5
ولعل جوى هذه الذكرى كان يخف بعض الشيء لو أن عبد المطلب عمر أكثر مما عمر، لكنه مات في الثمانين من عمره ومحمد ما يزال في الثامنة. وحزن محمد لموت جده حزنه لموت أمه. حزن حتى كان دائم البكاء وهو يتبع نعشه إلى مقره الأخير، وحتى كان دائم الذكر من بعد ذلك له، مع ما لقي من بعد في كفالة عمه أبي طالب من عناية ورعاية، ومن حماية امتدت إلى ما بعد بعثه ورسالته، ودامت إلى أن مات عمه. والحق أن موت عبد المطلب كان على بني هاشم جميعا ضربة قاسية؛ فإنه لم يكن من أبنائه من كان في مثل مكانته عزما وقوة أيد وأصالة رأي وكرما وأثرا في العرب جميعا. ألم يكن يطعم الحاج ويسقيهم ويبر أهل مكة جميعا إذا أصابهم شر أو أذى؟! وها هم أولاء أبناؤه لم يصل أحد منهم إلى مكانته؛ إذ كان فقيرهم عاجزا عن مثل عمله، وكان غنيهم حريصا على ماله. لذلك ما لبث بنو أمية أن تهيئوا ليأخذوا المكانة التي طمعوا فيها من قبل دون أن يخشوا من بني هاشم مزاحمة تخيفهم.
آلت كفالة محمد إلى أبي طالب وإن لم يكن أكبر إخوته سنا؛ فقد كان الحارث أسنهم، وإن لم يكن أكثرهم يسارا. وكان العباس أكثرهم مالا، لكنه كان على ماله حريصا؛ لذلك احتفظ بالسقاية وحدها دون الرفادة، فلا عجب أن كان أبو طالب على فقره أنبلهم وأكرمهم في قريش مكانة واحتراما، ولا عجب أن عهد إليه عبد المطلب بكفالة محمد من بعده.
وقد أحب أبو طالب ابن أخيه كحب عبد المطلب له. أحبه حتى كان يقدمه على أبنائه، وكان يجد فيه من النجابة والذكاء والبر وطيب النفس ما يزيده به تعلقا: ولقد أراد أن يخرج يوما في تجارة له إلى الشام حين كان محمد في الثانية عشرة من عمره؛ ولم يفكر في اصطحابه خوفا عليه من وعثاء السفر واجتياز الصحراء. لكن محمدا أبدى من صادق الرغبة في مصاحبة عمه ما قضى على كل تردد في نفس أبي طالب. وصحب الغلام القافلة حتى بلغ بصرى في جنوب الشام، وتروي كتب السيرة أنه التقى في هذه الرحلة بالراهب بحيرى، وأن الراهب رأى فيه أمارات النبوة على ما تدله أنباء النصرانية. وتذهب بعض الروايات إلى أن الراهب نصح إلى أهله ألا يوغلوا به في بلاد الشام خوفا عليه من اليهود أن يعرفوا منه هذه الأمارات فينالوه بالأذى.
في هذه الرحلة وقعت عينا محمد الجميلتان على فسحة الصحراء، وتعلقتا بالنجوم اللامعة في سمائها الصافية البديعة. وجعل يمر بمدين ووادي القرى وديار ثمود وتستمع أذناه المرهفتان إلى حديث العرب وأهل البادية عن هذه المنازل وأخبارها وماضي نبئها. وفي هذه الرحلة وقف من بلاد الشم عند الحدائق الغناء اليانعة التي أنسته حدائق الطائف وما يروى عنها، والتي تبدت له جنات إلى جانب جدب الصحراء المقفرة والجبال الجرداء فيما حول مكة. وفي الشام كذلك عرف محمد أخبار الروم ونصرانيتهم، وسمع عن كتابهم وعن مناوأة الفرس من عباد النار لهم وانتظارهم الوقيعة بهم. ولئن كان بعد في الثانية عشرة من سنه لقد كان له من عظمة الروح وذكاء القلب ورجحان العقل ودقة الملاحظة وقوة الذاكرة وما إلى ذلك من صفات حباه القدر بها للرسالة العظيمة التي أعده لها، ما جعله ينظر إلى ما حوله نظرة الفاحص المحقق، فلا يستريح إلى كل ما يسمع ويرى، فيرجع إلى نفسه يسائلها: أين الحق من ذلك كله؟
والراجح أن أبا طالب لم يفد مالا كثيرا من رحلته تلك، فلم يعد من بعد إلى رحلة مثلها، بل قنع بحظه، وأقام بمكة يكفل في حدود ماله القليل أولاده الكثيرين. وأقام محمد مع عمه قانعا بنصيبه، يقوم من الأمر بما يقوم به من هم في مثل سنه. فإذا جاءت الأشهر الحرم ظل بمكة مع أهله، أو خرج وإياهم إلى الأسواق المجاورة لها بعكاظ ومجنة وذي المجاز يستمع لإنشاد أصحاب المذهبات والمعلقات، وتلتهم أذناه بلاغتهم في غزلهم وفخرهم وذكرهم أنسابهم ومغازيهم وكرمهم وفضلهم، ثم يعرض ذلك على بصيرته تلفظ منه ما لا تسيغ وتعجب بما تراه جديرا بالإعجاب. ويستمع إلى خطب الخطباء، ومن بينهم اليهود والنصارى الذين كانوا ينقمون من إخوانهم العرب وثنيتهم، ويحدثونهم عن كتب عيسى وموسى. ويدعونهم إلى ما يعتقدونه الحق. ويزن ذلك بميزان قلبه فيراه خيرا من هذه الوثنية التي غرق فيها أهله، ولكنه لا يطمئن كل الطمأنينة إليه. وكذلك جعل القدر يوجه نفسه منذ نعومة أظفاره الوجه التي تهيئه لذلك اليوم العظيم، يوم الوحي الأول حين دعاه ربه لتبليغ رسالته: رسالة الهدى والحق للناس كافة.
وكما عرف محمد طرق القوافل في الصحراء مع عمه أبي طالب، وكما استمع إلى الشعراء والخطباء مع ذويه في الأسواق حول مكة أثناء الأشهر الحرم، عرف كذلك حمل السلاح؛ إذ وقف إلى جانب أعمامه في حرب الفجار. وحرب الفجار تلك كانت بعض ما يثور ويتصل بين قبائل العرب من الحروب . وقد سميت الفجار لأنها وقعت في الأشهر الحرم، إذ تمتنع قبائل العرب عن القتال ويعقدون أسواق تجارتهم بعكاظ بين الطائف ونخلة وبمجنة وذي المجاز على مقربة من عرفات، لتبادل التجارة وللتفاخر والجدل، وللحج بعد ذلك عند أصنامهم بالكعبة. وكانت سوق عكاظ أكثر أسواق العرب شهرة، فيها أنشد أصحاب المعلقات معلقاتهم، وفيها خطب قس، وفيها كان اليهود والنصارى وعباد الأصنام يحدث كل عن رأيه آمنا، لأنه في الشهر الحرام.
على أن البراض بن قيس الكناني لم يحترم هذه الحرمة حين غافل أثناءها عروة الرحال بن عتبة الهوازني وقتله. وسبب ذلك أن النعمان بن المنذر كان يبعث كل عام قافلة من الحيرة إلى عكاظ تحمل المسك وتجيء بديلا منه بالجلود والحبال وأنسجة اليمن المزركشة. فعرض البراض الكناني نفسه عليه ليقود القافلة في حماية قبيلته كنانة؛ وعرض عروة الهوازني نفسه كذلك وأن يتخطى إلى الحجاز طريق نجد. واختار النعمان عروة؛ فأحفظ ذلك البراض فتبعه وغاله وأخذ قافلته. ثم أخبر البراض بشر بن أبي خازم أن هوازن ستأخذ بثأرها من قريش. ولحقت هوازن بقريش قبل أن يدخلوا البيت الحرام فاقتتلوا، وتراجعت قريش حتى لاذت من المنتصرين بالحرم، فأنذرتهم هوازن الحرب بعكاظ العام المقبل. وقد ظلت هذه الحرب تنشب بين الفريقين أربع سنوات متتابعة انتهت بعدها إلى صلح من نوع صلح البادية ذلك بأن يدفع من كانوا أقل قتلى دية العدد الزائد على قتلاهم من الفريق الآخر. ودفعت قريش دية عشرين رجلا من هوازن، وذهب البراض مثلا في الشقاوة.
لم يحقق التاريخ سن محمد أيام حرب الفجار؛ فقيل كان ابن خمس عشرة سنة؛ وقيل: كان ابن عشرين. ولعل سبب الخلاف أن هذه الحرب استطالت أربع سنوات تجعل حاضر أولها وهو في الخامسة عشرة يلحق آخرها في جوار العشرين.
وقد اختلف فيما قام به محمد من عمل في هذه الحرب. فقال أناس: إنه كان يجمع السهام التي تقع من هوازن ويدفعها إلى أعمامه ليردوها إلى صدور خصومهم، وقال آخرون: بل اشترك فيها ورمى السهام بنفسه. وما دامت الحرب المذكورة قد امتدت فتراتها في سنوات أربع، فليس ما يمنع صحة الروايتين؛ فيكون قد جمع السهام لأعمامه أول الأمر ورمى من بعد ذلك. وقد ذكر رسول الله الفجار بعد سنوات من رسالته فقال: «قد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت.»
نامعلوم صفحہ