تعلم شفاء النفس قهر عدوها
وأما ما رواه الدمامينى والشيخ خالد عن يعقوب بن الكسيت أن من العرب من قد يقول تعلمت أن زيدا خارج بمعنى علمت، فقيل لا ينهض حجة لقتله وعدم ورود غيره من التصاريف بعد الأمر على ابن هشام، والأعلم قبله فلا يحمل عليه القرآن. { حتى يقولا إنما نحن فتنة } يقولون هذا نصحا لمن جاءهما لتعلم السحر، أى إنما نحن ابتلاء من الله للناس، أرسلنا الله نعلم السحر لمن جاءنا، فيسعد من اتقى الله ولم يجئنا للسحر، أو جاء ليعلمهم فيتوقاه ويميزه عن المعجزة، ويشقى من جاء ليتعلمه فيعمل به أو ليعلمه لمن يعمل به، ففى الآية دليل على جواز تعلم ما لا يجوز عمله، بنية توقيه وتمييزه والعلم به، لينهى عنه إذا رآه، كمعرفة الأزلام والأنصاب والميسر، وما معرفة ذلك إلا كما نعرف مذهب المخالفين لنتوقاه ما وجدنا عنه سعة، وكما نعرف ديانتهم المختصين بها لنتوقاها أصلا، وكما نعرف الخمر لنتركها ونهرقها وننهى عنها ونحد، ونميزها عن الخل، فإن معرفة الشئ تزداد بمعرفة ضده ونقيضه، ولا يجب عندى بعد استفراغ وسعى، معرفة مذهب المخالفين وديانتهم، بل الواجب معرفة الحق فقط ما لم يقارف سواه مما يدرك بالعلم، ويجوز أن يكون المعنى إنما نحن مفتونون ولسنا على حق، بل على باطل، لكن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا إنهما رجلان لا ملكان، والوجه الأول على أنهما ملكان. { فلا تكفر } بعمل السحر واعتقاد جوازه والدخول فيه، كما لا يجوز وهذا على أنهما ملكان أو رجلان، ويجوز على أنهما رجلان أن يكون المعنى فلا تكن كافرا مثلنا، وإذا قالا إنما نحن فتنة فلا تكفر وأبى إلا التعلم علماه، وقيل يقولان له سبع مرات فإن أبى علماه، وحفظت أن امرأة جاءتهما لتعلم السحر، فقالا لها ذلك، وقالا لها ارجعى، فأبت، فقالا لها بولى فى ذلك التنور، فذهبت إليه ورجعت وقالت قد فعلت، فقالا لها فماذا رأيت قالت ما رأيت شيئا، فقالا لها كذبت ارجعى وبولى فيه، فبالت فرجعت إليهما فقالت لهما قد بلت. فقالا ما رأيت، قالت رأيت فارسا خرج منى مقنعا بحديد وصعد إلى السماء ، فقالا صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، وذكروا أنهما يقولان لمن أراد السحر بعد ما ينهيانه عنه ويأبى اذهب إلى ذلك الرماد فبل فيه، فإذا فعل ذلك خرج منه نور ساطع فى السماء وهو الإيمان والمعرفة، وينزل شئ أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه، وذلك غضب الله، فترى يا أخى متعاطى السحر يقع فى الشرك من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، ولا سيما من يتناوله من اليهود أو يتعلمه منهم، ولا نحكم عليه بالشرك حتى يتبين فى فعله أو قوله شرك، وقد ذكر بعض الأئمة أن السحر لا يصح إلا من كافر، لأن الأرواج التى تعينهم على القتل قد أخذ أكابرها عليها العهود أنها لا تعين ساحرا، إلا إن خرج من دين الإسلام، وأنه يؤيد ذلك ما قصه الله تعالى عن هاروت وما روت أنهما لا يعلمان أحدا السحر حتى يقولا له إنما نحن فتنة فلا تكفر، قال أبو المعالى عبد الملك إمام الحرمين صاحب الورقات لا يظهر السحر إلا على يد فاسق، كما لا تظهر الكرامة إلا على يد ولى، ولا نسلم أن الكرامة لا تظهر إلى على يد ولى، بل تكون بكثرة اليقين والتجرد، ولو من مخالف أو من موافق غير متولى، ولا تكون دليلا على كونه وليا لله عز وجل وعن مالك السحر زندقة قال وإذا قال رجل أنا أحسن السحر قتل ولم تقبل توبته، وعن سفيان الثورى إتيان الكاهن وتعلم الكهانة والتنجيم، والضرب بالرمل والشعير وتعلمها حرام بالنص الصريح.
وعن ابن قدامة الحنبلى حكم الكاهن وضارب الرمل عند أحمد أن يحبسا حتى يموتا أو يقتلا، قال وأما الذى يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن وأنهم يطيعونه، فذكره الحنابلة فى السحرة، وتوقف أحمد فيهما قلت لا كفر بمجرد علم التنجيم إلا أن قال صاحبه إنه يعلم الغيب قطعا أو ذكر ما يفسق به أو يشرك، إما أن اعتقد إنما يظهر له إنما هو إمارة فلا معصية فيه، وقد تمهر فيه أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم ومن قبله الإمام عبد الوهاب والإمام أفلح وغيرهما، وكذا من يعزم على المصروع لا يكفر إن لم يشرك بفعل أو قول، وليس الشرك بفعل غير واقع. بل واقع مثل أن يقول له الشيطان أنا ربك أو نحو ذلك من الشرك، فيشير برأسه نعم، أو ينكر بإشارة رأسه أو عضو من أعضائه إلى بطلان الوحدانية، أو الرسالة أو الكتاب، أو نحو ذلك مما إنكاره شرك. وقد سئل سعيد بن المسيب عن الرجل يوجد عنده من يداويه، فقال إنما نهى الله عما يضر فإن استطعت أن تنفع أخاك فافعل. { فيتعلمون منهما ما يفرقون به } من السحر. { بين المرء وزوجه } كتغطية الشئ فى نظر العين بما ليس من نوعه، وتخييل غير الموجود أو إلقاء ريق قيل جدا على مواضع من خيط عند عقد تلك المواضع ونحو ذلك، مما يكون سببا للبغضاء بين الزوجين والنشوز والغضب والتخالف، وخالق ذلك السبب وأثره هو الله سبحانه وتعالى، والمراد بالتفريق بينهما التسبب المؤثر بإذن الله فيها بالطلاق أو الفداء ونحو ذلك، ويحتمل أن يراد به التسبب المؤثر به تعالى فى ألا يقدر على وطئها، ويحتمل ذلك جميعا.
وليس فى الآية حظر التعلم منهم فى تعلم ما يفرق بين الزوجين، وقد روى تعلم غير ذلك منهما، واقتصر بعض على ما ذكر من التفريق بينهما فقال لا يعلمان إلا التفريق بينهما ولا يعلم منهما إلا ذلك، وقرئ بضم الميم وكسرها مع الهمزة وبالمد بالتشديد على تقدير التخفيف بحذف الهمزة والوقف على لغة تشديد الموقوف عليه، وعلى إجراء الوصف مجرى الوقف، والواو فى يتعلمون عائدة إلى أحد لأنه فى سياق النفى فعم عموما شموليا ولا سيما قد دخلت عليه من التى هى صلة للتأكيد، وكذا ضمير الجمع فى قوله { وما هم بضارين به } أى بالسحر أو بما يفرقون به بين المرء وزوجه ويجوز عود ضمير الجماعة إلى السحر المعلومة من المقام، وليس هذا الوجه عين الأول، لا يلزم من كون الإنسان متعلما للسحر كونه ساحرا. { من أحد } مفعول ضارين ومن صلة للتأكيد. وقرأ الأعمش وما هم بضارى من أحد بحذف النون للتخفيف أو للإضافة إلى أحد، ولم يعتد بالفصل بالجار والمجرور لتعلقه بالمضاف ولا بمن الجارة، لأنها زائدة ولأن الجار بمنزلة جزء من مجروره. { إلا بإذن الله } بإرادته وخلقه لتلك المضرة، وفى الآية رد على أبى حنيفة إذ زعم أنه لا أثر للسحر فإن الآية قد أثبتت المضرة بالسحر، وقيدته بإذن الله، ولعله يقول إن المضرة عند وقوع السحر من الله، بسبب دخول الساحر فى عمل السحر لا بما يفعله من السحر، وأن المراد وما هم بضارين به بملابسة السحر والدخول فيه إلا بإذن الله، ومثل هذا على ما ترجيته لأبى حنيفة ضربك إنسانا بخشبة عند رؤيتك عبدك مشيرا إليه بسيف من غير وقوع سيفه عليه، والمتبادر هو ما ذكرته أولا، وقال الحسن معنى الآية لا يضر كل ساحر مسحوره كلما سحره، بل يسلط الله المضرة على من يشاء ويمنعها عمن يشاء ويوقعها مرة ويمنعها أخرى. { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } هو السحر، لأن تعلمه يجر إلى العمل به والعمل به كفر يؤدى إلى النار، ولأنهم يقصدون به العمل، وقصد عمل السوء سوء، ولأن تعلمه قد يجر إلى إباحته، وإباحته كفر، ولأن منه ما هو شرك بالله فالضرر يحصل به فى الآخرة، وقد يحصل به فى الدنيا والآخرة، كما إذا سحر فعوقب بسحر أو بغيره كضرب وقتل، ولا نفع فيه فى الآخرة أصلا، ولا فى الدنيا إلا نفعا قليلا غير معتبر، زائلا لا بركة فيه، كما إذا سحروا بأجرة، بل أجرة الحرام ممحقة، وقد تفسر الآية بمجرد التعلم فإنه لا نفع فيه أصلا، وفى الآية الإشارة إلى أن تركه أولى، أعنى ترك تعلمه ولو بلا عمل به لأنه قد يجر إلى العمل به، وضمائر الجمع عائدة إلى ما عاد إليه الضمير فى قوله { وما هم } أى اليهود كما فى قوله { ولقد علموا } أى اليهود.
{ لمن اشتراه } أى اشترى السحر أو ما تتلو الشياطين، والمعنى واحد، والأول أقرب لقرب ذكر السحر بالنسبة إلى ذكر ما تتلوا، ولقرب ضمائره، والثانى أنسب بلفظ الاشتراء، وكلاهما صحيح، فإن المعنى لمن استبدل ما تتلوا الشياطين بما يتلى من كتاب الله، والمراد بالاشتراء الاستبدال كما رأيت والاختيار، وهو ملزوم الاشتراء. واللام فى لمن لام الابتداء، لا لام قسم كما قيل، ومن مبتدأ وجملة قوله { ما له فى الآخرة من خلاق } خبر المبتدأ والمبتدأ والخبر مفعولان لعلم علق عن نصب لفظهما إلى نصب محل مجموعهما بلام الابتداء، والخلاق النصيب أو الجاه والقدر، ولا يتعين الجاه والقدر هنا كما قال بعضهم والآخرة يوم القيامة أى المدة الأبدية الآخرة أو الدار الآخرة وهى الجنة. قال الكلبى ماله فى الآخرة نصيب من الجنة، وله خبر وخلاق مبتدأ أو متعلق بمحذوف وجوبا وخلاق فاعله، وفى تتعلق بله لنيابته عما يتعلق فيه أو بمحذوف حال من خلاق إذا جعلنا خلاق فاعلا. { ولبئس } اللام للابتداء داخلة على الفعل الجامد لكونه كالاسم، أو واقعة فى جواب قسم محذوف. ذكر الوجهين ابن هشام قولين مرجحا ثانيهما { ما شروا به } الهاء عائدة إلى ما، وما واقعة على السحر قيل أو الكفر. { أنفسهم } باعوا به أنفسهم إذ سلموا أنفسهم للنار، وأخذوا السحر عوضها أو تعلم السحر والمخصوص بالذنب محذوف، أى تعلمهم إياه أو السحر أو الكفر، وقد سبق كلام فى نحو ذلك، وذكر الشيخ هود رحمه الله أن كل شئ فى القرآن شروا وشروه فهو بيع، وكل شئ فيه اشتروه واشترى فهو الشراء إلا قوله { بئس ما اشتروا به أنفسهم } فإنه يعنى به بئس ما باعوا به أنفسهم انتهى. وليس ذلك متعينا بل ذلك كله محتمل فى مواضع. { لو كانوا يعلمون } حقيقة يصيرون بالسحر إليه من العذاب أو يعلمون قبحه على اليقين أو يتفكرون فى ذلك، وجواب لو محذوف دل عليه ما سبق على معنى قولك، ليس عندهم لو كانوا يعلمون، أو محذوف هكذا أى ما تعلموه. قال الحسن لو كانوا يعلمون علما حقيقا علم الأتقياء والأبرار ما اختاروا السحر، قيل الضمير فى يعلمون لليهود إجماعا، والإجماع على هذا فرع الإجماع عليه فى علموا. وإن قلت قوله { لقد علموا } إثبات للعلم لهم على سبيل التأكيد، وقوله لو كانوا يعلمون نفى له عنهم لأن لو امتناعية والامتناع نفى. قلت لا منافاة، لأن المعنى لقد علموا علما عزيزيا، وهو مجرد الإدراك والفهم الظاهر، وليس عندهم ما اشتروا به أنفسهم لو كان يعلمون العلم الحقيقى وهو المتتبع بالامتثال، ولقد علموا بقبح ذلك وترتب العقاب من غير يقين، ولبئس ما شروا به أنفسهم ول يتقنوا وحققوا، أو المعنى لو كانوا يتفكرون كما مر، أو المعنى لو كانوا يعملون بتقديم الميم على اللام، فعبر عن عدم العمل بما وضع لعدم العلم، فإن من لم يعمل بما علم كمن لم يعلم.
[2.103]
{ ولو انهم آمنوا } أى ولو ثبت أن اليهود آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن. { واتقوا } أى تركوا المعاصى من السحر واليهودية المحرمة وغيرهما تركا شبيها بترك ما يهرب منه خوفا من إهلاكه، وإنما قلت هذا لما تقرر عندى أن المتقى هو من يترك المعصية كما يترك السم خائفا منه مقشعرا منه. فدرجة التقوى عندى فوق درجة ترك المعصية، لأنها قد تترك لا بهذه الكيفية. { لمثوبة } ثواب، وقرئ لمثوبة بإسكان الثاء وفتح الواو كما يقال مشورة بضم الميم وإسكان الواو، ومشورة بإسكانها وفتح الباء وذلك الثواب الجنة. { من عند الله خير } مثوبة مبتدأ، واللام مبتدأ وخبر خبره، والجملة جواب لو بناء على أنه يجوز أن يكون جملة اسمية، قال ابن هشام قيل وقد يكون جملة اسمية مقرونا بالفاء أو باللام، كقوله سبحانه { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير } وقيل هو جواب لقسم مقدر. وقول الشاعر
قالت سلامة لم يكن لك عادة أن تترك الأعداء حتى تعزرا لو كان قتلى يا سلام فراحة لكن فررت مخالفة أن أوسرا
وعلى أن الجواب هو الجملة الاسمية، فهى منقولة من الجملة الفعلية، لتدل على ثبوت المثوبة وتجعل خيرية ركنا فى الإسناد، فتكون أكيدة والأصل لا يثبوا مثوبة من عند الله خير، فجعل مثوبة مبتدأ بعد أن كان مفعولا به وخيرا خبره بعد أن كان نعتا لمثوبة. وإذ قلنا إن الجواب محذوف وهو الصحيح فتقديره لأثيبوا بالجنة وتكون اللام فى لمثوبة لام الابتداء عندى لا كما قيل إنها فى جواب قسم محذوف، أى والله لمثوبة لعدم الدليل على القسم، ونكرت المثوبة وأبهمت مع أنها الجنة للتعظيم والتفخيم، ولو قيل للمثوبة أو لمثوبة الله لكان الكلام غير دال على ذلك، ويجوز أن يكون التنكير للتبعيض، أى لشئ من الثواب خير، وحذفت من التفضيلية ومجرورها صونا لمثوبة الله من أن يذكر معها فى مقام المقابلة والنسبة بأن التفاضل السحر أو نحوه فإن التقدير لمثوبة من عند الله خير من السحر، أو مما شروا به أنفسهم، وإنما ساغ التفضيل لأن السحر فيه منفعة لهم فى زعمهم، فأخبر أن منفعة الإيمان والتقوى أفضل منها، فلا تحتاج إلى ما قيل إن خيرا خارج عن التفضيل أو كلمة بمعنى شئ مرغوب فيه، ومن عند الله نعت مثوبة، وسمى الجزاء ثوابا لأن المحسن يثوب إليه أى يرجع إليه، فإن لفظ ثاب بمثلثة يكون بمعنى رجع، كما يكون تاب بمثناة بمعنى رجع، ويجوز أن تكون أو للتمنى إما مصروفا إلى الخلق بمعنى أن ينظر لهم الصلاح يتنمى لهم أن يؤمنوا ويتقوا، أو أنهم لو عقلوا لتمنوا أن لم يصدر منهم الكفر، أو أنهم يتمنون ذلك إذا عاينوا الموت أو فى يوم القيامة، وإما مجازا عن اختيار الله عز وجل لهم الإيمان والاتقاء.
ولو التى للتمنى لا جواب لها، فاللام بعدها للابتداء. { لو كانوا يعلمون } أن ثواب الله خير، وجواب لو هذه محذوف أى لو كانوا يعلمون لمثوبة من عند الله خير عندهم أو لظهر لهم أنها خير، ويجوز كونها للتمنى لا جواب لها، وعلى كل حال فهى نافية للعلم عنهم، إما على الشرطية فلأن الامتناع نفى وإما على التمنية فلأن تمنى الشئ فرع عدمه، فهم جاهلون لترك التدبر، أو لترك العمل فإن من تركه جاهل ولو كان عالما، ويجوز أن يراد لو كانوا يعلمون علما نافعا وكذا فى مثله.
نامعلوم صفحہ