هذه الأمور تافهة في ذاتها، ولكنها ذات قيمة في حياة الرجل العظيم؛ لأنها تظهر تلك البذرة التي خرجت منها تلك الشجرة الكبيرة فتجعلنا نفهم أسرار الغرابة التي كانت تتجلى في كثير من أعماله.
ومرت طفولة نابوليون بغير علة تذكر، وانقضى طور التسنين دون أن يحدث في حالته العمومية تأثيرا، لولا قليل من الصفراء والإسهال، تركا وجهه شاحبا قاتما، وجعلاه عصبيا قليل النوم سريع التهيج، مما جعل ذويه غير مرة يجبهونه باللوم والتأنيب، دون أن يدركوا أنه غير مسئول عن هذه الحالة؛ لأنها حالة مرضية، وكم من الوالدين حتى يومنا هذا يسيرون مع أولادهم على هذا النمط، إذا بدر منهم بعض الحدة أو ظهرت عليهم أعراض الكسل فيقسون حيث يجب اللين، ولا يبحثون عن السبب الذي كثيرا ما يكون من اختلال وظائف الهضم، أو اعتلال أحد الأعضاء الرئيسية، أو التهاب الحلق أو الأذن، وما شاكل هذا.
وأدخل نابوليون إلى المدرسة قبل العاشرة، فلبث في «أوتن» مع أخيه جوزف ثلاثة أشهر وعشرين يوما منتظرا من حين إلى آخر أن ينتقل إلى مدرسة بريان
Brienne
الحربية.
ولم يغب عن أساتذته في أوتن ما كان عليه من العبوس والتفكير؛ لأنه كان يحب الانزواء، فلا يعاشر أحدا، ولا يشترك مع رفقائه في الألعاب الرياضية وغيرها، وكان يختلف عن أخيه جوزف كل الاختلاف في العريكة والأخلاق، ولا يشابهه إلا في الاجتهاد وحب المطالعة.
وبعد زمن قصير ورد على أبيه كتاب من وزير الحربية البرنس مونباره يبشره فيه بتنازل الملك إلى قبوله في عداد تلامذة مدرسة بريان، وكانت هذه المدرسة خصيصة بالنبلاء، فوجد نابوليون نفسه غريبا فيها، مضطهدا من رفقائه أبناء الأسر العريقة في النسب المنتفخين غرورا انتفاخهم بالمال، ومن قرأ كتابه إلى أبيه يومئذ يتبين من خلال سطوره شدة الحنق الذي كان يلهب قلب هذا الشاب في أول مرحلة من حياته، فقد جاء فيه: «إذا كنت لا تستطيع أن تعطيني ما يلزم لأعيش في هذا المعهد، فادعني إليك حالا؛ فقد سئمت نفسي التظاهر بعدم الاكتراث بينما أعيش على مرأى ومسمع من هؤلاء الأغرار الذين لا يمتازون عني بشيء سوى غناهم.»
وكانت رغبة الملك أن يتم على أولاد النبلاء نعمة التربية الاجتماعية، فأدخل في نظام المدرسة ما يوجب اختلاط التلامذة بعضهم ببعض لتلين طباعهم بالاحتكاك ويخف كبرياؤهم فيتعودوا النظر إلى سواهم نظرة أدنى إلى العدل والمساواة، وكانت مدة الدراسة ست سنوات لا يجوز في خلالها لتلميذ أن يطلب إذنا بالتغيب، كما أنه من الواجب على كل فرد أن يلبس ثيابه ويغسلها بدون مساعدة خادم أو أجير، وأن يجعد شعره بنفسه ويرسل منه ضفيرة صغيرة إلى الوراء، ولا يحق له أن يذر عليه «البودرة » إلا في الآحاد والأعياد، أما السرير فكان بسيطا، فراشه وغطاؤه لا يغيران صيفا ولا شتاء.
وكانت الرياضة البدينة وكل ما يزيد في قوة الجسم وخفته من الأمور الضرورية، أما الرقص والموسيقى فليس لهما أن يأخذا من أوقات الدرس كثيرا ولا قليلا، وكان العقاب بالضرب ممنوعا؛ لأن الضرب «مما يضر بالصحة ويذل النفس ويفسد الأخلاق»، ومن الواجب تجافي العقاب ما أمكن؛ لأنه يجلب العار على التلميذ ويحط من كرامته.
تلك هي الشرائط التي جرى عليها نظام مدرسة بريان لإعداد رجال أقوياء بدنا وعقلا، على أنها لم تكن تحترم كل الاحترام، فكم تغيب تلميذ! وكم عوقب بالضرب سواه! حكي أن نابوليون استحق القصاص مرة فأمر أن يركع أمام باب غرفة الأكل ويتناول طعامه على هذه الحال، فأطاع إلا أنه ما كاد يحني ركبتيه حتى أصابه قيء شديد ونوبة عصبية واتفق أن مر المدير حينئذ، فأخذه بيده بعد أن وجه إلى المعلم كلمات اللوم، وأسرع أستاذه في الرياضيات شاكيا محتجا على إهانة أفضل تلاميذه.
نامعلوم صفحہ