل الإسلام والمسلمون، في طور جديد من كل وجه، ولو طال عمر المأمون لم يعلم أحد ما كان يكون من حكمته وحنكته في دولة بني العباس، وما أعاد القادر بالله (422ه) جدة الخلافة العباسية وجدد ناموسها، وكان قد طمع فيها الديلم والترك، إلا لأن خلافته أربت على إحدى وأربعين سنة، وما أصبح الخليفة الناصر العباسي مرهوب الجانب في الهند
42
ومصر والشام والعراق، وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين، ودانت له السلاطين، إلا لأنه طالت أيامه سبعا وأربعين سنة 622ه، وهكذا يقال في الناصر الأموي الذي كانت خلافته في الأندلس خمسين سنة 300-350ه، وقل مثل هذا في المستنصر العبيدي من الفاطميين، وسنجر بن ملكشاه من السلجوقيين، وقلاوون وابنه محمد من المماليك.
قد ينطوي الخليفة أو الملك الذي تدوم خلافته على عيوب تحتمل في جانب الاستقرار الذي تنتفع به الأمة، ومن النادر أن تطول أيام الملك ولا يختلف نظر الناس في الحكم عليه، وتبدو لهم مقاتله وتظهر عيوبه، وإذا كان من نسل عظماء موقرين في الصدور، تنشأ له هيبة فيضم شمل الجماعة، كما كان من الناصر العباسي الذي دعوه أسد بني العباس
43
لإحيائه الخلافة، وكانت قد ماتت بموت المعتصم، ثم ماتت بموته.
ذكروا أن العباسيين الأولين صرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا، حتى جاء بنو الرشيد فكان منهم الصالح والطالح، ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك حقه، وانغمسوا في الدنيا وباطلها، ونبذوا الدين وراء ظهورهم، فتأذن الله بحربهم، وانتزع الأمر من أيدي العرب جملة وأمكن سواهم منهم ، وهذا الرأي لا يصح على إطلاقه في كل الدول التي قامت ثم انقرضت.
تم الملك لبني العباس بجيش خراسان الفارسي، واضمحلت خلافتهم بالجيش التركي، كان الجند الفارسي قوة الخلافة العباسية لأول أمرهم، ومن العنصر التركي بعد ذلك ضعفهم. وفي القرن الرابع كان الجيش العباسي مؤلفا من المماليك
44
الناصرية والبغائية والمسرورية والبكجورية واليانسية والمفلحية والأزكوتكينية والكيغلغية والكنداجية، نسبة لقواد لهم ووزراء من الأعاجم، كانت لهم القوة في الدولة العباسية، فأصبحت الخلافة بتدخل الفرس أولا وتدخل الترك وغيرهم آخرا، ألعوبة في أيدي كل من تتم له القوة والغلبة على غيره من الأمراء والخوارج، ولم يكن إلا قليل حتى أصبح سلطان الخلافة الفعلي لا يتعدى بغداد وما جاورها، بل أمسوا وليس لهم حتى في بغداد ولا في قصورهم وشئونهم الخاصة شيء من الاستقلال، يود كل عنصر من عناصر الجيش أن يستأثر بالسلطة دون منافسه من الأجناس الأخرى، وربما لم يكن جميع الترك والفرس ممن تمثلوا الإسلام ظاهرا وباطنا، فقد وقعت فتنة بين الأتراك والهاشميين في سنة 381 فرفع الهاشميون المصاحف على الرماح، فرفع الأتراك الصلبان على الرماح.
فسدت العصبية العربية في القرن الخامس فسادا ظاهرا، وفني الجنس العربي في الأجناس الغريبة الأخرى، حتى لا يكاد العربي يرى في المقامات العالية ، وأضعف بنو بوية الديلم، وبنو سلجوق الترك، عصبية الدولة العباسية العربية الفارسية، وانقرضت الدولة الأموية العربية من الأندلس، ولم يبق غير أقيال من العرب في المغرب بعد ذهاب الفاطميين من شمالي إفريقية ونزولهم مصر، وأخذ الصليبيون في العشر الأخير من هذا القرن يغزون بلاد المسلمين، فكان هذا العصر عصر تراجع السياسة العربية في كل مكان. وبمقتل العربي مسلم بن قريش صاحب الموصل (سنة 478ه) على يد سليمان بن قتلمش التركي - وكانت لمسلم طاعة حلب ورياستها شورى في مشيختها - انقرض الحكم العربي من الشام، أول قطر استصفاه العرب الفاتحون.
ثم دخلت البلاد في دور سياسي آخر، وأصبح الناس يعاونون كل متغلب على الملك، إذا أخلص النية في قتال الصليبيين، فحكم البلاد التركي والكردي والشركسي، وما عاد يخطر في البال إرجاع ملك العرب، فنسيت معاني القومية العربية، وماتت أو كادت روح العصبية المعروفة للقدماء، ولم يعد الملوك يعتمدون على قيس ويمن أو على إحداهما في قهر أعدائهم وتأييد سلطانهم، وأصبحت الجيوش المقاتلة والقواد والملوك من العناصر مختلفة لا تجمعها إلا كلمة الإسلام.
قرض صلاح الدين الكردي باسم نور الدين التركي دولة الفاطميين العربية في مصر فحكمها نور الدين باسم الإسلام، وحكمها بعده صلاح الدين وآله باسم الإسلام، وقامت بعد في مصر والشام دولة المماليك البحرية ودامت 130 سنة، ودولة المماليك البرجية وطال عمرها 135 سنة، وكلتاهما حكم باسم الإسلام لا باسم عناصرهما المنوعة، وجاء من هذه الدول عظماء من الرجال كنور الدين وصلاح الدين، ولم يطل عمر دولتيهما كثيرا على ما كان فيهما من الخير العظيم؛ وذلك لأن ولاية العهد لم تكن مقررة على قاعدة ثابتة، فنور الدين مثلا خلف ولدا صغيرا ارتضى به خواص أبيه ملكا، ولكن من الصعب أن يدبر طفل أمر البلاد في أحرج حالاتها السياسية، فأتى صلاح الدين نائب نور الدين في مصر وتولى الأمر في الشام بحكم الطبيعة، ولما هلك تفرق ملكه في أولاده، فاختلفوا واشتد خلافهم؛ لأنه لم يعهد إلى الكفؤ منهم بولاية العهد، ولئن كان فيهم رجال على جانب من الكفاءة، فإن اختلافهم فتح السبيل لعمهم العادل لتولي الملك.
لما مات العزيز بن صلاح الدين ملك مصر خلف ابنا عمره تسع سنين وأوصى له أبوه بالملك بعده، وسموه الملك المنصور، وتقرر أن يجعل له من يدبر أمره فجعلوا عمه الملك العادل أتابكه إلى أن يتأهل
45
للاستقلال بأمور المملكة، فقال الملك العادل: إنه قبيح بي أن أكون «أتابك» صبي مع الشيخوخة والتقدم، والملك ليس هو بالإرث وإنما هو لمن غلب، وإنه كان يجب أن أكون بعد أخي الملك الناصر صلاح الدين، غير أني تركت ذلك إكراما لأخي، ورعاية لحقه. قال: فلما كان من الاختلاف ما قد علمتم خفت أن يخرج الملك عن يدي ويد أولاد أخي فسست الأمر إلى آخره، فما رأيت الحال ينصلح إلا بقيامي فيه، ونهوضي بأعبائه، فلما ملكت هذه البلاد، وطنت نفسي على أتابكية هذا الصبي حتى يبلغ أشده، فرأيت العصبيات باقية، والفتن غير زائلة، فلم آمن أن يطرأ على ما طرأ على الملك الأفضل، ولا آمن أن يجتمع جماعة ويطلبوا إقامة إنسان آخر، وما يعلم ما يكون عاقبة ذلك، والرأي أن يمضي هذا الصبي إلى الكتاب، وأقيم له من يؤدبه ويعلمه، فإذا تأهل وبلغ أشده، نظرت في أمره وقمت بمصالحه، فوافقوه على رأيه وحلفوا له، وخلعوا المنصور الطفل وخطبوا للعادل.
كان المعقول ما تم من بيعة العادل، مستشار أخيه صلاح الدين ومؤتمنه، لبعد غوره في سياسة الدولة، أما هو فقد قسم مملكته في أربعة من أولاده، ووقعت مصر للكامل فتولاها نائبا وملكا أربعين سنة، وجرى على سنة أبيه وعمه في جهاد الأعداء وأبان عن كفاءة ظاهرة، وكان يخطب له بمكة (مالك مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العلامتين، خادم الحرمين الشريفين، الملك الكامل أبو المعالي ناصر الدين محمد خليل أمير المؤمنين)، وكان أولاد
46
العادل كالنفس الواحدة باتفاقهم. قال ابن الأثير فيهم «فلا جرم زاد ملكهم، ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم، ولعمري إنهم نعم الملوك ، فيهم الحلم والجهاد والذب عن الإسلام.»
وكان ملوك دولتي المماليك أشبه برؤساء عصابات متغلبة، وقد جاء منهم من كانوا يحسنون السياسة، ومنهم من حملوا على رقاب الناس الخصيان والنسوان والصبيان، «ولم
47
يكن نظام الوراثة مألوفا عند المماليك؛ فقد كانوا يعتقدون أنه لا فضل لأحد على الآخر إلا بالمهارة الحربية؛ وكثرة الأتباع والحذق في تدبير المؤامرات.» وما كانت مع هذا دولة المماليك أقل غناء من كثير من دول الأحرار وأدعياء الشرف.
ولم يسمع بعد عصر المماليك بظهور قائم من العرب، حتى قام فخر الدين المعني الثاني في القرن الحادي عشر، فاستولى على لبنان وأكثر الساحل الشامي، يرضي العثمانيين بما أمكن من إتاوة، ويعطي السلطان طاعته، فقتلته الدولة، وقام في القرن التالي في جزيرة العرب عبد الله بن سعود، فاستولى على نجد والحرمين، ثم أخذه العثمانيون أيضا وقتلوه (1233-1818م) ومزقوا ملكه، وما سمع بعد ذلك صوت لعربي تحدثه نفسه بالحكم في العراق والشام والجزيرة ومصر وغيرها، وصفت كلها للترك العثمانيين بدون منازع.
سياسة الترك العثمانيين
عشيرة من عشائر الترك جلت من تركستان على عهد جنكيزخان، وضربت في الأرض معرجة على بلاد فارس، آخذة إلى سمت الغرب، تنتقل من إقليم إلى إقليم، حتى ألقت رحالها في صميم آسيا الصغرى، وأنشأ رئيسها عثمان بن أرطغول سنة 699ه، إمارة صغيرة في أرض الدولة السلجوقية، وكان أنشئ على أنقاضها في الأناضول ثلاث عشرة دولة كانت إمارته إحداها، كبرت مع الأيام حتى غدت سلطنة عظيمة، تملك أجمل الأقطار في آسيا وأوروبا وإفريقية، هذا تعريف الدولة العثمانية التي كان رأس مالها يوم نشأتها شجاعة رئيسها وآله، وطاعة مرءوسيها ونجدتهم. وضع العثمانيون - أي المنسوبون لعثمان - أساس مملكتهم في جوار «سكود» و«ابنه كول» أولا، ثم استولوا على «فبورسا»، واتخذوا هذه قاعدة بلادهم، ولما رأى إمبراطور القسطنطينية «يان كنتاكوزن» قوة هذه الإمارة الإسلامية في جواره، وأن أورخان ثاني ملوكهم فتح «بولاير» و«كليبولي» و«تكفور طاغي» من غرب بلاده، عقد معه صلحا وزوجه من ابنته تيودورا، وجاء السلطان العثماني إلى «اسكدار» على الشاطئ الآسياوي من فروق، وهناك زفت إليه، فكان أول ملك عثماني تزوج من غريبة عن دمه، مخالفة له في عادها ودينها. وظهر من مجرى الحوادث أن العثمانيين كانوا على اتصال وثيق بالروم، ولهم مع زعمائهم وقوادهم
48
صلات كانت تزيد على الأيام استحكاما، بدأت منذ استولى آل عثمان على بروسا، ولما ضموا إلى إمارتهم إمارة «قرة سي» على عهد أورخان، أنشأوا بحرية تفوق أساطيل الإمارات الأناضولية الأخرى، كما كان لهم جيش بدئ بتنظيمه على عهد أورخان أيضا.
كان على العثمانيين أن يستولوا على عشر إمارات تركية صغيرة، قامت في آسيا الصغرى في جوارهم، ولكنهم وجهوا إلى غاية أخرى، وجهوها إلى أرض أوروبا، وبعد الاستيلاء على مفاتح الدردنيل بفتح كليبولي وما إليها فتح ثالث ملوكهم فيلبه وأدرنة ونقل إلى هذه عاصمته، يريد بانتقاله من بروسا أن يؤسس دولة شرقية في أرض الغرب. وساعد السلطان مراد الأول على انتصاره في قارة أوروبا ما كان من التنافس المتبادل
49
بين دول البلقان؛ أي بيزنطية ومملكتي البلغار والصرب، وما كان من التطاحن بين حكومتي البندقية وجنوة على التفوق في الشرق، وما كان من غيرة الباباوات لإرجاع الكنيسة اليونانية إلى حجر كنيسة رومية، فكان للعثمانيين أنصار في معسكرات النصارى نفسها. ولما
50
رأت دول أوروبا توسع مراد الأول (791ه) في فتوحه عقدت بينها تحالفا على العثمانيين، ودخل في هذا الحلف ملوك الصرب والبجناكية (البشناق) والبلغار والأفلاق والبغدان والمجر والبولونيين والتشكيين، وهاجموا العثمانيين في مائتي ألف جندي في صحراء قوصوة،
51
فارتدوا خاسرين، وقتل ملك الصرب وغيره من أمرائهم في المعركة، وصفت تلك البلاد لبني عثمان، واتفق بعد قليل من الزمن أن قام تيمورلنك حليف صاحب القسطنطينية، وكانت حكومات النصرانية تحاول منذ قام العثمانيون بفتوحهم الأوربية أن يكون لهن حلفاء من ملوك آسيا؛ لصد غارات بني عثمان، فداهم تيمورلنك بلاد آسيا الصغرى، وقاتل بيلديرم بايزيد رابع ملوكهم، وأسره فمات في أسره بعد أشهر قليلة، وتمزقت مملكة العثمانيين، وكان يخشى أن تدرج مع الدول البائدة لولا قيام محمد الأول لضم شتاتها، فعد بعمله العظيم المؤسس الثاني للدولة العثمانية، وما كان بايزيد أسير تيمورلنك بالملك الذي يستهان بقوة شكيمته، لقب بالصاعقة (بيلديرم)؛ لمبادرته إلى الزحف وتسرعه في أعماله، فقد فتح بلاد اليونان وحاصر القسطنطينية عشر سنين، وضرب الجزية على إمبراطورها، مشترطا عليه أن يخص المسلمين بحي من أحياء القسطنطينية، ويسهل لهم السبل لإنشاء جامع وإقامة قاض يحكم بينهم، فلما زحف تيمور على بلاده أبطل صاحب الروم ما كان تعهد به لبايزيد، وكان خف سجسموند ملك المجر في جيش من المجريين والألمانيين والفرنسيين لرفع الحصار عن القسطنطينية، فانقض عليهم بايزيد انقضاض الصاعقة وهزمهم شر هزيمة في نيكبولي على نهر الطونة (الدانوب).
وسار مراد الثاني على قدم أجداده فتوسعت فتوحه في آسيا الصغرى، وأسر في أولوباد إمبراطور الروم وحمله إلى أدرنة فصلبه فيها، ولم يبرح يغادي القسطنطينية القتال ويراوحها، ويحاصرها فيضيق حصارها، ثم اعتزل الملك وبويع لابنه محمد بالسلطنة، وكانت الدولة أمام مشاكل خطيرة فخاف رجالها أن يضعف السلطان الفتى عن صد هجمات الأعداء؛ لصغر سنه وقلة تجاربه، فاتفقوا معه على أن يرجع والده إلى السلطنة فعاد من عزلته بعد الإلحاح، وقاتل جيوش التحالف المجري الألماني البجناكي الأفلاقي البغداني فشتت شمله في صحراء قوصوة، ثم عادت جيوش النصرانية فجيشت على العثمانيين جيشا مؤلفا من المجريين والبولونيين والتشكيين وغيرهم، قدر بمائة وخمسين ألف جندي، فهزمهم شر هزيمة وقتل كثيرا من ملوكهم وحكامهم.
ولما جاء سابع ملوكهم محمد الثاني يتولى زمام السلطنة كان أجداده قد فتحوا أمامه السبل للاستيلاء على القسطنطينية بما فتحوه في أطرافها من البلاد، فحاصرها برا وبحرا، وساعدته المدافع التي كان جيشه مجهزا بها، وكان اختراعها حديث العهد، وبعد معارك دامية قتل فيها قسطنطين دراكا كيس آخر إمبراطرتها، فتح الترك القسطنطينية (857-1453م)، ولقب محمد الثاني بالفاتح، وغدت هذه العاصمة الجميلة عاصمة العثمانيين إلى آخر أيامهم، بعد أن كانت عاصمة الروم نحو ألف سنة، وعد فتحها مبدأ عهد سياسي جديد أرخ به المؤرخون؛ ذلك لأنه قضى على المملكة البيزنطية الشرقية التي طالما صاولت المسلمين منذ عهد الراشدين والأمويين والعباسيين. وبفتح القسطنطينية أصبحت الدولة مرهوبة الجانب موقرة السلطان، وتوقع الغرب منها أحداثا جديدة تنبعث من الشرق الجنوبي في أوروبا، على نحو ما كان من دولة العرب الأندلسية في الجنوب الغربي من تلك القارة، وحسب فتح القسطنطينية
52
من أعظم حوادث التاريخ في العالم، وأثر في حالة أوروبا السياسية، وبه كتب التفوق للأتراك في الشرق قرونا، وكان منه على اليونان مصيبة كبيرة دامت تأثيراتها إلى عهد الثورة التي قاموا بها في النصف الأول من القرن الماضي، وأوشك هذا الحدث العظيم أن يبدل مجرى التاريخ، واصطلح العلماء على أن جعلوا من أيام شهري نيسان وأيار (أبريل ومايو 1453) تاريخا عظيما ختمت به القرون الوسطى وبدأت العصور الحديثة.
وتوسع الفاتح في فتوحه على البحر الأسود، ففتح مملكة طربزون الرومية في سنة 1461، واحتل عدة جزر من جزائر البحر المتوسط، وكان يرمي إلى فتح جميع شبه جزيرة البلقان، وخلفه ابنه بايزيد الثاني فما حاد عن خطة التوسع فاستولى على ألبانيا وغيرها، وخرج عليه أخوه «جم» والتجأ إلى قايتباي ملك مصر والشام، فاستاء بايزيد مما عومل به أخوه في بلاد العرب، واتخذ من إيواء مصر أخاه حجة على قتال المماليك في أرجاء أذنة وشمالي الشام، كانت الغلبة في عدة وقائع للمماليك، فاستخلصوا من الترك عدة حصون، وأسروا جماعة من كبار قوادهم، وسبب هزيمة الترك أن الدولة العثمانية كانت منذ عهد محمد الأول إلى أيام بايزيد الثاني تصرف قوتها في قتال أوروبا.
ثم قام تاسع سلاطينهم سليم الأول واستجاش على الشاه الصفوي صاحب العجم، فتغلب عليه في وقعة جالديران، وفتح تبريز وهمدان وأذريبجان والقوقاز، وانقلب فجأة نحو بلاد العرب ففتح في طريقه ديار بكر وما إليها، وقضى على مملكة ذي القدرية في أنحاء مرعش والبستان، وتقدم إلى الشام فالتقى بالغوري ملك مصر في مرج دابق من عمل حلب، والتحم بينهما القتال فكانت الغلبة للسلطان العثماني، وقتل الغوري في المعركة واختفى أثره، ودخل سليم الشهباء فلقبه الخطيب في خطبة الجمعة مالك الحرمين الشريفين، فقام السلطان من محله ، وتقدم إلى الخطيب بقوله: أنا أقل من أن أملك الحرمين الشريفين، ومفخرتي أن أكون لهما خادما.
وبهذه الوقعة الفاصلة فتحت الشام، ومنها سار الفاتح إلى مصر برا فاستولى عليها، وأمن ملكها طومان باي آخر ملوك المماليك ثم قتله، وأرسل إليه شريف مكة يبذل له الطاعة، فدخلت الحجاز أيضا في ملكه، وأضحت مملكته بهذه الأقطار التي افتتحت توازي بمساحتها ضعفي المملكة التي فتحها أجداده الثمانية. وفي عهد ابنه سليمان القانوني عاشر ملوكهم فتحت اليمن والحبشة والعراق وطرابلس وبرقة وتونس والجزائر والصحراء الكبرى والسودان، وبفتح العراق أصبح السلطان العثماني بحق «سلطان البرين والبحرين»، وحاول سليمان
53
الاستيلاء على الغرب الأقصى وأرسل إلى سلطانها اثني عشر فاتكا من فتاكه سنة 964 فاغتالوه، إلا أن سلطان الأتراك لم ينبسط على تلك البلاد، وغاية ما في الباب أن شريف مراكش اعترف بسلطان العثمانيين
54 (1580م)، وعلى هذا ضمت البلاد العربية في آسيا وإفريقية إلى السلطنة العثمانية كما كان دخل فيها بلاد الروم والأفلاق والبغدان والبلغار والبجناكية والمجر والصرب والأرناؤد والقفجاق والقرم واللاز والكرد، فتم دور الفتوح.
أعان العثمانيين على فتوحهم البحرية بعض من تطوعوا في خدمتهم من قرصان البحر،
55
وما كتب قط للدولة تفوق عظيم بأساطيلها، وسارت البحرية
56
العثمانية بشجاعة ربابينها أكثر من سيرها بعددها ونظامها، على أن السلطان سليما بذل جهودا كثيرة لترقيتها، وجرى ابنه سليمان على خطته، فارتقت ارتقاء عظيما على عهد سليمان بكثرة مراكبها ومدفعيتها وعدد بحارتها، ولكن الإخفاق كان حليفها أكثر من النجاح، بخلاف الجيش فإن نجاحه كان باهرا، والتوفيق حليفه في معظم ما خاض غماره من حروب، وفي موقعة لبانتو (إينه بختي)، وفيها حاربت الدولة أساطيل إسبانيا والبندقية وجنوة بإيعاز البابا (1571م)، وفي الحروب البحرية في البحر الأسود مع روسيا، برهان على هذا الضعف البحري، ولولا أن الدولة تقدمت وفتحت قطعة صالحة من مملكة بيزنطية من غربي الآستانة وفتحت مملكة طربزون على البحر الأسود، لصعب عليها استبقاء هذه العاصمة، وأوروبا لم تفتأ تتابع إرسال أساطيلها عليها لإنقاذ بيزنطية، بل لإنقاذ النصرانية من غارات العثمانيين؛ ولذلك كانت الدولة أبدا ترعى جمهورية البندقية اتقاء أسطولها، وأصبحت في آخر أيام سليمان الأول بين جارتين عظيمتين يخشى بأسهما، مملكة النمسا في أوروبا، والدولة الصفوية في آسيا، ولكن الدولة العثمانية أصبحت مؤلفة من ثلاثين مملكة تمتد من جون البنادقة إلى خليج فارس، ومن جبال الكاربات إلى النيل.
كان القصد من ظهور سليم الأول بمظهر جديد لم يظهر فيه أجداده، ونعني به فتح بلاد العرب الذي أكمله ابنه سليمان، جمع شمل المسلمين تحت علم واحد، وإنقاذ الخلافة الإسلامية،
57
وكانت أصبحت ولا راعي لها، ولو ساعده الأجل لغدت معظم ممالك آسيا وإفريقية في سلطانه، ولغدت الهند وفارس وتركستان من جملة بلاده، ولاستطاع أن ينقذ أمنيته في جعل اللغة العربية لغة الدولة العثمانية الرسمية، يرضي بذلك جميع العناصر المسلمة ويؤسس مملكة إسلامية لا نظير لها، وينقذ الدولة من غوائل التطاحن مع أوروبا على الدوام، من أجل استبقاء بلاد نصرانية لا رابطة بينها وبين العثمانيين في الدين، ولا في العنصر ولا في المدنية، وكأن الترك بعد أن شبعوا من مغانم البلاد التي افتتحوها في أوروبا سمت بهم هممهم أن يتعرفوا إلى عالم آخر يعيشون بغنائمه مدة.
يقول جايار:
58 «كان الإسلام صريحا في المؤاخاة بين الناس، واسع المدى في فهم معنى الحياة، بدأ به عهد جديد كان فيه للعرب وكثير من شعوب الشرق نحو عشرة قرون، مبعث نهضة ودور فلاح وعظمة وغنى، وبعد أن بلغت المدنية العربية قمة مجدها بتأثير الإسلام السعيد، وبما في تعاليمه من الفضائل، نشأت إمارة صغيرة لعثمان (عثمانجق) تألف منها في أقل من قرنين أعظم مملكة وأوسعها حولا، امتد سلطانها في أوروبا وآسيا وإفريقية وبفضل «اده بالي» و«جاندارلي» واجتماع الفكر الإسلامي، وقوة جيش عثمان وبايزيد والفاتح وسليم فشل التحالف الذي عقدته عدة ممالك، وأسست دولة امتدت من نهر الدون وبحر أزوف إلى مدينة فينا، ومن مراكش إلى أبواب الهند حيث وضع الإسلام قواعده.»
وقال كرامر:
59
إن الفتوح العثمانية السريعة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر لم تكن تشبه فتوح جماعة من البربر، بل كانت تحقيقا لخطة مرسومة في أذهان عظماء الفاتحين، أمثال بايزيد الأول، ومحمد الثاني، وسليمان الأول، وبعض رجال دولتهم، وكان من أثر الفتح في تلك العصور أن انبعث طراز من المدنية ظهر في مظهره الأخير في القرن السادس عشر. •••
كان سليم الأول أسر في وقعة مرج دابق الخليفة المتوكل العباسي الذي رافق الغوري من مصر، وكانت الخلافة العباسية انتقلت من بغداد إلى القاهرة بعد مقتل آخر ملوك بني العباس على يد هولاكو، وأمسى الخليفة العباسي في مصر، وليس له من عمل إلا أن يصادق على أعمال الملك، والملك يجري عليه ما يعيش به، دام هذا الترتيب مدة استيلاء المماليك على مصر، فحمل السلطان العثماني هذا الخليفة إلى دار ملكه في الآستانة، وكان أحد أجداد هذا الخليفة منح أحد أجداد الملك العثماني، وهو بيلديرم بايزيد، لقب سلطان، وقيل: إن الخليفة العباسي نزل للسلطان العثماني عن الخلافة في جامع أياصوفيا، وقيل: إنه لم يعرض له بشيء في هذا الشأن، وقيل: إن الخليفة العباسي سجن في «يدى قله»
60
في ظاهر الآستانة، وإنه عاد إلى مصر بعد مهلك السلطان سليم، ولقب السلطان التركي بلقب الخلافة منذ فتح بلاد العرب، وخفقت رايته على الحرمين الشريفين. ويقول أرنولد من علماء المشرقيات الإنجليز:
61
إن مراد الأول هو الذي لقب بالخلافة لما فتح أدرنة وفيلبه، وإن العثمانيين وغيرهم من الملوك كانوا يخاطبون بالخلافة، وقبل أن ينقل السلطان سليم من مصر الخليفة المتوكل، كان أجداده اعتادوا منذ قرن ونصف أن يلقبوا بالخلافة، وبعد قرنين لم يبق في ملوك الإسلام من يستحق أن يطلق عليه اسم الخلافة غير سلطان العثمانيين وإمبراطور المغول في الهند؛ وذلك لسعة بلادهما وامتداد سلطانهما، وادعى غيرهما هذا اللقب عن غير استحقاق، ولما سقطت دولة المغول في الهند خلال القرن الثامن عشر أصبح السلطان العثماني أعظم ملوك المسلمين في الأرض، وطلبت كاترينا الثانية في معاهدة «كوجك قينارجة»، التي عقدت بين تركيا وروسيا أن يكون لدولة القياصرة الحق في حماية الروم الأرثوذكس في بلاد العثمانيين ، فاقترح سفراء العثمانيين أن يذكر في شروط الصلح أن للخليفة العثماني الحق في حماية التتر المسلمين. قال: وقد كثر بعد ذلك التلقب بالخلافة، والظاهر أن عبد الحميد الثاني أرسل دعاة إلى العالم الإسلامي يوطدون له الدعوة إلى الخلافة.
وبينا كانت الشعوب النصرانية إلى آخر القرون الوسطى لا يفتحون بلادهم إلا لمن انتحلوا النصرانية، كان العثمانيون يرعون النصارى في بلادهم، عملا بطريقة الدول الإسلامية التي تقدمتهم، بيد أن آل عثمان عملوا على نشر الإسلام منذ عهد أورخان؛ ليكثروا سواد المسلمين في بلادهم، ولاسيما في الولايات الأوربية، فكانوا إذا أسروا أولاد النصارى من البجناكية والروم والصرب والبلغار والألبان يربونهم تربية إسلامية، ثم يجندونهم في جيش الإنكشارية،
62
ولا يتعرضون لأبناء الروم والأرمن من سكان ساقز ورودس. وانتشر الإسلام في رومانيا وبلغاريا وألبانيا وصربيا واليونان بقبائل من التتر أنزلتهم الدولة في معسكرات أنشأتها في قواعد البلاد الكبرى، أو في الحصون المشهورة، على نحو ما فعل محمد الثاني فأنشأ (سنة 1466م) في إيلبصان من بلاد الأرناؤد مستعمرة إسلامية كبرى، وانتشر الإسلام في بلاد الصرب والخروات بعد وقعة قوصوة بإسكان قبائل تركية رحالة فيها، وبطبقات من الجند المسلم رابطت في بلغراد.
ولما فتحت ألبانيا هاجر من أهلها إلى صقلية وقلورية والبندقية وجنوة ومرسيلية وإسبانيا بضع مئات الألوف من أهلها، وما لبث أن أسلم ثلثا الباقي من أهل البلاد، لما رأوا زعماءهم ومقدميهم يسارعون إلى الإسلام. ولما فتحت البوسنة والهرسك الفتح الأخير على عهد محمد الثاني
63
دخل نصف أهلها في الإسلام، وقيل: إن الإسلام دخل ألبانيا وتراكيا ومقدونية حتى بلغ أوخريدة على يد درويش تتري اسمه «صاري صالتق» من تلاميذ رجل من الصلحاء اسمه حاجي بكتاش، وانتشر الإسلام في بسارابيا ودوبرويجة وفي المجر. ومنذ القرن السادس من الهجرة
64
كان في بلاد الهنكر أو هنغاريا أو المجر طوائف من المسلمين أسلموا على أيدي أناس من مسلمي بلغاريا سكنوا بينهم.
لا جرم أن العثمانيين بذلوا جهودا غير قليلة في ولاياتهم الأوربية لنشر الإسلام بطرق من الدعاية يجيزها الدين، ولا تخالف أصلا من أصول حرية الأديان، فمزجوا السكان بجاليات كثيرة من التتر استدعوهم من بلاد الترك في آسيا، وسهلوا لهم سبل الهجرة والاستيطان. ودولة حكمت بلادا بضعة قرون لا بد أن تبقي فيها أثرا من دينها وعاداتها ولغتها، وكان هذا الأثر ضئيلا في المجريين والرومانيين والصربيين، وكثيرا في الألبانيين والبجناكيين والبلغاريين. يقول لاموش:
65
إن الأتراك ليسوا متعصبين في ذاتهم، إن لم تهجهم أمور خارجية أو يأتهم أمر صادر من مقام سام، وإذا بدا في تضاعيف تاريخهم أنهم ارتكبوا فظائع ومذابح، فهذا كان للاستيلاء على بعض الحصون خلال حروبهم، أو عندما كانوا يريدون قمع ثورة، أو يحاولون انتقاما عن فظائع يقابلون بها خصومهم بالمثل، ويندر جدا إكراه العثمانيين أحدا من النصارى على انتحال الإسلام؛ ذلك لأن المسلمين أدركوا أن إخراج غير المسلمين إلى دين الإسلام مخالف لمصلحتهم، فيقل عديد من يؤدون الجزية فيضمحل العاملون الخاضعون لإرادتهم، وبدافع نفسي وقع إسلام جماعات كثيرة من أهل البوسنة وألبانيا وإقريطش، رأوا التمذهب بالإسلام من مصلحتهم، ودان الأشراف وأرباب الأملاك الكبرى ممن أصبحوا «بكوات» فيما بعد، دين الفاتح، وجاراهم أتباعهم في هذا الشأن للاحتفاظ بأملاكهم وامتيازاتهم، وقد أدرك محمد الثاني بما رزق من بعد نظر في السياسة أن الواجب رعاية النصارى وإدخالهم في أعمال الدولة بقدر ما تسمح به الشريعة الإسلامية، ولم يبق من جميع أوضاع الإمبراطورية الشرقية الرومية غير أوضاع رجال الدين يتمتعون بمراتبهم وتراتيبهم، وجعل بطريرك الآستانة مرجعا للروم في بلاده. ا.ه.
وبعد، فلم يخرج العثمانيون في معاملتهم غير أبناء مذهبهم عن حد ما رسمته الشريعة الإسلامية، وما كان الحكم التركي الذي امتد ظله إلى المجر ظالما ولا قاسيا كما قال كستلو:
66
فقد كان العثمانيون يرعون أديان الشعوب المحكومة ويحترمون عاداتها، وظلت تركيا متمسكة بهذه القاعدة إلى القرن العشرين، وما تعمدت قط أن تتمثل العناصر، بل اكتفت بإدارتهم وفرض الضرائب عليهم. قال: ورأينا الشعوب التي خضعت لحكم السلطنة أضاعت قوميتها، وكانت مع هذا أيام استبعادها أسعد حالا من العصور المضطربة المحاربة أيام استقلالها ، وربما لم تربح إلى اليوم من هذا التبدل في الحكم، وهم على كل حال يتألف منهم خطر دائم على أوروبا، وقد خلفت المسألة البلقانية المسألة الشرقية من دون ما فائدة تعود على راحة الغرب. ا.ه.
لم يصل تتريك العناصر التي خضعت لسلطان العثمانيين في البلاد الأوربية إلى أكثر مما بلغه في بلاد العرب، ورأينا أرمن الأناضول تركوا لسانهم وأصبحت التركية لغتهم الوطنية، فسطت اللغة التركية على الأرمن النازلين في السهول؛ لامتزاجهم بالترك منذ عهد السلجوقيين، وسلمت لسكان الجبال في إرمينية لغتهم بعض السلامة، وتترك
67
الروم العثمانيون كالأرمن، وتترك أرمن الآستانة في كل مظاهرهم وعاداتهم، حتى ما يميزون عن الأتراك، ولذلك كان غلاة القومية التركية يفضلون الأرمن على العرب المسلمين؛ لأن هؤلاء عصوا على التترك.
استفاد الترك من اتخاذ مدينة القسطنطينية عاصمة لملكهم مدنية جديدة، أخذوا يتقلبون في أوضاعهم؛ ولكنهم أضاعوا بعض صفاتهم في التمسك والتقشف، وكان إليهما ينسب أكثر نجاحهم ونجاح كثير من الدول التي قامت في المشرق؛ ذلك لأن بيئة فروق وبيئة بالترف، مذ كان الروم سلاطينها، فهي جنة حفت بالشهوات، ومن الصعب أن يسلم نازلها من عوامل الافتتان، وإذا قدر له أن يحتفظ بعاداته ومتانته، فأولاده أو أحفاده يتخلقون بأخلاق البلد الذي نشئوا فيه لا محالة، وقد تبدلت أخلاق العثمانيين باختلاطهم بعناصر غير شرقية، فأصبحت حياتهم تتطلب مطالب جديدة، واعتبر سلاطين آل عثمان أنفسهم ورثاء إمبراطرة بيزنطية فأخذوا بمصطلحاتهم وبكثير من عاداتهم، وتجافوا عن بعض ما كان لهم من عادات، وبخاصة ما كانت تتجلى به أبهة السلطان وبذخه وعزه في مواكبه وقصوره. يقول «أوهسون»: إنه لم يكن يقل عدد من في القصر السلطاني في آخر القرن الثامن عشر عن اثني عشر ألف رجل، فيهم الضابط والخصي الأبيض والأسود والغلام والحاجب وغيرهم.
كان مراد الأول أول ملك عثماني
68
رقيت في أيامه المملكة التي وضع عثمان أساسها إلى مستوى أرقى من مستوى إمارة تركمانية؛ أي من الطراز الذي كانت عليه تلك الإمارات في آسيا الصغرى، وكان على جانب من التدين والعدل، وكذلك كان مراد الثاني (855ه) وقد وصفه مؤرخو بيزنطية
69
وغيرهم من مؤرخي النصارى بأنه ملك عادل حليم، جاءه العلماء من العراق وفارس فانضموا إلى جملته، وأدخلوا في الآداب التركية روحا جديدا، وكان أول سلطان عثماني جعل بلاطه مثابة للشعراء والأدباء والعلماء من المسلمين، وعلى ذلك جرى خلفاؤه ولا سيما محمد الفاتح، فإنه فتح أبواب عاصمته للعلماء والأدباء، يستدعيهم من الأقطار لنشر الثقافة الإسلامية، وكان سليم الأول يحسن عدة لغات، وينظم الشعر بالتركية والعربية والفارسية، وكذلك ابنه سليمان أدرك ما بدأ من تباشير النهضة الغربية الحديثة في إيطاليا وفكر في الاشتراك بها. ويقول «روبرتسون»: إن السلطان سليمان فاق سلاطين الدولة العثمانية بخصاله الحميدة الجليلة ومشروعاته العظيمة وفاقهم أيضا بنجاحه وظفره بأعدائه، قال: وكفى عصره فخرا أن ظهر فيه أعظم الملوك الذين ظهروا إلى ذلك العهد في أوروبا، ولو كان السلطان سليمان، والبابا ليون العاشر، والإمبراطور شارلكان، والملك فرنسيس الأول، والملك هنري الثامن قد ظهروا في أعصر مختلفة، لكانت معارف كل واحد منهم تكفي العصر فخارا، فما بالك وقد ظهروا كلهم كالكواكب الساطعة في القرن السادس عشر، فكان لهذا القرن من الرونق والبهجة ما لم يسبق لغيره من القرون. ا.ه. وكانت لمعظم السلاطين ثقافة شرقية يشاركون في مسائل كثيرة ويثقفون في قصورهم ثقافة دينية وسياسية. •••
أخذ الضعف يتسرب إلى الدولة في النصف الأخير من أيام سليمان القانوني الطويلة، وقال بعضهم: إن عهد الانحطاط بدأ في دور محمد الثالث (1012ه) على كثرة ما وفق إليه من الفتوح، وعلى ما كان من تعلقه بأحكام الشريعة ومعاقبته على المسكر وتضييقه على الحانات، ومنذ وفاة سليمان القانوني
70 (1566م) إلى تولي سليم الثالث (1787م) الذي حاول إدخال الإصلاح على الدولة، لا نحصي من سبعة عشر سلطانا سوى محمد الثالث، ومراد الرابع، ومصطفى الثالث كانوا على صفات تؤهلهم للحكومة والسلطنة، وإن كان من هؤلاء الثلاثة من فطر على قسوة ظاهرة، فقد قتل مراد الرابع صدرين أعظمين خسرو ورجب وكانا من عظماء رجال الدولة، بدون سبب معقول، وربما كان هو وبعض آله يقتلون حبا بالقتل، واتفق أن اعتبط بعض من كان يرجى منهم الخير للملكة من السلاطين، وكثير منهم كانوا أطفالا عندما جلسوا في دست السلطنة، فما كانت سن أحمد الأول وعثمان الثاني أكثر من أربع عشرة سنة، عندما بويعا بالسلطنة، وكان عمر مراد يوم مبايعته اثنتي عشرة سنة، وكان لمحمد الرابع سبع سنين، دع من كان من هؤلاء السلاطين أغبياء، ومثل هذه الطبقة من الملوك تسهل الحكم للنساء والندماء فتقع الفوضى في الجيش، وقد تجلى انحطاط الدولة في القرن الثامن عشر، وإن كتب لها أن ظفرت بالروس في حرب سنة 1711 و1732م.
ولعله يعد من الأسباب الجوهرية في الانحطاط تغير الدم السلطاني في آل عثمان تغيرا كبيرا؛ لكثرة
71
ما اقتنوا من السراري والجواري النصرانيات، فكان سليم الثاني نصف روسي؛ لأن أمه روسية، ومحمد الثالث نصف بندقي؛ لأن أمة بندقية، وعثمان الثاني ومراد الرابع وإبراهيم الأول أنصاف أروام؛ لأن أمهاتهم روميات، وكثر عدد من تولوا أعمال السلطنة ممن دانوا بالإسلام من نصارى الروم والألبان والصرب والبلغار. وعلى عهد سليم الثاني كان من ثمانية رجال تولوا الصدارة العظمى ستة من المهتدين إلى الإسلام حديثا، فيهم الجنوي والبجناكي واليوناني والروسي، وكان في المناصب العالية الطلياني والمجري وغيرهما. أصاب العثمانيين في العصور الحديثة ما أصاب العباسيين في العصور الوسطى من تغير الدم العربي فيهم، لما غلوا في الاستكثار من اقتناء الجواري الروميات والفارسيات يستولدونهم أبناء الخلفاء، وبذلك كثر الهجناء وقل الصرحاء.
ويرى مؤرخو الإفرنج أنه جاء من سلاطين آل عثمان منذ القرن الخامس عشر إلى القرن السادس عشر من كانوا عظماء حقا، وأن سليمان القانوني كان من طرازهم، لكن خلفاءه استرسلوا في الرذائل والشهوات، فكان سليم الثاني شريبا خميرا فلقب بسليم السكير، وكان مراد الثالث قاتل إخوته الذي قتل ثلاثة عشر أخا له وعشر نساء حاملات من أبيه، محفوفا بالندماء والنساء يتأثر بمؤثراتهم، وحاول مراد الرابع وكان نشيطا حازما، أن يقي المملكة من السقوط السريع فلم يفلح.
72
وكان ضعف السلطنة محسوسا على عهد أحمد الأول ومصطفى الأول وعثمان الثاني.
كان مصطفى الأول المعروف بالأبله مجنونا، وكان مراد الثالث مظهرا من مظاهر
73
الإفراط في كل شيء، ولا سيما في الاسترسال إلى شهواته وفي إدارة الإقطاعات، وفي أيامه ثار الإنكشارية لأول مرة على الديوان العالي، ويمكن أن يعد عهده عهد الضعف الداخلي في العثمانيين، وقد أعانته أمه وامرأته صفية على شهواته وخلف 118 ولدا. وكذلك كان السلطان أحمد قتيل الغواني والكئوس، وكذلك إبراهيم الأول الذي أخجل بني عثمان بتهتكه وسوء سيرته، قيل: إنه قتل مائة ألف إنسان، منهم خمسة وعشرون ألفا بنفسه وأمام عينه، وأوقد ثورة في آسيا الصغرى؛ لأنه أراد أن يغتصب زوجة أحد العظماء لجمالها، وكان يبني كل أسبوع ببكر، وتقام له الأفراح، ثم ضعفت أعصابه فأخذوا يصفون له المقويات، قال أبو الفاروق
74
عند كلامه على السلطان مصطفى وكيف انقطع في قصره عن العالم، وحصر وكده في شهواته: لقد تفرد آل عثمان من القديم بغلبة الشهوات عليهم، وقد وقع لمراد الثالث عارض فأخذ أهل القصر السلطاني يتعلمون أدوية الباه من الشرق والغرب وهو يسيء استعمالها.
وأكد بعض مؤرخي الترك أن من ملوكهم المتأخرين بعد الفاتحين العشرة كانوا على غباء محسوس وإسراف على النفس، لا يحفلون بأمور الدولة والناس، ومنهم من كانوا يعتقدون بالطالع ويخافون من صرعات الجن، ويقربون من يزعم من المشايخ أنهم يتسلطون عليها ويشفون من أمراضها، وكان «جنجي خوجه» يدعي معرفة ذلك، ويبيع المناصب العلمية بالرشاوى (1058). على أن بعض المداهنين من المؤرخين ولا سيما المؤرخون الرسميون، لم يتحرجوا من أن يطلقوا على بعضهم صفات التمجيد وسكتوا عما وقع ورأوه فلم يدونوه جبنا ورياء، وأغمضوا عن مساوئ لمن دونوا أعمالهم مما تعدى ضرره إلى الملك فوهت أركانه، وسارت البلاد إلى الانحلال بخطى سريعة، وبقي الشؤم ملازما لها منذ ظهر أولئك السلاطين الماجنون المتجننون.
وأجمع مؤرخوهم أن بايزيد الثاني كان من السفاهة على جانب عظيم، فانتشرت المفاسد والمنكرات في أيامه في كل مكان بين الخاص والعام، ونسوا الشرع وعبثوا بأحكام الدين، وكانت تحمل إلى قصر بايزيد أجمل الفتيات والفتيان من كل أرض، كما تحمل إليه أطيب المسكرات وألطف المغنين والمغنيات والموسيقيين والموسيقيات والمهرجين والمساخر، ولا شأن للكبراء، وفي طليعتهم صدره الأعظم، إلا أن يأتوه بما ترغب فيه نفسه من الجواري والغلمان.
ومن أهم العوامل في تراجع أمور السلطنة أن ملوكها بعد أن كانوا ينزلون إلى ساحات الوغى بأنفسهم،
75
وكثير منهم ماتوا في الغزو أو في طريق الغزو، أخذوا يعيشون عيش الترف، وثلاثة فقط من ثمانية ملوك ممن حكموا بعد سليمان القانوني حضروا الحروب بأنفسهم. ولما بويع الأطفال بالسلطنة غدا الوزراء والنساء يدبرون شئون الدولة، وأصبح أولاد السلاطين بعد أن كانوا يقودون الجيوش إلى ميادين الحرب، ويدبرون الولايات والإيالات، بعيدين عن حياة العمل ومعاناة السياسة، وكان آخر من دعي إلى تولي السلطنة وهو يدير الولايات سليم الثاني ومحمد الثالث. وغدا أولياء العهد بعد ذلك يربون في حجور الخصيان والنسوان، منعزلين عن الناس في قصورهم، يعيشون في جو كله نعيم وفتنة، وكان من أثر هذه التربية ألا يظهر أولياء العهد بعد توليهم زمام السلطنة لأحد من الناس، ولا يقيمون العدل ولا يراقبون وزراءهم وحكامهم، وطفق بعض أولياء العهد يشق عصا الطاعة على السلطنة، وعجز السلطان عن مراقبة وزرائه؛ لأنه لم يحسن انتخابهم، ويكون اختيارهم بتأثيرات الموالي والعبيد والنساء، والوزير نفسه عبد من نصبوه.
كان الملك على الأكثر يختار عماله من مماليكه وعبيده، ومنهم البستاني والآذن وحارس الكلاب وسائس الدواب وغلام الحمام، أو من ندمائه ومداحه وخدامه، يدخلون في الإسلام فيكون منهم قواده وولاته ووزراؤه، وإذا رجعنا إلى أصول الصدور العظام
76
نشهد أن اثني عشر منهم فقط من ثمانية وأربعين صدرا كانوا من أصول إسلامية، وباقيهم من أصل رومي وبجناكي وألباني، ممن رأوا في انتحال الإسلام مصلحة لهم، فدخلوا في الجيش واستأثروا بالإقطاعات. ولقد قال وزير المال يوما وهو عائد من مجلس الوزراء، وكانت جمهرته من العبدان والمماليك: «أنا آت من سوق العبيد.» وما كان السلاطين أنفسهم غير أبناء إماء تتلاعب بهم أمهاتهم وزوجاتهم في كثير من الأمور، ويعبثن بأمور الدولة والملة، يقتلن من يرين قتله من أولاد السلاطين، ويبقين على من يشأن، وينصبن الصدور والوزراء والقواد والولاة والمتصرفين، ويستأثرن بأموال الدولة، وكانت تجبى لإحدى الحظايا جباية الشام كلها لنفقتها وبذخها، وهي السابعة من نساء إبراهيم الأول الذي ارتأى مرة أن الخزانة نضبت أموالها، فلا يسد العجز فيها إلا المجوهرات التي أهداها أجداده للحرمين، فقال الصدر الأعظم لما سمع بعزم السلطان: لقد سقطت الدولة إلى هذه الدركة بفيلق من الجواري الناقصات من بنات الروس والبولونين والمجريين والفرنسيين، وإبراهيم الأول هو الذي قرر أن يقتل عامة النصارى في مملكته، ولم يقنعه شيخ الإسلام بالعدول عن هذا الرأي إلا لما قال له : إن في قتلهم نقص واردات السلطنة، وإن الجباية تخف إذا قتل في العاصمة مائتا ألف إنسان. •••
لما حارب سليم الأول شاه العجم قتل في حدود بلاده أربعين ألف شيعي، فأصبحت للمسلمين دولتان: إحداهما سنية والأخرى شيعية، وكلمة الأولى أنفذ ومكانتها بين الدول أعظم؛ ذلك لأنها تحكم الأماكن المطهرة، وهي أوسع مجالا وأكثر رجالا، ومن أجل هذا كانت الدولة العثمانية أبدا عرضة لضربات الغربيين على بلادها، لما كانوا يخافون من امتداد سلطانها في الغرب منذ وطئت أقدام جندها قارة أوروبا، فانتبه الغرب بما أنذر به من غارات العثمانيين على شعوب البلقان، وما أحرزوه من النصر في أكثر وقائعهم، وأيقنوا أن الأتراك إذا تم لهم الاستقرار في البلقان وما إليه، لا يلبثون أن يصلوا إلى غربي أوروبا وشمالها، وهناك الطامة العظمى على دول النصرانية، بل على كنيسة رومية نفسها. واشتد هذا الخوف من العثمانيين لما رأوهم فتحوا بلاد المجر وحكموها مائة وخمسين سنة، وهددوا فينا غير مرة، وكانت وقعة سان جوتار أعظم قتال ظفر فيه النصارى بالترك، لم يعهد لهم مثله منذ ثلاثمائة سنة على رواية هامر.
كان ملوك أوروبا والباباوات في مقدمتهم، يجمعون شمل الغربيين كلما وهى؛ ليقاوموا تقدم التيار التركي، وما تم لهم التوفيق أو شيء يشبه التوفيق أمام سطوة الدولة لعهد قرنين من تأسيسها، وما حاد الباباوات في إهاجة شعوب النصرانية على الإسلام، عن الخطة التي اختطوها في المقاومة منذ فتح العرب بلاد الأندلس، إلى الحروب الصليبية، إلى ظهور الدولة العثمانية. تساقطت الضربات الصليبية على الإسلام قرونا، وكان الأتراك آخر من كتب لهم أن يضربوا ويضربوا قرونا بعد ذلك كثيرة.
كانت الحروب سجالا بين العثمانيين ومن أرادوا غزوهم، ولكن الغلبة الأخيرة كانت أبدا إلى جانب العثمانيين، وكان العثمانيون يفشلون في بعض حروبهم مع أمراء البلقان وغيرهم لبعد المسافات؛ لأن من الحروب ما يشهرها قوادهم على الحدود لضرورة حافزة، دون أن يستعدوا لها أو يستعينوا بجيش كبير يأتيهم من أنحاء السلطنة، فقد فتح قواد الحدود ألبانيا والمورة من دون أمر أتاهم من السلطان؛ لأنه كان لهم الحق إذا رأوا غرة أن يهاجموا من في جوارهم ويفتحوا بلادهم بدون أمر السلطان؛ أي كان لهم الحق والحرية في أعمالهم؛ لأن للتأخير آفات والبلاد مترامية الأطراف.
فقد فتح الفاتح مثلا بلاد آل قرمان في آسيا الصغرى بعد حرب أربع سنين، وما ضمت تلك الإمارة إلى الملك العثماني إلا بعد أن حاربها العثمانيون عشر مرات في مدة مائة وست وستين سنة. وقد صمد العرب في سواحل الحجاز واليمن لحرب البرتقاليين، لما جاءوا مستعمرين أواخر عهد المماليك المصريين، وأوائل حكم العثمانيين، يقصدون الهند وما إليها، فرد الشريف أبو نمى أمير مكة جيش البرتقاليين عن جدة، ورد غيره من الأمراء والشيوخ غارات كثيرة من مثل هذه على أرضهم الداخلة في سلطان العثمانيين، وكانت حروبهم مع البرتقاليين يوما لهم ويوما عليهم؛ وذلك لبعد الشقة؛ ولأن الدولة تكاد تحصر جهودها في استبقاء أملاكها في أوروبا.
تعذر على دول الغرب أن يقضين على سلطان العثمانيين، ولكن هؤلاء بلوا بدولة واحدة تكفي حروبها للقضاء على الدولة العثمانية، ونعني بها دولة قياصرة روسيا، فكانت واقفة لهم بالمرصاد منذ ضرب الجيش السوري بلاد القرم (سنة 1559م)، وكان خان القرم من عمال السلطنة وأهل بلاده من عنصر تتري إسلامي، وزادت غزوات الروس على الترك العثمانيين بقيام بطرس الأكبر، وكان هذا يفكر منذ صغره بعقد تحالف نصراني؛
77
لطرد الأتراك من أوروبا، وأوصى دولته ألا تغفل عن حرب الترك، لتنزع الآستانة وبيت المقدس من سلطتها، وفي معظم الحروب التي شهرتها روسيا على تركيا كان الظفر حليف الروس؛ لأن روسيا كانت منذ عهد مصلحها بطرس الأكبر تنظم جيشها بالنظام الأوربي الحديث، والعثمانيون ناموا على ما كان لجيشهم من قوة وسمعة، يغرهم عدده، ولا يعبئون كثيرا بتنظيمه وعدده، فقد رأينا بطرس الأكبر يرد بأربعين ألفا
78
جيشا من الترك مؤلفا من مائتي ألف على نهر بروت، ورأينا روسيا أيضا في سنة 1768 تقضي بسبعة عشر ألف جندي على جيش تركي لا يقل عن مائة وخمسين ألفا، والدول إذا أقبلت كثرت العدة وإن أقلت العدد، وإذا أدبرت كثرت العدد وأقلت العدة.
ظهرت منذ القرن الخامس
79
عشر في عالم السياسة الأوربية مسألة سموها «المسألة الشرقية»، ومعناها اتقاء الخطر الذي داهم أوروبا من زحف العثمانيين عليها، وتغير وجه هذه المسألة منذ بداية القرن الثامن عشر، فلم تكن المسألة الشرقية مسألة اتقاء خطر، بل كانت مسألة الإبقاء على الأتراك العثمانيين، أو تقسيم بلادهم تبعا لتفاوت الدول في المنزلة والمصلحة، ومنذ سنة 1815 كان هم رجال السياسة الأوربية أبدا معالجة المسألة الشرقية، وهي تعرض كل مرة في شكل غير شكلها، وبعد أن كان النساء في الغرب إذا أردن تخويف أولادهن قلن لهم: «جاء سليمان القانوني» أصبحت أوروبا في القرن التاسع عشر تطلق على المملكة العثمانية كلها وعلى سلطانها اسم «الرجل المريض». وحقيقة إن السلطنة كانت مصابة منذ قرنين بمرض داخلي وخارجي، والسبب في هذه التسمية أن إنجلترا وروسيا عقبى حرب القرم سنة 1853 كانتا تطلقان هذا الاسم أثناء المفاوضات السياسية على الدولة، وروسيا تقترح اتخاذ الأسباب لتقسيم إرث الدولة التركية، وإنجلترا تجيب: إن الأوفق أن يبذل الجهد في شفاء هذا الرجل المريض.
أمست الدولة العثمانية بعد ضعفها لا تكفي غائلة دولة من دول الغرب، إلا إذا استعانت بأخرى عليها، وهذا قلما وقع، ولا تنتفع إلا من انقسامات الدول العظمى، فإذا اتفقت مصلحتها ومصلحة إحداهن ترتاح زمنا من المشاكل والغوائل في بلادها، ففائدتها كانت إذا في تخالف الدول، وتباين أغراضهن فقط، وكانت أيام شبابها تنال من دول أوروبا مجتمعات ومنفردات، ولقد قال بعض الباحثين: إن علائق الدولة في القرن الثامن عشر أصبحت ودية مع دول الغرب، ولا سيما مع إنجلترا وفرنسا وهولاندة والسويد والدانيمرك، فكن يتوسطن لها في مسائل الصلح، وكان لفرنسا من ذلك قسط عظيم، وذلك بعد أن أخذت من الدولة عهدا بامتيازاتها الأجنبية (1740م)، وأخذت تحمي الرعايا الكاثوليك في الأرض العثمانية، وقد تعاقدت الدولة بعد تعاقدا يشبه الامتيازات الأجنبية مع الولايات المتحدة والبلجيك والبرتقال وإسبانيا.
ولم تر الدولة في سياستها الداخلية أسهل من إلقاء الفتنة بين العناصر غير التركية على الدوام، تضرب العربي بالتركي، والأرمني بالكردي، والصربي بالأرناؤدي، والرومي بالكاثوليكي، والمسلم بالنصراني، والفرق الإسلامية المختلفة بأهل السنة، فكانت حروبها الداخلية أيام ضعفها حروب عناصر وشغب بين أبناء الوطن الواحد، وحروبها الخارجية مع دول قوية كالنمسا وروسيا والبندقية، وتروج سياسة التفرقة أيام الأزمات السياسية، ويتجاهر أهل الدولة في الدعاية إليها، وتحريك العرق الحساس في الغوغاء من الناس.
أرادت الدولة يوم ثورة المورة أن تنتقم من الروم في مملكتها؛ لأن أبناء دينهم في الأرض الأوربية هبوا يطالبون باستقلالهم، فأوعزت إلى والي دمشق أن يقتل المسلمون جميع نصارى الشام من طائفة الروم الأرثوذكس، فاستشار الوالي أعيان دمشق، فأشاروا عليه أن يكتب إلى العاصمة أن ليس في البلاد خائن، وأن النصارى عبيد السلطنة يؤدون الجزية، وبذلك نجا نحو خمسين ألفا من القتل. ولما أرادت الدولة أن توطد حكمها في الشام أثارت الدروز على النصارى في لبنان، وأهاجت غوغاء المسلمين والدروز على نصارى دمشق وما إليها، وتدخلت الدول في الأمر فحكمت المحكمة العسكرية على بضع مئات من المسلمين بالقتل والنفي وغرمت الأهلين غرامات فاحشة، وما عاقبت الدروز على أعمالهم في الثورة الأهلية لحماية إنجلترا لهم.
كان من تخالف الرعايا في المذهب، وتباينهم في الأخذ بحظ من المدنية، سلسلة من المصائب لا تنتهي إلى حد، وفي ألفاظ التحقير والملق التي كانت تطلقها الدولة في بعض رسائلها الرسمية على غير المسلمين، وفي ألقاب العبودية العجيبة التي تلقب بها موظفيها،
80
وتطلقها على سفراء الدول حتى القرن السابع عشر؛ في كل هذا دليل على ذاك الروح الذي تريد الدولة بثه في الناس، وهو روح التعصب والتقزز من كل مخالف، ومثل هذه السياسة العوجاء يكتب لها النفاق كثيرا في بلاد ضمت أرجاؤها عشرين نحلة ومذهبا، وأهلها متأخرون في سلم المدنية، وما كان للعقلاء سلطان على أحد لوضع حد لهذا التهور، مخافة ألا تقع نصائحهم موقع الرضا من نفوس السياسيين، ولولا أن حض الإسلام على حماية أهل الذمة، ووصى بهم أحسن توصية، لاضمحل غير المسلمين في كل بلد كانت كثرته الغامرة منهم، ورأينا الغرم في كل فتنة أهلية على السكان، والغنم للدولة على الأكثر.
وفيما عامل به النصارى في البلقان جمهور المسلمين، لما كانت تكتب لهم الغلبة على الدولة، من ضروب الإفناء، وهتك الأعراض وتدمير العروض، برهان جلي على ما كانت تكنه صدور النصارى من الأحقاد على المسلمين؛ بسبب أولئك العمال الذين كانوا يصدعون بأمر ساسة الآستانة، لا يقاد جذوة التعصب بين الطوائف، وما كانت هذه السياسة بالتي تخفى على رجال السياسة في أوروبا، بيد أن الدولة في مؤخر أيامها كانت تسكت الدول النصرانية بإرشاء القويات منهن بامتيازات، تصان فيها حقوق غير المسلمين أكثر من المسلمين، وهناك رؤساء دين يمتون إلى إحدى الدول العظمى بحق المذهب، ودالة الحسب والنسبة، فطائفة تنتمي إلى روسيا، وأخرى إلى إنجلترا، وغيرها لفرنسا، والمسلمون من بين عناصر السلطنة، ولا سيما العرب منهم، كانوا أشبه بالمنومين أو المخدرين باسم الدين، كأنه لا جناح على الدولة أن تظلمهم؛ لأنهم عبيدها، وكان علماء بغداد لما وافاها التتر أفتوا أن الدولة الكافرة العادلة خير من الدولة المسلمة الظالمة، كانت الدولة في أيام عزها إذا أتاها أحد سفراء الأجانب أيا كان يحمل إلى السلطان وإلى وزرائه الهدايا الفاخرة، فلما تراجع أمرها أخذت هي تلطف لأكثر وكلاء الدول وتهاديهم وتتاحفهم، وتتساهل معهم ومع رعاياهم، حتى لقد اعترف ريشاروود
81
الإنجليزي أن الكنائس كثر عددها جدا في بلاد السلطنة، خصوصا ما كان منها للأجانب، وبرهن على تساهل الدولة العثمانية بإعفائها كل ما يرد إلى بلادها برسم الكنائس والأديار والمستشفيات وغيرها من الضريبة الجمركية، سواء كان أثاثا أو لباسا أو كتبا أو آلات أو طعاما أو غيرها. قال وهذا الأمر لا نعلم أنه يوجد في بلاد أخرى، وفي الامتيازات الأجنبية من البلاء وغمط حقوق الوطنيين والإغضاء عن ريع الدولة ما لا ينكره عاقل. •••
زاد في القرن التاسع عشر تدخل الدول العظمى في أمور السلطنة، بطرق سياسية خفيفة الملمس في الظاهر خشنة عند التنفيذ، وما أخذ الملوك فيه من عنان استبدادهم وشهواتهم، ولا حدثتهم أنفسهم أن يدخلوا إصلاحا حقيقيا على أوضاع السلطنة التي صارت إلى البلى، وكانت تتذرع بالمحافظة على الظواهر الصورية، أكثر من التشبث بالجد والعمل النافع، مثال ذلك الجيش حامي حمى المملكة في داخلها وخارجها، فإنه كان أيضا صوريا، فبعد أن قضى محمود الثاني على جيش الإنكشارية الذي كاد يودي بالدولة إلى الاضمحلال، لم يستطع أن ينظم جيشا يصلح حقيقة للدفاع والهجوم؛ لأن روح الدولة قام بالفوضى، فصعب عليها أن تعمد إلى النظام، وأرادت من جيشها الجديد أن تتبع فيه أيضا سياسة إرضاء الغربي، فكان جيشا غريبا في تكوينه اسمه النظامي فقط، وهو الفوضى بعينها في تركيبه وتدبيره وتهذيبه، وصفه أحد مدربيه الضابط مولتكه الألماني بقوله: إنه كان على مثال الجيوش الأوربية ولكن معاطفه روسية،
82
ونظامه فرنسي، وبنادقه بلجيكية، وعمائم أفراده تركية، وسروجه مجرية، وسيوفه إنجليزية، ومعلميه من كل أمة، وهو مؤلف من جماعة الاحتياط ممن لا حد لخدمتهم، ورؤساؤه من المجندين آنفا، ومنهم من كانوا بالأمس أعداء، وكأنه مجموعة عناصر ومدنيات.
وهذا الجيش العجيب التركيب هو الذي انهزم المرة بعد المرة أمام جيش محمد علي والي مصر، فتقدم واستولى على الشام وقيلقية، ووصل إلى كوتاهية في صميم أرض آسيا الصغرى، وهدد دار الملك، وأثبت أن قوة الدولة كانت ورما لا شحما، وأن دعوى قوتها خيال أكثر مما هي حقيقة ، وأي غضاضة على الدولة أن ينهزم جيشها أمام أحد ولاتها، حتى اضطرت أن تعقد مع روسيا معاهدة «خنكار اسكله سي»؛ لتدفع عنها بأس أحد عمالها، فتنجدها باثني عشر ألف جندي؛ لتحميها في عقر دارها من جيش محمد علي وابنه إبراهيم. وأي ضعف أفظع من أن يقوم تركي من ولاة الدولة في طرابلس الغرب (1123ه) اسمه أحمد قره مانلي، ويبايع له بإمارة طرابلس على عادة الولاة فيها أيام العثمانيين، ويسمى بأمير المؤمنين،
83
ويستقل وآله بطرابلس قرنا وربعا (1711 إلى 1835) بمال دفعه إلى أحمد الثالث،
84
ولا ينتهي حكمه في ذاك القطر إلا بإيعاز إنجلترا للدولة سرا أن تتقدم إلى إرجاع سلطتها على تلك الولاية. وكانت إنجلترا عقدت مع ذاك المتغلب - الذي أطلق عليه أو أطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين في بلاد أمير المؤمنين - معاهدة من دون أخذ رأي الدولة المنتمي إليها، لتأمن على أسطولها من غزوات سفنه وقرصانه (1164ه)، وتضطر سفنها إذا صادفت سفن القره مانلي في عرض البحر إلى إظهار جوازها لقائد سفنه.
ومثل هذه المعاهدة عقدتها مع طرابلس في عهد آل القره مانلي جمهورية البندقية وجمهورية طسقانة ومملكة نابل ومملكة فرنسا وغيرها من أمم الجنوب. وعقدت الولايات المتحدة الأميركية (1220ه) معاهدة، تقضي بأن ترفع طرابلس الرق عن النصارى، وكان لطرابلس جعل معين تتقاضاه من دولة السويد؛ ذلك لأن الدول البحرية كانت تخاف على تجارتها من غزو قرصان البحر في شمالي إفريقية، وشأن أسطول طرابلس وقرصانه في هذا المعنى شأن أسطول تونس والجزائر ومراكش، وكان فخر الدين
85
المعني الثاني أمير جبل لبنان وما إليه عقد قبل أكثر من قرن مع كوسموس الثاني كبير دوجات طسقانة، معاهدة دفاعية هجومية، وذلك في غفلة الدولة العثمانية، واستظهر بأسطول فرديناند الطسقاني فغلب على أكثر سواحل الشام وقهر جيش الدولة (1043ه)، ومثل ذلك وقع لباي تونس وهو وال عثماني في سنة 1577، فعقد معاهدة مع فرنسا،
86
وبعد سنة 1741 عقد بايات تونس عدة معاهدات مع الدول النصرانية باسم تونس فقط.
وعلى هذا بدأت دول برأسها تنفصل بطرق مختلفة عن الدولة العثمانية، وإن كان ظاهرها أنها تابعة لها، ولو ظلت الدولة وحدها تصاول روسيا فقط لقضت هذه عليها، واستولت على المضايق، وخرجت إلى البحر المتوسط، ولكن ذلك لم يكن من مصلحة إنجلترا، فكانت هذه منذ اتحدت روسيا والنمسا (1787) على تقسيم البلاد العثمانية في أرض أوروبا، تسعى بما أوتيته من دهاء سياسي لفصم عرا كل اتحاد ينتهي بضرب الدولة العثمانية الضربة القاضية، وكانت أوروبا في هذه الحقبة ترى بقاء السلطنة العثمانية ضروريا للتوازن السياسي، ولما رأت بريطانيا العظمى أن معاهدة «خنكار اسكله سي» بين العثمانيين والروسيين تقضي بجعل السلطنة العثمانية تحت حماية روسيا، سعت مع الدول الأخرى إلى حل المسألة الشرقية بالطرق السلمية. واتفق الدول ما عدا فرنسا ألا تتجدد هذه المعاهدة بين العثمانيين والروسيين، وأن السلطان إذا اقتضت له معاونة لسلامة بلاده تعاونه الدول على أن تبقى المضايق والدردنيل تحت إشرافهن، ولما طلبت روسيا أن تحمي الروم الأرثوذكس في بلاد السلطنة، على ما كانت فرنسا منذ القديم حامية الكاثوليك فيها، نشبت حرب القرم، وحطمت روسيا أسطول تركيا في البحر الأسود، وكادت فيالقها تصل إلى الآستانة، فأرسل الإنجليز والفرنسيس والطليان أسطولا وجيشا لمعاونة الدولة العثمانية، فظفرت هذه بالروس (1856) مع الدول المحالفة لها، ودفعت بريطانيا نفقات الحرب، وضمنت للسلطنة استقلالها.
رأينا مما تقدم أن الدول كانت إذا بدا لهن مأرب يساعدن الدولة، ويتحببن إليها، على ما كان من نابوليون لما حملها على حرب روسيا قبل أن يغزوها بجيشه في أرضها، وكما فعل غليوم الألماني في العهد الحديث، فإنه ما زال يتقرب منها حتى جرها في الحرب العامة إلى القتال في صفوف حلفائه، ففقدت نصف أملاكها وأقفرت بلادها، وقتل مئات الألوف من أبنائها، وما منعت سياسة الدول واختلافاتهن من معاونة اليونانيين والرومانيين والبلغاريين والصربيين على استقلالهن، وأن يرسل بعضهن لتلك الإمارات رجالا ومالا وعتادا؛ لأن البلقانيين شعوب نصرانية، يجب فصلهم عن دولة الخلافة، وأردن أن يعملن مثل ذلك للأرمن، لولا أنهم كانوا متفرقين في كثير من الولايات، لا يؤلفون جمهرة كبيرة في قطر واحد.
بعد أن أخفق العثمانيون في الحرب التي انتهت بصلح أدرنة، وبه انسلخت رومانيا عن تركيا، واستقلت الصرب بدفع خراج معين للسلطنة، واعترفت الدول باستقلال اليونان، أصبحت هذه الإمارات بحكم مذهبها تحت وصاية روسيا، وأصبح الحق لدولة القياصرة أن تدخل المضايق والخليج إلى الآستانة، وعندئذ لقب الإمبراطور نقولا الروسي الدولة العثمانية بالرجل المريض (1829). ولا تفتأ إنجلترا تقول: لا بأس بالعمل على شفاء الرجل المريض، والواقع أن ثلاثة أرباع مصائب الدولة أتتها على يد روسيا، كأن هذه الدولة جاءت في العصور الحديثة تنتقم من الأتراك عما نالها من مصائب إخوانهم التتر أو المغول، من غزو بلاد الروس في العصور الوسطى.
وكانت تركيا في كل نازلة سياسية وقعت فيها تتذرع بما لا ينتج من الاحتجاج، أو تهدد بالجامعة الإسلامية، وكل احتجاج يعقبه استسلام واستكانة للأمر الواقع، احتجت على احتلال إنجلترا مصر (1882)، وعلى ضم الروم إيلي الشرقي إلى بلغاريا (1885)، وعلى المراقبة الإدارية على مقدونية، وعلى ضم البوسنة والهرسك إلى النمسا، وعلى ضم كريت إلى اليونان، وما أجدى احتجاجها ولا قلامة ظفر، والدول ذوات الشأن يعملن ما يصلحهن، ويتفق مع مصالحهن، ولما حاربت الدولة العثمانية حكومة اليونان تقدمت الدول، فأعلنت أن الغالب لا ينال من المغلوب شيئا من أرضه، فخرجت الدولة ظافرة، ولم تجن ثمرة انتصارها، أما التهديد بالجامعة الإسلامية فلم يأت الدولة العثمانية بفائدة أيضا، وربما عاد بضرر على المسلمين الذين قضي على بلادهم أن تحتلها فرنسا أو إنجلترا أو إيطاليا أو هولاندا أو روسيا، فتشتد الدول المحتلة لبلادهم في الضغط عليهم، وإحصاء أنفاسهم عليهم كلما كانت تردد تلك النغمة، على أن المسلمين تختلف أغراضهم في قطر عن آخر، والناس أرغب في السلام منهم في الخصام، إذا لم تسقهم يد جبارة إلى الحرب، ولم يكن لهم منها مغنم عظيم، لا يعرضون حياتهم وراحتهم للخطر ليجيبوا داعي الجامعة الإسلامية.
كانت خسارة الدولة في كل حرب حاربتها في القرن التاسع عشر كبيرة في المال والرجال والبلاد، حتى اضطرت إلى فتح أبواب الاستدانة من أوروبا بالفائدة الفاحشة، ولا تفتأ تحمل ما خسرته من الضرائب والمكوس من ولاياتها المفقودة على ولاياتها الموجودة، بدأت بالاقتراض في حرب القرم، وما مضت أعوام قليلة حتى عجزت عن وفاء ديونها، وأعلنت إفلاسها (1876م)، فبدأ استعبادها الاقتصادي، وظلت على ذلك إلى آخر أيامها، وكيف لا تختل ماليتها والفوضى عامة شاملة في عامة فروع الإدارة، والسلطان يأخذ ما يشاء، ويترك ما يشاء من مال الدولة بدون حساب. بدد السلطان عبد المجيد أموال السلطنة، وكان السراري والجواري والمقربون في القصر السلطاني يحكمون في مقدرات البلاد بدون علم ولا تجربة ولا إخلاص، ولما زوج هذا السلطان ابنته أنفق على جهازها وعرسها مليوني ليرة فرنسية ذهبية. وآلى عبد العزيز من بعده أن يمسك عن الإسراف لأول سلطنته، ثم عاد إليه على صورة بشعة،
87
وتعهد أن يكتفي بزوجة واحدة، فأصبح في الحرم بعد مدة تسعمائة امرأة وثلاثة آلاف خادم ووصيفة، وكانت تمد في قصره كل يوم خمسمائة مائدة، ويجلس إلى كل واحدة منها اثنا عشر شخصا، فشقيت الدولة بإدارته، وأصبح لا ينفذ أمرا للوزراء فتآمروا عليه، وأخذ هو يفاوض روسيا سرا لتحميه، ويتذرع بنقل ثروته إلى البلاد الأجنبية، فتمكن رجال الدولة من خلعه بفتوى من شيخ الإسلام - كما كان رجال الدولة خلعوا إبراهيم الخليع بفتوى أيضا - أثبتوا عليه العته والجهل بالأمور السياسية، والإسراف في أموال الدولة، بما لا تستطيع تحمله لينفقه في شهواته، وأنه أخل بعمله في أمور الدين والدنيا، فساق الملك والدولة إلى الخراب.
وما كان عبد الحميد الثاني أقل إسرافا في المال من أبيه وعمه، فإنه اقتطع ألوفا من القرى من أيدي مالكيها، وجعلها ملكا خاصا له، تدر عليه مليوني ليرة عثمانية ذهبية كل عام، ومنها كان ينفق كل يوم البدر على جواسيسه ومقربيه والصحف الأجنبية وبعض من يعتقد فيهم له النفع من ساسة الغربيين وسماسرتهم، وتصرف في قصره مئات الألوف من الدنانير على البذخ والزينة والأطعمة، كان جيشه جائعا وضباطه وعماله وصغار موظفيه لا يقبضون من رواتبهم سوى أشهر معدودة في السنة. ولما زار الإمبراطور غليوم الثاني بلاد السلطنة العثمانية أهدى عبد الحميد للإمبراطورة تاجا قوم بنصف مليون جنيه عثماني، فقال الإمبراطور: إن الأتراك مجانين، ولو عقل عبد الحميد لأهدى الإمبراطورة تذكارا منه فيه خطه أو شارته، وصرف هذا المبلغ الجسيم على التاج المهدى إلينا في ابتياع بارجة حربية يصون بها سواحل ملكه. فعبد الحميد كان - والأمر على ما ذكر - صورة من أعظم الملوك المستبدين، وكان من يرضى عنه يغدق عليه من الأموال والرتب والأوسمة ما يعمي به بصره وبصيرته، وفوق هذا يغضي عنه في كل ما تطمح إليه نفسه من مال الدولة والملة، وبلغ من حجره على الأفكار والحرية طورا مضحكا مبكيا، ومن جوده بالرتب والمراتب وشارات التشريف ومظاهر الأبهة ما لم يعهد من قبل ولا من بعد؛ فقد يرقي طفلا لأحد مقربيه في الرتب العسكرية، ويصل به إلى رتبة المشيرية - أرقى مناصب الدولة في الجندية - وهو غلام يافع، ويشرف بأوسمته المومسات والمهرجين والمتجسسين.
كان عبد الحميد تعهد للوزير مدحت لما نصبه سلطانا أن يؤسس حكومة دستورية نيابية، وما لبث أن أحرق فيما قيل دار مدحت، ليحرق فيه سند تعهده، ثم قتله في الطائف؛ لأنه خلع عبد العزيز الذي قيل إنه انتحر، وقيل إنه نحر. يقول لاموش:
88
إن عبد الحميد كان على دهاء ومكر ونشاط للعمل، ولو قدر له أن يعمل إلى جنبه وزير من مثل مدحت لأعاد إلى السلطنة بهاءها، ولكن عبد الحميد كان يكره الرجال العقلاء، ولا ثقة له إلا بمن يدلس عليه، وأعدى عدوه من ينصح له شأن كل مستبد جبار، وكان رجال المابين في عهد من أخبث الرجال. •••
كان رجال الدولة على مثل اليقين أن السلطنة إذا لم يدخلها الإصلاح على مثال الدول الغربية يقضى عليها لا محالة، فنهض في القرن الماضي جماعة من كبار الموظفين في العاصمة، ثم تبعهم بعض علماء
89
الدين يفكرون في الطرق التي تؤدي إلى إنقاذ الدولة وقبول مدنية الغرب، وانتشرت هذه الأفكار في الولايات، ولا سيما بين الأتراك في آسيا الصغرى وعرب الولايات العربية، وأيقن العثمانيون المسلمون أن الحاجة ماسة إلى الإصلاح، لما شاهدوا أن معظم بلاد الإسلام استولى عليها الدخلاء، فانضم جمهور المطالبين من الأتراك إلى جمهور من العرب. وحالت الأحوال ومضت الأعوام، وبعد أن كانت هذه الأفكار تجول في صدور أفراد أصبح يرددها الخاصة وكثير من العامة، وعلى أثر ذلك نشأت جمعية الاتحاد والترقي مؤلفة من معظم عناصر السلطنة، على أن يكون الأتراك أرباب الكلمة النافذة وحدهم في المملكة العثمانية، وأثارت الجمعية الجيش في الروم إيلي، فخاف عبد الحميد الثاني، وأعاد في سنة 1908 القانون الأساسي الذي كان أبطله أوائل حكمه (1876)، وأراد أن يعيد حكومته الاستبدادية بعد قليل، فأنشأ جمعية ارتجاعية سماها الجمعية المحمدية، قامت بفتنة في العاصمة، وقتلت أناسا من الأحرار الومنورين، فانتهى الأمر بخلعه، وجيء بأخيه رشاد باسم محمد الخامس، وكان فيه شيء من بله السلاطين، فأصبح ألعوبة بأيدي الاتحاديين الذين كانوا قبضوا على زمام السلطنة منذ أبعدوا عبد الحميد من الملك. ولما قضى محمد الخامس نحبه جيء بأخيه وحيد الدين باسم محمد السادس، فارتمى في أحضان دول الحلفاء أواخر الحرب العالمية، فأخذت الحمية الوطنية بعض رجال الدولة، وألفوا في آسيا الصغرى جيشا قضوا به على الجيش اليوناني الذي كان احتل بإيعاز من بعض الحلفاء معظم ولايات أدرنة وأزمير وبروسا، وضربوا اليونان في وقعة سقارية (1922م) ضربة دامية، ووضعوا السيف في أروام السلطنة ما خلا الآستانة، ويومئذ صار لتركيا صوت يسمع في السياسة، وكان دول الحلفاء قرروا تقسيم آسيا الصغرى إلى مناطق نفوذ بينهن أو بين إنجلترا وإيطاليا وفرنسا واليونان. ولما رأى محمد السادس ما ارتكبه من الجرم الفظيع، غادر عاصمة السلطنة على بارجة إنجليزية، ونادى المجلس الوطني التركي بعبد المجيد خليفة، ولم يلبث غير قليل حتى قرر المجلس الوطني إسقاط الخلافة العثمانية (1923) وطرد جميع آل عثمان من البلاد العثمانية، ونادى بمصطفى كمال، صاحب الأعمال الحربية التي حفظت على الأتراك استقلالهم، رئيسا للجمهورية التركية.
لما نشبت الحرب العالمية الكبرى في سنة 1914، انضمت تركيا إلى ألمانيا والنمسا والمجر فخرجت هذه الكتلة من الحرب مغلوبة، وقيل إنه كان من الحلفاء وفيهن إنجلترا وفرنسا أن قطعوا لشريف مكة الحسين بن علي عهدا (1916) تكون به بلاد العرب مستقلة فمشى في صفوفهم، والتحق به جماعة من أبناء العرب العثمانيين من جنود وضباط، فنادى به الحلفاء ملكا على الحجاز، وقام بثورته حتى دخل الحلفاء الشام. وكان بعض المنورين من أبناء العرب، ولا سيما بعض رجال الجندية والإدارة، ألفوا في أواخر العصر الحميدي جمعيات سرية لتطالب الدولة العثمانية بإصلاح حال العرب أو لتنزع يد العرب من طاعة الترك، وساروا على مثال الأتراك في التغالي بحب الجنسية والقومية، ولم يكن لهذه الفكرة من أثر قبل سنين قليلة في غير قليل من الرءوس المفكرة في العرب. وجاهر الأتراك الاتحاديون بتتريك العناصر منذ قبضوا على زمام الملك، وهذه الخطة من الخيالات التي لم تتم للأتراك أيام عزتهم، فصعب تحقيقها وهم في دور انحطاطهم، وما أورثت المجاهرة بها غير تمزيق أجزاء القلوب، وتأريث نار البغضاء بين العناصر، ولا سيما بين التركي والعربي، وانتبه العرب إلى ما يراد بهم، وعلمهم غلاة القومية التركية ما لم يكونوا يحتفلون به كثيرا من التناغي بالقومية، فزاد عدد المبغضين للحكم العثماني. وكذلك فعل الألبان في السلطنة فأنشأوا الجمعيات السرية وتناغوا بتعلم لسانهم وتاريخهم على نحو ما كان من الأرمن والصرب والبلغار والرومان واليونان.
خرجت الدولة في حرب سنة 1913 مع البلقانيين من أرض الروم إيلي بعد أن حكمته خمسمائة سنة وكانت افتتحته في خمسين، فاقتطعت منها ولايات أدرنة وقوصوة وأشقودرة ويانيا ومناستر وسلانيك، كبرت بها رقعة دول البلقان. وكانت إيطاليا في السنة التي قبلها (1912) استخلصت طرابلس وبرقة (ليبيا) من أيدي العثمانيين وضمت إليها الجزائر الاثنتي عشرة (دودكانيز) كما ضمت اليونان جزائر أخرى في البحر المتوسط، وضمت إنجلترا جزيرة قبرص سنة 1295ه.
90
واستولت تركيا في آخر الحرب العالمية على قارص وأردهان وباطوم، وكانت روسيا سلختها عنها منذ سنين، كما توسعت في حدودها في أوروبا، فاستعادت من اليونان تراكيا الشرقية على نهر المريج، ومحطة أدرنة، وجزيرتي إمروز وتنيدوس (بوزجه أطه). أما سائر البلاد العثمانية العربية فكان نصيبها مختلفا، انسلخت كلها عن جسم السلطنة، كأن الصلح الذي ارتضى به الحلفاء كان بأخذهم لها، وكأن تركيا استعادت الأرض التركية من بلاد الدولة العثمانية المنقطعة بحد الحسام، أو فتحتها فتحا ثانيا.
كانت مصر تعتبر في عرف السياسة عثمانية؛ لأنها ظلت إلى أواخر الحرب العالمية تدفع خراجا مقطوعا كل سنة للسلطنة العثمانية، فقطعته إنجلترا في الحرب الكبرى، وأعلنت حمايتها على مصر، وبعد الحرب ثار المصريون على المحتلين من الإنجليز، فاعترفت إنجلترا لمصر باستقلالها، ثم فصلت عنها السودان، وهو الجزء المتمم لها، وما برح جيش الاحتلال إلى الآن في القطر المصري، وسلطان إنجلترا ما زال نافذا فيها. واليمن استقل بها إمام الزيدية ما عدا السواحل على المحيط الهندي وخليج فارس، فإن إنجلترا كانت احتلتها، ومنها ما حكمته مباشرة كعدن، ومنها ما عاهدت عليه أمراءه وسلاطينه، وحمتهم ووسعت عليهم، فكانوا عمالها مثل لجج والنواحي السبع (الصبيحة والحواشب والقطيب وأبين والضالع واليافع والعلوي)، وحضرموت وعمان ومسقط والبحرين والكويت، وكانت الدولة التركية تنازلت لبريطانيا العظمى في سنة 1913 عن حقوقها في مرافئ الكويت وقطر والبحرين ومسقط وعمان، على أن تتعهد بريطانيا بإنارة الخليج الفارسي وخفارته.
وقضى عبد العزيز بن سعود على إمارة آل رشيد في نجد، ثم استخلص الحجاز من ملكها الجديد الحسين بن علي حليف الإنجليز بالأمس، وجعل من نجد والحجاز، وما إليها مملكة واحدة، وكان الإنجليز جعلوا فيصل بن الحسين ابن ملك الحجاز ملكا على العراق عقبى خروجه من الشام، وكانوا فيها بايعوه ملكا، فلم يرض الحلفاء عن هذه المبايعة، وبعد مدة أعلن الإنجليز انتهاء ما سموه بالانتداب على العراق، وجعلوا من بلاد الرافدين حكومة ذات سيادة محالفة لهم وضامنة لإنجلترا، أو في قسط من حقوقها.
وقسمت الشام بين إنجلترا وفرنسا، فانتدبت إنجلترا على فلسطين وعبر الأردن، جعلت من الأولى وطنا قوميا لليهود، وأنشأت في الثانية إمارة صغيرة نصبت عليها عبد الله بن الحسين، وهو ابن الملك حسين بن علي، وأنشأت فرنسا من سائر بلاد الشام خمس دول جعلت تحت انتدابها، وهي سورية الداخلية أو المدن الأربع، دمشق وحلب وحماة وحمص، جعلت بأخرة جمهورية، واستقل لواء الإسكندرونة في داخليته، وإن كان في ظاهره من أعمال سورية، بدعوى أنه يكثر فيه العنصر التركي، وجعل جبل لبنان جمهورية بضم بلاد كثيرة إليه من الشرق والشمال والجنوب ما كانت في دور من الأدوار تعد من لبنان، وحكمت فرنسا بلاد العلويين أو النصيرية، وجبل دروز حوران حكما مباشرا؛ أي إن القطر الشامي بفضل الحلفاء قسم إلى سبع دول استقل كل منها عن الآخر، والانتداب أو الإشراف أو الحماية لإنجلترا وفرنسا، فكانت صفقة الشام بذلك خاسرة، ومن الغريب أن تجتمع بعد الحرب في بلاد النصرانية في أوروبا جميع البلاد المتشاكلة بعناصرها، وتتفرق بلاد العرب العثمانيين المجتمعة هذا التفريق، والأغرب أن تستقل العراق والحجاز واليمن ونجد، وأهلها أقل من الشاميين مدنية وكفاءة، وتنتدب على الشام دولتان عظيمتان ليعلما أهلها أصول حكم أنفسهم باسم ما سموه الانتداب، وهو أنفق ما جاءت به سياسة الحرب العظمى؛ لأنه حماية مستترة - كما قال أحد علماء القانون
91
من الإفرنج - وأغرب من هذا وذاك أن يفتح جنوب الشام أو فلسطين لليهود من أمم الأرض، ينهالون عليها بعلمهم وأموالهم، ويكثرون سواد أبناء نحلتهم في وطنهم القومي الجديد، ويفتح قلب الشام وجنوبها وشمالها لجاليات كثيرة من الأرمن والشركس والأكراد والأشوريين والسريانيين، يزيدون فقر أهل البلاد فقرا، ومجموعة طوائفها كثافة، وأمورها السياسية بلبلة.
يقول يونغ:
92 «وهكذا احتل الغرب البلاد الإسلامية احتلالا تدريجيا، وكانت الحروب المتوالية التي شهرت على الدولة العثمانية، المتولي الخلافة عليها خليفة العثمانيين، تعتبر لأسباب شتى حروبا دينية. قال: وعلى هذا المنوال يؤخرون حدود الإسلام؛ ليسهل استبعاد بلاد متجزئة غير مرهوبة الجانب، والخلاف يعبث بسكانها، بدسائس كثيرة ومصالح شخصية. قال: وبعد الحرب أجهز الغرب على الشرق.» •••
رجع الأتراك أصحاب هذه الإمبراطورية الكبرى إلى عشهم الذي كانوا منه درجوا قبل ستمائة سنة وهو آسيا الصغرى، استقلوا بها جمهورية تركية صرفة وأجلوا بقايا الأرمن والروم من بلادهم، حتى لا يكاد يرى منهم أحد الآن في ولاياتهم ما خلا مدينة الآستانة، واستعاضوا عن الروم العثمانيين بأتراك من بلاد اليونان وغيرها من البلاد البلقانية، بادلوا عليهم حكوماتها، وأسكنوهم الأرض التي خلت بجلاء الأرمن والروم، وتشرد بقايا الأرمن في أرجاء الأرض، وأصاب الشام منهم أكبر حصة، وأخذ الأتراك يتركون الأكراد والشركس واللاز المتخلفين من العناصر المسلمة في أرضهم، ونقلوا عاصمتهم إلى أنقرة في أواسط بلادهم، وقلبوا الآستانة ولاية فذهب عزها الذي كان لها قرونا في العهد البيزنطي والعثماني، وبقي الإسلام بدون خليفة، ولم يتقدم سوى الحسين بن علي فتقلدها أشهرا، وبايعته بعض الشام والعراق والحجاز، ثم خسر ملكه في الحجاز ونفي إلى جزيرة قبرص، ثم قضى نحبه. وهكذا قر الأتراك في أرضهم بعد أن أتعبوا العالم، وأتعبوا الشعوب المحكومة قرونا، كثرت أيام بؤسها، وقلت أيام نعيمها.
وعاد العرب المسلمون في السلطنة العثمانية، وقد خابت آمالهم وأحلامهم في الاستقلال والوحدة العربية، وكانوا يتوقعون خيرا هذه المرة أيضا من إنجلترا، ورجوا بعد الحرب العامة أن يحقق الإنجليز وعودهم المعسولة بتأليف مملكة عربية تضم جزيرة العرب والعراق والشام، ولكن البريطانيين لا يسعهم إلا أن يفوا بما عاهدوا عليه فرنسا معاهدة سرية زمن الحرب، قسموا بموجبها البلاد العربية بحسب مصلحتهم، قبل أن يصلوا إليها، وإنجلترا لا ترضى الآن على ما يظهر عن تأليف دولة عربية ذات سيادة في طريق هندها، وهذه هي المرة الثالثة التي خاب فيها أمل عرب السلطنة العثمانية بتأسيس مملكة عربية مستقلة، وفيها كانت إنجلترا السبب المباشر على ما يظهر، كانت أول مرة في عهد عبد الله بن سعود في القرن الماضي أيام استولى على نجد والحجاز، وتقرب من أطراف الشام والعراق، فهاجت إنجلترا الدولة العثمانية عليه حتى أرسلت جيشا من مصر ضربه ضربة قاضية، فقضي على العرب بأيدي العرب. والمرة الثانية كانت يوم استيلاء محمد علي والي مصر على الشام، وما وراءها من أرض قيليقية، وفي هذه النوبة أيضا كان الأمل قويا بإنشاء مملكة عربية بزعامة مصر، فقاتلت إنجلترا بأسطولها جيش محمد علي في الشام وأخرجته منها، كما كانت أخرجت نابليون من مصر في سنة 1802، وعادت بعد ثمانين سنة (سنة 1882م) فاحتلتها.
ويسأل القارئ بعد إلماعنا إلى حالة الدولة العثمانية في أدوارها المختلفة عن الأسباب التي أدت إلى ذاك العلو، وانتهت بهذا السقوط، وقد أوردنا بعض هذه العوامل في الصفحات الماضية، ونريد أن نقول هنا: إن انحطاط الدولة بدأ بإسراف الجنود السلطانية في العصيان، والعبث بما يعلو عن مستوى عقولهم من شئون السياسة، وكم من صدر أعظم ومن ملك قتل بمكايدهم ومؤامرتهم، وما دخل الجند في الأمور المدنية إلا دخل الفساد. ثم إن العلماء كانوا في عهد الفتوح والعظمة يسيطرون على ملوك العثمانيين ، وكان منهم في العهد الماضي رجال أعلام سلمت نفوسهم من المفاسد ينكرون المنكر، ويدعون إلى المعروف، ومن يرد جماح الملك المستبد إذا لم تكن أمامه قوة يخافها ما دام أعظم عظيم في الدولة عبده وابن عبده، وله الحق كل ساعة أن يصدر إشارته بقطع عنقه أو حمله إليه في قصره يعذبه.
كان سليم الجبار يحاذر أن يقع في غضب مفتيه «زنبيللي علي»، وسليم هذا طالما قتل وزراءه من دون سبب، وكان الأمر بالقتل إلى شفتيه أقرب من الشمال إلى اليمين، ولما أحدث ابنه سليمان الألقاب والرتب العلمية، وأمال على العلماء الدنيا، على ما لم يكن لهم به عهد، أمسوا يتنافسون في الإملاء للظالمين من السلاطين، ويقلبون سيئات الملوك حسنات، لا يأخذون على أيديهم فيما يرتكبون من الكبائر، ولا يردونهم إلى صراط الحق في مسائل الدولة. قال ضيا: وسهل على سليمان ومن بعده من السلاطين بهذا العطف الظاهر على العلماء، أن يستصدروا فتاوى بقتل الأبرياء ممن تغضب عليهم الدولة. ويقول أبو الفاروق:
93
إن هؤلاء العلماء، وسماهم «بالمزايدين» على الأحكام الشرعية، أصبحوا يفسرون الأحكام للمتغلبين على السلطان على ما يشاءون وتشاء أهواؤهم، وسماهم الجرارين أيضا؛ أي طلاب الصدقات، فقال: إنهم كانوا من جملة الأسباب إلى تداعي أركان السلطنة، وهم كتائب من المداح جاء كثير منهم من فارس يستوكفون الأكف فاستأثروا بالزوايا، وانهالت عليهم عطايا السلاطين، وأعان على هذا الانحطاط أناس من الروم، زعموا أنهم انتحلوا الإسلام، مثل ميخال وأوره نوس من أمراء الروم، وغدوا بمالهم من المكانة في المقامات العالية يؤثرون فيها بأفكارهم ومنازعهم.
ولما رأى بايزيد أن القضاء أمسى ألعوبة في أيدي تلك الطبقة الفاسدة ممن تسموا باسم العلماء، وقد أصبحت مثارا للفساد والرشوة وضياع الحقوق، جلب منهم ثمانين قاضيا إلى ينيشهر وأراد قتلهم، لولا أن توسط الصدر في الكف عنهم واستتابهم. قال أبو الفاروق: وما الحيلة في مملكة وضع أساسها على أسوار بيزنطية، واتخذت مادتها من فارس، والمملكتان في الفساد «كزندين في وعاء».
94
يقول ريشاروود:
95 «إن الراسخين في العلم من المسلمين لا ينكرون أن هذه الفوضى في المملكة العثمانية ناشئة من تسهيل العلماء على السلاطين المستبدين ما تشاؤه أهواؤهم، ومن إغضائهم عن أعمالهم مهما كانت.» وكانت المناصب الدينية توجه في بدء أمر العثمانيين للكفاة من الرجال في الجملة، وذلك بالامتحان أو بالقدم، فغدت تسند بالشفاعات وبالرشاوى إلى الجهلة، ويصرف رجال القضاء من الخدمة بدون سبب. وبانحطاط القضاء انحطت الدولة، وغدت المناصب الشرعية تباع وتشرى وتورث وتوهب، فتولى الحكم بشريعة الرسول الأميون والجهلة والسفلة من طبقات المجتمع.
كانت الدولة متماسكة الأجزاء، والتوفيق حليفها لما كانت وحدات قوتها منظومة العقد بجندها وضباطها وأمرائها، وعتادها يفوق عتاد من تحاربهم، وسلاطينها ورجال الأمر فيها لا يفكرون في غير مصلحة الدولة. ولما كان لها مدافع
96
تستعملها قبل معظم الدول ظفرت في وقعتي جالديران ومرج دابق بالفرس، والمماليك في آسيا، وبملوك البلقان ودول المغرب المتفقة عليها في أوروبا، حتى إذا تفسخ جيشها، وجمدت على طرائقها القديمة في الحرب، مجتزئة بما كان عندها من سلاح، تراجعت عظمتها، واضمحل سلطانها، ولما انتهى جلب الغنائم من البلاد المفتتحة وضعفت مواردها، زاد السلب في رعاياها فاعتلت أمورها، وفسد جمهورها.
بهر الدولة اتساع ما انضوى إلى علمها من الأقطار والأمصار، فما فكرت في توحيد البلاد، ولا تعرفت إلى حقيقة ما ينهضها، ولا ربت رعاياها تربية مشتركة، ولا سارت في تعليمهم على سياسة معينة، تضمن لها ولهم المستقبل، وكان همها مصروفا إلى الساعة التي هي فيها، وتكتفي من الناس أن يظهروا الطاعة والمشايعة، ويؤدوا الضرائب والمغارم، وكان أعدى عدوها من ينشر في قومه فكرا جديدا، ولو كان ظاهره وباطنه الخير لها ولبلادها؛ ذلك لأنها كانت ترى العلم أداة ضارة بكيانها، وتذهب إلى أن سلطانها يزول يوم يتعلم رعاياها. وما كان النصارى بما متعوا به من امتيازات منذ عهد الفتح، وبما كان لهم من حماية الدول النصرانية في القرون الأخيرة، يعدمون مبشرين ومعلمين يفتحون لهم في القاصية والدانية مدارس وكتاتيب، حتى ارتقى بطول الزمن مستواهم العقلي، ولقنوا معنى الحياة الحرة، واستعدوا للجلاد في ميادينها، فكان من ذلك ضرر غير قليل على مجموع الدولة، والسواد الأعظم من أهلها، وبينما كانت الجندية في العصر الأخير إجبارية على المسلمين دون غيرهم، كان المسلمون ينقرضون في حروبها المتوالية، والنصارى يرتعون في دعة ينمون ويسعدون، ولا يطلب منهم غير جزية ضئيلة. تغافلت الدولة عن تقليد الغرب في مادياته، فقلما أهمتها مشاركته في نهضته الرائعة، وكان غنيها يصادر، وعالمها يضطهد، وماهنها يمتهن، فقضي على حركة العقول والأيدي، وأنى تقوم لدولة قائمة إذا كانت بلادها فقيرة وشعوبها جاهلة؟ ولقد كانت الدولة تحس ضعفها عقبى هزائمها، وسرعان ما كانت تنسى أسباب محنتها، وكانت إلى أخريات أيامها تحول دون تعلم العرب المسلمين، وهم النصف الذي لا يستهان به في السلطنة، ومن الإنصاف أن يقال: إنها لم تعلم الأتراك أيضا، اكتفت بتلقينهم قشورا من العلم يراد منها صوغ عمال وأرباب ولايات، فأصبحت الطبقة المتعلمة مستهلكة غير مستحصلة، وما كان لفقير مقيد أن يرتقي نشاطه إلى أكثر من تحصيل قوت يومه.
واعتقد الناس أن لا شرف إلا مما أتى في قبل السلطان، وأن من لم يشرفه برتبة أو مرتبة أو وسام فلا شأن له في المجتمع العثماني، ففسدت الأخلاق في سبيل الحصول على هذه المظاهر الخلابة، وشغل الناس بالتافهات، وقصارى الدولة أن ترى رعاياها يطلقون الجد، وبعطفها على الدجالين من مشايخ الطرق زاد المسلمون زهدا في العمل والخنوع لأصحاب السلطان، فعلموهم أن ما هم فيه هو السعادة في الدارين، وأن علم أوروبا كفر وهراء وسخرية. جهل المسلمون حتى أمسوا لا يتوقعون الخير إلا من الحكومة، وكان معظم عمالها، وهم أرقى طبقة متعلمة في الأمة، على جانب عظيم من الفساد، يتطلعون أبدا إلى ما بأيدي الناس من دون خشية ولا رحمة.
انتظم علم الترك العثمانيين البلاد التي احتلوها في الجنوب الشرقي في أوروبا نحو خمسمائة سنة فأثروا فيها تأثيرا قليلا، وقاوموا جيوشا غربية ما كان لها من النظام ما كان لهم لأول أمرهم، وما حملوا إلى أهل الأرض التي دخلوها حضارة أنيقة طريفة، فكان سلطانهم قائما على الغلب لا على العلم والصناعات، واستصفى العرب جزيرة الأندلس وصقلية وما إليهما في الجنوب الغربي من أوروبا، وعلى ما فرقهم في أكثر الأدوار من الخلاف الداخلي، وما عانوه من حرب أعدائهم في الشمال يعاونهم على الأكثر جيوش الإفرنج وغيرهم، فإنهم أثروا في تلك البلاد أثرا عظيما بعلمهم وصناعاتهم وأخلاقهم وعاداتهم، أثروا في الإسبانيين والبرتقاليين والكتلانيين والفرنسيين والنورميين والإيطاليين في لغتهم وآدابهم وصنائعهم، ومضى أربعمائة سنة على خروجهم من الأندلس، وأثرهم ماثل للعيان في الأوضاع والمصانع، على شدة الكراهة التي بدت ممن احتلوا أرضهم، وعلى محاربتهم بعد كل ما يدل على آثار أعدائهم في تلك الديار.
97
كان إضعاف قوة العناصر من أعظم العوامل في تهيئة الأسباب لكل خلل في الدولة والأمة، وإذا أضفنا إلى ذلك تدخل النساء في أمور السلطنة في القصر السلطاني، ومن يتبعهن من طبقات الحاشية والغاشية ندرك سرا من أسرار هذا الضعف؛ فقد أفاض التاريخ أن خرم (روكسلان) البولونية زوج سليمان القانوني لعبت بأقدار المملكة زمنا، تعلن الحرب وتعقد الصلح، وسعت بقتل ابن ضرتها ليكون عرش السلطنة لابنها، وعصا شقيقه فهرب إلى فارس فدفع السلطان لشاه العجم أربعمائة ألف دينار؛
98
ليعيد إليه ابنه، فما إن حمل إليه حتى قتله وخمسة من أولاده، وكانت هذه السلطانة السبب في إهلاك إبراهيم وأحمد من الصدور العظام
99
أيضا، ومثلها «كوسم والدة» التي لعبت بأقدار المملكة نحو خمسين سنة، وما انتهت من تدخلها إلا بقتلها، فالنسوان والغلمان كان لهم مدخل عظيم في تقويض بنيان السلطنة.
وهل أعظم من أن يقتل الجواري من أولاد السلاطين من يردن قتله، وقد يكون في القتلى من أبناء الملوك الدراكة الحصيف، على حين لا يكون من يبقون على حياتهم غير أشباه الرجال، والسلاطين منذ عهد الفاتح، وقبل بايزيد، رخص لهم بقانون وضعوه لولاية العهد أن يكون لأولاد الفاتح وأحفاده ممن يجلسون على العرش العثماني، الحق أن يقتلوا إخوتهم حبا بإقرار الراحة في الناس. يقول أبو الفاروق: بدأت سيئة قتل الإخوة من عهد بايزيد الأول وسود الفاتح صحيفته بمثل هذا المنكر، فنشأت من ذلك سلسلة من الفجائع، ورأى الزمان لهذا النوع من القتل مبررا، فوضع في قالب الحرص على سلامة الأمن العام، وما رأوا غير هذا التدبير للقضاء على النزاع إلى السلطنة، وجرت مثل تلك الفظائع في فارس والحكومات الأوربية، غدت هذه السنة السيئة معمولا بها، وقلما خلا ملك من ارتكاب هذا القتل الفظيع، ومنهم من اتهم بقتل أبيه، وأصبح قتل السلطان إخوته وأولاده وأحفاده وبناته والحاملات من نساء السلاطين مما لا يستنكر، وظلت هذه العادة القبيحة من قتل أولاد السلاطين جاريا حكمها إلى عهد محمد الرابع (1099ه)، وكان حاول قتل شقيقه فمنعته والدته، وحال المفتي الأعظم بينه وبين القتل، أورد له كلام الله وخوفه من عذابه. وبذلك انقضى دور قتل أبناء الملوك الذي دام أكثر من ثلاثمائة سنة، وأخذ كل سلطان بعد ذلك يراقب أولياء العهد مراقبة شديدة، ويقيمهم بمعزل عن الناس لا يختلطون بهم، وكان يتولى العرش السلطاني أكبر أولاد السلاطين إلى عهد أحمد الأول، فجاد هذا عن القانون بنصب أخيه مصطفى، وأصبح من القواعد المعمول بها إلى آخر أيام العثمانيين أن يتولى العرش أكبر الأسرة المالكة سنا أو أقربهم من الجد الأول، وكان العثمانيون قبل اتساع سلطانهم يولون الأرشد من أبنائهم، وإن كان أصغرهم سنا، ويرجحون من كانت أمه من أسرة نبيلة لا من السراري والجواري والإماء.
100
ما خلت الدولة في أيامها الطويلة من ظهور نوابغ في السياسة من رجالها، وكانوا إذا تركوا وشأنهم يديرون دفة السياسة الداخلية والخارجية في الجملة على غفلة من الملوك المنحطين، وكثيرا ما كانوا يكتمون أمورا مهمة عن سلطانهم، لا يطلعونهم عليها إلا بعد أن تتم؛ فقد كانت الدولة مرة مشغولة بحروب هائلة على عهد عبد الحميد الأول، فاحتل العجم البصرة، فكتم وزراؤه الأمر عنه أربع سنين
101
حتى تسنى للدولة إخراج أعداء بلاده من أرضه؛ ولذلك كان مؤرخو الإفرنج على صواب في قولهم: إن ما كتب من التوفيق للدولة، يعزى إلى عبقرية الصدور العظام والقواد المحنكين، وإلى الصفات التي تفرد بها الجندي التركي من الصبر والطاعة، والمران على الحرب والضرب، لا إلى السلاطين الذين آثروا حياة القصور المفتونة، وركبوا إلى الشهوات كل مركب، وكان معظم هؤلاء النوابغ من عناصر أقوى من التركي، وأوسع حيلة وتوفرا على العمل والدءوب عليه، ظهروا باللباس التركي، وفيهم البجناكي والألباني والكردي والقوقازي وغيرهم يكتمون أنسابهم، ويخفون عن الشمس والقمر ما يدور في مغيبات نفوسهم.
ذكر لاموش
102
أن الحالة السياسية في الدولة العثمانية أواخر القرن الثامن عشر كانت صورة كاملة من حكومة مطلقة يتصرف السلطان في أرواح أهلها وأموالهم. ولئن كان القرآن، وهو القانون السامي في المملكة، يقضي بقبض يد السلطان عن الاسترسال فيما يريد؛ فقد رأينا غير واحد من ملوك العثمانيين يستعملون الخمر، بل يفرطون في تناولها وفي تعاطي الأشربة المخمرة، مخالفين بذلك صريح آيات القرآن، وقلما كان السلاطين يعبأون بأوامر الكتاب الكريم، أو يراعون القواعد الإسلامية، إذا عن لهم اغتصاب أموال الدولة، إن كان في آياته ما يخالف شهواتهم وأهواءهم ومطامعهم. قال: ولكم كانت حال أرباب المكانة من رجال الدولة حرجة، أخذا من الصدر الأعظم فنازلا، وكل عمل مهما بلغ من خطورته لا يجعل صاحبه بمأمن من المحن، بل لقد كانت مكانة الوزير كثيرا ما تعجل بسقوطه؛ ذلك لأن الملك يحسده على ما خوله من سلطة مطلقة، وقد يحاذر أن تنشأ له حظوة في الأمة، وكلما قرب المرء من أنظار السلطان بحكم منصبه يستهدف لغضبه وهواه، والموظفون يجرون على هذا المثال مع موظفيهم ومستخدميهم، فكانت الإدارة الذوقية والعسف والسرقة، ولا سيما في الأعوام الآخرة عامة شاملة، من أعلى درجات المناصب في إدارة المملكة إلى أدناها؛ ولهذا السبب تعزى الثورات العديدة التي حدثت أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وقد شهدنا لهيبها يندلع في المسلمين قبل أن يهب في النصارى.
وقال أيضا: إن العظمة التي قدرت للمملكة العثمانية أن تأخذ بضبعها إلى أبعد مدى، كانت تحمل معها جراثيم الانحطاط، والسلطة قد تفقد وحدتها وقوتها في مملكة واسعة الأطراف منوعة العناصر، وانتشرت عادة الترف والرشوة بين كبار رجال الدولة، وأصبحت السياسة تدار بأيدي النساء، وصعب مراس أصحاب الإقطاعات، وكثر سواد الجند الإنكشاري، وكانت تتألف منه إلى ذلك العهد نواة صالحة من الجيش العثماني، ثم بطلت الطريقة القديمة في التجنيد من أبناء النصارى، وكانوا يؤخذون صغارا ويربون، فدخل المتشردون والأفاقون في هذا الجيش المختار، بما فتح أمامهم من طرق المغانم، وأصبح الإنكشارية في حل من أن يتزوجوا، وأن يدخلوا أولادهم في الجيش، وما زالت الحال على ذلك حتى مال هؤلاء الجند إلى الفوضى في البلاد، وكانوا على جانب عظيم من الشجاعة في الحروب، وغدوا يرون لهم قوة أمام السلطان، وراحوا ينصبونه أو يسقطونه. قال: وكانوا عقبى تولي كل سلطان جديد يطلبون زيادة رواتبهم فيجابون إلى طلبهم، وأصبحت هذه القاعدة مطردة يسيرون عليها.
وعزا ميشو
103
انحطاط الدولة العثمانية إلى عدة أسباب، أهمها الجهل والجمود والغرور، فقال: كان العثمانيون لأول أمرهم الأمة الوحيدة التي كان لها جيش منظم دائم، وبه أحرزوا التفوق على الأمم التي أرادوا إخضاعها لسلطانهم، وغدت أوروبا في القرن السادس عشر ولمعظم ممالكها جيوش يدفعن بها هجمات الأعداء، ولشد ما انتشر النظام والتربية العسكرية بين شعوب النصرانية، وأخذت المدفعية والبحرية تزيدان كل يوم نظاما ورقيا في الغرب، هذا والأتراك يزهدون في التجارب التي وصلت إليها الجيوش البرية والبحرية، وهم قلما يستفيدون من العلوم التي انتشرت بين أعدائهم وجيرانهم.
قال: ومن الأسباب التي أضعفت قوة الجندية في الأتراك تلك الحروب التي شهروها على أوروبا وفارس؛ فقد صدتهم حربهم الفرس عن حملاتهم على النصارى، وأضر جهادهم في النصارى بنجاحهم في حروب آسيا؛ فبعد أن قاتلوا زمنا مقاتلة ما وراء النهر والقوقاز عجزوا عن قتال أوروبا، فوهنوا في حرب الفرس وحرب النصارى من أمم الغرب، ثم إن طريقة الإقطاعات التي أتوا بها من بلادهم الأصلية لم يتركوها وراثية؛ لينشأ إلى جانب السلاطين طبقة من الأشراف، على ما هو الحال في الحكومات الأوربية المطلقة، وبهذا لم يبق في المملكة العثمانية سوى سلطة رئيس مطلق إلى جنبها ديمقراطية عسكرية. وربما كان من استئصال الزعامة (الأرستقراطية) الوراثية ما قضى على الأمة العثمانية أن تبقى في حالة الهمجية، وبطبقة الزعماء في الأمم تهذب الأخلاق، وتثقف العادات، وبالطبقة الوسطى تنتشر المعارف وتستفيض المدنية.
قال: وبالنظر إلى زهد الأتراك في العلوم والآداب، ظلت أعمال الصناعة والزراعة والملاحة في أيدي مواليهم، وهؤلاء كانوا في الحقيقة أعداءهم؛ ذلك لأن الأتراك كانوا يشمئزون من كل جديد، وتنبو نفوسهم عن كل ما لم يحملوه معهم من آسيا، فاضطروا أن يلجئوا إلى الغرباء في كل ما اخترع ونظم في أوروبا، فأمسوا وليس لديهم نقض ولا إبرام في مصادر سعادتهم ومنعتهم، وفي تعزيز جيوشهم وأساطيلهم. ولما كان الشأن في حروبهم للفيالق المتحمسة بالتعصب كانت الغلبة لهم، حتى إذا جاء دور العلوم البشرية، والانتفاع بما أبرزته العقول من المخترعات والمكشوفات كان العقل المساعد هو الذي أبطل حكم الشجاعة التي اتصفوا بها، وأهم ما أخر الأتراك وقادهم إلى الانحطاط ذكرى مجد سالف، وإعجاب وطني، لا تناسب بينه وبين ثروتهم وقوتهم، فكانوا إذا حدثت لهم قوة يستهينون بالأخطار التي تهددهم، فإذا كتب لهم النصر سكروا وقربوا القرابين، وإذا غلبوا حملوا على رؤسائهم. ا.ه.
وقال كورنو:
104
كان القرن السابع عشر، بلا جدال، عصرا عصيبا في تاريخ الدولة العثمانية، كان عهد صراعها مع أوروبا النصرانية، وما كان التعصب الإسلامي في زمن من الأزمان أشد تهديدا للنصرانية مما كان عليه في القرن السادس عشر على عهد سليم وسليمان. ومما لا مجال للشك فيه أن الهرم كان في القرن الثامن عشر دخل جسم المملكة التركية، ولكن وقع لها في الفترات، أي خلال القرن السابع عشر، ما يقع نظيره في عصور الانتقال؛ أي ما يدل على إقبال وإدبار معا. عاد الأتراك يغيرون على الغرب ووقفوا على أبواب فينا، فانتبهت فكرة البطولة والقيام بحرب صليبية حتى في رجال دولة فرنسا، استولى الترك على قندية على ما لقوا من مقاومة أشراف الفرنسيس، وبعد انسلاخ أعوام قليلة كان من جهد حكومة مشرفة على السقوط؛ (أي فرنسا) ما كفى لنزع المورة من أيدي الأتراك. ومن الواجب أن يلاحظ أن التفوق القطعي في الحضارة الأوربية على الوحشية التركية لم يكن ذا صلة بتقدم العلوم ولا بارتقاء فنون الحرب، وكان من ذاك الجندي الوحشي الذي لا يعرف النظام، ومن ذاك الوزير الجاهل، إذا نشب القتال وضاق الحصار أن يحولا دون توفيق القواد والمهندسين ممن تدربوا أحسن تدريب، على حين كان يمزق أوروبا النصرانية شقاقها الداخلي، ولم يكن لأحد من ملوك النصارى من السلطان في الواقع مثل ما كان لصاحب تركيا يومئذ، فاستلزم ذلك أحيانا أن تتغلب القوة الجسمية والعددية على العلم والدربة، وما مال الميزان إلا بارتقاء النظام والإدارة وتطبيقهما على مسائل الحرب، وكان من استفاضة الغني عاملا قويا من جملة العوامل في كف عادية العثمانيين، فأصبح في وسع كل دولة أوربية أن تجند جيوشا وتمرنهم، وأن تجهز أساطيل وتمدها، وعجزت الشعوب الآسياوية، بما كانت عليه من الحالة الاجتماعية، عن مقاومة الغرب مقاومة فعلية، إلا ما كان يخدمها من بعد المسافات واختلاف الأجواء، وبذلك بطلت معاودة الأتراك الغزو والغارة.
هذا رأي مؤرخين غربيين في الدواعي إلى انحطاط الدولة العثمانية، وإليكم آراء أربعة لمؤرخين من الأتراك، كتب الأول رأيه في أول عهد انحطاط الدولة وهو «قوجي» في رسالته، فقال: إن مما أدخل الخلل في الدولة زمن السلطان سليمان القانوني كونه تجافى عن حضور الديوان بنفسه، فبعد ما بينه وبين أمراء دولته وقوادها وغدا ينكرهم ولا يعرفهم، وقد عهد بالصدارة العظمى إلى إبراهيم باشا من خواص خدامه من دون سابقة له في خدمة، وما نظر إلى القاعدة التي كان يجري العمل عليها في توسيد منصب الصدارة، وأصبح من المألوف أن يرقى كل سلطان إلى هذا المنصب الجليل من ترغب فيه نفسه، وهو قليل الخبرة ولا يسترشد مع هذا برأي العارفين، ففسدت أمور الناس واختل نظامهم، وزوج القانوني ابنته من رستم باشا، فمنحه من الإقطاعات ما لا يتطاول إلى مثله ملك من ملوك الطوائف، وأخذ ذراري أولئك المالكين يقفون الإقطاعات، فأضاعوا بذلك دينهم ودنياهم ؛ إذ خالفوا الشرع بإخراب هذه المزارع وهي ملك بيت المال، وأنشأ رستم يعهد إلى اليهود بإدارة إقطاعاته ونزعها من أيدي المسلمين، فقل ارتفاعها وخرب عمرانها، وبهر السلطان ما انهال عليه من الأموال، فزاد في الرفاهية والبذخ وتطلب الشهرة والصيت، فاقتدى به وزراؤه، وأمسى الناس لا يفكرون في غير البذخ والتفخل وعم الاعتداء على الناس فخربت البلاد.
وقال أيضا على ما رواه راسم في التاريخ العثماني: لقد أصبحت المناصب السلطانية بعد سنة 990ه، تباع بالرشاوى إلى غير من تأهلوا لها، وقام أشقياء الجلالي في سنة 1004، وآغاروا على القرى والمزارع في ولايات كثيرة في الأناضول وبلاد العرب، فخربوا العامر وجعلوه قاعا صفصفا، ثم آغاروا على بروسا وحرقوا كثيرا من أحيائها، وخرج العربان والتركمان عن حظيرة الطاعة، وغلوا في إطالة أيدي ظلمهم وتعديهم على فقراء الرعية، فخربت قرى كثيرة في تلك الديار أيضا، وقام أشقياء القوزاق في سواحل البحر الأسود، واعتدوا على السكان، وأسروا الآمنين من المسلمين، وأتوا على العروض والحدائق والحقول فنسفوها. وبعد أن عدد ما خرج من سلطان الدولة من الأقاليم، وما لقيه أهلها من العنت والمغارم. قال: وهكذا شأن سائر المملكة أتى الظالمون منا عليها فألبسوا الرعايا لباس الجوع والخوف. فأي مصيبة أعظم من هذه المصيبة، ومن المعلوم أن لا قيام للسلطنة إلا بالجند، ولا جند بلا مال، ولا مال إلا ما أتى به الرعايا، ولا تقوم لرعية قائمة إلا بالعدل . أما الناس في هذه الأرض فقد أصبحوا وقد سلب قرارهم وباتوا غير آمنين في سربهم، تتحيفهم المظالم، وتمزق شملهم الغوائل، فقل بذلك ارتفاع بيت المال، وآض أرباب السيف إلى هذه الحال، تنزع البلاد الإسلامية من يد سلطانها، ولا ترى لهم تدبيرا يدبرونه ولا دواء يصفونه، ولا يرجعون عن سفاهتهم، ولا ينتهون من غفلتهم.
وقال أحمد راسم يوم أن زالت سلطة الاستبداد بإسقاط عبد الحميد الثاني: تغبط أعظم إمبراطوريات العالم الدولة العثمانية على ما كان لها من الملك العظيم، والسلطان الذي يضم تحت لوائه زهاء ثلاثمائة مليون من المسلمين، ارتبطوا بالخلافة العثمانية برباط معنوي أكيد؛ ولكن سوء الإدارة وقلة المعارف وسيئات الحكومة وكسل الأهالي وما أشبه ذلك من المساوئ المادية والمعنوية، أفقد الدولة كثيرا من أملاكها وطأمن من عزة سلطانها، وأمست على عهد عبد الحميد الأول بعد أن عقدت معاهدة كوجك قينارجة مع روسيا أشبه بإيالة روسية لا تتحرك إلا بحركة حليفتها، وأصبحت في عهد عبد الحميد الثاني تهدد حياتها كل ساعة أصغر الحكومات شأنا، وهي بلغاريا المعدودة من الإمارات التابعة لها.
وقال جلال نوري
105
في عهد الحرية العثمانية الأخيرة على عهد الاتحاديين: يشبه الأتراك الرومان؛ فقد كان الرومان أمة حربية لا شأن لها إلا اقتسام الغنائم، فاضطروا إلى أن يتركوا للأمم حريتها لتتوفر على العمل والإنتاج، وبدءوا يسلبون الغرباء والبربر، ثم أخذوا يطيلون أيديهم على أموال الأمم في آسيا وإفريقية، ثم أنشأوا ينهبون رومية. وقال:
106
كان الأتراك يعلقون شأنا عظيما على الغنائم؛ فقد دخلوا إلى صميم بلاد النمسا، وتوغلوا في أرض الإفرنج حبا في المغانم، وما كان لهم متسع من الوقت يصرفونه في التجارة والصناعة، فكانت حالة الترك كحال رومية في هذا المعنى.
كانت رومية مقر الدولة الرومانية لا صناعات فيها ولا تجارة، والذريعة الوحيدة لجمع ثروة العظماء، إعلان الحرب وتقسيم الغنائم، وهكذا كان شأن البلاد العثمانية الأولى؛ إذ كان نيران الحروب أبدا والتوفر على تقسيم الأسلاب والأنفال. وما وقع في المجتمعات التركية والتترية وقع مثله في المجتمعات الرومانية؛ فقد كان لتقسيم المغانم قواعد وأصول، ولما كانت رومية عرضة على الدوام للحروب والغارات والانتقامات، امتزج فيها حب النفس بحب الأسرة، وحب الوطن بالاستعداد الحربي، ومثل ذلك وقع للأتراك، أصابهم ما أصاب الرومان. ا.ه.
وقال رابعهم رضا نور
107
في عهد تركيا الجمهورية: يرجع انقراض دولة العثمانيين إلى عوامل كثيرة، أهمها انقطاع البطولة من المسلمين، وقيام الترك سدا أمام النصرانية جلب عليهم خصومة أوروبا جمعاء، ونسلت القرون ومطارق النصارى تتساقط على رءوس الأتراك. وبالتغافل عن حقوق الوطنية التركية، والرغبة عن جعل التركية أساسا لسياسة الدولة، صانوا أديان من سقطوا عليهم من العناصر، وأبقوا على ألسنتهم بل عززوها ونصروها، وبمنح محمد الفاتح الروم امتيازات مذهبية أحدثوا دولة في دولة، ولم تصبح البلاد متجانسة، بل أمست كبرج بابل بتبلبل الألسن فيها. ولقد حافظ السلجوقيون لما نزلوا آسيا الصغرى على جميع الأديان والقوميات الغربية التي كانت فيها، وجرى العثمانيون على طريقهم، فاحتفظوا بما وجدوه ولم يعرفوا ما هو التمثيل، وكانت هذه العناصر كلما افترصت فرصة استلبت من بناء الدولة حجرا وذهبت به، وهذه الأجناس هي التي فتحت للأجانب سبيل المداخلة في الشئون الداخلية في الدولة، فكانت العامل في انقراضها. قال: ومن خرق الرأي الإبقاء على صنف من الرعايا يؤدون الخراج للدولة، وهذا من أساليب العرب وأصولهم. وعد من العوامل المؤخرة تدخل الدين في مصالح الحكومة، وجهل الملوك واستبدادهم وسفاهتهم، والعناية بتربية أبناء الصرب والروس والأولاح والأرمن والعرب والأرناؤد والكرج والشركس وغيرهم من العناصر، وتسليم زمام أمور الدولة إليهم، بدلا من أن يؤخذ بأيدي الأتراك أنفسهم، وكانت هذه العناصر تبذل الجهد للقضاء على التركية وإسدال الحجاب دونها. واعتصم ملوك الأتراك بالإسلام، فزادوا التعصب قوة، وكانت روسيا تنتقم لمملكة بيزنطية فتحارب العثمانيين على الدوام. قال: وكان على الترك أن يضموا العنصر التركي بأجمعه تحت علم واحد. ومن أخطائهم أن توسعوا في إفريقية، وأن نطحوا برءوسهم قلاع فينا في أوروبا، ثم وقفوا وأدمغتهم دامية. وزعم أن من دواعي الأسف فتحهم السبيل لرواج اللسانين العربي والفارسي، فداس هذان العنصران لسانهم الخاص؛ أي التركية، وعبث بالأمة الفقر، وعصف بها عاصف الجهل.
هذا رأي الغريب عن الترك والقريب منهم في انحطاط الدولة، وهو حق في جملته، وآية كل هذا أن قوة السيف لا تدوم إذا لم يؤيدها العقل، وأن فتح الأرض لا يطول إن لم تفتح قلوب أهلها بالإحسان، ولما لم يرع للعناصر في هذه الدولة العظيمة حقها بقيت على حذر، ولم تمتزج بالفاتحين ولا أحبتهم ولا أحبوها، فكان من كل ذلك القضاء على الدولة العثمانية.
الخاتمة
سيقول من تابعونا إلى هذه المرحلة فيما كتبنا، إنك يا هذا ذكرتنا بما تيسر من حاضرنا وغابرنا، وذاكرتنا في حكمة الصعود والتدلي في تاريخنا، وأوردت ما تم من الحسنات على أيدي أجدادنا، وشفعتها بما وقع عليهم وعلينا وعلى غيرنا من التبعات، فما السبيل بعد هذا إلى استعادة مجد ضاع أكثره، في زمن غل فيه الغريب أيدينا عن عمل ما يصلحنا؟
السبيل أن نعود أبناءنا الصدق في القول والعمل، وندربهم على إعمال الروية والتفكير الصحيح، وننشئهم على قوة الإرادة والاعتماد على الذات، ونؤدبهم بأدب النفس وأدب الدرس، ونعلمهم أن إتقان لغتهم الفصحى هو الأصل الأول في نهضتهم، وأن تجويد كل ما تصنعه اليد ويهيئه العقل هو السر الأعظم في قيام مجتمعهم، وأن كل عمل نافع بقدر ما ينتج من فائدة، وكل صناعة شريفة إذا لم تكن مما يثلم الشرف والمروءة. نخرج أطفالنا في صناعات يقتصدون من ربحها؛ ليوقر في نفوسهم أن عليهم تبعة في الحياة، ولا يجمل بهم الاتكال حتى على آبائهم إلا في سن معينة، نعود البنين والبنات أن يفكروا في مصلحة الجماعة تفكيرهم في مصالحهم الخاصة، وأن يؤمنوا أن المرء لا يعيش إلا بالتكافل مع أخيه الإنسان.
نلقن أولادنا المجمع عليه من الأصول الدينية والمدنية، وندعوهم إلى أن يمتنعوا من تقليد الغربيين إلا في الأمور المادية النافعة، التي لا تضر بمشخصاتهم ومقدساتهم. نحملهم على ألا يبتعدوا عن الغريب كل البعد، ولا يفنوا في تقليده كل الفناء، ونأخذ كل فرد بالجد في كل شأن، ونعني بتهذيب المرأة عنايتنا بتعذيب الرجل، ونقتصر في حجب نساء المدن الحجاب الشرعي، على مثال نساء القرى والبوادي من دون تبرج ولا تبذل، ونلتمس من الحكومات أن تسن قانونا لإكراه الشبان على الزواج وتخفيف المهور إلى حد يتلاءم مع اقتصاديات كل بلد، ونقتصر ما أمكن على تثمير ما تنتج أرضنا وتصنع أيدينا من حاصلات وصناعات، ونحذف كل زائد من الرفاهية والبذخ، ونعاون الحكومات على تربية ناشئتنا، فننشئ من أموالنا بالاكتتاب كتاتيب في كل حي ومنزلة وضيعة، ومدارس عملية للصناعة والزراعة والتجارة، ودروسا ليلية نقضي بها على الأمية، ونربي في الناشئة الذوق والحس والشعور بالجمال، ونحبب إليهم التمثيل والموسيقى والغناء والإنشاد؛ لتطيب الحياة ويدخل السرور إلى البيوت، ونتوخى أن تدور معاني الآغاني والأناشيد على تقوية العزائم، وتنشيطه الآمال، والدعوة إلى الواجبات البشرية والاجتماعية. ونبذل الجهد في كل صقع ألا يتولى الأعمال الدينية والمدنية إلا من ثبتت كفايتهم، وسلمت من الضعف والنقص أخلاقهم، فيخرج الجهلة من بيوت العبادة ودور الحكم والقضاء والإدارة، ويطلب إلى كل حكومة أن تصرف ربع دخلها وأوقافها على التعليم والصحة، وتوزع ما تملكه من الأرضين على الفلاحين والعاملين، ويعنى أهل كل حي وقرية ومزرعة أن ينشئوا لهم كتابا وجامعا وحماما وملعبا وخزانة كتب صغيرة تلائم حاجتهم ومحيطهم.
ينقب أهل كل حرفة النقباء، وينزلون على رأي المحنكين من الشيوخ في نقاباتهم، وتتألف جمعيات لمكافحة المخدرات والمسكرات والتدخين والفحش والإسراف، وجمعيات للرياضات البدينة والسياحات العلمية، وجمعيات ينشر فيها الخاصة بين العامة رسائل دورية واضحة مشكولة تكتب بلغة معربة مفهومة، في موضوعات أدبية واقتصادية واجتماعية، فيها لهو ولعب وفيها تعليم وتهذيب وجد، ويطوف المتعلمون في أيام مخصوصة يحاضرون قومهم ويسامرونهم في مسائل تطبعهم بطابع الوطنية وحب العرب والعربية، وتعرفهم إلى المشهورين من رجال الإسلام وغيرهم في الدهر الغابر والحاضر، وتذكرهم بما لهم وعليهم من الحقوق والواجبات.
وتحول ما أمكن الزكوات والصدقات إلى ملاجئ يأوي إليها اليتامى والعجزة، ومن قعدت بهم الأيام عن الكسب، حتى تبطل الكدية ويقل الشقاء والبؤس، ويضطر كل صحيح الجسم إلى ممارسة عمل يعيش منه بكده، ويكون من أولى القواعد ألا يبدأ بعمل قبل التفكير فيه طويلا، وألا يستهان بمال قليل يجمع لهذه الأغراض من أول الأمر، ثم تترك سياسة كل بلد للصالحين من أهله، لا يشاركهم فيها جمهور الناس إلا عند الحاجة القصوى، وبقدر معلوم إلى حد معين. والزمان كفيل مع اتخاذ الأسباب بحل كل معضل، والأمة الصحيحة العقل والجسم، المجهزة بالأجهزة اللازمة في كفاح الحياة، مضمون لها البقاء، وميسور لها أن تعيش حرة، إذا صمدت وصبرت وعملت واغتنت، والله ولي التوفيق.
تعاليق
التعليقة الأولى (ج1، ص11)
ذكر أحد الباحثين في جريدة الكوتيدين
Le quotidien
الباريزية تحت عنوان «تاريخ الأمم المغلوبة على أمرها لم يكتب» أن المجلس الأعلى لبقايا هنود أميركا في الولايات المتحدة أرسل إلى شيخ مدينة شيكاغو احتجاجا جاء فيه: أن الكتب المدرسية المستعملة الآن في الولايات المتحدة، صورت تاريخ قبائل الهنود في صورة مخالفة للحقيقة التاريخية. قال الكاتب: وليتنا نفكر قليلا فيما كانت عليه أميركا قبل أن يفتتحها كولمبس، ونقرأ ما قصه الفاتحون الأولون وأرباب الرحلات الأقدمون من الأقاصيص الغريبة، ونلقي رائد الطرف على المدن القديمة في العالم الجديد وما بلغته من الازدهار، وما غصت به من المعابد العظيمة التي تضاهي بعظمتها معابد مصر، وتماثيلها العظيمة المحلاة بالذهب، وما كان هناك من متاحف وخزائن كتب ومراصد فلكية، وإذا كتب لك أن تتوغل في مدنية المكسيك ومدنية الماياس في يوكاتان والأنكاس في الأند - إذا رأيت كل هذا استنتجت، والدهشة آخذة منك، بأن فتح أميركا كان من أعظم جنايات أوروبا. قال: وليست هذه الجريمة، ويا للأسف، وحيدة في بابها؛ فقد كان تاريخ المدنية والعالم خلال أدوار طويلة مغموسا بالدماء المكروهة، والجنايات آخذا بعضها برقاب بعض. قال: وإن تاريخ العالم، على النحو الذي تعلمناه في الكتاتيب والمدارس والجامعات، لا يذكر الغالبين بخير إلا إذا أريد إيراد فضائحهم، والنظر إلى سقوطهم نظر عداء ومكر، ومنذ عهد قريب فقط أخذوا يذكرون في كتب التاريخ القديم ما قام به الإيجيون سكان شواطئ بحر هيجاي من الأعمال الجليلة، وما كان من أمر المملكتين القديمتين العظيمتين أكاد وسومر، ومنذ زمن غير بعيد رجع العلماء عن القول بالخرافة القديمة في أصولنا الآرية أو الهند الأوربية. وقد تلطف كميل جوليان المؤرخ كل التلطف، حتى وفق إلى إدخال أصول جديدة في التاريخ الرسمي من مقتضاها أن المدنيات الأولى في فرنسا، كانت حضارات إيبيرية إسبانية وليغورية إيطالية، يتجلى طابعها في سحناتنا وربما تجلى في عقليتنا، وإن نفينا زمنا هذا الطابع من طوابع أجدادنا ولم نعترف به. قال: ومن قرأ تاريخ إفريقية الشمالية القديمة يعرف أنه قامت حضارة زاهرة في جبل الأطلس قبل ألوف من السنين للميلاد، وكان في تلك الأصقاع مدنية بربرية قويمة ذات علم وفن، تعب المصريون والفينيقيون في القضاء عليها، وأنه كان لأيرلاندا حضارة بديعة فيها البطولة والتقوى، ولم يتعرض المؤرخون من البريطانيين لذكرها ووصفها، ومثل ذلك قل في الشعوب الإيطالية الأولى، قبل أن تؤسس رومية وتنمو، فإن أمرها مجهول، حتى لنجهل اللغة التي كان يتكلم بها الإيتروسكيون الذين شرعوا لرومية الشرائع، وأقاموا لها الملوك، وخلقوا لها أربابا وآلهة. ا.ه.
التعليقة الثانية (ج1، ص22)
قال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات: معظم البلاء في وضع الحديث إنما يجري من القصاص؛ لأنهم يريدون أحاديث ترقق وتنفق، والصحاح تقل في هذا، واختلف أهل البصرة في القصص، فأتوا أنس بن مالك فسألوه أكان النبي يقص؟ قال: لا. وأخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن نافع وغيره من أهل العلم، قالوا: لم يقص في زمان النبي ولا زمان أبي بكر ولا زمان عمر، وإنما القصص محدث، أحدثه معاوية حين كانت الفتنة. قالوا: ما أمات العلم إلا القصاص، يجالس الرجل القاص سنة، فلا يتعلق منه بشيء، ويجلس إلى العالم فلا يقوم حتى يتعلق منه بشيء. وفي كتاب «تحذير الخواص من أكاذيب القصاص» للسيوطي فصل في إنكار العلماء على القصاص ما رووه من الأباطيل، وسفه القصاص عليهم، وقيام العامة مع القصاص بالجهل، واحتمال العلماء ذلك في الله.
التعليقة الثالثة (ج1، ص39)
نص القرافي وابن حزم على أن من حق حماية أهل ذمتنا إذا تعرض الحربيون لبلادنا، وقصدوهم في جوارنا، أن نموت في الدفاع عنهم، وكل تفريط في ذلك يكون إهمالا لحقوق الذمة. ويقول القرافي: إن من واجب المسلم للذميين الرفق بضعفائهم، وسد خلة فقرائهم، وإطعام جائعهم، وإلباس عاريهم، ومخاطبتهم بلين القول، واحتمال أذى الجار منهم، مع القدرة على الدفع، رفقا بهم لا خوفا ولا تعظيما، وإخلاص النصح لهم في جميع أمورهم، ودفع من تعرض لإيذائهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم، وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يفعل معهم كل ما يحسن بكريم الأخلاق أن يفعله. ا.ه. ولما تغلب المسلمون على التتر في الشام خاطب ابن تيمية قطلوشاه في إطلاق الأسرى، فسمح له بالمسلمين، وأبى أن يسمح له بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام: لا بد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فأطلقهم له.
التعليقة الرابعة (ج1، ص55)
يقول جوليفه كستلو في كتابه قانون التاريخ
Jolivet Castelot: La Loi de l’histoire ، كان التقدم العربي بعد وفاة الرسول عظيما، جرى على أسرع ما يكون، وكان الزمان مستعدا لانتشار الإسلام، فنشأت المدنية الإسلامية نشأة باهرة، قامت في كل مكان مع الفتوحات بذكاء غريب، ظهر أثره في الفنون والآداب والشعر والعلوم، وقبض العرب بأيديهم، خلال عدة قرون، على مشعل النور العقلي، وتمثلوا جميع المعارف البشرية التي لها مساس بالفلسفة والفلك والكيمياء والطب والعلوم الروحية، فأصبحوا سادة الفكر، مبدعين ومخترعين، لا بالمعنى المعروف؛ بل بما أحرزوا من أساليب العلم التي استخدموها بقريحة وقادة للغاية، وكانت المدنية العربية قصيرة العمر، إلا أنها باهرة الأثر، وليس لنا إلا إبداء الأسف على اضمحلالها.
ولقد كانت المملكة العربية من السعة والانتشار بحيث يتعذر بقاؤها، وسرعان ما تمزقت بتأثير المنافسات السياسية والدينية؛ فقد نشأت ثلاث خلافات أواخر العهد العباسي (بغداد ومصر وقرطبة)، قامت في ثلاثة مراكز قوية عظيمة، وكانت سيرة الخلفاء كسيرة المستبدين من المشارقة، يحبون البذخ ولهم أدب ومكانة، بيد أنهم كانوا قساة لا يبالون ما يصيب رعاياهم من بؤس، يغلون أبدا في تقاضيهم الضرائب الفاحشة. ولئن كان سادة البلاد أصحاب أثرة، فإن العمل الذي تم حولهم كان أسمى منهم، ومنه نشأت مدنية مدهشة، وإن أوروبا لمدينة للحضارة العربية بما كتب لها من ارتقاء، من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر، وعنها أخذت الفكرة الفلسفية والعلمية التي سرت إليها سريانا بطيئا ناقصا في القرون الوسطى، وإن أوروبا لتتجلى لنا منحطة جاهلة أمام المدنية العربية، وأمام العلم العربي والآداب والفنون العربية، وأوروبا تدين بالهواء النافع الذي تمتعت به في تلك العصور للأفكار العربية، وقد انقضت أربعة قرون ولا حضارة فيها غير الحضارة العربية، وعلماؤها هم حملة لوائها الخفاق. ا.ه.
التعليقة الخامسة (ج1، ص95)
جاء في تاريخ غزوات العرب لرينو أن عدد المسلمين الذين تنصروا في فرنسا كان كبيرا، وهذه نتيجة طبيعية للحالة التي كانت يومئذ، ولكن الفرنسيس الذين اتخذوا الإسلام دينا كانوا أكبر عددا، فإن الغزوات الإسلامية الأولى لفرنسا، وسبي المسلمين الذراري من أهلها، وما كان التجار يتجرون به من الرقيق، كل هذا قد أدخل في الإسلام عددا لا يحصى من الإفرنج. ومن المعلوم أن المسلمين يتلقون النصارى الداخلين في دينهم بمزيد التساهل، ويعنون بهم ويوفرون حظوظهم وأرزاقهم، وبهذا كثر عدد النصارى الذين صبأوا عن دينهم ودخلوا في الإسلام.
التعليقة السادسة (ج1، ص96)
يقول يوهان يورت في كتابه أزمة الحقيقة
Gohan Hjort: La crise de la vérité
أثناء كلامه على ما قامت به النصرانية من تخريب أوروبا، لما أرادت نشرها فيها وقضائها على أناس من سكانها كانوا أقل من المهاجمين قوة، إنه فرغت أرجاء كثيرة من سكانها على حين كانوا ينقلون ملايين من الزنوج من إفريقية إلى أميركا؛ ليكون حكمهم حكم الحيوانات الأهلية، فقضت عليهم الأمراض والغول التي جاءوهم بها من أوروبا، وطوردوا وأبيدوا وأكرهوا على أعمال قاسية، وقرضوا لهم الحيوانات التي كانوا يغتذون بها. وبعد أن ذكر ما أبقته حرب الثلاثين سنة من الفجائع في أصقاع واسعة من بلاد ألمانيا، وذكر ظلم القضاء ولا سيما ديوان التحقيق الديني، ودعاوى السحر، وكل ما يمكن الخرافات اختراعه. قال: كانت السجون بؤرة الفظائع، ومغارات الشقاء والظلم، وكان اليتامى إذا فقدوا معينهم يموتون أو يعيشون عشيا شقيا، ولطالما رأت الشمس عصابات من جياع الأطفال هلك آباؤهم في الحروب، وهم هائمون على وجوههم في الحقول، يغتذون بالأعشاب والجذوع.
التعليقة السابعة (ج1، ص211)
لم يتمكن أهل إسبانيا من أن يحولوا دون تغلغل النفوذ الإسلامي في صميم حياتهم، حتى إن ممالك إسبانيا النصرانية استعملت النقود الإسلامية أربعة قرون، واستحضر كثير من ملوك قشتالة وأرجون جما غفيرا من علماء المسلمين واليهود، وقدموهم في مجالسهم، ورفعوا من أقدارهم، كما استخدم كثير من ملوكهم مهندسين وبنائين من المسلمين، وفتحوا أبواب مجالسهم لكثير من الموسيقاريين والشعراء من المسلمين؛ للتلذذ بطيب أنغامهم وحلو حديثهم، ومات روح التسامح هذا بالقضاء على الإسلام في إسبانيا، وحل محله روح خبيث ملؤه التعصب الأعمى، الذي أشعل ناره القساوسة الكاثوليك؛ لتصبح إسبانيا أسيرة رقهم وعبوديتهم.
وكان المسلمون في الأندلس يفضلون أبدا أن تكون أمهات أولادهم من الأسر النصرانية العريقة في المجد والحسب، فأخذ الدم العربي بطبيعة الحال يقل في عروقهم مع مرور الزمن؛ ولذلك كان من الخطأ أن نقول: إن كل مسلمي إسبانيا عرب، أو إن كل نصاراها رومانيون أو قوط، كانت اللغة العربية في إسبانيا اللغة الرسمية، ولغة الرومان لغة دارجة يتكلم بها الجميع، العرب والمستعربون، وهي عامة في جماع طبقات قرطبة حتى في المحاكم، وفي القصور الملكية، الفصحى لغة العلماء والأدباء، والعربية العامة لغة الحكومة والإدارة، وهناك لغة رومانية اشتقت من اللاتينية، وهي التي تولدت منها اللغة الإسبانية.
ومما زاد في انتشار الحضارة الإسلامية في الأقطار الإسبانية الشمالية النصرانية، ومنها انتشرت في أرجاء أوروبا، هجرة المستعمرين، فرارا من الاضطهاد الذي لحقهم، على عهد دولتي البربر المرابطين والموحدين، خصوصا في الدور الذي انقضى بين سنة 1090 وسنة 1144م، وهذه أول مرة في تاريخ الأندلس نشأ فيها تعصب ديني، وقد جاء به ملوك البربر من الجنوب وقساوسة الكلونياك من الشمال.
وما كاد القرن العاشر الميلادي يتبلج، حتى كانت المدنية الإسلامية قد انتشرت في إسبانيا كلها، في البلاد الإسلامية والنصرانية سواء، ولما سقطت مدينة طليطلة في حكم الممالك النصرانية، انتشرت حضارة الإسلام في عامة أصقاع أوروبا، وخلفت طليطلة مدينة قرطبة في التفرد بالحضارة والعلوم، واحتفظت بمكانتها إلى ما بعد سقوطها في أيدي الإفرنج في سنة 1085.
كان بلاط الملك ألفونسو السادس متشبعا بالمدنية الإسلامية، على نحو ما كان بلاط فرديناند الثاني في بلرم في القرن الثالث عشر، حتى لقد لقب ألفونسو نفسه بإمبراطور الديانتين، وكان الطلبة يؤمون مدارس طليطلة من كل ممالك أوروبا، حتى من إنجلترا واسكتلندا. ومن أعظم ما خلفه مسلمو إسبانيا للمدنية الغربية ما كتبه فلاسفة المسلمين، وعلى ما كانت عليه دولتا المرابطين والموحدين من التعصب، لم تتعرضا للفلاسفة بل شجعتاهم، ولكن على ألا ينشروا تعاليمهم بين الناس، ولم يظهر أعاظم المفكرين في المسلمين في عصر خلفاء قرطبة الزاهر، بل ظهروا في عصر الفوضى والاضمحلال السياسي، وكان هؤلاء الفلاسفة همزة الوصل في نقل فلسفة أرسطو إلى العرب، وكان الإنجليزي أو الاسكتلندي يضطر إذا أراد أن يدرس الفلسفة اليونانية، أن يرحل إلى طليطلة؛ ليدرسها باللغة العربية على شيوخ المسلمين.
كان ألفونسو التاسع ملك قشتالة وليون (1252-1284م) أعظم علماء النصرانية في إسبانيا، استدعى كثيرا من اليهود؛ ليترجموا له الكتب العربية، وكتب بنفسه شيئا كثيرا من النثر الإسباني تجلى فيه الروح العربي، (عن مقالات من تراث الإسلام أو أثر الإسلام في المدنية الحديثة، عربها عن الإنجليزية مأمون عبد السلام، ونشرها في جريدة البلاغ المصرية في 14 من ربيع الثاني 1353 وما بعده).
ويقول رينو في تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط: إن المسلمين في مدن الأندلس، كانوا يعاملون النصارى بالحسنى، كما أن النصارى كانوا يراعون شعور المسلمين، فيختنون أولادهم ولا يأكلون لحم الخنزير. وقال: إن النهضة الحقيقية في أوروبا لم تبدأ إلا منذ القرن الثاني عشر؛ أي منذ زحف أهل الغرب لقتال أهل الشرق، ووقفت النصرانية والإسلام في الصراع وجها لوجه، فوقع الاحتكاك بين المسلمين والنصارى، وأفاق الفرنسيس والإنجليز والألمان من رقدتهم، ونفضوا عنهم غبار الخمول، ووجدوا ضرورة الاشتراك في المدنية الإسلامية، وكان علم اللغة اليونانية قد درس وصار العلم اليوناني غير معروف إلا عند العرب، فأخذ النصارى من فرنسا وجوارها يؤمون إسبانيا لأجل ترجمة التآليف العربية المنقولة عن اليونان.
قال رينو: وبالجملة، فقد كان العرب لذلك العهد هم الأمثلة العليا والأقيسة البديعة في الشجاعة والشهامة، وعزة النفس، ومكارم الأخلاق، والعفو عند المقدرة، وقري الضيف، تشهد بذلك وقائع ونوادر كثيرة، منها ما رواه بعض مؤرخي الإسبانيول من أنه في سنة 890 أراد ملك أشتورية أذفونس الكبير أن ينتدب مؤدبا لابنه وولي عهده، فاستدعى اثنين من مسلمي قرطبة حرصا على تهذيبه؛ إذ لم يجد في النصارى إذ ذاك كفؤا لهذه المهمة.
التعليقة الثامنة (ج1، ص224)
ذكر رينه مارسيال في كتابه العنصر الفرنسي
René Martial: La race française ، أن النورمانيين الذين امتزجوا بالعنصر الفرنسي قد باضوا وفرخوا في إنجلترا، وساعدوا على عمران تلك البلاد، وكانوا أبدا مخاصمين للفرنسيس وأعداء لهم ومنافسين. أما العرب فكانوا على العكس من ذلك، فإنهم لم يتركوا في غاليا وفي فرنسا غير حضارتهم، وعددا كبيرا من الخلاسيين بدون أن ينشأ منهم اختلاف جنسي أو عنصري، واليوم وقد أصبح شمالي إفريقية جزءا من فرنسا، أخذ الناس يدركون أحسن من ذي قبل أن الطابع الذي أبقاه العرب الفاتحون كان عظيما، وأنهم شاركوا مشاركة عظيمة في نشوء التهذيب العقلي والفنون في أوروبا. لما ضرب العرب في سنة 711 الويزغوت في وقعة شريش أصبحوا سادة إسبانيا، ودخلوا بلاد غاليا من أقليم نربونة، وكان اسمها إذ ذاك سبتمانيا، وفي سنة 721 حال «أود دوج أكيتين» دون تقدم العرب في وقعة طلوزة، وكان هاجمه العرب من كل جهة، وبعد أن هاجموا الأكيتين تقدموا في سمت الشمال، حتى بلغوا مدينة تور فأنقذ شارل مارتيل هذه المدينة، وقضى على العرب قضاء مبرما في وقعة بواتيه (أكتوبر 732م). وترك العرب من آثار حضارتهم ما لم تتركه الشعوب الجرمانية؛ لتفوقهم في الحضارة إذ ذاك. ولما كان العرب مؤرخين وشعراء كان من إبقائهم لنا قصة ألف ليلة وليلة أجمل مصدر استقى منه أدباء الغرب ومتفننوه، ونفعت هذه القصص العلماء من عدة وجوه، والقرآن نفسه كتاب عظيم من الطراز الأول، حوى الدين والأدب والشرع، وما زال تأثيره في حياة العرب ولا يزال، بحيث لا يستطاع فهم روح المسلمين وفكرهم إذا لم يدرس ويقرأ في ترجمة صحيحة؛ لأن كثيرا من الترجمات كان رديئا وأكثر منها التفاسير، وأرى أن قلائل فينا عرفوا العرب معرفة حقيقية، ولا أستطيع أن أدخل في هذا العدد القليل غير المارشال ليوتي والأستاذين غوتيه وريكاس.
ثم ذكر ما تفرد به العرب في خدمة الحضارة، ومما قال: إن اختراعهم الورق دعا إلى استكثارهم من خزائن الكتب، وهي وحدها دليل على تقدمهم في سبيل الحضارة، وأنه لا وجه للتشبيه بين غارات العرب وغارات برابرة الجرمان. وذكر ما كان من العلائق التجارية بين بلاد المسلمين ومرسيلية منذ الحروب الصليبية. وقال: إنه كان فيها جامع للمسلمين يؤدون فيه فرائضهم منذ الزمن الأطول، دلت على ذلك المعاهدات التي عقدت بين فرنسا ودول الإسلام، وأن مرسيلية مدينة بكثير من حضارتها ونجاحها؛ لاتجارها مع العرب منذ القرن العاشر. قال: لو كانت العرب غلبت شارل مارتيل لكانوا تمثلوا تمثلا حسنا في الأرض الفرنسية أكثر من السلتيين في الأرض الليغورية، فإن مقامهم الطويل في إسبانيا شاهد بذلك، وكذلك يدل ما أبقوا من الآثار إلى أي درجة كانت حضارتهم متفوقة على حضارتنا إذ ذاك.
التعليقة التاسعة (ج1، ص228)
كتب داوسون في كتابه أصول أوروبا والمدنية الأوربية
Christopher Dawson: Les origines de l’Europe et de la civilisation Européenne
كانت الحضارة العباسية، ولسانها العربية ودينها الإسلام، مكملة بمظهرها العقلي للحضارات القديمة التي مثلتها مملكة العباسيين الواسعة، ويصح ذلك على الخصوص بما نشأ من الفلسفة العربية والعلم العربي اللذين ارتقيا في ذاك العصر، وأثرا تأثيرا عظيما في أهل القرون الوسطى عامة. ولقد كانت الحركة العلمية في العالم في أكثر من أربعة قرون بأيدي الشعوب الإسلامية، وعن العرب أخذت أوروبا الغربية أصولها العلمية، ويرجع العمل العلمي والفلسفي في العالم الإسلامي إلى العرب وإلى الإسلام نفسه، هذا وإن لم يكن فيه إبداع جديد، ولم يتوفر على غير إكمال العلم اليوناني، وقد انضم إلى الثقافة الإسلامية أشياء بفضل رجال كانوا من أصول أرامية وفارسية، وإذا استثنينا الكندي فيلسوف العرب فقط نجد حظ العرب قليلا من هذه الحركة. وقد أثمرت هذه الحضارة في تخوم البلاد الإسلامية، أثمرت في آسيا الوسطى أمثال الفارابي وابن سينا والبيروني، وفي إسبانيا والغرب الأقصى ابن رشد وابن طفيل.
وقال: إن النصارى السريان في بابل والصابئة في حران، كانوا واسطة لنقل الثقافة اليونانية إلى الثقافة الإسلامية، وإن علماء البصرة أخذوا منطق أرسطو عنهم، وإن هذا الاقتباس عن اليونان كان قليلا لا شأن له، وإن العرب لم يأخذوا شيئا في الشعر ولا اقتبسوا التمثيل، ومع هذا ترك البيان اليوناني أثرا ظاهرا في الآداب العربية، ولا سيما في كتابات الجاحظ، أكبر منشئ وأعظم أستاذ في القرن التاسع، وعظم النفع بما أبقته الثقافة اليونانية في العلوم والفلسفة، وتلقى المسلمون باليمين، ما كانت مدارس آثينا والإسكندرية قد تركته منذ القرن السادس، وكانت آراؤهم في الفلسفة كآراء فلاسفة اليونان؛ أي التوفيق بين الفلسفة الأرسطاطاليسية والأفلاطونية الجديدة، ومزج كل منهما بالأخرى، أخذوا أصول هذا التحليل فحققوه بقوة فكر ونزاهة علمية، وكان عملهم فيها من أتم وأحكم ما وفقت إليه الفلسفة في عصورها الماضية، ونجح علماء العرب بتنظيم الفلسفة فما كانت عندهم مجموعة معلومات مختصرة مركومة؛ بل جعلوا لها قواعد تامة لا تتجزأ من مجموعها الأسطقسات أو العناصر، واحتفظت الحضارة الإسلامية بتفوقها خلال القرون الوسطى في الشرق وفي أوروبا الغربية. وبينا كانت النصرانية سائرة إلى الاضمحلال بما انهال عليها من غارات العرب والفيكنغ
Vikings
والمجر، كانت الحواضر الإسلامية على شواطئ البحر المتوسط الغربي تدخل في أعظم طور من أطوار نهضتها. قال: إنا اعتدنا اعتبار مدنيتنا كأنها تألفت من جوهر الحضارة الغربية، حتى صعب علينا أن نعتقد بإنه أتى زمن وأهم قطر متحضر في أوروبا الغربية لم يكن سوى ولاية ذات مدنية غريبة عنها، وأن البحر المتوسط مهد حضارتنا، كان مهددا بأن يصبح بحرا عربيا، وكادت النصرانية في الغرب والإسلام في الشرق يكونان شيئا واحدا في زمن كانت فيه آسيا الصغرى نصرانية، وكانت إسبانيا والبرتقال وصقلية تؤوي حضارة إسلامية زاهرة. هكذا كانت الحال في القرن العاشر، وقد فعلت هذه الحضارة فعلها العظيم في ترقي العالم في القرون الوسطى، فانتشرت الثقافة الغربية في ظل حضارة الإسلام، واستطاعت النصرانية في قرونها الوسطى بفضل هذه الحضارة أن تأخذ طرفا من التراث العلمي والفلسفة اليونانية، وما كان ذلك قبل القرن الثالث عشر، ولم يتم إلا عقبى الحروب الصليبية، وبعد فاجعة المغول العظمى تمكنت الحضارة النصرانية الغربية من بلوغ مكانة مساوية بعض المساواة للمدنية الإسلامية، وبقيت مع هذا متأثرة بالمؤثرات الشرقية.
التعليقة العاشرة (م1، ص230)
قال ابن بسام في الذخيرة: إن إشبيلية صارت مجمعا لصوب العقول، لا سيما من أول المائة الخامسة من الهجرة «حين فرع كل حزب بما لديه، وغلب كل رأس على ما في يديه، بعد الدولة الحامدية»، «حتى اجتمع في الجانب الغربي ما باهى الأقاليم العراقية، وأنسى بلغاء الدولة الديلمية»، وطريقتهم في الشعر الطريقة المثلى، التي هي على طريقة البحتري في السلاسة والمتانة والعذوبة والرصانة.
التعليقة الحادية عشرة (م1، ص322)
بحث بعض علماء الأميركيين والإنجليز في لغات الهنود في أميركا، فوقعوا على كلمات عربية ترجع إلى سنة 1290م؛ أي إلى قرنين قبل وصول كولمبس إلى أميركا، وقد يكون أصحاب تلك الكلمات اتصلوا بها قبل ذلك بقرنين آخرين، وهناك مستعمرات عربية وجدت بين سنة 1150 و1200، وقد شوهدت آثار عربية في شاطئ الخليج المكسيكي خاصة، وكان العرب يتجرون مع أميركا قبل كولمبس بزمان طويل، وثبت أن سفن العرب أقلعت من جزيرة كناريا، ومن هناك إلى أزوارد في وسط الأطلنطي، ونزلت إيرلاندا وجزائر إنجلترا الغربية. وفي هذه الناحية من تلك الجزائر بئر تسمى بئر عباس، يستدل بها أن العرب استعمروا تلك الناحية، وكان في لشبونة مصور بلاد أميركا مما صنعته أيدي العرب، ولنا أن نقول: إن التجارة بين العرب وهنود أميركا كانت قبل موافاة كولمبس لها بخمسة قرون، ولما أبحر كولمبس من أوروبا كان متزودا بمصورات وخرائط للعرب، وبها اهتدى إلى تلك الأرض، واستصحب رجلين من العرب كانا عبرا إلى أميركا قبل ذلك وعرفا الطريق، وعثر أحد علماء الأثريات على ألواح مكتوبة بحروف عربية ولغة عربية، فاتجهت أنظار علماء الآثار إلى استطلاع كنه هذه الحقائق التاريخية، التي لا تلبث أن تنطق بأفصح لسان بفضل العرب على الإنسانية في جميع الميادين (لمحمد بن عمار الورتتاني في كتابه كشف الحجب).
التعليقة الثانية عشرة (ج1، ص251)
نقل ليفي بروفنسال في كتابه إسبانيا الإسلامية في القرن العاشر
E. Lévi Provençal: L’Espagne musulmane au Xème siècle
عن مصادر عربية، أن الكاتب في الدولة الأموية كانت رتبته تعادل رتبة الوزارة، وأنه كان يطلق على الوزير لقب الكاتب تخفيفا، وأن كاتب الذمم كثيرا ما كان على رواية ابن سعيد نصرانيا أو يهوديا - سواء في ذلك الأندلس وشمالي إفريقية - وكانت الأعمال توسد في الأندلس إلى العرب والبربر والإسبانيين المولدين، والوظائف مما يتقلده النصارى واليهود. ووصل المولدون مع الزمن وهم من أصول غير عربية إلى أن تولوا الأعمال العامة إلا قليلا. وقال: إن أولاد الخلفاء من الأمويين وذوي قرباهم قلما كانوا يتولون أعمالا للدولة، وقلما يظهرون إلا في أيام البيعة لملك جديد، وأن المناصب العالية قد يطمع فيها من العمال من يؤدي للخليفة مالا مما جناه أو جناه أهله، وأن النصارى واليهود كانوا في العهد الأموي هناك يتصرفون للدولة في الأعمال الإدارية والحربية، ومن اليهود من كانوا ينوبون عن الخليفة بالسفارات إلى دول أوروبا الغربية. وقال: إن الجيش الأندلسي كان بعد عهد الأمويين ينظم على مثال الجيش العباسي من حيث ترتيبه وطبقاته، وزعم أن جميع طبقات المجتمع الإسلامي كانت تتعاطى الخمر كالنصارى واليهود، وأن شاربي الخمر ما كانوا يعاقبون بشدة كما يقضي به الشرع، وأن الخمر ما كان يشرب في كل ناحية علنا.
التعليقة الثالثة عشرة (ج1، ص264)
الظاهر أن المسلمين غزوا رومية مرتين: الأولى في سنة 231ه/846م، وفيها ضربوا الحصار على مدينة القياصرة، فارتاع البابا سرجيوس، واهتز الشعب الروماني فرقا ورعبا، وبادر الإمبراطور لويس الثاني ملك الفرنج واللومبارد بإرسال حملة لمقاتلة الغزاة، وجهزت ثغور نابل وأمالفي وجابتا حملة بحرية لمطاردتهم، فرفع المسلمون الحصار عن المدينة بعد أن اقتتلوا مع جند الإمبراطور وسفن الثغور الإيطالية قتالا رائعا وعادوا مثقلين بالغنائم والأسرى. وفي سنة 256ه/870م نشط أمراء البحر المسلمون في ثغور إفريقية والأندلس إلى تجهيز حملة كبيرة فوصلوا إلى رومية وهددوها، حتى اضطر البابا يوحنا الثامن خلف البابا ليون، أن يفاوضهم في الجلاء على أن يدفع لهم جزية سنوية قدرها خمسة وعشرون ألف مثقال من الذهب (عن مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام لمحمد عبد الله عنان).
التعليقة الرابعة عشرة (ج1، ص278)
لما دخل الإفرنج القسطنطينية في سنة 600ه نهبوا كل ما في البيع من ذهب ونقرة، حتى ما على الصلبان، وما على صورة المسيح والحواريين، وما على الأناجيل، ثم أخرجهم الروم عن البلاد فعادوا إليها وقتلوا كل من اعتصم بالكنيسة وغيرها (قاله ابن الساعي في الجامع المختصر).
التعليقة الخامسة عشرة (ج1، ص295)
قال جوليفه كستلو: عصفت الحروب الصليبية في قرن حملت ريحا من الجنون تبلور في أفكار الناس، فانتقل من القسوة إلى الفعل، وما هي إلا سلسلة من الحملات قامت بها شعوب أوروبا النصرانية؛ للاستيلاء على القبر المقدس في إيلياء، وذكر أن البابا أوروبانوس الثاني، وكان من أصل فرنسي، هو الذي جيش الحملة الأولى، والبابا هو الذي زين للشعوب الأوربية ما حملهما على الاشتراك في هذه الحرب الزبون، وهو الذي وضع لهم ما وضع من المغريات فقبلوهها راضين. وكانت الحملة الأولى (1095ه) مؤلفة من مائة ألف فرنسي وألماني، فنيت في الطريق، ولم تصل إلى غير القسطنطينية، ثم مزق الأتراك شملها في آسيا الصغرى، والتحقت بها حملة مؤلفة من مليون إنسان فيهم النساء والأولاد، والمحاربون منهم ثلاثمائة ألف، خلص منهم ثمانون ألفا إلى القدس ففتحوها، أما سائر الحملات فقد أخفقت. ومع هذا كانت كنوز الشرق تغوي الحملات الأخيرة، أكثر مما تستهويهم أوهام الدين، ولكم أن تشبهوا حملات النصارى على الشرق بحملات البرابرة المتوحشين، وإن كانت دعوى إنقاذ القبر المقدس المشكوك في أنه قبر المسيح، قد اتخذها الباباوات ثم الملوك، حجة ليحمسوا الشعوب ويجندوا الناس، وغدا التجنيد إجباريا بعد الحملة الثانية، وكانت هذه الحملات الكبرى شؤما على أوروبا، استنزفت من البلاد رجالها الأشداء الشجعان غير مرة، وافتقرت بسببها فرنسا وإنجلترا وألمانيا فقرا دونه كل فقر، لما قضت عليه هذه الحروب من مئات الألوف من الأيدي النافعة، دع ما صرف عليها من النفقات الباهظة. وكان من طمع الباباوات ما استغلوا به سذاجة الجماهير فكلفهم باهظ التكاليف، وتجلت في ذلك شهواتهم المفرطة، كي يحرزوا الثروة السهلة المأخوذة من غير حلها، وتولت المحنة تكذيب أوهامهم فكان من ذلك أشد المصائب، وبينا كانوا يرجون أن يسقطوا على سعادة وغنى ومجد لم يشهدوا إلا آلاما وبؤسا، وقد أرخوا العنان لغرائزهم المتوحشة مدفوعين إليها بعامل الفاقة والأمل، وستظل الحروب الصليبية إحدى فضائح النصرانية السياسة المؤمنة، ونحن لا نرى فيها ما يعزوه إليها المؤرخون من الفوائد إلا كذبا وبهتانا عظيما، ولن يوافقهم على ما يدعون إلا من كان تحت سلطان الوطنية والدين. إن تبادل الأفكار بين الشرق والغرب قد نتج من الاحتكاك بين عرب إسبانيا والأوروبيين أكثر مما كان من أثر الصدمة البربرية بين جيوش النصرانية والإسلام. وعلى كل حال فإن أوروبا مدينة كثيرا للحضارة العربية والتركية، أكثر مما تدين الحضارة العربية للحضارة المنحطة في الغرب بين القرن الحادي عشر والثالث عشر. ا.ه.
التعليقة السادسة عشرة (ج1، ص319)
في تاريخ البرتقال لتيودريك لكران
Théodoric Legrand: Histoire du Portugal
أن المغاربة المسلمين الذين نزلوا بلاد البرتقال كانوا أشبه بالمدجنين من غير المسلمين الذين نزلوا إسبانيا، ويطلق عليهم اسم «موروفوروس
Mouros Forros »، كانوا يؤدون ضرائب خاصة، وتجري عليهم أحكام خاصة، ويؤلفون شعبا اشتهر بصناعاته، وعاون كثيرا على رقي الزراعة في البرتقال. قال: إن الملك هنري (1460م) الذي لقبه التاريخ بالملاح، قد توقف بموته سير الاكتشاف بعض التوقف، وكان هو الموحي بجميع المكتشفات التي كان منها النجاح الممجد لوطنه مدة قرن من الزمن، لما خص به من علم ورزقه من عمل، فجعل للبرتقال المقام الأول بين أمم العالم. وقد تعاقد فاسكو دي جاما الملاح البرتقالي مع ابن ماجد الملاح البصري في سنة 1498 في ملندة في البحر الهندي، على العمل في الأسطول البرتقالي. وكانت البرتقال في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كما كانت البندقية، أعظم دولة في العالم ، وأنه أعان على إخراج العرب من لشبونة جيش من الصليبيين من أهل اللورين وفلمنديا، كان متوجها إلى القدس فحارب في صفوف البرتقاليين في شنترين وشنترة ولشبونة.
التعليقة السابعة عشرة (ج1، ص322)
لما وضعت إسبانيا حمايتها على الشواطئ الإفريقية في القرن العاشر من الهجرة، وتدخلت في فض بعض القلاقل الداخلية في تونس، خرب عمرانها وتبدد سكانها بالهجرة والقتل، فانقرض نحو ثلث سكانها، وأصبح شطر كبير من معالمها أطلالا دوارس، وأتى الإسبانيون على العمران الذي كان لتونس زمن الدولة الحفصية، ولم تعد إلى البلاد حياتها إلا بنزول جاليات من الأندلس ممن فروا من الإسبان، لما استولوا على بلادهم، فعمروا المدن والقرى، وأحيوا الزراعة والصناعات. وفي كتاب شهيرات النساء لحسن حسني عبد الوهاب أنه لم يمض غير زمن يسير حتى زهت حاضرة تونس بالفنون الجميلة، مثل الهندسة والنقش والموسيقى والصناعات المختلفة، وهكذا كان الأندلسيون في كل بلد نزلوه في مراكش وشمالي إفريقية بأسرها.
التعليقة الثامنة عشرة (ج1، ص329)
قال جوليفه كستلو: تشبه الطريقة التي جرى عليها الإنجليز في استعمارهم، الطريقة التي سارت عليها حكومات أوروبا المختلفة، وطريقتهم الاعتماد على قوة الجند التي لا تقاوم، وامتهان حقوق الوطنيين. ولما كان الاستعمار البريطاني قائما على الثبات والدءوب أكثر من استعمار الممالك الأخرى، جاءت منه فوائد محسوسة مثمرة، وغدت المملكة الاستعمارية الإنجليزية منبع غنى فائض للبلاد الإنجليزية، والهند وأوستراليا أجمل أزهار ذاك التاج. بيد أن قوة المستعمرات ليست اليوم غير صورة ظاهرة، وتوشك على ما يظهر أن تقطع صلتها بإنجلترا، فتتمزق قوة إنجلترا النائية عن أوروبا، وتلك هي الرجعة العادلة في الأشياء، هذا إذا كان في التاريخ عدل؛ ذلك لأن الجرائم التي احتقبتها إنجلترا في الهند والترنسفال وفي أيرلاندا، سيكون منها رد فعل طبيعي، ينال فيه الفاعلون جزاء ما قدمته أيديهم.
وقال أيضا: إن عهد السياحات الكبرى بدأ في القرن الخامس عشر، قامت بها البرتقال أولا على يد فاسكو دي جاما، ثم إسبانيا على يد خريستوف كولمبس والبوكرك وأمريك فسبوس، بإيحاء ماركو بولو، وبفضل المعلومات التي ثقفوها بواسطة العرب في الجغرافيا والفلك. وقد عرف العرب كروية الأرض على النحو الذي قال به الأقدمون، خلافا لما كان يعتقده الأوروبيون. وما عتم الإسبان أن أسسوا مملكة استعمارية حقيقية في أميركا، بفتحهم المكسيك وبيرو فتحا سريعا سداه ولحمته التوحش، وكانت حضارة الأستيك والإينكاس، سكان هاتين المملكتين، سامية في ذاتها، بل أرقى من حضارة من أخضعوهم لسلطانهم، ممن لم تكن لهم غاية سوى الاستيلاء على المدن والكفور في تلك الأرجاء الواسعة، وما الفتح الإسباني في الواقع إلا سلسلة طويلة من الفظائع والفجائع، وحوادث مكررة من الجنايات والسرقات. وقد قضى الإسبان على الوطنيين قضاء مبرما، وجلبوا من إفريقية عددا عظيما من السود، فكان ذلك الأصل في استرقاق الزنوج الشنيع، وعلى أثر الإسبانيين سارت جميع شعوب أوروبا، وما انتهى دور الرق إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وكان بالطبع من هذه الحملات الواسعة تبدل اقتصادي وعلمي عظيم، فانهالت المعادن الثمينة من بيرو على إسبانيا والبرتقال، واغتنى بها الملوك خاصة، حتى استطاعوا أن يزيدوا في جيوشهم، ويوسعوا سلطتهم السياسية، كما اغتنت الطبقة الوسطى من السوقة والتجار، وارتفعت أسعار الحاجيات؛ لتكاثر الذهب والفضة.
التعليقة التاسعة عشرة (ج2، ص19)
يقول الفارابي في إحصاء العلوم: إن صناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل، وهذا ينقسم جزءين أيضا: جزء في الآراء وجزء في الأفعال، وهي غير الفقه؛ لأن الفقه يأخذ الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة مسلمة، ويجعله أصولا فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها، والمتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولا من غير أن يستنبط عنها أشياء أخر، فإذا اتفق أن يكون للإنسان منا قدرة على الأمرين جميعا فهو فقيه متكلم، فيكون لنصرته لها بما هو متكلم، واستنباطه عنها بما هو فيه فقيه. وعلم الكلام يسمى علم أصول الدين، وعلم التوحيد والصفات، وكان أبو حنيفة يسميه «الفقيه الأكبر».
التعليقة المكملة للعشرين (ج2، ص60)
سمع أبو الرملي، وكان مسنا، يقول: حضرت مجلس أبي القاسم المرتضى وأنا إذ ذاك صبي، فدخل عليه بعض أكابر الدولة فتزحزح له، وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه مسائلا، فساره الديلمي بشيء لم نعلم ما هو، فقال له متضجرا: نعم، وأخذ معه في كلام كأنه مدافعة، فنهض الديلمي، فقال المرتضى بعد نهوضه: أهؤلاء يريدون منا أن نزيل الجبال بالريش، وأقبل على من في مجلسه، فقال: أتدرون ما قال هذا الديلمي؟ فقالوا: لا يا سيدي، فقال، قال: بين لي هل صح إسلام أبي بكر وعمر، قلت: رضي الله عنهما. وسمع أبو القاسم بن برهان يقول: دخلت على الشريف المرتضى أبي القاسم العلوي في مرضه الذي توفي فيه، فإذا هو قد حول وجهه إلى الجدار فسمعته يقول: أبو بكر وعمر وليا فعدلا، واسترحما فرحما (طبقات الأدباء لياقوت، في ترجمة علي بن الحسين المرتضى ج5).
التعليقة الحادية والعشرون (ج2، ص80)
جلس قاص ببغداد فروى تفسير قوله تعالى:
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، وزعم أنه يجلس معه على عرشه، فبلغ ذلك الإمام محمد بن جرير الطبري، فاحتد من ذلك وبالغ في إنكاره، وكتب على باب داره «سبحان من ليس له أنيس، ولا له على عرشه جليس.» فثارت عليه عوام بغداد ورجموا بيته بالحجارة حتى استد بابه بالحجارة وعلت عليه (رواه السيوطي في تحذير الخواص من أكاذيب القصاص).
التعليقة الثانية والعشرون (ج2، ص135)
كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: لا تستقضين إلا ذا حسب أو مال، فإن ذا الحسب يخاف العواقب، وذا المال لا يرغب في مال غيره.
التعليقة الثالثة والعشرون (ج2، ص144)
كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى قثم بن العباس عامله على مكة: أما بعد، فأقم للناس الحج، وذكرهم بأيام الله، واجلس لهم العصرين، فافت المستفتي، وعلم الجاهل، وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا صاحب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول ورودها، لم تحمد فيما بعد على قضائها، وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله، فاصرفه إلى من قبلك من ذي العيال والمجاعة، مصيبا به مواضع المفاقر والخلات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا، لنقسمه فيمن قبلنا، ومر أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجرا، فإن الله تعالى يقول:
سواء العاكف فيه والباد
فالعاكف المقيم به، والباد الذي يحج إليه من غير أهله، وفقنا الله وإياك لمحابه والسلام.
التعليقة الرابعة والعشرون (ج2، ص144)
لم يكن في زمن النبي وأبي بكر وعمر وعثمان سجن، وكان يحبس في المسجد أو في الدهليز حيث أمكن، فلما كان زمن علي أحدث السجن، وكان أول من أحدثه في الإسلام، وسماه نافعا ولم يكن حصنا، فانفلت الناس منه، فبنى آخر وسماه مخيسا (بالخاء المعجمة والياء المشددة فتحا وكسرا) (رواه الخفاجي في شفاء الغليل).
التعليقة الخامسة والعشرون (ج2، ص145)
كان علي يأخذ الجزية من كل ذي صنع: من صاحب الإبر إبرا، ومن صاحب المسان مسان، ومن صاحب الحبال حبالا، ثم يدعو العرفاء فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه، ثم يقول: خذوا هذا فاقتسموه، فيقول: أخذتم خياره، وتركتم علي شراره لتحملنه. قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال بعد أن نقل هذا: وإنما يوجه هذا من علي أنه إنما كان يأخذ منهم هذه الأمتعة بقيمتها من الدراهم التي عليهم من جزية رءوسهم، ولا يحملهم على بيعها، ثم يأخذ ذلك من الثمن إرادة الرفق بهم، والتخفيف عنهم، وهذا مثل حديث معاذ حين قال باليمن: ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة، وكذلك فعل عمر - رحمه الله - حين كان يأخذ الإبل في الجزية. والخميس الثوب الذي طوله خمس أذرع، ويقال له المخموس أيضا، واللبيس ما يلبس من الثياب.
التعليقة السادسة والعشرون (ج2، ص145)
سئل الحسن البصري عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كان والله سهما صائبا من مرامي الله، وكان رباني هذه الأمة في ذروة فضلها وشرفها، كان ذا قرابة قريبة من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبا الحسن والحسين - رضي الله عنهما - وزوج فاطمة الزهراء، ولم يكن بالسروقة لمال الله، ولا بالنؤمة في أمر الله، ولا بالملولة في حق الله، أعطى القرآن عزائمه، وعلم ما له فيه وما عليه، رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه.
التعليقة السابعة والعشرون (ج2، ص177)
دراهم النكاح أو النكاح يعني به بغايا كان يؤخذ منهن الخراج.
التعليقة الثامنة والعشرون (ج2، ص179)
كتب عمر بن عبد العزيز أن اقضوا عن الغارمين، فكتب إليه: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث. فكتب عمر: إنه لا بد للمرء المسلم من مسكن يسكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته، نعم فاقضوا عنه فإنه غارم.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: إن عمر بن عبد العزيز فرض على رهبان الديارات على كل راهب دينارين، ولا أرى عمر فعل هذا إلا لعلمه بطاقتهم له، وأن أهل دينهم يتحملون ذلك، كما أنهم يكفونهم جميع مئوناتهم.
عزل عمر بن عبد العزيز قاضيا فقال له: لم عزلتني؟ قال: بلغني أن كلامك أكثر من كلام خصمك.
التعليقة التاسعة والعشرون (ج2، ص231)
لما قتل المأمون ابن عائشة وجد في منزله قماطر فيها مكاتبات بعض الجند له، فجلس وأحضرها، وجمع الناس، وقال: أنا أعلم أن فيكم المستزيد والعاتب، وإن نظرت في هذه الكتب فسدت عليكم، وفسدتم علي، وقد وهبت مسيئكم لمحسنكم، وأمر فأحرقت القماطر وأسفرت وجوه القوم واستصيب رأيه.
التعليقة الثلاثون (ج2، ص263)
في تاريخ الخلفاء للسيوطي أن أول حدوث اللقب بالإضافة إلى الدين كان في سنة 376ه، وقد ولي الوزارة أبو شجاع محمد بن الحسين ولقب ظهير الدين.
التعليقة الحادية والثلاثون (ج2، ص285)
في أيام الأمر بأحكام الله الفاطمي بالديار المصرية، امتدت أيدي النصارى وبسطوا أيديهم بالخيانة، وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم، واستعمل منهم كاتب يعرف بالراهب، فصادر عامة من بالديار المصرية، من كاتب وحاكم وجندي وعامل وتاجر، وامتدت يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، ولما خوفه بعض مشايخ الكتاب من سوء عواقب أفعاله، قال أمام من كان في مجلسه من المسلمين والقبط: نحن ملاك هذه الديار حرثا وخراجا، ملكها المسلمون منا، وتغلبوا عليها وغصبوها، واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة ما فعلوا بنا ، ولا يكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح ، فجميع ما نأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم، حل لنا وهو بعض ما نستحقه، فإذا حملنا لهم مالا كانت المنة لنا عليهم، وأنشد:
بنت كرم يتموها أمها
وأهانوها فديست بالقدم
ثم عادوا حكموها بينهم
ويلهم من فعل مظلوم حكم
ملخصا عن صبح الأعشى
التعليقة الثانية والثلاثون (ج2، ص198)
يقول فان فلوتن في السيادة العربية: إن امتزاج العناصر المتباينة في الإسلام قد ساعد على ظهور نظم جديدة (كما كان في العراق مثلا)؛ فقد حل محل النظام الذي يقضي بإعفاء العرب من دفع الجزية باعتبارهم حماة الإسلام، نظام جديد لا يفرق بين العرب والفرس في خدمة الحكومة، ويفرض للجميع على سواء مرتبات معينة، على الرغم من بقاء ذاك النظام القديم وعدم إلغائه صراحة، ومنذ ذلك الحين أصبح الخراسانيون من الإيرانيين أو النصف الإيرانيين أشد الناس ولاء للعرش الجديد، وكذلك رفع الموالي المضطهدون الذين كانوا السبب في سقوط الدولة الأموية، رءوسهم وأسندت إليهم المناصب المهمة في قصر الخليفة وفي الجيش والمالية وإمارة الولايات.
التعليقة الثالثة والثلاثون (ج2، ص353)
بعد أن نقل ابن كثير في البداية والنهاية أحاديث السقيفة قال: ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع الصحابة المهاجرين منهم والأنصار على تقديم أبي بكر، وظهر برهان قوله عليه السلام: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»، وظهر له أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم ينص على الخلافة عينا لأحد من الناس، لا لأبي بكر - كما قد زعمه طائفة من أهل السنة - ولا لعلي - كما يقوله طائفة من الرافضة - ولكن أشار إشارة قوية يفهمها كل ذي لب وعقل إلى الصديق، إلى أن قال: وفي الصحيحين أيضا من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه ليس في كتاب الله وهذه الصحيفة - لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات - فقد كذب، وفيها قال: قال رسول الله : «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا.» وهذا الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن علي - رضي الله عنه - يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة، فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته وبعد وفاته من أن يفتاتوا عليه، فيقدموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولما، ومن ظن بالصحابة - رضوان الله عليهم - ذلك؛ فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطؤ على معاندة رسول الله ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكانت إراقة دمه أحل من إراقة المدام، ثم لو كان مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نص، فلم لا كان يحتج به على الصحابة، على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم، فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للإمارة، وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن، والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل، ثم قد عرفه وعلمه من من بعده، هذا محال وافتراء وجهل وضلال إلخ.
التعليقة الرابعة والثلاثون (ج2، ص458)
كتب إلينا فريتز كرينكو من علماء المشرقيات الألمان أنه يعتقد أن زوال الدولة العربية - أعني خلافة بني أمية وانتقال مركز الإسلام من دمشق إلى العراق، وظهور الفرس على العرب - كان السبب الأول في الحيلولة دون انتشار الإسلام في الأمم النازلة في الشمال الغربي؛ أي في أوروبا، وأن الدولة العباسية قامت على أنقاض الدولة الأموية، وأن دخول الفرس في المناصب العالية، أدخل الغش والخيانة في الأعمال المالية ، وانتهى الحال بالخلفاء والوزراء إلا النادر الشاذ ألا يفكروا في شيء من أعمال الشام ومصر، دع ما وراء ذلك من البلاد كإفريقية والمغرب والأندلس، إلا يوم يريدون نقل أموال الخراج من العراق لشراء الجواري والجواهر وإيجاد الجوائز للمغنين والشعراء ومن ماثلهم. ولو نظرنا في أمهات الخلفاء لرأينا خلفاء بني أمية كلهم، ما خلا مروان بن محمد، آخر ملوك بني أمية، كانوا أبناء حرائر، وبالعكس كان خلفاء بني العباس أو أكثرهم أولاد جوار، جلبن من بلاد غير إسلامية. ثم هناك آفة ثانية، وهي جلب الغلمان الأتراك إلى بغداد ليكون منهم عمد الدولة، فأصبحوا أرباب الخلفاء أنفسهم في أقل من قرن، وآفة ثالثة، وهي المناقشات والحروب التي انتشرت بين أهل السنة والشيعة ودامت إلى زماننا هذا، وقد شاهدت منها ما غمني في بلاد الهند ورأينا ها هنا في إنجلترا بعض الشيعة في العهد الأخير يمتنعون من الصلاة خلف إمام سني المذهب، وهذا مما يهين أهل الإسلام في عيون من لا يعتقدون به، وفوق كل هذه الآفات التي كان فيها أكبر سبب في خمول الأمم الإسلامية أن كان السلاطين والأمراء في حروبهم يستنجدون بالأمم النصرانية من مجاوريهم، وكان خلفاء العبيديين في مصر أول من جنى على الإسلام يوم استيلاء الصليبيين على الشام وفلسطين، ثم أصبح هذا داء عقاما في الممالك الإسلامية. قال: ولولا الحسد الساري والشره المبين بين أمراء الهند لم تستحوذ إنجلترا على البلاد الهندية.
التعليقة الخامسة والثلاثون (ج2، ص510)
من كتاب نظرة عامة في الأصول الغربية من سكان تونس لحسن حسني عبد الوهاب
H. H. Abdul-Wahab: Coup d’œil général sur les apports ethniques étrangers en Tunisie
يدعونا واجب الحق إلى القول بأن القرصنة لم تنتشر في بحار الممالك البربرية - شمالي إفريقية وشرقها - إلا بإغراء الأندلسيين الجالين عن الأندلس؛ فقد كانوا بعد أن حلوا في شمالي إفريقية يدعون إلى القرصنة، ويرونها الذريعة الوحيدة للانتقام من الممالك النصرانية التي لم تبد عطفا عليهم.
مراجع الكتاب
الكتب العربية
القرآن الكريم.
تفسير القاضي البيضاوي، طبع ليبسيك.
تفسير الجلالين، طبع القاهرة.
صحيح مسلم، طبع القاهرة.
مسند أحمد، طبع القاهرة.
صحيح البخاري ، طبع القاهرة.
تيسير الوصول لابن الديبع الشيباني، طبع القاهرة.
إعجاز القرآن للباقلاني، طبع القاهرة.
المدونة الكبرى للإمام مالك، طبع القاهرة.
الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني، طبع القاهرة.
إحياء علوم الدين للغزالي، طبع القاهرة.
المستصفى له، طبع القاهرة.
التفرقة بين الإسلام والزندقة له، طبع القاهرة.
الرسالة اللدنية له، (مخطوط).
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، طبع القاهرة.
تلبيس إبليس لابن الجوزي، طبع القاهرة.
منهاج السنة لابن تيمية، طبع القاهرة.
معارج الوصول له، طبع القاهرة.
الحسبة في الإسلام له، طبع القاهرة.
الجواب الصحيح له، طبع القاهرة.
رفع الملام له، طبع القاهرة.
الجوامع في السياسة الإلهية له، طبع القاهرة.
السياسة الشرعية له، طبع القاهرة.
الواسطة وفصل المقال له، طبع القاهرة.
الرسالة التدمرية له، طبع القاهرة.
إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، طبع القاهرة.
الفرائد له، طبع القاهرة.
بلوغ المرام لابن حجر، طبع القاهرة.
لسان الميزان له، طبع حيدر آباد الدكن.
إيثار الحق على الخلق للمرتضى اليماني، طبع القاهرة.
تاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري، طبع القاهرة.
خلاصة الأثر لطاهر الجزائري، طبع القاهرة.
رسالة التوحيد لمحمد عبده، طبع القاهرة.
الإسلام والنصرانية له، طبع القاهرة.
مفتاح السنة لعبد العزيز الخولي، طبع القاهرة.
سيرة ابن هشام، طبع القاهرة.
الروض الأنف للسهيلي، طبع القاهرة.
محمد المثل الكامل لمحمد أحمد جاد المولى، طبع القاهرة.
طبقات المدلسين لابن حجر العسقلاني، طبع القاهرة.
خمس رسائل نادرة لابن تيمية وابن المقفع والذهبي وعمر الخيام، طبع القاهرة.
تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، طبع القاهرة.
السياسة الشرعية لعبد الوهاب خلاف، طبع القاهرة.
تدريب الراوي للسيوطي، طبع القاهرة.
علوم الحديث المعروفة بمقدمة ابن الصلاح، طبع حلب.
أقضية الرسول للقرطبي، طبع القاهرة.
الإسلام دين عام خالد لمحمد فريد وجدي، طبع القاهرة.
الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي، طبع القاهرة.
ذكرى العاقل لعبد القادر الحسني، طبع بيروت.
المواقف له، طبع القاهرة.
القضاء في الإسلام لعارف النكدي، طبع دمشق.
القضاء والنواب لشكري العسلي، طبع دمشق.
الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، طبع القاهرة.
أدب الدنيا والدين للماوردي، طبع القاهرة.
الأحكام السلطانية له، طبع القاهرة.
الأحكام السلطانية لأبي يعلى، (مخطوط).
تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي، طبع دهلي.
صيد الخاطر له، طبع القاهرة.
الخراج ليحيى بن آدم، طبع ليدن.
نظام القضاء والإدارة لأحمد قمحة، طبع القاهرة.
تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي، طبع فاس.
الخراج لقدامة بن جعفر، طبع ليدن.
كتاب الديات للضحاك الشيباني، طبع القاهرة.
الحكم الجديرة بالإذاعة لابن رجب، طبع القاهرة.
الفتوى في الإسلام لجمال الدين القاسمي، طبع دمشق.
تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري، طبع ليدن.
صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، طبع ليدن.
تاريخ اليعقوبي، طبع ليدن.
مروج الذهب للمسعودي، طبع باريز.
تجارب الأمم لابن مسكويه، طبع ليدن والقاهرة.
تاريخ ابن خلدون، طبع القاهرة.
تاريخ الكامل لابن الأثير، طبع القاهرة.
الفخري لابن طباطبا المعروف بابن الطقطقي، طبع غريفزولد.
المختصر في تاريخ البشر لأبي الفداء، طبع القاهرة.
ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي، طبع بيروت.
البداية والنهاية لابن كثير، طبع القاهرة.
عجائب المقدور في أخبار تيمور لابن عربشاه، طبع القاهرة.
الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة لابن القوطي، طبع بغداد.
إنباء الغمر في أبناء العمر لابن حجر، (مخطوط).
الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة للنجم الغزي، (مخطوط).
فتوح البلدان للبلاذري، طبع ليدن.
فتوح مصر لابن عبد الحكم، طبع ليدن.
الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري، طبع ليدن.
الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة، طبع القاهرة.
النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي، طبع ليدن والقاهرة.
حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي، طبع القاهرة.
تاريخ بغداد لعثمان بن سند البصري، طبع القاهرة.
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، طبع القاهرة.
تاريخ دمشق لابن عساكر، مخطوط ومطبوع بدمشق.
تاريخ بيروت لصالح بين يحيى، طبع بيروت.
تاريخ مصر لابن إياس، طبع القاهرة.
المؤنس في أخبار إفريقية وتونس لابن أبي دينار، طبع تونس.
تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية للزركشي، طبع تونس.
الخلاصة النقية في أمراء إفريقية للباجي، طبع تونس.
الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية لمؤلف مجهول، طبع الجزائر.
تاريخ مكة للفاكهي، طبع ليبسيك.
أخبار مكة للأزرقي، طبع ليبسيك.
المنتقى في أخبار أم القرى، طبع ليبسيك.
الإعلام بأعلام البيت الحرام للنهروالي، طبع ليبسيك.
تاريخ المدينة للسمهودي، طبع القاهرة.
شذرات الذهب لابن العماد، مخطوط ومطبوع في القاهرة.
دول الإسلام للذهبي، طبع حيدر آباد الدكن.
مختصر أخبار الخلفاء لابن الساعي، طبع القاهرة.
الخراج لأبي يوسف، طبع القاهرة.
طبقات ابن سعد الكبير، طبع ليدن.
أسد الغابة لابن الأثير، طبع القاهرة.
الإصابة في تمييز أسماء الصحابة لابن حجر، طبع كلكته.
طبقات الحفاظ للذهبي، طبع غوتنغن.
ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني وابن فهد والسيوطي، طبع دمشق.
الوافي بالوفيات للصلاح الصفدي، (مخطوط).
نكت الهميان في نكت العميان له، طبع القاهرة.
تحفة المجاهدين في أحوال البرتكاليين لزين الدين المعبري، طبع لشبونة.
تاريخ الأمم الإسلامية لمحمد الخضري، طبع القاهرة.
طبقات أئمة القراء لابن الجزري، (مخطوط).
طبقات علماء إفريقية وعلماء تونس للتميمي والخشني، طبع الجزائر.
تراجم الأعيان من أبناء الزمان للبوريني، (مخطوط).
التكملة لكتاب الصلة للقضاعي المعروف بابن الأبار، طبع الجزائر.
وثائق عربية صادرة عن ملوك الغرب الأقصى والشرق، طبع لشبونة.
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني، (مخطوط).
الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع للسخاوي، (مخطوط).
أخبار مصر لابن ميسر، طبع ليدن.
الشروط والعقود السياسية بين ملوك إيطاليا والمسلمين، طبع إيطاليا.
مرآة الزمان ليوسف سبط ابن الجوزي، طبع شيكاغو.
زبدة كشف الممالك للظاهري، طبع باريز.
وفيات الأعيان لابن خلكان، طبع القاهرة.
فوات الوفيات للصلاح الكتبي، طبع القاهرة.
كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، طبع القاهرة.
الذيل على الروضتين لأبي شامة، (مخطوط).
الفتح القدسي للعماد الكاتب، طبع ليدن.
سيرة صلاح الدين لابن شداد، طبع القاهرة.
تاريخ سعيد بن البطريق، طبع بيروت.
تاريخ يحيى بن سعيد الأنطاكي، طبع باريز.
البيان المغرب لابن عذارى، طبع ليدن وباريز.
طبقات المفسرين للسيوطي، طبع ليدن.
طبقات الحنابلة لابن الفراء، طبع دمشق.
طبقات الشافعية للسبكي، طبع القاهرة.
طبقات الشعراء للجمحي، طبع ليدن.
طبقات الأمم لابن صاعد الأندلسي، طبع بيروت.
كتاب الولاة والقضاة للكندي، طبع بيروت.
القضاة الذين ولوا قضاء مصر للكندي، وذيله لابن برد، طبع رومية.
تاريخ الوزراء لأبي هلال الصابي، طبع بيروت.
كتاب الكتاب والوزراء للجهشياري، طبع ليبسيك.
الإشارة إلى من نال الوزارة لابن الصيرفي، طبع القاهرة.
مناقب عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم، طبع ليبسيك.
سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، طبع القاهرة.
سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي، طبع القاهرة.
طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، طبع القاهرة.
أخبار الحكماء للقفطي، طبع ليبسيك.
تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي، (مخطوط).
تاريخ شارلكان لروبرتسون، طبع القاهرة.
قلائد العقبان للفتح بن خاقان، طبع القاهرة.
مطمح الأنفس له، طبع القاهرة.
الإحاطة بأخبار غرناطة للسان الدين بن الخطيب، طبع القاهرة.
أعمال الأعلام له، طبع بلرم.
اللمحة البدرية في الدولة النصرية له، طبع القاهرة.
طبقات المهندسين في الإسلام لأحمد تيمور، (مخطوط).
بلوغ الأرب للألوسي، طبع القاهرة.
حماة الإسلام لمصطفى نجيب، طبع القاهرة.
فتح مصر الحديث لأحمد حافظ عوض، طبع القاهرة.
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل من سنة 1863-1879 لإلياس الأيوبي، طبع القاهرة.
أشهر مشاهير الإسلام لرفيق العظم، طبع القاهرة.
الجزء الحادي عشر من تاريخ مصنف مجهول (البلاذري)، طبع غريفزولد.
تاريخ الأستاذ الإمام لمحمد رشيد رضا، طبع القاهرة.
تاريخ كلدو وآثور لادي شير، طبع بيروت.
تاريخ تونس لحسن حسني عبد الوهاب، طبع تونس.
ديوان التحقيق الديني لمحمد عبد الله عنان، طبع القاهرة.
التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر لبلنت وتمهيد لعبد القادر حمزة، طبع القاهرة.
تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي، طبع القاهرة.
تاريخ اليهود في بلاد العرب لإسرائيل ولفنسون، طبع القاهرة.
الأنساب للسمعاني، طبع ليدن.
طبقات النحويين واللغويين للزبيدي، طبع رومية.
طبقات النحاة للسيوطي، طبع القاهرة.
تهذيب الأسماء للنووي، طبع غوتنغن.
زبدة النصرة للعماد الكاتب، طبع ليدن.
كتاب بغداد لأحمد بن أبي طاهر طيفور، طبع سويسرا.
كتاب الباشات والقضاة لمحمد بن جمعة المقار، (مخطوط).
الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية لطاشكبري، طبع القاهرة.
الطالع السعيد لأسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد للأدفوي، طبع القاهرة.
عجائب الآثار في التراجم والأخبار ، طبع القاهرة.
الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، طبع القاهرة.
معجم الأدباء لياقوت، طبع القاهرة.
مناقب بغداد لابن الجوزي، طبع بغداد.
الذخيرة لابن بسام، (مخطوط).
الدارس للنعيمي، (مخطوط).
كتاب الجمان للشطيبي، (مخطوط).
تاريخ مملكة حلب لابن الشحنة، طبع بيروت.
أخبار عبيد بن شرية، طبع حيدر آباد الدكن.
النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم للمقريزي، طبع ليدن.
القول المستظرف في سفر مولانا الملك الأشرف، طبع تورينو.
خلاصة من تاريخ الأندلس إلى سقوط غرناطة على ذيل رواية آخر بني سراج لأرسلان، طبع القاهرة.
تاريخ سلاطين مصر والشام وحلب وبيت المقدس وأمرائها لإبراهيم مغلطاي، طبع ليدن.
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني، طبع القاهرة.
الخلفاء الراشدون لعبد الوهاب النجار، طبع القاهرة.
تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان، طبع القاهرة.
الحضارة الإسلامية لأحمد زكي، طبع القاهرة.
تاريخ القرن التاسع عشر لمحمد قاسم وحسين حسني، طبع القاهرة.
كتاب الجزائر لأحمد توفيق المدني، طبع الجزائر.
أخبار ملوك الأندلس للنويري، طبع غرناطة.
الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوي، طبع القاهرة.
المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي، طبع ليدن.
خطط الشام لمحمد كرد علي، طبع دمشق.
تاريخ نجد لشكري الألوسي، طبع القاهرة.
تاريخ العلويين للطويل، طبع اللاذقية.
ذكر تملك الجمهورية الفرنساوية للأقطار المصرية والبلاد الشامية لنقولا الترك، طبع باريز.
لطائف أخبار الدول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول للإسحاقي، طبع القاهرة.
تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين لعبد الله الشرقاوي، طبع القاهرة.
تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء لحمزة الأصفهاني، طبع ليبسيك.
مفاتيح العلوم للخوارزمي، طبع ليدن.
تاج العروس للزبيدي، طبع القاهرة.
أساس البلاغة للزمخشري، طبع القاهرة.
غريب الحديث لابن الأثير، طبع القاهرة.
الفهرست لابن النديم، طبع ليبسيك.
كشف الظنون لكاتب جلبي المعروف بحاجي خليفة، طبع القاهرة.
معجم المطبوعات العربية والمعربة لسركيس، طبع القاهرة.
قاموس الكتاب المقدس لبوست، طبع بيروت.
فتح الرحمن للعلمي، طبع بيروت.
دستور العلماء للأحمد نكرى، طبع حيدر آباد الدكن.
معجم ما استعجم للبكري، طبع غوتنغن.
معجم البلدان لياقوت ، طبع ليبسيك.
المشترك وضعا والمفترق صقعا لياقوت، طبع غوتنغن.
التحفة في مشكل الأسماء والنسب لابن خطيب الدهشة، طبع ليبسيك.
التقريب لأصول التعريب لطاهر الجزائري، طبع القاهرة.
التهذيب في أصول التعريب لأحمد عيسى، طبع القاهرة.
الألفاظ الفارسية المعربة لإدي شير، طبع بيروت.
المسائل والأجوبة لابن قتيبة، طبع القاهرة.
الأوائل لأبي هلال العسكري، طبع القاهرة.
الشعر والشعراء لابن قتيبة، طبع الآستانة.
المشتبه في أسماء الرجال للذهبي، طبع ليبسيك.
أحسن التقاسيم للمقدسي البشاري، طبع ليدن.
المسالك والممالك لابن حوقل، طبع ليدن.
صفة جزيرة العرب للهمداني، طبع ليدن.
نزهة المشتاق للإدريسي، طبع رومية.
مسالك الممالك للأصطخري، طبع ليدن.
المسالك والممالك لابن خرداذبة، طبع ليدن.
الأعلاق النفيسة لابن رسته، طبع ليدن.
المكتبة الصقلية لآماري، طبع ليبسيك.
أقوم المسالك لخير الدين التونسي، طبع تونس.
السفر إلى المؤتمر لأحمد زكي، طبع القاهرة.
رحلة الأندلس للبتنوني، طبع القاهرة.
الرحلة الحجازية له، طبع القاهرة.
رحلة ابن جبير، طبع ليدن.
رحلة ابن بطوطة، طبع باريز.
الإفادة والاعتبار لعبد اللطيف البغدادي، طبع القاهرة.
الخطط للمقريزي، طبع القاهرة.
غرائب الغرب لمحمد كرد علي، طبع القاهرة.
حضارة الإسلام في دار السلام لجميل مدور، طبع القاهرة.
الإكليل للهمداني، طبع بغداد.
مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، طبع القاهرة.
كتاب البلدان لابن الفقيه الهمذاني، طبع ليدن.
كتاب البلدان لليعقوبي، طبع ليدن.
وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية عن إفريقية الشرقية لجيان، نقله إلى العربية ملخصا يوسف كمال، طبع القاهرة.
الارتسامات اللطاف لشكيب أرسلان، طبع القاهرة.
صفوة الاعتبار لمحمد بيرم، طبع القاهرة.
حضارة العرب في الأندلس للبرقوقي، طبع القاهرة.
الواسطة في أحوال مالطة لأحمد فارس الشدياق، طبع الآستانة.
رحلة الحبشة لصادق المؤيد، تعريب رفيق وحقي العظم، طبع القاهرة.
رحلة محمد علي إلى جنوبي أميركا، طبع القاهرة.
رحلة محمد علي إلى جاوة، طبع القاهرة.
تأثيرات سياحة لموسى كريم، طبع سان باولو.
البرازيل والشرق له، طبع سان باولو.
معيار الاختبار في ذكر المعاهد والديار للسان الدين بن الخطيب، طبع فاس.
مجموعة فيها ثلاث وعشرون رسالة بعضها في التاريخ الأخير، (مخطوط ).
رحلة الأمير يشبك، (مخطوط).
رحلة ناصر خسرو (سفرنامه)، طبع باريز.
الآغاني لأبي الفرج الأصفهاني، طبع القاهرة.
روضة العقلاء لابن حبان البستي، طبع القاهرة.
الكامل للمبرد، طبع ليبسيك.
نهاية الأرب للنويري، طبع القاهرة.
الاعتبار لابن منقذ، طبع ليدن.
الإشراف في منازل الأشراف لابن أبي الدنيا، (مخطوط).
رسالة الغفران للمعري، طبع القاهرة.
رسائل الصابي، طبع بيروت.
رسائل بديع الزمان الهمداني، طبع بيروت.
رسائل أبي بكر الخوارزمي، طبع القاهرة.
رسائل القاضي الفاضل (مخطوط).
رسائل البلغاء لمحمد كرد علي، طبع القاهرة.
العقد الفريد لابن عبد ربه، طبع القاهرة.
نفح الطيب للمقريزي، طبع القاهرة.
بلاغات النساء لأحمد بن أبي طاهر، طبع القاهرة.
زهر الآداب للحصري، طبع القاهرة.
المكافأة لأحمد بن يوسف الكاتب، طبع القاهرة.
لطائف المعارف للثعالبي، طبع ليدن.
يتيمة الدهر له، طبع دمشق.
المعارف لابن قتيبة، طبع غوتنغن.
عيون الأخبار له، طبع ستراسبورغ والقاهرة.
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، طبع القاهرة.
كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، طبع الآستانة.
نشوار المحاضرة للتنوخي، طبع القاهرة ودمشق.
الفرج بعد الشدة له، طبع القاهرة.
معيد النعم ومبيد النقم للسبكي، طبع القاهرة.
كتاب الحيوان للجاحظ، طبع القاهرة.
البيان والتبيين للجاحظ، طبع القاهرة.
التاج المنسوب للجاحظ، طبع القاهرة.
البخلاء للجاحظ، طبع ليدن.
المحاسن والأضداد للجاحظ، طبع ليدن.
التربيع والتدوير للجاحظ، طبع ليدن.
مناقب الترك وفخر السودان على البيضان للجاحظ، طبع القاهرة.
تفضيل النطق على الصمت للجاحظ، طبع القاهرة.
مدح التجار وذم عمل السلطان للجاحظ، طبع القاهرة.
العشق والنساء للجاحظ، طبع القاهرة.
الوكلاء للجاحظ، طبع القاهرة.
مذاهب الشيعة وطبقات المغنين للجاحظ، طبع القاهرة.
استنجاز الوعد للجاحظ، طبع القاهرة.
ثلاث رسائل في الكتاب والقيان والرد على النصارى للجاحظ، طبع القاهرة.
الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير للجاحظ، طبع حلب.
التبصرة بالتجارة للجاحظ، طبع دمشق.
رسائل الجاحظ منتقاة من كتب لم تنشر جمعها حسن السندوبي، طبع القاهرة.
إلياذة هوميروس، تعريب سليمان البستاني، طبع القاهرة.
القديم والحديث لمحمد كرد علي، طبع القاهرة.
غرر الخصائص للوطواط، طبع القاهرة.
الكنايات للثعالبي، طبع القاهرة.
المضاف والمنسوب له ، طبع القاهرة.
مجمع الأمثال للميداني ، طبع القاهرة.
المحاسن والمساوي للبيهقي، طبع جيسين.
الصديق والصداقة لأبي حيان التوحيدي، طبع الآستانة.
كتاب الأوراق للصولي، مخطوط ومطبوع في القاهرة.
الشاهنامة للفردوسي، ترجمة البنداري بتعليق عبد الوهاب عزام، طبع القاهرة.
النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية لعمارة اليمني، طبع باريز.
كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة للبيروني، طبع لندن.
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي حسن الأشعري، طبع الآستانة.
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، طبع القاهرة.
الملل والنحل للشهرستاني، طبع القاهرة.
الفرق بين الفرق لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، طبع القاهرة.
الانتصار لابن الخياط، طبع القاهرة.
ذكر المعتزلة للمرتضى، طبع حيدر آباد الدكن.
حدوث المذاهب الأربعة لأحمد تيمور، طبع القاهرة.
الأصنام لابن الكلبي، طبع القاهرة.
المقايسات لأبي حيان التوحيدي، طبع الهند والقاهرة.
اعتقادات الإمامية لبهاء الدين العاملي، طبع بغداد.
علم الأخلاق لأرسطوطاليس، تعريب أحمد لطفي السيد، طبع القاهرة.
الأخلاق لصموئيل سميلز، تعريب محمد الصادق حسين، طبع القاهرة.
السعادة والإسعاد لأبي حسن بن أبي ذر، (مخطوط).
كتاب تهذيب الأخلاق ليحيى بن عدي، طبع دمشق.
تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، طبع القاهرة.
مداواة النفوس لابن حزم، طبع القاهرة.
سراج الملوك للطرطوشي، طبع القاهرة.
آراء المدينة الفاضلة للفارابي، طبع القاهرة.
ثمان رسائل للفارابي، طبع القاهرة.
محاضرات أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب لجويدي، طبع القاهرة.
تاريخ علم الفلك لنالينو، طبع رومية.
محاضرات الفلسفة لسانتلانة، طبع القاهرة.
فجر الإسلام لأحمد أمين، طبع القاهرة.
ضحى الإسلام لأحمد أمين، طبع القاهرة.
مبادئ الفلسفة لأبورت، تعريب أحمد أمين، طبع القاهرة.
تحرير المرأة لقاسم أمين، طبع القاهرة.
المرأة الجديدة له، طبع القاهرة.
حاضر العالم الإسلامي للوثروب استودارد، تعريب عجاج نويهض، بتعليق شكيب أرسلان، طبع القاهرة.
روح الشرائع لبنتام، تعريب أحمد فتحي زغلول، طبع القاهرة.
المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها لعبد الله عفيفي، طبع القاهرة.
حقوق المرأة في الإسلام لأحمد آجايف، تعريب سليم قبعين، طبع القاهرة.
أصول الفلسفة لأمين واصف، طبع القاهرة.
أم القرى لعبد الرحمن الكواكبي، طبع القاهرة.
طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي، طبع القاهرة.
الآثار الباقية للبيروني، طبع ليبسيك.
رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء، طبع القاهرة.
أدب الوزير للماوردي، طبع القاهرة.
قوانين الدواوين لابن مماتي، طبع القاهرة.
التعريف بالمصطلح الشريف لابن فضل الله العمري، طبع القاهرة.
عصر المأمون لأحمد فريد الرفاعي، طبع القاهرة.
منتخبات الجوائب لأحمد فارس، طبع الآستانة.
تقارير كرومر عن مصر، طبع القاهرة.
تحرير مصر، تعريب محمد لطفي جمعة، طبع القاهرة.
التصوير عند العرب لأحمد تيمور، (مخطوط).
تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات، طبع القاهرة.
الإسلام خواطر وسوانح لهنري دي كاستري، تعريب أحمد فتحي زغلول، طبع القاهرة.
إيقاظ الغرب للإسلام لهيدلي، تعريب أحمد حلمي البارودي، طبع القاهرة.
الرق في الإسلام لأحمد شفيق، تعريب أحمد زكي، طبع القاهرة.
المقارنات والمقابلات لمحمد حافظ صبري، طبع القاهرة.
التيسير والاعتبار للأسدي، (مخطوط).
الطب العربي وتأثيره في مدنية أوروبا لزكي علي، طبع القاهرة.
ساعات بين الكتب لعباس محمود العقاد، طبع القاهرة.
في الأدب الجاهلي لطه حسين، طبع القاهرة.
حديث الأربعاء لطه حسين، طبع القاهرة.
تحليل نقد الأدب الجاهلي لمحمد أحمد الغمراوي، طبع القاهرة.
الأبطال وعبادة الأبطال لكارليل، تعريب محمد السباعي، طبع القاهرة.
لماذا تأخر المسلمون لشكيب أرسلان، طبع القاهرة.
التربية الوطنية لعبد العزيز البشري، طبع القاهرة.
على بساط الريح لفوزي المعلوف، طبع القاهرة.
مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن لعمر طوسون، طبع الإسكندرية.
الجيش المصري في عهد الفراعنة إلى الآن لعمر طوسون، طبع القاهرة.
البحرية المصرية في عهد الفراعنة إلى الآن لعمر طوسون، طبع القاهرة.
الصنائع والمدارس الحربية والبعثات العلمية على عهد محمد علي لعمر طوسون، طبع الإسكندرية.
كتاب الحيدة لعبد العزيز الكناني، طبع القاهرة.
آراء غربية في مسائل شرقية لدينة وسليمان إبراهيم، طبع بيروت.
كنوز الأجداد لمحمد كرد علي، (مخطوط).
أمراء الإنشاء له، (مخطوط).
العقد الفريد للملك السعيد لابن طلحة الوزير، طبع القاهرة.
آداب المعلمين مما دون محمد بن سحنون التنوخي عن أبيه، طبع تونس.
كتاب الأذكياء لابن الجوزي، طبع القاهرة.
الفلاكة والمفلوكون للدلجي، طبع القاهرة.
كتاب المعمرين للسجستاني، طبع القاهرة.
الإشارة إلى محاسن التجارة لجعفر بن علي، طبع القاهرة.
سر تقدم الإنجليز السكسونيين لأدمون ديمولين، تعريب أحمد فتحي زغلول، طبع القاهرة.
أدب الكتاب للصولي، طبع القاهرة.
النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية للويس شيخو، طبع بيروت.
الآفات الاجتماعية وعلاجها لتولستوي، تعريب محمد رضا، طبع القاهرة.
مجموعة الحفيد للهروي، طبع القاهرة.
المواهب اللدنية للقسطلاني، طبع القاهرة.
بيان زغل العلم والطلب للذهبي، طبع القاهرة.
كتاب السلوك لمعرفة الملوك للمقريزي، طبع القاهرة.
أخبار الدول المنقطعة للأزدي، مخطوط وطبع أوروبا.
تاريخ محبوب بن قسطنطين المنبجي، طبع باريز.
التذكار فيمن ملك طرابلس وما كان بها من الأخبار لابن غلبون، طبع القاهرة.
تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان لابن حميد السالمي، طبع القاهرة.
فتح العرب مصر لبتلر، تعريب محمد فريد أبو حديد، طبع القاهرة.
تاريخ العصور الوسطى لحسن إبراهيم حسن وأحمد صادق الطنطاوي، طبع القاهرة.
مذكرات قليني فهمي، طبع القاهرة.
مذكراتي في نصف قرن لأحمد شفيق، طبع القاهرة.
الأعلام لخير الدين الزركلي، طبع القاهرة.
ديوان أحمد شوقي، طبع القاهرة.
ديوان حافظ إبراهيم، طبع القاهرة.
ديوان خليل مطران، طبع القاهرة.
ديوان معروف الرصافي، طبع بيروت.
كشف الحجب عن مدنية العرب لمحمد بن عمار الورتتاني، طبع تونس.
الاكتفاء في مغازي المصطفى والثلاثة الخلفاء للكلاعي، طبع الجزائر.
بين أبي العلاء المعري وداعي الدعاة الفاطمي، طبع القاهرة.
السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات لفان فلوتن، تعريب حسن إبراهيم حسن ومحمد زكي إبراهيم، طبع القاهرة.
الاعتصام للشاطبي، طبع القاهرة.
أخبار سيبويه المصري للحسن بن زولاق، طبع القاهرة.
شهيرات التونسيات لحسن حسني عبد الوهاب، طبع تونس.
الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير لابن الساعي، مخطوط وطبع بغداد.
الفاطميون في مصر لحسن إبراهيم حسن، طبع القاهرة.
التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي، طبع القاهرة.
جمع الجواهر في الملح والنوادر للحصري، طبع القاهرة.
الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، طبع القاهرة.
آلات الطب والجراحة والكحالة عند العرب لأحمد عيسى، طبع القاهرة.
طوق الحمامة لابن حزم، طبع ليدن.
الحضارة القديمة لأحمد كمال، طبع القاهرة.
حديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي ، طبع القاهرة.
تاريخ العتبي، طبع القاهرة.
خزانة الأدب للبغدادي، طبع القاهرة.
الموشح للمرزباني، طبع القاهرة.
تحذير الخواص من أكاذيب القصاص للسيوطي، طبع القاهرة.
في المرآة لعبد العزيز البشري، طبع القاهرة.
اتعاظ الحنفا للمقريزي، طبع القدس.
آثار العباد للقزويني، طبع القاهرة.
مجلة المقتطف، طبع بيروت والقاهرة.
مجلة الضياء، طبع القاهرة.
مجلة المشرق، طبع بيروت.
مجلة المنار، طبع القاهرة.
مجلة المقتبس، طبع القاهرة ودمشق.
مجلة المجمع العلمي العربي، طبع دمشق.
مجلة الكلية، طبع بيروت.
مجلة النبراس، طبع بيروت.
مجلة الهندسة، طبع القاهرة.
السياسة الأسبوعية، طبع القاهرة.
مجلة الرسالة، طبع القاهرة.
مجلة المعرفة، طبع القاهرة.
الكتب التركية
تاريخ تدنيات عثمانية، جلال نوري، طبع الآستانة.
مقدرات تاريخية، جلال نوري، طبع الآستانة.
تاريخ أبو الفاروق، مراد الداغستاني، طبع الآستانة.
تاريخ جودت، طبع الآستانة.
عثمانلي تاريخي، أحمد راسم، طبع الآستانة.
تورك تاريخي، رضا نور، طبع الآستانة.
قاموس الأعلام، شمس الدين سامي، طبع الآستانة.
أوروبا مكتوبلري، جناب شهاب الدين، طبع الآستانة.
تاريخ نعيما، طبع الآستانة.
جهان نما، كاتب جلبي، طبع الآستانة.
تحفة الكبار في أسفار البحار له، طبع الآستانة.
تاريخ سياسي كامل باشا، طبع الآستانة.
عبد الحميد ودور سلطنتي، عثمان نوري.
الكتب الأجنبية
Gustave Le Bon: La Civilisation des Arabes. • Bases Scientifiques d’une philosophie de l’historie. • La Vie des vérités. • La Révolution Française et la psychologie des révolutions. • Psychologie politique. • Premières conséquences des la guerre. • psychologie des temps nouveaux. • Les opinions et les croyances. • Psychologie des foules. • La psychologie de l’évolution des peuples. • L’évolution actuelle du Monde - Illusions et réalités. • Lois psychologiques de l’évolution des peuples.
Alfred Fouillée: Esquisse d’une psychologie des peuples européens. • Tempérament et caractère.
Lavisse et Rambaud: Histoire Générale.
Sédillot: Histoire Générale des Arabes.
Clément Huart: Histoire des Arabes.
Maxime Petit: Histoire Générale des peuples.
littérature Française.
René Dussaud: Les arabes en Syrie avant l’Islam.
Ign. Guidi: L’Arabie Antéislamique.
Charles Diehl: Byzance. • Palerme et Cyracuse.
Renan: Mission de Phénicie. • Histoire des Langues Sémitiques.
Montet: L’Islam. • L’Etat Présent et L’avenir de l’Islam.
Dozy: Histoire des Musulmans d’Espagne.
Charles Seignobos: Histoire de la civilisation. • Histoire Politique de l’Europe contemporaine.
R. H. Towner: La Philosophie de la civilisation.
Emile Dermenghem: La vie de Mahomet.
Edward Westermarck: L’origine et le développement des idées morales.
Charles Richet: Le Savant (Dans les caractères de ce temps).
Meillet et Marcel Cohen: Les Langues du Monde.
Ahmed Chafik: L’Egypte Moderne et les influences étrangères.
G. Hanotaux: La Fleur des histoires Françaises.
Chagas Franco: Les gloires et les beautés du
depuis cinquante ans.
Maurice Pernot: En Asie Musulmane.
Robert Chauvelot: Où va l’Islam?
Reinach: Histoire des religions.
C. Clemen: Les religions du Monde.
Herbert. H. Gowen: Histoire de l’Asie.
Charles Benoist: Les maladies de la démocratie.
Marc Semenoff: Histoire de Russie.
Alfred Bertholet: Histoire de la civilisation d’Israël.
Gautier: Mœurs et coutumes des Musulmans.
André Servier: L’Islam et la Psychologie du Musulman.
Laura Veccia Vaglieri: Apologie de l’Islamisme.
Carra De Vaux: Les penseurs de l’Islam.
Jules Simon: Liberté de conscience. • Liberté politique. • Liberté civile.
Massignon: L’annuaire du monde musulman.
Albert Métin: L’Inde d’aujourd’hui.
Marivaud: L’Espagne au XXe siècle.
Louis Rambert: Notes et impressions de Turquie.
Bluntschli: La Politique.
Henri Secrétan: La population et les mœurs.
Henri Damaye: Sociologie et éducation de demain.
Carli: L’équilibre des nations.
Jean Melia: Le Coran pour la France.
H. H. Abdul-Wahab: La domination musulmane en Sicile. • Coup d’œil général sur les apports éthniquesé trangers en Tunisie.
B. G. Gaulis: La Question Arabe. • Le Nationalisme égyptien.
Eugène Jung: Le réveil de l’Islam et des Arabes.
A: Le Chatelier: L’Islam dans l’Afrique Occidentale. • La position économique de l’Islam. • La politique musulmane.
Encyclopédie de L’Islam.
Larousse Illustré Avec Tous Les suppléments.
Revue du monde musulman.
Revue des études Islamiques.
B. Faris: L’honneur chez les Arabes avant l’Islam.
Ernest Von Bruyssel: La vie sociale et ses évolutions.
W. Heyd: Histoire du commerce du Levant au Moyen âge.
Michaud: Histoire des Croisades.
Mommsen: Histoire romaine.
Lamouche: Histoire de la Turquie.
Jollivet Castelot: La loi de l’histoire.
De hammer: Histoire de l’Empire Ottoman depuis son origine jusqu’à nos jours.
De La Jonquière: Histoire de l’Empire Ottoman.
A. Roumani: Essai historique et technique sur la dette publique ottomane.
Cournot: Considérations sur la marche des idées et des événe ments dans les temps modernes.
Christopher Dawson: Les origines de l’Europe et de la civilisation européenne.
Levi-Provençal: L’Espagne musulmane au Xemesiècle.
René Martial: la race française.
Johan Hjort: La crise de la vérité.
Théodoric Legrand: Histoire du Portugal.
Louis Halphen: Les Barbares.
Herriot: Créer.
نامعلوم صفحہ