وأقام محمد في بني سعد إلى الخامسة من عمره ينهل من جو الصحراء الطلق روح الحرية والاستقلال النفسي، ويتعلم من هذه القبيلة لغة العرب مصفاة أحسن التصفية، حتى لقد كان يقول من بعد لأصحابه: «أنا أعربكم؛ أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر.» وتركت هذه السنوات الخمس في نفسه أجمل الأثر وأبقاه، كما بقيت حليمة وبقي أهلها موضع محبته وإكرامه طوال حياته. أصابت الناس سنة
3
بعد زواج محمد من خديجة؛ فجاءته حليمة فعادت من عنده ومعها من مال خديجة بعير يحمل الماء وأربعون رأسا من الغنم. وكانت كلما أقبلت عليه مد لها طرف ردائه لتجلس عليه سيما الاحترام. وكانت الشيماء ابنتها بين من أسر من بني هوازن بعد حصار الطائف، فلما جيء بها إلى محمد عرفها وأكرمها وردها إلى أهلها كما رغبت.
وعاد إلى أمه بعد هذه السنوات الخمس. ويقال: إن حليمة التمسته وهي مقبلة به على أهله فلم تجده؛ فأتت عبد المطلب فأخبرته أنه ضل منها بأعلى مكة. فبعث من يبحث عنه حتى رده عليه ورقة بن نوفل فيما يروون. وكفل عبد المطلب حفيده، وأغدق عليه كل حبه، وأسبغ عليه جم رعايته. كان يوضع لهذا الشيخ، سيد قريش وسيد مكة كلها، فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول ذلك الفراش إجلالا لأبيهم، فإذا جاء محمد أدناه عبد المطلب منه وأجلسه على الفراش معه وربت على ظهره، وأبدى من آيات عطفه ما يمنع أعمام محمد من تأخيره إلى حيث يجلسون.
وزاد في إعزاز الجد لحفيده أن آمنة خرجت بابنها إلى المدينة لتري الغلام فيها أخوال جده من بني النجار، وأخذت معها أم أيمن الجارية التي خلفها عبد الله من بعده. فلما كانوا بها أرت الغلام البيت الذي مات أبوه فيه والمكان الذي دفن به ، فكان ذلك أول معنى لليتم انطبع في نفس الصبي.
ولعل أمه حدثته طويلا عن هذا الأب المحبوب الذي غادرها بعد مقامه معها أياما معدودة ليجيئه بعين أخواله أجله، فقد كان النبي بعد هجرته إلى المدينة يقص على أصحابه حديث تلك الرحلة الأولى إلى المدينة مع أمه، حديث محب للمدينة محزون لمن تحوي القبور من أهله بها. ولما تم مكثهم بيثرب شهرا اعتزمت آمنة العودة، فركبت وركب من معها بعيريهما اللذين حملاهما من مكة. فلما كانوا في أثناء الطريق بين البلدين مرضت آمنة بالأبواء
4
وماتت ودفنت بها، وعادت أم أيمن بالطفل إلى مكة منتحبا وحيدا يشعر بيتم ضاعفه عليه القدر فيزداد وحشة وألما. لقد كان منذ أيام يسمع من أمه أنات الألم لفقد أبيه وهو ما يزال جنينا، وها هو ذا قد رأى بعينيه أمه تذهب كما ذهب أبوه وتدع جسمه الصغير يحمل هم اليتم كاملا.
زاد ذلك في إعزاز عبد المطلب إياه. مع ذلك بقيت ذكرى اليتم أليمة عميقة في نفسه، حتى وردت في القرآن؛ إذ يذكر الله نبيه بالنعمة عليه فيقول:
ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى .
نامعلوم صفحہ