رأى نارا تقترب وهي تصفر. وعقب اختفاء المرأة فكر بالليالي الطويلة التي ستلحق بليالي ألف ليلة وليلة، لا الليالي التي تنفق في الدراسة والترجمة وخدمة حضرة صاحب السعادة، قربانا على طريق المجد الذي اختاره منذ أول يوم كرمز متاح للأشواق اللانهائية. فترت رغبته في المرأة لشدة اندفاعها الأرعن وجودها بنفسها بلا تحفظ. إنها لا بأس بها لو تحل محل قدرية ولكنه رأى فيها نارا تقترب مصفرة تود أن تلتهمه هو وآماله المقدسة الموصولة بسر كلمة الله العظيم. لن يسمح لقوة أن تقتله إلا الموت نفسه باعتباره سرا من أسرار الله مثل مجده الملهم، وما دامت الزوجة المجهولة التي سعى إليها طويلا لم تقبله فلا يصح أن ينهزم ويستسلم لتسول الأرامل والعوانس.
وسمع نقرا على باب حجرته. ذهل عندما رأى أصيلة وهي تتسلل إلى الداخل متعثرة في خجلها وذلها، قالت بارتباك: صح عزمي على المجيء، وقلت لنفسي إذا لمحتني عين قصدت شقة أم حسني كأنما جئت أصلا لزيارتها ..
وجلست على الكنبة وهي تلهث فقال ملاطفا: فكرة طيبة .. - هل ضايقك حضوري؟
فقال والنشاط يدب في أعماقه: بل سرني فوق ما تتصورين .. - ولن تلبث أم حسني حتى تنام، هل يكدرك أن تشك العجوز فيما حصل؟ - ألبتة ..
وتبادلا نظرة طويلة تبدت تحت سيالها الغامض امرأة عارية من أي أثر للكبرياء، محض عاشقة مهدرة الدفاع. وسألته برقة ورجاء: ماذا فعلت؟
أفاق تماما من الدهشة. صدفت نفسه عن أي موضوع وتركزت في الرغبة المتجسدة في صورة امرأة مستسلمة. تناول يدها البضة الباردة بعد أن شفط القلب المتقلص الدم من الأطراف. وضغط عليها ضغطات متوترة باعثا برسائله الخفية. لم تتوقع ذلك أو بذلك تظاهرت. أرادت أن تسحب يدها فلم يسمح لها فقالت: ماذا فعلت؟ - سنناقش ذلك فيما بعد .. - ولكنك لم تحاول الاتصال بي؟
مال نحوها حتى قبل خدها وهمس في أذنها: فيما بعد .. فيما بعد .. - ولكني جئت لذلك. - سيكون لك ما قصدت ولكن فيما بعد.
همت بالكلام ولكنه سد فاها بقبلة غليظة وطويلة وهو يقول بحدة: فيما بعد ..
وأعلن لحن الألحان اللانهائية للطبيعة عن تغريده المتجسد بنشاط موفور وفرحة كالمعجزة. وسرعان ما خفت تغريده حتى العدم متراجعا إلى نوم أبدي، مخلفا وراءه صمتا مريبا وراحة فاترة مشبعة بالأسى. رقد على جنبه فوق الفراش على حين انحطت فوق الكنبة معرضة قميصها وحبات العرق فوق الجبين لضوء المصباح العاري. نظر إلى لا شيء لا ينشد شيئا كأنما قد أدى المطلوب منه في الحياة الدنيا. وحانت منه التفاتة إليها فأنكرها كلية. كأنها شيء غريب يخرج من باطن الليل، غير الكائن السحري الذي جره إلى السعير، شيء أخرس بلا تاريخ ولا مستقبل له. وقال لنفسه إن لعبة الرغبة والنفور ما هي إلا تمرين على الموت، والبعث، وإدراك مسبق لقبول المأساة بعظمة تناسب المجهول فيما يبدي من لمحات خاطفة عن ذاته اللانهائية. ودرجة المدير العام آية أخرى ولكنها تجل للإرادة الشامخة لا للاستسلام العذب! وحمدا لله فقد تحصن بالبرود العاقل والقاتل أيضا. وها هي المرأة ترغب بلا شك في العودة إلى موضوعها الهام ولكن من خلال تردد وخجل. تتمنى لو يبدأ هو. ولما يئست نظرت إليه بابتهال وأسى وغمغمت: نعم؟
عجب لغرابة صوتها وتطفله على وحدته المقدسة، ووجد نحوها نفورا ثابتا يوشك أن يصير كراهية. إنها تريد أن تهدم البناء الذي يشيده حجرا على حجر. سألت: ماذا قلت؟
نامعلوم صفحہ