فاتجه أبو الوليد إليها وقال غاضبا: متى وصلت إلى قرطبة أيتها المرأة؟ - منذ شهور. - ولم جئت؟ - لا أدري. - ومن الذي ينفق عليك؟ - أهل الخير والإحسان.
فغضب أبو الوليد ودعا عبيد الله بن يزيد صاحب المدينة وقال: اسجن هذه المرأة في المكان الذي كان يسجن فيه أبو الوليد بن زيدون جزاء وفاقا لكل ما اقترفت من إثم وخيانة.
وابتسم ابن زيدون لصاحب المدينة وهمس في أذنه: قل لمخلف السجان أن يحذر هذه المرأة فإنها عظيمة الدهاء، لها في الختل أفانين لم يهتد لمثلها إبليس اللعين، وقل له إن ابن زيدون يقرئك السلام ويوصيك أن تبتعد عن أكل الفالوذج ولو خلط بفستق من الجنة!
الفصل الثالث عشر
كان لقاء ابن زيدون لولادة في فضاء الحرية وبعد انقشاع الهموم لقاء الطائر يعود إلى إلفه بعد أن ظل طويلا يتخبطه الفخ، ويعض حديده جناحه. أو لقاء الصح الباسم بالأمل، لدنف
1
طال به ليل الشكوك، وأقضت فراشه الآلام. كان لقاء اضطربت فيه العواطف، واختلطت طرائق التعبير، ففيه ضحك، وفيه بكاء، وفيه لذة، وفيه ألم، وفيه رضا، وفيه سخط. والعاطفة إذا قويت جاوزت حدها، فانقلبت إلى ضدها. وللنفوس لغة مألوفة في إظهار ما يجيش بها، ولكنها إذا تملكتها عاطفة شديدة عاتية نبذت لغتها زاعمة أنها لا تفي ببث ما فيها، ولجأت إلى النقيض، فبكت للسرور، وضحكت عند ازدحام المصائب. وربما كان من أسباب اختلاج العواطف أن النفس تذكر عند السرور ما مر بها من أحزان، وعند اللذة ما عانته من ألم، فتهم أن تعبر عن العاطفتين في آن، فتتغلب أقواهما أثرا، وأكثرهما عن النفس تفريجا.
كان لقاء عجيبا لو حاول القلم وصفه لعجز القلم. نعم إنهما كانا يلتقيان، ولم يغلق باب السجن يوما في وجه ولادة، ولكن لقاء السجن خير من الافتراق. لقاء أوله أسف، وآخره ألم. لقاء تحيط به القضبان، وتطل عليه أعين الجواسيس. إنه في الحق لم يكن لقاء ولكنه كان إثارة للأشجان، وتنبيها لراقد الهموم.
تكلم الشوق في هذا اللقاء صامتا فأطال وأسهب، وطافت الذكريات عزيزة محبوبة رائعة الألوان ذهبية الحواشي، ولمعت الآمال براقة فتفتحت لها النفوس، وانبسطت الوجوه، ثم أخذ ابن زيدون يصف حفاوة أبي الوليد بن جهور به، واحتفاظه بمودته. وإلحاحه عليه في أن يبقى في خدمته عزيز الجانب ملحوظ المكانة.
فأطرقت ولادة كالمفكرة، وقالت: كل هذا حسن يا أحمد. ولكن احذره فإن الولد صورة من الوالد. وأبو الوليد ورث أباه في كل شيء. وزاده عنفوان الشباب غرورا لم يكن بين صفات أبيه. إن أعداءك لم يناموا عنك طرفة عين يا أبا الوليد، وكأني بابن عبدوس وابن المكري يجمعان اليوم رأسيهما في دسيسة تعود بك إلى السجن. أو تلقي بك في مهاوي الحتوف، فليس من الهين عليهما أن تبعث من القبر المظلم الذي قذفاك فيه سليما ناشطا، تنفض عن أثوابك التراب في مرح وغبطة. وليس من الهين عليهما أن يرياك وقد عدت إلى مكانتك عند الأمير تأمر وتنهي، وتقاد إليك النجائب، وتسير بك المواكب. وليس من الهين عليهما أن تتألق عبقريتك بدار الحكم فيفضح ضوؤها تلك القناديل المريضة، والسرج الخافتة. ثم ابتسمت في استحياء وقالت: ثم إنه ليس من الهين عليهما أن ينتصر الحب على الدسائس، وأن يجمع الله شتيتين لم يكن لهما في الحياة من مأرب إلا أن يفرقاهما. لقد انتهينا من عائشة بنت غالب، وطواها السجن كما يطوي الخضم أشلاء الغريق، وكانت خصما لدودا، وعدوا مثابرا، وكان لها من الدهاء ما لا تنفع معه الرقى، ولا يفيد الحذر، ولكن لا يزال لك بين جنبات قرطبة أعداء وحساد لا يقلون عن عائشة مكرا ومحالا. ولقد كنت فيما مضى يا أبا الوليد جريئا غير هياب، سريعا إلى الثقة بمن حولك، قليل الاعتداد بما يكون وراء الكلام من عواقب، فكبا بك الجواد دون الشوط، ووقفت بك العجلة إلى المجد دون الغاية، وهوت بك التمائم إلى هاوية بعيدة القرار، وأريدك اليوم أن تكون أشد حذرا، وأكثر صمتا، وأبعد عن قرناء السوء، وأقوى على الأيام تجربة ومراسا.
نامعلوم صفحہ