ابن سینا فلسفی

بولس مسعد d. 1307 AH
53

ابن سینا فلسفی

ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته

اصناف

ولما تقرر بيننا وبينها الانبساط أوقفناها على ما ألم بنا؛ فأظهرت المساهمة في الاهتمام، وذكرت أن وراء هذا الجبل مدينة يتبوءها الملك الأعظم، وأي مظلوم استعداه وتوكل عليه كشف عنه الضراء بقوته ومعونته، فاطمأننا إلى إشارتها وتيممنا مدينة الملك حتى حللنا بفنائها منتظرين لإذنه ورضائه، فخرج الأمر بإذن الواردين وأدخلنا قصره، فإذا نحن بصحن لا نضمن وصف رحبه، فلما عبرناه رفع لنا الحجاب عن صحن فسيح مشرق استضقنا لديه الأول؛ بل استصغرناه حتى وصلنا إلى حجرة الملك.

فلما رفع لنا الحجاب، ولحظ الملك في جماله مقلنا علقت به أفئدتنا ودهشنا دهشا عاقنا عن الشكوى، فوقف على ما غشينا فرد علينا الثبات بلطفه حتى اجترأنا على مكالمته وعبرنا بين يديه عن قصتنا، فقال: لا يقدر على حل الحبائل عن أرجلكم إلا عاقدوها، وإني منفذ إليهم رسولا يسومهم إرضاءكم وإماطة السوء عنكم فانصرفوا مغبوطين.

وهو ذا نحن الآن في الطريق مع الرسول وإخواني متشبثون بي يطلبون مني حكاية بهاء الملك بين أيديهم، وسأصفه وصفا موجزا فأقول: إنه الملك الذي مهما حصلت في خاطرك جمالا لا يمازجه قبح وكمالا لا يشوبه نقص صادفه مستوفى لديه، وكل كمال بالحقيقة فهو حاصل له، وكل نقص ولو بالمجاز منفي عنه كله، لحسنه وجه ولجوده يد، من خدمه فقد اغتنم السعادة القصوى، ومن صرمهه فقد خسر الآخرة والدنيا.

وكم من أخ قرع سمعه قصتي فقال: أراك مس عقلك مس أو لم بك لمم، وما والله ما طرت بل طار عقلك، وما اقتنصت بل اقتنص لبك، أنى يطير البشر أو ينطق الطير؟ كأن المرار قد غلب في مزاجك واليبوسة قد استولت على دماغك، وسبيلك أن تشرب طبخ الأفثيمون وتتعهد للاستحمام بالماء العذب الفاتر، وتستنشق بدهن النيلوفر، وتترفه في الأغذية وتهجر السهر وتقل الفكر؛ فإنا عهدناك فيما خلا لبيبا، والله مطلع على ضمائرنا؛ فإنها من جهتك مهتمة، ولاختلال حالك مغتمة، ما أكثر ما يقولون وأقل ما ينجع، وشر المقال ما ضاع، وبالله الاستعانة، وعن الناس البراءة، ومن اعتقد عني هذا فقد خسر، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

2

الفصل الرابع عشر

سياسة ابن سينا

يعتقد فلاسفة العرب أن كلمة سياسة يراد بها: «تلافي الخلل وإصلاح الفاسد»، ولما كان الفساد والخلل يطرآن على الإنسان وأعماله، وضع بعضهم مقالات ورسائل في هذا الموضوع يختلف تقسيم بعضها عن بعض، ولكن مرجعها في الغالب الأعم واحد. (1) بين سياستين

ليس ابن سينا أول من وضع رسالة في السياسة بين فلاسفة العرب، بل سبقه إلى ذلك أستاذه الفارابي، فضلا عما أتى به في صدد هذا الكلام في كتابه المدينة الفاضلة.

في المقدمة يتكلم الفارابي عن الطريقة التي يجب على الإنسان أن يسلكها في استجلاب علم السياسة، وأبلغ طريقة عنده في اكتساب العلوم عموما والسياسة خصوصا تأمل أحوال الناس وأعمالهم ومتصرفاتهم، وإمعان النظر فيها، والتمييز بين محاسنها ومساوئها وبين النافع والضار لهم منها، ثم يستفيض في النقاط التالية: (1) سياسة المرء مع رؤسائه. (2) سياسته مع أكفائه. (3) سياسته مع من دونه. ويختم كلامه بذكر سياسة المرء لنفسه إلى أن يقول: «هذه أصول وقوانين متى ما استعملها المرء في معاشه، وقاس عليها في متصرفات أموره وأسبابه، استقامت به أحواله وطابت له أيامه وسلم من كثير الآفات، ونال الحظ الجزيل من العادات.»

نامعلوم صفحہ