ابن السلطان: وقصص أخرى
ابن السلطان: وقصص أخرى
اصناف
في هذه الليلة التي هبطت فيها إلى نفسي كنت أعاني من مرض طويل، وكانت أعضائي ترتجف من الحمى. درت بعيني في المكان، ورأيت الوجوه الحزينة المكتئبة تحدق في وجهي، والأذرع الطويلة تشير إلي متوعدة، كانت من بينها وجوه واضحة القسمات، متميزة المعالم، أكاد إن مددت إليها يدي أن ألمسها، وأحسب أبعادها. وكانت من بينها وجوه أخرى آثرت أن تنزوي في مكان بعيد عن الضوضاء، لم تكد تحاول أن تلفتني إليها. كان بعضها قد مل الانتظار فجلس على الأرض القرفصاء، وانكب على قراءة كتاب قديم. وبعضها الآخر قنع بالتفرج على الجميع بعد أن يئس من أن يتقدم الصفوف، ويصل إلي ليبسط شكواه. من بين هذه الوجوه عرفت أناسا طالت صحبتي لهم، وعمقت تجربتي معهم، حتى لقد كانوا يشاركونني في طعامي، ويلازمونني في نومي ويقظتي، ولا يتركونني ولو ذهبت ألتمس نسمة من هواء على شاطئ النيل. وكنت لطول خبرتي بهم أعرف حياتهم بماضيها وحاضرها ومستقبلها، بل إنني كنت أعلم تماما ما تهجس به خواطرهم. فإذا أضفت إلى هذا أنني أنا الذي اخترت لهم ملابسهم، ووضعتها بيدي على أجسادهم، لما أنكرت منهم ابتسامتهم الراضية التي يحيونني بها. ولكن من أصدقائي من يبدو العتب في أعينهم. الحق أنني لا أستطيع أن أدافع عن نفسي أمامهم؛ فهم قد صحبوني زمنا طويلا، واجتزنا معا طرقات المدينة، وتقاسمنا الجوع والشبع ثم ... فجأة وعلى غير انتظار، تخلوا عني وأخذوا يتسكعون في الحارات والأزقة الضيقة. ها أنا ذا أسمع واحدا منهم يصيح: كيف تقتلنا أيها السفاح؟! فإذا ما حاولت أن أجيبه طرق أذني همس خافت لشيخ عجوز غرقت لحيته في دموعه: أيرضيك أن تتركني في منتصف الطريق؟ وأهم بالكلام فيقاطعني: كيف تصنع لي ماضيا جميلا وتعجز عن أن تجد لي مستقبلا؟! فإذا حاولت أن أعتذر له بالنسيان، وبأنني بشر على كل حال، وأن حياتي لا تسير متصلة كالخط المستقيم، بل تمزقها لحظات المرض، واليأس، وأكاد أقول: الحب، حتى ينبري لي شاب كنت أعرف طيشه وتهوره ليقول: إنني أخجل منك. لماذا لا تتركني وشأني؟ ألا يكفيك أنك حرمتني من كل سعادة، وقتلت حبيبتي قبل يوم الزفاف بساعات معدودة؟!
طالما هممت بأن أتحدث، وأن أدافع عن نفسي مخلصا، وأن أبين طيبة قلبي، وسماح نفسي، وأنني لا أملك من أقدارهم شيئا، وأنهم جميعا قد ولدوا كما يولد أبناء آدم وفي يد كل منهم لوح مكتوب، وأني لو كنت أستطيع لأبعدت الموت عن طريقهم، ومحوت الألم من حياتهم.
لم أكد أحاول الدفاع عن نفسي حتى سمعت صيحة مبحوحة تحاول أن تجد لنفسها طريقا بين الضجيج فلا تستطيع. ودققت النظر فوجدت صبيا صغيرا يشب على قدميه، ويحشر جسده النحيل المتهالك بين الصفوف المتراصة أمامه، فنهضت من على كرسي ومددت إليه ذراعي وأنا أصيح من فرط تأثري: تعال أيها الصديق ، تعال، إني في انتظارك، كنت قد نسيتك.
وإذا بي أمام صبي ضئيل، نحيل الجسد، مصفر الوجه، عليه بقايا ثوب رخيص مرقع. وعرفته في الحال. كان هو بعينه اليتيم الذي قضيت معه ليالي الأخيرة، وأنا أحاول أن أجد له مكانا بين الأحياء. صاح في وجهي من الغيظ: «هكذا نسيتني!»
قلت في إخلاص: لم أنسك يا صديقي، لم أنسك! وأشرت إلى بقية أصدقائي الذين يتطلعون إلينا في دهشة. - إذن فكيف تركتني أهيم وحدي في الطرقات؟
فقلت وصدري يسعل سعالا شديدا: لا لم أنسك. والله شاهد على ما أقول!
فصاح غاضبا وصوته يترقرق بالدموع: «بل تنكرت لي.» ثم التفت وراءه وتفحص الوجوه لحظة ثم قال: عفوا! إني لست مثل هؤلاء؛ فما أنا إلا طفل يتيم، وضعت حياتي أمانة بين يديك فهربت من وجهي.
فقلت وأنا أنظر إليه بعينين مفعمتين بالحنان: أقسم لك أن ليس فيهم من هو أعز علي منك. ولكنني ...
فقال وهو يطرق برأسه: ألست أولى من هؤلاء برعايتك؟ هذا الأمير الفرعوني الذي يتباهى بأناقته، ويضع يده على مقبض سيفه في خيلاء ...
فقلت مستنكرا: رويدك! ولا تسئ إلى هذا الضيف العزيز. إني أعلم مبلغ تهوره وطيشه، وقد طالما حاولت أن أكفكف من غلوائه فلم أفلح. تصور يا صديقي الصغير أنه - ويا للعجب - يحاول أن يهدم الهرم الأكبر! لا تندهش، لا تندهش؛ فهذا هو ما حدث. لقد تسلل ذات ليلة هو وجماعة من عبيده وحاشيته الغاضبين على خوفو الملك وصعدوا إلى قمة الهرم وألقوا بعشرة أحجار كبيرة من فوق قمته. يجب عليك أن تجد لهم العذر؛ فقد كان من رأيهم أن هذا البناء الجميل ليس إلا رمزا لذل أهل مصر، وعبودية ...
نامعلوم صفحہ