إني أرى الذين لا يعرفون جمال الطبيعة ولا يفقهون حديثها يتخيلونها أبدا باكية؛ لأنهم من لواعج الهموم بحيث صارت الدموع أسرع إلى أعينهم من الابتسام إلى أفواههم؛ وقد أبوا على العيون إلا أن تمتزج فيها الروح بالمادة فجعلوا أكثر عملها البكاء، إما بالدمع الذليل وإما باللحظ المستكين الذي يكاد يدمع من ذلته، أما الأفواه فحسبها من صناعة العيش في أكثر من تراهم في الأرض مضغ الطعام ومضغ الكلام، فهي قليلا ما تبتسم وكثيرا ما يكون الابتسام فيها شنعة فلا ترى إلا أفواهها قد جلعت
4
كأن القلب يتهيأ ليتفل منها على وجوه أولئك الأصدقاء الذين يدعون الصداقة بوجوههم الكاذبة!
وقد أحسب في أصل البكاء أن روح الإنسان لا تزال تتأذى أحيانا مما يطيف بها من أدران المادة حتى إذا أرادت أن تنحي ذلك عنها اغتسلت في باطنه بنور ينبجس لها من القلب ثم ينحدر عنها إلى العين فلا يخالط الجفن حتى تبتدر إليه الدموع فترسله وكأنه لما فيه من الحياة عاطفة قلبية أسرف عليها الهم في ضغطه فذابت؛ وقد يستطير ذلك النور في الابتسام فلا يذهب إلى العين بل يسترسل في طريق الدعاء والكلم الطيب من الفم ويكون في الشفاه معنى البكاء كما هو في الأجفان البكاء بمعناه!
ولكن ما بال هذه الدموع القذرة التي أصبحت رقاعة أو صناعة في الأعين. وهل هي نور أو مادة سائلة تجري من القلب الخبيث كلما نكبه أمر فانقلب فهراق ما فيه؟ إننا لا نعرف من أمرها شيئا، فإن الإنسان لم يهتد بعد إلى علم تحليل الدموع تحليلا نفسيا، وما أحسبه سيهتدي؛ وهو على أن تاريخه في الأرض مغمور بالدموع كالأرض نفسها ثلاثة أرباعها مياه، فإنه لا يحسن إلى اليوم أن يرد العبرات قبل انهمالها من أعين الباكين والمحزونين إذ ليس إحسانه من قوة الروح بحيث يتغلغل في مسالك هذه العبرات؛ وما تحليل الدموع إلا درس لمذاهبها في النفس؛ وهيهات ذلك في عالم المادة هيهات!
بيد أنا لو أبصرنا الملائكة حين تمر على أكثر من يبكون صناعة أو تصنعا أو مصانعة، لأبصرناها بلا أنوف؛ لأن لها قوة التشكل فيما تختار من الهيئات، وهي تخشى أن تصعد إلى السماء وحشو آنافها من رائحة ذلك الدمع الرنيء الذي درنت به الأجفان المترعة وكاد يكون صديدا تقيحت به جروح العواطف فانفجر.
ابك أيها المحزون، فإنك ستجد من يكفكف دموعك كما وجدت من أرسلها، ولكنك لا تجد من يتداركها ويردفك منها خيرا؛ لأن أهل الخير لا يعرفون حزنك - إن عرفوه - حتى تبكي بالعين الثرة، وحتى تتوسل إليهم بالطرف المغرورق؛ كالطبيب لا يعرف مرضك في صحتك ولكنه يبلو مرضك فيعرف كيف كنت وكيف تكون.
وقد قيل لفيلسوف أملق حتى ساء عليه أثر الفقر: من يدفنك إذا مت؟ فقال: من يؤذيه نتن جيفتي! ... وكذلك لا يدفن دموعك إلا من يؤذيه منظرها من أهل النفوس الرقيقة، فإنهم لا يحتملون أن يروا من عينك جيفة هم تسيل بها وتنزى ... وإذا أصبت في الناس لم يتسبب لإرسال دمعة من عين إنسان أصبت فيه من يهتاجه منظر الدمعة في عين الإنسان.
إن الأطفال يحبون فطرة أن يعبثوا بالماء ويتغامسوا فيه؛ فلا أنكر على الرجال محبتهم أن يعبثوا بالدموع؛ ولكني أستنكر الإنسان يجعل قلبه شاطئا لأرجلهم إذ يخوضون فيه خوفا، ولا يجعله لجة تجيش على أعماق من نفسه وعواطفه فلا ينطوي لها شيء إلا طوته ولا يدافعها شيء إلا دفعته؛ ولست أصدق الضعفاء الذين يزعمون أن أحدا من الناس لا يطيق أن يجعل الصبر على ما يبتلى به من مجاهدة نفسه عنصرا من عناصر الحياة، فإني لأرمي بعيني ولا أرى أحدا إلا وجدته يتحمل أكثر الناس لضرورات الحياة الجسيمة، ولو هو رغب في الحياة النفسية لقضت عليه ضرورتها أن يحمل من نفسه ولو كارها بعض ما يحمله من الناس كارها أو راضيا، والمرء حين يضل زمام النفس من يده إنما يضل طريقه الذي اختطه في الحياة، وتعتسف به النفس طرق الآخرين فلا يزال فيها تابعا أو مطرودا، وهما خطتا نكر خيرهما وشرهما على الحر سواسية. وليت شعري ما هي الهموم؟
إن الإنسان يفسر هذه الكلمة المفردة بمجموع ما حفظ من تاريخ مصائبه، ويرى أنه لم يفرغ من الشرع بعد ولم يكشف عن دقائق المعنى، وإنما أجمل من وصفه ما وسعه، فكأنه يفسر حقيقة الحياة التي تستنفذ الكلام كله ويكون بين خطأ صراح وصواب ممزوج، ثم تبقى الكلمة الصحيحة عند الله لا يكشف عنها للإنسان لئلا يغشاه من سر الألوهية فينتهك حجاب قلبه.
نامعلوم صفحہ