تمادى أولئك الأغرار في تحرشهم بإيفون حتى اتضح تغيظها، ولم تعد تطيق الصبر وكنت كسائر الحضور ألاحظ تقطب وجهها، وأسمع هراء أولئك الأسافل، بيد أني كنت أختلف عن بقية السامعين بأني أتغيظ في داخلي وهم يضحكون لأولئك الماجنين، فيشجعونهم على التمادي في بذيء الكلام، ولما أفرط أولئك الأراذل في سفههم قلت لمن معي: عرفت أكثر مدن أوروبا وبعض مدن الشرق، فلم أجد فيها ما أجده في هذا البلد من تحرش الرجال بالسيدات، ولا أدري من أين تأتي للشبان الجرأة على أن يتحرشوا بسيدة لا يعرفونها، والأغرب أنهم وهم يرون منها النفور والاشمئزاز والاقشعرار يستمرون يغازلونها بقحة، ويطارحونها الكلام الذي يورد وجنتيها.
فقال أحد رفاقي: الحق أن كل حسنة من حسنات التمدن، الذي اتصل بهذه البلاد تمحوها هذه السيئة القبيحة.
فقلت: وايم الحق إن مواظبة الوقح على مطارحته الكلام لمن يشمئز منه لغلاظة لا توجد حتى عند همج أفريقيا، فلا أعلم بأي جرأة يفعل ذلك مدعو المدنية هنا.
فقال رفيق آخر: الذنب ذنب الحكومة؛ لأنها لا تشدد على الشرطة أن يقبضوا على كل متحرش بسيدة لا يعرفها.
فقلت: والأنكى أنه لا يوجد بين كل هؤلاء الذين هنا يسمعون هراء هؤلاء المهاذير إلا من يضحك لهم ويقهقه معهم، وليس فيهم ذو هيبة وحمية ينتهرهم، ويؤنبهم على بذاءتهم، ويدفع عن هذه السيدة قحة هؤلاء الأسافل.
كنت أقول هذا الكلام على مسمع ممن حولي، وأنا أنتفض من الغيظ وربما سمعت إيفون بعض قولي، وكان بالقرب مني شاب وطني عليه دلائل النعماء، وكان أكثر الحضور قهقهة ونفسه تحدثه بأن يشترك مع الماجنين في مزاحهم البذيء، ولاحظت أنه ذو معرفة بإيفون وأنه يتعمد نكايتها، وقد سمع أكثر قولي ولا سيما آخره فقال وقد ظهرت على وجهه أمارات الغضب: حسبها أنت مدافعا عنها. - نعم أدافع عنها، وكان الأحرى بك أن تعقل لسانك لا أن تدلعه بهذا المجون، وتقفل فمك لا أن تفتحه بهذه القهقهة القبيحة. - ما شأنك أنت؟ - شأني كشأن كل ذي عرض يحمي العرض. - كن ما شئت ولكن لا شأن لك مع سواك، الناس أحرار. - المكان عمومي فعلى كل من فيه أن يتحامى المساس بإحساسات الآخرين. - ليس من يتعرض لك بأمر. - بل إن التحرش بهذه السيدة بالبذاءة والقهقهة يسوآن الآخرين، فالأفضل أن تلزم أدبك.
وكان التحمس حينئذ قد أوقفني على قدمي من غير أن أنتبه، وهو قد وقف مثلي وكلانا يتحفز للوثوب على الآخر، وسائر من في المكان ينظر إلينا متوقعا شرا، وبعضهم يتساءلون ما الخبر، ولما رأى خصمي أن عيني حمراوان وأني متصد للقتال: قال: أتعلم أنك تدافع عن امرأة مبتذلة؟ - ولكنها أشرف نفسا منك، وأكثر تأدبا من كل معرض بها. - أراك عديم الأدب قليل الحياء. - بل أنت بذيء اللسان سافل النفس.
وهجمت عليه أريد أن أضربه فاعترض بيننا الأصدقاء، وعند ذلك وقعت من عيني لمحة على إيفون فرأيتها واقفة مع الواقفين، وهي ترتجف جازعة، وشاهدت وجهها كأن صفرة الموت قد علته - سلامتك يا إيفون يا حياتي - وسمعتها تقول: «يا الله يا الله» كأنها تخاف أن ينتهي خصامنا بسفك دماء، فقلت لها: لا تخافي يا سيدتي لا أبتغي القتال، وإنما ابتغيت أن أقطع ألسنة السفهاء.
فرأيت حينئذ شفتيها تتحركان ولم أسمع ماذا قالت، وفي الحال ولتنا ظهرها وتوارت، وعاد الناس كل إلى مكانه، وصحابي مضوا بي تحاشيا للشر.
وبعد هنيهة خمدت جمرة انفعالي، وشعرت بارتياح إلى ما فعلت وكنا وأصحابي نتحدث بإيفون وجمالها الباهر، وسماحة طلعتها ورزانتها وخيلائها وحشمتها، وتعجبوا كيف أن مومسا تتصف بصفات المحصنات.
نامعلوم صفحہ