يؤسفني أن أذكر لك أن فلانا جارنا قد مات فجأة، وكان كثير السؤال عني وعن صحتي، ثم مات الصحيح وبقي المريض، وقد حزنت عليه كثيرا لأنه كان جادا في الحياة أكبر جد، ناجحا أكبر نجاح، وقد كان محظوظا في ماله، فكل شيء يشتريه تتضاعف أثمانه، ومر مرة في شارع من شوارع الإسكندرية فرأى في المحكمة المختلطة إعلانا عن قطعة أرض فاشتراها من غير أن يراها، فإذا هي جنة، وإذا ثمنها أضعف مما اشترى. واشترى أيضا ورقة يانصيب فربحت، واشترى أيضا بيتا في حلوان بأرخص ثمن؛ لأن الناس أشاعوا عنه أن به عفاريت.
ومع غناه وثروته التي تقدر بنحو ربع مليون كان شحيحا على نفسه، فهو يذهب إلى عزبه إما بعربة الحكومة أو في شركة كافوري، وتحت إبطه رغيف وقطعة جبن يأكلهما إذا جاع، ولا يحدث نفسه بركوب جيد، أو أكل فاخر.
وهو مع إيمانه بالعلم مرض بالسكر، فلم يسمع للأطباء بالحمية والاستقرار، فمات بعد أيام رحمه الله.
وقاك الله شر المرض، وشر الشح، وشر الجهل مع العلم، أو ضعف الإرادة مع قوة العقل، والسلام.
2
أي بني!
قرأت خطابك الذي تنكر فيه علي كثرة نصحي، ولا زلت أعتقد أني محق كل الحق، فكما يتأثر المرء بالبيئة التي حوله كما ذكرت، يتأثر بالنصيحة أيضا؛ ولذلك لا أزال أنصح لك، قبلت أو كرهت، وأنت حر في قبول النصيحة أو كرهها، وأحيانا تجد النصيحة محلها فتعمل عملها، ولولا ذلك ما نصح القرآن ولا النبي المؤمنين، فأمرهم بالعدل والصدق والعفة وما إلى ذلك. وقد أذكرني ذلك ما كنت أقرأه بالأمس في رسالة خطية لابن خلدون في التصوف، فقد عقد فصلا في الحوار بين رجل يرى ألا فائدة من الشيخ، بل يكفي القراءة في الكتب، وبين شيخ يرى الاعتماد على المشايخ، وحجة الأولين أن كل شيء موجود في كتب التصوف، وحجة الآخرين أن الشيخ الحقيق بلقب الشيخ يستطيع أن يدرك نفسية السامع ومزالقه فيوجهه الوجهة الصالحة التي قد تخفى على المريد نفسه، فما ينفع لأحد قد لا ينفع الآخر بل يضره؛ ولذلك لما كان كل يسأل الشيخ الماهر عن أحسن خلق كان يجيب إجابات مختلفة: أحيانا الصدق، وأحيانا العدل، وأحيانا غير ذلك، باعتبار السائل.
ولأمر ما اتفقت الأمم وحكماؤها على العناية بالنصائح، فالحكيم قس بن ساعدة له نصيحته المشكورة، ولقمان الحكيم نصح ابنه كما هو مذكور في القرآن، وملوك الفرس نصحوا الناس بنصائحهم المسماة «جويدان خرد». ولست أذهب بعيدا، ففي القصص العربي أن عبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وأبا جعفر المنصور تذكروا أبياتا من الشعر، فتشجعوا ورموا بأنفسهم في حومة القتال بعد إنشادها. وأنا نفسي قد جربت وقد قرأت نصائح من وصايا الإمام علي بن أبي طالب، ومن كتاب مرشد المتعلم، ومن كتاب سر النجاح والأخلاق لسمايلز، فوقفت عند بعض النصائح لهم كان لها الأثر الكبير في نفسي. فقولك إن البيئة كل شيء مغالطة، بل هي شيء من أشياء، بل إن النصيحة التي أذكرها لك هي نفسها بيئة من البيئات؛ ولذلك فلن أعتمد على قولك، وسوف أستمر في النصيحة ما دمت ابنا وما دمت أبا، ولك الخيار في أن تقبل ما تقبل وترفض ما ترفض.
حاشية 1:
بلغني أن فلانا جارنا صديقك الذي تعرفه قد تورط في صحبة أصدقاء، كانوا أصدقاء سوء، وما زالوا به حتى علموه الكيوف الضارة، فأخذ مأخذهم وسار على منوالهم، وترك دروسه، وتعود السهر معهم كل ليلة إلى منتصف الليل، فلما تيقظ أبوه لذلك نصحه بكل الوسائل فلم ينجح، ثم استعاض بأصدقائه أصدقاء آخرين خيرين خلقهم خلقا، فساروا معه سيرا حسنا، وأرشدوه إلى طريق الخير، حتى استقام والتفت إلى دروسه؛ فإن عددت هذا إصلاحا للبيئة فعلت، وإن عددته نصيحة جاءت على نمط مقبول وفي شكل مقبول فعلت.
نامعلوم صفحہ