مقدمة
الحاكم بأمره
في بيت الميت
المتشائم
سمعان النادر
حبال الغسيل
ما فيها شي
المال يتكلم
حي دفين
زواننا لا قمحهم
نامعلوم صفحہ
ذو اللحية الطويلة
ابن العصر
خنفشار في أميركا
لنا علم، وللجهال مال
عارف الجميع
أقصر الطرق
المتشرعان
تعاسة البيك
ابن غير عصره
من أول الطريق
نامعلوم صفحہ
تمثال الحرية
من الدب إلى الجب
كما صرنا تصيرونا
الثقة في البشر
مدنية الأميركان
أحاديث الغرام
لا فرق بين الاثنتين
الله يسعده ويبعده
عبد الفطرة
الأمل والألم
نامعلوم صفحہ
مدرسة الغربة
في الدرجة الثانية
خبزك بعرق جبينك
مقدمة
الحاكم بأمره
في بيت الميت
المتشائم
سمعان النادر
حبال الغسيل
ما فيها شي
نامعلوم صفحہ
المال يتكلم
حي دفين
زواننا لا قمحهم
ذو اللحية الطويلة
ابن العصر
خنفشار في أميركا
لنا علم، وللجهال مال
عارف الجميع
أقصر الطرق
المتشرعان
نامعلوم صفحہ
تعاسة البيك
ابن غير عصره
من أول الطريق
تمثال الحرية
من الدب إلى الجب
كما صرنا تصيرونا
الثقة في البشر
مدنية الأميركان
أحاديث الغرام
لا فرق بين الاثنتين
نامعلوم صفحہ
الله يسعده ويبعده
عبد الفطرة
الأمل والألم
مدرسة الغربة
في الدرجة الثانية
خبزك بعرق جبينك
حكايات المهجر
حكايات المهجر
تأليف
عبد المسيح حداد
نامعلوم صفحہ
مقدمة
منذ دخلت أميركا منخرطا بين عالمها السوري، ونفسي ترى أشكالا وأوضاعا في حالتنا الاجتماعية، وصورا شتى لحياتنا السورية الأميركية، وكنت كثيرا ما أسائل نفسي: متى يا ترى يتحرك قلم أحد كتابنا، فيدون هذه المشاهد لحمل الناس على درس أسرارها؟
أما المشاهد التي أعنيها فهي مرئيات لأسرار ومظاهر لما خفي في النفوس، وقد كنت أراها وأقرؤها وأسمعها وأحس بها، فأجد سعة ميدان لمن شاء من الكتاب تصوير الحياة السورية بأسلوب القصص القصيرة.
ولقد ظل هذا الفكر يراودني حتى كتبت أول قصة «عبد الفطرة» لخاطرة خطرت ببالي، أملأ بها بعض فسحة من صفحات السائح، ولم أدر إلا وأنا مدفوع من نفسي في ذلك الميدان، الذي رغبت لغيري من الكتاب في ولوجه، فما ظهرت تلك القصة حتى رأيتني محاطا بأصدقاء يسائلونني كيف خطر ببالي تصنيف قصة هي صورة طبق الأصل لمشهد من مشاهد حياتنا في ديار المهجر، ثم شعرت بيد لطيفة ممسكة بيدي، تلك كانت يد عميد الرابطة القلمية جبران خليل جبران، وسمعته يقول لي: «أريد أن أقرأ لك قصة من هذا النوع في كل عدد من أعداد جريدتك، ولا عذر لك عن القيام بذلك العمل، فأمامك ميدان واسع ولجته، فتعمق في حناياه، وغص إلى قاعه، وجئنا بما تغوص عليه.»
ثم جاءني بعد حين يحاول إقناعي بأن أجمع هذه القصص بكتاب على حدة، فلم أر بدا من ذلك؛ لأن ما سمعته من هذا الصديق الحبيب وغيره من الأصدقاء الغير على آداب اللغة، التائقين إلى نزع ما تقادم عهده من ألبستها وجلببتها بألبسة تناسب هذا العصر، قد فتح في نفسي آذانا وعيونا، فساقني الميل الطبيعي إلى القيام بما تمنيت أن يقوم به غيري؛ ولهذا أطلقت للمخيلة العنان في درس حياتنا السورية في المهجر تترصد مشهدا من مشاهدها، فأصوره بقالب حكاية صغيرة حتى جمعت هذا الكتاب، ولعله مقدمة لغيره إن شاء الله.
أقول مقدمة لغيره؛ لأني رأيتني قد ولعت بهذا الدرس، وأدركت أني سائر مع الجدول الصغير، ناشدا مياه الخضم؛ فإن كنت بهذه الأقاصيص لم أبلغ الغاية، ولم أرسم ما يجب رسمه من مشاهد النفس السورية العميقة، فلسوف يقذف بي الجدول الذي أنا فيه إلى العمق حيث أستطيع التعمق في درس الحياة السورية من وجوه عديدة منذ ابتدأت المهاجرة إلى ما صرنا إليه.
نحن بحاجة إلى مرآة نرى فيها أنفسنا، ونشاهد بعيوننا مظهرنا، فنصلح فيه مواطن الخطل. وإذا كان المرء يلجأ إلى المرآة لإصلاح شعره وفرقه وربط عقدة رقبته، فبالمرآة النفسية يصلح ما يلزم من مظاهره النفسية. ولعمري، إن هذه المرآة المعنوية ليست إلا الرواية المصورة لعادة من عاداتنا وتقليد من تقاليدنا، فيها ترى عيننا النفسية حسنات حياتنا الاجتماعية وسيئاتها.
ولهذا، فجريا وراء هذه المنشودة - مرآة النفس - أقدمت على كتابة هذه الأقاصيص، ودعوتها «حكايات المهجر» لأنها تختص بالمهجر؛ عساني أفيد بها، وإلا فحسبي النية وعليهم السلام.
عبد المسيح حداد
نيويورك، في 1 نيسان 1921
نامعلوم صفحہ
الحاكم بأمره
قيل لي إن عائلات سورية مؤلفة من آباء وبنات وصبيان تقطن في شارع واشنطن، وأغلبها في أعالي البنايات التي يشغل طباقها السفلى محال تجارية ومصانع آلية وإدارات مختلفة، فلم أعجب من سكناها شارعا تجاريا؛ لعلمي أن الاقتصاد الضروري يحدو بالعائلات إلى مثل هذا، ولكني تمنيت لو أني أدخل إلى عمق حياة هذه العائلات فأقرأ في صفحاتها درسا تاريخيا وحقيقة اجتماعية.
ذات يوم قرب المساء، إذ كنت سائرا في الشارع المذكور إذا بصديقي نجيب ملاقيا لي وجها لوجه، فلما التقينا أخذ بيدي جذبا، وقال: «تعال معي يا صاح لنزور عائلة عمي في منزله؛ فإنه يقطن في الطابق الرابع من هذه البناية.» (قال هذا، وقد أشار إلى بناية أمامنا في شارع واشنطن.)
فأجبته: «أها هنا يسكن عمك؟! والله ما خطر ببالي أن عائلة تسكن في هذه البناية القديمة المكتظة بالمحال التجارية!»
فقال: «نعم، هنا يسكن عمي دعيبس، فتعال معي لأقضي هذه الزيارة، وأتخلص منها في حين يكون عمي وحده في البيت، ثم إنه إذا كنت معي لا يستطيع عمي أن يجبرني على البقاء طويلا كما يفعل كلما ذهبت لزيارتهم.»
فأجبته: «إذا كانت المسألة لغاية لك فلا بأس أن أكون حصانا لغايتك.» (قلت: هذا مجاملة له، وأما نفسي فقد حدثتني أن أذهب لا لغايته بل لغايتي؛ أي لأرى بعيني كيف تعيش عائلة عمه في هذا المحيط، ومن وما هو عمه؟)
صعدنا السلالم، وكانت درجاتها الخشبية تنحني تحت وطآت أقدامنا، وتئن أنات عميقة، وتهتز البناية فتسمعنا مفاصلها نغمة نجارية، ولما وصلنا إلى العم دعيبس دق نجيب الباب، فسمعنا الجواب يأمرنا بالدخول، فدخلنا وسلمنا وتعارفنا وجلسنا.
حضرة العم دعيبس يقارب طوله العرض أو عرضه الطول، وقد كان جالسا على الكرسي فلم يبن شيء من ذلك الكرسي المسكين. هيئته بشرية سورية بكل معاني الكلمة إلا أن شاربيه نسيج الطبيعة المتعصبة، التي لا تسمح لشيء عصري أن يعبث بصنعها.
وكان ابن الأخ يكلم عمه، والعم يدخن بالنارجيلة، ويخرج الكلام مقمطا بالدخان، وهو عاض بصفي أسنانه على خشبة النرييج، أما أنا فقد كنت غارقا ببحر أفكاري أسائل نفسي: أين يا ترى شاهدت هذا الرجل عم صديقي نجيب؟ وقد ظللت وقتا أسوق ذاكرتي وأجلدها، لعلها تفطن للمحل الذي رأيت فيه مضيفنا العم، ولكن الذاكرة الملعونة خانتني.
وفيما نحن كذلك إذا بامرأة العم قد أقبلت، وهي امرأة كهلة، مربوعة القامة، حادة النظر، سمراء اللون، قوية العضل، دخلت أولا عابسة، ولكنها ما رمت إلى الأرض بجزدانها الثقيل حتى قلبت تلك العبوسة بابتسامة سورية جميلة، فرحبت أولا بابن سلفها، ثم بالغت بالتأهيل بي، مكثرة من عبارات المجاملة المعتاد عليها. وما أنهت تسليمها علينا حتى رأيت بوادر جسم العم دعيبس قد تحركت قليلا نحوي، وقال: «يا حضرة المستر ... هذه امرأتي وأم الأولاد، وهي من بطلات أميركا، فلا يخفى عنك أن أميركا لا تليق إلا للنساء، وأما الرجال مثلنا، فهم أصفار للشمال.» (قال هذا ضاحكا كأنه يقول فكاهة، ولم يدر أني فهمت أنه قال الصحيح.)
نامعلوم صفحہ
فأجبته مجاملا: «إن كلامك يا حضرة العم في محله؛ فإنك أعرف مني على نحو ما يقال: أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة.»
ولم يكن حضرة العم ليتعب من التدخين؛ فقد ظل طول تلك المدة عاضا بأسنانه على خشبة النرييج، يقول عبارة ويردفها بسحبة طويلة من النارجيلة، فيخرج الدخان قسمين: واحدا من «باب المندب»، والآخر من «جبل فيزوف».
ثم صاح العم بامرأة العم: «يا كليمة، اهتمي بالعشاء للشباب.» وإذ سمعت هذا الأمر نهضت مذعورا، وبدأت أعتذر للعم ولامرأة العم ألا يتعبا سرهما؛ فإني مشغول ولولا أن نجيبا قال لي إن الزيارة لا تأخذ أكثر من ربع ساعة لما استطعت أن أجيء معه. ثم أن نجيبا بدوره أيضا بدأ يعتذر عن نفسه، متكلا على ضرورة ذهابه معي بدعوى أني مشغول، وأنه مضطر ألا يفارقني.
عندئذ صاح بنا العم صيحة قوية، وقال: «شغل ما شغل أنا لا أفهم هذا. قلت إنكم تتعشون عندنا وانتهت المسألة. الآن، كليمة تحضر لنا العشاء، وبعد قليل تحضر البنت فترتب لنا سفرة المشروب، وبعد ذلك نقضي السهرة وتذهبون، ولو أننا في البلاد (سوريا) لكنا جعلناكم تنامون عندنا، ولكن هذه البلاد ضيقة.»
قلت آنفا إني بهذه الزيارة لم أكن حصانا لغاية صديقي كما أعربت له وكما ظن هو، بل كنت بالحقيقة حصانا لاختباري؛ ولهذا التفت إلى صديقي، وقلت له إنه إذا كان يرغب في البقاء فأنا أؤجل شغلي من أجله، فاضطر المسكين أن يقبل بالبقاء حسب أمر عمه، ولا أعلم كم شتيمة صاغها لي في قلبه.
عدنا إلى الكراسي فجلسنا، ولم تمض خمس دقائق حتى وفدت ظبية البيت ففتحت الباب، وبعدما مدت رأسها وشاهدتنا سحبته ورجعت مسكرة الباب بعجلة كأنها خجلت من الموجودين أو بالحرى مني أنا؛ لأني كنت الغريب بين الجماعة. ويظهر أنها دخلت إلى المطبخ من الباب الثاني؛ لأن أباها صاح بها أن تأتي إليه من جهة المطبخ الذي له مدخل إلى البهو، وقد قال لها مشجعا ألا تخجل؛ فإنه ليس عندهم غريب، وما مضت لحظة حتى جاءت الأم من المطبخ ساحبة بيدها ابنتها التي اصطبغ خداها بالاحمرار، ولما صارت أمامنا قالت الأم: «هذه بنتنا مريم، خجولة تستحيي من خيالها، تعالي يا بنتي، ولا تستحيي فهذا ابن عمك مثل أخيك، وهذا صاحبه مثل أخيه.»
وكانت كلمات الأم قد أطارت حمرة الخجل من رأس مريم؛ ولهذا لما رأت نفسها أمام جمهورنا تشجعت، وصارت كبنات أميركا، فمدت ساعدها وصافحت كلا منا محيية، ولما وصلت إلى أبيها قبلت يده، أما هو فلم يقبلها، ولكنه استرضى عليها، وأكثر دعاءه لها. (كل هذا كان منه وخشبة النرييج لم تبرح معضوضة بين أسنانه كأنها خلقت كذلك، وكأنه هو ولد وبفيه نرييج.)
وقد لحظت أن مريم قد سحبت قبيل أن تقفل راجعة من قرب أبيها ضمة من الريالات، وبعياقة كلية أدخلتها إلى جيبه ثم تركتها مسددة خطواتها نحو المطبخ لتساعد أمها.
عندئذ سمعت العم دعيبس يقول لنا بابتسام: «هذه مريم الغالية، وهي بنت ولا كالبنات، الله يرضى عليها، مطيعة مجتهدة، تسوى عشرين صبيا.»
ولم يتم كلام العم عن ابنته حتى انفتح الباب بخشونة ، ودخل غلام بعجلة، فألقى عنه في منتصف الغرفة علبة معلقة بكتفه بقشاط، وتركها على الأرض غير مكترث بها، وتقدم في الحال نحو أبيه صائحا بملء صوته: «يا بابا، اشتريت الربطات من محل إلياس مرقص؛ لأن كامل سليمان طلب مني ريالا زيادة، وقد بعت اليوم بستة عشر ريالا، صرفت منها نصف ريال أجرة طريق وثمن أكل.»
نامعلوم صفحہ
هنا ترك دعيبس النرييج من فيه لأول مرة منذ تشرفت بزيارته، فجذب ابنه إلى صدره وقبله قبلات سمعنا لها رنات موسيقية، ثم تناول من ابنه الدراهم فعدها ووضعها في جيبه، وأخرج من الجيب الثاني ربع ريال فأعطاه إياه حلوانا له، وأتبعه بربع ريال ثان، وأسر بأذنه أن ينزل إلى السوق ويشتري سيكارات في الحال. «إن العم ظن أنه أسر كلامه لابنه، ولكن صوته كان مسموعا لأبعد من عشرين ذراعا منه.»
وما تناول الغلام المال حتى طفق يعدو من أول خطوة خطاها جارفا درفة الباب بطريقه، وقد اهتزت جوانب المنزل لركضه. وعند ذلك ابتسم العم على خشبة النرييج، وقال لنا: «هذا ولد زهرة من الزهرات، وسيكون نعم الخلف، ذكي شاطر، ولا ما يعيبه سوى أنه طائش، لكنها طياشة كيسة، إلا أنها في ذمة أمه فإنها تدلله وتدلعه، ولا يخفى عنكم أن للسوريين عادة ذميمة، وهي تدليل الأبناء والقسوة على البنات في حين أنهن بأميركا أحسن منهم، وكل بنت في الحقيقة تسوى عشرين صبيا.»
قضينا السهرة كلها من السكرة حتى نهضنا للخروج، والعم دعيبس لم يدفأ لسانه في حجرة فمه؛ فطورا كان يأمر الأم بالمازة، وتارة يطلب الصحون من البنت، وأخرى يقول للغلام أن يرمي رماد السيكارات خارجا، ولما جلسنا للعشاء الذي حضر إلى أمامنا لم تجلس معنا الأم ولا البنت حتى ولا الغلام أيضا، بالرغم من أني ورفيقي أكثرنا الإلحاح على العم بأن يسمح لأهل البيت بتناول الطعام، ولكنه كان يعتذر عن قبوله بذلك، مدعيا أن الوقت لا يسمح، فعلى من ذكرنا واجبات في المطبخ بينا نكون نحن تناولنا الطعام، وفي حال عشائنا كانت أوامر العم تباعا لزوجته وابنته وابنه: «هاتوا البطاطا، خذوا صحون الشوربا، املئي يا بنت الكاسات ماء، صبي يا امرأة في صحن المستر. يا ولد، قدم الفجل لناحية ابن عمك.» إلى ما هنالك من الأوامر.
ولما حان وقت انصرافنا نهضنا أنا ونجيب، فودعنا العم، وطلبنا أن نودع المدام وابنتها، فنادى بهما حضرة العم، فجاءتا من المطبخ مظهرتين ذهولهما من سرعة ذهابنا، فأجبنا اللازم، وصافحناهما مودعين، وخرجنا بسلام.
ولما وصلنا إلى الشارع ضحك نجيب، وقد كنت أنتظر منه سخطا وغضبا لتساهلي بالبقاء عند بيت عمه، ثم قال لي: «أرأيت كيف يعيش عمي؟»
فأجبته: «نعم رأيت، ولكني لا أزال أبحث بفكري أين شاهدت عمك قبلا.»
فقال مقهقها: «أنت لم تره، ولكنك رأيت شبيها له في مرسيليا.»
فضحكت معه لهذه الفكاهة التي جاءت في محلها، ولكني أصررت على أني رأيته نفسه قبل اليوم، إلا أني نسيت أين، ثم سألته: «وبماذا يشتغل عمك؟» - يعطي قومندا (كان جوابه بتصنع ازدرائي على وجهه). - نعم، لاحظت ذلك، لاحظت كثرة أوامره لأهل البيت، ولكن من أين يعيش؟ - من أين يعيش؟ أأنت أعمى؟! ألم تر أن امرأته لا تعود إلى البيت إلا مساء فتأتيه بكنوز المال؟ وابنته الصبية تورم جيبه بالريالات، حتى الصغير يأتيه بستة عشر ريالا كل يوم وربما أكثر. - إذن، شغل عمك أن يبقى في البيت يسلي النارجيلة لئلا تشعر بوحشة. - بالتمام. زد على ذلك أن لعمي ذوقا حسنا بالتدريب العسكري، فلولا أوامره لاختل نظام العائلة. - مضبوط، أظن الآن أن عمك في سعة من دهره؟ - في سعة من دهره! بل هو من أغنياء السوريين الحقيقيين، الذين غناهم ذهب «حجر». - إذا كان عمك غنيا كما تقول، فلماذا يشغل امرأته وابنته وابنه الصغير؟ - لا تتوسع في الموضوع، ولا تزد علي بسؤالاتك، ولكي أكفيك مئونة ذلك أخبرك أنه كان لعمي موقف خطير ذات يوم على أثر كتابة إحدى الجرائد مقالة عن «بيع النساء وكسل أزواجهن»، فإنه لأول مرة في حياته تحرك دمه، وصار ينزل إلى السوق ويحمس الناس على أن يقصدوا إدارة تلك الجريدة ليقطعوا أنامل الذي كتب المقالة، ولقد كان يكيل الشتائم الغليظة للكاتب الذي تهجم على الأعراض.
عند هذا، قلت لرفيقي ضاحكا، راغبا في البحث معه من جهة أخرى بعدما رأيته يريد قفل الموضوع: «يجب أن تكون عائلة عمك سعيدة وعلى غاية ما يرام؛ فإنه هو راض وعائلته راضية، وليس ما يعكر صفوها فكر متبله من امرأة أو ابنة لحرية أو استقلال أو لحقوق فردية، أو غير ذلك.»
فقال: «نعم، كما ذكرت، ولكن حدث منذ سنوات شيء كدر خاطر عمي كدرا لا مزيد عليه، وهو أن امرأته مرضت، وأخذت إلى المستشفى، حيث ظلت شهرين تحت المعالجة والعمليات الجراحية، وقد أنفق عليها مبلغا من المال، وليتك شاهدت عمي في ذلك الزمان أنه كان جبلا من الهم.»
نامعلوم صفحہ
فقلت لساعتي: «ولعل عمك الذي كانت امرأته في مستشفى روزفلت عام 1917؟»
فأجاب: «نعم، في مستشفى روزفلت، وكيف عرفت؟!»
فضحكت ضحكة طويلة، وصحت بنجيب: «الآن وجدتها، الآن عرفت أين شاهدت عمك، نعم نعم الآن عرفت، اسمع يا نجيب، في ذلك الزمان شاهدت عمك صدفة عند الخوري، وكان يطلب إليه أن يعطيه ورقة بإمضائه وشهادته أنه - أي عمك - من فقراء الحال؛ ليكسب ثقة أرباب المستشفى فلا يتقاضونه مالا، وقد كبس يد الخوري بشيء لقاء ذلك، أما أنا فلما شاهدته على ما كان عليه من التلبك حزنت لحاله، واقتربت منه سائلا عما أصابه، فأجابني بأن بيته قد خرب، فإنه لم يكفه الله أجور الأطباء والمستشفى؛ فقد خسر شغل شهرين لامرأته، وأنها لا بد أن تمكث شهرين آخرين بعدما تخرج من المستشفى، فيكون التعطيل أربعة أشهر. أما أنا فلما سمعت حكايته أحببت أن أخفف عنه، وأعزيه بحديث معه، فقلت له إن الخسارة المالية لا ينظر إليها طالما المرأة قد تعافت، وإن خسارة المال لا شيء أمام خسارة الحياة. وقد زاد عمك حزني عليه في تلك الساعة؛ لأنه لم يرق له ما نطقت به، بل تناوله كأنه خال من كل معنى مفهوم. لم يعجبه رأيي. أسمعت؟»
فهز نجيب رأسه، وقال لي وقد انتهينا إلى مفرق الطريق بيني وبينه: «نعم، لم يعجبه رأيك؛ لأن المال عنده يسوى أكثر من امرأة؛ فإنه لم تكد تخرج امرأة عمي من المستشفى حتى استأنفت الشغل ببيع الجزدان بالرغم من إنذارات الأطباء، ولكن شكرا لقوتها البدنية، فإنها غلبت الضعف وهزئت بالعوارض، وها هي اليوم كالنمرة كما رأيتها، ولو لم تكن أنت معي في هذه الزيارة التي لم يكن لي بد منها لأسمعني عمي قوارص الكلام؛ لأني لا أسمح لأمي أن تشتغل كامرأته بالبيع، ولأننا نعيش في بروكلن بين مساكن الناس.»
وكنت إذ ذاك قد افترقت خطوتين عن صديقي نجيب، فودعته ثم ابتسمت، وقلت له وأنا أبتعد عنه: «الحمد لله، قد عرفت أين شاهدت عمك أخيرا، ليس في مرسيليا المشهورة بضخامة أحصنتها، بل في نيويورك.»
في بيت الميت
عندما مات طانيوس المر ظل بيت الفقيد مقصد المعزين أسبوعا كاملا ليل نهار، وقد خيف أن يكون بلاء أهل الفقيد من كثرة المعزين أكثر من فقدهم الفقيد المرحوم، ولكن هي العادة السورية في هذه الأحوال تأخذ مأخذها وهذا التقليد يجري مجراه، ولو تقطعت القلوب وتفتت الأكباد وتحطم إناء الصبر.
أهل الميت يسمعون تعازي من أفواه المعزين، كأنها أمثولات تعلمها قائلوها من جملة الصلوات التي تقال كل يوم، وإني أنا كاتب هذه الحكاية أشعر بكل ما في من العواطف مع الفاقدين ليس على ما يفقدون بل على جلادتهم في استماع فلسفة التعازي.
إلا أنه من نعم المولى أن الاصطلاح في التعزية أن يكون وقتها قصيرا جدا، فالمعزي يبقي قبعته بيده، وإذا كان في الشتاء يظل لابسا سترته العليا، وما الداعي إلى هذا الاختصار ميل من القوم إلى التخفيف عن أهل الميت؛ بل كثرة القادمين حتى يضيق عنهم المكان، وإذ ذاك يخرج فوج ليعطي مكانا للفوج القادم جديدا.
أما أهل الميت فجلوس بلا حراك، وآذان بلا ألسنة، وعيون تنظر أحضانها، وشفاه تتمتم كلمتين لكل قادم وكل مودع، وهما «وراسك سالم» جوابا على التحية في التعزية لدى الدخول والخروج، وهي «عوضنا الله بسلامة رءوسكم.»
نامعلوم صفحہ
والمرحوم طانيوس المر كنت أعرفه معرفة سطحية، فلم أزره في بيته بحياته، ولكن صديقي بطرس كرواني جذبني جذبا؛ لنأخذ خاطر أهل الفقيد، قائلا لي: إن التعزية واجبة على كل عارف، ولا فرق نسيبا كان أم صديقا أم من المعارف.
وهكذا، كان ذهابنا، وكان حضرة صديقي أبرع مني في الكلام؛ فقد دخلت إلى بيت الميت وأنا كالجنين في عالم التقاليد؛ فقد هممت بإلقاء التحية التي أقولها في كل الأوقات إلا أن صديقي بطرس رفع كفه ووضعه على فمي، فجعلني أبلع «نهاركم سعيد»، ثم همس بأذني أن أقول: «الله يعوضنا بسلامتكم.» فقلت، وجلست كأني من أهل الميت على ما وصفت، وأزيدهم بعدم التمتمة؛ لأن المسألة لا تعنيني، وبنظر الأشباح من كل جهة؛ لأن حضني كان مملوءا بسترتي المطوية وفوقها قبعتي، وقد احمر وجهي خجلا؛ لأني كنت الوحيد النازع عنه سترته.
بعد سكوت خمس دقائق فتح بطرس فاه بالكلام، فقال: «قبل أن مات إسكندر الكبير عرف أن آخرته اقتربت، وأن أمه ستحزن عليه حزنا عميقا، فدعاها إليه قبل موته، وقال لها: وصيتي إليك يا أماه أن تأدبي مأدبة بعد موتي وتدعي إليها كل الناس، وعندما يجلسون إلى المائدة قولي لهم إن من لم يذق حزنا على حبيب له فليمد يده ويأكل. وهكذا كان، فبعد وفاته أدبت مأدبة، ودعت إليها جميع الناس، ولما جلسوا إلى المائدة قالت لهم ما أوصاها ابنها إسكندر أن تقوله، فلم يمد أحد يده للطعام، فعرفت إذ ذاك أن كأس الموت دائرة على الجميع؛ ولهذا تعزت في مصابها الجلل.»
سمعت هذه الموعظة فكبر قائلها بعيني، وقلت في نفسي: يا ضيعان ما تعلمته في المدارس! والله إن بطرس فاقني بأسلوبه المعزي، وقال أحسن موعظة تقال في محلها. وكأني نسيت نفسي أني موجود في هيكل الصمت، فقلت لرفيقي: أحسنت والله بهذه التعزية، إنها لحكمة منزلة.
أما الحاضرون ولم يكونوا كثارا؛ لأن زيارتنا لأهل الميت كانت بعد أسبوع، وقد بدأت حركة التعزية تقل؛ فقد سمعوا الموعظة الجميلة كأنهم لم يسمعوا شيئا البتة ، وقد عجبت لأمرهم، فقلت في نفسي: لعلهم طمطمانيون لم يفهموا معنى الذي قيل أمامهم.
ولم يكد ينهي بطرس كلماته الدرية حتى وافى البيت فوج مؤلف من ثلاثة رجال، ولأن المكان واسع والزوار قليلون بقينا في أماكننا، بل بقي بطرس جالسا، واضطررت ألا أتحرك؛ لأنه هو الزنبرك لهذه الزيارة.
ولما جلس القادمون جديدا فتح أحدهم فاه بالكلام، وفيما هو يهم ليتكلم حزنت على نفسي، وقلت: يا لله! ما أجهلني؛ فإني لا أفهم شيئا من العادات والتقاليد، ولم أمرن نفسي على الكلام اللازم في كل حين. أما المتكلم فبدأ بقوله: «هذا حال الدنيا، الموت محتم على كل الناس لا مهرب منه. كان إسكندر الكبير قد فتح الدنيا بأسرها، وهو في الثلاثين من عمره ...»
وفيما هو يخبرنا عن الإسكندر قلت في نفسي موعظة ثانية تأتينا، وقد حتمت علي أن أقصد المكتبة العمومية بعد هذه الزيارة لأطالع حياة ذلك الرجل العظيم، الذي كل تاريخه مواعظ لازمة للبشر وبالأخص في حالات المصائب، وقد تحولت إلى إصغاء تام لأسمع المتكلم فلا تفوتني الموعظة الثانية، ولكن شد ما كان فشلي عندما سمعت منه نفس الموعظة التي أخبرها بطرس؛ ولهذا استأت في داخلي أيما استياء.
عندئذ هم رفيقي بالنهوض؛ لأنه رأى فوجا آخر مؤلفا من قادمين اقتربا من الباب، فكبست على ركبته، وهمست في أذنه: إني أريد أن أبقى حتى نخرج كلنا معا، فسايرني بطرس مضطرا، ودخل القادمان فتليا أفشين التعزية وجلسا. وما هي إلا لحظة حتى فتح كبيرهما فاه بالكلام، فسمعته يقول: «ما هان علينا موت المرحوم، ولكن أمر الله لا مرد له، هكذا قدر وكان، فسبحان الدائم، يحكى أن إسكندر ذي القرنين شعر بدنو أجله ...»
هنا تنحنحت قليلا فلاحت مني لفتة إلى صديقي بطرس، فرأيته يخط وجهه ابتسامة، ولكن في الحال أدرت وجهي عنه إلى ناحية المتكلم لأسمع حكاية إسكندر ذي القرنين، وبعد سماعي جملتين من حديثه بدأ وجهي يخط ابتسامة عريضة، وللحال خوفا من أن تنتهي الابتسامة بضحكة ونحن في هيكل الحزن والخشوع نهضت ونهض معي رفيقي، فقلت: «بالإذن بلا قطع حديث حضرة المتكلم، ونهاركم سعيد جميعا.» وخرجت وتبعني بطرس، ولما صرنا خارج البيت أمسكني صديقي مستوقفا إياي، وقال والسم يقطر من وجهه: «ما نفعك ونفع علمك إذا كنت لا تفهم أن في بيوت أهل الموتى لا يقولون عبارة «نهاركم سعيد»، وقد أفهمتك عندما دخلنا ألا تلفظها فبلعتها، فلماذا نسيت هذا الأمر عندما خرجت؟»
نامعلوم صفحہ
فقلت له: دعني من عتبك يا بطرس وأخبرني أين قرأت القصة التي قلتها في بيت الميت؟ فقال: إنه سمع جده يرويها في مأتم شيخ القرية. فقلت: وأين قرأها جدك؟ فقال: لا بد أنه سمعها من جده، فقلت له: إذن في مرة ثانية اضبط التاريخ، وقل هكذا حدثني جدي عن جده عن جده حتى تصل إلى معاصر لإسكندر الكبير.
فضحك بطرس وصفح عني، وقال وهو يصافحني ليأخذ سبيلا غير سبيلي: «اضحك بسرك؛ فإننا لم نكمل الساعة في بيت المرحوم، وإلا لكنا سمعنا حكاية إسكندر الكبير لا أقل من عشرين مرة.»
فأجبته، ولعلني قلت الصواب: «لو كنت موضع أهل الميت لقلت للناس المرحوم استراح من هذه الدنيا ومن مواعظكم.»
وودعت بطرس وسرت في طريقي، فالتقيت بجماعة عرفت منهم واحدا، ولما رآني دنا مني مسلما وأخبرني أنه ذاهب ليأخذ بخاطر آل المر، فأخبرته أني آت من تعزيتهم الله يساعدهم، فأعاد: «الله يساعدهم.» وزاد: «ويعينهم.» وقد أخبرته كيف أني دخلت بيت الميت ولم أقل عبارة تعزية أعزي بها المساكين؛ لأني لا أفهم الاصطلاحات، فضحك مني وقال: «أهي مسألة فلسفة، احك قصة فيها مغزى وعز بها الجماعة.» فقلت: وما عساك أن تحكي أنت؟
فبدا يخبرني قصة إسكندر ذي القرنين، ولكني قاطعته قائلا إني أعرفها وأشرت له أن يلحق بأصحابه؛ ليعزوا الجماعة وليساعدهم الله ويعنهم ويرحمهم.
المتشائم
ما كنت أعهد فيه الشر والميل إلى تضليل الناس؛ بل عرفت صديقي إلياس البقاعي شابا مهذبا رقيق العواطف محبا، يدأب في عمله ويغار على مصالح زبنه، ولكنه في الأيام الأخيرة انقلب بأخلاقه وطباعه، فصار إذا سأله ضال: أين الطريق إلى الشمال؟ يدله على الجنوب غير مبال بعقبى، ولا آبه بجناية يرتكبها بتضليل الآخرين.
جلست إلى جانبه في أحد الأيام وسألته لماذا تبدل بأخلاقه حتى سود الناس صحيفته؟ فرأيته يهز رأسه، عاضا شفته السفلى عضا قويا، وما تكلم غير هذه العبارة جوابا: «آليت ألا أهدي ضالا ما دام الضلال في البشر، وإذا رأيت أعمى له أمل بالنور أحمل على أمله حتى لا يبصر لا في الحقيقة ولا في الخيال.»
قلت: إلياس، إلياس ما الذي صار لك؟ قل لي ما أنت بذاك الذي أعرفه بإلياس البقاعي، أنت رجل غيره، ماذا دهاك؟
أجاب: «أتظن أن أتعابي سنين طوالا غيرتني، لا والذي خلق المكاسب والمخاسر، إن ما غيرني من إلياس البقاعي الذي تعرفه إلى إلياس البقاعي الذي تراه الآن لهو التطفل مني على إنارة سبل الضالين؛ فإن التائه في سبيل حياته لأضمن حالا من الذي تفتح عينه العمياء فيرى الكون كله تحت باصرته، ويجعل عينه فما واسعا يريد ابتلاع ما يراه.»
نامعلوم صفحہ
قال هذا وتنهد، ثم قص علي حكايته، وكيف آل إليه الحال.
تعلم أني شغلت في الولايات المتحدة خمس عشرة سنة أحمل صناديق بضاعتي فأبيعها على تجارنا في الداخلية، وقد جعلت شعاري في مطلع تجارتي حتى آخرها أن أكون مخلصا لزبائني نصوحا لهم؛ لأضمن حسن حالهم المعقود بنجاحي، وكان لي زبون في بلدة صغيرة في الداخلية أبيعه من بضاعتي كما أريد، وأمحضه النصح في المشترى والمبيع كأنه شريكي في العمل. وفي ذات يوم دخلت محله في أحد الأسفار فرأيت محله مزدحما بالصناديق المكردسة هنا وهناك، وبالبضائع المبعثرة بلا ترتيب ولا نظام؛ يبيع زبائنه وفي فيه سيكار طويل، فقلت في نفسي: «غريب والله كيف أنه يرزق مثل هذا الزبون، وهو على ما هو عليه من عدم الترتيب!»
وفي تلك الساعة وأنا أنتظره ريثما يفرغ من سيدة كانت تساومه على قميص؛ لأجلس وإياه وأبيعه قائمة بضاعة حرك أفكاري سيكاره، فقلت في نفسي: يجب أن أسأل هذا الرجل إذا كان محله مضمونا في شركات السوكرتاه؛ فإن حاله عرضة للحرائق، فلأسألنه.
وهكذا كان، فعندما جلست أسأله عما هو بحاجة إليه من البضائع سألته: أأنت مسوكر؟ فأجابني: «نعم مسوكر عند هذا.» قال هذا وأشار بيده إلى ناحية في محله، فلم أفهم معنى إشارته، ولكنني ظننت أنه أومأ إلى روزنامة معلقة على الحائط، وفيها اسم الذي ضمن له المحل؛ ولهذا ملت عن زيادة الاستفهام، واستأنفت الشغل وبيدي قلمي أكتب به مطلوبه من الأصناف.
وفي منتصف العمل عاودتني فكرة الضمانة، فكررت عليه سؤالي فقلت له: «قلت لي إن محلك مضمون، ولكنني لم أفهم عند أية شركة من شركات الضمانة.» فأعاد إلي إشارته بإصبعه وقال: «قلت لك عند هذا، هذا هذا، ألا تراه؟!»
أما أنا ففرست على خط مستقيم من إصبعه الدال فلم أجد سوى صورة، ولكنني خجلت منه فلم أستوضحه أكثر ومضيت في شغلي، ولما أنهيت كتابة القائمة وقد بلغت نحو خمسة آلاف ريال طويت القائمة وخبأت بضاعتي، ووقفت مترددا محتارا بأمري كأني كنت ناسيا شيئا، ولم أكن بالناسي؛ ولهذا ظللت واقفا موجما، وزبوني ينتظرني لأصافحه وأودعه، وأذهب من محله.
عندئذ قلت له: اسمح لي قبل أن أودعك أن أنقل اسم الشركة التي ضمنت لك محلك؛ لأن ذلك لازم لدفاتري، فكل زبون يجب أن أعرف الشركات التي تضمن محله.
فضحك مني وقال: «عجيب أمرك، قلت لك: عند هذا، عند هذا، ألا تراه؟»
فقلت: لا أرى غير صورة.
فقال: «نعم، صورة، ولكنها أيقونة مار أنطونيوس شفيع كنيستنا في الضيعة.»
نامعلوم صفحہ
هنا ابتدأت رواية مضحكة، فسري عني قليلا، وضحكت أولا ضحكة انفتح لها قلبي لسذاجة زبوني، وبعدئذ سألته بلهجة ازدراء خفي: ألعل مار أنطونيوس عنده شركة للسوكرتاه، وكم سعر الألف عنده؟
فقال: «كان الناس يشورون علي بالسوكرتاه، وأنا أؤجل الأمر حتى لم يعد لي من حجة عليهم بالإمهال، وكل الوكلاء الذين قصدوني للسوكرتاه طلبوا مني مائة وخمسين ريالا، فقلت في نفسي أرسل مقابل ذلك مائة ريال لمار أنطونيوس كل سنة، وهو يحمي محلي أحسن من أي إنسان؛ لأن عجائبه مشهورة وهو حامي ضيعتنا، فأوفر خمسين ريالا وأنفع بلدي وقديسها.»
فقلت: ولكن إذا احترق محلك بماذا يعوض عليك مار أنطونيوس، إنه يأخذ منك كل سنة مائة ريال، ولا يعطيك سنتا واحدا إذا احترق محلك لا سمح الله، أما الشركات فإنها تأخذ منك مائة وخمسين ريالا، ولكنها تدفع لك كل سنت تخسره إذا احترق المحل.
وجلست ساعتين بكاملهما أنير بصيرة ذلك الزبون حتى أفهمته أن المسألة ليست للحماية، فمار أنطونيوس عجائبي وعظيم، ولكنه لا يعوض على الخاسرين، أما الشركات فإنها لا تحمي ولكنها تضمن الخسارة، ولم أذهب من عنده حتى أفهمته كل شيء بهذا الصدد، وأقنعته أن يستدعي أحد وكلاء شركة الضمان ليضمن محله.
في تلك السنة احترق محل زبوني المسكين، وبعد أسبوع وردني منه خبر أن الشركة أعاضت عليه الخسارة بعشرين ألف ريال، وقد أرسل إلي داخل الرسالة حوالة على البنك بكل حسابي معه. فكتبت أعلمه أن يعتبر بما جرى، وأن يفتكر قبل أن ينشئ محله الثاني بأمر الضمانة، فلولا مراحم الله التي ساقتني إليه تلك المرة لأنير بصيرته وأحول السوكرتاه من مار أنطونيوس إلى إحدى الشركات لكان حضرته في هذا الوجود وأتعابه سنين عديدة في ذمة ذلك القديس.
بعد سنة واحدة احترق محله ثانية، واستدعيت إلى بلده من الحكومة كأحد الدائنين الكبار، وقد كان لي بذمته اثنا عشر ألف ريال، وهناك مكثت يومين، ومن هناك عدت إلى نيويورك كما ذهبت، وزبوني في السجن بدعوى إحراقه محله عمدا؛ فقد عثر البوليس على شمعة مخصوصة لإيقاد النار في المحل، ولم تأت عربات الإطفاء حتى كانت النار قد التهمت الأخضر واليابس، وفي الاستنطاق أقر أنه أوقد النار ليأخذ ألوف الريالات من شركات السوكرتاه، وقد أخبر المحكمة أني أنا سببه؛ ولهذا دعتني للشهادة، فأخبرت القاضي بالقصة من أولها إلى آخرها، وما آخرها إلا عودتي من تلك البلدة خاسرا أرباحي وأتعابي خمس عشرة سنة عند ذلك الزبون، وهذا ثمن فتحي باصرة أعمى، وإرشادي ضالا، وقيادتي ساذجا إلى طريق العرفان.
وقال لي صديقي إلياس البقاعي ختاما لحكايته التي أثرت بي كثيرا: «أوتلومني لماذا انقلبت من إلياس تعرفه إلى إلياس تراه وتسمع به في هذا الحين يضل الناس ويعمقهم في ضلالهم!
يا ليته بقي مسوكرا عند مار أنطونيوس، بل يا ليتني لم أفتح بصيرته وأرشده إلى الضمانة الحقيقية التي علمته ارتكاب الجرائم.»
سمعان النادر
هكذا يسمونه اليوم «سمعان النادر»، وقد كان اسمه قبل أن هاجر إلى أميركا سمعان فقط. لم يكن أحد يعرف كنيته، ولكنه كان رجلا مشهورا بقبائحه حتى أغنى اسمه عن كنيته، فكان اسم سمعان كافيا في تلك المقاطعة السورية ليعني لدى كل واحد من ساكنيها رجلا شديد القوة، يقطن الكهوف في الجبال، يترصد أبناء السبيل ليفتك بهم ويسلبهم حوائجهم.
نامعلوم صفحہ
ولكنه بعد مرور سنوات على حياته تلك المرة أراد أن يتوب فلم يفلح؛ لأن الناس في قريته لم يصدقوا توبته، والحكومة لم تكن لتأبه لها، بل كان رجالها يلاحقونه من قرية إلى أخرى حتى انقطع رزقه، وكاد يجوع في حين لا أمل له بالخلاص من عيشه على تلك الصورة.
ولهذا هاجر سمعان، أما كيفية حصوله على المال الذي لزمه للنفقات فأمر لا يحتاج إلى إيضاح؛ لأن من اعتاد شيئا وأراد الرجوع عنه فلم يستطع لا بد أن يعود إليه. فاللص إذا تاب ثم احتاج إلى مال يعود لصا. وهكذا سمعان، رأى أن الضرورة تدعوه للهجرة إلى أميركا هربا مما هو فيه من سوء الحال والضغط الشديد عليه من الحكومة، وبالرغم من افتكاره بالتوبة عاد مضطرا إلى طرق الحرام ليقضي لبانته.
وجاء سمعان إلى أميركا، وكان قد درس حياة السوري فيها من بعض السوريين الذين صادفهم في مرسيليا، وعلى الباخرة من الذين كانوا سابقا في أميركا، ثم هاجروا إليها ثانية، فعرف منهم أن مثله لا يستطيع أن يأتي بحركة إلا إذا كان يقبل أن يعيش أجيرا يرضى بالكفاف من العيش؛ ولهذا قبل أن يضع رجله على اليابسة صمم النية على أن يقوم بمشروع كبير يجمع فيه المال الكثير من أبناء بلاده المنتشرين في طول أميركا وعرضها.
ولم يلبث سمعان بضعة أيام في نيويورك حتى استدل على بعض عناوين لأناس يعرفهم في الداخلية، فقصدهم ونزل عليهم، وكان على غير ما يأملون أن يروه مثال العفة واللطف والمسكنة.
والصيت إذا تحرك يسبق الريح، وقد تحرك صيت سمعان بأنه قدم إلى أميركا؛ ليكفر عن خطاياه التي ارتكبها في سوريا، وأنه تاب إليه تعالى، وقد نذر ما بقي من حياته في خدمته؛ ولهذا جاء ليجمع من أهل بلاده نذورا لكنيسة وطنية تبنى في قريته.
سمعان الشقي قادم إلى أميركا ليجمع نذورا! ولماذا لا؟ فما على المشكك إلا أن يجتمع به خمس دقائق فيرى أنه بالحقيقة تغير من شيطان جهنمي إلى ملاك أرضي؛ رجل مسكين يبدأ تناول الطعام برسم الصليب وينهي الأكل بالصلاة، ويجلس في قوم لا يتكلم إلا إذا سئل؛ لا يتدخل في خصوصيات الناس، ولا يقول إلا الشيء المرضي للجميع؛ يكثر من ذكر آيات الله وطاعته في كل حال من الأحوال؛ وإذا ذكر أمامه أحد الناس تضرع إلى الله تعالى بتوفيقه؛ وإذا نفحه أحدهم نذرا يغدق عليه الأدعية الحارة؛ إلى ما هنالك من هذا السلوك الذي كان أدعى إلى دهشة العارفين إياه أو السامعين به من أن يروا كوكب الصبح آتيا بمركبة نارية بجانب المسيح.
ولهذا سمي في ديار الهجرة «سمعان النادر»؛ لأنه نذر نفسه لله تعالى، وتاب عن ضلاله مؤمنا بالآخرة، وعلى هذا الاسم طارت شهرة الرجل فطفق يجول في أميركا من بلد إلى بلد آخر ومن ولاية إلى أخرى، يختلط بالناس مظهرا لهم كل مسكنة، داعيا إياهم إلى تكريس قليل من المال في خدمة الله لقاء تكريسه كل حياته من أجله تعالى.
وكان أن صيته وصل إلى البلاد، وهناك انتشر بين جميع السكان أن سمعان قد نذر حياته لخدمة الرب، وفي البداءة صعب عليهم التصديق، إلا أن الأخبار الواردة متتابعة من كل جهة كانت تؤيد الخبر، حتى أمن عليه الجميع وصدقوه، فصار اسم سمعان عندهم يعني التوبة والندامة، بدلا من الرذائل بكل فروعها.
أما سمعان فثابر على عمله مثابرة شجعه عليها إقبال الناس على مشروعه وتألبهم على مساعدته، حتى إنهم في بعض الأماكن أنشئوا من أجله لجنات للأخذ بناصره، وعينوا من قبلهم وفودا يدورون معه من منزل إلى آخر ليجمع ما تجود به أيادي المحسنين، فكان الناس يغدقون عليه الأموال بعضها للنذر وبعضها تعطى إليه بصفة شخصية لنفقاته الخاصة، فكان سمعان يضع الكل في جيب واحد، قائلا للدافعين إنه لم يأت أميركا ليجمع لنفسه بل لله؛ ولهذا يخلط الكل معا ليذهب إلى صندوق الله.
وكان يجمع بقوة تأثيره على عقول الناس الذين عرفوه لصا وقاطع طريق، ثم رأوه تقيا وناذرا حياته لله، أما الغرباء الذين عرفوا عنه شيئا، فكان أكثرهم يكثر عليه السؤالات، وبعضهم يسأله عن ورقة الإذن من مطران أو خوري أو جمعية، فلم يكن يحير جوابا على ذلك، ولكنه كان يستعين بالذين حوله، وهؤلاء يقصون على الناس تاريخه المجيد وكيف انقلب من شيطان إلى ملاك ومن ذئب إلى حمل، وهذا كان كافيا شر السؤالات، ومغنيا عن ألف إذن أو ورقة أو نيابة.
نامعلوم صفحہ
إلا أن سمعان في السنة الأخيرة شعر بميل الناس عن مشروعه قليلا، فصار يخشى الانخراط في جماهير الناس؛ لأن بعضهم كان يسأله عن المقدار الذي جمعه فما كان يجيب إلا بأنه لم يحصه بعد، وأن بركات الله تضر في المجموع إذا عده. وبعضهم صار يسأله عما إذا كان أرسل منه شيئا إلى البلاد، فكان يجيبهم بأن يقلب الحديث من أميركا إلى الصين تخلصا من الأجوبة، وهربا من التعمق في هذا الموضوع الذي يكره فتحه والتداول به، خوفا من التحري.
أخيرا، عزم سمعان على الرحيل والعودة إلى الوطن، فأم نيويورك مزودا بالأدعية من نساء ورجال، وكلهم كان يتمنى أجره في الآخرة، ويحسده على مكانته في عالم التقى والصلاح، ويأمل أن ينفعه الله بأدعية سمعان بفضل ما تبرع به من المال الذي حصله في أميركا بعرق القربة.
وعاد سمعان النادر إلا بلاده في عام 1903، وأول شيء فعله أن دخل إلى قرية مسقط رأسه دخول الشهير المعروف بفضله، وقد زاره كل سكانها في اليوم التالي، وصاروا إليه أقرباء ومحبين، وهو صار مقربا من الجميع ومحبوبا، ولم يعد من أحد يخشى شره ويتجنبه.
ولم يمض الشهر على وصول سمعان النادر إلى قريته حتى بدأ بالبناء، فراجت الإشاعات على أنه بدأ ببناء الكنيسة، فكان إذا سأله أحدهم يهز رأسه دون أن يفتح فمه بالكلام، ولكن شد ما كان عجبهم منه عندما قامت البناية على الأساس، وظهرت بيتا لا كنيسة، فعادت الإشاعات إلى الظهور بأن سمعان يبني بالمال الذي جمعه في أميركا بيتا لنفسه بدلا من بيت الرب. وقد وصلت الأخبار عن ذلك إلى أميركا، فعجب الناس منها، وندموا على ما فعلوه نحوه، وما قدموه إليه من الإكرام والاحتفاء، وصاروا يوبخون بعضهم بعضا كيف انطلت عليهم حيلته، وكيف أنهم لم يتحروا أمره منذ البداءة.
أما سمعان النادر فلا يزال حيا يرزق، وبالرغم من أن سنوات الحرب أودت بحياة تسعة أعشار القرية التي يسكنها؛ فإنه ظل وعائلته حيا، وزادت ثروته عن ذي قبل أضعافا.
وقد زاره مواطن له، عاد من أميركا بعد الهدنة، وعندما سأله عن أموال التبرعات التي جمعها، قال إنه بنى بها بيتا للرب، وإنه سكن البيت؛ لأن الرب لا يسكن البيوت، ولما كان هو ناذرا نفسه للرب، تكفيرا عن معاصيه اضطر أن يسكن البيت الذي أنشأه من أموال المتبرعين إلى بيت الله.
فسأله ذلك الزائر: كيف رأيت المهاجرين السوريين في أميركا؟
فقال: إنهم ذوو قلوب سليمة، ولا يردون طالبا خلا نفرا منهم اكتسبوا من أميركا قلة الدين، فهم يهزءون بالمشاريع العمومية، ولا يهمهم شأن وطنهم. - أوأنت تلومهم؟ - نعم، ألومهم؛ لأنهم يعاكسون على ذوي الآمال في وطنهم، فلولا أولئك المتفلسفون القليلو الدين لجمعت مبلغا كافيا لتشييد كنيسة في هذه القرية، ولكن المبلغ الذي جمعته لم يكن ليبني زاوية من كنيسة. - ولهذا السبب يظهر أنك بنيت بيتا لنفسك بتلك الأموال؛ لئلا تذهب ضياعا أليس كذلك؟ - نعم؛ لهذا السبب عينه. - الحق معك، ما أطيب قلوب المهاجرين وأسلم نياتهم! على أنني أدعو لهم بأن يكثر عدد الذين نذروا حياتهم للرب مثلك بينهم لعلهم يتعلمون ويتعظون.
حبال الغسيل
نيويورك بلد عظيم، فيه من الخلائق ثلاثة أضعاف سورية من العريش إلى الطوروس، ومن البحر إلى الصحراء؛ ولهذا فمن اعتاد الفضاء لا يهنأ له عيش في قفص مدنية الجيل العشرين، وكثيرا ما ندم كهول وشيوخ جيء بهم إلى نيويورك على قدومهم، فجلسوا إلى زاوية من زوايا البيوت يندبون الحظ، ويلعنون الساعة التي وصلوا بها إلى هذه البلاد، التي بالرغم من كل عظمة فيها لم تكن عند آمالهم وتصوراتهم؛ فإن ركب الحمار إلى الغدير والمشي إلى الكرم في وسط الغبار والطين والنوم على المرج في ساعة الظهر إبان تلهب أشعة الشمس الجماد أجمل في نفس ابن سوريا القديم من الوقوف في شارع برودواي، حيث تزدحم الكارات والسيارات والعربات، يلتفت المارون هنا وهناك ليروا لأنفسهم مخرجا يعبرون منه إلى ناحيتهم المقصودة آمنين الأخطار. والكوخ المبني من أغصان الشجر القائم في الكرم أجمل للمنام على سرير في منزل لا تدخله أشعة الشمس دقيقة في السنة، والجلوس عند النافذة في البيت السوري حيث يمتد البصر إلى أميال فيشرف الناظر على الآكام والأودية أجمل من بناية، ولورث ذات الطباق الثماني والخمسين. والقمباز الذي يستطيع معه لابسه أن يجلس به كيفما شاء القرفصاء والأربعاء، آنا متكئا وآخر متمددا دون أن يشعر بشيء يشد على ساقيه وفخذيه وركبتيه أجمل وألطف من التقيد بسلاسل البنطلون.
نامعلوم صفحہ
ظل العم بو غانم يراسل أولاده في نيويورك ملحا عليهم بأن يستقدموه إليهم، وهم بالرغم من توفيقهم بالأشغال لم يكونوا يرون مناسبة في استقدامه، لأملهم بالأوبة إلى الوطن حيث يجتمعون به بعدما يكونون قد جمعوا مبالغ من المال تكفيهم مئونة العناء في هذه الحياة، إلا أنهم لكثرة ما ألح عليهم اتفقوا على استقدامه، قائلين إنهم يصرفون معه بعض السنين ثم يئوبون كلهم إن لم تعجبه حياة أميركا.
كان العم بو غانم في الطريق إلى نيويورك يتأمل في عظمة أميركا كما ترسم إليه مخيلته حسبما كان يسمع، آملا أن يصل إليها بالسلامة ، وإذا مات بعد أسبوع لا يهمه؛ لأنه بذلك يكون قد حصل على أمنيته وزار الجنة. ولكنه منذ وصل ابتدأ يشعر بنفسه أنه كان مغرورا بتصوراته التي لم ير لها أثرا في نيويورك، وما قطع بضعة أيام حتى صار يشعر بميل قوي عن عظمة أميركا وبشوق عظيم إلى حالة قريته الخالية من كل أثر للمدنية.
ولم يكن العم بو غانم ليعمل عملا في نيويورك؛ لأن أنجاله كانوا بغنى عن عمل أبيهم الشيخ، وما كان همهم بعد وصوله إلا تكييف خاطره وراحته وتسليته عن تشوقاته إلى الوطن، فكلما وجد أحدهم فراغا عنده صحب أباه إلى فرجة من فرج نيويورك ومتنزهاتها ومتاحفها العظيمة ليسليه ويسري عنه، ظنا منه أن أباه لا بد أن يعجب بالعظمة والضخامة اللتين يشاهدهما، فيشغل بما يراه عقله وأفكاره، ولا يعود لذكرى القرية والوطن.
إلا أن العم بو غانم لم يكن ليرى في كل ما وقعت عليه عينه من العظائم الاختراعية والاصطناعية والتاريخية ما يدهشه، فكان أنه عندما مشى جسر بروكلن من الأول إلى الآخر ورأى البواخر العظيمة تمر تحته والقطارات المتتابعة والكارات المتلاصقة والعربات المتسارعة قال لرفيقه من أبنائه إن الجسر على الساقية في طريق الكرم أجمل من كل هذا، وإن غرفة من مياه ذلك الجدول أفضل من كل ما في أميركا، وإن غسل الرجلين في تلك المياه الباردة ألذ للنفس من هذه الفخامة والعظمة. وعندما رجع به أحد أبنائه من برونكس بارك سأله رأيه في القطار العالي الذي كانا عائدين عليه، فقال ومعدته تصعد وتنزل، ورأسه دائخ، ونفسه زاهقة: إن الحمار الذي كان يركبه من الضيعة إلى غيرها أجمل في عينيه من كل ما في أميركا من القطارات والعربات.
وعندما ألح عليه أبناؤه بأن يلبس القبة ويعقد الربطة ليذهبوا إلى الكنيسة، كاد العم المسكين يبكي من غيظه، ولم يبخل على الكنائس وأميركا بمسباته وعلى حظه وغروره باللعنات والتجديفات، وقد قال لأولاده: ما هذه العيشة التي تعيشونها في هذه البلاد الجهنمية؟! هناك بلاد الراحة؛ لا ربطة في الرقبة ، ولا عقدة على الخناق، ولا سلاسل على الوسط، ولا قيود في الرجلين. آه يا بلادي، لو يسمح لي الدهر أن أرجع وأعيش أسبوعا واحدا تحت سمائها ثم أموت فتكون عيني شبعت ومت مطمئنا!
ومضى على تذمرات العم بو غانم نحو من سنة، وكرهه لكل ما في أميركا يزداد يوما عن يوم، وأبناؤه ينفقون ما استطاعوا لتسلية خاطره وتنزيهه عن الهموم المتلبدة في رأسه، ولكن عبثا حاولوا نزع ما انطبع على صفحات دماغه من أن كل عظيم في أميركا ليس بشيء عجيب، وأن البساطة في سوريا وخلوها من آثار العظمة مما يجعلها جنة النعيم.
وقد صار العم بو غانم مضرب المثل، بأنه لم يجد في أميركا ما يعجبه، حتى صار إذا جلس بين قوم في سهرة أو زيارة يقضي الوقت بمناظرة الآخرين بأن كل شيء في بلادنا أجمل، وأن ما يقابله في هذه البلاد ليس بعجيب ولا عظيم؛ فبغل المكاري أحسن من قطار الجيل العشرين، وجسر الساقية أجمل من جسر بروكلن، وطريق الكرم أحلى من الأفنيو الخامس، ومرعى الماعز أظرف من السنترال بارك، والنومة تحت البلوطة أهنأ من النومة في القصر الأبيض، إلى ما هنالك من تعاليل رجل قطع الستين من عمره، وصارت بلاده - وإن تذمر منها حينا - كل شيء في حياته، بل هي حياته.
وبناء على هذا صارت أحاديث العم بو غانم من المسليات للسامعين، تضحكهم تشابيهه بين حالة سوريا البسيطة ومعالم أميركا واختراعاتها، وقط لم يقر لأميركا بشيء من المعجبات إلا مرة واحدة، وكان ذلك في سهرة حافلة، وفي آخرها بعدما فرغ من حطه من قدر كل اختراع وعظيم في أميركا، وإذ سأله أحد الحاضرين: أي يا حضرة العم بو غانم، بالله عليك قل لنا ألم تر في كل أميركا ما يعجبك؟
فأجابه العم بو غانم وقد أغمض عينيه لحظة، ثم فتحهما وهز رأسه هزتين ببطء، وتنحنح قليلا فسوى قعدته، وفتح فمه بالكلام فقال: لم يحيرني بكل ما رأيته في هذه البلاد إلا أمر واحد، وهو حبال الغسيل؛ فقد شاهدت حوائج الغسيل معلقة على الحبال من بيت إلى آخر على مسافة بعيدة، فكيف توصلت الغسالة إلى تعليق الحوائج على الحبل؟ أمر لم أستطع حله، قلت في عقلي: إن المشي على الحبل ليس بالهين، ومع ذلك فالحبل أضعف من أن يحمل امرأة وفي يديها حوائج للتعليق، وإذا أمكنها أن تمسك الحبل بيد من يديها لتنتقل إلى وسطه، فكيف تتمكن من تعليق الحوائج وربطها بالحبل بيد واحدة! هذا ما حيرني، وهذا ما أدهشني!
ولا حاجة إلى وصف ما كان بين الجالسين السامعين بعد كلام العم بو غانم؛ فإن رب البيت صار يرجوهم أن يخففوا أصواتهم لئلا يصعد البوليس إليهم فيعنفهم على ضوضائهم، ولما شبع القوم من الضحك عاد العم بو غانم إلى حديثه، فقال: والله إني راجع في هذه السنة إلى البلاد، وسوف أجبر الأولاد على أن يشتروا بكل ما معنا من المال حبالا من أميركا؛ فإننا نستطيع أن نبيعها بأرباح طائلة في كل المدن السورية.
نامعلوم صفحہ
فأجابه أحدهم: ولكن عليك أن تشتري أيضا الأيدي التي تعلق الغسيل على تلك الحبال.
ما فيها شي
أميركا أعظم مدرسة يدرك فيها المرء علومه في الحياة، ويكتسب خبرة تعود عليه بالنفع الحسي؛ إذ تجعله رجلا قادرا على الانخراط في هذا المعترك العالمي مما لا تأتيه المدارس ولا الكليات ولا الجامعات.
إلا أن هذه المدرسة العظيمة كثيرا ما يظهر فيها وباء اجتماعي هائل، وعوارضه انتفاخ الأوداج مع ضيق في الجبين، وقد بحث الأطباء بهذا الوباء فما وفقوا إلى معرفة أصله وإدراك أسراره؛ فبقي عنهم مكتوما لا يستطيعون وصف علاجه لمحوه من عالم الوجود.
هذا الوباء الوخيم أصيب به مهاجر سوري بعد سنة من وصوله إلى أميركا في إحدى مدن الداخلية، وقد جاءه عن طريق العدوى؛ إذ زار يوما بيت صديق له فرآه يطالع في إحدى الجرائد العربية، وكان هو يحسن القراءة البسيطة فقط لا غير، فجلس إلى جانب صديقه يشاركه في المطالعة فسرهما المناظرة بين صاحب الجريدة وزميل له، أو بالحرى المهاترة والمشاتمة، وطفقا كلاهما يسبحان بحمد كاتب تلك المقالة لقوة عارضه وتبريزه باستعمال الكلام الجارح، وقد تشوقا كثيرا لمعرفة ماذا يقوله المناظر ردا على ما قرآه في جريدة «السناء»، فاتفقا آنئذ على أن يشترك نخلة الطبطابي بالجريدة الثانية «منار الأمة»؛ ليتسليا بوجهتي المناظرة، ويتلذذا بالردود والأجوبة، وبماذا يقول فلان عن فلان وهذا عن ذاك، ثم يحكما على المبرز.
بعد خمسة أيام جاءت جريدة «منار الأمة» إلى محل إقامة نخلة الطبطابي، أما جريدة «السناء» فظلت ترد على صديقه ديب أبو غانم، فكان كل يوم يجتمع الاثنان فيطالعان الجريدتين بإنعام نظر ولذة فائقة، وكانا يختلفان آونة ويتفقان أخرى على من كان الأقوى حجة من المتناظرين، أو بالأحرى المتشاتمين.
وظل الصديقان كذلك حتى انتقلت منهما الرغبة في مطالعة الصحف العربية إلى التحزب كل منهما للجريدة المشترك فيها. فصارت اجتماعاتهما لا للذة بالمطالعة كجاري العادة، بل للمناظرة بينهما حول أي من الصحيفتين تضرب على وتر الحقيقة، ومن من الصحافيين أقوى قولا وأدعم حجة.
وظل هذا المكروب السام يتقوى في دماغ كل من هذين القارئين حتى عشش فيهما وبنى صروحه الباذخة، وأول ما فعله بهما أنه حرك أوتار الحماسة، فصار إذا طالع أحدهما صحيفة يشارك صاحبها بنظراته ويسبقه بشتائمه، ويتمنى لو أنه قادر على الخوض في معتركهما ليكرسح الصحافي في الآخر، ثم تدرج بهما فعل ذلك المكروب إلى الاختصام فالعداء.
وانتهى الأمر أن صار الصديقان عدوين، إذا رأى أحدهما الآخر حول عنه وجهه، أو بصق على الأرض متمتما بعض كلمات لا تكاد أذنا شفتيه تسمعانها. وبلغ بهما العداء إلى درجة أنهما أصبحا يريدان الإيقاع كل بالآخر.
بعد أيام جاءت جريدة «السناء»، فكاد لب ديب أبو غانم يطير فرحا إذ رأى اسمه بذيل مقالة تبلغ العمودين من الجريدة، وقد قرأها ديب مرارا وأخذها بيده إلى جيرانه، والسرور مالئ وجهه والرقص يقيم قلبه ويقعده، فكان يدفعها إلى الجيران ليطالعوا مقالته ضد صاحب جريدة «منار الأمة»، ولما دخل على أحد السوريين ودفع إليه عدد الجريدة ليقرأ فيه مقالته أجابه ذلك السوري بأنه لا يعرف القراءة. ولكنه رجا منه أن يقرأها له، فظل ديب نحو ساعة يهجئ الكلمات ويعيد العبارات من الأول إلى منتصفها، ثم يعيدها ثانية حتى يتوفق إلى اجتيازها حاملة شيئا من المعنى وأحيانا يبلع كلمة أو كلمتين أو يتقيأ من فيه كلمة أو اثنتين ليستر حاله، وتارة يهز رأسه ويسب في وكيل الجريدة لتغييره بعض الكلمات.
نامعلوم صفحہ