قال السكاكى والخطيب القزوينى يعرف المسند إليه بالإشارة لتعظيمه بالبعد، نحو { الم ذلك الكتاب } قال السعد تنزيلا لبعد درجته ورفعة محله منزلة بعد المسافة ولفظ ذلك صالح للإشارة إلى كل غائب عينا كان أو معنى، بأن يحكى أولا، ثم يشار إليه نحو، جاءنى رجل فقال ذلك الرجل وضربنى زيد فهالنى ذلك الضرب، لأن المحكى عنه غائب، ويجوز على قلة لفظ الحاضر نحو فقال هذا الرجل وهالنى هذا الضرب، أى هذا المذكور عن قريب، فهو وإن كان غائبا لكن جرى ذكره عن قريب، فكأنه حاضر، وقد يذكر المعنى الحاضر المتقدم بلفظ البعيد نحو بالله، وذلك قسم عظيم لأفعلن، لأن المعنى غير مدرك حسا فكأنه بعيد، وكل ما فرغ المتكلم من التكلم به صح الحكم عليه بحكم الغائب البعيد، لأنه قد انقطع من اللسان، فلم يكن بعد انقطاعه مسموعا فى الحضرة، وجاء القرآن الكريم على ما تعرفه العرب، والله سبحانه وتعالى منزه عن اللسان والجوارح عن كل نقص ومثال. قال القاضى أو لما وصل من المرسل بكسر السين وهو الله سبحانه وتعالى، إلى المرسل إليه صلى الله عليه وسلم، صار متباعدا فأشير إليه بما يشار إلى البعيد، وإنما يعنى بوصوله من المرسل سبحانه وتعالى، وصوله من اللوح المحفوظ، أو من أيدى الملائكة الناقلين، أو من السماء الدنيا، وإنما صحت الإشارة بذا مع أنه للمذكر، وإلى آلم إذا فسر بالسورة، لأنه قد أخبر عنه بمذكر وهو الكتاب، أو هدى أو كلاهما أو لأنه قد نعت بمذكر وهو الكتاب، أو عطف به عليه عطف بيان، أو بدل منه وأل فى الكتاب للكمال، والحقيقة ففيه فصاحة التعريف كأنه قبل الكتاب المنعوت بغاية الكمال المتساهل أن يسمى كتابا، وهذا مما ينتجه قوله آلم أى المؤلف من حروف الهجاء، فاذا وقع التحدى بما ألف منها وكان من جنس كلامهم وعجزوا عنه، فلا بد أنه بالغ حد الكمال، ولا بد أن يتعلق به ريب، كما قال لا ريب فيه، لأنه لا نقص مما تعلق به ريب، وما كان كذلك لا بد أن يكون هدى للمتعقين، كما قال هدى للمتقين، فكل جملة مستتبعة لما بعدها استتباع الدليل للمدلول، وكل جملة مقررة لما قبلها، ويصح أن تكون الإشارة إليه، أعنى إلى الكتاب على أنه نعتها أو بيانها أو بدلها، أى ذلك الكتاب الكامل، أو خبرها، أى ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، ويجوز أن تكون أل فيه للعهد الذكرى، وإنما ذكر فيما نزل هذه الآية من القرآن، مثل قوله عز وجل
إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا
أو ذكر بلفظ { الم } على أنه قسم مراد به السورة أو القرآن أو للعهد الذهنى، فأن القرآن الكريم فى ذهن النبى صلى الله عليه وسلم، لا يخلو منه بتفكر فيما نزل منه وينتظر نزول الباقى، ولأنه معهود فى الكتب المتقدمة، راسخ ذكره فى أذهان من يقرؤها قد وصل ذهنه صلى الله عليه وسلم، أو للعهد الحضورى لحضور بعضه وهو ما نزل، فإن الشىء المتصل إذا حضر عندك بعضه وغاب عنك باقيه مثل حبل قربت لبعضه وتراه، وغاب عنك باقيه يصدق عليه أنه حاضر، قال ابن عصفور كل لام واقعة بعد الإشارة أو أى فى النداء إذا كان مدخولها تابعا لما قبله، أو واقعة بعد إذا الفجائية، فهى للعهد الحضورى، وقد قيل المراد بقوله ذلك الكتاب ما قد كان نزل من القرآن المشار إليه بإشارة الغائب تعظيما لعلو شأنه، وهو فى الحقيقة حاضر إذا اعتبر نزوله حضورا، ويناسب العهد الذهنى ما قيل إن الله تبارك وتعالى وعد نبيه صلى الله عليه وسلم فى منام أو إلهام أو بوحى فى أوائل البعثة قبل أن ينزل عليه شىء من القرآن أن ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، أى لا يبلى ولا يتغير ولا يندرس بكثرة التردد فيه، أى بكثرة تردده المؤدى إلى أن يمحى، فيترك فيندرس وانتفى بسبب كثرة التردد فيه بتكرار قراءته أن يكون باليا مندرسا، وانتفى أن يكون باليا متغيرا مع كثرة قراءته، صانه الله عن أن يغير مع كثرة من يتلوه، والحمد لله. ولما نزل بعضه قال الله تبارك وتعالى هذا هو ذلك الكتاب الذى وعدتك به أو وعده ذلك ببعض القرآن مثل
سنلقى عليك قولا ثقيلا
كأنه قيل هذا الموعود إنزاله بعد ما نزل بعضه، ويناسب العهد الذهنى أيضا ما قيل إن الله وعد بنى إسرائيل أن ينزل لهم كتابا على رسول إلى الناس كافة من ولد إسماعيل، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - صانها الله بفضله - وبها خلق كثير من اليهود نزلت الآية، أى هذا الكتاب الذى وعدت به على لسان موسى وعيسى، أن أنزله عليه فكفروا به وبما أنزل إليه
لا تكذب إن اليهود وقد زا غوا عن الحق معشر خبثاء
والكتاب لغة الضم والجمع، ومن ذلك يقال للجند كتيبة لاجتماعه، وكتبت المال جمعته، وهو مصدر سمى به المفعول مبالغة، وهو القرآن، لكثرة المعانى والألفاظ والحروف فيه، واجتماعها وانضمامها فى الألسنة والصحف واللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون اسما موضوعا لذلك غير مصدر، بل اسم كرجل ولباس، فكما أنه سمى اللباس لملابسته ومخالطته لمن لبسه، كذلك سمى القرآن، لأنه مما يجمع ويضم كما ذكر، ولسنا نحتاج أن نقول إن تسميته كتابا من مجاز الأول بمعنى أنه سيكتبه الناس أو أن نقول إنها باعتبار الإمكان والقوة بأنه قد جمع تحقيقا وبالفعل فى اللوح المحفوظ، نعم قد يقال سمى بذلك قبل أن يكتب فيه، لأن هذا الاسم من جملة القرآن مكتوب فى اللوح المحفوظ، فيحتاج أن نقول هى باعتبار الإمكان والقوة، ومن مجاز الأول أى يؤل إلى الكتابة، وقابل لأن يكتب فى اللوح المحفوظ وما بعده من أوراق وغيرها، أى يضم ويجمع فيها قيل إنه حقيقة فى ضم الحروف بعضها إلى بعض فى الخط، وقيل إنه حقيقة عرفته فى ضم بعضها إلى بعض فى التكلم بها وقرأ ابو عمرو بإدغام هاء فيه فى هاء هدى، وهكذا كل مثلين من كلمتين، ولو تحرك أولهما أو كان قبله ساكن إلا
فلا يحزنك كفره
وما كان تاء الخطاب أو التكلم أو منونا أو مشددا، ومعنى لا ريب فيه، أنه حق ليس أهلا للريب أى الشك، وليس فيه ما يوجب الشك فى لفظه ولا فى معناه لوضوح بيانه، وظهور برهانه كظهور الشمس، وكونه بالغا غاية الإعجاز عند من نظر فيه بعقله نظرا صحيحا، وليس المراد أنه لم يشك فيه أحد، فإنهم قد شكوا فيه، كما قال الله عز وجل
وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله
نامعلوم صفحہ