ومع أني احترفت الأدب والعلم والثقافة، فإن هذه جميعها هي عندي حياة كفاح أكثر مما هي حرفة؛ ولذلك أنا لا أبالي ما يقال عن أسلوب الكتابة، ولكني أبالي أسلوب الحياة، ولا أعبأ ببلاغة العبارة، ولكني أعنى بأن تكون الحياة بليغة، بحيث نحيا متعمقين متوسعين. ومع أني ألفت نحو خمسة وثلاثين كتابا فإن كتابي الأول الذي عنيت بتأليفه هو حياتي؛ هذا المشروع، هذه الخارطة التي رسمتها والتي أعود إليها من وقت لآخر بالمحو والتنقيح والتصحيح. بل إن الكتب التي ألفتها هي فصول من كتابي الأول من حياتي.
وليست حياتي هذا العمر القصير الذي أحياه بدمي ولحمي، وإنما هي تعود إلى ألف مليون سنة مضت، ألم أكن سمكة في يوم ما؟ ألم أعش على الشجر في وقت ما؟ لقد حمل جسمي آثار هذه الملايين من السنين الماضية ولا يزال بعض هذه الآثار واضحا، أراه بعيني إلى الآن كما أرى بعيني وأسمع بأذني كلمات مصر الفرعونية وآثارها في العقائد العامية بل الشعبية.
وكذلك ليس هذا الماضي هو كل العمر، فإني أحمل من الاهتمامات بمستقبل البشر ما يعد هموما شخصية لي؛ لأني أدين بنظرة، كدت أقول عقيدة، التطور، ولذلك لا أطيق عبث الأطفال الذين يقيدون حرية الفكر، أو يكرهون الكتب، أو يؤخرون الصناعة، أو يستمسكون بالخرافات والتقاليد المؤدية؛ إذ هم أعداء التطور.
ومن أجمل الإحساسات التي أستمتع بها في فترات اليأس، والتي تحيل هذا اليأس إلى رجاء أن مؤلفاتي وأفكاري، ومنهجي وكفاحي، كل هذا لن يموت بعد موتي؛ إذ هو سيبقى ويؤثر ويوجه ويفتح النوافذ للنور، وأنا بذلك أتجاوز حياتي، وأحيا بعد موتي. وقد قرأت أكثر من ألف كتاب، وأخصبت الكتب حياتي، وجعلتني مثمرا مضيئا، ولكن الكتاب الأول الذي له فضل الصياغة والتوجيه لشخصيتي هو كتاب داروين «أصل الأنواع»، فإنه زاد عمري من سبعين سنة إلى ألف مليون سنة، وجعلني أحس الوجدان، ليس على هذه الأرض فقط، بل إزاء الكون كله بنجومه وكواكبه وشظايا ذراته، وأحس أن للطبيعة أخلاقا.
هذا هو مشروع خارطة حياتي، فما هو مشروعك؟ كيف رسمت، كيف ترسم خارطة حياتك أيها القارئ؟
هناك زعم أو وهم يقول بأن الساسة يغيرون الدنيا بالاستعمار والحروب والمعاهدات، وقراءتنا المتوالية للصحف تعمم هذا الزعم أو الوهم؛ إذ إننا نجد الأسماء البارزة للساسة، ونقرأ أخبار الحرب الكبرى الأولى، ثم الحرب الكبرى الثانية فيتأيد هذا الزعم أو الوهم.
وليس شك في أن الحروب والمعاهدات تغير، وقد غيرت الجغرافية السياسية للأقطار، كما أنه ليس شك في أن المباشرين لهذه التغييرات كانوا من السياسيين أو العسكريين، ولكن هذه التغيرات لم تكن تصل إلى صميم النفس البشرية . ومع ذلك عندما نتأمل ونتعمق الأسباب والبواعث لهذه الحروب نجد أنها كانت ثمرة أو نتيجة لابتكارات علمية قام بها مفكرون اخترعوا الآلات، أو ابتكروا الأساليب، أو ألفوا الكتب لإعلان نظريات جديدة.
اعتبر هاتين الحربين الكبريين الأخيرتين، فإننا نسمع فيهما عن رجال السياسة ورجال الحرب، ولكن هؤلاء الرجال قد باشروا هاتين الحربين فقط ولم يكونوا السبب لإثارتها؛ لأن السبب يرجع إلى الآلة البخارية التي أخرجها رجل مفكر هو جيمس واط في عام 1776، ذلك أن هذه الآلة قد عممت الإنتاج الكبير، في المصنوعات فاحتاج هذا الإنتاج الكبير إلى الحرب والاستعمار. وما زلنا نحن في حرب واستعمار بسبب هذه الآلة التي أحدثت ولا تزال تحدث مزاحمة دموية بين جميع الأمم الصناعية. والمعنى والدلالة هنا أن السياسي والعسكري قد سار كلاهما في أثر المفكر المخترع الذي انبعث إلى التفكير بقوات اجتماعية أخرى.
وقد غيرت الحربان الأخيرتان تخوم الأقطار؛ أي غيرت الجغرافية السياسية، ولكنها لم تغير الاتجاه البشري أو الاتزان النفسي، فالأوروبي الآن هو الأوروبي الذي يعيش قبل سنة 1914 من حيث إيمانه أو طموحه أو تفكيره أو عاطفته.
ولكن الدنيا تغيرت بالكتب، وعندنا على ذلك المثل الأكبر، فإن كتب الدين قد غيرت النفس البشرية؛ إذ عينت لنشاطها اتجاها وأكسبتها أهدافا لم تكن لتعرفها من قبل. وهذا الخلاف الخطير القائم الذي قد يؤذن بالحرب الكبرى الثالثة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، كتاب ألفه كارل ماركس. وهناك عشرات من الكتب الأخرى لها مثل هذا الأثر أو ما يقاربه.
نامعلوم صفحہ