ابن سینا فلسفی
ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته
اصناف
المقدمة
1 - بيئة ابن سينا
2 - حياة ابن سينا
3 - مصنفاته، تقسيمه العلوم
4 - منطق ابن سينا
5 - طبيعيات ابن سينا
6 - النفس في نظر ابن سينا
7 - العلة والمعلول
8 - ما هو الله تعالى؟
9 - كيف أثبت ابن سينا حدوث الكون
نامعلوم صفحہ
10 - هل أقر ابن سينا بأن الله يعرف الجزئيات؟
11 - العناية الإلهية
12 - دخول الشر للعالم1
13 - السعادة والشقاوة
14 - سياسة ابن سينا
الخاتمة
أهم المصادر
المقدمة
1 - بيئة ابن سينا
2 - حياة ابن سينا
نامعلوم صفحہ
3 - مصنفاته، تقسيمه العلوم
4 - منطق ابن سينا
5 - طبيعيات ابن سينا
6 - النفس في نظر ابن سينا
7 - العلة والمعلول
8 - ما هو الله تعالى؟
9 - كيف أثبت ابن سينا حدوث الكون
10 - هل أقر ابن سينا بأن الله يعرف الجزئيات؟
11 - العناية الإلهية
12 - دخول الشر للعالم1
نامعلوم صفحہ
13 - السعادة والشقاوة
14 - سياسة ابن سينا
الخاتمة
أهم المصادر
ابن سينا الفيلسوف
ابن سينا الفيلسوف
بعد تسعمائة سنة على وفاته
تأليف
بولس مسعد
المقدمة
نامعلوم صفحہ
لقد حان لنا النهوض!
تحت السماء الصافية، على الجبال الشامخة، تجاه البساتين الزاهية، في السهول الصامتة، بين الجدران القائمة وحيال المواد المتراكمة وقف الفيلسوف وسيقف إلى الأبد يتأمل الموجودات ويراقبها متفهما حركاتها واختلاجات نفسه، ومحددا العلاقة الكائنة بين الاثنين، ثم يدون ما يتوصل إليه من القواعد والموازين بأسلوب منطقي؛ إرشادا للبشرية ودليلا للمنشغفين بالوجود الشامل.
من جميع الأمم، ومن سائر الممل والنحل خرج الفيلسوف وسيخرج؛ لأن مادة الفلسفة تأبى الجزئية، وتستعصي على الإحاطة والحصر.
تتعاقب الأجيال، وتتوالى السنون، والفلسفة تعمل بهمة لا تعرف الملل، وعزم لا يعتريه خوار على إيصال الإنسانية إلى ذروة الكمال ومسكن الجلال، غير عابئة بما يعترضها من الصعاب، ويقوم بوجهها من العقبات الكأداء.
هي كامنة في جميع العقول كمون النار في الهشيم، ومستعدة لأن تقود العاملين في تعاليمها إلى حظيرتها الآمنة، ولكنها إذا وجدت مقاومة في شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم تنتقم لنفسها انتقاما مريعا.
يكفي قليل من النظر إلى العلم لنتحقق من امتناع نمو الفلسفة بذاتها وحدها بدون نمو سائر الملكات؛ ذلك لأن جميع عناصر العقل يجب أن تبلغ إنماءها قبل التأمل؛ ولكون التأمل المرتب على نمط معين لا يظهر إلا متأخرا وبعد سائر الملكات. ونحن لا نتبسط في بيان هذه الظاهرة؛ لأنها من الحقائق الملموسة في طبيعة الأمم والأفراد على السواء،
1
وأقتصر على الإقرار بأن مجرى الأمور في الشعب العربي لم يكن مختلفا عنه في غيره؛ فإن الفلسفة العربية لم تكن نبتا في صحراء، ولا ثمرة غير منتظرة؛ بل كانت ثمرة لغرسة ناضجة، ونبتا لأرض مشغولة.
قبل الترجمات نرى العقل العربي كبيرا دقيقا يود الإبداع والتحليق في سماء النظريات السامية، إلا أن معارفه الضعيفة ومداركه المحدودة الآفاق تكسر أجنحته وترغمه على إرسال الحكم الشعبية دونما اكتراث بالتحاليل المنطقية، لكنه لما اطلع على الثقافات الأعجمية، وتبحر في الفلسفة اليونانية، اتسعت دائرة تفكيره، واستطال نفسه، واتخذ اتجاها آخر يختلف عن الأول تمام الاختلاف، فظهرت الشيع العلمية، وكثرت المجادلات المنظمة، وثارت المساجلات القائمة على الحجة والبرهان، وتمخضت العقول بالنظريات الجديدة، فصح المبدأ المتناقل أن العلم لا يختص بشعب من الشعوب، ولا بجيل من الأجيال؛ بل هو مشاع للجميع، وأنواره التي تشرق في إحدى البلدان المتمدنة يجوز لغيرها من الأمم الاستضاءة بها، ولو كانوا في المجاهل السحيقة والسيارات العلوية، والمعروف أن ما زرع من الأفكار العلمية في أحد البلدان، أو في أحد العصور نبت وأينع في بلاد ثانية أو عصر آخر، فرب فكرة تظهر في لبنان مثلا يأخذها عالم فرنسي، ويتعمق في درسها وتحليلها، ويزيدها صقلا ونحتا، ثم يرسلها نظرية فتانة ترفل بثوب قشيب.
وعندما نطلع على المصنفات التي نقلت من اليونانية إلى العربية ومدى التأثير الذي أحدثته في المفكرين الأعارب، نعترف بأن الحضارة العربية هي مدينة لإغريقيا في رقيها أكثر من غيرها؛ لأنها أمها في جميع أمور العقل تقريبا؛ إذن على أبناء الضاد ألا ينسوا هذه الحقيقة الواضحة؛ لئلا يرموا بالكفران وإغماط النعمة.
نامعلوم صفحہ
وقولنا: إن الشعب العربي هو ابن إغريقيا في أمور العقل لا يعني أنه كان ناقلا فقط؛ بل قد أدى إلى جميع العلوم رسالته، وحفظ تراث الأقدمين الثمين، وزاده كمالا وجمالا، إلا أنه في الفلسفة لم يتمكن من الإبداع الكلي رغم ما فيه من الشوق والمقدرة على اقتباس النظريات الدقيقة. وهذا - على ظننا - يرجع إلى طبيعة العربي المقلدة وقصر وقته، فضلا عن أن العالم الإسلامي لم ينثن يوما عن تكفير الفلسفة وإرهاقها حتى صار اسم فيلسوف مرادفا لزنديق. ومن كثرة الضغط الذي لحق بالحكمة ونزل بعشاقها قل عدد المقبلين على درسها واكتناه أسرارها، وغابت عن البلدان العربية شيئا فشيئا، وخيم ظلام الجهل، وتقوضت أركان الدولة، وتشتتت الكتب العلمية، وصار ينظر إليها كما ينظر إلى الطلاسم والملاغز، وهكذا تكون الفلسفة قد انتقمت لنفسها انتقاما هائلا.
قال بارتلمي سانتهلير أستاذ الفلسفة الإغريقية في كولليج دي فرانس: «إن العقل الإنساني بطيء في سيره، فيحسن به وهو سائر في طريقه غير المتناهي أن يلقي نظره بين الفينة والفينة إلى الوراء؛ ليرى من أين ابتدأ سيره؛ وليسدد خطاه في المستقبل غير المحدود الذي ينتظر قدومه.»
ولا شيء يرينا مبتدأ سير العقل العربي غير درس تاريخ الفلسفة درسا علميا، ولا شيء يسدد الخطى في المستقبل غير التخرج في مدرسة التاريخ نفسه؛ لأنه أستاذ الحياة على حد قول شيشرون الخطيب الروماني الشهير.
إن جميع البلدان، وسائر الشعوب، تعطي الفلسفة دراسات وافية عن علمائها ومفكريها الأقدمين، وتقدم لأسرة العلم رجالا أفذاذا نابغين. أما العالم العربي فلا يزال غير مكترث بدرس تراث فلاسفته إلا بمقدار، وغير مقدم للعالم فلاسفة مبدعين.
لقد حان لنا - نحن الشباب المثقف - أن ننهض إلى العمل الفلسفي المثمر، ونبعث الفلسفة العربية من لحدها كما بعثنا الأدب العربي، وأن نسير في طريق البحث والتفكير الطلق غير عابئين بالمصاعب والأتعاب؛ لأن من لم يركب الأخطار لا ينل الرغائب.
لنعمل على إعادة مجدنا الغابر وعزنا التالد، لنعمل على تكوين مفكرين ناضجين منا ولنا، مستمدين مثلنا العليا من نفسيتنا، موضحين للملأ أن في عقولنا كل علم وكل فلسفة وكل فن، وفي إرادتنا كل عزم وكل حزم وكل مثابرة، ولعلنا بهذا البحث الذي كلفنا جهودا لا تحصى نكون أدينا بعض الخدمة، وحسبنا الله خير مثيب.
الأب بولس مسعد
الحلبي اللبناني
دير سيدة اللويزة، في 12 حزيران 1937م
الفصل الأول
نامعلوم صفحہ
بيئة ابن سينا
المكان الذي يولد فيه الإنسان وينشأ ويتربى، والحال التي يسير عليها وتطبع في نفسه ميزات خاصة من البيئة، ولقد أقر علماء البيولوجية على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم أن للبيئة في حياة أبناء آدم أثرا بالغا لا توصف محاسنه إذا كان حسنا، ولا تحصى مساوئه إذا كان سيئا حتى قيل: «المرء ابن بيئته.» لذا نرى الدول الراقية قد سنت القوانين الصارمة للقضاء على البيئة الفاجرة الخاملة، وشيدت المدارس والمعاهد لمكافحة الجهل والغواية، فرفعت بذلك مستوى شبانها صحة وعقلا؛ لهذا إذا شئنا أن نفهم حياة الشيخ الرئيس العامة والخاصة، يلزمنا أن نقول كلمة ولو وجيزة في بيئته مقسمينها قسمين: البيئة السياسية، والبيئة العقلية. (1) البيئة السياسية
إن أردنا بإسهاب تصوير البيئة التي وجد فيها أرسطو الإسلام؛ لاقتضى ذلك مجلدا برأسه؛ لذلك نكتفي بما يدل على الجوهر، ويعطي الدارس فكرة واضحة.
كانت العناصر الأجنبية قد عصفت بالدولة العباسية يوم أطل ابن سينا في جو الوجود، وأهم هذه العناصر التي ضعضعت أركان الإمبراطورية العربية هي الفارسي والتركي.
إن تدخل العنصر الفارسي في الدولة العباسية يرجع إلى مقتل الأمين 198ه وانتصار المأمون، وقد كان للفضل بن سهل اليد الطولى بذلك، وظل الفرس يستبدون بالدولة، وهم من وزرائها المشاهير حتى تلاشى أمر الشيعة من بغداد، ثم بخلافة المتوكل ينقضي العصر الفارسي الأول.
ما كاد يتقلص ظل هذا العصر الثقيل عن الدولة العربية حتى منيت بالعصر التركي الأول. ومظالم الأتراك في الدولة، واستبدادهم بشئون الخلفاء قد فاق الفرس بدرجات؛ مع أنه ليس بين هذين العصرين حد فاصل ينتهي إليه الواحد ويبتدئ منه الآخر؛ بل هما تعاصرا مدة كان الأول في أواخره، والآخر في أوائله.
إن أول من استخدم الأتراك في الجندية من الخلفاء كان المنصور العباسي، إلا أنهم في بادئ أمرهم كانوا ثلة لا يعبأ بها، وإنما كانت السيطرة آنذاك للفرس والعرب، ولما اشتد التنافس بين العرب والفرس في أيام الرشيد، واتسعت شقة الخلاف بينهما، وذهبت سطوة العرب بذهاب دولة الأمين، وتسلط الفرس أنصار المأمون وأخواله. ضعفت العصبية العربية بسبب توغل العرب في الحضارة والترف، ونأت عن عقليتهم محبة الجهاد والتغلب والفتح، ففكر المعتصم أخو المأمون في ذلك قبل أن تفضي الخلافة إليه، وكانت أمه تركية وفيه كثير من طبائع الأتراك، مع الميل إليهم لأنهم أخواله، كما كان يميل المأمون إلى الفرس. وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل أخيه الأمين حتى أصبح يخافهم على نفسه، ولم يكن له ثقة بالعرب وقد ذهبت عصبيتهم، وأخلدوا إلى الحضارة والترفه، وانكسرت شوكتهم، فرأى أن يتقوى بالأتراك، وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش، مع الجرأة على الحرب، والصبر على شظف العيش، فجعل يتخير منهم الأشداء يبتاعهم بالمال من مواليهم بالعراق، أو يبعث في طلبهم من تركستان وغيرها، فاجتمع لديه عدة آلاف وفيهم جمال وصحة، فألبسهم أثواب الديباج والمناطق والحلي المذهبة، وميزهم بالزي عن سائر الجنود.
فلما أفضت الخلافة إليه كان الأتراك عونا له، وتكاثروا حتى ضاقت بغداد عنهم، وصاروا يؤذون العوام في الأسواق فينال الضعفاء والصبيان من ذلك أذى كثير، وربما رأوا الواحد بعد الواحد قتيلا على قارعة الطريق. وكان المعتصم ينظم المماليك فرقا، عليهم القواد منهم مثل نظام الجند في ذلك الزمان، ولم يكتف بجمع المماليك والأتراك بالشراء أو المهاداة، ولكنه رغب أمراء الأتراك وأولاد ملوكهم بالقدوم إليه والإقامة في ظله، وممن جاء منهم على هذه الصورة جف بن بلتكين من أولاد ملوك فرغانة، وكانوا قد وصفوه له بالشجاعة والتقدم في الحروب، وأحضر غيره من أبناء الأمراء، وبالغ في إكرامهم.
وكان المعتصم شديد الرغبة في استبقاء أتراكه على فطرتهم، ويخاف تحضرهم واختلاطهم بالأمم الأخرى؛ فتذهب عصبيتهم، وتضعف نجدتهم؛ فابتاع لهم الجواري التركيات فزوجهم منهن، ومنعهم أن يتزوجوا أو يصاهروا أحدا من المولدين إلى أن ينشأ لهم الولد؛ فيتزوج بعضهم من بعض، وأجرى للجواري أرزاقا قائمة، وأثبت أسماءهن في الدواوين، فلم يكن يقدر أحد منهم أن يطلق امرأته أو يفارقها. فاشتد ساعد الأتراك بذلك، وقويت شوكتهم، وتغلبوا على أمور الدولة، وخصوصا بعد أن أنقذوا المملكة من بابك الخرمي، وفتحوا عمورية ونصروا الإسلام، فتحول النفوذ إليهم، وبعد أن كانت أمور الدولة في قبضة الوزراء الفرس أصبحت في أيدي القواد الأتراك، أو صار النفوذ فوضى بين الوزراء والقواد، وكان كل فريق يسابق الآخر في ابتزاز الأموال بالمصادرات ونحوها.
وكانت الدولة قد تجاوزت طور الشباب، وأخذت في التقهقر، وانغمس الخلفاء في الترف والقصف، وعجزوا عن القيام بشئون الحكومة، فأصبحوا لا يبلغون منصب الخلافة إلا بالجند الأتراك، وهؤلاء لا يعملون عملا إلا بالمال، فمن استطاع استخدام الجند ملك، ولا عصبية هناك، ولا جنسية، ولا جامعة دينية، ولا رابطة وطنية، فأضحى الأتراك محور تلك الحركة، وهم أهل شجاعة وحرب كما تقدم، وأمسى البطش والفتك من أكبر عوامل السيادة.
نامعلوم صفحہ
وقد قام الأتراك في الدولة بأعمال كثيرة مذمومة، منها: أنهم قتلوا المعتز شر قتلة؛ إذ إنهم جروه برجله إلى الباب، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس بالدار، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر، وبعضهم يلطمه بيده؛ والمستكفي سملوا عينيه، ثم حبسوه حتى مات في السجن ...
وكان أهل البلاد يهابون الأتراك ويخافون بطشهم، فإذا جاءوا بلدا خافهم أهله كثيرا؛ إذ كانوا ينزلون في دور الناس، ويتعرضون للحرم والغلمان، فشرعت العامة تكرههم شديدا.
ولما وصلت الدولة العباسية إلى ما تقدم من فساد الأمور والفوضى في سلطتها وأحكامها بين الفرس والأتراك، أو بين الوزراء والأجناد، أو بين الخدم والنساء، وذهبت هيبة الخلفاء بما أصابهم من التضييق والاحتقار، هان على عمالهم في أطراف المملكة أن ينفصلوا عنهم بأحكامهم الإدارية والسياسية، وأن يستأثروا بجباية الأموال، وجميع أعمالهم وهو الاستقلال، وكان أسبقهم إليه أبعدهم عن مركز الخلافة، ومن جراء ذلك تشعبت المملكة العباسية، ونشأ في ظل العباسيين دويلات فارسية وأخرى تركية، إلا أن الإمارات الفارسية لم تمكث طويلا حتى قامت دولة آل بويه، وهي أكبر دولة فارسية شيعية ظهرت في الشرق في عهد ذلك التمدن بظل الدولة العباسية، واستمر حكم آل بويه من سنة 320-447ه؛ أي إن هذه الدولة قد انقرضت في أيام ابن سينا.
وعلى غرار الفرس طبع الأتراك؛ أي إنهم لما قويت شوكتهم في الدولة وهابهم الخلفاء، طمع بعضهم في الولايات كما طمع الفرس، فاستقلوا بها فنبتت للدولة العباسية فروع تركية خارج بلاد فارس، كما نبتت الفروع الفارسية في بلاد فارس. والدولة التركية التي عمرت أكثر من غيرها هي الدولة الغزنوية التي كان مقرها أفغانستان والهند، وظلت من سنة 351-582ه.
على أن هذه الإمارات ابتدأت فروعا للمملكة العباسية؛ أي كان أمراؤها وسلاطينها من عمال الدولة العباسية أو قوادها. وكانت السنة قد تقوت بظهور الإمارات التركية، فلما قامت دولة آل بويه بالعراق وفارس، وعاصرتها الدولة الفاطمية بمصر عظم أمر الشيعة في العالم الإسلامي، وتضعضعت السنة فتشتت شأن المملكة العباسية. ثم ظهرت الدولة التركية الكبرى في أواسط القرن الخامس، وتعرف بالدولة السلجوقية نسبة إلى جدها سلجوق، فجاءت في حال الحاجة إليها؛ لأنها لمت شعث المملكة العباسية، ونصرت مذهبها (السنة) بعد أن كادت تضمحل بين الشيعة، إلا أن هذه الدولة قد تفرعت أيضا إلى دول كثيرة، لكنها عرفت باسم واحد.
تجاه هذه المنازعات السياسية نرى العرب يلمون شعثهم، ويشيدون الإمارات العربية، ويشدون أزر العنصر العربي، وقد ساعدهم على ذلك ما قام من الفتن والحروب بين الخلفاء العباسيين ووزرائهم الفرس وأجنادهم الأتراك في القرن الرابع للهجرة، ورأوا الفرس والترك يستقلون بولاياتهم فقلدوهم، فاستقل آل حمدان من بني تغلب بالموصل وحلب وغيرهما سنة 317-394ه، وكانت دولتهم عربية أحيوا بها معالم الآداب، ثم وجدت غير هذه دويلات عربية أخرى نضرب عن ذكرها خوف التطويل.
وبسبب هذا التقهقر السياسي تقهقرت الأخلاق والآداب، ولعل التقهقر الخلقي كان علة التقهقر السياسي، وعمت الفوضى، وكثر الفحش والتهتك حتى في دور الخلفاء، وتعرض الشعراء للنيل من عرض الملوك. قال أحدهم في الأمين:
ألا يا أيها المثوى بطوس
عزيبا ما تفادى بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان هقلا
نامعلوم صفحہ
يحمل منهم شؤم البسوس ...
في هذه البيئة المضطربة، في هذه البيئة الخالعة نشأ الشيخ الرئيس؛ فأثر ذلك في أخلاقه وآدابه، حتى لقد اتفق جمهور المؤرخين على أنه كان مع وفرة علمه وتوقد ذهنه متهتكا فسوقا كعامة أهل عصره ... وفضلا عن ذلك فإن البعض يقولون بأن ابن سينا من أصل تركي؛ ولذلك احتفلت جامعة إستنبول في 21 حزيران 1937م بمرور تسعمائة سنة على وفاته، أما كارا دي فو فقد صرح أنه من أصل فارسي مستندا في ذلك إلى كلام الرئيس عن ذاته.
ومن الدرس والتحقيق نعرف أن البيئة السياسية قد أثرت أيضا في نظرياته الفلسفية على مثال ما جاء في نظريته الصدورية؛ فالواحد الذي لا يتحرك، والمبدأ الأول الذي تتجه نحوه العقول هو الخليفة المقيم في بغداد الذي لا يعرف ما يفعله العمال والأمراء في إماراتهم، والكواكب التي تتحرك في السماء تسبيحا لله - عز وجل - تشبه حركة السلاطين والأمراء في خدمة الخليفة الساكن حتى كأن الحياة السياسية قد نظمت على صورة الأفلاك وحركاتها.
1 (2) البيئة العقلية
حمل التعصب للإسلام في الصدر الأول على الاعتقاد «أن الإسلام يهدم ما كان قبله»، وأنه «لا ينبغي أن يتلى غير القرآن»، وبالاستناد إلى هذه الاعتقادات التي لا ترتكز على شيء من القرآن والحديث، أحرقوا ما وقعوا عليه من الكتب الفلسفية والعلمية في الإسكندرية وفارس، وانصرفوا إلى العناية بالقرآن وأحكامه، وما إليه من العلوم الإسلامية في الفقه واللغة والمغازي وسير الفتح ونحو ذلك.
2
ولما فرغوا من الفتوحات وأنشئوا العلوم الدينية، واستتب لهم الأمن والسلام، وترقت عقولهم، واتسعت مداركهم، وأخذوا في أسباب الحضارة بالقسط الأوفر، تشوقوا إلى الاطلاع على العلوم والفلسفة بما سمعوه من الأساقفة والرهبان، وهان عليهم الأمر عندما سمعوا القرآن نفسه يفضل العلماء على الجهلاء بدليل قوله:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ،
3
ويجعل للراسخين في العلم سعادة، ويدعو الناس إلى الافتكار في الخلق:
نامعلوم صفحہ
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ،
4
وازدادت رغبتهم في إحراز العلم عندما سمعوا الحديث يقول لهم: «الحكمة ضالة المؤمن يأخذها ممن سمعها، ولا يبالي في أي وعاء خرجت»، «خذوا الحكمة ولو من ألسنة المشركين»، «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة »، ثم «اطلبوا العلم ولو بالصين»،
5
على أنهم لم يقدموا على طلبها دفعة واحدة؛ بل اقتبسوها تدريجا تبعا لسنة الارتقاء.
كان علماء الإسلام قبل اطلاعهم على الفلسفة يكتفون بتفسير القرآن تفسيرا سطحيا، وبالتلميحات التاريخية، وشرح الألفاظ الغامضة، ثم لما امتزجوا بالعلوم الدخيلة تطور فكرهم، وعرضت لهم مشاكل فلسفية كبرى في الله وصفاته، وكلامه، ووحيه، والقضاء والقدر، فتضاربت الآراء، وتشعبت النظريات، وحمي وطيس الجدال، وتولدت الشيع والبدع؛ فكان الصفاقيون، وحمل عليهم المعتزلون، وحاول الحكم فيما بينهم الأشعري العقل الراجح، كما توسط بين الجبرية والقدرية والصفاتية والمعتزلة، وهكذا تعددت الاختلافات في شروح القرآن وآياته، وكثرت الفرق الإسلامية إلى أن بلغت اثنتين وسبعين فرقة، أحصاها الشهرستاني وحلل تعاليمها في كتاب الملل والنحل، وكان أشدها وطأة وأعمقها فكرا المعتزلة والأشعرية.
6
أما الترجمات فإنها قد لعبت دورا مهما في ترقي الفكر العربي، والمرجوح أنه لولا أرسطو ومنطقه، واليونان وعلومهم، والفرس وآراؤهم، لما ظهر في شرقنا نوابغ على مثال الفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد في الفلسفة، وابن سينا والرازي في الطب، والخوارزمي في الجبر، وجابر بن حيان في الكيمياء ...
7
هذه هي البيئة العقلية التي أحاقت بالشيخ الرئيس؛ انشغاف بالحكمة، محبة للعلم، نضوج في الفكر، تعدد المترجمين والشراح، تشعب في الآراء والنظريات، امتزاج القديم بالجديد، طريق صعب للتفكير الحر الطليق. وبالجملة إن ابن سينا فتح عينيه على مملكة الفلسفة والعلم، فوجد مواد مبعثرة، فيها الغث والسمين، الجيد والرديء، فحاول تحليل عناصرها، وتمحيص دقائقها، واكتناه أسرارها، ومعارضتها بعضها ببعض، فنبذ منها ما وجب نبذه، وأبقى ما رآه صالحا لبناء صرح فلسفته.
نامعلوم صفحہ
أجل إن ابن سينا قد اتبع الفارابي في أكثر آرائه - كما سترى في هذا الكتاب - ولكنه مع ذلك قد ضرب عرض الحائط بالقسم الكبير من تعاليم أستاذه كفلسفة الوفاق مثلا، وعدم قيام المدينة الفاضلة؛ لأنه كان ناقدا بصيرا ومنطقيا قديرا.
الفصل الثاني
حياة ابن سينا
لكل إنسان في الوجود البالي حياتان؛ حياة مادية، وحياة روحية. الأولى هي نشأة الإنسان وترعرعه، والتقلبات التي تطرأ عليه، والأحداث التي تدهمه من الخارج وما إليها. والثانية هي مصدر كل اتجاه عقلي وتطور اجتماعي. ولكل من هاتين الحياتين تأثيرهما الخاص؛ فالمادة تؤثر في الروح تأثيرا عظيما، كما أن الروح تسير ذاك التأثير، وتلبسه ثوبا يختلف قيمة ووزنا باختلاف الشخص ومواهبه العقلية؛ لذا نرى نظريات الفيلسوف المتفائل تباين نظريات المفكر المكتنف بالأحزان والأشجان والمصائب والويلات. وهذا لا يجرؤ على إنكاره ذو فهم. وكما أنه يلزم الإنسان أن يقيت جسده، ويهذب روحه، ويطبع فيها الملكات الصالحة، كذلك يجب على المؤرخين المبصرين أن يدرسوا فرعي الحياة الروحي والمادي؛ لكي يرضوا الحقيقة، وينجوا من الملامة، ويعطوا كل ذي حق حقه. (1) حياة ابن سينا العامة
إن مجمل ما نعرفه عن تاريخ حياة الشيخ الرئيس العامة أو المادية هو مأخوذ عن موجز كتبه بخط يده، هاك نصه بالحرف نقلا عن ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، ص325، قال ابن سينا:
إن أبي كان رجلا من أهل بلخ،
1
وانتقل منها إلى بخارا في أيام نوح بن منصور،
2
واشتغل بالتصرف
نامعلوم صفحہ
3
في قرية خرميثن، وتزوج أمي من قرية يقال لها أفشنة، وولدت منها وولد أخي. ثم انتقلنا إلى بخارا، وأحضرت معلم القرآن والأدب، وكملت العشر من العمر، وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب حتى كان يقضى مني العجب. وأخذ والدي يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل، ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه، ثم جاء إلى بخارا أبو عبد الله الناتلي،
4
وكان يدعي الفلسفة، وأنزله دارنا؛ رجاء تعلمي منه، فقرأت ظواهر المنطق عليه، وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبرة، ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح، وكذلك كتاب إقليدس، فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت حل الكتاب بأسره، ثم انتقلت إلى المجسطي، وفارقني الناتلي، ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وتعهدت المرضى؛ فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة، ثم توفرت على القراءة سنة ونصفا، وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى يفتح لي المغلق منه والمتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراء والكتابة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومتى أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيرا منها انفتح لي وجوهها في المنام، ولم أزل كذلك حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي. ثم عدلت إلى العلم الإلهي، وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظا وأنا مع ذلك لا أفهمه، وأيست من نفسي وقلت: «هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا يوما حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه علي؛ فرددته رد متبرم معتقد ألا فائدة في هذا العلم»، فقال لي: «اشتر مني هذا فإنه رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم؛ لأن صاحبه محتاج إلى ثمنه»؛ فاشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح علي أغراض ذلك الكتاب؛ بسبب أنه صار لي على ظهر القلب، وفرحت بذلك وتصدقت بشيء على الفقراء شكرا لله تعالى، فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء، ثم مات والدي وتصرفت بي الأحوال، وتقلدت شيئا من أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الارتجال إلى بخارا والانتقال عنها إلى جرجان، وكان قصدي الأمير قابوس، فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه وموته، ثم مضيت إلى داهستان، ومرضت بها مرضا صعبا، وعدت إلى جرجان، وأنشأت في حالي قصيدة فيها بيت القائل:
لما عظمت فليس مصر واسعي
لما غلا ثمني عدمت المشتري
ا .ه.
وفي جرجان اتصل به تلميذاه؛ أبو عبيد الجوزجاني ، وأبو محمد الشيرازي؛ لرغبتهما في تلقي العلم عنه فأفادهما كثيرا، ثم انتقل إلى الري، واتصل بخدمة مجد الدولة إلى أن كان من الأسباب ما استوجب خروجه إلى قزوين، ومنها إلى همذان، وتقلد الوزارة لشمس الدولة، ثم تشوش العسكر عليه، وأغاروا على داره ونهبوها وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة قتله فامتنع، ثم أطلق فتوارى، ثم مرض شمس الدولة بالقولنج فأحضره لمعالجته واعتذر إليه وأعاده وزيرا.
5
وبعد أن مات شمس الدولة، وبويع ابنه طلب أن يستوزر الشيخ الرئيس فأبى، وأقام في بعض الدور متواريا، ثم اتهم بأنه يكاتب أمير أصفهان علاء الدولة سرا، فقبضوا عليه، وسيروه إلى قلعة فردجان فسجن، وأنشأ هناك قصيدة جاء فيها:
نامعلوم صفحہ
دخلت باليقين كما تراه
وكل الشك في أمر الخروج
واستمر في القلعة أربعة أشهر، ثم أخرج وأعيد إلى همذان حيث أقام مدة، وبعد ذلك عن له الفرار فخرج متنكرا إلى أصفهان، فصادف في مجلس علاء الدولة الإكرام والإعزاز اللذين يستحقهما مثله، ولما سار علاء الدولة قاصدا سابورخاست خرج الشيخ معه، واشتغل بالرصد واتخاذ آلاته، واستخدام صناعها قصدا لإصلاح الخلل الواقع في التقاويم القديمة.
والمشهور عن الشيخ أنه كان قوي البنية والمزاج مسرفا في الملاذ البدنية والشهوات اللحمية، فأنهكه ذلك، وعرض له قولنج فحقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات، فتقرحت أمعاؤه وظهر له سحج، واتفق له سفر مع علاء الدولة فحدث له الصرع الذي يحدث عقيب القولنج، فأمر باتخاذ دانقين من كرفس في جملة ما يحقن به، فجعل الطبيب الذي يعالجه به خمسة دراهم، فازداد السحج به، فطرح بعض خدمه في الأدوية التي يعالج بها مقدارا كبيرا من الأفيون، وكان سبب ذلك أن غلمانه خانوه في أمر فخافوا العاقبة عند برئه، وكان مذ حصل له الألم يتحامل ويجلس مرة بعد أخرى ولا يحتمي، ويسرف في قوته الحيوية فكان يمرض أسبوعا ويصلح أسبوعا.
ثم قصد علاء الدولة همذان ومعه الرئيس أبو علي، فحصل له القولنج في الطريق، ووصل إلى همذان، وقد بلغ منه الضعف، وأشرف على الانحلال فأهمل التداوي، وقال: «المدبر الذي في بدني قد عجز عن تدبيره، فلا تنفعني المعالجة»، ثم اغتسل وتاب، وتصدق بما معه على الفقراء، ورد المظالم على من عرف، وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة حتى توفي.
كان ميلاد ابن سينا 370ه، ووفاته 428ه بهمذان حيث دفن، وقيل بأصبهان، والأول أشهر.
6 (2) حياته الخاصة
كان ابن سينا على جانب عظيم من الذكاء، والمثابرة على، وتوقد القريحة؛ يتبرهن ذلك من حياته التي كتبها هو عن نفسه وأوردناها سابقا، وكان ميالا إلى درس الكتب العويصة، وحل المشاكل العلمية. وهذا يثبته ما حكاه عنه تلميذه أبو عبيد الجوزجاني، وهو قوله: «إني صحبت الشيخ خمسا وعشرين سنة، فما رأيته ينظر فيما يقع له من الكتب على الولاء، وإنما يقصد المواضع الصعبة والمسائل المشكلة؛ ليتبين ما قاله صاحب الكتاب فيها.»
وكان ذا عقل خصب، وشغوفا بإفادة غيره من أبناء جنسه، ويروى عنه أن جماعة من العلماء وقعت لهم شبه في مسائل من كتابه المختصر الأصغر في المنطق، وعرضت تلك الشبه عليه للإجابة عنها؛ فكتب في جوابها زهاء خمسين ورقة في نصف ليلة حتى دهش الناس من ذلك وصار تاريخا بينهم، بيد أنه مع هذا كله قد كان محبا للظهور، مواربا لا يريد أن يستفيد غيره من الموضع الذي استقى منه؛ لذا لما شفي نوح بن نصر الساماني من مرض اعتراه دخل مكتبته التي لم يكن لها نظير، فيها من كل فن من الكتب النفيسة النادرة الوجود، فأخذ هناك يطالع، فاقتبس منها أشياء لم يدركها سواه، وقرأ أغلب نفائسها، ثم أحرقها؛ ليتفرد بما وعته من الحكمة؛ ولئلا ينتفع به سواه.
كذلك قد كان الشيخ خبيثا في باطنه خلاف ما في ظاهره؛ لأن سائر مؤرخي حياته يثبتون أنه كان مطواع الأهواء والملاذ، ومع هذا فإنه في فلسفته يثبت أن السعادة الكاملة في هذه الحياة الدنيا تقوم بالتجرد التام عن الحسيات، والابتعاد عن الملذات اللحمية، والتبحر في الوجود الكامل، حتى لقد قال في إحدى رسائله عن هذا العالم الفاني ما يأتي : «دار أليمها موجع، ولذيذها مستبشع، وصحتها قسر الأضداد على وزن وأعداد، وسلامتها استمرار فاقة إلى استمرار مزاقة، ودوام حاجة إلى مج مجاجة ...» ثم يواصل القول «إن الإنسان الذي يتبجن في قلبه بغض الدنيا، وتصير هذه الخصلة وتيرته، انطبع في فصه نقش الملكوت، وتجلى لمرآته قدس اللاهوت، فألف الأنس الأعلى، وذاق اللذة القصوى، وأخذ عن نفسه لمن هو به أولى، وفاضت عليه السكينة، وحفت به الطمأنينة، واطلع على العالم الأدنى اطلاع راحم لأهله مستوهن لحبله.»
نامعلوم صفحہ
7
هذا قول ابن سينا في هذا الأمر، إلا أن عمله يخالف ذلك ويناقضه، وبعض الحكماء يقولون: «إن العالم الذي يعلم ولا يعمل بما يعلمه ليس بعالم.»
ونحن نعتقد أن الشيخ الرئيس لو اعتدل في حياته لكان عمر طويلا، وأتانا بنظريات فلسفية موزونة؛ لأن الصفة النقدية لم يكن محتاجا إليها؛ بل كانت متجسدة فيه تجسدا؛ فإننا بينا نرى فلاسفة العرب يؤلهون أرسطو، ويتلقنون تعاليمه بدون ما روية، نشاهد أن ابن سينا يمحصها، ويتناول ما يلائمه وينبذ ما لا يقره عقله.
أما باقي مزايا ابن سينا الروحية فسيطلع عليها القارئ عندما يدرس في هذا الكتاب شرحنا لأهم مبادئه الفلسفية، وجل من يملك الكمال وحده.
الفصل الثالث
مصنفاته، تقسيمه العلوم
لا بد للناقد المنصف لدى اطلاعه على مؤلفات ابن سينا من أن يردد مع ابن خلكان أنه كان نادرة عصره في علمه وذكائه، حتى قاربت تصانيفه المائة ما بين مطول وقصير في فنون شتى،
1
وأنا الآن أتساءل بانذهال ليس بعده انذهال: رجل كابن سينا اشتغل بالسياسة، وتقلد الوزارة، ومني بالاضطهاد والتشرد، فكيف وجد متسعا من الوقت؛ لينصرف للتفكير والتأليف بالروية والخصب اللذين عرفت بهما سائر مؤلفاته؟! إننا - وايم الحق - تجاه رجل صاحب عقل متفرد وعلم غزير وقريحة كثيرة الإنتاج، وجلد على الكتابة لا يبارى، تجاه رجل من الرجال القلائل الذين تفتخر بعبقريتهم ونبوغهم الأمة العربية!
كل فضلة من الزمان كان يكرسها للمطالعة والكتابة، والوقت الذي لم يحصل عليه في النهار يبحث عنه عندما تلتحف المسكونة بلحاف الظلمة الكثيف، حتى إنه لم ينم ليلة بكاملها، كان في السفر يحمل أوراقه قبل زاده؛ وإذ يأخذ التعب منه مأخذه يجلس مفكرا كاتبا في الهواء الطلق، وكان في السجن يطلب الورق والحبر قبل الخبز والماء، ولا يغرب عن ذهن المطالع اللبيب أن ابن سينا الطبيب أشهر من ابن سينا الفيلسوف؛ فإن أوروبا نفسها قد عولت على كتاباته الطبية أجيالا عديدة، وعلقت عليها الشروح الضافية، وألقت نظرياته من على منابر كلياتها، فعسى أن تحفز ذكراه التسعموية أحد أطباء العرب؛ فيخرج لنا كتابا عن ابن سينا الطبيب. (1) مؤلفاته
نامعلوم صفحہ
لو شئنا تعداد مصنفات الشيخ الرئيس في كل فروع الأدب والعلم والحكمة والطب والدين لمل القارئ، فنكتفي بذكر أشهرها مما تداولته الأيدي مطبوعا؛ لأن قسما كبيرا منها لا يزال مطمورا في زوايا المكاتب وبين غبار الربائد: (1)
الشفاء: وهو أعظم مؤلفات أرسطو الإسلام قدرا وأعلاها شأنا وأغزرها مادة وأكثرها فائدة، كتبه بين أسفاره ومهام أشغاله العديدة وتشرداته المتواصلة، يحتوي كل فروع الفلسفة المنتشرة في أيامه؛ كالمنطق، والرياضيات، والطبيعيات، والإلهيات، ثم باقي العلوم الطبية، وهو في 18 جزءا، وقد نقل قسم منه منذ زمن قديم إلى اللغة اللاتينية تحت اسم
Sufficiaentiae . أما علم ما وراء الطبيعة المدون في الشفاء فقد ظهر مطبوعا باللاتينية في مدينة البندقية 1495م. (2)
القانون: وهو في 14 مجلدا، ضمنه كل معارف عصره في الطب والعقاقير والتشريح، فكان أهم مؤلفاته الطبية على الإطلاق، وعول عليه أطباء العرب والإفرنج مع الحاوي للرازي عدة أجيال، طبع في رومية ثم في مصر. (3)
النجاة: وهو مختصر لقسم الشفاء الفلسفي، وضعه للذي «يريد أن يتميز عن العامة، وينحاز إلى الخاصة، ويكون له بالأصول الحكمية إحاطة.» أشهر طبعاته الطبعة المصرية الصادرة سنة 1331ه، وقد زعم الدكتور جميل صليبا في البحث الإفرنسي
2
الذي وضعه على إلهيات ابن سينا أن المأسوف على علمه المطران نعمة الله أبا كرم الماروني قد نقل النجاة إلى اللاتينية، بيد أن الحقيقة تناقض ذلك؛ لأن المطران المشار إليه لم يترجم إلى اللاتينية إلا إلهيات النجاة وطبعها في رومية سنة 1926م. (4)
الإشارات والتنبيهات: صنفه في أواخر حياته، ونسب إليه أهمية عظمى؛ لأنه أورد فيه الشيء الكثير من آرائه الناضجة التي تتفق تمام الاتفاق والأفلاطونية المستحدثة، وينصح للعامة أن لا تقرأ هذا السفر؛ لأنه وضعه لذوي الثقافة العالية والعقول الراجحة، نشر مطبوعا في أوروبا 1892م؛ ونظرا لأهميته قد شرحه فريق من العلماء المسلمين، من ذلك شرح واختصار فخر الدين محمد بن عمر الرازي المطبوع في مصر 1326ه تحت اسم لباب الإشارات. (5)
المنطق الشرقي: طبع في مصر 1910م، وهو على ما يعتقد أصحاب التحقيق وضعه بمثابة توطئة للفلسفة المشرقية التي لم تصل إلينا. (6)
رسائل في الحكمة والطبيعيات: جمعت من آثار ابن سينا، وطبعت في مصر 1908م. (7)
نامعلوم صفحہ
وأخيرا ظهر في مصر 1917م كتاب يدعى «جامع البدائع»، يشتمل على كثير من الرسائل التي وضعها الشيخ، من ذلك رسالة في الحب، وأخرى في طبيعة الصلاة وإثبات وجود الله ووحدانيته وسرمديته ... إلخ.
وله غير ذلك كتاب جليل في السياسة نشره الأب شيخو في مجموعة سماها «مقالات فلسفية قديمة لبعض مشاهير فلاسفة العرب مسلمين ونصارى»، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1911م، وله غير ذلك مؤلفات وقصائد فلسفية كثيرة، حتى إنه كتب في الموضوع الواحد عدة رسائل وشروح لا تختلف بمعناها عن بعضها البعض، والمرجوح أنه كان يفعل ذلك إجابة لطلب المنشغفين بدرس الحكمة، وعلم ربك فوق كل ذي علم. (2) تقسيمه العلوم
إن الشيخ الرئيس قد خاض جميع مواضيع المعرفة البشرية المنتشرة في أيامه، وقسم العلوم إلى عليا وسفلى ووسطى؛ فالعلوم العليا هي ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولى التي موضوعها الوجود المطلق بما هو مطلق مجرد عن المادة ولواحقها؛ والسفلى تدرس المادة وتختص بها وتلازمها وتدعى الطبيعيات؛ والوسطى هي مزيج من العلوم العليا والسفلى؛ أي تتعلق بالمادة من جهة، وتتجرد عنها من جهة أخرى، وتعرف بالرياضيات.
والعلوم كلها بمعنى الفساحة تشتق من الفلسفة الأولى، وتعاون بعضها على ثلاثة وجوه؛ إما أن يكون أحد العلمين تحت الآخر فيستفيد العلم السافل مباديه من العالي؛ مثل الموسيقى من العدد، والطب من الطبيعي، وإما أن يكون العلمان متشاركين في الموضوع؛ كالطبيعي والنجومي في جرم الكل ؛ فأحدهما ينظر في جوهر الموضوع كالطبيعي، والآخر ينظر في عوارضه كالنجومي، فيكون الناظر في جوهر الموضوع يفيد الآخر المبادئ؛ مثل استفادة المنجم من الطبيعي أن الحركة الفلكية يجب أن تكون مستديرة، وإما أن يكون العلمان متشاركين في الجنس، وأحدهما ينظر في نوع بسيط كالحساب والآخر في نوع أكثر تركيبا كالهندسة؛ فإن الناظر في الأبسط يفيد الآخر مبادئ كما يفيد العدد الهندسة،
3
وفي هذا التقسيم ترتسم خطة المعلم الأول.
لم يك أرسطو يعتقد كتلاميذه المعاصرين أن الفلسفة تدرس الأشياء بعللها العالية؛ بل كان يصرح بأن الفلسفة هي نوع من الموسوعات تحتوي سائر العلوم؛ العليا والسفلى والوسطى، وعلى هذا المنوال نسج ابن سينا، ثم قسم الفلسفة إلى نظرية وعملية؛ الأولى: تشمل الحساب والطبيعيات وما وراء الطبيعة، والثانية: تنظر في الخلقيات والاقتصاد والسياسة، إلا أن أرسطو قد حول أنظاره إلى القسم الطبيعي وعالجه معالجة دقيقة، واكتشف براهين جديدة نقض بها مزاعم الفلاسفة المتقدمين. أما الرئيس أبو علي فإنه لم يتحفنا بشيء من ذلك، ولو كان قد تبحر كثيرا في هذا الفرع، وكذلك لم يتوسع في تشريح جزء الفلسفة العملي.
من هذا التقسيم نعرف أن فيلسوفنا كان يؤمن بأن الحكمة الأولى هي أسمى العلوم، ولعله قال بذلك لكثرة ما كلفه تفهمه لها من المصاعب والمشاق.
الفصل الرابع
منطق ابن سينا
نامعلوم صفحہ
كان فلاسفة العرب يجلون أرسطو ويلقبونه بالمعلم الأول والحكيم المطلق، حتى إن أكثرهم قد سلكوا طريقته في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين،
1
وكانوا يعتقدون، على حق، أن أرسطو هو واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى الفعل، فلا لوم إذن ولا عذل على ابن سينا إذا اعتمد مذهب الفيلسوف وطبع على غراره في العلوم المنطقية. (1) ما هو المنطق؟
يعتبر ابن سينا المنطق بأنه الآلة العاصمة للذهن عن الخطأ فيما نتصوره ونصدق به، والموصلة إلى الاعتقاد الحق بإعطاء أسبابه ونهج سبله. ونسبة المنطق إلى المعاني والصور العقلية نسبة النحو إلى الكلام والعروض إلى الشعر، فهو من هذا القبيل كالميزان يرجع إليه عند اشتباه الصواب بالخطأ والحق بالباطل. (2) غرض المنطق
المعرفة هي إما تصور وإما تصديق؛ فالتصور هو أن ندرك أمرا ساذجا من غير أن نحكم عليه بنفي أو إثبات؛ مثل تصورنا ماهية الحيوان، والتصديق هو أن ندرك أمرا ثم نتمكن من الحكم عليه بالنفي أو الإثبات؛ مثل قولنا بأن الكل أكبر من الجزء. وكل من التصور والتصديق يقسم إلى أولي ومكتسب؛ فالأولي نحصل عليه بدون أدنى تعب، ولا نخطئ بالحكم عليه؛ كشروق الشمس، وطلوع القمر. أما التصور المكتسب فنستحصله بالحد وما يجري مجراه، والتصديق المكتسب إنما يستحصل بالقياس وما يشابهه؛ إذن فالحد والقياس هما آلتان بهما تحصل المعلومات التي لم تكن حاصلة فتصير معلومة بالرؤية، إلا أن كل واحد منهما، منه ما هو حقيقي ومنه ما هو دون الحقيقي، ولكنه نافع منفعة بحسبه، ومنه ما هو باطل مشبه بالحقيقي. والفطرة الإنسانية غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف، إلا أن تكون مؤيدة من عند الله، فلا بد إذن للناظر من آلة قانونية تعصمه مراعاتها عن أن يضل في تفكيره وانتقاداته، وذلك هو الغرض من علم المنطق، وبعبارة أوضح: إن علم المنطق يجعل الإنسان مفكرا حقيقيا لا يتلكأ، ويخوله التمييز بين الغث والسمين في آراء البشر وأقوالهم ونظرياتهم، فهو من هذا القبيل أساس العلوم ودليل المثقفين الهادي. (3) فائدة المنطق
عرفنا أن التصور والتصديق المكتسبين يستحصلان بالحد والقياس، وكل منهما مؤلف من معان معقولة بتأليف محدود، فيكون له منها مادة ألفت وصورة بها التأليف. وقد يعرض الفساد من إحدى الجهتين، وقد يعرض من جهتيهما معا؛ فالمنطق هو الذي يدلنا على المواد والصور التي هي أصل للحد الصحيح، وعلى القياس السديد الذي يوقع يقينا، وعلى القياس الذي يوقع شبيها باليقين أو ظنا غالبا أو مغالطة وجهلا، وهذه هي فائدة المنطق.
قال ابن سينا: «إن المنطق هو الصناعة النظرية التي تعرف أنه من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدا، والقياس الصحيح الذي يسمى بالحقيقة برهانا ، وتعرف أنه عن أي الصور والمواد يكون الحد الإقناعي الذي يسمى رسما، وعن أي الصور والمواد يكون القياس الإقناعي الذي يسمى ما قوي منه وأوقع تصديقا شبيها باليقين جدليا، وما ضعف منه وأوقع ظنا غالبا خطابيا ... إلخ.»
2
وكما أن الذي يجهل قواعد النحو والعروض لا يمكن أن يكون كاتبا، هكذا من يجهل علم المنطق لا يستطيع أن يكون مفكرا بصيرا. إلا أن الشيخ الرئيس يبعد أكثر من ذلك في تدليله، فيقول: «لكن الفطرة السليمة والذوق السليم ربما أغنيا عن تعلم النحو والعروض، وليس شيء من الفطرة الإنسانية بمستغن في استعمال الروية عن التقدم بأعداد هذه الآلة إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله تعالى.»
3
نامعلوم صفحہ
ومما قلناه تظهر فائدة المنطق.
وصفوة القول
إن ابن سينا قد اتبع في منطقه كتب أرسطو الثمانية التي علق عليها بورفير وشرحها بإسهاب حتى صار بواسطتها (هذه الشروح) مشهورا بين العلماء الشرقيين في القرون الوسطى. وما قاله الشيخ الرئيس عن البرهان هو بسيط ومنظم تنظيما لا بأس به؛ مع أنه لم ينوه بتلك المشاكل والمسائل الدقيقة التي استعصى أمرها على فلاسفة المغرب فيما بعد. أما عن إقامة الآراء وترجيحها فإنه تكلم بصيغة عملية فريدة متطرقا من ذلك إلى عناصر العقل الأولى؛ الأمر الذي يذكرنا ب «ليبنز
Leibniz » وأقواله، ثم اهتم بنوع خاص بتقسيم العلوم، وله في المقولات العشر نظرات شخصية.
4
الفصل الخامس
طبيعيات ابن سينا
غني عن البيان أن العلوم الطبيعية لم تنهض هذه النهضة المباركة إلا في القرن التاسع عشر. وهذا لا يعني أن كل ما كتب في هذا الموضوع قبل التاريخ الآنف كان لغوا ومغالطة، بل إن الحقائق الراهنة الواضحة كانت جد قليلة بالنظر إلى ما كان يكتنفها من الخرافات والسفسطات، وطبيعيات ابن سينا لم تشذ عن هذه القاعدة؛ لأن معظم ما فيها خطأ ومحاولات فاشلة؛ لذا إذا كنا نورد ملخصها في هذا الفصل ؛ فلكي نطلع على تطور الفكر الإنساني وبطء نموه. (1) موضوع الطبيعيات
يعتقد الرئيس أن العلم الطبيعي هو صناعة نظرية، وكل صناعة نظرية لها موضوع من الموجودات أو الوهميات،
1
نامعلوم صفحہ
إذن للعلم الطبيعي موضوع ينظر فيه وفي لواحقه، وما موضوعه إلا الأجسام الموجودة بما هي واقعة في التغير، وبما هي موصوفة بانحناء الحركات والسكونات.
2
من هذا يظهر أن الطبيعي يدرس الموجود الحقيقي، ولكن ليس بما هو موجود، ولا بما هو جسم، ولا بما هو جوهر، ولا بما هو مركب من مادة وصورة، ولكن بما هو قابل للحركة والسكون. وهذا التعليم لا يزال أتباع الفلسفة المدرسية يدافعون عنه ويؤيدونه.
يزيد أرسطو الإسلام على ما تقدم: أن العلوم الجزئية لا يلتزم أصحابها بإثبات مبادئها، وصحة المقدمات التي بها يبرهنون ذلك العلم؛ بل بيان مبادئ العلوم الجزئية يتعلق بصاحب العلم الكلي الذي موضوعه الموجود المطلق، وبما أن الطبيعيات هي من العلوم الجزئية؛ فالبرهنة على صحة مبادئها لا تختص بالعالم الطبيعي؛ بل بعلماء ما وراء الطبيعة، وبعبارة أوضح: إن العالم الطبيعي يمكنه أن يتخذ المبادئ المقررة في الإلهيات، ويحارب بها خصومه، ويقارع أضداده، ويثبت القضايا المعترض عليها. ومن هذا الكلام يتبين القارئ الفرق الشاسع القائم بين الطبيعيين الأقدمين والطبيعيين المحدثين؛ لأن هؤلاء لا يسلمون إلا بالاختبار والواقع، ولا يلجئون إلى علم آخر يثبتون به ما يريدون تقريره. (2) المادة والصورة
إن الكون بأجمعه هو في تغير مستمر وتحويل مستديم.
قف تجاه سنديانة يابسة كطبع الدهر تلتهمها النار فلا يمضي عليها إلا القليل حتى تصير رمادا، فهل تلاشت هاته السنديانة باحتراقها، واضمحل كل ما فيها؟
إن الأجسام الطبيعية جمعاء مركبة من مادة هي محل، ومن صورة هي حالة فيه، ونسبة المادة إلى الصورة نسبة النحاس إلى التمثال،
3
فكما أن الفنان لا يمكنه أن يصنع تمثالا نحاسيا ما لم يكن عنده مادة نحاسية، هكذا لا يمكن أن تكون مادة بدون صورة. أما الصورة فتقوم بمعزل عن المادة؛ لأنها أكمل وأرقى، وبهذا القيام المكمل قد خالف ابن سينا المعلم الأول؛ وذلك لكي يستطيع إثبات خلود النفس التي هي صورة للجسم، إن كل ما نعرفه نطلع عليه بواسطة الفعل أو الصورة، فيتبع ذلك أن المادة الأولى ليست معروفة بذاتها؛ لأنها لا تتضمن فعلا بل استعدادا لاقتبال الصورة؛ إذن كيف يمكننا أن نبرهن على هذه المادة التي لا نستطيع إلى تعريفها سبيلا؛ لأنها ليست موجودة في نوع أو في جنس أو في تمييز؟
نحن نعرف - بدء بدء - بحواسنا الخارجية أنه يوجد أجسام تملك صورا حسية، وعندما تكون في الفعل تتضمن أقطارا معينة، بيد أن هذه الأجسام ليست هي كذلك؛ لأنها تملك بالفعل أقطارا مثلثة؛ بل لأنها قابلة لأن تقتبل تلك الأقطار أو ترفضها؛ لأن الأقطار لا تركب الأجسام بما أنها أجسام؛ بل تنسب إلى الأجسام نسبة العوارض إلى الجوهر. إن السطح مثلا لا يدخل في تحديد الجسم بما أنه جسم، ولكنه يدخل في تحديد الجسم بما أنه متناه؛ إذن هو عارض جسمي متغير. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نتصور الجسم بما هو جسم دون أن نفتكر ضرورة بأنه متناه، وبما أن كل جسم يملك صورة هي موضوع للعلم الطبيعي، كذلك يملك امتدادات وأقطارا محدودة تدخل مقولة الكليات، وتكون موضوعا لعلم آخر، إن هذا الكتاب الموجود بين يدي الآن له ثلاثة أقطار تقاس وتعد بالأرقام، وله فوق ذلك صورة محسوسة بها يقوم كماله، وتدرس وتوصف في علم آخر؛ إذن إن أقطار الأجسام لا تبقى دائما غير متغيرة،
نامعلوم صفحہ
4
وهذا القول يطلق على الصورة أيضا؛ لأنها إما أن تكون نفس الاتصال، أو تكون طبيعة يلزمها الاتصال حتى لا توجد هي إلا والاتصال لازم لها؛ فإن كانت نفس الاتصال فقد يكون الجسم متصلا، ثم ينفصل فيكون لا محالة شيء هو بالقوة كليهما، فليس ذات الاتصال بما هو اتصال قابل للانفصال؛ لأن قابل الاتصال لا يعدم عند الانفصال، والاتصال يعدم عند الانفصال؛ فإذن شيء غير الاتصال هو قابل للانفصال، وهو بعينه قابل الاتصال، فظاهر أن ها هنا جوهرا غير الصورة الجسمية، هو الذي يعرض له الانفصال والاتصال معا ، وهو مقارن للصورة الجسمية، ولا يمكن أن يوجد مفارقا وهو ما نسميه مادة،
5
فيتضح من ذلك: (1)
أن المادة لا يمكنها أن توجد بمعزل عن الصورة، ولكن الصورة الكاملة كالنفس البشرية مثلا يمكنها أن توجد بدون المادة، لا ... بل إن المادة هي سجن لها:
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع (2)
فساد شيء يكون تكوينا لشيء آخر، وتكوين شيء يكون فسادا لشيء آخر، فالموجودات بأجمعها تفسد وتتكون بموجب هذه السنة، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وإذا سلمنا بهذه النظرية التي لا يزال يفلحها أتباع الفلسفة المدرسية، فيلزمنا أن نسلم بتقسيم الموجودات على هذه الطريقة: أول الموجودات في استحقاق الوجود هو الجوهر المفارق غير الجسم الذي يعطي صورة الجسم وصورة كل موجود، ثم الصورة، ثم الجسم، ثم الهيولى، وهي وإن كانت سببا للجسم؛ فإنها ليست بسبب يعطي الوجود بأنه محل لنيل الوجود، وللجسم وجودها، وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها ... فإن أولى الأشياء بالوجود هو الجوهر ثم الأعراض، وفي الأعراض ترتيب في الوجود أيضا.
6 (3) مجمل باقي الطبيعيات
نامعلوم صفحہ