الفصل السادس عشر
صوت الشيخ
كنت أقرأ آلام نفس مصرية، هي واحدة من شعب حاول أن يرتفع من العبودية إلى البشرية، ولكن المستبدين والمستعمرين أبوا عليه ذلك!
عندما رأيت صورته المعلقة إلى الحائط مثلت أمامي حياته الماضية، ولكني عندما تأملت وفاته وقفت مترددا أيهما كان أجمل وأكثر عبرة: حياته أم مماته؟
فقد دعاني صديقي إلى زيارته في منزله القديم في عابدين، فلما دخلت المنظرة؛ أي غرفة الضيوف المجاورة للباب، وجدت هذه الصورة، وكانت لرجل في السبعين أو حوالي ذلك ... ووقفت أتأمله طويلا؛ فقد نقلت صورته وهي خالية من هذه اللمسات العصرية التي تحيل كلامنا أمام العدسة الفتوغرافية إلى بطل، فكان رأسه منحنيا، والغضون تملأ وجهه، وفي عينيه هم يرزح به وكأنه لا يطيقه، وسألت صديقي عنه، فقال: هو أبي، مات في 1908، في السبعين أو الثانية والسبعين.
وزادني هذا الكلام إكبابا على الصورة، وقلت في نفسي: مات في السبعين في 1908؛ أي إنه ولد في 1840 قبل نهاية ولاية إبراهيم ومحمد علي بثماني سنوات، رأى أول خط للسكك الحديدية، ورأى افتتاح قناة السويس، ورأى ثورة عرابي، ورأى فظيعة دنشواي، يا له من تاريخ! لو أن هذا الرجل كان قد كتب لنا تاريخ حياته، وذكر لنا ما انطبع في نفسه منها، لكانت لنا من هذه الحياة ذكريات ممتعة أليمة، كنا نعيش بها في السنين الماضية، ونقرأ بها تاريخ آبائنا وجدودنا.
وعدت أتأمل الصورة، وجاءت القهوة، ولكني بقيت مكاني أتأمل هذا التاريخ القديم، وأقرأ في العينين والفم والجبهة، وفي هذا الانحناء بالرأس الذي يشبه الاستكانة والتسليم - كنت أقرأ آلام نفس مصرية، هي واحدة من شعب حاول أن يرتفع من العبودية إلى البشرية، ولكن المستبدين والمستعمرين أبوا عليه ذلك!
وصارحت صديقي بإحساساتي، فقال: إذا كنت تتأمل صورته وتفكر في كل هذا الذي مر بحياته فاسمع إذن وتأمل في مماته.
قلت: مماته؟ وماذا يكون في الموت؟ لقد استلقى على سريره ثم فاضت، هذه مسألة ساعة أو يوم.
قال: لا، إنه كان يحب الشيخ سلامة حجازي.
نامعلوم صفحہ