وكنت أشعر في قرارة نفسي بقوة أغالبها فلا أستطيع التحكم فيها، فكأنني منها كالقابض على قطعة من الفلين يريد إغراقها في الماء، فتتململ بين أصابعه وتأبى طبيعتها إلا الانفلات إلى سطحه، ولكنني عندما مددت بأنظاري إلى مسارح الحديقة انتفض قلبي بين جنبي، فهب التذكار بي يبدد كل فكرة تراودني. لكم هربت من المدرسة وأنا صغير لألجأ إلى ظلال هذه الأشجار؛ حيث كنت أنطرح وبيدي كتاب من جامحات الأشعار! وتلك كانت جميع ضلالات صباي، وا أسفاه ...! وتنبهت ذكرياتي البعيدة تشارفني من الأشجار الباسقة العارية من أوراقها، وتتطلع إلي من خلال الأعشاب الذابلة تحت ظلالها. إلى هنا أتيت مرة للتنزه مع أخي ومعلمي، وكنت في العاشرة من عمري، فكنا نرمي بقطع الخبز إلى زرافات الطيور الجائعة، وهنا جلست مرة منزويا أتفرج على رهط الفتيات يرقصن فيرقص قلبي لنغماتهن: نغمات نشيد الأطفال، وهنا أيضا مررت ألف مرة على الطريق ذاتها في رجوعي من المدرسة وأنا أقذف الحصى برجلي، وأطارد بذهني بيتا من قصائد فرجيل.
شخصت مليا أمام هذه المشاهد فهتفت: هذه أنت يا طفولتي، وها أنت هنا يا إلهي.
وأدرت طرفي في الغرفة فإذا ماركو نائمة وقد انطفأ المصباح، وكان ضوء النهار قد بدل منظر الغرفة تبديلا، فإذا الورق الملصق على الجدران، وكنت حسبته في الليل مستعيرا زرقة الآفاق، يكتسي لون الأوراق الخضراء وقد أحالها الذبول، ورأيت ماركو، التمثال الرائع، منطرحة على سريرها، ووجهها ممتقع كوجه الأموات.
وملكتني رعشة لم أقو على امتلاكها، فكنت أنظر تارة إلى السرير، وطورا إلى الحديقة، فأشعر بثقل هائل يخفض رأسي المتعبة.
وتقدمت بضعة خطوات إلى مكتب كان مفتوحا قرب نافذة أخرى، فجلست مسندا ساعدي إليه، والتفت بلا قصد أحدق برسالة تركت مفتوحة عليه، وهي لا تتضمن إلا كلمات قليلة، فقرأتها مرارا دون أن أفهم معناها حتى انجلت تدريجيا؛ فذعرت منها فجأة، وأخذت الورقة بيدي أقرؤها، فإذا هي مشحونة بأغلاط الإملاء، وقد ورد فيها:
لقد ماتت أمس عند الساعة الحادية عشرة ليلا. شعرت بانقباض فدعتني وقالت لي: لويزون، أنا ذاهبة للقاء رفيقي. افتحي الخزانة وخذي منها الغطاء المعلق بمسمار؛ فإنه كذلك الغطاء ...
جثوت باكية أمامها، فمدت إلي يدها صارخة: لا تبكي ... لا تبكي ... ثم أرسلت زفرة ...
وكان باقي الصفحة ممزقا.
يصعب علي بيان ما فعلت بي هذه الأسطر الفاجعة. قلبت الرسالة بيدي فإذا على ظهرها عنوان ماركو، وتاريخ اليوم المنصرم، فصرخت: لقد ماتت ... ومن هي التي ماتت؟
وتقدمت نحو السرير مناديا: من هي التي ماتت ...؟
نامعلوم صفحہ