ابن سینا فلسفی
ابن سينا الفيلسوف: بعد تسعمئة سنة على وفاته
اصناف
1
أما اللذة الخسيسة فهي أفعال البدن الواطئة السافلة ودوما يحن إلى ممارستها، واللذة السامية هي التي تلائم النفس وتسوق إلى إدراك الكمال؛ لأن كل من يحصل على كمال ما يجد في الحصول عليه لذة، إلا أن الكمال يختلف باختلاف مراتب القوى النفسانية؛ فالكمال الأتم والأفضل والأكثر والأدوم ينشئ في النفس لذة أبلغ وأوفى وهو الأصل.
قد يكون الكمال في الخروج من القوة إلى الفعل، ولكن إذا لم يشعر الفاعل باللذاذة، ولم يتصور كيفيتها، ولم يشتق إليها، بطل الفعل واضمحلت اللذة، فتكون اللذة إذن قائمة في الشعور بالكمال. إن الأكمه يعرف أن تأمل الصور الجميلة لذيذ، والأصم يعلم أن تغريد الأطيار والألحان المنتظمة لذيذة، والجاهل يفقه أن العلم يولد لذة في نفس العالم، إلا أن هؤلاء أجمعين هم بعيدون عن هذه اللذة؛ لأنهم لا يقدرون أن يستشعروا بكمالها.
وكما أنه يوجد لذتان: عقلية وحسية، هكذا يوجد سعادتان: وقتية ودائمة؛ فالسعادة الوقتية تقوم في اللذة الخسيسة، والسعادة الدائمة تقوم في اللذة السامية.
في السعادة الخسيسة يشارك الإنسان الحمير والبهائم؛ لأن لهؤلاء أيضا «حالة طيبة ولذيذة»، وفي السعادة السامية يشارك الجواهر المفارقة، ويرتفع فوق وجوده.
أجل إن الجسد يعيقنا عن بلوغ الكمال، والمادة تضع في وجهنا العراقيل؛ لئلا ننتهي إلى السعادة الدائمة، ولكنا إذا خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتها من أعناقنا وطالعنا شيئا من تلك اللذة السامية؛ فحينئذ ربما تخيلنا منها خيالا طفيفا خفيفا (نجاة ، 482). فتكون اللذات الروحية في رأي الشيخ الرئيس أفضل من اللذات الجسدية؛ ولهذا قال: «أنت تعلم أنك إذا تأملت عويصا يهمك، وعرضت عليك شهوة، وخيرت بين الطرفين استخففت بالشهوة إن كنت كريم النفس، والأنفس العامية أيضا كذا؛ فإنها تترك الشهوات المعترضة، وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تعيير أو شوق لغلبة، وهذه كلها أحوال عقلية، فبعضها يؤثر في المؤثرات الطبيعية، ويصبر لها على المكروهات الطبيعية، فيعلم من ذلك أن الغايات العقلية أكرم على الأنفس من محقرات الأشياء، فكيف في الأمور النبيهة العالية؟ إلا أن الأنفس الخسيسة تحس بما يلحق المحقرات من الخير والشر، ولا تحس بما يلحق الأمور النبيهة» (نفس المصدر والصفحة).
فيظهر من ذلك أن ابن سينا يقر بأن النفس البشرية يمكنها أن تحصل على السعادة السامية في هذه الحياة الدنيا، وذلك بالتحلي بالفضائل، والسعي وراء الكمالات، والانشغاف بالحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحقيقي.
إن السعيد الذي لا يفتقر في سعادته إلى أحد هو واجب الوجود، والذي يتلوه في رابعات السعادة العقول المفارقة، التي كلما اقتربت منه تعالى، وبالغت في تأمله ازدادت لذة وكمالا؛ كالأجسام الطبيعية التي كلما دنت من النار تزداد حرارة.
بعد العقول المفارقة يأتي عشاق الخير المطلق، وهم الذين قد وصلوا إلى أعلى درجة يمكن أن يبلغها الإنسان من الكمال، ولا يجب أن يعترض أن شوقهم إلى الاتحاد بالخير الأعظم يولد في نفوسهم العذابات؛ لأن هذه العذابات تحرك النفوس، وبسبب ذلك تكون لذيذة، ويلقب ابن سينا هؤلاء البشر السعداء بالعارفين، ولقد وصف العارف في كتابه الإشارات والتنبيهات وصفا شيقا لا نرى بدا من نقله هنا، قال:
العارف هش بش بسام يبجل الصغير من تواضعه كما يبجل الكبير، وينبسط من الخامل كما ينبسط من النبيه، وكيف لا يهش وهو فرحان بالحق وبكل شيء يرى فيه الحق، ولا فرق عنده بين الكبير والصغير، ولا يعرف الطمع سبيلا إلى قلبه. وهذا الخلق هو خلق الرضا والقناعة فلا يخاف العارف من هجوم شيء، ولا يحزن على فوات شيء ؛ بل يفرح ويبتهج بما أدركه كما يبتهج العاشق بالوصول إلى حبيبه.
نامعلوم صفحہ