ولكنه كان يقارن بينه وبين غراب، مع فارق كان يجهله؛ ذلك أن غراب، الذي كان قد تجاوز الستين، كان لا يزال شابا في صحة الجسم وتنبه العقل؛ فإن حياة الصعلكة والتجوال التي عاشها كانت بمثابة الرياضة البدنية والذهنية التي تديم الشباب، أما هو فقد قضى أربعين سنة من عمره وهو قاعد إلى مكتبه يؤدي الأعمال التكرارية الكتابية كل يوم، وكانت ساقاه قد عرفت الروماتزم، وكان قلبه قد تضخم بالشحم، وكان فمه خلوا من سن طبيعية!
وكان حسين أفندي أيضا يعجز العجز كله عن أن يؤدي أي عمل يشغل به حياته بعد المعاش؛ فلم يكن أمامه غير الترداد على القهوة طيلة النهار وبعض الليل، يتأمل المارة، أو يلعب ألعاب الحظ السخيفة.
ومع أنه كان فرحا ببلوغه سن التقاعد، فإنه لم يمض عليه ثلاثة شهور حتى كان قد سئم هذا الركود، فكان يستيقظ في الصباح، ويقعد على سريره، وينظر ساهما إلى جدار الغرفة ويقول: هل هذه حياة؟ إلى أين أخرج؟ إلى القهوة؟ وماذا أفعل؟ كما فعلت أمس وكما سوف أفعل في الغد؟ في كل يوم؟ أتأمل المارة ولعب الطاولة؟ وهل أبقى على هذه الحال إلى أن أموت؟ عشر سنوات؟ عشرين سنة؟ هذا هو البؤس!
وجعل يتأمل حال غراب؛ إن غراب نشيط، نحيف، طروب، يتنقل من قهوة إلى قهوة، ويؤانس الناس ويضاحكهم، وهم يقدمون له الطعام والشراب راضين، بل هو ينتقل من بلدة إلى أخرى ضيفا على كل من يلاقيه، والجميع يحبونه ويستخفون ظله، أما هو فإنه مقيد بالروماتزم لا يستطيع أن يمشي مئة متر حتى يكون قد لهث وعرق.
إنه بلا شك أصغر سنا من غراب، إذا كان العمر يقاس بالسنين، ولكن غراب يستمتع بالشباب كما لو كان في سن العشرين.
ثم يعود إلى نفسه وهو في حسرة الأسف ويقول: لماذا لم أتعلم فنا أو تجارة أمارسها وأشغل بها وقتي؟ لماذا لم أتعود الرياضة حتى أستعد لهذه الشيخوخة؟ أنا لست في المعاش، أنا في المرض!
وخرج ذات صباح مبكر وقصد إلى القهوة التي لم يكن الخادم قد هيأ كراسيها بعد، فانتحى إلى كرسي متطرف، وقعد يجتر سأمه في ذهول، وإذا بغراب يحييه تحية الصباح في ضحك كأنه عصفور يغرد، وأخبره بأنه مسافر إلى دمنهور لقضاء يومين أو ثلاثة أو أسبوع، لا يعرف.
وبعد أن شرب غراب معه القهوة نهض وسلم مودعا.
وتأمله حسين أفندي وهو يسير في خفة وسرعة، كأنما يرقص، وكأنه لا يحس أثرا لشيخوخته، فامتلأ قلبه غيظا من نفسه وحسرة عليها، ثم صمت وحاول أن يفكر.
وبعد قليل، قال كأنه يخاطب شخصا آخر: - كنت موظفا محترما، وكان هو صعلوكا شحاذا، أما الآن فإني طريد الدنيا وهو خطيبها؛ إنه ينتظر الحياة وأنا أنتظر الموت!
نامعلوم صفحہ