391

وعشقت الأسرة الجاه واستنامت إليه. عاشور نفسه فرح في أعماقه بفسخ خطوبته، وبخاصة أن فسخها لم يحمله إثما. وسعد بحياة النعيم فاعتبر أخاه فائز معجزة من معجزات الأسرة وعبقرية من عبقرياتها. وكان يتطلع بشغف إلى أقمار الأسر في العربات؛ إذ كان يحب الجمال كما يحب التكية، وكما يحب مجد أسرته الحقيقي الذي عبق الماضي بشذاه الطيب النقي. وكان يغدق بلا حساب على الفتوة وشيخ الحارة، وجدد الزاوية والسبيل والحوض والكتاب، وتصدق على الحرافيش. وفيما يتعلق بالحرافيش قالت له أمه: لا تثر مخاوف حسونة السبع، دعهم لي فإني أستطيع أن أوزع الصدقات في الخفاء!

ووافق عاشور إذ كان يعلم أن ثورة الحرافيش لا تمحى من ذاكرة الفتوات!

ولعل ضياء كان أسعد الجميع. عشق الجاه بشغف وشراهة، نعم بالكبرياء في حجرة الإدارة، بالترف في دار الناجي الفاخرة، بالكارتة والدوكار. هام بالثياب الأنيقة والأطعمة الفريدة، اقتنى أجود أنواع البوظة والحشيش والأفيون والمنزول، عبد في أعماقه أخاه فائز، كما عبد رجال الأسرة الأخيار منهم والأشرار على السواء، وكان يقول متباهيا: المهم أن تخرق المألوف!

ولعل حليمة كانت أقرب الأسرة إلى القصد، ولكنها أيضا نعمت بالعز والجاه. وفي المواسم كانت تهرب الصدقات إلى الحرافيش، وغمرت أم فتحية وشكرية بخيرها حتى نسيت المرأة الإساءة وصارت من أقرب المقربات إليها.

18

وظل نداء خفي يدعو عاشور إلى ساحة التكية ليطرب مع الأناشيد ، كما كان يدعوه أحيانا إلى الخلاء حيث كان يرعى الأغنام. وكانت سعادته سماء تظهر في جنباتها قطع السحاب، وأحيانا تركض حتى تخفي وجه الشمس،‏ وقد يدهمه في أعذب اللحظات قلق غامض فيفتر حماسه ويتساءل عما يعنيه ذلك.

ولاحظت حليمة ذلك فقالت له مرة: ما أضيع الرجل بلا زوجة يسكن إليها!

فقال بارتياح خفي: هو ذلك، ولكنه ليس كل شيء!

فسأله ضياء: ماذا تريد أكثر من ذلك؟

فقبل يده ظهرا وبطنا، ولكنه قال لنفسه إن إهانة الفتوة تستكن في جوفه مثل خنجر، وإنه لا يدري بأي وجه يلقى جده عاشور؟ وإن سعادته ينقصها شيء جوهري. تساءل: لم يساور القلق إنسانا وهبه الله النعمة والكمال؟

نامعلوم صفحہ