هذا عن الوسط الطبيعي الذي نشأ فيه بونابرت. أما عن الوسط البيتي، فقد كان وسطا شاذا، لأن أباه كان موظفا صغيرا خاملا، مات حوالي الثلاثين من عمره بداء السرطان، وكان كثير من أهله وأقاربه مصابين بأمراض شتى، بل كان هو نفسه مصابا بداء الصرع الذي أصيب به كثيرون من العظماء، أمثال ولنجتون ودوستيوسكي وغيرهما، وهذا الداء قد يكون عند البعض دليل البله وضعف العقل، وعند البعض دليل النبوغ؛ لأنه أثر من آثار اختلال الجهاز العصبي الدال على مخالفة صاحبه في القوى العقلية وعاطفة الإحساس لغيره. وقد حاول كثيرون من أعداء النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - أن يدعوا عليه كذبا وبهتانا أنه كان مصابا بهذا الداء، مستشهدين بما حدث له إذ كان لدى مرضعه حليمة فخلفته مع الأطفال، فوقع على الأرض وأغمي عليه، وما زال كذلك حتى هلع الأطفال وانفضوا من حوله. ولكن علماء الدين الحنيف الأجلاء يفسرون ذلك بالتفسير الصحيح، وهو أن الله - سبحانه وتعالى - بعث الملك ليطهر قلب نبيه الحبيب، وقد دافع توماس كارليل عن هذا الرأي فيما كتبه عن النبي عليه التحية في كتاب الأبطال، وأثبت بأدلة باهرة أن ما كان يصيب النبي من الإغماء في حياته، إنما كان لشدة ما يعانيه عند حلول الوحي، وهذا هو الرأي الصادق الحقيقي. ولكن شأن نابوليون غير ذلك، فإنه كان مصابا حقيقة بالصرع، ولم يكن هذا ليقلل من قدره، ولكنه كان دليلا على اختلال جهازه العصبي كما أسلفت، وهذا الاختلال يؤخذ اليوم عند العلماء الطبيعيين دليلا على العبقرية. وهنا نلفت نظر القارئ إلى عدد عظيم من الكتب التي دونت في هذا المعنى وأحسنها باللغة الإنكليزية كتاب
The Insanity of Genius
1
وجملة القول في هذه النقطة الأولى أن بونابرت ولد عبقريا حربيا في وسط شاذ.
ثم إن هذا العبقري كان فقيرا ذا مطامع لا حد لها، وذا إرادة كالفولاذ، وصبر على العمل لا ينفد، وهذه الخلال الثلاث ما اجتمعت لرجل إلا رفعته إلى السماكين، فالفقر يبعثه على العمل لتحصيل المال، والمطامع تدفعه إلى المخاطرة لتحصيل المجد، وإرادته تنفعه إذا خانته الرجال والأحوال، وتدعوه إلى ممارسة الأشياء ومعاودتها حتى تتم له، والصبر على العمل هو خير أداة لتنفيذ رغائب النفس العالية والإرادة القوية.
ولا ننسى أن نابوليون ولد ميالا بطبيعته للرياضيات والحرب؛ أي إنه خلق قائدا، وكان في طفولته يلعب بألاعيب على شكل المدافع، ويحرك الصبيان تحريك الجيوش، ويهاجم أماكن اللعب مهاجمة الحصون والقلاع.
وهذا كله يدل دلالة واضحة على أن الطبيعة والقضاء أرادا إرادة ثابتة مطلقة جلية أن يكون بونابرت قائدا عبقريا، وأرادت العناية أن يعيش بعد أن شرع في إغراق ذاته، وأراد القضاء أن يولد بونابرت في زمن كانت فرنسا - بل أوروبا بل العالم كله - محتاجة فيه إلى فاتح عظيم يمهد لذاته سبل الفتح، فوقع انتخاب القضاء على بونابرت. إلى هنا كان نابوليون غير مسئول؛ لأنه لم يخلق نفسه ولم يهبها مناقبها وخلالها السامية، ولم يجعل أوروبا في حاجة إلى الحرب، بل هو أراد القضاء على حياته، ولكن بعد اليوم الذي ثبت فيه قدماه على أرض فرنسا، ووثق به رؤساء الحكومة وقلدوه قيادة الجيش الذي حرر إيطاليا، أصبح نابوليون مسئولا عن كل صغيرة وكبيرة من أعماله، وآثار شعوره بهذه المسئولية موجودة في حكمه وكلماته، وفيما دونه وحرره من الكتب والمكاتيب.
يعرف قارئ هذه الصحف أن نابوليون بونابرت ولد عام 1769، وأن أباه شارل بونابرت كان موظفا خاملا، أما أمه لاتيتيا رامولينو وهي امرأة إيطالية الأصل، فكانت مشهورة بقوة الإرادة وصلابة الرأي إلى حد العناد، وإن بونابرت تفوق في المدرسة ثم في فرقة الطوبجية بطولون عام 1793، وارتقى إلى درجة قيادة لواء في حملة إيطاليا (1794)، ثم غضب عليه بعد حوادث 9 ترميدور لاتهامه بمؤازرة روبزبيير، فأبعد، ثم أعيد فعين مكان شيرر قائد حملة إيطاليا في سنة 1796 فأبلى بلاءه المشهور وانتصر انتصارا باهرا في مواقع شتى؛ كمونتنونتي وميليسيمو وموندوفي ولودي وأركولي وريفولي وغيرها، إلى أن أرغم النمسا على عقد محالفة كامبو فورميو التي ضمنت حرية إيطاليا وجلاء النمسا عن أراضيها.
ثم عاد إلى فرنسا وهو موضع إعجاب أمته، وموضع حسد وبغض أعضاء حكومة الديرقتورية، ولم ينس نابوليون قبل عودته أن يسلب كنوز إيطاليا ومتاحفها، فنقل إلى وطنه ما استطاع من الآثار والعاديات والتحف، ومعظم ما نراه اليوم في متحف اللوفر وغيره هو من بقايا تلك الهدايا الإجبارية التي قدمتها إيطاليا للقائد الشاب ثمنا لحريتها؛ لأنه لم يكن يحارب الطليان أنفسهم، إنما كان يحارب النمسا التي كانت مستولية على إيطاليا ترهق أهلها وتهضم حقوقهم وتستغل ثروتهم.
فلما أن عاد بونابرت إلى فرنسا زادت مطامعه؛ لأنه رأى نجمه صاعدا وفوزه مؤكدا، فصحت عزيمته على أن يكون سيد فرنسا ومولاها، وقد أقر بذلك في مذكراته فقال: «حيث أريد أن أسود فرنسا فلا بد لي من أن أكون رجلا لا يستغنى عنه، ولا يكون هذا إلا إذا ساءت حال حكومة الديرقتورية في غيبتي فتستنجد فرنسا بي فأعود ويعود النصر معي.» وكان هذا هو السبب الحقيقي الذي دعا نابوليون إلى الإلحاح في تجريد حملة مصر (9-1798)، وإذ كان بونابرت غائبا في وادي النيل ساءت حال حكومة الديرقتورية بفرنسا، وأصبحت ممقوتة في عين الشعب لأسباب شتى، منها ما لقيه الجيش الفرنسوي من الصعوبات الأولى في مصر، ومنها بعض القوانين التي سنتها الحكومة خاص بعضها بالتجنيد وبعضها بالقرض الإجباري، وبذا صح نظر بونابرت في نتيجة سياسة الحكومة العاجزة.
نامعلوم صفحہ