رأيت شعوبا حرة لكل منها الكلمة العليا التي تتضح في الانتخابات البرلمانية، ورأيت مشاكل الشعب تدرس في البرلمان الذي له وحده حق تعيين الوزارات وإسقاطها، ورأيت جرائد تعالج المذاهب وتناقش الساسة، ورأيت الاجتماعات التي يجتمع فيها الرجال والنساء ويبحثون فيها مشاكل العالم. ورأيت البيت النظيف، والشارع النظيف، والكتب العديدة، والمكتبات المجانية، واختلطت بكل ذلك، وتحدثت إلى الفرنسيين والإنجليز، وشرعت عندئذ آخذ بأساليب المتمدنين، وأهدف إلى أهدافهم، وأدرس وأتعلم وأتجول وأتأمل ...
وعرفت فوق ما عرفت أن المرأة يمكن أن تكون إنسانا حرا لا يختبئ من الدنيا وينظر إليها من صير القفل، ولكن يواجهها في شجاعة، تتعلم وتعمل وتتحمل المسئوليات.
ورأيت جمالا في الحب بين الشبان والفتيات، رأيت التمدن! وعنيت أكبر العناية بتعلم اللغتين الإنجليزية والفرنسية، واتصل عقلي عن سبيلهما، بأكبر العقول القديمة والحديثة، وكثيرا ما كنت أسهر الليل كله حتى الصباح، وأنا في لذة الحماسة بقراءة كتاب لنيتشه أو قصة لدستوفسكي أو كتاب للعقليين أعداء القرون المظلمة.
والتحقت بالجمعية الفابية، ورأيت برنارد شو في لحمه ودمه، وكانت هذه الجمعية تومئ في بداية هذا القرن إلى منتصفه، وكانت دعوتها إلى الخير والبر ترافقها دعوة أخرى إلى الشرف والشجاعة، وسمعت من منبرها رجالا ونساء من الإنجليز يقولون: «يجب أن نخرج من مصر»، فأحببت الإنجليز ... وكرهت الاستعمار. ورأيت بين أعضائها رجالا ونساء يقبلون على الأدب الروسي، ويدرسون المشاكل التي خلفها داروين، ويبحثون «تنازع البقاء» ومعاني «العصرية»، ويتعمقون الطبيعة لاستخراج ما فيها من أخلاق، من تنازع أو تعاون.
ورشحت نظرية التطور إلى وجداني وتشبعت بها فصارت مزاجي وأسلوبي، وكبرت قيمة الإنسان في نفسي؛ لأني عرفت تاريخه الماضي في مئات الملايين من السنين، كما صرت أحس بتاريخه القادم في المئات من السنين أيضا، وتحملت بهذه المعرفة مسئولية وأحسست دينا، ولم ينقص من قيمة هذا الدين أنني وقفت على مئات الخرافات التي وقع فيها الإنسان، لا، بل إن هذه الخرافات قد زادتني احتراما وحبا للإنسان؛ إذ هي كانت محاولاته المتكررة للوصول إلى الحقائق، فقد انتقل من السحر إلى العلم، ومن النجامة إلى الفلكيات، ومن الكهانة إلى الضمير، ومن ذلق الرق إلى شرف الإنتاج.
وكان أكبر جزء في «مشروع» حياتي أني احترفت الثقافة، فكانت حرفة وهواية معا، لا أبالي ما فيها من تعب وعرق. وقد بنيت بها شخصيتي وأنضجت بها وجداني، واستطعت أن أنسلخ من عقائد الطفولة، وأن أصل إلى اليقين الجديد بهداية داروين وأينشتين، وأصبح عقلي عالميا عاما أحس صداقتي لنهرو، وخصومتي لتشرشل، وأعنى بدراسة الصحارى، واحتمال زراعتها في آسيا وأفريقيا، وأفكر في مستقبل الأحياء، وأخشى انقراض بعضها. أجل أحس أن العالم كله قد أصبح وطني، ليس لي حق التفكير في مصالحه فقط، بل علي هذا الواجب. وثقافتي لذلك ليست عربية أو إنجليزية أو فرنسية، وإنما هي عالمية، هي في التاريخ وعلى مستوياته، قديمة ووسطية وعصرية، مهما اختلفت لغاتها أو مؤلفوها.
ومع أن ثقافتي قد فصلت بيني وبين الكثير من الناس لاختلاف مستويينا، فإنها بسطت لي آفاقا شاسعة من الفرح والأمل والتأمل والعبرة، فجعلت حياتي أكثر حيوية، وحبي للطبيعة أحم وأعمق، وفهمي للكون أوفى وأنور.
وقد عرفت هذا الفرق بيني وبين سائر الناس حين وقفت أمام الدينصور قبل أربعة شهور في متحف التاريخ الطبيعي في باريس، فإني وقفت عنده وجعلت أدور حوله وأتأمله وأتخيله أكثر من ساعة.
وكنت أرى بالطبع الهيكل العظمي فقط لهذا الحيوان الذي كان يعيش على أرضنا قبل نحو مائة مليون سنة، وكان أكبر من الفيل يزيد عليه في الجرم نحو أربعة أضعاف. كان لا يختلف كثيرا من السحلية أو الورنة، وكان يبيض مثلهما، وقد انقرض لأنه كان جسما بلا مخ أو بمخ صغير يفضله مخ البطة أو الكلب ألف مرة، فلما تغير مناخ الدنيا ضاقت حياته، فعجز ومات وانقرض.
وقد بقيت شهورا أقرأ وأفكر في موضوع الدينصور، ثم في ماضي النوع البشري ومستقبله بعد إذ دخلنا في العصر الذري، هذا العصر الخطر الذي تكاد تتغير فيه وجهة التطور بإبادة الإنسان، ثم تحيا الأرض بعد ذلك نحو مليون سنة في الظلام، إلى أن يكون الشمبنزي قد تهيأ للسيادة والتسلط عليها!
نامعلوم صفحہ