فكانت بعيدة عن الفتن التى شجرت بين خلفاء صلاح الدين، والحال فيها خير من الحال فى مصر والعراق وبقية بلاد الشام؛ فازدهرت فيها الآداب، وأينعت العلوم، ورحل إليها العلماء؛ ممّا طابت له نفس القفطىّ، ووافق هواه، ووجد المكان الذى يطمئن له العيش فيه.
وفى صدر أيامه بحلب كان مصاحبا لميمون القصرىّ صديق أبيه، ورفيقه فى الرحلة إلى حلب، وأحد الولاة الذين صار لهم نصيب من السلطان. فلازمه على سبيل الصداقة والمودّة، لا على سبيل العمل والخدمة. وفى هذه المدّة اجتمع بجماعة من العلماء المقيمين بحلب والواردين عليها، واستفاد بمحاضرتهم، وفقه بمناظرتهم. ثم جدّ فى شراء الكتب وسعى فى اقتنائها وجلبها، واستطارت شهرته بذلك فى الآفاق، وتوافد عليه الورّاقون والناسخون وباعة الكتب، كما توافد عليه العلماء والشعراء وذوو الفضل. وكان ممّن وفد إليه فى ذلك الحين ياقوت ابن عبد الله الحموىّ صاحب معجم الأدباء. فآواه إلى ظله، وأنزله فى داره، وأفرد له مكانا من مجلسه. وعرف فيه ياقوت الفضل والعلم؛ فأذاع بفضله فى كل محفل، وروى عنه فيما صنف من الكتب، وأهدى إلى خزانته كتابه معجم البلدان.
وبينما كان القفطىّ مطمئنا إلى هذه الحياة الهادئة الخصيبة، يجالس العلماء، ويأخذ عنهم ويأخذون عنه، ويقتنى الكتب ويقرؤها ويستوعب ما فيها، ويحصّل العلوم ويؤلف فى شتى نواحيها؛ وإذا بميمون القصرىّ يموت وزيره فيلزمه أن يحل مكانه؛ فيقبل على كره، وفى ذلك يقول ياقوت «١»:
«ألزمه ميمون القصرىّ خدمته، والاتّسام بكتابته، ففعل ذلك على مضض واستحياء، ودبّر أموره أحسن تدبير، وساس جنده أحسن سياسة، وفرغ بال
1 / 13