ركبه عنف طبعه المستتر المستمد من أعماق حارته قال: لا شيء. - ولكنك فعلت شيئا بلا ريب؟ - أبدا. - ألم تعاين الشقة؟ - كلا.
فاسود وجهها من الحزن وقالت: معذرة .. هل ينبغي أن أضع النقود بين يديك؟ - كلا. - الحق أني لا أفهمك .. - إني واضح جدا. - ماذا تعني! .. لا تعذبني من فضلك. - ليس في نيتي أن أفعل شيئا ..
فقالت بنبرة مرتعشة: اعتقدت أنك وافقت ووعدت .. - ليس في نيتي أن أفعل شيئا .. - إذا لم يكن لديك وقت الآن ... - لا وقت لدي .. ولن أجده في المستقبل ..
تنفست أصيلة بصعوبة وقالت بصوت متهافت: صدقت أن شعورك مختلف ..
فاعترف قائلا: لا خير في، هذه هي الحقيقة ..
تراجعت كأنما طعنت. ارتدت فستانها في عجلة. ولكنها انهارت على الكنبة مرة أخرى في إعياء أسندت معه رأسها إلى كفها وأغمضت عينيها حتى توقع أن يغمى عليها. دق قلبه بعنف أيقظه من فتوره وقسوته. لو وقع ما ليس في حسبان فربما يتعرض لفضيحة منذرة بأوخم العواقب. الطريق شاق ومرير رغم ما يتمتع به من حسن السمعة، فكيف إذا دهمته فضيحة مما ترحب الصحف بالحديث عنها؟! أوشك أن يغير سياسته كلها، أن يخاطر بكذبة جديدة، ولكنها تحركت في آخر لحظة. قامت بشيء من الصعوبة، مضت نحو الباب بهدوء وأسى، ثم اختفت عن نظره. تنهد في ارتياح عميق. قام إلى النافذة ينظر إلى الحارة شبه المظلمة حتى رأى شبحها يمرق من الباب، ثم يوغل نحو طرف الحارة الموصل إلى الجمالية، وسرعان ما ذابت في الظلام تماما.
وقال لنفسه: إن أحدا لا يعلم الغيب؛ ولذلك يتعذر الحكم الشامل على أي فعل من فعالنا، بيد أن تحديد هدف للإنسان يعتبر هاديا في الظلام وعذرا في تضارب الحظوظ والأحداث، وهو مثال على ما يبدو أن الطبيعة تترسمه في خطواتها اللانهائية.
27
أما أنسية رمضان فهو يحبها. عليه أن يعترف بذلك أمام ضميره وأمام الله. منذ عهد السبيل الأثري لم يصدر عن قلبه مثل هذا اللحن العذب؛ ولذلك فعليه أن يخشاها أكثر من أي امرأة أخرى في الوجود. وهي أيضا تحبه؛ مما يضاعف من خطورة الأمر. العروس التي لا تدفع إلى الأمام ترجع إلى الوراء. ولعله كان يتزوجها بلا تردد لو أن الذي بينه وبين درجة حضرة صاحب السعادة خطوة واحدة، أما والحال على ما هو عليه فلن يجني من الزواج سوى المتاعب والهموم اليومية التي تستهلك القوى البشرية في غير ما خلقت له.
وجاءه يوما حسين أفندي جميل ليعرض البريد كالمعتاد، فلما وقع عليه بتوجيهاته لم يذهب كالمتوقع. إنه شاب من موظفي المحفوظات عمل تحت رئاسته خمس سنوات متتابعة وعرف بالمواظبة وحسن السلوك. - أتريد شيئا يا حسين أفندي؟
نامعلوم صفحہ