فضحك القوم سلفا على فريد ما عدا إبراهيم الذي كان السم يغلي في قلبه، ولكنه لم يجسر أن يعترض، ولما رأى فريد أن الحاضرين سري عنهم تبسم، وقال: «إن كلمة سمار جمع سمير، والسمير هو الذي يسهر الليل، فيكون معنى الشاعر أن الساهرين ناموا إلا هو؛ فقد حرمه النوم ألم يعذبه.»
فضحك ذلك المتقدم في السن ضحكة كبيرة وقال: «إي والله، الآن أخذنا بثأرنا منك.» وضحك لضحكته الحاضرون إلا إبراهيم الذي نهض في الحال يريد الذهاب مع أخيه، بداعي أن السهرة قد طالت.
تلك السهرة لم ينم فريد مع أخيه، ومنذ تلك السهرة لم يعد يضم الأخوين اجتماع، وعندما يسأل إبراهيم عن سلوك أخيه يهز رأسه ويتنهد قائلا: «ما أحد اشترى البلوى لنفسه مثلي؛ فقد كنت بلا هم، فجئت بأخي ليزيد سروري، فكان أنه حرمني الراحة، ولكن أميركا واسعة، فالله يسعده ويبعده.»
عبد الفطرة
حنا مرقص هاجر إلى أميركا وهو دون العشرين من عمره، وقد تعلم الإنكليزية المكسرة عن طريق البيع بالكشة فالجزدان فعرض بضائعه في الهوتيلات.
كان في بادئ أمره خجولا، يرى كل شيء أكبر منه وكل إنسان أعلم منه، ولكنه بعد أن صار يستطيع الرواح والمجيء في شوارع المدينة، ويمكنه التنقل من بلد إلى آخر، أصبح ذا أنف واصل ذرى السموات، فصار من أكبر الأغنياء بمائة ريال وفرها في بنك الحكومة، وصار من أعلام الكرة الأرضية بتعبيره باللغة الإنكليزية المخلوطة كلمات عربية عصيت على إنكليزيته، ولكنه يخلطها ضاحكا لتجيء من فيه كأنها مقولة منه للفكاهة، وصار من أقدر الناس على الدخول في معترك البشر؛ لأنه يستطيع أن يضع رجلا في نيويورك وأخرى بسان فرانسيسكو.
إذا جلس في المطعم السوري تبقى فرتيكته نظيفة؛ إذ يستعيض عنها بأصابع يديه، ويكبر اللقمة التي غالبا يدحشها بإصبعه في فيه؛ لتدخل غصبا عن اتساع فمه.
أما إذا جلس في مطعم أميركاني فلا يأكل السمك إلا بالفرتيكة، وكثيرا ما يترك الدجاجة المحمرة في صحنها مهرمشة منه هرمشة لتعذر استخراج لحمها بالفرتيكة، فتبقى عينه فيها، ومعدته تطلع وتنزل شوقا إلى ابتلاعها، ولا يجسر أن يفتك بها؛ لأنه عالم جيدا أنه في مطعم أميركي.
كان يحلق كل صباح، ولكنه كان يلعن هذه البلاد التي تضطره إلى ذلك، متمنيا الرجوع إلى قريته التي لا يضطر فيها إلى تكنيس شعر وجهه إلا مرة كل أسبوعين.
كان يداري لباسه وهندامه، ويشتري لنفسه وردة يوم الأحد، وكلما جلس على مقعد أو كرسي يشقل بنطلونه محافظة على كيته عند الركبتين، ولكنه أبدا يفضل القمباز لعدم الثقلة بلبسه، وإنما لم يجسر على أن يقول ذلك أمام الغير.
نامعلوم صفحہ