[2.104]
{ يأيها الذين آمنوا لا تقولوا } لرسول الله صلى الله عليه وسلم { راعنا } احفظنا لمصلحتنا، فإن الرعى حفظ الغير لمصلحته، والمراد راقبنا وتمهل فيما تقول لنا حتى نفهمه، أو راقبنا فيما تقول، وفرغ سمعك لكلامنا فى السؤال والاستفهام، ولما سمع اليهود أن المؤمنين يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم راعنا فرحوا واغتنموا، قالوا كنا نسب محمدا سرا فالآن قد أعلن أصحابه بسبه، فنحن نعلن به، فكانوا يأتونه ليقولوا له راعنا، ولو لم تكن لهم حاجة سوى أن يقولوا ذلك، فكانوا يقولون له ذلك ويضحكون فيما بينهم، فسمعهم سعد بن معاذ رضى الله عنه ففطن لذلك وكان يعرف لغتهم فقال لهم يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذى نفسى بيده لئن سمعت ذلك من أحد منكم يقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا أو لستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا.. } الآية لئلا يجد اليهود سبيلا إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال المؤمنون من سمعناه منكم يقولها أوجعناه ضربا فكفوا، وكان راعنا فى لغتهم العبرانية أو السريانية وجزم بعض بالعبرانية قبحهم الله سبا قبيحا بمعنى اسمع لا سمعت، وقيل من الرعونة وهى الجهل والحماقة إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا، أعنى أن ينسبوه إلى الحماقة قالوا راعنا، وهى فى لغتهم كلمة واحدة، وقيل يقولون راعنا على أنه اسم فاعل عندهم خذفوا ياءه تخفيفا أو لحنا ليوصلوا إلى السب، بمعنى راعينا بالياء من رعى الإبل ونحوها، يخاطبونه أنه راع للإبل أو نحوها، ويضيفونه لأنفسهم، وعلى الأول راعنا فى عنايتهم كلمة واحدة وعلى الثانى مضاف ومضاف إليه، وأما فى الآية فكلمتان أيضا فعل ومفعول وهو مفاعلة من الرعى بمعنى الحفظ، وليست على بابها بل هى المبالغة بمعنى ارعنا، وقد قيل إنه مفاعلة على بابها بمعنى ارعنا ونرعاك، وأنهم نهوا لأن فى هذا المعنى جفاء له، صلى الله عليه وسلم، وقد حض الله تعالى على توقيره صلى الله عليه وسلم وقرأ الحسن راعنا بالتنوين، أى لا تقولوا قولا راعنا أى منسبا للرعونة، وهو قولهم راعنا بغير تنوين، أى أفظنا فإن قولهم راعنا بغير تنوين يوقع فى تلبيس اليهود المراعاة بالرعونة، فهو على هذه القراءة فاعل للنسب، أى ذا راعن كلابن وتامر، وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه راعونا بواو الجماعة تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم. { وقولوا } بدل قولكم راعنا لتفيدوا المقصود وتخرجوا عما يتذرع به اليهود إلى السب والتلبس. { انظرنا } أى انظر إلينا ولا تعرض عنا لنفهم ونتعلم نظر قلب ومحافظة وتفقد الأحوال، أو نظر العين المؤدى إلى ذلك، أو انتظرنا أو أمهل لنا حتى نفهم، يقال نظره بمعنى انتظره، ويويده قراءة أبى انظرنا بفتح الهمزة ثابتة وكسر الظاء من الإنظار وهو الإمهال، طلبوا منه ذلك ليحفظوا ويفهموا.
{ واسمعوا } أحسنوا الاستماع لئلا تحتاجوا إلى قولكم راعنا، فإنه لا معنى لطلب المراعاة فى مسألة بعد فهمها، فإذا لم تحتاجوا إليه لم تذكروه فلم تلبس اليهود به. أو اسمعوا سماع قبول ما يأمركم به وما ينهاكم عنه لا كسماع اليهود، قالوا سمعنا وعصينا، أو اسمعوا بجد ما أمرتكم به وهو أن تقولوا انظرنا حتى لا تعودوا إلى قولكم راعنا، وكأنه قيل إياكم أن ترجعوا إلى قولكم راعنا، وجملة اسمعوا معطوفة على جملة قالوا لا على جملة انظرنا. { وللكافرين } اليهود الذين يقولون لرسول الله، صلى الله عليه وسلم راعنا مريدين الطعن، أو اليهود الكفار، أو جملة الكفار. { عذاب أليم } أى مؤلم فى الدنيا كالقتل والسلب والإجلاء، فى الآخرة والقبر.
[2.105]
{ ما يود } ما يحب ويتمنى، فإن الرد محبة الشئ مع تمنيه، وقد يستعمل فى الحب وحده وفى التمنى وحده. { الذين كفروا } بمحمد، صلى الله عليه وسلم، والقرآن. { من أهل الكتاب } اليهود والنصارى، ومن للبيان، وهم أهل الكتاب فإن الذين كفروا عام، فبينه بأهل الكتاب والمشركين، كما عطفهم على أهل الكتاب فى قوله { ولا المشركين } أى ولا من المشركين، والمراد بهم جميع المشركين من العرب والعجم. { أن ينزل } فى تأويل مصدر مفعول يود. { عليكم من خير } من صلة للتأكيد وخبر نائب ينزل وهو عام لكل خبر من الوحى. قرآنا وغيره، والعلم والنصر، ومن صحة الجسم ونفاذ القول والجاه والعافية والمال والماء والنبات وغير ذلك من نعم الله جل وعلا التى لا تحصى، فيحمل الإنزال على ما يعم ذلك مثل الإنعام. وقيل الخبر القرآن، قيل العلم والنصر والتحقيق ما ذكرته لك من العموم. { من ربكم } من للابتداء، زعم جمع من اليهود أنهم يحبون المؤمنين وأنهم يحبون لهم الخير والمودة، وأظهروا ذلك، فنزل تكذيبا لهم قوله تعالى { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم }. { والله يختص برحمته } هى النبوة والرسالة، وفسرها الحسن بالنبوة. { من يشاء } أن يرسله أو يستنبئه ويعلمه الحكمة، وينصره فضلا منه وعدلا وليس شئ منه جورا وليس شئ واجبا عليه. وقيل إن اليهود حسدوه، صلى الله عليه وسلم، على الوحى وحسدوا المؤمنين، وكرهوا نزوله فنزل قوله تعالى { ما يود الذين كفروا... } الآية أو يبحث فيه بأنها لو نزلت فى شأن كراهتهم لكان الرد عليهم وفضحهم بمثل قولك إنهم حسدوهم، وكرهوا ذلك لأن نفى الود لا يستلزم الإنكار على ردهم وفضحكم لأنه يمكن أن يكون الإنسان غير كاره لشئ ولا واد له، بل غافل عنه مع علمه به أو مسيغ له بلا كراهة ولا وداد، فتبين أن سبب النزول ادعاؤهم أنهم يودون المؤمنين والموحى كما رويته فيما مر، وكما قيل إن المسلمين قالوا لخلفائهم من اليهود آمنوا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، قالوا ما هذا الذى تدعون إليه بخير مما نحن فيه، والله لنودن أن يكون خيرا مما نحن فيه، أو أنا نود ذلك، فأنزل الله جل وعلا { ما يود الذين كفروا.. } الآية اللهم إلا أن يقال عبر بذلك ليبين أن من شاء الإيمان وأهله أن يوده أهل الكتاب وغيرهم. { والله ذو الفضل العظيم } يتفضل بالنبوة والرسالة وغيرهما على من يشاء، ومن ضيق عليه فى معيشته أو صحة بدنه أو غيرهما فلحكمة علمها لا لضيق فضله، وعبر بالفضل إشعارا بأن النبوة والرسالة من الفضل، وبأن كل نعمة فهى فضل منه لا وجوب واستحقاق.
[2.106]
{ ما ننسخ من آية } نزل حكمها ولفظها أو حكمها فقط أو لفظها فقط، فإن من معانى النسخ الإزالة، والآية من هذا المعنى كنسخ الليل والنهار والنهار والليل، والظل والشمس والشمس الظل، والشيب الشباب، فبعض القرآن منسوخ وأكثره غير منسوخ، ويطلق مع بقاء الناسخ فى موضع المنسوخ وبدون بقائه كنسخ الأثر بالريح، ومواضع فى القرآن مثل نسخ الناسخ، ويطلق النسخ أيضا على تحويل الشئ من موضع لآخر، تقول نسخت تراب الدار، أى نقلته إلى المزبلة، وفى هذا المعنى إزالة لكن من موضع لآخر بلا إفناء، بخلاف الإزالة فى المعنى الأول فإنها بمعنى الإفناء، وليس شئ من القرآن بهذا المعنى منسوخا، ويطلق النسخ أيضا على النقل مع الإبقاء لأصل المنقول منه، فالقرآن على هذا كله منسوخ، لأنه كله منسوخ من اللوح المحفوظ، ولا يطلق عليه هذا النسخ إلا ببيان أنه من اللوح المحفوظ، وهو فى المصاحف مشابه به لا فى اللوح المحفوظ لفظا وخطا. وقد ذكر منه فى القرآن
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
وقال مكى إنه لا يصح هذا الوجه فى القرآن، لأن الناسخ لا يأتى بلفظ المنسوخ، بل بلفظ آخر ويرده قوله تعالى
وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم
نامعلوم صفحہ