ابن السلطان: وقصص أخرى
ابن السلطان: وقصص أخرى
اصناف
فصاح الصبي اليتيم: ولكن ما لي أنا ولهؤلاء!
فأجبته: أليس من حقه أن يعيش أيضا؟
فقال: إن بيننا هوة عميقة من الزمن ... خمسة آلاف عام. أنا أولى منه بالحياة. ألست أحيا معك في عصر واحد؟ ولكنك تهرب إلى الماضي السحيق تفتش فيه، شأن الكتاب الخياليين المعتزلين.
أردت أن أشرح له كيف أن مشكلات الروائيين الخالدة، وأنها لو جرت على ألسنة الأقدمين فهي تعبر عن مشاكلنا، ولكنه كان قد التفت إلى جاره المضحك وأخذ يشير إليه متهكما: وهذا الأبله؟! ماذا يعجبك فيه؟ فقلت: لا، لا، إنك الآن تعتدي على ضيوفي في بيتي. قال متعجبا: هذا «البلياتشو»؟!
قلت: نعم، البلياتشو! ألا تعرفه؟ لقد انتهيت من شأنه، وعرفت مصيره، ولم يبق إلا أن يظهر على صفحات المجلة (لو تلطف صاحبها!) لا تسخر به؛ فإن كنت ترى هذه المساحيق على وجهه، والطرطور الأحمر الطويل على رأسه، وبذلته المرقعة الملونة، فلا يمكن أن يخفى عليك أن في عينيه دموعا، ولولا أنه شديد الحياء لبكى الآن!
فقال الصبي اليتيم: هل تنكر أنه مخلوق يتسلى به الناس؟ فقلت محاولا أن أسترضي صديقنا «البلياتشو» الذي هم بأن يلطم الصبي على وجهه: أنت تعلم يا صديقي أنني ما قصدت به أن يضحك الناس، ولا حتى أن يضحك عليهم. انظر! ها هو مدير المسرح يختفي وراءه. لقد جعلته يهدده بالفصل إذا هو لم يضحك الجمهور كما كان يفعل كل ليلة، ولكن صاحبنا البلياتشو لم يفد فيه الإقناع ولا الرجاء؛ فقد أصر على أن يبكي المتفرجين. أليس هذا عجيبا؟ وإذا به يقف أمام جمهور متواضع من الفلاحين والفقراء ويعرض عليهم مأساة حياته. ولكنه كان كالدمية العاجزة فأخذوا يضحكون، أترى؟ ثم إنه أراد أن يستعطفهم فعرض عليهم زوجته - ليعرفوا مبلغ نكده - ولكن موجات الضحك كانت تهدر في المسرح، ولم ينجح في أن يبكيهم حتى حين نادى إليه أطفاله الصغار - سبعة أطفال جياع - وعرضهم عليهم. كانوا يحسبون أن كل عنصر من عناصر مأساته لم يخلق إلا ليزيد من غرابة المشهد؛ فلم ينقطع ضحكهم حتى هرول إليه مدير المسرح وضمه إلى صدره فرحا ليقول له قبل أن يسدل الستار: ألم أقل لك يا صاحبي؟ ألم أقل لك ...
فتقدم مني الصبي اليتيم وصوته يتهدج: ولكنني أنا أولى منه بالحياة، أنا أولى منه، أتسمع: أنا أضيع منه شأنا.
فقلت أهدئه: «ولكنك لم ترو لي شيئا، ماذا حدث لك ؟» - إن هذه «المخلوقات» جميعا تنعم بحياة محدودة، لها طرفان نابتان . أما أنا فشيء هائم في شوارع القاهرة، لا اسم له، ولا عنوان، ولا ماض، و...
فقلت وأنا أرفع حاجبي من الدهشة: «كيف حدث هذا؟ كيف؟» - هكذا وجدتني بين يديك. قلت لي كن يتيما ... شريدا، أتذكر يوم لقيتني في ميدان «العتبة» المزدحم بالناس والعربات. لقد جريت وراءك باكيا، وتشبثت بطرف ردائك وأنا أتوسل إليك أن تختم حياتي (أو تبدأها). ابتهلت إليك أن ترحمني، أن تلقي بي تحت عجلات الترام، أو تقذف بي تحت إحدى العربات الأمريكية الفاخرة، أو حتى إحدى العربات «الكارو»، ولكنك أشحت بوجهك عني، وقلت في استكبار: إن ضرورة الفن لا يمكن أن تسمح بهذا، فجريت وراءك أستعطفك باكيا، حتى لقد التفت إلينا جمع كبير من الناس كانوا ينتظرون «الأوتوبيس» ووصفوك بالذهول، ولكنك انتهزت فرصة الزحام وركبت العربة وتركتني فاغرا فمي من الدهشة.
قلت في لهفة: حسن، حسن. أكمل، أكمل ...
نامعلوم صفحہ