وقد رأى بونابرت إذ ذاك أن الفرصة قد سنحت، وأن في طاقته حينئذ أن ينفذ غايته التي كان يرمي إليها منذ البداية، فسرعان ما عاد إلى فرنسا وقلب نظام الحكومة وصيرها قنصلية بدلا من الديرقتورية، وكان ذلك في 9 نوفمبر سنة 1799، وعين ذاته قنصلا أولا ثم سعى في الحصول على التثبت من وظيفته طول حياته، فكان ذلك، وانتخب قنصلا للحياة (1802)، وذلك بعد أن أمضى معاهدات الصلح مع إنكلترا وغيرها (لوينفيل وامينز).
ثم بدأ يستبد داخل البلاد وخارجها، فأمر بإعدام دوق دانجان بعد اتهامه بتدبير مكيدة على حياته، ثم أباح الاسترقاق في مستعمرات فرنسا بعد إلغائه في عهد الثورة الفرنسوية.
ثم عاد فخلى المظالم جانبا وقام بأعمال جليلة خلدت ذكره في التاريخ، أولها وأعظمها سن القانون المدني الفرنسوي الذي لا يزال معروفا باسمه في أنحاء العالم، ثم وضع نظاما ماليا جديدا، وأسس بنك فرنسا الذي لا يزال قائما، وكون مدرسة باريس الجامعة التي تفرعت عنها بعد ذلك مدارس فرنسا الجامعة في مدن الأرياف ، ثم أمضى معاهدة الكونكوردا مع البابا بيوس الثامن، فضم الكنيسة الكاثوليكية إلى الحكومة وأخضع القسيسين لسلطته بحيث أصبحوا يستمدون نفوذهم منه.
وفي 18 مايو سنة 1804 أجمع رجال الحكومة بإيعازه على أن يجعلوه إمبراطور فرنسا، ولم تجد هذه الحركة الرجعية مقاومة إلا من شخصين اثنين يخلد التاريخ ذكرهما العاطر، الأول كارنو الذي احتج في مجلس التربيونا، وجريجوار في مجلس الشيوخ. وكارنو هذا هو منظم الجيش الفرنسوي الوطني، وأحد كبار الثورة الفرنسوية، وجد الرئيس كارنو الذي قتل في ليون عام 1894 بيد كازريو الفوضوي. فلما صار بونابرت نابوليون الأول، كانت فرنسا في حاجة شديدة للسلم بعد خمس عشرة سنة قضيت في الحروب الداخلية والخارجية، ولكن بونابرت فطن إلى مسألة مهمة تتعلق بشخصه كما كانت عادته؛ إذ كان يجعل ذاته فوق وقبل كل شيء عداها، فطن إلى أنه وصل إلى عرش القياصرة بفضل انتصاراته، وأنه لا يستطيع استبقاء السلطة إلا بانتصارات جديدة، فأقام على أوروبا حربا عوانا بدعوى نشر مبادئ الثورة الفرنسوية والقضاء على مظالم الملوك المستبدة، ولكنه كان يرمي في الواقع إلى غاية أخرى، وهي أن يبهر العالم بقوته وصولته وأن يفتح ممالك أوروبا، ويكون هو سيد العالم المتمدين، فيخضع له سواه. وهكذا يبقى سيد الأرض من أقصاها إلى أقصاها. وقد ساعده الحظ ففاز في مواقع شتى أهمها أوسترليتز وأينا وايلو وفريدلاند وإيكموهل وواجرام.
وحوالي عام 1812 بدأ نجم سعده في الهبوط، ففشل في حملة روسيا، وكان لم ينته بعد من حملة إسبانيا، ثم حارب في وقعتي لوتزن وبوتزن، وكان في استطاعته أن يصالح أعداءه صلحا مشرفا، ولكنه رفض شروطهم التي عرضت عليه في مؤتمر براج، فتألبت أوروبا بأسرها عليه، وانتصرت على جيوشه في موقعة ليبزيج عام 1813 واحتلت الدول جزءا من أرض فرنسا ودخلوا باريس عام 1814، رغم المجهودات العظمى التي قام بها الإمبراطور ليردهم عن عاصمة وطنه.
فلما رأى الفرنسويون أنفسهم أن بونابرت أصبح عاجزا عن حماية عاصمة بلاده قرر مجلس الشيوخ خلعه، فتنازل عن العرش في فونتنبلو (20 أبريل 1814)، وخرج من مقر دولته طريدا إلى جزيرة «إلبا» حيث قضى ستة أشهر، وكان لويز الثامن عشر حينئذ ملك فرنسا، استجلبوه من منفاه عقيب رحيل بونابرت، ولكن فرنسا لم ترض به، فقامت عليه الفتن من كل جانب فاضطر للفرار، فانتهز بونابرت تلك الفرصة وترك جزيرة إلبا في 26 فبراير سنة 1815، فلما بلغ باريس استعاد ما كان له من القوة وأعد جيوشه من جديد، وحكم مائة يوم مشهورة، ولكن أعداءه الذين تألبوا عليه من قبل عادوا إلى السيرة الأولى، فحاربهم وكان نصيبه الفشل في موقعة وترلو الشهيرة، فعادوا واحتلوا أرضا من فرنسا، وكانت إنكلترا وحدها تلح على الحكومة في تسليمه إليها لتفعل به ما تريد انتقاما منه على تدويخها وإغاظتها، وقد غدره ملك إنكلترا إذ ذاك بعد أن وعده بتسريحه، وأسلمه فوشيه الدنيء إلى ألد أعدائه، فأبحرت الباخرة (بيليروفون) إلى جزيرة اسمها سانت هيلانة، وكان بونابرت يظن أنه ذاهب إلى بلاد الإنكليز.
ومات بونابرت عام 1821 بعد ست سنين قضاها في الذل والأسر.
هذه المعلومات السطحية يعرفها كل إنسان، ومن لا يعرفها لا يصعب عليه البحث عنها، ولكن أسبابها ونتائجها هي الجديرة بالنظر.
فإن القارئ يرى لأول وهلة أن بونابرت قام بعملين للوصول إلى العرش؛ الأول أنه جعل ذاته منقذا لفرنسا بعد أن صير وجوده حيويا لها، وساعد حكومة الديرقتورية على سقوطها وضياع نفوذها، ولذلك ألح عليها بضرورة حملة مصر، ولعلمه بأن الذين كانوا على رأس الحكومة كانوا ضعافا قاصرين فقد تأكد من نتيجة سياسته قبل وقوعها؛ لأنه لا ينتظر من غير الأكفاء، إلا الوقوع في الأغلاط دون تصحيح بعد ذلك، ولكن الأكفاء قد يخطئون وقد يصنعون شرا إما طوعا وإما كرها، ولكنهم يعودون فيصلحون ما أفسدوا، ويعوضون عما مضى منهم خطأ أفعالا شريفة قويمة ترجع نفوذهم وتنسي الماضي إن كان نسيانه في مصلحتهم.
فلما أن صح نظر بونابرت في رجال الحكومة عاد إلى فرنسا، فاستقبلته الأمة استقبال المنقذ، فلم يجد صعوبة في قلب نظام حكومي عقيم ظهر قصور القائمين بأمره، وجعل ذاته قنصلا كخطوة أولى في سبيل المجد الذي كان يرمي إليه، ثم إنه لما عين قنصلا حصل على تثبته من منصبه طول حياته؛ لأن الوصول إلى العرش من منصب قنصل دائمي أسهل من الوصول إليه من منصب قنصل قابل للعزل أو السقوط، ثم ظهرت صلابته وحبه للاستبداد بعملين: الأول مقتل دانجان ابن أمير كونديه، والثاني إعادة الرق في المستعمرات، أما عن الأول فإن حجة بونابرت فيه قوية؛ يقول إن دانجان قد تآمر عليه هو وغيره من الأشراف، وأنصار دانجان يقولون إن هذا الأمير كان مشتغلا بزوجته وبالصيد في الأحراش عندما وافاه خبر القبض عليه، ونابوليون ذكر في مذكراته أنه كان يتسرع في اقتراف بعض المظالم خشية أن يكون ما بلغه حقا، فإذا توانى فرت الفرصة وكان في ذلك هلاكه، ولا شك في أنه كان يعني بذلك مقتل دانجان. على أنني أجد له دفاعين: الأول أن للرجل صاحب السيادة حق حماية ذاته، لا سيما إذا كان في منصب كمنصب بونابرت؛ أي إذا كان حقه قائما على القوة لكن دون إرهاق، والدفاع الثاني أن كثيرين من الأمراء الحديثي العهد بالإمارة قضوا على مئات من الأمراء الأقدمين ليخلو لهم الجو، وليأمنوا جانب أصحاب السلطة السابقين.
نامعلوم صفحہ