إنك لا تجد هذا الرجل ولا بين المجانين، ولكنك تجد عالما بين الفقراء كله ذلك الرجل متى التبس الأمر قليلا وصار الارتفاع في طبقات الغنى دون طبقات الهواء؛ لأن الفقير ينظر إلى الغني بإرادته لا بعينه، فإذا كانت إرادته في الغني لا حد لها فهو لا يرى حدا للغني بل قد يراه من الارتفاع والسمو في مكان لو قذفه منه بكلمة سخط لقتله ...!
وكذلك يلقى الغني عينيه حين ينظر إلى الفقير ولا يراه إلا بهواه ولذاته؛ فقل الآن في قصر كأنه من الدنيا صدفة تنفتح عن لؤلؤتها، قد بالغ صاحبه في زخرفة وأوسعه من شهوات نفسه وأقامه على الأرض كأنه ليس منها ثم يدخله ظامئا ظمأ الشباب وقد ملكته سورة العافية ويجول في أبهائه وحجراته متشاوسا ما يمسك عطفيه كبرا وخيلاء، وينتهي إلى أجمل موضع منه فإذا هو لا يرى ثمة إلا ثوبا أدكن مغبرا كأنه منسوج من أجنحة الذباب وقد بلي وتهتك واستوضحت في جوانبه رقع بادية من أضلاع فقير بائس قامت به رئتاه
1
فما ينفك يصب فمه دما وصديدا وهو مهزول يضطرب في ثوب أضيق من رئته وما يكاد يملؤه كأنه بقايا عظام الميت في كفنه القديم!
ولو عقل الفقير المسكين لعرف أنه مهما صغرت قطعة الزجاج الملونة فإنها تصبغ الفضاء الواسع كله بلونها في رأي العين، فالفقر هو الذي صبغ الغني بألوانه البهجة الرفافة لا الغني، ولو صح نظر الفقير لصحت قيمة الغني ولصار أمر هذا القياس إلى الحاجة التي لا بد منها لكليهما، وهما سواء فيها، يجدها الغني بلا كد فمتى تناولها أتعبته وملها، ويكدح لها الفقير فمتى تناولها أراحته ورضيها أكثرها وأقلها، وحين ينام كلاهما ويخرجان عما في أيديهما على قلته وكثرته وينطرحان على تراب الأبدية الذي يتساقط به الليل ويرتقبان جميعا من رحمة الله نهارا جديدا، فحينئذ لا يراهما الناظر إلا جثتين على صوغ واحد لا يعلم أيهما التي يمسكها الله وأيهما التي يرسلها فتستيقظ! وكأنهما على تلك الحال إنما افترفا طويلا بالفقر والغنى عن طاعة الله فتنافرا وتدابرا ثم التقيا لوجهه بغتة فخر كلاهما صعقا.
ليهنأ الفقير أنه الأساس القائم من الأحجار الصلبة في بناء هذا المجتمع وأن الترميم لا يتناول إلا ما فوقه، ولا تكون الصلابة بلا شيء فإنما يشتري الإنسان بفقره نعما كثيرة من الله، ولكن اللؤم يسول له أن يساوم الناس عليها فلا يجد من يشتري منه إلا قوته وعمله؛ لأن الأيدي التي خلقت لحمل الذهب لم تخلق لحمل العالم، فيبتئس هذا الفقير ويحسب أنه وحده البضاعة المزجاة التي لا تقوم في سوق الغنى بثمن إلا بضع رغفان من الخبز، فتجف أصول الدموع اللينة من عينيه ولا يبقى فيهما إلا اللحاظ الخشنة، وتصبحان في نظرهما إلى الفضائل كأنهما عينا بندقة الصائد يسددهما إلى الطيور الجميلة فلا تقذفان إلا بالموت، ويصبح هذا الفقير البائس وقد خلط فضائله الرثة من متاع بيته القذر، ولا يزال بنفسه يروضها ويسري عنها الخوف المطمئن الذي هو معنى الإيمان حتى تزول عنها كما يزول النهار فإذا هي حالكة عمياء، ويخرج التعس من الفقر كما خرج من الغنى!
ولا عجب أن يخرج بائس من الفقر؛ فإن وراء هذا الفقر منزلة أخرى لا ينحدر إليها إلا أتعس خلق الله وسبيلها من الفقر نفسه! تلك هي الجريمة!
ولا تحسبن الأغنياء المجرمين على غنى؛ فإن كل شيء يسرق حتى الغنى، وحتى اللص يسرق نفسه من يد الشرطي بعد أن يكون قد جمعها عليه، والفقير الذي يطمح إلى الغني كالغني الذي يطمح إلى ما هو أغنى: كلاهما فقر وكلاهما طريق إلى الجريمة!
ويحك لم تبتئس أيها الفقير؟ الغني يريد أن يجعل حظوظ الناس جميعا حظا واحدا ليخص نفسه بهذا الحظ ... وأنت تريد أن تختص بحظ الغني ... فماذا تركتما لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء؟
إن الله قد ائتمنك على أثمن الفضائل وأعزها من الصبر والقناعة وشرف الضمير، وأشرف بك على مصارع الأغنياء فرأيت كيف يخفق قلب أحدهم وهو يحسبه كرة الأرض زلزلت زلزالها، وكيف تطرف عينه وهو يتوهمها اللجة التي تبتلع كل ما في رأسه من الأحلام، وكيف يموت وهو يرى كل ما كان في يده كالظل على الماء لا يذوب ماء ولا يبقى ظلا، ويرى أنه كان يشتري المال الذي لا حد له بالعمر المحدود، فلما أفلس من هذا خسر الاثنين جميعا.
نامعلوم صفحہ